الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 576
- بتاريخ: 17 - 07 - 1944
الشيخ عبده وطريقته في التفسير
للأستاذ محمود شلتوت
من المعروف أن البيئة تؤثر في الإنسان تأثيراً كبيراً فهي تطبعه بطابعها وتنشئه على أخلاقها وتحمله بقوتها وسلطانها على أن يكون عضواً فيها، يعيش كما تعيش، ويفكر كما تفكر، وينزل على إرادتها وحكمها مطمئن القلب راضى النفس ولكن مع هذا قد يظهر في الأمة أو الجماعة من الحين بعد الحين أفراد يجعل الله منهم مظهر رسالة خاصة إلى الأمة أو الجماعة، فيصنعهم على عينه ويعصمهم من التأثير ببيئاتهم، فينشأ الواحد منهم برأسه أو أمة في نفسه، لا يتأثر بجماعته، ولا يتقيد بقيودها، ولا يزن الأشياء بميزانها بل بالعكس يؤثر هو فيها ويقتحم عليها حصونها، ويعيش معها ما عاش في كفاح وجلاد وهو في كل يوم يفتح فتحاً جديداً ويدك حصناً عنيداً، ويتعهد من وراء ذلك بذوره التي يضعها حتى ترسخ أصولها، وتسمق فروعها، وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها
أولئك هم المصلحون في كل زمان ومكان: منهم رسل الله المبلغون عنه، المؤيدون بوحيه، ومنهم دون ذلك من عباقرة الأمم وأفذاذ التاريخ
ولقد كان الشيخ عبده من هؤلاء العباقرة الذين عصمهم الله من التأثير ببيئاتهم ومكنهم من التأثير فيها
كانت بيئة الشيخ عبده هي البيئة الأزهرية التي تكونت في أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة. وكان طابعها الركود الفكري، والتعصب المذهبي، والتقديس للآراء والإفهام والسمو بها عن النقد ومحاربة كل رأي جديد، وقد وصل الأمر بهذه البيئة إلى أن أوجبت التقليد في دين الله وحرمت الاشتغال بالعلوم العقلية والرياضية وقاومت من حاول الخروج عليها في ذلك زماناً طويلاً. وكانت أكبر جناية لهذه النزعة جنايتها على القرآن فقد صورته كتاباً عزيز المنال بعيداً عن الإفهام لا يدركه إلا الراسخون الذين مضوا وقد درسوا واستنبطوا منه جميع ما يلزم المسلمين فليس لأحد بعدهم أن ينظر فيه كما نظروا ولا أن يستنبط منه كما استنبطوا، ولا أن يفسره بغير ما فسروا
ظل القرآن في ظل هذه النزعة يدرس دراسة أساسها الإسراف في المناقشات اللفظية لعبارات المفسرين، والاعتماد في قصصه على الروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة
وفي تشريعه على المذاهب الفقهية وفي عقائده على الآراء الكلامية. وقد صار القرآن بهذا كأنه تابع لا متبوع ومحكوم عليه لا حاكم
ولقد تهيب الناس بهذا الوضع كتاب الله وصاروا لا يعرفون من مزاياه سوى أنه كتاب يتعبد بتلاوته ويتبرك به وتستمطر به الرحمة على الموتى ويستشفي به من الأمراض والعلل الجسمية
في هذه البيئة نبت الشيخ عبده كما ينبت الورد بين الأشواك أو كما ينبع الماء الصافي من بين الصخور. فكان بحق مجدداً لأمر هذه الأمة وكان بحق نوراً انبثق من أفق الأزهر انتفع به من انتفع وازور عنه من ازور، وبقي على ذلك قوياً وهاجاً يجذب إليه أنظار المؤمنين وينفذ إلى بصائر المخلصين
زلزل رحمه الله على الجامدين حصونهم، ودمدم عليها بالحجج، والبراهين، وكشف الحجاب الذي أسدله الجمود والتعصب على الدين شرعة وعقيدة، فبدا منه ما كان خافياً وعاد إليه بهاؤه الأول وجلاله القديم، وبدد الغبار الذي عقد حول كتاب الله وأنقذه من شر هذه النزعة التي جعلته وراء الظهور، وآثرت عليه قول فلان وفلان
وليس من الممكن أن نبسط آثار هذا المجدد العظيم في كل ناحية من النواحي، ولكننا نعرض في اختصار إلى موقفه من القرآن؛ فإنه كان يراه أصلاً للدعوة الفكرية الإصلاحية مهما تشعبت فروعها، وكان ينظر إليه على أنه أساس القوة ومصدر العزة للدولة الإسلامية والمسلمين جميعاً. فأستقبله على أنه - كما أنزله الله - كتاب هداية وتشريع وأخلاق، ونهى عن اتخاذه لغير ذلك من الأغراض المادية التي لا تليق بجلاله، والتي تصرف المسلمين عن الانتفاع بهديه وإرشاده، ونبه المسلمين عامة وأهل العلم خاصة إلى مركز القرآن، وأنه المسيطر على كل ما سواه في العلميات والعمليات، يجب أن يتحاكم إليه المختلفون، وأن يخضعوا لحكمه وأن يتركوا جميع الأقوال لقوله؛ فليس أمام حكمه حنفي ولا شافعي ولا سني ولا معتزلي
وقد عني رحمه الله أشد العناية بتجريده التفسير من كل ما لا ثقة به من الروايات والإسرائيليات، وأوجب الوقوف عند الحد الذي قصه القرآن من أحوال الماضي أو أخبر به من شئون المستقبل
ولم يكن رحمه الله ذا اهتمام كبير بأسباب النزول، بل كان يعتمد في فهم المعنى وربط الآيات على ما يفيده الموضوع وترشد إليه الألفاظ والأساليب، حسب المعهود من اللسان العربي المبين
هذه هي طريقة الشيخ عبده في تفسير القرآن، عرفناها واضحة جلية مما كتبه بنفسه كتفسيره لجزء (عم يتساءلون)، الذي فرغ منه كما يقول في آخره - منتصف الساعة السادسة بعد الظهر من يوم الأحد 23 أغسطس سنة 1903 في مدينة جنيف من بلاد سويسرا، وكتفسيره لآيات خاصة تفنيداً لشبه أثارتها، عند خصوم الإسلام، مكانة الجمود والرواية من التفسير. وما دونه عنه تلميذه البار السيد رشيد رضا، وهو من أول القرآن إلى قوله تعالى في سورة النساء:(ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن)
لم يكن الشيخ عبده من هؤلاء الذين يقترحون ويدعون إلى ما اقترحوا دون أن يكون منهم أسوة عملية تشق للناس طريق ما يقترحون، بل كان رحمه الله عملياً قبل كل شيء، فلم يدع فرصة في حضره أو سفره تمر حتى يلقي فيها دروس التفسير على طريقته ومنهاجه. وقد واظب على ذلك في دروس متتابعة ظل يلقيها بالأزهر نحو سبع سنين، وكان يحضرها كثير من علماء الأزهر والنابهين من طلابه، ويحضرها الكبراء من رجال الدولة والتفكير، حتى أحدث في الأزهر حركة فكرية حادة لفتت أنظار العلماء والمشتغلين بالمسائل الإسلامية في الشرق والغرب إلى الأزهر وإلى الإسلام
بهذا مما ذكرنا وبغيره مما لم نذكر كان الشيخ عبده هو المجدد الإسلامي العظيم للقرن الرابع عشر من الهجرة، له نمطه المعروف وفكرته الواضحة التي أسهر لها ليله وأضنى بها جسمه، وتعرض في سبيلها لحقد الحاقدين وكيد الكائدين، ثم لبى دعوة ربه معتزاً بما لم يترك سواه من علم وإصلاح
وإذا كانت تعاليم الشيخ عبده قد أثرت من نصف قرن مضى في التفكير الإسلامي تأثيراً قوياً؛ فإن المخلصين للأزهر لا يزالون إلى الآن يرجون أن يسرع الأزهر في الاقتراب من هذه التعاليم، وأن يجعلها من أسس دراسته وأساليب تفكيره ولا بد أن يقترب الأزهر - وهو معقل الدين - من طريقة الشيخ عبده مهما طال الأمد. لأنها طريقة السلف الصالح التي فهم بها الدين وعز جانبه، وآخر هذا الدين لا يصلح إلا بما صلح به أوله
أيها السادة: هذه ناحية من نواحي عظمة الشيخ عبده وأحب ألا أغادر موقفي هذا حتى أسجل أن عظمة الشيخ عبده لم تكن ترجع فقط إلى علمه الواسع وإحاطته بأساليب الحياة الصحيحة، ولكنها في الواقع ترجع إلى صفات صيغ بها وطبع عليها؛ فقد كان مؤمناً قوي الإيمان، كان مخلصاً لفكرته، كان شجاعاً في الحق لا يعرف التردد ولا المجاملة، كان متجرداً عن الأهواء والمطامع، ليس مشغولاً إلا بفكرته ولا معنياً إلا بنجاح دعوته، كان معتمداً على الله وعلى قوة الحق وعلى الصراحة والوضوح، وما كان يعرف ركناً يأوي إليه سوى هذه الصفات
وكان بكل هذا شخصية مهيبة يحيط بها الوقار ويحفها الجلال، ويشع منها نور الحق وروعة الصدق فتجذب إليه الناس فيملك عليهم السمع والبصر والفؤاد
ذلكم هو المصلح وذلكم هو الإمام رحم الله الإمام وأسبغ عليه رضوانه:
محمود شلتوت
العلم والعلماء
في رعاية الإسلام والعربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
وقد أنشئت في أرجاء البلاد الإسلامية دور أخرى للعلم عرفت باسم المدارس ومن أقدمها مدارس نيسابور: المدرسة البيهقية، ومدرسة الأمير نصر أخي السلطان محمود. ثم جاء الوزير نظام الملك وزير السلاجقة في القرن الخامس فأنشأ مدارس كثيرة في بغداد ونيسابور وهراة وأصفهان ومرو والبصرة والموصل. وقد فتحت نظامية بغداد للدرس سنة 459، وتولى التدريس بها على مر العصور جماعة من كبار العلماء منهم:
الغزالي، وابن عساكر، وأبو اسحق الشيرازي. وأقام بها الغزي الشاعر، وتولى الأبيوردي خزانة الكتب بها
ورتب نظام الملك في مدارسه أرزاقاً للعلماء وجرايات للطلاب ليفرغوا لطلب العلم. وقد روى أنه كان ينفق على مدارسه 600 ألف دينار في السنة
وقد روى الحاج خليفة أن بعض العلماء اغتموا لبناء هذه المدارس وخشوا أن تكون ذات أثر سيئ في العلم والعلماء قال:
(على أن من تعلم علماً للاحتراف لم يأت عالماً إنما جاء شبيهاً بالعلماء، ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به. لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم. وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخسّاء وأرباب الكسل فيكون سبباً لارتفاعه
قال جيبون: إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء شأن العلم والعلماء، والإنفاق على دور العلم ، ومعاونة الفقراء على التعلم، فأولع الناس بالتعليم والتعلم ما بين سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة. وقد أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء المدرسة النظامية ببغداد وجعل نفقتها خمسة عشر ألف دينار في السنة.
وكان فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن العظيم وابن الفقير. إلا أن الغني ينفق من مال أبيه
والفقير يأخذ من ريع المدرسة. وكان للمعلمين رواتب كبيرة
وكثرت المدارس على مر الزمان وتنافس فيها الأمراء والكبراء. قال ابن جيير في الكلام عن بغداد: (والمدارس بها نحو الثلاثين وهي كلها بالشرقية. وما منها مدرسة إلا يقصر القصر البديع عنها وأعظمها وأشهرها النظامية. ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محتبسة تصير إلى الفقهاء والمدرسين بها ويجرون بها على الطلبة ما يقوم بهم)
ولا ننسى المدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العظيم المستنصر بالله العباسي (623 - 640) ولا تزال آثارها قائمة على شاطئ دجلة. وكان يدرس بها العلوم الدينية والتاريخ والطب والحساب والمساحة. وكان يتصل بها صيدلية ومستشفى. وقد بلغ عدد الفقهاء المدرسين بها ثلاثمائة تجري عليهم الأرزاق.
وكان لكل طالب جراية من الطعام وراتب من المال. وكان من مدرسيها أبو الفرج بن الجوزي وغيره من كبار العلماء
وكانت هناك دار للاجتماعات والحفلات الرسمية كما يكون في جامعات هذا العصر أحياناً. وكان من شروط الواقف فيها أن يكون لكل مدرس في كل يوم 20 رطلاً من الخبز و5 أرطال من اللحم بالخضر والحطب وفي كل شهر 12 ديناراً، ولكل مُعيد سبعة أرطال من الخبز وغرافان من الطعام وثلاثة دنانير في الشهر، ولخازن الكتب 10 أرطال خبزاً في اليوم وأربعة لحماً وعشرة دنانير في الشهر، وللمشرف على هذا الخازن خمسة خبزاً واثنان لحماً، وثلاثة دنانير في الشهر الخ. وكان من الشروط أيضاً أن يرتب فيها طبيب مسلم حاذق يعلم عشرة من الطلاب دائماً ويعطي المرضى الأدوية بغير ثمن
تنافس أمراء المسلمين وكبراؤهم في بناء المدارس ودعوة الطلاب والمدرسين إليها، وإجراء الأرزاق الكثيرة وتيسير طلب العلم لهم. وقد عد المقريزي مما أنشئ في القاهرة إلى عصره من المدارس الكبيرة زهاء ثمانين مدرسة أقدمها المدرسة الصلاحية التي بناها السلطان صلاح الدين بجانب مسجد الإمام الشافعي بالقرافة سنة 572؛ وجعل رئيسها الشيخ نجم الدين الجنوشاني. ومما يذكر مثالاً لأرزاق العلماء في تلك المدارس ما رواه السيوطي في حسن المحاضرة أن معلوم الشيخ نجم الدين كان أربعين ديناراً في الشهر وعشرة دنانير للنظر على أوقاف المدرسة. ورتب له كل يوم سبعين رطلاً مصرياً من
الخبز وراويتين من ماء النيل
وبنى القاضي الفاضل المدرسة الفاضلية بجوار داره سنة 580 ووقف بها جملة عظيمة من الكتب قيل إنها كانت مائة ألف مجلد. ومدرسة الأمير جمال الدين بنيت سنة 810 ووقف فيها لكل طالب ثلاثة أرطال من الخبز و30 درهماً في الشهر ولكل مدرس ثلاثمائة درهم
وكذلك كانت حواضر البلاد الإسلامية العربية الأخرى غاصة بالمدارس. وقد عد المؤرخون في دمشق وحدها مائة وثلاثين مدرسة وفي بيت المقدس زهاء خمسين. وقيل إنه كان في قرطبة وحدها أيام الحكم المستنصر ثمانون مدرسة
كانت تدرس بهذه المدارس العلوم الدينية والعربية والعلوم الفلسفية والطب والرياضة. وكان بكل مدرسة خزانة كتب غالباً، كما كانت بعض الدور التي بنيت لتكون خزائن كتب مدارس أيضاً. وما كان أعظم جدوى خزائن الكتب في تيسير العلم والتقاء العلماء في العصور التي لم تكن فيها مطابع تيسر للناس الكتب بأثمان قليلة وزمن يسير. وكم يحدث التاريخ عن خزائن الكتب في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة
روى ياقوت أنه كان بكركر من نواحي القُفص ضيعة نفيسة وقصّر جليل لعلي بن يحيى المنجم - وكان من العلماء المقربين عند الخليفة المتوكل، ومن بعده إلى المعتمد، وتوفي سنة 275 ودفن بسر من رأى - وكان في القصر خزانة كتب عظيمة يسميها خزانة الحكمة يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون فيها صنوف العلم. والكتب مبذولة لهم في ذلك والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى. فقدم أبو معشر المنجم من خراسان يريد الحج وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شئ في النجوم فوصفت له الخزانة فمضى ورآها فهاله أمرها، فأقام بها وتعلم فيها علم النجوم، وقد جمع على هذا للفتح بن خاقان وزير المتوكل من الكتب أكثر ما اشتملت عليه خزانة حكمة قط، كما يقول ياقوت
ويقول ياقوت كذلك في ترجمة جعفر بن محمد الموصلي المتوفى سنة 323: (وكان له ببلده دار علم قد جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب للعلم لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معدما أعطاه ورقَاً وورِقا. تفتح في كل يوم). ويقول ياقوت عن مدينة مرو: (فارقتها وبها عشر خزائن للوقف لم أر في الدنيا
مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع: إحداهما يقال لها العزيزية بناها رجل يقال له عزيز الدين من خدام السلطان سنجر، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها - إلى أن يقول عن إحدى هذه المكاتب:(وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثره بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار. وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته، فهو من تلك الخزائن)، فهذه خزائن في مدينة مرو مكنت ياقوتا من تأليف كتبه، وحسبك بمعجميه الجامعين: معجم البلدان ومعجم الأدباء
ويحدثنا التاريخ أن أبا تمام الشاعر كان ماراً بهمذان في بعض أسفاره؛ فنزل البرد وسدت الطريق فأقام عند بعض معارفه، فجمع ديوان الحماسة من خزانة له
فهذه خزائن العلماء والكبراء من أطراف البلاد الإسلامية، فما الظن بخزائن الخلفاء والملوك في المدن الكبرى؟ لقد كانت خزائن الكتب من سنن الحضارة الإسلامية والعربية، ولا تزال بيوت الخاصة في الأقطار العربية مشتملة على خزائن قيمة. ولا تزال بقية الخطوب من تلك الخزائن تحدث أخبارها. وقد أدركنا في خزائن استامبول مثلاً مما كان في العواصم الإسلامية الأخرى
وكان الناس إذ ذاك لا يجدون الورق ميسراً رخيصاً كما نجده في هذا العصر، وكان كل كتاب ينسخ ويصحح على حدة. فغلت أثمان الكتب، وكانت النسخة من الكتاب تصحح وحدها على مؤلفها أو عالم يوثق به؛ فكان لا بد من الجهد والدأب لضبط نسخ قليلة من كتاب واحد
ولم يكن الأمر كما نرى اليوم تصحح نسخة واحدة للمطبعة فتخرج على غرار آلاف النسخ مصححة رخيصة ميسرة للفقير والغني. ومع هذا نرى الكتب المطبوعة غير مسندة إلى نسخ يوثق بها ونجدها مملوءة بالتحريف والغلط، فأين الهمم من الهمم؟ ومع هذا نرى خزائن الكتب في عصرنا أقل منها في العصور الماضية، أيام لم يكن الورق رخيصاً والمطبعة تنشر آلاف النسخ من كتاب في زمن يسير لا يزيد على زمن كتابة نسخة واحدة منه. فلعل أهل العصر يكفون من غلوائهم، ويقلون من زهوهم وإعجابهم بأنفسهم والزراية على أسلافهم
هذا الإجلال للعلم، والجد في طلبه وتيسير السبل له وتنافس الناس فيه وحرص الكبراء
على إنشاء المدارس وخزائن الكتب والإنفاق على دور العلم، كل هذا أشاع العلم في أرجاء البلاد، فشمل وعم، وكانت للمسلمين حضارة كاملة ومعارف شاملة، ومؤلفات سجلت كل ما أدركه العقل وعرفته الصناعة إلى تلك العصور. وكانت الجماعة تفي بحاجاتها من العلم وفاء طبيعياً فيكثر المحصلون في الفن على قدر حاجة الأمة إليهم أو على قدر الرغبة في المعرفة والكمال دون نظر إلى المناصب، فلم يعان الناس إذ ذاك ما يعاني أهل هذا العصر من كثرة المحصلين المبتغين الوظائف وقلة هذه الوظائف
ومن الأدلة على سعة المعارف الإسلامية وشمولها كتب التراجم. كتب المسلمون تراجم شتى بعضها عام كتاريخ ابن خلكان وذيوله وبعضها خاص بطبقة من الناس كتراجم الصحابة أو تراجم المفسرين والمحدثين والفقهاء والحفاظ والرواة والقراء والأدباء والشعراء والنحاة والنسابين والمعبّرين، والأولياء والصوفية وتراجم المتكلمين والفلاسفة والأطباء والمصورين الخ، وكثرت كذلك تواريخ المدن والأقطار ومن خرجت من العلماء كتاريخ بغداد ودمشق والقاهرة. وقد أثبت صاحب كشف الظنون نحو سبعين تاريخاً للمدن. وأكثر تاريخ المدن تاريخ العلماء من أبنائها، وحسبك تاريخ صقلية لابن القطاع الذي ترجم فيه لمائة وثلاثين شاعراً من جزيرة صقلية وحدها، وتاريخ الأندلس الأدبي لابن بسام الذي سماه (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة). وهو بحر زاخر بأخبار العلماء والأدباء
وحسبنا دلالة على سعة العلم ووفرة العلماء أن المقزي صاحب نفع الطيب ترجم للسان الدين بن الخطيب، ثم استطرد إلى ذكر شيوخه فملأ مجلدين كبيرين في أخبار الوزير وأساتذته.
وكذلك فعل في كتابه زهر الرياض في أخبار القاضي عياض.
ومطالع التاريخ يستطيع أن يأتي بالمثال بعد المثال، ويقيم الحجة إثر الحجة على ما كان لأسلافنا من سيرة مجيدة، وخطة رشيدة في طلب العلم ورعايته وإكرام العلماء وتشييد المدارس والخزائن، وهي سيرة لم يحدثنا التاريخ بمثلها في الحضارات الماضية، لقد فتحنا للناس أبواباً من النظر، وهديناهم سبلاً في المعرفة والنقد والتثبت. وأخذنا إلى ما عندنا تراث الماضين وأمانة القرون الأولى فما قصرنا في الاختراع والابتداع ولا فرطنا في حفظ الأمانة ورعايتها
والمنصفون يعرفون حقنا وإن أنكره الناس فنحن أعرف بأنفسنا وأبصر بتاريخنا. وسنبني على مجدنا التليد مجداً طريفاً وملئ أنفسنا الإعجاب بتاريخنا والثقة بأنفسنا واليقين بمستقبلنا، والإيمان بالله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.
عبد الوهاب عزام
1 - الأدب الإغريقي
في عصر الإسكندرية
للدكتور محمد مندور
يذكر القراء أن الإسكندرية كانت في زمن ما عاصمة عقلية للعالم أجمع، حتى ليصطلح علماء التاريخ على تسمية القرون الثلاثة السابقة لميلاد المسيح بعصر الإسكندرية. وهو عصر إغريقي بلغته وثقافته. ومع ذلك فمن واجبنا نحن المصريين أن نعني بدراسته لاتصاله الوثيق بتاريخ بلادنا. وما نظن فهمه يستقيم ما لم نلم بملابساته التاريخية لنرى كيف احتلت الإسكندرية هذه المكانة، ونحدد أهميتها بالنسبة للعواصم الأخرى التي عاصرتها، وبخاصة أثينا. وعندئذ سوف نرى خصائص الأدب الإغريقي في ذلك العصر تتحدد بذاتها متميزة عما عداها
ونقطة التحول كانت بلا ريب ظهور ملوك مقدونيا، وبخاصة فيليب وابنه الإسكندر الأكبر في القرن الرابع ق. م. فإلى ذلك الحين كانت بلاد الإغريق عبارة عن مدن مستقلة، تكون كل مدينة وضواحيها دولة قائمة بذاتها. ومع ذلك فقد استطاعت تلك المدن أن تأتي بالمعجزات في المجال الثقافي والمجال العملي على السواء. ونخص بالذكر أثينا التي وإن لم يبلغ قط سكانها هي وضواحيها نصف المليون؛ فقد خلفت من التراث العقلي ما لا يزال يبهرنا حتى اليوم، كما استطاعت أن تتزعم المدن الإغريقية الأخرى لترد جحافل الفرس وتحمي الحرية في بلاد اليونان كافة، ولكنها لم تكد تستوي في الزعامة بفضل انتصاراتها الباهرة حتى أخذها الصلف فنفرت إسبرطة الأبية، وكانت بين المدينتين حروب طاحنة دامت ما ينيف على ربع القرن، وقد اشتركت فيها جميع المدن، وخرجت منها ضعيفة متهافتة. وعندئذ ظهر المقدونيون الذين امتد طموحهم إلى السيطرة على بلاد اليونان، بل على العالم أجمع في وحدة شاملة
ولكن العرين كان لا يزال به أسود وبخاصة أثينا، حيث صمد الزعيم الوطني الشهير (ديموستين) لفيليب وابنه، وقد رفض أن يستسلم على الرغم من ضعف مدينته، وذلك لأنه لم يكن يعرف غير الجهاد مهما تكن احتمالات الفوز أو الهزيمة، وعنده أنه ليس أشرف للرجل من أن يموت وسلاحه بيده
ولاشك أن موقعة كيرونيد التي حدثت سنة 338 ق. م. بين فيليب المقدوني وجنده من جهة، وجيوش أثينا وطيبة من جهة أخرى، قد كانت من المواقع الفاصلة في تاريخ الإنسانية؛ فانتصار فيليب على ديموستين هو انتصار عالم على عالم آخر. مضى عالم المدن. . . عالم الحرية، وحل محله عالم الحكم المطلق والروح العالمية. وقتل فيليب سنة 336 ق. م. وخلفه الإسكندر، وكان ما نعرفه من سيطرة هذا القائد العظيم على الشرق والغرب. ومات الإسكندر سنة 324 ق. م. وهو يعد العدة لغزو شمال أفريقية وإسبانيا وبلاد الغال، ليعود إلى وطنه من الغرب بعد أن تركه من الشرق. وكان في اتخاذه من بابل عاصمة لملكه ما يرمز لفكرته في توحيد العالم والجمع بين الشرق والغرب
بعد موت الإسكندر تطاحن قواده على اقتسام إمبراطوريته العظيمة، وكانت عدة معارك وعدة تقسيمات إلى أن حدثت معركة ابسوس سنة 301 ق. م. فكان التقسيم النهائي. وليس يعنينا من تلك المدة المضطربة غير نتائجها النهائية، وقد تمخضت عن ثلاث ممالك كبيرة. مملكة أنتيجونوس بمقدونيا وبلاد اليونان، ومملكة سليكوس بسوريا، ومملكة بطليموس بمصر
أما مملكة أنتيجونس فما زال اليونان يناهضونها العداء وتناهضهم، حتى انتهى الأمر بوقوع بلاد اليونان بيد روما الناشئة؛ فأصبحت مقاطعة رومانية منذ سنة 146 ق. م. وإنه وإن تكن الثقافة الآثينية لم تخب دفعة واحدة، إلا أن مراكز الثقافة الأخرى أخذت تحتل مكانها، ونحن لا نجد بآثينا خلال القرن الرابع غير الفلسفة والكوميديا، وأما ما دون ذلك من مظاهر النشاط الروحي فقد ذوى. فالشعر الغنائي قد جفت ينابيعه حتى لم يعد يقصد لذاته، بل لمصاحب الموسيقى على نحو ما نرى في الأوبراكوميك الحديثة. والشعر الهجائي وشعر الوجدان لم يعودا غير عبث باطل أو سخرية مصطنعة وأما الملاحم فكان عهدها قد انقضى بحيث أنه عندما كتب أنتيماخوس ملحمته عن أساطير طيبة ومغامرات هرقل لم يهز شعره نفساً، لأنه شعر مصنوع علم الشاعر فيه أوضح من روحه، وكذلك الأمر في التراجيديا التي لم يعد لها وجود يذكر
لم يبق إذن بآثينا من فنون الأدب غير الكوميديا، فهي التي ترعرعت في ذلك الزمن، وقد انتهى بها الأمر إلى ما يسمى بالكوميديا الجديدة على يد فيليمون وميناندروس، وهي
الكوميديا الأخلاقية: شئ مغاير للكوميديا القديمة، كوميديا أرستوفانس. فهي لم تعد نقداً لنظم الحكم وتيارات التفكير، بل تصويراً لشخصيات عادية يأخذها الشاعر من الحياة اليومية، ولكنها لاتصل إلى كوميديا النماذج البشرية أمثال: ألسست وهرباجون وترتيف لموليير، تلك التي يخلقها كبار المفكرين؛ فيهتدي بها الناس إلى أنفسهم
ومع الكوميديا نجد كما قلنا الفلسفة، فقد نهضت إلى جوار الأكاديميا والليسية مدارس أخرى: مدرسة الرواق، وحديقة أبيقور، ثم مذهب إبزون والمذهب الكلبي، ونحن وإن كنا ننظر عندئذ، فلا نجد مقراً للفلسفة غير آثينا إلا في القليل من نحو ميجارا وبرقة، إلا أننا نلاحظ أن الكثيرين من فلاسفة ذلك العهد قد كانوا غرباء عن آثينا، فزينون من مستعمرة فينيقية بجزيرة قبرص وكليانتوس من مدينة أسوس بآسيا الصغرى، وكريزيبوس ولد بمدينة سوليس بآسيا الصغرى أيضاً. وفلسفتهم وإن تكن إغريقية بما فيها من تحكيم العقل والربط بينه وبين نظام العالم إلا أنها شرقية بروحها الذي يكاد يكون دينياً. ولقد نادت الرواقية بالجبر وقال الإبيقوريون بالمصادفة، وأنكر هؤلاء وجود الروح وأثبتها أولئك وتبلبلت الأفكار، فانتهى الأمر بالشك البيروني وامتدت كل تلك الآراء إلى تعاليم أفلاطون نفسه، فإذا بالأكاديمية تقول بالاحتمالية، وقد انهارت المثل فأنهار بانهيارها عنصر الثبات في المذهب. ومن هنا يتضح كيف أن كل هذه الفلسفات برغم ما في بعضها من نبل كالرواقية لم تكن بلا ريب إلا السبيل الذي قاد إلى الانحلال، وفيها إنكار للإرادة البشرية أو استسلام لأحداث الحياة أو توقف في الحكم، فيها عنصر سلبي خليق بأن يقوض حياة الشعب
ذلك ما كان من أمر آثينا التي لم يعد بها كما رأينا غير الكوميديا والفلسفة، ولكن المملكتين الأخريين قد نشأت بهما مراكز فتية للثقافة، ففي آسيا الصغرى وسوريا نشأت بمملكة السيليكيين مدن كبيرة كبرجاما وأنطاكية، وفي مصر نشأت بمملكة البطالسة الإسكندرية ونيوقراطيس وبتوليماييس وإنه وإن تكن كل تلك المدن قد ازدهرت فيها الحياة المادية والروحية إلا أن واحدة منها لم تبلغ ما بلغته الإسكندرية، ومن هنا يصطلح علماء التاريخ، كما قلنا، على تسمية العصر الذي يقع بين الإسكندر الأكبر وأوغسطس إمبراطور روما باسمها
وهو عصر لم يكد يتأثر بالثقافات الشرقية التي عاش بينها بحيث يخيل إلينا أن تيتيوس ليفيوس المؤرخ الروماني الشهير قد أصاب الحقيقة عندما قرر أن المدن اليونانية التي نشأت بالشرق إذ ذاك كانت (كجزر يونانية تضربها من جميع النواحي أمواج بحر من البرابرة)، ولقد كان الإغريق ينظرون إلى شعوب الشرق نظرة الغالب للمغلوب، نظرة السيد للمسود، وكانت شعوب الشرق بدورها تمقت أولئك الغزاة وتصدف عنهم، ولقد وجدنا في دستور نيوقراطيس ما يحرم على الإغريق الزواج من المصريات، وكانت مدن الإغريق في الشرق تعيش على النظام اليوناني، فللكثير منها مجالس تشريعية (إكليزيه وبوليه)، وحكام كحكام المدن الإغريقية الأوربية وإن تكن اختصاصات تلك المجالس وهؤلاء الحكام قد كانت شكلية استشارية أكثر منها فعلية نافذة، وكانت السلطة الحقيقية بيد الملك
لم يصبغ الإغريق إذن بلاد الشرق بصبغتهم ولا لقنوه ثقافتهم في ذلك العصر، بل ظلوا غرباء عنه لا يكادون يؤثرون فيه أو يتأثرون به، وإنما تداخلت الثقافات في العصر الروماني وبعد ظهور المسيحية حيث امتزج التفكير اليوناني بالإيمان الشرقي في الأفلاطونية الحديثة التي هزت الروح الإنسانية كلها في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد
عصر الإسكندرية إذن عصر إغريقي بحت، وهو مجرد اصطلاح تاريخي. فالحديث عن أدب الإسكندرية يتناول كل ما قيل من شعر ونثر في البلاد اليونانية كلها خلال ثلاثة قرون.
والملاحظ على ثقافة ذلك العهد أنها أصبحت ثقافة علمية محصلة أكثر منها أدبية خالقة، كما أصبحت عالمية لا قومية وصناعة لا حياة. ولا غرابة في ذلك، فقد انتقلت الحياة الفكرية من الساحات العمومية (الأجوار!) إلى المكاتب والصالونات، انتقلت من حرارة الحياة إلى برودة الكتب، انتقلت من الحاضر إلى الماضي ومن الواقع إلى الفكر المجرد، نمت الدراسات التاريخية: تاريخ عام وتاريخ الفن والفنانين والكتب والكتاب، تاريخ الفلاسفة والعلماء. لقد أبتدأ العالم يعيش على ماضيه، ويجد في ذلك الماضي خيراً من حاضره. ونمت الدراسات العلمية:
رياضة وطبيعة وطب وتاريخ طبيعي وجغرافيا ونحو وفقه لغة وموسيقى وكل هذه
الدراسات مع ذلك لم تكن أصيلة. كانت جمعاً لا فلسفة فيه ولا نقد إلا بمقدار. لقد امتاز هذا العصر بثقافة موحدة سمحت حتى لذوي النفوس التافهة بأن يصبحوا أدباء وشعراء وبذلك امحت الفروق الشخصية ولم يعد للأسلوب الفردي غير وجود محدود
في هذا الوسط العلمي نشأ أدب الإسكندرية، فكان نصف قائليه من العلماء. ولفهم البون الشاسع بين هذا الأدب والأدب الإغريقي القديم لا بد من أن ننظر في نشأة الفنون الأدبية المختلفة نظرة عاجلة
نشأت فنون الأدب القديمة نشأة شعبية، فالقصص والغناء وإن كانا قد ظهرا معاً ملازمين فيما يبدو لنشأة الإنسانية، إلا أن القصص الأدبي قد سبق الغناء؛ فأعمال البطولة الماضية أفعل في خيال الرجل الفطري من الحاضر والقصص خليق بأن تستجيب له نفوس رجال يعيشون في نظام ملكي، حيث للملك هيبة وجلال يحملان أفراد الشعب على الإعجاب بالأبطال السابقين. وكانت الشعوب في جملتها زرعاً وبحارة وعمالاً لا يجدون في عملهم اليومي غير حرارته التي تشغلهم حيناً، ثم ينقضي العمل غير مخلف ما يشغل النفس، أو يهز الخيال.
ولهذا صادفت ملاحم هوميروس ظمأ في النفوس حتى كان القرن الثامن ق. م. وقد انهارت الملكليات وحلت محلها نظم أرسطوقراطية أو ديمقراطية لا يتخللها الاستبداد الفردي إلا من حين إلى حين، وتقهقرت الحياة الجماعية القبلية وأخذت الشخصية البشرية تظهر وسط المجموع، وأصبح الحاضر يشغل الناس ويتعلقون به ناظرين فيما يحمل من مسرات وآلام، فظهر الشعر الغنائي بما يحمل من عنصر شخصي ومن أصداء الحاضر.
وسارت الحياة وقد أصبح الإغريقي لا يقنع بالقصص أو الغناء بل يود لو تُصوَّر حياته وحياة آلهته ليراها بعيني رأسه ويشهد أحداثها بما فيها من معان فنشأ الشعر التمثيلي في القرن الخامس
وكانت نشأة تلك الفنون موزعة بين الشعوب الإغريقية، فالقصص نشأ في إيوليا بآسيا الصغرى حتى ليكاد ينحصر الخلاف الجدي عن مولد هوميروس بين جزيرة كيوس ومدينة أزمير، ومن إيوليا أنتشر في إيونيا لينتهي أخيراً إلى أتيكا بأوروبا حيث دون بأمر بيزيستراتس مستبد آثينا في القرن السادس قبل الميلاد. وأما الشعر الغنائي فقد ظهر
موزعاً حسب أنواعه. فالأغاني الشخصية: أغاني الشراب والغرام ولدت وازدهرت بلزبوس الإيولية. جزيرة (ألسية) و (سافو) تلك التي قالوا إن رأس أورفيوس قد أرست بها فأوت إلى أحد خلجانها. وشعر الجوقات، شعر الجماعات، شعر النصر والمواكب قد نشأ بين الشعوب الدورية الخشنة المحمولة على الجهاد النازعة إلى الحياة القبلية والنظم الأرستقراطية: ففي طيبة ولد بنداروس وباللهجة الدورية كتب أناشيد النصر التي لدينا. والشعر الهجائي وشعر الوجدان ذهبت بهما القبائل الأيونية، وأما الشعر التمثيلي ففن آثيني في جوهره
ولقد كان لنشأة تلك الفنون بين هذه الشعوب ما يبررها، فالجنس الإيولي جنس مرهف الإحساس فنان المزاج مقبل على الحياة متأثر بأحداثها، والجنس الدوري كما قلنا جنس خشن مولع بالمعارك والانتصارات والإيونيون قوم أغنياء بمالهم وبحياتهم العقلية، والسخرية والوجدان خصائص تلازم حساسية العقل ولين الحياة. وأما الآثينيون فأهل نشاط عملي وإقدام على المغامرات ولا شك أن في المسرح ما يرضي تلك النزعات
هكذا نشأت فنون الأدب، شعبية إقليمية. ومع ذلك لم تلبث أن أصبحت إغريقية عامة، فتكونت لغة قصصية مزيج من الإيولي والإيوني والأتيكي ولغة إيولية للأغاني الشخصية ولغة دورية لشعر الجوقات ثم اللغة الأتيكية للمسرح. وبلغ من ثبات تلك اللغات الأدبية وتخصصها أن رأينا شعراء آثينا مثلاً يكتبون باللغة الدورية الأجزاء الغنائية من مسرحياتهم
تكونت إذن لغات أدبية مصطنعة ، ولكن ذلك لم ينل من قوة الأدب الذي ظل متصلاً بالحياة حتى جاء عصر الإسكندرية، وقد اختلطت في المدن الجديدة الأجناس وانهار استقلال المدن القديمة وجفت الحياة العامة فنضبت ينابيع الأدب الذي لم يعد يتجه إلى الشعوب بل إلى نخبة من المثقفين. لم يعد خلقاً تلقائياً بل صناعة أو تزجية فراغ. لقد حلت فيه المهارة محل العبقرية، حل العلم محل نبض الحياة، حل الظرف والكياسة محل وثبات القلب وتأجيج القرائح
لقد نشأ أدب الإسكندرية بعيداً عن الشعب، بعيداً عن الحياة، فجاء الكثير منه أدباً متكلفاً قليل الحظ من الصدق
أدب الإسكندرية كنبات في بيوت من زجاج. ومع ذلك لم يذو النبات كله كما سنرى في المقال الآتي.
محمد مندور
مشروع محو الأمية أيضاً
وجوب عقد مؤتمر أو مجلس أعلى
من كبار رجال التربية للنظر في المشروع
للأستاذ دريني خشبة
تمنينا في كلمتنا السابقة أن يوفق الله وزارة الشئون الاجتماعية إلى النجاح في هذا المشروع العظيم الذي اضطلعت به، والذي يجب أن ننظر إليه باعتباره الأساس القويم الذي يجب أن تنهض عليه جميع مشروعاتنا، لتنهض على هدى وعلى نور مبين
ومشروع مكافحة الأمية أو محوها ليس من السهولة واليسر بحيث يقف عند حدود تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحسابة، وقليل من مبادئ الدين وتدبير الصحة. . . فهذا القسط من التعلم قسط زهيد لا يكافح الأمية ولا يمحوها. . . إن لم يضاعفها ويزيد طينها بلة. . .
لقد همت الأمة بمثل هذا المشروع من قبل، حينما فكرت في تعميم التعليم الإلزامي، وذلك منذ نحو من عشرين سنة. . .
فماذا كانت النتيجة؟! هذا هو الضوء الذي يجب أن نسير على هداه. . . ونحن على يقين من أن وزارة الشئون الاجتماعية سوف لا تتردى في مهاوي الفشل الذي تردت فيه وزارة المعارف في عهودها السابقة، والتي أضاعت فيه على الأمة جيلاً من طفولة أبنائها ومن صباهم ومن شبابهم. . . دون أن يتعلموا شيئاً. . .
كما أضاعت نحواً من خمسين مليوناً من الجنيهات لو أن نصفها أو ربعها أنفق على هدى وبصيرة، وفي ضوء تجارب الأمم الأخرى، بل في ضوء التجارب التي أجراها في مصر محمد علي الكبير، الحاكم الأمي العظيم، لسهلت على وزارة الشئون الاجتماعية اليوم أعباء القيام بما تبقى من هذه المهمة الشريفة الهائلة
لنذكر دائماً أننا أمام مشكلة من أشد مشكلاتنا تعقيداً. . .
لنذكر أن وزارة الشئون أخذت على عاتقها مهمة انتشال اثني عشر مليوناً وثلاثة أرباع المليون من إخواننا المصريين، من براثن الأمية الذميمة. . . من ظلمات الجهالة المهلكة. . .
فكيف يا ترى تنهض بهذا المشروع الضخم؟ وبمن من هؤلاء الإثني عشر مليوناً وثلاثة أرباع المليون تبدأ؟ أتبدأ بالأطفال وأمرهم موكول إلى وزارة المعارف، أم بالغلمان وأمرهم موكول إلى سياسة التعليم العام الذي شرعت وزارة المعارف تُعدَّ له برنامجاً ذهبياً؟ أم بالشباب والشيوخ، ومشكلة تعليمهم ليست هنةً من الهنات، بل هي مشكلة المشكلات! وهل يكون للمرأة - أو الفتاة - نصيب من مشروع وزارة الشئون، بوصفها تشغل من الأمية نسبة أعلى مما يشغله الذكور؟ وإذا استقر الأمر بوزارة الشئون على أن يشمل مشروعها الذكور والإناث على السواء، فما هي الوسيلة - أو الوسائل - التي سوف تروض بها تلك الكتلة الهائلة العجيبة من الأميات المصريات البائسات، وتروضهن بها على قبول الفكرة أولا، فكرة محو الأمية، ووجب إقبالهن على تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحسابة وما هو وراء الكتابة والقراءة والحسابة من محتوم الثقافات؟ أم تفضل وزارة الشئون أن تبدأ بتعليم الذكور، فإذا فرغت من شأنهم شرعت في حربها ضد أمية النساء؟ ومتى تفرغ من إبادة الأمية بين الذكور لتبدأ إبادة الأمية بين النساء يا ترى؟ وهل من الخير لمصر والمصريين أن يهملوا إبادة الأمية بين النساء حتى يفرغوا من أمر الذكور؟ وأيهما خير: البدء بمكافحة الأمية بين النساء، أم البدء بمكافحتها بين الذكور؟ وإذا نهضنا بالحرب ضد الأمية في الميدانين في وقت معاً، فكيف نبدأ في حدود الوسائل التي تيسرها لنا ظروفنا الحاضرة، ومواردنا المالية؟
هذه بعض مشكلات البدء في مكافحة الأمية
وثمة مشكلات لا تقل خطورة عن تلك التي ذكرنا، تتعلق بالهيئة التي سوف تتولى الإشراف على هذا المشروع الشريف الضخم. . . هل يشترك في ذلك نفس الرجال الذين اضطلعوا بمشروع التعليم الإلزامي ففشلوا فيه فشلاً ذريعاً تاماً كما عبر وزير المعارف الحالي؟ وهل حقاً كان هؤلاء الرجال الأفاضل سبب الفشل في هذا المشروع. لا يشاركهم في ذلك أحد ممن يتولون في مختلف الظروف سياسة التعليم في مصر؟ ثم ما هي الوسيلة، أو الوسائل، التي تتقي بها وزارة الشئون تكرر المأساة التي وقعت لسوء الحظ من قبل؟
وثمة مشكلات أجل خطورة من كل ما ذكرنا. . . تتعلق باختيار المعلم - أو المعلمين - الذين سوف نعبئهم للنهوض بهذا المشروع. . . ومما لا ريب فيه أن المعلم الإلزامي سوف
ينهض بأثقل الأعباء في تلك الحرب، يعاونه سائر المعلمين في سائر فروع التعليم؛ فهل هؤلاء المعلمون جميعاً صالحون لأن توكل إليهم تلك المهمة النبيلة السامية؟ والمعلم الإلزامي بنوع خاص ما خطبه؟! لقد عبنا عليه قلة العلم وقلة الثقافة، بل منا من اتهمه هو نفسه بالأمية الشنيعة في أفكاره وفي معلوماته، بالرغم من وجود عدد لا يستهان به من المعلمين الإلزاميين المثقفين ثقافة ممتازة استطاعوا أن يلمسوا هذا العيب في أنفسهم، فعالجوه بالإكباب على القراءة وحسن الدرس واقتناء الكتب، حتى أصبح منهم الكتاب والشعراء والمفكرون. فماذا صنعت الدولة لإصلاح حال هذا المعلم البائس؟ لقد تناول المستشار الفني لوزارة المعارف حياة هذا المعلم المصري الكريم في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) في أكثر من فصل من فصوله. فصوره لنا في صورة مؤلمة. . . وطلب له من الدولة العناية اللائقة به في حالتيه الأدبية والمادية؛ فماذا حققت الدولة إلى اليوم من رجاء المستشار يا ترى؟ نعترف أنها أوشكت أن تفرغ من إنصافه مادياً، ولكن متى تنصفه أدبياً؛ فتكمل هذا النقص العلمي والثقافي الذي أخذه عليه المستشار في كتابه، بالطريقة التي يراها الفنيون، والتي من أجلها وأكثرها نفعاً تلك الدراسات الصيفية التي أخذت بها مراقبة التعليم الحر لتكميل النقص الذي لمسته في ثقافات الكثيرين من مدرسيها. لقد استكثر المستشار الفني على هذا المعلم أن يضطلع بحالته تلك بمهمة تعليم الأطفال في المدارس الإلزامية. فكيف نترك العبء الأكبر من مكافحة الأمية بين الكبار يقع على كاهله وهو لا يزال في الحالة التي عهده المستشار عليها منذ ست سنوات. أي عندما فرغ من تأليف كتابه
إن المعلم الصالح سيكون المثل الأعلى الذي تقيمه الدولة بين الأميين، يعلمهم ويهذبهم ويهديهم إلى الرشد. ويقيم عليهم من شخصيته سلطاناً أدبياً جديراً بالمحبة والاحترام. . . فأي بلاء يصيب أمانينا إذا كان هذا المعلم أحوج من الأميين إلى من يكافح فيه أميته الكامنة، التي تزيدها قشور المعلومات الفجة سوءاً على سوء؟؟
أما مشكلة البرنامج، فبالرغم مما يبدو من سهولتها ويسرها وبالرغم من أن مجرد التفكير فيها يثير الضحك، فهي لا تقل تعقيداً عن سابقاتها. . . إن الذين يظنون مشكلة البرنامج سهلة ميسرة، يحصرون تصورهم في مكافحة الأمية في ذلك الميدان - أو النطاق - الضيق المحدود. . . نطاق القراءة والكتابة والحسابة. ولو فكروا في ألوان الأميات التي
ينبغي مكافحتها، لاعترفوا بتعقد هذه المشكلة وتشعبها. وقد أشرنا إلى ألوان من الأميات الزراعية والصناعية والصحية في كلمتنا السابقة، والذي نريد أن نخصه بالذكر هنا، هو المدة التي تكفي لمحو عار الأمية عن الرجل العادي أو المرأة العادية، ثم القدر اللائق من التعليم والثقافة الذي يكفل محو هذا العار، ثم الوسيلة التي نتقي بها انصراف من علمناهم من الأميين عن القراءة والكتابة والإطلاع حتى لا يعودوا أميين كما بدأوا. . . ونكون قد انتهينا إلى ما انتهى إليه أمر التعليم الإلزامي من فشل ذريع، ساحق ماحق، لسوء الوسائل التي اتخذناها، وللأرض البور التي بعثرنا فيها بذورنا، ولقصر نظرنا الذي حصرناه في ذاك النطاق الضيق المحدود. . . نطاق القراءة والكتابة والحسابة، الذي ربما ظننا أننا نفرغ منه في أشهر أو في عام أو عامين
ماذا نُدرس إذن لهؤلاء الأميين؟ ماذا نعلمهم حتى يصبحوا مواطنين صالحين ذوي كرامة، صحاح الأجسام لا تخترمهم العلل، صحاح الإفهام لا تجوز عليهم الترهات، صحاح الأيدي لا يقترفون سوءاً، صحاح النظر يستحقون أن ينعموا بنعمة الديمقراطية؟!
وكم من الزمن يكفي يا ترى لضمان بلوغ الأمي الواحد هذه المرتبة؟ وكم من السنين تكفي لمحو الأمية من مصر؟
وهل يكون البرنامج واحداً في فترة المكافحة كلها؟ أم عساه يختلف في السنة الثانية عن السنة الأولى، وفي السنة الثالثة عن الثانية. . . وهكذا!. . . وماذا أعددنا من الكتب والأدوات لهذه الحرب الطاحنة؟! وماذا أعددنا من المكتبات المتنقلة وأشرطة السينما التهذيبية والثقافية، والمصابيح السحرية، والفرق التمثيلية وغير ذلك من المشوقات التي لا غناء عنها؟!
كل هذه مشكلات يجب أن ينعقد مؤتمر أو مجلس أعلى يضم النخبة المختارة من كبار رجال التربية في مصر لدراستها ووضع خطة السير لكل منها
يجب أن نسير على هدى أخطائنا الماضية، والله ندعو أن يوفق خطانا
دريني خشبة
بمناسبة انتهاء العام الدراسي
عهد التلمذة
للأستاذ راشد رستم
أول العهود وأميزها
وأمتن الروابط وأدومها
تدور الدنيا وتدور، وتذهب الأيام ولا تعود، وتتفرق الجماعات ولا تدوم، وهذا الحرم المدرسي المعنوي قائم لا يحول ولا يزول
واسع الرحبات، فسيح الجنبات، يستقبل الأجيال بعد الأجيال، في رضا ومهابة وسلام
هؤلاء الذين نراهم فيه اليوم رأي العين، هم أولئك الذين كنا نراهم فيه، أيام كنا فيه بالأمس، رأي الغيب - وهكذا حلقة إثر حلقة وجيلاً بعد جيل
هاهم أولاء يلعبون كما كنا نلعب، ويدرسون كما كنا ندرس - أبناء لآباء ثم آباء لأبناء، والكل عند المحراب سواء
ساحة دائمة البقاء، تتلاقى فيها ما لا يتلاقى إلا فيها من حلاوة الدهر، وبراءة السن، وبداوة العمر
ساحة تتجلى فيها حياة الفكر والروح، وتلعب فيها حكمة الشعوب لعبتها الكبرى في صقل العقول وتكييف الميول
هنالك تشهد الإنسانية أبناءها الصغار بين أيدي أبنائها الكبار، فترجو أن ترى في هؤلاء الصغار أسمى معانيها الكبار
في البيت تتجلى مسؤولية الفرد، وهنا تتجلى مسؤولية الجماعات
إن مراكز الجماعات من نواد وجمعيات وثكنات وما يخرج عنها للسلام وللعراك، من حروب ورحلات واجتماعيات، هي لا شك في حياة الشعوب والأمم روابط وعهود وذكريات، يختلط فيها الدم بالدم، واللحم باللحم، والفكر بالفكر. ولكن يشهد الله أن عهد المدرسة هو عهد الجميع، وهو فوق جميع العهود، بل هو قبل جميع العهود، هو عهد الصداقة والأخوة والصفاء
هو الحقل الذي توضع فيه البذرة الأولى لشجرة الأخوة الأولى، تنمو وتنمو، فتنمو معها
الفروع والأغصان والأوراق والظلال. . .
إن نظام المدرسة اليومي، رغم تكراره اليومي، لا يدعوا إلى السأم ولا إلى الملل - ذلك أنه نماء متدفق وتجديد مستمر، مرحلة بعد مرحلة وعاماً بعد عام، بل يوماً بعد يوم
هذا التكرار اليومي لهذا العهد المدرسي لا يحيله جموداً، بل هو يزيد في معناه ثبوتاً ورسوخاً وخلوداً، ويرتفع به إلى طبقات ليس فيها غير صفاء النفس، ودوام الربط، وسعادة الذكر. . .
بل إن هذا التكرار المتنوع المستمر يصهر النفوس الناشئة صهراً هيناً ليناً شديداً قوياً يجعلها صالحة للعمل صالحة للبقاء
وهو العهد الذي يشعر فيه الإنسان مهما كان صغيراً، أنه قوة، وأنه ينمو، وأنه سيصير قوة أخرى
حركة دائمة، وتنافس محبوب، وآمال متتابعة، وحياة لها كل المستقبل ولا تنسى أبداً
هي الوحدة الموسيقية التي تضبط خطى الجيل، والتي تربط بين أفراده وهم يسيرون في الحياة لخدمة الأوطان. هنالك تتجلى عظمة هذه الموسيقى إذا ارتفعت بالنفوس إلى مراتب التضحية وخدمة المجموع
نعم ما أحلاه عهداً، وما أحبه إلى النفوس عوْداً، فكلما تقدم المرء في السن كلما عرف قدره، وعاد به الحنين إلى تلك السنين
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
…
عهود الصبا فحنوا لذالكا
يود المرء أن يرجع إلى هذا العهد الذي أقام له بينه وبين إخوانه زمالة هي زمالة الدهر، والتي هي أسمى من قرابة اللحم والدم، ورب صداقة خير ألف مرة من قرابة، وإذا لم يكن القريب صديقاً فهو والغريب سّواء بل أشد غرابة
وهل أشق على التلميذ من فراق الإخوان، وهل أحب إليه من العودة بعد الإجازات لرؤية الإخوان!
قد تمر الفترات يكره فيها البعض مدرسته، يرجو هدمها ويتمنى حرقها!! ولكنه لا يدري أنه يحبها. . . ويحب العودة إليها، يلعب كما كان يلعب، ويعيش كما كان يعيش، لا يحمل العبء الذي يحمل، لا هرباً منه، إذ ليس منه مفر، وإنما حباً وحنيناً إلى تلك التي كان يظن
أنه لا يهواها، وما هو إلا العاشق الولهان، غيور. . . يثور ويثور. ثم يثوب ويثوب، يعيده حبه وغرامه إلى حبيبه ومحبوبه
أليست هي ألطف العهود وأقساها، وأنها في الحالين ما أحلاها. . . بل إن شدتها التي كان المرء - وهو صغير - يخشاها، ما هي إلا تلك الراحة التي - وهو كبير - دومْا يتمناها؟ وإن راحتها التي كان يظنها خيالاً، ما هي إلا الحقيقة التي يود لو أنه استطاع فاستبقاها؟!
لَعبٌ مع تلقين، وجهد في تهوين، وشدة في لين، وشك إلى يقين، وحياة في تكوين، ونمو في تمكين - ذكرى وحنين، وعهد لن يمين
من عنده لي عهد لا يضيَّعه
…
كما له عهد صدق لا أضيَّعه
راشد رستم
على هامش النقد
الشعر العربي والشعر العالمي
في عرائس وشياطين
للأستاذ سيد قطب
في كلمتي الماضية عن هذا الموضوع قلت: (بمقدار الغنى في الأفكار والمعاني الذي تضمنه الشعر العربي، كان الفقر في الرؤى والأحلام، وفي الصور والظلال. وفي الحالات النفسية والملامح الإنسانية. وهذا هو مفرق الطريق بين الشعر العربي وكثير من الشعر العالمي في مجموعة (العرائس والشياطين) وضربت لذلك مثلاً قطعة: (إلى السوق أول مرة) للشاعر الإنجليزي الحديث (هوسمان)
فاليوم أضرب أمثلة أخرى تشرح هذه الفوارق وتوضحها.
في المجموعة قطعتان متقاربتا الموضوع، فاستعراضهما معاً قد يكون أقرب إلى توضيح الفروق
فأما القطعة الأولى، فهي لابن زهر الأندلسي بعنوان:
(في المرآة)
إني نظرت إلى المرآة أسألها
…
فأنكرت مقلتاي كل مارأتا
رأيت فيها شيخاً لست أعرفه
…
وكنت أعهد فيها قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا
…
متى ترحل من هذا المكان متى؟
فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت
…
قد كان ذاك، وهذا بعد ذاك أتى
وهي أبيات جيدة في موضوعها، ولفتة لها قيمتها، ووقفة بين صورتين من صور الحياة أجمل ما فيها أن إحدى الصورتين تنكر الأخرى وهي تكملتها. وذلك أقصى ما نستطيع أن نسنده إليها من المزايا مع الاعتراف بأننا نضيف إليها من أنفسنا بعض ما قد تقصر عنه ألفاظها!
ولكنها - مع هذا - وقفت عند الحس لا تتعداه إلى أغوار النفس. فهذا شاعر لا يدرك الفرق بين الفتى الذي كانه والشيخ الذي صاره، إلا حين يقف على المرآة، فيرى تغير
الملامح وتنكر السمات - وهذه أمور مردها إلى الحس - فإذا علم بهذا الانقلاب الظاهري لم يتجاوزه إلى التفتيش في أحناء النفس عما هنالك من انقلابات. ولم تثر في نفسه أشتات الذكر، وألوان الخواطر التي تعتلج في نفس (الإنسان)، وترد على الخاطر ولو لم ينظر في المرآة!
ولا أحب أن أنكر جمال اللهفة في قوله: (متى ترحل من هذا المكان متى؟) فإنه نبضة (إنسانية) لها قيمتها، ولكنها نبضة واحدة، تكاد تلتقي بومضات الذهن، ولفتات الفكر للصور المتناقضة، وأياً ما كانت فهي تنبض مرة واحدة، ثم تجمد بلا حراك
على مقربة من هذه القطعة في الكتاب قطعة أخرى للشاعرة الإنجليزية (أليس مينل) تحت عنوان: (خطاب فتاة إلى العجوز التي ستكونها بعد سنين) وهي مقطوعة طويلة، ولكنا سننقلها كاملة لأن الاجتزاء ببعض منها دون بعض لا يجدي.
فهنا (إنسانة) تطل بشطر منها على شطر، وتنظر بعين الفتاة الناضرة العابثة إلى العجوز المستكينة الفانية، فلا تستطيع أن تتماسك أمام الصورة التي تستحضرها بعين الخيال، فترثي لنفسها بنفسها. وتشتبك الأحاسيس والمشاعر، وتظل رائحة جائية بين المستقبل الأعجف المظلم والحاضر المنضر المنير وتعرض أمام خاطرها شريطاً حافلاً بالخواطر والأحاسيس. وهي بين ذلك كله (الإنسانة) و (المرأة) في مخلوقة واحدة، وهذه هي المقطوعة:
اسمعي! أيتها المرأة التي أبلتها السنون
إذا طويت يدك الناحلة على هذا القرطاس
فاذكري تلك التي باركته بلمساتها وقبلاتها
أناديك: يا أماه؛ فإن أثقال السنين كسرتك
بل أناديك: يا بنتاه؛ فإن ذكرى الزمن أيقظتك
ومن أطوار قلبي. يخلق الزمن كل ما فيك
آه أيتها السائمة المكدودة. إن الصبيحة في السماء لشمطاء
أفلا تذكرين السحب كيف تساق؟
أترينها كانت تهدأ عند المغيب؟
تمهلي هنيئة في ختام مطافك الطويل
فإن في هذه الساعة الموحشة
لألفة لساعة التدبر والتذكار
يؤلمك أيتها الصامتة الخافقة تذكيري وإياك
بتلك الهضاب - هضاب الشباب - التي عصفت عليها السماء
وتلك الأعاصير الأوابد من القوة والعافية، التي خلفتها وراءك
اعلمي أن البطحاء الموحشة التي تدرجين فيها الآن
إنما هي دنيا مساء صموت
وتأملي في تلك القمم المغشاة. إنها تسفر عن صباح
اسمعي. . . هاتيك رياح الجبل تهب بالغيوث
وهاتيك القمم على حين غرة تتألق بالشعاع
حاشاى أن أدعك تذهبين - ناسية - إلى الموت
ليتني أعلم أي جانب من قلبي هذا المضطرم سيتبعك
إلى حيث الرياح لا تعصف ولا تتهزْم
وحيث أزهار الجبال الصبية لا تعيش ولا تجود
ولكن دعي خطابي وفيه ما فيه من خواطرك المفقودة
ينبئك كيف كانت الطريق في بداية الطريق
ويصحبك إلى الغاية، حين إلى الغاية تنتهين
آه. رب ساعة من ساعاتك تقودك فيها خواطري
فما تشعرين إلا والرياح من وطنك القديم تحوم حواليك
وإن أخفاك عنها الزمن والظلام والسكوت
تقول لك: كم جاشت بالفتاة هذه الذكريات
وكم رانت على الصباح ظلمات هذه الظلال
وكم خّيم عليها هذا الحزن الذي تفارقينه بقلب حزين
وبعد. فمالي أقفوك بخواطري هذه ليت شعري؟
إن الحياة تتبدل، وإنك مع الأيام تتبدلين
فيأيتها الطبيعة التي لا تتبدل. ليتك تردين إليها فؤادي الضلَّيل
ستعود إلينا نسماتها بقبلاتها
وستسري إلينا في المساء كأنها قبلة قي الصباح
وسينفث الصيف نعمته التي لا يغيرها الزمان
ونحن وقد تبدلت لنا لمحة بعد لمحة، ونسمات بعد نسمات
تتعقب إحدانا الأخرى في شتى المسارب والدروب
علىِ نفحات الطفولة الخالدة التي تتأرج بها الرياحين أطفال الخلود
وما أكتب إليك هذا الخطاب المستطلع الناظر إلى الغيوب
لأموهّ لك الذيول بإكليل من المجد والفخار
وأحف هذا الذّواء بشارات النصر والنجاح
كلا! إنما هو شباب واحد وينطوي من الحياة الضياء
إنما هو صباح واحد ويُغشى النهارَ السحابُ
إنما هي شيخوخة واحدة تتلاقى فيها الأشجان والهموم، جموعاً وراء جموع
صه يا لساني، إن كلماتي أسالت عبرات عينيك
صه صه. فما أغزر ينبوع الدموع
يا للجفون البائسات. ما أسرع ما تبكي وهي قريبة إلى الرقاد!
عذراً للفتاة! لقد وسوست لها نزوة من غرائب نزوات الشباب
أيتها المرأة البائسة! ألق من يدك هذا الخطاب
إنه حطم قلبك فانسي أنني كتبته إليك
إن التي كانت تنظر منك إلى ذلك المحيّا
هي الآن تلمس براحة البنوة شعرك المشتعل
وتبارك هذا الشفق الحزين بدموع الصباح
هذه هي المسارب النفسية التي سارت فيها خطرات تلك الفتاة، وتلك هي المسالك والدروب المتعرجة الطويلة. وهي (إنسانة وامرأة) حين تحس بخطوات الزمن هذا الإحساس، وحين
تزج بخيالها إلى المرهوب من شيخوختها - وهي في حمى منها بفورة الشباب الحاضر - ومع ذلك تفزع وتضطرب فتلجأ إلى خيال الذكريات التي ستعتادها في الشيخوخة المرتقبة ذكريات الشباب التي (ستسري إلينا في المساء كأنها قبلة الصباح) فإذا هدأ روعها وتماسكت عادت تواجه (العجوز التي ستكونها) بالحقيقة الأليمة (إنما هو شباب واحد ونطوي من الحياة الضياء). شباب واحد والمرأة أحس ما تكون بوحدانية هذا الشباب!
وإننا لنمضي في تتبع هذه الخطرات النفسية في نفس هذه (الإنسانة) فلا نبلغ مداها ، بأيسر ولا أوضح مما بلغته بألفاظها، فلا ضرورة إذن للشرح والبيان
هنا فيض إنساني من الخوالج والخواطر والأحاسيس، قلما تعثر فيها على (معنى) بارز، أو فكرة مبلورة، أو حكمة سائرة. ولكنك لا تخطئ فيها وجه الإنسان وانفعالاته وخطراته، تتماوج وتتداخل، وتضطرب وتختلج وتسمع فيها حركة الحياة وتلمح فيها ظلالها من وراء الألفاظ والتعبيرات
ذلك شعر. وشعر كله. وشعر يحسن أن نتأثره لا مقلدين ولكن مستفيدين. ففي نفوس الكثيرين من ينابيع طليقة، تحبسها الطرائق التقليدية للشعر العربي في التعبير. وإن كانت المسألة في صميمها أكبر من الألفاظ وأوسع من التعبير.
سيد قطب
نقل الأديب
للأستاذ محمد استعاف النشاشيبي
579 -
نشبهها في ذنبها وقرونها
قال القاضي أحمد بن خلكان: كان أبو البقاء يعيش ابن علي بن يعيش حسن التفهم، طويل الروح على المبتدئ والمنتهي. وقد حضرت يوماً حلقته وبعض الفقهاء يقرأ عليه (اللمع) لأبن جني فقرأ بيت ذي الرمة بباب النداء
أيا ظبية الوعاء بين جلاجل
…
وبين النقا آأنت أم أم سالم؟
فقال الشيخ موفق الدين: إن هذا الشاعر لعظم وجده بهذه المحبوبة وكثرة مشابهتها للغزال - كما جرت عادة الشعراء في تشبيهم النساء الصباح الوجوه بالغزلان والمها - اشتبه عليه الحال فلم يدر هل هي امرأة أم ظبية، فقال: آأنت أم أم سالم وأطال الشيخ القول في ذلك بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن وذلك الفقيه منصت حتى يتوهم من يراه على تلك الصورة أنه قد تعقل جميع ما قاله الشيخ، فلما فرغ من قوله قال له الفقيه:
يا مولانا، إيش في هذه المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ فقال له الشيخ موفق الدين قول منبسط: تشبهها في ذنبها وقرونها فضحك الحاضرون، وخجل الفقيه وما عدت رأيته حضر مجلسه
580 -
فسكت وسكتنا
في (الأغاني): أقبل عيينية بن حصن إلى محلة بني زبيد في (الكوفة) فسأل عن محلة عمرو بن معد يكرب؛ فأرشد إليها، فوقف ببابه ونادى: أي أبا ثور، أخرج إلينا، فخرج إليه وقال: أنزل، فإن عندي كبشاً، فنزل فعمد إلى الكبش فذبحه، ثم ألقاه في قدر وطبخه حتى إذا أدرك جاء بجفنة عظيمة فثرد فيها، وأكفأ القدر عليها فقعدا فأكلا. ثم قال له: أي الشراب أحب إليك اللبن أم ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية؟
قال: أو ليس قد حرمها الله علينا في الإسلام؟ قال: أنت أكبر سناً أم أنا؟ قال: أنت. قال: فأنت أقدم إسلاماً أم أنا؟ قال أنت. قال: فإني قد قرأت ما بين دفتي المصحف فوالله ما وجدت لها تحريماً إلا أنه قال: (فهل أنتم منتهون) فقلنا: لا فسكت وسكتنا، فقال له: أنت
أكبر سناً وأقدم إسلاماً فجاءا فجلسا يتناشدان ويشربان ويذكران أيام الجاهلية حتى أمسيا، ثم انصرف عيينية وهو يقول:
جزيت أبا ثور جزاء كرامة
…
فنعم الفتى المزدار والمتضيف
قريت فأكرمت القرى وأفدتنا
…
تحية علم لم تكن قط تعرف
وقلت: حلال أن تدير مدامة
…
كلون انعقاق البرق والليل مسدف
وقدمت فيها حجة عربية
…
ترد إلى الإنصاف من ليس ينصف
وأنت لنا (ولله ذي العرش) قدوة
…
إذا صدنا عن شربها المتكلف
يقول أبو ثور: أحل حرامها
…
وقول أبي ثور أسد وأعرف
518 -
ضعف الإسناد. . .
في (خاص الخاص) للثعالبي: كان أبو محمد السرجي من ظرفاء الفقهاء والمحدثين ببغداد، فركب يوماً في سفينة مع نصراني، فلما بسط سفرته، سأل السرجي مساعدته ففعل، ولما فرغا أحضر شرابَه فحكى لونُه عينَ الديك وريحُه فأرة المسك، وأراد السرجي أن يجد رخصة فقال: ما هذه؟ وتوهم النصراني مراده، فقال: خمر، اشتراها غلامي من يهودي
فقال: نحن أصحاب الحديث نكذّب سفيان بن عُيَيْنة ويزيد بن هرون أفنصدّق نصرانياً عن غلامه عن يهودي؟ والله ما أشربها إلا لضعف الإسناد. ومدّ يده إلى الكأس وشربها
سجعة الكروان.
. .
للدكتور عزيز فهمي
هاتف في السَّحرْ
…
بارعٌ مُقتدِرْ
صادحٌ مُطنِبٌ
…
ساجع مُختِصرْ
مطربٌ هزّني
…
لحنُه المبتكَرْ
لم يزل هاتفاً
…
في ليالي القمر
عاده وجْدُه
…
ودعتني الذَّكَر
فاحتسبْتُ الهوى
…
والصبا المحتَضِر
ودعوت المنى
…
والشباب النَّضِر
بين همس الرُّبى
…
وخريرِ النَّهَرَْ
ودبيب المُنى
…
وحفيفِ الشجرْ
وهبوب الصَّبا
…
واعتراض الدُّبُرْ
طاب لي مجلسي
…
وحلا لي السهرْ
جَنَّةٌ عندَها
…
يعذبُ المُستقرْ
دوحهُا حافِلٌ
…
بِشَهِيّ الثَّمَرْ
روضها عابقٌ
…
وَرْدُهُ والزَّهَرْ
ماءها سَلْسَلٌ
…
وِرْدُهُ والصَّدَرْ
جنّةٌ حفّها
…
نخلها المُشْتجِرْ
بينما يستوى
…
قائماً ينأطِرْ
ليلةٌ في الزمن
…
لم يشبها كدر
ليلةٌ فَذّةٌ
…
من هِبات العُمُرْ
فَتزَوَّدْ بها
…
لِلَيال أُخَرْ
يا غلام اسقنا
…
هاتِها وابتَدِرْ
هاتها مُرةَّ
…
حُلْوَةَ المختَبَرْ
في كؤوس ذهب
…
وأوانٍ حُمُرْ
هاتها رَطبةً
…
في دمى تَسْتعرْ
هاتها وابتدر
…
لم أعُدْ اصطَبِرْ
هاكَها هاكَها
…
يا نديمي اعتبر
عانسٌ زانها
…
ثوبها والخَفَرْ
من عقيق العنْب
…
دَمُها المُنهْمَرِْ
فتنةٌ للنظرْ
…
من رآها سكرْ
وزرها هَيّنٌ
…
ذنبها مُغتَفرْ
خمرة عُتِّقَتْ
…
من قديم العُصُر
أُمّها بابلٌ
…
وأبوها مُضَرْ
قهوةُ صُهْرِجتْ
…
في أقاصي الُحفَرْ
دسها كاهن
…
قبل عهد الحَضر
لم يذق مثلها
…
قيصرٌ ذو سُرَرُْ
يا طيورَ الرُّبى
…
روضكم مُزدْهرْ
كلُّكم نائحٌ
…
ويحكم! ما الخبر؟
حسبكم حَسبكم
…
بعض هذا الخور!
شاعر ناقمٌ
…
ومُغَنٍّ ضجِرْ
كلكم عازفٌ
…
فوق هذا الوترْ
كلكم ريشةٌ
…
في مهبّ الغِيَرْ
كلكم هدّه
…
دَهْرُه فانكسر
كلكم مُوجَعٌ
…
مُشتْك مُفتقِرْ
عاشقٌ مُذْنفٌ
…
قد براه الَحوَرْ
وأخٌ يائسٌ
…
من ضحايا القَدَرْ
لم يَعُدْ صادحٌ
…
في ليالي السمر!
ألزم الألزم من لزوم ما لا يلزم
الناس بالناس من حضر وبادية
…
بعض لبعض - وإن لم يشعروا - خدم
والنسل أفضل ما فعلت بها
…
وإذا سعيت له فعن عقل
ورفقاً بالأصاغر كي يقولوا
…
غدونا بالجميل معاملينا
فأطفال الأكابر إن يُوقّوا
…
يُروا يوماً رجالاً كاملينا
لا تزدرُنْ صغاراً في ملاعبهم
…
فجائز أن يروا سادات أقوام
وأكرموا الطفل عن نكر يقال له
…
فإن يعش يدع كهلاً بعد أعوام
رب شيخ ظل يهديه إلى
…
سبل الحق غلام ما احتلم
إذا الإنسان فُض العقل منه
…
فما فضل الإناس على النمال؟
فانفع أخاك على ضعف تحس به
…
إن النسيم بنفع الروح هباب
فجد بعرف ولو بالنزر محتسبا
…
إن القناطير تحوى بالقراريط
تروم رزقاً بأن سموك متكلا
…
وأدين الناس من يسعى ويحترف
فإذا ملكت الأرض فاحم ترابها
…
من غرسه شجراً بغير ثمار
إذا فاتك الإثراء من غير وجهه
…
فإن قليل الخل أولى وأبرك
البريد الأدبي
1 -
إلى الأستاذ الفاضل نقولا الحداد
يؤسفني أيها الأستاذ أن تكون فهمت من كلمتي السابقة شيئاً ما أكنه لك من المحبة الصادقة والإجلال الأكيد. . . فأنت أستاذنا الفاضل، وكاتبنا العالم المحبوب، وذلك مذ كنا تلاميذك الصغار المعجبين بك. . . وتشككك في صدق هذا الاعتراف هو موضع أسفي وألمي. أما ما عنيته، بل كتبته صراحة، من أن الذي كتب عن نظرية وحدة الوجود - تلك النظرية المشئومة - قد كتب من وجهة نظر تكاد تكون إسلامية بحتة، فلا يعني أن تكون احتكاراً لأمة دون أخرى ولا يعني منع أحد من الخوض فيها، وإلا كنا متناقضين مع أنفسنا حينما نفينا ما وهمه الأستاذ الرصافي من نسبتها إلى نبينا الكريم، وحينما استعرضنا آراء الفلاسفة اليونانيين فيها. ونحن نزيد المسألة بياناً فنقرر أن نظرية وحدة الوجود ليست من الإسلام في شئ. بل هي الكفر الصريح في رأي كبار الأئمة المسلمين، أما ما فهمه أستاذنا الفاضل المحبوب من مقالنا عن النظرية في الفلسفة اليونانية، وأنه خرج من المقال بأن اليونانيين عنوا بالوجود أصله المادي لا غير، فهذا كان ولا يزال موضع عجبي، فقد أوردت في المقال إزاء من قالوا بالوجود المادي لا غير. ومن قالوا بوجود أي عقل مدبر حكيم وراء هذا الوجود المادي، وآراء من قالوا بعالم المثل. ثم ألمعت إلى رأي أرسطو في الصورة ورأيه في الله. الخ
على أننا نكرر لأستاذنا الفاضل المحبوب شكرنا ونعرب له عن حسن قصدنا
2 -
الدفاع عن وحدة الوجود
كال لنا الأستاذ زكريا كيلاً شديداً دون أن يعرض للنظرية بشيء مقنع؛ فهل يتفضل حضرته فيتناولها في صراحة، وليبدي لنا رأيه فيما ذهب إليه العلامة أبن تيمية بصددها في كتابه الفريد (الحجج النقلية والعقلية فيما ينافي الإسلام من الجهمية والصوفية، كالحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، ونفى القدر، أو الاحتجاج به على الرضا بالمعاصي. الخ)، وما تناول به ابن عربي من التكفير والزندقة والإزراء بالرسالة
يا أخي. . . اقصد في دفاعك عن ابن عربي، حتى تفرغ من دراسة هذه القضية، وأسأل الله لك السداد.
دريني
(أفتوني في رؤياي)
لعل الأستاذ الفاضل (عبد العزيز جادو)، وقد تعرض للأحلام تعرض الفاحص الخبير، أن يكشف ما التبس عليّ من أمر هذه الرؤيا. وله مني ومن قراء هذه الكلمة الشكر على إيضاحه سلفاً
في ظهر يوم الاثنين 27 رمضان (من العام الفائت) كنت أطالع في كتاب نظام العالم والأمم للشيخ طنطاوي جوهري (جزء 2 ص 113)
وكنت مجهدا البدن محروراً، فلذت بفراشي واستلقيت على ظهري، وأسندت الكتاب مفتوحاً إلى صدري، ثم تابعت القراءة، وهذه عادة مقيتة أعترف وأنا آسف بأني ما زلت أتبعها! على أني أنصرف إلى غايتي فأقول إني استغرقت فجأة في نوم مضطرب خفيف، ثم رأيت كأنني أركب قطاراً أعود به من القاهرة إلى الصعيد وقد توقف عند محطة بني مزار. ووجدتني أخترق بعض شوارع هذه البلدة - والواقع أني لم أزرها من قبل - ثم أقف أمام بيت أساوم صاحبه في بيعه! وبعد قليل كنت أحادث الرجل نفسه عن كتاب له، وقد تناولته فاحصاً، ثم رحت أقرأ فيه هذه العبارة:(ويسبق السبق هي المعالي؛ فإذا لا حظنا الحياة)، وفجأة استيقظت وأنا أكرر هذه الجملة من الكتاب وأراها بعيني فيه وما كان أشد عجبي حين وجدت أمامي - حقيقة - هذا السطر من كتاب المرحوم الشيخ طنطاوي:(والناس يتسابقون وقصب السبق هي المعالي، فإذا لاحظنا الحياة) الخ
وعليه فأكون قد قرأت وأنا نائم الكلمات السبعة الأخيرة من السطر الذي أمامي قراءة صحيحة لم أحرَّف في أثنائها إلا الكلمة الأولى فجعلتها (ويسبق) بدل (وقصب) فهل معنى هذا أن العين وهي مغمضة تجيد القراءة الصحيحة إلى الحد الذي يعيه العقل؟
وإذا صح أن أذن النائم تعي أصواتاً حقيقية، فتختلط هذه الأصوات بأحلامه مع شئ من التكييف - وذلك ما يحدث كثيراً - فكيف يصح أن ترى العين أشياء حقيقية رؤية يعيها العقل، والعين في كل ذلك منطبقة؟. . .
وقد نفترض أن العين لم تكن مغمضة تماماً، فهل يؤدينا هذا إلى الإقرار بأن الإنسان قد ينام
ويرى الرؤى في نومه، وعينه مع كل ذلك مفتوحة تبصر؟
(جرجا)
محمود عزت عرفة
ذكرى الإمام محمد عبدة
في يوم الثلاثاء الماضي (11 يولية سنة 1944) احتفل الأزهر الشريف بدار (الإذاعة اللاسلكية المصرية) بذكرى الأستاذ الإمام المصلح محمد عبدة. فألقى فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء كلمة قيمة عن (الشيخ عبده وطريقته في التفسير) صدر بها هذا العدد من الرسالة، وألقى بعده الدكتوران الفضلان محمد البهي ومحمد ماضي - وهما عضوا بعثة الإمام محمد عبده إلى ألمانيا - كلمتين أخريين وقد سر أهل الفكر والعلم بهذا الاحتفال يهتم به الأزهر، ويذيعه باسمه على المسلمين في الشرق والغرب، لأن في ذلك وفي الكلمات التي ألقيت، دلالات على روح جديدة نرجو أن ينتفع الأزهر بها، وأن تكون عوناً على بلوغ ما يصبو إليه ما آمال إن شاء الله.
(م. . .)
في اللغة
قال الأستاذ علي محمد حسن في عدد الرسالة 574 (ولا يفوتني أن أقول إن الشاعر عبد الغني حسن له قصيدة في نفس العدد - 573 - وفيها: (تتلاشى على الرمال وتنثر) ولا أعرف في اللغة (تتلاشى) هذه. . .)
قال في (نهج البلاغة): وما تلاشت عنه بروق الغمام. قال ابن أبي الحديد: هذه الكلمة أهمل بناءها كثير من أئمة اللغة، وهي صحيحة وقد جاءت ووردت، قال ابن الأعرابي: لشا الرجل إذا اتضع وخس بعد رفعة، وإذا صح أصلها صح استعمال الناس: تلاشى الشيء بمعنى اضمحل. وقال القطب الراوندي: تلاشى مركب من (لا شئ) ولم يقف على أصل الكلمة
وقال البديع الهمذاني في رسائله: فإن أطفأت بارت وتلاشت. وفي مقاماته: وتلاشت
صحتي. وفي معجم الأدباء لياقوت: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به. وفي المثل السائر لابن الأثير: وأوسعها توشية وإذهاباً إذا وسع غيرها تلاشياً وذهاباً. والتلاشي في كلام ابن خلدون كثير جداً. ووردت اللفظة في شعر الغزي في مواسم الأدب، وفي نقد النثر لقدامة، وأوردها التاج في مستدركه وأبو البقاء في كلياته. وفي تفسير الإمام الطبري: لما خرج ابن مسعود من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ثم قال: لا تنازعوا في القرآن فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ولا ينفد لكثرة الرد. . .
حمد صفوان
ابن جميع على ابن جميَّع
كنتُ نبهت الأستاذ الفاضل الدكتور باول كراوس إلى صواب اسم ابن جميع الطبيب الإسرائيلي على وزن كريم لا على وزن فعَّيل بالتشديد
ولكن الأستاذ أصر في مقال آخر له بمجلة الثقافة عدد 286 على الاسم الخطأ. فأرجو منه وهو مولع بالتحقيق والتدقيق أن يتقبل هذا التصحيح مرة أخرى من المخلص.
محمد عبد الغني حسن
إلى الأستاذ السيد محمد عزة
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته - وبعد فأشكر لكم حسن ظنكم بي، وجميل تقديركم لما أكتب في مجلة الرسالة الغراء، وإن تعليقكم على مقالتي في قضية نسب زياد ليدل على ميزة عظيمة في أدب النقد، وحسن فهم لقضايا التاريخ، وإني أعتقد أنه لم يفتني ذلك التوجيه الذي أشرتم إليه في هذه القضية، لأني حينما أنصفت معاوية وزياداً فيها قضيت بذلك على الروايات التي فيها تحامل عليهما، وكان لتدوينها في عصر العباسيين أثر في ذلك التحامل، وهذا غاية ما يمكن أن يسلك في تحقيق هذه القضية، لأننا نجد أنفسنا بعد هذا أمام أمر لا يصح الشك فيه، وهو أنه كان هناك قضية في نسب زياد، وأن زياداً كان ينسب قبلها إلى غير أبي سفيان فألحق بعدها بنسبه، وأن خير توجيه لهذا هو ما روى من اتصاله بأمه على ذلك الوجه من أنكحة العرب في جاهليتهم، ولا سيما أنه لا يوجد في التاريخ توجيه غيره لذلك النسب، ولا يقدح في كون سمية من البغايا أنها كانت تحت زوج، لأن
البغي بغي على أي وضع كانت، ولاسيما في ذلك العهد الذي وصلت الإباحية فيه إلى أبعد الحدود، وكذلك لا يقدح في عظمة زياد أن ينشأ من ذلك النكاح الجاهلي، لأن عظمته كانت ترجع إلى شخصه لا إلى نسبه، ومثل هذا ونحوه من السهل أن يستساغ في التاريخ، ولا يسهل أن ترد به تلك القضايا الظاهرة
عبد المتعال الصعيدي
الأغوار
(ديوان شعر للأستاذ الأديب المعروف أحمد الصافي النجفي - صدر عن دار المكشوف - بيروت - 1944)
باقة يانعة من شعر التأملات والخطرات الفكرية - تقرأه فينقلك من هذه الدنيا الممتلئة بالآلام. . . إلى عالم من التأمل الذي لا يورثك غير الآلام أيضاً. . . لكنها آلام لذيذة. . .
إنها آلام الإنساني التي تبكي في كل مكان. . . وتضحك في أمكنة قليلة. . .
لا نريد أن نستطرد. . . ففي نيتنا الكتابة الطويلة عن هذه (الأغوار) في فرصة أخرى، نرجو أن تكون قريبة. . . فتحياتنا سلفاً لشاعرنا الرقيق المحبوب الأستاذ النجفي
مجلة السودان
(أسبوعية - تصدر نصف شهرية مؤقتاً - عمارة إيموبليا شارع شريف - القاهرة) عدد يونية سنة 1944
صدر من هذه المجلة الرشيقة عددها الأول فجاء مبشراً بما هو ظننا دائماً بشباب السودان المثقف، وما هو أمل كل مصري يؤمن بأن السودان هو نصفه الثاني. والعدد حافل بأنباء السودان العزيز وأخبار أعيانه ومرافقه؛ والمجلة تمثل الجالية السودانية في مصر أصدق تمثيل - ونحن حين نقول الجالية نقصد بها هذا الشباب الشقيق الذي لا يختلف منا ولا نختلف منه، والذي نكن له أصدق عواطف الأخوة وأنبل مشاعر الوفاء. وقد خصصت المجلة أبواباً للشعر والقصص والسينما والمسرح، وهي تحرر هذه الأبواب بروح سوداني نرجو أن ينفعنا في تتبع الحركة الأدبية الفنية في السودان. . . ونكرر تهنئاتنا
تصويب
تغيرت في المقال الافتتاحي للعدد الماضي كلمة يتغير بها معنى الجملة كلها، وهي:(الجزء الذي تستأصل منه خصيته يضمر ولا تنبعث فيه دواعي النماء، ولا يحدث مثل هذا في أنثاه إذا نزع منها المبيض. . .)، وصوابها:(الجرذ. . .)