المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 577 - بتاريخ: 24 - 07 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٧٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 577

- بتاريخ: 24 - 07 - 1944

ص: -1

‌موضوعات الكتب

للأستاذ عباس محمود العقاد

كتبت منذ أسابيع مقالاً بمجلة (آخر ساعة) عنوانه (أريد من هؤلاء) قلت فيه:

(أريد من زعمائنا أن يشغلوا أوقات فراغهم، لأن الذي لا يحسن تدبير الفراغ لا يحسن تدبير الأعمال)

ثم قلت: (وندع رجال السياسة والأعمال، ونلتفت بعض الالتفات إلى طائفة من كبرائنا لها في العصر الحاضر عمل لا يغني عنه عمل الآخرين

(إن العصر الحاضر عصر حرب، وإن مصر قد أصيبت من هذه الحرب ووجب أن تعرف على التحقيق كيف تتعرض لها وكيف يكون الدفاع عنها. وقد ظهر عن معارك العلمين وطرابلس وأفريقية الشمالية ما لا يقل عن خمسين كتاباً في اللغة الإنجليزية ولم يظهر كتاب واحد من رجالنا المختصين بشئون الحرب في هذا الموضوع. وعندنا طائفة غير قليلة العدد من كبار ضباطنا المحالين إلى المعاش، فلماذا لا يكتبون لنا رأيهم في معركة العلمين وفي خطط القتال الذي دار بين أوكفلك ومنتغمري وروميل وجرازياني وسائر القواد والضباط؟)

وقد عقب على مقالنا هذا الأستاذ عبد الخالق يوسف المحامي فقال إنه يوافقنا على رأينا ولكن (ذلك لا يمنع من الإشارة إلى المؤلفات التي وضعت في هذا الموضوع والتي كتبها الأديب الملازم الأول السيد فرج). . . وهي تناول حرب الصحراء المصرية وأفريقيا الشمالية، وأحاديث أخرى عن الحرب من وجهة عامة

ونحن، والحق يقال، قد فاتنا أن نطلع على المؤلفات التي أشار إليها الأستاذ عبد الخالق يوسف حين صدورها، ثم اطلعنا على بعضها بعد أن نبهنا إليها قراؤها المعجبون بها فألفيناها من الموجزات الوافية بمقاصدها في هذا الموضوع، وصح أن يقال إن مؤلفها الفاضل قد قام بما يسميه الفقهاء (فرض كفاية) عن الكتاب العسكريين في مصر، أو الذين كانوا ينبغي أن يحسبوا في مقدمة الكتاب العسكريين

فكتابه عن حرب الصحراء المصرية ملم بمقدمات هذه الحرب وأطوارها واختلاف عوامل النصر والهزيمة فيها، وقلما اتصلت بهذه الحرب مسألة من المسائل التي تعني العسكريين

ص: 1

إلا كان له إلمام بطرف من أطرافها

كذلك اطلعت في مجلة الجيش على بحوث كثيرة عن الحرب في جميع ميادينها وأطوارها يضارع بعضها أحسن ما نقرأه لخبراء هذه الموضوعات في المجلات الأوربية والأمريكية

ولكننا نرى بعد هذا أن ملاحظتنا الأولى لا تزال قائمة في مكانها، لأنها متجهة إلى زعمائنا العسكريين وغير العسكريين ليشغلوا أوقات فراغهم بدراسة الموضوعات التي لا يغنى فيها غيرهم، وليس ظهور الكتب والفصول في هذا الصدد مما ينفي عن زعمائنا في مختلف ميادين الحياة أنهم متى فرغوا من العمل لم يشغلوا هذا الفراغ كما يشغله أمثالهم في البلاد الأخرى

ولا تزال ملاحظتنا الأولى قائمة من وجه آخر وهو الابتداع والإنشاء في درس شئون الحرب التي تمس البلاد المصرية من قريب

فالصحراء الغربية مصرية قبل كل شئ

ومن الواجب أن يكون علم المصريين بها وتعقيبهم على أساليب الدفاع والهجوم فيها هو العلم الأصيل الذي يرجع إليه الخبراء من أمم العالم بأسره، وأن يكون بين أيدينا اليوم كتب شتى عن الغزوات التي تعرضت لها مصر غرباً من بداية التاريخ إلى هذه الأيام، وأن تدرس هذه الغزوات دراسة عصرية كما يدرس الأوربيون غزوات هانيبال وأتيلا في بلادهم ليعلموا منها عوامل الضعف والقوة في الدفاع والهجوم على حسب اختلاف العصر والخطة والسلاح

فأين هو الكتاب المصري الذي يحقق لنا غزوات الليبيين لحدودنا الغربية؟ أو غزوات قواد الرومان ثم الفاطميين لتلك الحدود؟

وأين هو الكتاب المصري الأصيل الذي يحقق لنا المصادفات والمفاجآت والعوارض المنتظرة وغير المنتظرة مما حدث في أرضنا وتخومنا ونحن أحق الناس أن نعرف كل صغيرة وكبيرة عن تلك الأرض وتلك التخوم؟

ليس لي شأن بالمسائل العسكرية في ناحيتها الفنية، ولكني أعلم أن نيابتي عن الصحراء الغربية كلفتني أن أراجع كل ما تيسرت لي مراجعته عن تاريخها وتاريخ الغزوات الأجنبية فيها، وكان الشائع أن النفاذ منها في جميع وجهاتها مستحيل أو قريب من

ص: 2

المستحيل، ولكنني تبينت أن الاطمئنان إلى هذا الرأي باب من أبواب الخطر الشديد وكتبت في هذا المعنى منذ ثلاث سنوات رداً على المؤكدين لهذه الطمأنينة أقول إن الحيطة واجبة في الشواطئ المصرية وإلا فالنفاذ منها ليس بالمستحيل، وإن كان عسيراً بالغاً في العسر أقصاه. وبيان هذا من رجال عسكريين أدعى إلى الثقة ووضوح الحقيقة بالحجة الفنية التي تموز الغرباء عن هذه الفنون

وقد كان هذا النقص في خاطري يوم أردت من زعمائنا العسكريين أن يتداركوه وأن يسقطوا عن كاهلهم هذه الفريضة التي لا تلقى قبلهم على كاهل أحد من الناس

والذي نرجوه أن يتحول فرض الكفاية الذي قام به بعض ضباطنا الشبان إلى (فرض عين) يقوم به كل قادر عليه، وهل ينبغي أن يقدر عليه أحد قبل ضباطنا العظماء؟

ويستطرد بنا الكلام عن الكتب وموضوعاتها إلى بدعة مضحكة تروج على بعض الألسنة التي لا تمل الاقتراح ولا تقترح إلا غير ما تراه، وخلاصة هذه البدعة أن الكتابة عن أبطال التاريخ ممنوعة وأن الأدباء يجب أن ينحصروا في الحاضر الذي هم فيه

وقد رد صديقنا الأستاذ المازني على هذه البدعة في مقال له بالبلاغ عن كتابنا (عبقرية خالد) فقال: (هل يراد ترك القديم جملة؟ إن تاريخ الأمم كالذاكرة للفرد ولا ندري كيف يعيش إنسان بغير ذاكرة ولا كيف تحيا أمة تجهل ماضيها وترى أن تدفنه وتهيل عليه التراب)

ثم اطلعنا في مجلة الاثنين على كلمة بعنوان (المستقبل لا الماضي) يعيب فيها كاتبها الأديب أن يتكلم الناس عن علي وعثمان وموقف أبي موسى الأشعري من التحكيم، ثم يقول إنه لا يريد هذا (ولكنا نريد أن نعرف ما عسى أن يصنع 17 مليون مصري 95 % منهم فقراء معدمون نريد أن نعرف ما هو مستقبل الوطنية الصحيحة في مصر وما هو مركز الاستقلال الحقيقي في هذا البلد. نريد أن نعرف هل الأفضل لمصر أن تبقى زراعية فتعيش في الذل والاستعباد أم تجمع بين الزراعة والصناعة ليرتفع مستوى الحياة فيها ويسمو. . .)

إلى آخر ما يريد أو يريدون

والظريف أن يصدر هذا من محرر (الاثنين) وهو يعلم أن العالم ينطوي وقد استنفدت

ص: 3

المطابع من صحف المجلات عشرة آلاف صفحة في توافه المتبطلين والمتبطلات من رواد المراقص والمحافل وميادين السباق، ثم يستكثر بعد هذا بضع مئات من الصفحات على سيرة خالد بن الوليد أو عثمان بن عفان أو إنسان من ذوي الذكر كائناً من كان!

ويظن الكاتب الظريف أن (التقاليع) الأمريكية تنفع هنا كما تنفع في أخبار المجالس والأندية وما وراء الستار وما أمام الستار

والتقاليع الأمريكية لا تنفع في هذا الباب

لأنه يصح أن يذكر أن انتشار الزراعة أو الصناعة وما شابه ذلك من نظم الثروة وتوزيعها أمور فنية لها قوم مختصون بها، هم الاقتصاديون والزراعيون وخبراء المال والنقد والمصارف والشركات، ودخول الأدباء في هذه المباحث افتيات على (وظيفة) أصحابها وتعطيل لعملهم الذي هم أحق الناس أن يلتفتوا إليه

ويصح أن يذكر أننا تناولنا من مسائل العصر الحاضر أهمها وأولاها بالالتفات والتحقيق وهي مسألة النهاية التي تصير إليها الحرب الهتلرية، كما أوضحنا حقيقتها في كتابنا (هتلر في الميزان). ولم تكن هذه المسألة غريبة عن مستقبل الوطنية في مصر ولا عن مركز الاستقلال الحقيقي فيه، ولكنها غريبة عن عقول طمسها الله، فحملت من التبعات التي تجهل مداها ما تنوء به كواهل الأجيال

ويصح أن يسأل نفسه بعد هذا سؤالين وهما: ما هو الوقت الذي يسقط فيه حق التأليف بمضي المدة؟ أهو خمسون سنة أو مائة، أو عشرة أسابيع أو عشرة شهور؟

وأين هي الأمة التي ليس لها حاضر ولا مستقبل؟ ولماذا لم توجد أمة قط تركت الكتابة عن الماضي ولها حاضرها ومستقبلها في كل دقيقة من الزمان!

فسنة 1944 ليست هي الحاضر الوحيد الذي خلقه الله، وسنة 1944 ليست هي السنة الوحيدة التي اشتغل فيها الناس بمعيشتهم وبحثوا عن أسعار الخبز واللحم والقمح والقطن والشعير

سنة 1944 في هذا كسنة 944 وكسنة 94 وكسنة 94 وسنة 1944 قبل الميلاد

كل سنة من هذه السنين يا أخانا هي وقت حاضر، وهي سنة يأكل فيها الناس ويشربون ويهتمون بأسعار اللحم والخضر وبمسائل الفقر والغنى، وبمستقبل الصناعة والزراعة، أو

ص: 4

ما شابه الصناعة والزراعة من مصادر الأرزاق

ومع هذا لم ينقض (عصر حاضر) قط حرمت فيه الكتابة عن الماضي البعيد أو الماضي القريب

ولم ينقض عصر حاضر قط شغل فيه الأدباء بواجب الخبراء الاقتصاديين والماليين والزراعيين، مع أنهم لم يبلغوا من قبل ما بلغوه الآن من الكثرة والافتنان والتوسع في الاختصاص. . . فلماذا يمتنع على الأدباء في سنة 1944 وحدها أن يكتبوا في الأدب والتاريخ، ويجب عليهم أن ينازعوا المختصين في الشؤون الاقتصادية وهم كثيرون أكفاء ميسر لهم سبيل البحث في هذه الشؤون؟

إن المعرفة الإنسانية يا أخانا ليس لها زمان

وإن النفس الإنسانية يا أخانا ليس لها زمان، وليست هي من (مودل) سنة 1944 دون ما تقدمها من السنين

فإذا كشف الكاتب حقائق المعرفة الإنسانية أو حقائق النفس الإنسانية في سيرة خالد بن الوليد؛ فهو قد كشف الحقيقة التي تبقى ألف سنة وألفي سنة بعد اليوم، بل تبقى ما بقي الإنسان ونفس الإنسان، يوم تكون مساحة الأرض الزراعية وعدد الآلات الصناعية في سنة 1944 عدماً فانياً، كأنه لم يخلقها الله قط في عالم الوجود

يصح أن يذكر الكاتب الظريف هذا كله، ويصح أن يذكر معه أن إحياء الروح العربي والقومية العربية في عصرنا هذا موضوع لا يجئ اليوم في غير موعد ولا على غير أوان

إنجلترا والولايات المتحدة تتحدث بالجامعة السكسونية، وهي القوية الغنية عن الجامعات

والروح العربي لازم جداً في هذا العصر، لأن المذاهب الهدامة التي تهدد مستقبل الآدمية كلها تأبى أن تكون للأمم نخوة قومية، أو نخوة لغوية، أو نخوة دينية، ولا تريد من الناس إلا أن يكونوا نقابة أجراء تشتغل بأسعار السوق وأحاديث الخضر واللحوم

ولهذا نحن نكتب عن خالد بن الوليد وعلي بن أبو طالب وعمرو بن العاص، وكل بطل من أبطال التاريخ

وإذا فرغنا من كتبنا التي ندرسها الآن فأحب شئ إلينا أن نبحث عن بطل مضت عليه خمسة آلاف سنة لنخصه بالتقديم والتفضيل، ونعتقد أن تقديمه وتفضيله أعون على

ص: 5

التعريف بنفس الإنسان من أبطال العصر الحاضر، لأن الناس يستغربون ما مضى من الأجيال؛ فإذا رفعنا عنهم الغرابة كان هذا أدعى إلى التعريف بحقائق الإنسان

سنكتب عن هذا وأمثاله ما شئنا نحن أن نكتب فيه، وشئ واحد لن نكتب عنه طال عليه الزمان أو قصر، وهو الموضوع الذي يمليه علينا أعدائنا الماركسيون مستترين أو مصرحين، وهم فاهمون ونحن فاهمون

عباس محمود العقاد

ص: 6

‌1 - أحمد رامي

للأستاذ دريني خشبة

حاولت أن أكتب عن أحمد رامي غير مرة، فكان الشعر يغازل قلمي، وكانت الدنيا كلها تمتلئ بالغناء والموسيقى من حولي، وكانت ترجمته تجتمع في خيالي نشيداً طويلاً تاماً متسق الألحان متنوع النغم، يضرب العقاد في مثانيه من هنا، والقصبجي في مثالثه من هناك، وبقية السادة النُّجُب، أفراد التخت الموقر الخالد من فوق ومن تحت، يلوّنَون ويفتنّون، والصوت الإلهي المقدس يشيع في اللحن فيرف به في القلوب، ويملأ به المشاعر، ويطوف به على العذارى والمحبين والمكلومين، فَيِطب للكبد الحَّرى، ويأسو الفؤاد المحترق، ويكفكف الدمع في المقلة المؤرقة، ويرطب اللسان الظامئ، والفم الغرثان، بالأغاني الصامتة، والآهات الخافتة، فيتسلى محب، ويرق حبيب

وكنت في كل مرة أستغني بهذا الخيال الجميل الحلو عن الكتابة، لأنه خيال روحي حي تمسخه الكلمات، وتزيفه تراكيب الجمل، ويُضَنُّ به على هذا الهراء الذي يسمونه التحليل في عالم النقد، وأسميه التزييف في دنيا الجمال. . .

يتهمني كثير من إخواني القراء بأنني أسخو في ثنائي على الشعراء الذين أختارهم للكتابة عنهم، وابتسم لي الأستاذ الزيات مرة وأوصاني بالاقتصاد في هذا الثناء؛ فمن عذيري إذا لم أجد مندوحة عن الثناء على رامي!. . . رامي الذي أغرم العالم العربي كله بأغانيه، فأنصت إليها، وتغناها، وهتف بها، وداوى بسحرها آلامه، وأروى بسلسالها أُوَاَمه، وجعلها مشرع حبه، وترنيمة وجده، وتعلَّة هواه

من منا أيها الإخوان لم يخل إلى نفسه فوجدها تردد أغاني رامي؟ ترددها راضية وترددها محزونة، وترددها مشوقة وترددها هائمة وترددها فرحة مرحة طروباً! من من أبناء هذا الجيل لم يملأ رامي عشرين عاماً من عمره السعيد المديد بما يمتلئ به قلبه من شعر وغناء ومحبة؟ من منا لم تسحره منظومات رامي التي أودعها أسرار قلبه، وسقاها مُنْهَلَّ دمعه، وخلط بها دمه ونجوياته وأمانيه؟!

إن رامي العظيم الخالد، هو ذلك النبع الأول الصافي ذو الخرير، الذي تفتأ الحمائم الوُرق تحوْم من فوقه وتهوى إليه، لتحسو من صفحته الحسوة والحسوتين تبل ظمأ وتشفى جُواداً،

ص: 7

ثم تسكن إلى الأفنان لتملأ الدنيا هديلاً، وتبشر المحبين برسالة رامي. . . رامي الذي يقول منذ ربع قرن:

تغلغل الحب في فؤادي

تغلغل الماء في الغصون

وأرسل الحسن في قريضي

من نوره الواضح المبين

فجاء أحلى من الأماني

بَسمن لليائس الغبين

وجاء أشجى من الأغاني

نَديَن بالوجد والحنين

يا ريشة الوهم صوّري لي

في صفحة الخاطر الحزين

ما جف من يانع جَنيٍ

وغاض من سلسل مَعِين

ويا طيور الخيال خفي

في دولة الليل والسكون

وابكي فضاء صدري

ورجعّي من صدى أنيني

ورفرفي في على فائت تقّضي

ترفضّ من ذكره شئوني

ويخيل لي، وأنا أردد هذا الشعر الجميل من شعر رامي الذي حفظته منذ ذلك العهد، أن أحداً من الناس لا يستطيع أن يكتب عن رامي دون أن يغازل الشعر قلمه كما يغازل قلمي الآن. وللكتابة عن الشعراء الممتازين أو الأدباء الممتازين خطط متنوعة سهلة كلها، يسير على المؤرخ أو الناقد. . . ولعل أصعب هذه الخطط وأشدها عسراً على الناقد أو المؤرخ، هي تلك التي يغازل الشعر فيها قلمه، فلا يدعه يقول ما يريد، ولا يتركه يسير في تلك السبل السهلة المعبدة التي سار فيها الكتاب قبله. فيبدأ بكلمة عن نشأة الشاعر والبيئة التي أرضعت بلبانها خياله وغذت بثمارها وجدانه، وسلطت ظبائها وألوانها وأضواءها على قلبه تنوشه وتطبع على شغافه الأحمر والأصفر والوردي والبنفسجي، وتضوّي سويداءه استعداداً لتلقي وحي السماء ثم يتناول بعد ذلك الظروف التي هيأت للشاعر قول الشعر، ومما يتردد في تلك الظروف من غزل ونظر ودعابة، تنقلب آخر الأمر إلى قلب يرتجف ولسان يتلجلج، ودمع يترقرق وعين مؤرقة، وكبد محترقة وخيال كامل شامل يتسع للأرض والسموات، ويد تتناول القلم، هذا المخلوق العجيب، فتسجل الآيات البينات، ترسلها كلاماً موسيقياً موزوناً حافلاً بالمعاني الفريدة، ثم يفرغ - أي الكاتب أو المؤرخ - إلى شعر هذا الشاعر ينقده ويزنه، ويظل يقول لك هذا جيد وهذا رديء، وذلك متوسط، وذاك غامض،

ص: 8

وتلك الفقرة لا معنى لها، وهذا الشطر لا خير فيه، حتى إذا كنت قد كونت لنفسك رأياً في الشاعر قبل أن تقرأ هراء الناقد. وحتى إذا كنت قد أغرمت بشعره، ورضيت عن طرائقه وموضوعاته، تسلمك لناقد المحترم بآرائه فلا يدعك حتى تغثي نفسك ويتقزز خيالك، وتمسخ الصورة الجميلة الرائعة الحبيبة فتصبح هولة أو سعلاة. . .

أما الخطة التي يغازل الشعر فيها شباة القلم، فلا تتأتى إلا إذا كانت ثمة صلة روحية بين الشاعر والناقد. ولقد أراد المرحوم الأستاذ صادق عنبر أن يكتب كلاماً ما يجعله مقدمة لديوان رامي، فلم يستطع أن يقول شيئاً. ولكنه كتب سطوراً جميلة، يحمل كل منها بيتاً منثوراً من الشعر، لا يصله بالبيت السابق ولا يربطه بالبيت اللاحق سبب من الأسباب. . . وإليك نموذجاً من أوائل هذه الأبيات:

عرفته فتياً يخف للشعر ويجتمع له. . . الخ

وعرفته وقد لبس الشباب، وإذا شمائل مرجوة المخايل. . .

ثم عرفته شاعراً غزلاً يشبه أن يكون كالبهاء. في الضحك والبكاء. . .

وإنك لتراه، فتقرأ شعره فيه. . . وتقرأ له فتراه في شعره، لقد رق مزاج شعره، وعذب على النفس اطراده. . .

ويندر أن تلقاه إلا باكياً أو ضاحكاً. . . فإذا بكى. . . وإذا ضحك. . . وهكذا إلى آخر الصفحات الثلاث التي قدم بها للجزء الأول من ديوان رامي الذي يشمل شعر صباه بين سنتي 1916، 1917

وأنا ولله أعذر المغفور له الأستاذ عنبر وأطلب من الله الرحمة، فرامي من الشعراء الذين تصعب الكتابة الموضوعية عنهم، وقد غازل الشعر قلم عنبر كما يحاول أن يغازل قلمي الآن، وكما غازل قريحة شوقي رحمه الله حينما قدم للجزء الثاني من ديوان رامي بأبيات ثمانية يقول في أولها:

ديوان رامي تحت حاشية الصبا

عذب عليه من الرواة زحام

بالأمس بل صدى النهى وسمْيُّه

واليوم للتالي الولي سجام

شعر جرى فيه الشباب كأنه

جنبات روض طلهن غمام

في كل بيت مجلس ومدامة

وبكل باب وقفة وغرام

ص: 9

والبيت السابع

أما زهير فقد سما (هرم) به

ولتسمون بشعرك الأهرام. . .

وإذا استثنينا البيت الثالث من هذا الكلام العجيب، طلبنا من الله لشوقي الرحمة، كما طلبناها للأستاذ عنبر. . .

ولعل أصدق كلمة قيلت في شعر رامي هي تلك التي كتبها حافظ رحمه الله يحي بها هذا الجزء الثاني الرائع من ديوان رامي، الذي يجمع شعر صباه أيضاً (1918 - 1920). قال حافظ:

(أدمنت النظر في شعر رامي، فإذا به من ذلك النوع الحسن الذي يعجزك تعليل حسنه. تسمع البيت منه فيشيع الطرب في نفسك قبل أن تعلم مأتاه، وقبل أن يتطلع العقل إلى فهم معانيه. ذلك هو شعر النفس، وهو أرقى مراتب الشعر

ورامي شاعر موفق الشيطان إذا تغزل أو وصف، رقيق حواشي الألفاظ، بعيد مرامي المعاني، يقول الشعر لنفسه، وفي نفسه، فإذا جلس إليه، وسنح له المعنى العصري، تخير له اللفظ السَّرِي

وهو كثير الاعتماد على نفسه في شعره، فلا يتسلق على كلام غيره، وأثر ذلك بيّن في غزله ووصفه، فقد نحا فيهما منحى عصرياً جديداً، أكرمهما فيه عن عنجهية البداوة، وركاكة أولئك الذين تصدوا لقرض الشعر، فوضعوا أمامهم مشقاً من الشعر الغربي، وترجموا معانيه، ولكن إلى أَلاّ لغة، فجاء أسلوبهم يرتضخ أعجمية، وأسلوب رامي يتدفق عربية. فديوانه سلوة العاشق، ونزهة المتأمل)

وحافظ رحمه الله صادق جداً في معظم هذه النظرة السريعة المركزة في شعر رامي، وإن ظلمه بقصر نبوغه على الغزل والوصف، إذ عبقرية رامي عبقرية متعددة النواحي، إذا جاء الغزل وأشعار الغرام في أولها، لم يأت شعر الوصف في المرتبة الثانية مباشرة، بل سبقته ألوان زاهية زاهرة من شعر رامي. . . في مقدمتها ذلك الشعر الإنساني الرفيع الذي سوف نتحدث عنه بعد أن نذكر لك هذا الكلام جرى الكتاب على إثباته والذي تعرف أكثره؛ فنذكر أن رامي ولد بالقاهرة سنة 1898، أي في السنة التي عرفنا أن أخانا الشاعر المحبوب (ناجي)، وأن شاعرنا الجليل الموهوب (عزيز أباظة) قد ولدا فيها. وأن والده كان

ص: 10

طبيباً كبيراً معروفاً، وأنه تخرج في مدرسة المعلمين، ثم زهد في حرفة التدريس ففرغ لقرض الشعر مستعيناً براتبه الحكومي ومنصبه في دار الكتب، وما تدره عليه أغانيه ودراماته الشعبية من ربح حلال لا أظن أنه ينتفع بمعظمه، وإنما ينتفع به البائسون والمحتاجون. . .

(يتبع)

دريني خشبة

ص: 11

‌على هامش ذكرى المعري

(داعي الدعاة) مناظر المعري

للدكتور محمد كامل حسين

- 2 -

اتجه المؤيد إلى مصر حيث إمامه الفاطمي، ومقر الدعوة التي كان يدين بها، وفي طريقه كان يحدوه أمل باسم مشرق بما سيلقاه في مصر من تقديم وتكريم لما قام به من جهود في سبيل الدعوة وعلو كعبه في علوم المذهب، فقد كان إليه المرجع في عويص مسائله، حتى أن داعي الدعاة الأكبر كان يرسل إليه يسأله ويستوضحه في بعض المشاكل المذهبية، لهذا كله بنى لنفسه في الخيال قصوراً شامخة، وعلا به خياله إلى الوصول أعلى المراتب، ولكن هذا الأمل كانت تغشاه أحياناً سحابة مظلمة تطغى على فكره فتهدم ما بناه خياله وتهبط به إلى الحضيض، فبالرغم من اعتناق المؤيد للمذهب الفاطمي، وبالرغم من شدة احترامه لإمامه حتى درجة التقديس كان المؤيد يعلم أن السلطة الحقيقية في مصر ليست بيد الإمام إنما كانت بيد أم الإمام، أو بمعنى آخر كانت بيد التستري وكيلها، ولم يكن التستري يأبه بشئون الدعوة الفاطمية بقدر ما عني بتركيز سلطانه وسطوته، فخشي المؤيد أن لا يجد في مصر ما كان يطمح إليه، وكان هذا التفكير يثنيه عن المضي في رحلته إلى مصر ولكنه نظر حوله فلم يجد مكاناً يأوي إليه آمناً على حياته سوى مصر فمضى إليها حتى دخلها سنة 437هـ. وذهب إلى دار الخلافة حيث قابل الوزير الفلاحي الذي رحب بمقدمه وأكرمه وأمر بأن تهز له دار وصفها المؤيد بقوله:(فأخذوني إلى دويرة كانت فرشت لي هي من الكرامة في الدرجة الوسطى من الحال، لا بالإكثار ولا من الإقلال) وسمع الناس بمقدمه، فتوافدوا على داره للترحيب به ونصحوه بالاتصال بالتستري. فذهب المؤيد إليه، وبالغ التستري في إكرامه ووهبه الأموال والخلع، وأخذ يعده ويمنيه بل أراد أن يختص بالمؤيد دون غيره من وجوه المصريين، ولكن هذه الوعود كانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء فلم يف التستري بما وعد بل كاد للمؤيد ومنعه من مقابلة إمامه المستنصر، وزاد الطين بلة أن بعض المغرضين سعوا بالفساد بين المؤيد والتستري،

ص: 12

وخوفوا التستري من وجود المؤيد وقالوا له: (كيف تطوع لك نفسك أن تأخذ هذا الرجل الأعجمي المقام الذي أنت مخصوص به، وما يؤمنك أنك إذا أدخلته أخرجك وإذا قدمته أخرك، وهو أبسط منك لساناً وأقوى جناناً، وهو يدل بعزة الإسلام والتخصيص بالدعوة والخدمه) فكان لهذا الكلام وأمثاله أثر في نفس التستري الذي قلب للمؤيد ظهر المجن وأوعز لبعض حاشيته للتحرش بالمؤيد حتى ضاق المؤيد ذرعاً، كان يلتفت حوله فلم يجد له ناصراً ولا معيناً حتى الوزير الفلاحي لم يستطع مساعدته ومؤازرته في هذا الوقت، وهنا أجد في سيرة المؤيد التي كتبها عن نفسه صورة دقيقة لحالة رجال مصر في هذا الوقت، ولا سيما لهؤلاء الذين يتنافسون للوصول إلى الحكم وإلى المؤامرات التي كان يدبرها بعضهم لبعض التي أدت إلى اضطراب البلاد، والغريب أن يصدر هذا الكلام من رجل خدم الدعوة الفاطمية وأشاد بذكر الفاطميين وفضائلهم وتهكم بخصومهم، ومع ذلك كله كان المؤيد في سيرته مؤرخاً صادقاً صور حالة مصر كما هي دون تحيز لإمامه أو خوف ممن تناولهم من معاصريه، فقد كانوا جميعاً يخشون ازدياد نفوذ المؤيد فعملوا جميعاً على الإيقاع به. لذلك فكر المؤيد في الخروج من مصر بل استعد فعلاً للرحيل، ولكن التستري خاف من المؤيد إذا خرج من مصر فمنعه من الرحيل ليكون تحت رقابته ورقابة عيونه، فاضطر المؤيد أن يكشف القناع عن هذا الرجل وأن يهجو التستري في كل مناسبة تتاح له، فبسط فيه لسانه في المجالس والأندية دون خوف أو وجل إلى أن قتل التستري سنة 439هـ

وصفا جو مصر للوزير الفلاحي الذي كان يعطف على المؤيد بعض العطف. لذلك نراه يسمح للمؤيد بمقابلة إمامه المستنصر. وتمت هذه المقابلة في آخر يوم من شعبان سنة 439؛ وهنا أترك للمؤيد وصف مقابلته الأولى لإمامه: (وكنت في مسافة ما بين السقيفة الشريفة والمكان الذي ألمح فيه أنوار الطلعة الشريفة النبوية، فلم تقع عيني عليه إلا وقد أخذتني الروعة وغلبتني العبرة وتمثل في نفسي أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ماثل، وبوجهي إلى وجهيهما مقابل، واجتهدت عند وقوعي إلى الأرض ساجداً أن يشفعه لساني بشفاعة حسنة بنطقه، فوجدته بعجمة المهابة معقولاً وعن مزية الخطابة معزولاً، ولما رفعت رأسي وجمعت عليّ ثوبي

ص: 13

للقعود، وجدت بناناً يشير إلي بالقيام، فقطب أمير المؤمنين خلد الله ملكه وجهه عليه زجراً على أنني مار رفعت به رأساً، ولا جعلت له قدراً ومكثت بحضرته ساعة لا ينبعث لساني بنطق ولا يهتدي لقول، وكلما استر الحاضرون مني كلاماً ازددت إعجاماً ولعقبة العي اقتحاماً وهو خلد الله ملكه يقول:(دعوه حتى يهدأ أو يستأنس)، ثم قمت وأخذت يده الكريمة فترشفتها وتركتها على عيني وصدري ودعيت وخرجت)

وعين المؤبد بعد ذلك حاجباً على باب المجلس الذي يدخل منه إلى أم الخليفة المستنصر الفاطمي، حتى يكون على صلة دائماً بإمامه، وقنع المؤيد بهذا العمل المتواضع لا لشيء إلا لأنه سيكون على قرب من الإمام، ولكن اليازورى خليفة التستري، خشي مغبة اتصال المؤيد بالمستنصر فعزله بعد ثلاثة أشهر واشتدت نكبة المؤيد بقتل الوزير الفلاحي وتولية الجرجرائي الوزارة بعده، فقد كان هذا الوزير الجديد يخشى على مركزه وسلطته من المؤيد، فعادت إلى المؤيد سيرته الأولى من كثرة الأعداء حوله وعن ذلك يقول المؤيد (وتحيرت في شأني لا أفتح عيناً إلا على عدو، ولا أرى في جهة من الجهات إلا ضمير سوء)؛ فصمم المؤيد على السفر من مصر، وبلغ اليازروي ذلك فاستدعاه وأقنعه بالعدول عن عزمه، فظن المؤيد أن هذا التبليغ بإيعاز من المستنصر فاضطر إلى الخضوع، ولا سيما وقد أصبح اليازوري الداعي الأكبر، وكان اليازوري، كما وصفه المؤيد رجلاً عاطلاً من المواهب التي تؤهله لمرتبة الدعوة؛ فأراد المؤيد أن يتقرب إليه وأن يصلح علاقته معه، فاتفقا على أن يضع المؤيد المجالس والمحاضرات التي يقرؤها داعي الدعاة عادة كل يوم خميس على أتباع المذهب، واجتهد المؤيد في تحسين وتجميل هذه المحاضرات حتى يعلم اليازوري أن المؤيد قد أخلص الخدمة له، واستمر الأمر على هذا المنوال مدة طويلة كان اليازوري يلقي المحاضرات التي كتبها المؤيد وكأنها من إنشائه حتى ولى اليازوري الوزارة سنة 442، فلم يشك الناس في أن أمر الدعوة صار إلى المؤيد، دون غيره، ولكن خاب فألهم إذ ندب لها أحد بني النعمان وأعتذر اليازوري للمؤيد بكلام خفف آلامه بعض الشيء ووعده وعداً حسناً، وانتظر المؤيد الوفاء بهذا الوعد، ولكنها لحقت بالوعود الأخرى، فاشتد حنق المؤيد، وأرسل إلى الوزير يهجوه، فتوعده الوزير وهدده، والمؤيد كعادته لم يأبه بوعيد ولم يخش من تهديد، فاستمر في حملته ضد الوزير وانقطع عن لقائه

ص: 14

سبعة أشهر إلى أن كانت ثورة بني قرة وانتصار الجيش في قمع هذه الثورة سنة 443 وسارت الوفود لتهنئة الوزير، فألح أصدقاء المؤيد عليه أن يذهب معهم للوزير، ففعل مرضاة أصدقائه، وسر الوزير لقدومه وعينه بعد ذلك رئيساً لديوان الإنشاء وضاعف في رزقه فتحسن حاله ومع ذلك كانت أحواله مع اليازوري بين الرضى والغضب، وكل ذلك مرجعه إلى طموح المؤيد وطمعه في الوصول إلى درجة داعي الدعاة

ظل المؤيد صاحب دار الإنشاء في مصر إلى أن سمع بدخول طغرلبك التركماني مدينة الري سنة 446، وبحكم عمله بدار الإنشاء علم بأن البيزنطيين اتفقوا مع السلجوقيين لغزو أملاك الفاطميين في الشام وأعالي الجزيرة، فعمد المؤيد إلى المكر والخديعة، فكاتب الكندري وزير طغرلبك وكاتب غيره ممن توهم أنهم على اتصال بالسلجوقيين، واجتهد في أن يستميلهم جميعاً للمذهب الفاطمي وإلى مساعدة الفاطميين ضد البيزنطيين والعباسيين، وكان يرمي بذلك إلى هدفين، إما أن ينجح مسعاه ويدخل القوم في الدعوة الفاطمية أو أن تصل إلى مسامع الخليفة العباسي أمر هذه المكاتبات، فلا يطمئن إلى طغرلبك وصحبه ويحاربه ليبعده عن أملاك الدولة العباسية، ولكن جيوش طغرلبك زحفت إلى العراق وخطب له على منابر بغداد سنة 447، وسمع المؤيد بهروب البساسيري من بغداد خوفاً من التركمانية؛ فانتهز المؤيد هذه الفرصة وكاتب البساسيري ووعده بالأموال والسلاح ليحارب السلجوقيين باسم الفاطميين، ومن الطبيعي أن يرحب البساسيري بالعمل باسم الخليفة الفاطمي، وأرسل إلى المؤيد بذلك، فذهب المؤيد إلى الوزير اليازورى وأطلعه على هذه المكاتبات فوافقت هوى الوزير، واستعد الفاطميون في تجهيز الأموال والخلع والسلاح التي وعدوا بها البساسيري، ولكن اليازوري لم ينس للمؤيد تصرفه هذا بدون استشارته في أول الأمر، وانتهز هذه الفرصة لاقتلاع المؤيد من مصر لازدياد نفوذ المؤيد في البلاد؛ فقد اكتسب المؤيد في هذه الفترة الطويلة احترام وحب عدد كبير من المصريين وخاصة بعض حاشية الإمام المستنصر. لذلك نرى اليازوري يعهد إلى المؤيد أن يكون على رأس الركب المسافر بالأموال والخلع؛ فاعتذر المؤيد وأدرك من توه ما كان يجول بخاطر اليازوري، ولذلك كان يقابل مكر الوزير بمكر أشد منه وأقوى، حتى كاد اليوم الذي حددوا فيه السفر تمسك الوزير بأذيال المؤيد، وأخذ يستعطفه ويلح عليه بأن يتولى توصيل الأموال إلى

ص: 15

البساسيري، والمؤيد يمعن في الرفض كلما أمعن الوزير في الإلحاح، حتى اضطر الوزير أن يقول للمؤيد:(افتقرنا إليك وافتقرت الدولة والإسلام والمسلمون، وديانتك تقضي أن تصرخ صريخهم وتجير مستجيرهم). فسخر المؤيد من كلامه هذا، وأجابه متهكما:(سبحاني سبحاني إن كنت بهذه المثابة ومحلاً لهذه المخاطبة!) ولكن الوزير ازداد إلحاحاً واشتد دفع المؤيد، وأخيراً قبل المؤيد أن يتولى هذا الأمر بشرط أن يخرج توقيع الإمام المستنصر بأن لا يوجه إليه لوم لو فشل في مهمته؛ فأجيب إلى ذلك وصدر التوقيع وبه الإنعام على المؤيد بخلع الوزارة، ودعي المؤيد للبسها ولكنه رفض، واعتذر عن ذلك مفضلاً أن يظل في زي أهل العلم

وأخذا الركب في السير بين جلبة عظيمة، والناس في عجب من أمر المؤيد الذي قبل السفر في هذه المهمة الشاقة؛ فقد كان مقدماً على خطر جسيم وعمل لا يستهان به، وهو قلب نظام الحكم في العراق وإسقاط الدولة العباسية. والغريب حقاً أن يطلب المؤيد ألا يصطحب معه جنداً واكتفى بما معه من خزائن المال والسلاح

تجاوز الركب حدود مصر في طريقه إلى الرحبة، وكان اليازوري قد نصح المؤيد بالابتعاد عن ابن صالح المرداسي صاحب حلب، لأنه نقض عهد الفاطميين واستقل ببلاده، فصار عدواً للفاطميين بعد أن كان تابعاً لهم، ونصحه كذلك أن يصطنع عدداً من الكلبيين ليحاربوا مع البساسيري، فكانت هذه النصائح موضع تفكير المؤيد طول سفره، حتى بلغ دمشق ومكث ليستريح قليلاً، نراه يكاتب ابن صالح ويعرض عليه العودة إلى الدعوة الفاطمية، بل يطلب منه مساعدته في حروب العباسيين، وأخذ يعد ابن صالح في كلام طويل أثبت المؤيد نصه في سيرته، ولست أدري كيف استجاب ابن صالح إلى المؤيد؛ فأعاد الخطبة على المنابر باسم المستنصر الفاطمي، وذهب هو نفسه لمقابلة المؤيد الذي خلع عليه ولقبه بتاج الأمراء. ثم نرى ابن صالح وجيشه ينضمون إلى المؤيد ويسيرون معه لمحاربة العباسيين، والواقع أن تحول ابن صالح بسهولة تعد من أغرب ما ذكره المؤيد لأن المؤيد، لأن المؤيد استطاع بخطاب منه أن يكبح جماح ثائر له خطره وقوته، بل استطاع أن يتخذ منه عوناً وعضداً. ثم استطاع أن يسترجع حلب إلى أملاك الفاطميين، كل ذلك تم بخطاب من المؤيد إلى ابن صالح. أما الأسباب التي جعلت ابن صالح يقبل هذا كله فهذا ما لم نستطع تعليله

ص: 16

(يتبع)

الدكتور

محمد كامل حسين

بكلية الآداب بالقاهرة

ص: 17

‌ما هذه الحرب وما وراءها؟

للأستاذ توفيق حسن الشرتوني

لم يبق في المعمور قطرٌ مهما يكن قصيَّا عن مناطق القتال، لم يصطدم بشظايا هذه الحرب، ولم يحمَّل عبء ويلاتها وشرورها. إنها لعمري حرب غريبة بفظائعها وأهوالها، خارقة بعددها ومعداتها، فاقت كل حدس وتخمين، وبزّت أقاصيص الجن وأساطير الأقدمين

فالتاريخ لم يرو لها مثيلاً في كثرة الضحايا واتساع الجبهات، وجُسامة التخريب والتدمير. لقد شملت نارها العالم بأسره، حتى أمسى لا يأمن مغبتها الطفل النائم في سريره، ولا الراتع في أحضان أمه، ولا المريض المستلقي على فراشه، ولا الشيخ القابع في داره، ولا الساكن مشارف الجبال، ولا العائش في بطون الأودية ومطاوي الأدغال

صدام فظيع هذا الصدام البشري الهائل الذي لم يبق ولم يذر. فالمدن التي يجتاحها يدعها قاعاً صفصفاً، والأرض التي يعركها يجعلها خراباً يباباً. كيف لا والسابحات في الجو تدك أمنع الجبال دكاً، وتهتك أوعر المفاوز هتكاً، والغائصات في اليم تقدّ بطن العباب قدّاً، وتبلغ أعمق الأغوار حداً. والقاطعات البيد تنهب أرذل القفار نهباً وتقطع موحش المجاهل قطعاً وهي تنشر الموت والدمار في كل مكان

فأين المفر من حرب طاحنة كهذه الحرب. أضرم نارها جنون الإنسان على أخيه الإنسان، وأثارها حرباً شعواء تقذف نيران الجحيم من آلاتها الجهنمية، فتتلف الضرع والزرع وتفتك بالإنسان والحيوان، وبكل ما هب ودب على سطح الأرض وما تمخض في أحشائها

خمسة أعوام تصرمت على هذه الحرب، أو تكاد تتصرم. تحمّل منها البشر ما لم تتحمله القرون، وبذلوا في ساحاتها الأرواح بالملايين، والأموال (بالبلايين) وضحّوا من تراث الحضارة ومن مخلفات الآباء وآثار الأجداد بما لا يقدر بثمن ولا يعوض بأجيال

والحرب دائرة بعد ما خمد أوارها، ولا خفّت نارها، وهي ما تزال مسعرة تتأجج لهيباً وتزداد ضراماً

أيود الإنسان الغافل أن يروي الأرض بالدماء، ويغمرها بالخراب. فيقضي قضاء مبرماً على أينع ما في الدوحة البشرية من مخضلّ الغصون. ويلوي على البقية الباقية من ذخائر الحقب ونفائس الدهر التي هي خلاصة العقل البشري ونتاج جهاده على مر العصور

ص: 18

والدهور

أما كفى البشر ما قاسوه حتى الآن من فظائع التقتيل والتخريب، وما كابدوه من ضورب الشقاء والحرمان! وما تحملوه من وطأة الأوبئة والمجاعات!

لقد هللوا كثيراً لاختراع السيارات والطيارات واستبشروا خيراً بتقدمهم الباهر في صناعة الكيمياء واللاسلكي، وعّدوا العصر الذي نعيش فيه عصراً للرخاء البشري والتمدن العالمي. فكانت النتيجة كالعسل الممزوج بالسم يحلو طعمه ويقتل مذاقه كيف لا وقد انقلبت السيارات الوفيرة في هذه الحرب الآلية الطاحنة دبابات تزرع الويل والثبور، وتبدلت الطائرات الجالبة الغبطة والحبور قاذفات تلقي على الأرض أفدح الشرور. هكذا الأجهزة اللاسلكية والسوائل الكيماوية التي كانت نعيماً للأرواح والأبدان قد تحولت جحيما لاهبة وغازات خانقة. . .

ما شاء العلماء ولا أئمة الفكر والاختراع أن يجنوا على الإنسانية بمختلف علومهم ومستحدثاتهم. فهم صفوة خلق الله وأكثرهم نفعاً لعباده. لكن الغريزة البشرية المرتكزة على الجشع وحب الأثرة هي التي تحول الخير شراً والعلم ضراً. وستبقى هكذا عائشة في مقررات الحياة البشرية ما دامت وسائل علاجها مستعصية على مدارك علماء النفس والجسد، وسر إصلاحها مغلقاً في وجوههم

ولهذا أعتقد أن الأخلاق الشاذة والغرائز الملتوية في هذا الكائن المجهول الذي يُدعى الإنسان، لا تتعدل ولا تتغير، بمجرد تعديل الأنظمة أو تغيير القوانين. فمهما يُبدع المصلحون والمشترعون يظل إبداعهم حبراً على ورق، ما لم يؤتوا علماً راهناً يسيطر على الغرائز البشرية نفسها، ويتمكن من التحكم في عناصرها الأصلية، ليتم له تعديل نزعاتها وتوجيهها توجيهاً صالحاً لقبول الأنظمة المستجدة والشرائع المستحدثة

فنتائج الحرب الماضية ما تزال ماثلة للعيان، وهي حرب تعد في مجموع خسائرها أعظم حرب عرفها التاريخ - ما خلا هذه الحرب - زُهقت فيها الأرواح بالملايين، ناهيك بفظاعة تدميرها، وفداحة الأوبئة والمجاعات التي انتشرت بسببها في معظم أنحاء الأرض، وفتكت بالناس فتكا ذريعاً، حتى أمست ضحاياها تزيد على ضحايا المعارك زيادة هائلة

فماذا جنت الإنسانية من هذه الخسائر الجسيمة؟ لقد انتهت تلك الحرب المشؤومة وأسفرت

ص: 19

عن عصبة أمم كسيحة، لم تقو يوماً على تطبيق الشرائع والأنظمة التي استحدثتها لسلامة الأمم والشعوب. ولم تتمكن من مجابهة المغيرين الذين كانوا ينتهكون حرمة قوانينها ويعبثون بشرائعها. والاعتداء على بلاد الأحباش وعلى الصين، وبقاء العصبة مكتوفة اليدين تجاههما، يدل دلالة واضحة على إفلاسها

غير أنها ولو باءت بالفشل وانتهت بالهزيمة؛ فإنشاؤها عقيب الحرب الماضية يعد محاولة في سبيل الإصلاح. وهي لعمري محاولة لها قيمتها ووزنها في ميدان التجدد الفكري واليقظة الاجتماعية. لأنها تبرهن على الوعي البشري الذي شمل العالم المتمدن، حتى أصبح يرى من الضروري إنشاء عالم أفضل من عالمنا، يحفظ حقوق الناس على اختلاف أجناسهم، ويسبغ عليهم جميعاً نعم الحياة وخيراتها

أجل إن عصبة الأمم لم توفق لإنشاء هذا العالم المنشود. وقد جرنا فشلها وفشل ما سبقها من المعاهدات الناقصة إلى هذه الحرب الضروس التي أثقلت كاهل الإنسانية. فأقفرت أرضها ودُكت معالمها، ويُتم أطفالها، وقُضي على خيرة شبابها

فما وراء هذه الحرب، أرخاء ووفاق يشمل العالم بأسره، أم بلبلة وشقاق؟ لا أدري. لكني أتفاءل خيراً بتدرج الإنسانية نحو المثل العليا التي تضمن سلامها ورخاءها ورقيها

فميثاق الأطلنطي بادرة أمل ورجاء. إذا تمكن العالم في الغد من تطبيق بنوده وتعميم نفعه، صحت الآية القائلة: على الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر

ولكن لا يعزب عن بال المصلحين أن الطبيعة البشرية أمارة بالسوء. فمن الواجب درسها وتمحيصها على ضوء العلم، والتغلغل في أعماق جذوعها، لتفهم عناصرها واستقصاء أطوارها. فعندئذ لا يصعب على البشر أن يتبينوا لها طريقاً قويماً. فبمقدار ما تصلح الطباع البشرية يصلح الكون

(بيروت)

توفيق حسن الشرتوني

ص: 20

‌8 - القرآن الكريم

في كتاب النثر الفني

(إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا)

(قرآن كريم)

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

لم نفرغ بعد من إفك صاحب النثر الفني

فالمسلون كافة يدينون بأن القرآن كلام الله ليس لإنسان فيه حرف، وصاحب النثر الفني يتكلم عن القرآن كأنه كلام النبي، ويبني على ذلك في بحثه ما قد بنى. وقد أوردنا على ذلك النصوص من كلامه في كلمتينا الرابعة والخامسة، لكننا قلنا في كلمتنا السادسة إننا لن نحتاج إلى تكرار نص إذا لج بزكي مبارك العناد فألجأنا إلى معاودة الاستشهاد

فهاك نصاً لم نذكره يجمع صنوفاً من الجهل وسوء الأدب

قال من فصل النسيب صفحة 147 من الجزء الأول:

(ولم نجد في المجموعات الأدبية مختارات نثرية في النسيب لأن مصنفي المجموعات كانوا يفهمون أن الغزل لا يخرج عن الأنفاس الشعرية). وقد كشف بقوله هذا عن قلة اطلاع، لأن كتاب (النثر المختار) يحوي أكثر من نص طويل من النثر الجاهلي في النسيب على مذهبه؛ لكن لا علينا، فليس هذا من همنا الآن وإنما همنا ما كتب عقب كلامه السابق عن القرآن قال:

(غير أننا في النثر لأقدم عهوده نماذج غزلية كالذي وقع في القرآن وصفاً للحور والوالدان نحو:

(وحور عين؛ كأمثال اللؤلؤ المكنون)

ونحو: (ويطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين)

وكما جاء في سورة الواقعة:

(إنا أنشأناهن إنشاء؛ فجعلناهن أبكارا عربا أتراباً)

فهذه كلها أوصاف تدخل في باب النسيب. ونسب إلى إحدى النساء حديث في وصف

ص: 21

الرسول هو أيضاً نسيب، لأنها تكلمت عن أوصافه الحسية التي تعين أنه إنسان جميل، ووصف الجمال من ألوان النسيب. ثم جاء القصص الغرامي الذي شاع في عصر بني أمية وأول عصر بني العباس)

وأول ما نلاحظ على كلامه أنه أدرج القرآن مع كلام البشر في فصل من باب عقد لبحث خصائص النثر الفني في القرن الرابع، وكلامه السابق مقدمة هذا الفصل ليريك في زعمه تطور النسيب والغزل في النثر من أقدم عهوده إلى القرن الرابع، فهو بهذا يقول بلسان الفعل والتطبيق أن القرآن من كلام الناس، يحشر مع كلام الناس ويصنف مع ما يناسبه من أصناف كلام الناس. والصنف الذي وضع فيه الآيات السابقة هو الغزل والنسيب

فهل قرئ أو سمع في الأدب العربي قبل كتاب النثر الفني أن القرآن به غزل ونسيب؟ هل سمع أو قرأ لباحث مسلم أو غير مسلم قبل أن يكتب زكي مبارك كتابه أن آيات سورة الواقعة من الغزل والنسيب؟

ما هو الغزل وما هو النسيب عند الأدباء وعند كل الناس؟ أليس هو في أضيق حدوده إعراب إنسان عن الآفتان بجمال إنسان؟ فأي ركن من هذه الأركان يمكن أن يطبق على ما ذكر زكي مبارك من نصوص القرآن؟ دع عنك ما يصحب الغزل عادة من التمني الظاهر أو المستتر، فهل ذلك الوصف للحور في الآخرة يمكن أن يعد عزلاً بأي وجه من الوجوه؟

إن أحداً لم ير الحور، حتى يفتتن فيصف. وليست الحور من متاع الدنيا ونعيمها حتى يكون وصفهن ووصف نساء الدنيا من باب سواء. ولو تخيل كاتب أو شاعر نساء القرن الآتي فوصف من جمالهن وبالغ ما عد أحد ذلك من الغزل، فكيف يمكن أن يكون من الغزل جمال وصف الحور في الآخرة وهن من الغيبيات عند المؤمنين ومن الخياليات عند الملحدين؟

ولنفرض أن الحور حاضرات يراهن في الدنيا كل إنسان أفيعد جمال وصفهن من الغزل والنسيب؟ إن وصفهن عندئذ يكون مثل وصف نساء قطر من أقطار دنيانا هذه، فهل يعد هذا غزلاً ونسيباً، أم الغزل يقتضي تخصيص أنثى معينة أو إناث معينات بالافتتان أو الإعجاب؟

وعلى أي حال فمن هو المفتتن المعجب بالحور العين في القرآن إن الغزل يستلزم متغزلاً

ص: 22

كما يستلزم متغزلاً فيه. يستلزم شاعراً أو كاتباً في طرف، كما يستلزم أنثى - أو غير أنثى في مذهب صاحب النثر الفني - في الطرف الآخر. فما هو الطرف الذي منه الافتتان فالوصف في القرآن؟ محمد بن عبد الله؟! إذن لقد دار البحث ورجع إلى نفس النتيجة التي ظهرت من الأول: أن صاحب النثر الفني يرى القرآن من عند محمد لا من عند الله، إذ لا يمكن أن يجوز أن يصدر من الله جل جلاله غزل أو نسيب

لقد كان في نفس النصوص القرآنية التي أوردها ذلك المغرور المتعالم ما يرده إلى صوابه لو كان يبحث حقاً، فقد عد من النماذج الغزلية في القرآن الآيات الكريمة (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً. عُرباً أتراباً). وهذا الكلام لا يمكن أن يكون من قول مخلوق، بشر أو غير بشر، لأنه لا يمكن أن يستقيم في عقل عاقل أن يكون أحد من الخلق أنشأ أو ينشئ صنفاً من النساء إنشاء في الدنيا فضلاً عن الآخرة. وإذا حاول مكابر أن يتجاهل دلالة المصدر ليصرف فعل (أنشأ) عن معناه الحقيقي إلى معنى مجازي يمكن أن يقوم به بشر، فقد حال الله سبحانه بينه وبين ذلك بقوله تعالى:(فجعلناهن أبكارا)، لأن الله وحده هو الذي يخلق الأنثى بكرا، لا يقدر على ذلك غيره سبحانه. أما البشر أجمعون فيعجزون حتى عن أن يردوا الشيب بكراً مهما حاولوا. فضمير المتكلم في تلك الآية الكريمة لا يجوز في عقل أن يرجع إلى محمد أو إلى غير محمد من العرب أو من الخلق أجمعين. لا يجوز ولا يمكن أن يرجع ضمير المتكلم في تلك الآية إلا إلى الخالق سبحانه، فهو دليل قائم ومذكر دائم أن القران ليس من كلام مخلوق، فلا يجوز أن يجريه أحد مجرى كلام البشر كما فعل زكي مبارك حين أجرى تلك الآيات الكريمة - وكلها من سورة واحدة - مجرى الغزل، وحضرها بجهله وسوء أدبه في فصل النسيب، برغم خلوها من كل شرط من شروط الغزل والنسيب

على أن خطل زكي مبارك لم يقف به عند أمر الحور بل جعله يتعداهن إلى الوالدان، فاجترأ على أن يدخل في باب النسيب قوله تعالى في أهل الجنة:(يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق، وكأس من معين)

وليس يدري أحد ماذا في هذه الآية الكريمة مما يمكن أن يدخل في النسيب من قريب أو من بعيد حتى على فرض أنها من قول النبي لا من قول الحق سبحانه. فالأكواب والأباريق

ص: 23

والكأس لا يمكن أن يعد ذكرها من باب الغزل بحال، حتى لو كانت من خمر تغتال العقل؛ فكيف وهي من معين لا يصدح ولا يغتال كما أخبرنا الله سبحانه في الآية التي بعدها ليحول بين العقلاء وبين إنزال نعيم الآخرة منزلة ما يألف الناس في الدنيا، وليبطل إفك آفك إن زعم أو أراد أن يزعم أن الآية من الغزليات أو الخمريات. وما هي الآية التي بعدها؟ هي قوله تعالى:(لا يُصَدَّعون عنها ولا يُنزِفون). واسأل صاحب النثر الفني - البحاثة المتجرد عن الهوى - لماذا لم يذكر هذه الآية عقب أختها ليتم المعنى وليكون القارئ على بينة من الأمر وهو يقرأ لصاحب الكتاب إفكه المبين؟

لقد عرف صاحب الكتاب أن ذكر الآيتين معاً يفسد معناه ويفوت عليه غرضه. وغرضه أن يوقع في نفس القارئ أن الوصف وصف مجلس شراب كالمعروف في الأدب الخليع، إذ ماذا تنتظر من شرب بين خمر وولدان؟ فهذه هي القرينة الوحيدة التي أراد زكي مبارك أن يأتفكها ليصح له أن يقول إن آية (يطوف عليهم ولدان مخلدون) هي من باب الغزل والنسيب، وليوحي إلى القارئ أن ما سماه بعد في نفس الفصل بغزل المذكر كان معروفاً عند العرب، أو سيكون معروفاً في الجنة، أو ما شاء الشيطان أن يسخر صاحب الكتاب لنفثه وبثه في الصدور والنفوس. فان لم يكن هذا من مقصود صاحب الكتاب ومراده؛ فليخبرنا وجهاً آخر يمكن أن تدخل به تلك الآية في الغزل والنسيب بأي شكل أو على أي احتمال، مع أنه ليس فيها إلا مجرد لفظ الولدان، وليس فيها من وصفهم إلا أنهم (مخلدون). فليسوا من ولدان الدنيا التي علم منزل القرآن سبحانه أن سيجعل الشيطان لبعضهم أوصافاً لا تليق، فنزههم سبحانه عن تلك الأوصاف بقرينتين مانعتين: وصفهم بالتخليد، ووصف ما يحملون من شراب بأنه ليس مما يصدع الرأس أو يغتال العقل، وذلك فضلاً عن القرائن الأخرى المنبثة فيما قبل هاتين الآيتين وما بعدهما من الآيات.

وبعد فإن من أعجب عجائب القرآن الكريم وأروع مظاهر إعجازه أن تأبى آياته الكريمة هذا الإباء على من يبغيهن عوجاً، أو يبتغي لهن نقصاً، كهذا الذي أراد أن يجعل منهن غزلاً ونسيباً، وقد أكرمهن الله ونزههن وأعزهن أن يكون بهن غزل أو نسيب. ولو أفلح زكي مبارك أو غيره في مثل ما ابتغى وبغى، لكان ذلك الغزل والنسيب من كلام البشر، ولما كان القرآن هو القرآن الذي وصفه الله سبحانه بقوله: (وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه

ص: 24

الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد). وقد رأيت مثلاً من عزة القرآن كتاب الله، ورأيت كيف يرتد عنه الباطل مقهوراً مدحوراً لم ينل من قدس القرآن وحماه شيئاً، ولم يعلق بذلك القدس والحمى منه شئ. فالقرآن يدفع عن نفسه هذا الدفاع العجيب، ويمتنع من عدوه ذلك الامتناع التام الأشم ، امتناع الحق من الباطل. وكل الذي يلزم لإدراك ذلك عقل يدرك وقلب يفقه ونية خالصة لله لا تعرج على ما سواه، وهي صفات تجتمع للمسلم حيناً ويعز اجتماعها كل حين

ومهما يكن من أمر الناظر في القرآن، فالقرآن فيه دلائل الإعجاز لمن يبصرها، وفيه كل قوى الحق ليس في الوجود ما يقهرها. (والله متم نوره ولو كره الكافرون)

محمد أحمد الغمراوي

ص: 25

‌حول بعث القديم

للأستاذ محمد خليفة التونسي

قرأت مقال الدكتور محمد مندور الذي نشرته الرسالة في عددها (572) في (بعث القديم) وقد عنت لي عليه الملاحظات

الآتية:

أولاً: ذهب الدكتور إلي أننا لم نستخدم الطباعة إلا في سنة 1822، ولا أدري إلي أي مطبعة يشير الدكتور، ولكني أرجح أنه يشير إلى المطبعة التي أسسها محمد علي باشا، ولو رجعنا إلى كتب التاريخ حتى ما كان في أيدي صبية المدارس الابتدائية فضلاً عن كتب تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث لوجدناها تذكر أن هذه المطبعة أسست سنة 1821 وإن اختلف في اسمها فهي تدعى المطبعة الأهلية أو المصرية أو مطبعة الباشا أو بولاق والاسم الأخير أشهرها

ثانياً: ذهب في الكلام عن الجمعيات التي تألفت لنشر الكتب - إلى أن جمعية المعارف أسسها محمد عارف باشا وأنها لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860، وجمعية المعارف إنما أسسها إبراهيم بك المويلحي سنة 1867. قال الدكتور تشارلز آدمس في ترجمته:(وأسس حوالي سنة 1867 جمعية سماها (جمعية المعارف) لتعمل على نشر الكتب العربية القديمة. وأنشأ أيضاً مطبعة سماها باسم الجمعية لنشر مثل تلك الكتب)

وذكر الأستاذ الزيات سبب إنشائها فقال في ترجمته بعد أن ذكر إفلاسه في التجارة، وفشله فيما ولاه الخديوي إسماعيل من مناصب:(وجاءت وزارة شريف تريد أن تضع الدستور الأول فكان المويلحي ممن اختيروا لوضع (اللائحة الوطنية) ولكن آماله كانت تسفر دائماً عن الفشل، فابتغى الوسيلة إلى الرزق في الكتابة والنشر، فأنشأ (جمعية المعارف) لطبع الكتب القيمة وإذاعتها في مطبعة اشتراها لنفسه) وإسماعيل لم يل مصر إلا في سنة 1836 والمويلحي لم يؤسس الجمعية والمطبعة إلا بعد وضع اللائحة الوطنية، ومجلس شورى النواب الذي وضعت لائحته الوطنية في وزارة شريف لم يفتح إلا في 19 نوفمبر سنة 1866 وهذا مما يرجح أن إنشاء الجمعية كما قال الدكتور تشارلز آدمس كان سنة 1867. وقد ذكر المفصل أن تأسيس المطبعة كان سنة 1285هـ وهي توافق سنة 1867

ص: 26

ثالثاً: بعد أن أشار الدكتور إلى جمعية المعارف السابقة وأنها لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860 قال ما نصه: (إلا أن حركة البعث أقدم من ذلك بكثير فهي لم تنتظر تكوين الجمعيات لتبدأ، ولعل انتشار الأفكار الأوربية بفضل أعضاء البعثات كان من أهم الدوافع لهذا البعث، فرجل كرفاعة الطهطاوي قد فطن بلا ريب أثناء إقامته بفرنسا إلى أن النهضة الأوربية التي رآها قد ابتدأت بحركة بعث قوية للآداب القديمة لاتينية ويونانية، ولهذا كان يؤمن بأن نهضة بلادنا لا يمكن أن تعتمد على النقل عن أوربا فحسب، بل يجب أن تعني إلى جانب ذل ببعث القديم العربي)

وإن البعث قد بدأ قبل رفاعة الطهطاوي وليس الدافع إليه انتشار الأفكار الأوربية أولاً بل الدافع الأول الحاجة إلى ترجمة الكتب عن اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، فليس انتشار الأفكار الأوربية من أهم الدوافع إذ ذاك ولا هو منها في شئ. والترجمة بدأت على التحديد في سنة 1827، وهي السنة التي أسس فيها محمد علي باشا مدرسة الطب في أبي زعبل وجلب لها الأساتذة ما أوربا وأسند رياستها إلى الدكتور كلوت بك. وكانت اللغة الشائعة إذ ذاك قد وصلت إلى منتهى ما قدر لها من الانحلال والتهافت بعد أن وسعت كل ما قدم لها من المعارف زمن الدولة العباسية، كما كانت العلوم التي تدرس بمدرسة الطب قد نضحت في الغرب فناءت العربية الشائعة عن حملها إلى الطلبة الذين كانوا - من مصريين أزهريين وغير مصريين - عاجزين فهم ما يدرس لهم باللغات الأوربية، وكان الأساتذة لا يعرفون العربية ولو قد عرفوها كما كانت في عهدهم لعجزوا لقصورها وقصورهم عن إفهام طلبتهم ما يريدون، لذلك اضطر محمد علي إلى إحضار المترجمين من السورين والمغاربة والأرمن ليترجموا في الفصول ما يقول الأساتذة فيها بلغاتهم الأجنبية إلى العربية كيما يفهمه الطلبة. وليترجموا أيضاً ما يؤلف الأساتذة لطلبتهم من الكتب في الطب البشري والبيطري والتشريح والأقراباذين، وعلم وظائف الأعضاء، ولما كانت العربية المعروفة عاجزة عن الترجمة اضطر المترجمون إلى الاستعانة بما وضع العرب قديماً من مفردات فنية، وبهذا بدأ بعث القديم في مصر. قلت في مصر لأنني أقيد نفسي ببعث القديم والترجمة في مصر وحدها اعتماداً على أن الدكتور لم يتعرض لها في غيرها في مقاله بعث القديم، مع ملاحظة مقاله السابق (مصر الإسلامية)(الرسالة العدد 570)، وإن كان

ص: 27

مما يفهم من ذلك ضمناً أن هناك من سبقوا المصريين في بعث القديم والترجمة، كالمستشرقين في أوربا، وكما وقع في سوريا بعد أن وفدت عليها البعوث التبشيرية من البروتستنت والكاثوليك، فقد أسسوا أول مطبعة في أوائل القرن السابع عشر، أي قبل أن يؤسس محمد علي باشا مطبعة بولاق بنحو قرنين، كما أسس الآباء اليسوعيون مطبعتهم في منتصف القرن التاسع عشر فبعثوا بما طبعوا كثيراً من الكتب، وقد كان المترجمون في مدرسة الطب في أبي زعبل من السوريين والأرمن والمغاربة - كما قدمنا - وعلى أيدي أولئك المبشرين تعلم أولئك المترجمون، وبدأت ترجمتهم وبعثهم القديم في مصر سنة 1827؛ فإذا بحثنا عن رفاعة الطهطاوي حينئذ وجدناه في باريس يتعلم مبادئ هجاء الفرنسية لأنه لم يبعث إلى فرنسا إلا في إبريل سنة 1826، وعاد إلى مصر سنة 1831، ولم يهتم ببعث الكتب القديمة إلا في عهد سعيد باشا بعد أن رجع من السودان، فأحيا قلم الترجمة بنفوذه بعد أن مات في أيام محمد علي، وهنا ذكر الشيخ عهده بالمستشرق ده ساسي والمستشرق كوزن وما يقوم به المستشرقون من أعمال قيمة في خدمة اللغة العربية بنشرهم أمهات الكتب؛ فوضع مشروعاً للعناية بتصحيح الكتب القديمة القيمة وطبعها بمطبعة بولاق، وعرضه على سعيد باشا فأجازه)، ونحن نعلم أن سعيداً لم يل مصر إلا في سنة 1845، فإسناد الدكتور سبب بعث القديم إلى رفاعة الطهطاوي خطأ بلا ريب، وإلصاقه به إيمانه بأن (نهضة بلادنا لا يمكن أن تعتمد على النقل عن أوربا فحسب، بل يجب أن تعني إلى جانب ذلك ببعث القديم العربي) إلصاقه برفاعة ذلك تخرص بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، بل هو يدل على أن الدكتور في مقاله يحوم حومان الصفيين ويحدس حدسهم، ولا يقع وقوع العلماء ويتثبت تثبتهم، وإن كان ما قلناه لا ينفي أن رفاعة قد شد أزر البعث وتوسع فيه وإن لم يكن المبدع له حتى في مصر، ولا ينفي أنه أصبح يؤمن بعد ذلك بحاجة نهضتنا إلى بعث القديم إلى جانب النقل وإن كان ما دفعه إلى هذا البعث تقليده المستشرقين في هذا الميدان إذ كان قد صادف أيام وجوده في باريس علمين من أعلامهم: أحدهما الأستاذ سلفسر ده ساسي مدير مدرسة اللغات الشرقية، وكان واسع الاطلاع في العربية، نشر كتباً عربية كثرة وألف شرح مقامات الحريري المتداول بين أيدينا وقد توفي سنة 1838؛ وثانيهما الأستاذ كوزن وقد نشر كثيراً

ص: 28

فرفاعة إذن لم يبدأ البعث إلا مقلداً المستشرقين، وذلك بعد تأسيس مدرسة الطب بنحو ثلاثين سنة وقبل تأسيس المويلحي جمعية المعارف بنحو عشر سنوات

رابعاً: وإذا رجعنا إلى صدر الفقرة السابقة لم نجد مفراً من الجزم بأن آثار البعث قد ظهرت في النثر قبل ظهورها في الشعر. فالبارودي الذي يمثل أول أثر البعث في الشعر لم يكن قد ولد حين نهض النثر ليحمل تراجم تلك الكتب، فالبارودي لم يولد إلا سنة 1839 (1255هـ) بينما الكتب التي ترجمها وألفها المترجمون كالمسيو عنحوري والمسيو رفائيل وغيرهما تبدأ قبل مولد البارودي بنحو اثنتي عشر سنة، والكتب التي ترجمها وألفها رفاعة وأصحابه وتلاميذه بدأ ظهور بعضها قبل سنة 1831 حين عاد رفاعة إلى مصر وظهر كثير منها والبارودي لم يولد وبعضها وهو ملفوف في أقمطته إذا كانت مدرسة الألسن قد أسست برياسة رفاعة نحو سنة 1834 وما أسرع ما نبغ كثير من تلاميذه في الترجمة والتأليف مثل عبد الله أبو السعود واحمد عبيد وخليفة محمود فألفوا وترجموا كثيراً من الكتب، ولا ريب أن هذه الكتب التي ظهرت قبل شعر البارودي كانت تكتب نثراً لا شعراً، ولا ريب كذلك أن نثرها - وإن لم يبلغ مبلغاً عالياً من البلاغة - يرتفع كثيراً عن نثر الجبرتي والشرقاوي، وغيرهما قبله وإذن فالنثر قد تأثر قبل الشعر ببعث القديم لا كما زعم الدكتور في مقاله وكرر زعمه مرتين من أن الشعر تأثر ببعث القديم قبل النثر، ولكن لا مفر لنا من تقييد النثر الناهض بأنه النثر التأليفي وليس النثر الفني أو الأدبي، وإن كان هذا لا ينفي أن النثر الأدبي أيضاً قد استمد من بعث القديم مادة غزيرة للفكر، وذلك لأن نواة النهضة الثقافية في مصر هي العلوم التي كانت تدرس في مدرسة الطب بأبي زعبل. وفي ذلك قال الزيات:(لم ينل الأدب من عناية الأمراء العلويين ما نال العلم)

خامساً: قال الدكتور: (في الحق إننا لا نعرف أسلوباً يتميز به الأدب الحديث بأضيق معانيه غير أسلوب القصة، فهي أكبر مظهر من مظاهر الأدب الحديث، وليس بخاف أن القصة حديثة العهد ببلادنا، وهي بمجرد ظهورها أخذت تغذي السجع بمادة الفكر وتنقله من التفاهة إلى الجد، وهذا واضح من حديث عيسى بن هشام، فأسلوب المويلحي برغم حرصه على أوجه العبارة البلاغية لا يخلو من فكر وإحساس صادقين، وذلك لأن القصة بطبيعتها تقدم للكاتب مادة، وكل مادة تحتاج إلى العبارة عنها، فيأتي الأسلوب محملاً بتلك المادة. ومنذ أن

ص: 29

خطا أسلوب النثر تلك الخطوة أخذ يشيع في غير القصص حتى امتد إلى المقالة أو الموضوع القصير) ونلاحظ أولاً في عبارة الدكتور أنه استعمل الأسلوب بمعنى القالب فسمى القصة أسلوباً، وخير أن تسمى قالباً وسنسميها هنا كذلك، واستعمل الأسلوب بمعنى طريقة التعبير ونحن نوافقه على ذلك، ثم نذكر أن عبارته تشتمل على قضيتين: الأولى أن القصة هي التي غذت السجع بمادة الفكر ونقلته من التفاهة إلى الجد، ويستشهد على ذلك بحديث عيسى بن هشام للمويلحي. والقضية الثانية أن مادة الفكر قد أثرت هذا الأثر في القصة ثم في المقالة أو الموضوع القصير

أما عن القضية الأولى فإننا نعلم من تاريخ إبراهيم المويلحي أنه لما عاد من الآستانة إلى مصر سنة 1894 أو سنة 1895 أسس جريدته الأسبوعية مصباح الشرق، وقد قال فيها الزيات:(هي صحيفة أسبوعية كان يدبجها باللفظ الرشيق والأسلوب الأنيق، ويرسلها بالسهام النافذة في الاجتماع والنقد والسياسة، فقضت حاجة في نفوس الأدباء، ونهجت لهم الطريق السوي في الإنشاء، ووطأت له هو أكناف الرؤساء والكبراء، واستمر على إصدارها حتى حان يوم وفاته)

وذكر في المفصل أنها (كانت نموذجاً من أعلى نماذج الأدب الحر في هذا العصر، يتطلع إليها المتأدبون في شوق ولهف لما تطلع به من مصفى الكلام ومنتقاه، وأبدع البيان وأحلاه في أبواب السياسة والعلم والفلسفة والأدب، ويترقبها الكبراء في قلق ووجيب قلوب. . . فلقد كان المويلحي أقدر كتاب العربية على النقد وأمرهم وأوجعهم. . . وكان يعاونه في تحرير هذه الصحيفة الفذة ولده الأديب الكاتب العالم محمد بك المويلحي وهو الذي كان يكتب رسائل (حديث عيسى بن هشام) التي سويت بعد كتاباً) وأريد أن أقف هنا ولا أرجع القهقرى الآن لأسأل الدكتور: أكان ما تنشر هذه الصحيفة في العلم والفلسفة والاجتماع والأدب والنقد كلاماً فارغاً من المعاني، ولم تكن تحتوي على المادة الفكرية فيها إلا رسائل حديث عيسى ابن هشام وهي لا تخرج في مضمونها عي النقد، وقلم إبراهيم المويلحي الذي كان يرسل بالسهام النافذة في الاجتماع والنقد والسياسة، فيترقبه الكبراء في قلق ووجيب قلوب، أبقى هذا القلم لا يكتب إلا للغو حتى جاء الابن محمد فزوده بمادة الفكر ونقله من التفاهة إلى الجد؟ أيهما أكبر يا سيدي جحا أم ابنه؟ وأيهما علم الآخر النقد: الأب

ص: 30

أم الابن؟

ولنرجع إلى ما قبل ذلك مع المويلحي الأب حين أصدر هو وعثمان جلال صحيفتهما (نزهة الأفكار) سنة 1869، وكانت شديدة اللهجة فلم يلبثها إسماعيل باشا حتى ألغاها. فهل كان ما تكتب هذه الجريدة كلاماً خالياً من الفكر حتى يلغيها إسماعيل؟ وأسأل الدكتور ثانياً هنا: أكان الابن محمد قد ولد في هذا الوقت أم لم يولد؟

أحسبك هذا يا سيدي أم تريد التوغل إلى الوقائع المصرية التي أسست سنة 1828، وما كانت تنشر من بحوث علمية وأدبية واجتماعية وفلسفية ودينية وقانونية منذ أسست، لأنها لم تكن قبل كما نراها اليوم قاصرة على الأمور الرسمية، بل كانت تتسع لكل ما تتسع له جرائدنا اليوم، فقد كتب فيها رفاعة وأصحابه وتلاميذه ومحمد عبده وتلاميذه، ثم صحيفة (اليعسوب) الطبية التي أنشأها محمد علي البقلي باشا سنة 1865 وجريدة وادي النيل التي أسسها عبد الله أفندي أبو السعود سنة 1865 ومجلة (روضة المدارس) التي أسست سنة 1870، وفيها يقول المفصل:(كانت تفيض بسابغ الفصول فيها أقلام أئمة العلم والأدب من أمثال رفاعة بك وعلي مبارك باشا وإسماعيل باشا الفلكي والشيخ حسين المرصفي وعبد الله باشا فكري، والواقع الذي لا مرية فيه أن هذه المجلة كانت مما نفخ في روح النهضة اللغوية والأدبية في هذه البلاد)، وفيها قال الزيات:(مجلة علمية أدبية يحررها نخبة من ذوي المكانة في العلم والأدب)

وما ألف وترجم رجال الثقافة في مصر في القرن التاسع عشر من كتب في العلوم المختلفة إلى منتصف العقد العاشر قبل تأسيس مصباح الشرق. أكل أولئك كان لغواً من القول وزوراً حتى ظهرت القصة وهي المعجزة السحرية التي أجراها الله على يد محمد المويلحي في حديث عيسى بن هشام، فأخذت كما قلت تغذي السجع بمادة الفكر، وتنقله من التفاهة إلى الجد، وهل خفي على الأستاذ وهو يتعرض لتاريخ الثقافة في العصر الحاضر أنها بدأت علمية؟

أما القضية الثانية وهي أن القصة تأثر سجعها بمادة الفكر حتى انتقلت من التفاهة إلى الجد ثم امتد ذلك إلى المقالة أو الموضوع القصير - فنحن لا نوافق الأستاذ على رأيه فيها - فما قدمناه في الرد على القضية الأولى يكفي لبيان فساد الثانية، لأن ما كتب أولئك الأئمة

ص: 31

في الصحف التي أشرت إليها قبل مصباح الشرق لم يكن قصصاً، بل مقالات. والنتيجة التي لا مفر لنا من استخلاصها إذن هي أن المقالة قد تأثرت بمادة الفكر، وانتقلت من التفاهة إلى الجد قبل القصة، ثم شاع ذلك في القصة وفي غيرها، فالعلوم قد أمدت أولئك الكتاب بالمادة، وكما قال الدكتور:(كل مادة تحتاج إلى العبارة عنها، فيأتي الأسلوب محملاً بتلك المادة) وهذا تسلسل منطقي مقبول ولا ريب.

وبعد فقد طال المقال، ولنا رد على رأي الدكتور في المنفلوطي وانقسام النثر إلى تيارين الآن ورأيه في نثر الإمام محمد عبده والأسلوب الشائع في عصره والمقام لا يتسع لأكثر من ذلك، فلنقف عند هذا الحد مكتفين فيما سبق بالإيجاز المخل، لأن الموضوعات التي تعرضنا لها تشتمل على الثقافة في النهضة الحديثة كلها، فلا بد لها من البحث المستفيض، ولكن حسبنا من الكلام فيها ما يؤدي بنا إلى الإفهام.

هذا وللدكتور مني إعجابي وتحياتي

محمد خليفة التونسي

ص: 32

‌نقل الأديب

الأستاذ محمد استعان النشاشيبي

582 -

فلم أر فيه للشراب حدوداً

في (مطمح الأنفس) للفتح صاحب (القلائد): قال أصحاب محمد بن عيسى (قاضي قرطبة) ركبنا معه في موكب حافل من وجوه الناس، فعرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل، فلما رأى القاضي هابه، وأراد الانصراف فخانته رجلاه، فاستند إلى الحائط وأطرق، فلما قرب القاضي رفع رأسه وأنشأ يقول:

ألا أيها القاضي الذي عم عدله

فأضحى به بين الأنام فريداً

قرأت كتاب الله تسعين مرة

فلم أر فيه للشراب حدوداً

فإن شئت أن تجلد فدونك منكباً

صبوراً على ريب الزمان جليدا

وإن شئت أن تعفو تكن لك منة

تروح بها في العالمين حميدا

وإن أنت تختار الحديد فإن لي

لساناً على هجو الزمان حديدا

فلما سمع شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ومضى لشأنه

583 -

تبا لها! قد كان بصري فيها ثابتا

في الطبقات لابن سعد:

عثمان بن مظعون حرم الخمر في الجاهلية وقال: إني لا أشرب شيئاً يذهب عقلي، ويضحك بي من هو أدني مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي من لا أريد، فنزلت هذه الآية في سورة المائدة في الخمر. فمر عليه رجل فقال: حرَّمت الخمر، وتلا عليه الآية فقال تبّا لها! قد كان بصري فيها ثابتاً

(قلت): هذه الآية هي الكريمة العظيمة:

(يا أيها الذين آمنوا، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه، لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون)

ص: 33

‌سلام على أسمهان!

للأستاذ علي أحمد باكثير

غرقتْ؟ كيف يغرق النُّور والحس

نُ وفنَّ الخلود في شبر ماءِِ

ما تقولون؟ هل تجدُّون أم تا

هون أم هل يجد صرف القضاء؟

لو حواها البحر العريض أضق ال

بحر ذرعاً عن روحها الشّماءِ

أو حوتْها الصحراء لَانْتفَضتْ ظ

لاَّ وماء في جنة خضراءِ!

لَِم لَمْ تغرق الكواكب والشُّهب

وشمس الضُّحى وبدر السماء؟

صوتها العبقري قد كان يُغْني

عن ضياء ينير في الظلماء!

مَم شَدَا بعد أسمهان بحن

فَلأُذنِ عن لحنه صّماْءِ

ما عزائي من بعدها بنشيد

أو غناء ولات حينَ عزاء؟

ضلَّةً قيل إنها بُلبلٌ أو

كروانٌ أو عندليبُ غناءِ

أين من صوتها حناجر طير

أو أرانين آلة خرساءِ؟

صوتها الصوت للخلود وللفر

دوس لا للدُّنيا ولا للفَناء!

أسمع اللهُ منه للناس حيناً

ليحنُّوا شوقاً لدار الجزاءِ

ليَروْا أنْ ما على الأرض فان

والنعيم النعيم في الفيحاء!

ليت عيني تذهبان ويُضْحِى

خطبُها كاذباً من الأنباء!

شهر يوليوَ مَنْ ذا يردُّك ابري

لَ وأعطيه مهجتي وذَمائي؟

شهر يوليو لا كنت يا شهر يوليو

أنت شهر الدموع والأرزاء

آه يا أسمهان! يا بهجة الدُّني

اوأغنية السنَّا والسّناءِ

خرست بعدكِ البلابل في الرو

ض وجفت جداول السّرّاءِ

وظلال الفن الرفيع اضمحلّت

وتولّت بشاشة النُّدماء!

كنت أبكي - إذا سمعتُك تش

دين - بدمع يندى على أحشائي

صرت أبكي - إذا سمعتك تش

دين - بدمع مُرورّد بالدماء!

ليت عيسى يعود حيَّاً فُيحيي

ك لتُحيي موتى من الأحياء!

أنت أولى بمعجزات رسول

بثَّه صوتُ الله في العذراء

ص: 34

فاذهبي كالربيع. . . كالكوكب الها

وي. . . كساى النسيم. . . كالأنداء!

واخلدي في القلوب ما خلد الفنُّ

وجاشَتْ بلابلُ الشعراء

وارقدي في ثَرَى الكنانة واقضي

ما تشائين من هَوًى ووفاء!

نضَّرَ اللهُ بالنعيم مُحيّا

كِ وأولاك منزل الشُّهداء

(المنصورة)

علي أحمد باكثير

ص: 35

‌ألزم الألزم من لزوم ما لا يلزم

لأبي العلاء المعري

منع الفتى هيْناً فجر عظائما

وحمى نمير الماء فانبعث الدم

لا يتركن قليل الخير يفعله

من نال في الأرضتأييداً وتمكينا

وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم

لما رأيت بني الأعدام شاكينا

فإن تعش تبصر الباكين قد ضحكوا

والضاحكين لفرط الجهل باكينا

قبيحٌ مقال الناس جئناه مرة

فكان قليلاً خيره لم يعاون

إذا أنت لم تعط الفقير فلا يبن

له منك وجه المعرض المتهاون

إذا ما فعلت الخير فاجعله خالصاً

لربك وازجر عن مديحك السنا

فكونك في هذى الحياة مصيبة

يعزيك عنها أن تبر وتحسنا

فلتفعل النفس الجميل لأنه

خير وأحسن لا لأجل ثوابها

أشد عقاباً من صلاة أضعتها

وصوم ليوم واجب - ظلم درهم

توهمت يا مغرور أنك دّين

علّى يمين الله مالك دين

تسير إلى البيت الحرام تنسكا

ويشكوك جار بائس وخدين

والظلم يمهل بعض من يسعى له

ومحل نقمته بنفس الظالم

ص: 36

‌البريد الأدبي

تفسير الحلم

رداً على سؤال الأستاذ الفاضل محمود عزت عرفة في العدد السابق من الرسالة نحيل حضرته إلى مقالنا المنشور بالعدد 573 من الرسالة بعنوان (العقل الباطن)، وفيه تفسير واف لحلمه؛ فإن العقل الباطن أنشط بكثير من العقل الواعي. ولحلمه هذا، الذي يعده علماء النفس من أحلام اليقظة، تأويلان:

أولهما: أن عقله الباطن سبق عقله الواعي واستدرك عليه ما نقص من مطالعته

ثانيهما: أنه يغلب على الظن أن حضرته طالع الفقرة التي يشير إليها في الكتاب وهو بين اليقظة والنوم في حالة كان الفكر فيها مكدوداً تمر به الحقائق مر الأطياف، فم يدرك أنه قرأها، ومن ثم فسرت القوة الباطنة ما تبهم على القوة الواعية. ولعل القارئ كان تفكيره مصروفاً إلى ناحية أخرى على حين أن نظره كان متشبثاً بالحروف التي تكون الجملة المشار إليها وسنعود إلى علاج هذا الموضوع في شئ من التفصيل إن شاء الله.

(الإسكندرية)

عبد العزيز جادو

عوُدٌ إلى وحدة الوجود

لم يكن في نيتي أن أعود إلى (وحدة الوجود) بعد كلمتي الأخيرة التي كنت أعتقد أن فيها دفعاً لكل شبهة؛ ولكن يظهر أن طريقتي في الإيجاز لا تستقيم مع الأسلوب الجاري عندنا في الجدل، فلا بد لي إذن أن أسهب وأطيل حتى يكون في القول شفاء ومَقْنَع وما دام الأستاذ الفاضل دريني خشبة قد دعانا إلى اتخاذ الصراحة في القول، فلا بأس من أن نأخذ بنصيحته، داعين الله أن يقينا شر العواقب!

ولسنا نريد أن نمضي في دفاعنا عن وحدة الوجود، دون أن نبين الفرق بين هذه النظرية وغيرها، فإن هذه التفرقة من شأنها أن تجلي لنا جانباً كبيراً من المشكلة التي نحن بصددها. ولعل أهم فرق بين مذهب وحدة الوجود ومذهب المؤلهة أن الثاني ينظر إلى الله باعتباره طرفاً مقابلاً للطبيعة، أي باعتباره موجوداً خارجاً عن الكون: يخلقه ويحفظه

ص: 37

ويتصرف فيه من الخارج بينما ينظر الأول إلى الله على أنه يكون مع الطبيعة شيئاً واحداً ويعمل في الكون من الداخل باعتباره (قوة) أو (طاقة). فالفرق الجوهري بين مذهب وحدة الوجود ومذهب المؤلهة، ينحصر في مسألة علو الله على الكون ومباينته له. أو بطونه فيه ومحايئته له

وإذا نظرنا الآن إلى هذه المسألة نظرة عقلية خالصة، فإننا نجد أن الأدنى إلى الصواب أن يكون الله باطناً في الكون، لا عالياً عليه: ذلك أن الذات الإلهية لا يمكن أن تكون ذاتاً مشخصة، وإلا كانت محدودة معينة، فلا بد لنا إذا أردنا أن ننزه الله التنزيه الواجب، أن نتجنب كل ضرب من ضروب التشبيه أو التجسيم أو التشخيص، فنقول إن الله ليس كمثله شئ، أي أنه ليس لذاته حد ولا وصف. ولما كانت الصفة الوحيدة التي نستطيع أن ننسبها إلى الله (وهي في الحقيقة صفة سلبية خالصة)، هي أنه غير متناه، فلا يمكن أن يكون هناك شيء غير الله، ولا بد إذن بالتالي أن يكون العالم جزءاً منه.

وعلى ذلك فإن الكون مظهر الله، أو مجلي من مجاليه، إذ لو كان ثمة شيء غير الله، لكان الله محدوداً، ولما وجد في كل مكان هذه هي الحقيقة الجوهرية التي يقوم عليها مذهب وحدة الوجود، وهي عندي حقيقة ثابتة تتأيد بكل وجه من الوجوه، وقد انبرى جيته للدفاع عنها، فقال عنها:(إن من خطل الرأي أن نتحدث عن الله باعتباره منفصلاً أو مستقلاً عن الطبيعة، فإن الفصل بين الله والطبيعة هو بمثابة الفصل بين النفس والبدن. وإذا كنا لا نعرف النفس إلا عن طريق البدن، فكذلك نحن لا نعرف الله إلا عن طريق الطبيعة. فمن التعسف إذن أن نكيل التهم لأولئك الفلاسفة الذين يوحدون بين الله والطبيعة، وليس من شك في أن كل ما هو موجود لا بد أن يكون متعلقاً بالجوهر الإلهي، لأن الله هو الموجود الوحيد الذي يشمل وجوده سائر الموجودات ويستوعبها جميعاً. . . وإن الكتاب المقدس نفسه لهو بعيد عن معارضة هذه الحقيقة، على الرغم من أننا نختلف في تفسير عقائده حسب ما يتراءى لكل واحد منا)

وفي استطاعتنا أن نضيف إلى عبارة جيته، أن الكتاب المقدس ينطوي على أقوال تؤيد وحدة الوجود بصراحة، فإننا نجد عبارة للقديس بولس يقول فيها:(إننا في الله نحيا ونتحرك ونوجد)، وعبارة أخرى يقول فيها:(إن منه (أي من الله) وبه، وله كل الأشياء)،

ص: 38

فليس مذهب وحدة الوجود إذن وقفاً على الفلاسفة والمفكرين، بل إن هذا المذهب شائع في كثير من الديانات كما يظهر بالنسبة إلى المسيحية التي تقول إن الله حي في كل شيء، وكل شيء في الله

بقي لنا بعد هذا أن نتعقب الاعتراضات التي وجهت إلى هذا المذهب، فنرد على كل اعتراض منها على حدة. وقد سبق لي أن كتبت بحثاً عن (الاتحاد والحلول ووحدة الوجود) عرضت فيه لنقد ابن تيمية الذي هاجم فيه هذا المذهب، فلعلي أستطيع أن ألخص طرفاً منه في كلمة أخرى إن شاء الله.

زكريا إبراهيم

الفهم والشعر والمال

قرأت (إلى زائرة) وليست (إلى زائرة) من أجود قصائد بشر فارس ولكنها على كل حال ترمز إلى ترجرج العاطفة عند الشاعر وقد تولته نوازع الغريزة فكتب بها فكانت قصيدته تلك ظلاًّ لحالته النفسية

وبعد ليس الشعر ألهية عارضة يقرأ كما يقرأ الخبر المحلي في الصحيفة

فليعد الأستاذ الزحلاوي إلى إعادة قراءة زائرة فلعله يكون أول الفائزين. ولي رجاء أن لا يتبرع الزحلاوي بعد اليوم بالمال من أجل الفهم

بهذه الفقرات ختم (صلاح الأسير) كلمته التي نشرها في مجلة الأدب البيروتية عن (الجائزة الأدبية) واعتقد أنه لم ينل ناقد من أديب بمثل ما نال (صلاح الأسير) من صديقه بشر فارس في تصديه للدفاع عن شعره واجتهاده في تفسير حالته النفسية عندما نظم قصيدته إلى زائرة، وهل من سلاح أقتل من سهم مسموم يريشه عدو إلى صدر شاعر يدافع عنه فيقول فيه: إنه (مترجرج العاطفة تتولاه نوازع الغريزة) فكانت قصيدته المشؤومة تلك ظلاًّ لحالته النفسية؟

كنت ولا شك، رءوفاً بالشاعر بشر فارس عندما تظاهرت بالتواضع فنسبت لأداة فهمي الركود والعي، فاستنجت بأرباب الفهم، في مصر والبلاد العربية، حتى لا أنسب إليه عيوب ترجرج العاطفة، والتواء الذهن، والحمي الحيوانية التي تنتاب من تتولاهم نوازع

ص: 39

الغريزة

ما كنت أود أن أقول إن الدكتور بشر فارس ليس بشاعر ولا يمت إلى الشعر بصلة، وأن ليس بينهما إطلاقاً أواصر قربى ووشائج تعارف، ولكن الأستاذ الأسير - عافاه الله - قالها على طريقته هو، طريقة الصداقة والعداوة، الجاهلة والعاقلة، فلينعم إذن بشر فارس المتهم بصلاح الأسير المدافع

أي أديب يا صاحبي لا يعرف أن الشعر ليس بألهية عارضة؟ بل يجب أن تعلم يا صاحبي أن الأديب لا يعرف أن الشعر صدق، ووضوح، وملاحظة، ونقد، وإنسانية، وعطف، وفلسفة وحب، إنما هو أديب مشكوك فيه. بل يجب أن تعلم مرة ثانية أنه لا يكفي الشعر المعنى المبتكر، ولا الديباجة الرائعة بل يجب فيه الاتساق الفني بين المعنى والديباجة يربطهما الجرس الموسيقي، وعندها تحس النفس بجمال لدنى وبطرب ونشوة تعجز عن تحليل عناصرها، فكيف به إذا خلا من كل هذه العناصر الأساسية؟

رجاني الأستاذ الأسير أن لا أتبرع بعد اليوم من أجل الفهم، فأنا أطمئن الأستاذ على أني وقفت حياتي (من المهد إلى اللحد) على العلم والفهم، فهل أضن بمالي من أجل الفهم؟ وليفهم الأستاذ الأسير (أن كل ما في الأرض من مال لا يكفي لتفتيح ذهن من الأذهان ليفهم مثل هراء بشر فارس)

حبيب الزحلاوي

مكتبة نقابة الصحفيين

أهدي إلى مكتبة نقابة الصحفيين 12 كتاباً من رياسة مجلس الوزراء و47 من وزارة الأشغال و7 من إدارة المطبوعات و7 من المتحف الحربي و8 خرائط وأطالس كبيرة من مصلحة المساحة والمناجم و5 مجلدات من مصلحة الإحصاء والتعداد و8 من مرصد حلوان و10 من لجنة التأليف والترجمة والنشر (هدية أولى) و3 من الاتحاد المصري للصناعات و63 من مكتبة المعارف و5 من مكتبة العرب و23 من المطبعة العصرية

ص: 40