المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 578 - بتاريخ: 31 - 07 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٧٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 578

- بتاريخ: 31 - 07 - 1944

ص: -1

‌الأدب الإغريقي

في عصر الإسكندرية

للدكتور محمد مندور

خلصنا من المقال السابق إلى أن الأدب الإغريقي في عصر الإسكندرية كان كنبات في بيوت من زجاج، فهو بمعزل عن الفضاء الطلق حيث تهب نسمات الحياة منبعثة عن الشعب. ومع ذلك فالنبات - كما قلنا - لم يذو كله وإن شحبت نضرته وقل ماؤه

ولما كانت ملابسات الحياة لم تدفع إلى فن أدبي بذاته، ولا غلبت فناً على فن. فقد كتب أدباء ذلك العصر في كافة الفنون. ولكنني لا أستطيع أن أقف مع القارئ عند كل منها، ولقد سئمت القبح حتى أعود استخرجه من بطون الكتب. وأي خير في أن أطلعك على شعر أو نثر ترى فيه مدح الملوك قد حل محل الوطنية، والتملق محل حرارة القلب، والخرافة محل الإيمان، والتعلق بالخوارق محل تبجيل الآلهة، ثم التفيقه والتبجح بالمعرفة المحصلة المكتسبة محل استطلاع المجهول والحرص على الفهم الصحيح. وإنما أقف بك حيث يعود هذا الأدب فيتصل بالحياة وإذا بالجمال يشرق في نواحيه. أقف عند نفس تفتحت للحب فتذوقت حياة الريف وأنشدت مع الرعاة أناشيدهم. أقف عند نفس تحن إلى الماضي فتستنشق شذاه أو تمعن في الحاضر فترصد أحداثه وقد نطقت بأسرارها

شعر المقطوعات

ولنبدأ بشعر المقطوعات وهي قطع شعرية صغيرة لا تكاد تعدو العشرين بيتاً، ولكنها كثيرة العدد حتى لتملأ أكثر من مجلد في المجموعة المعروفة (بالمختارات وهي لأكثر من أربعين شاعراً من شعراء ذلك العصر، وإن يكن معظمهم من ضعاف الشعراء. ومع ذلك فمن بينهم من تطرب النفس لشعره طرباً حقيقياً. خذ مثلاً الشاعر ألكبيادس الساموسي تجد له ما يقرب من ثمان عشرة مقطوعة شديدة الشبه بشعر أليسه وسافو:

(اشرب يا ألكبيادس. لِمَ هذه الدموع؟ أية محنة قد أصابتك؟! لست الوحيد الذي اتخذت منه كبريس إلهة الحب) فريسة. لست الوحيد الذي أردته سهام إيروس القاسي. لِمَ تدفن نفسك في التراب؟! لنشرب نبيذ ياكوس ضافياً. هاهو الفجر ينبثق. إذا كان المصباح قد انطفأ

ص: 1

أتريد أن تنتظر حتى يستيقظ؟ لنشرب في مرح. أيام أخرى قلائل - أيها المسكين - ثم يطويك الظلام الرحب تستريح بين أحضانه)

أو ما تحس في شعره بجمال الأسرار. جمال الاعترافات. نجوى نفس أليفة. شاعر مرهف

وخير من ألكيبيادس فيما أظن ليونيداس الترنتي من شعراء القرن الثالث ق. م. ولد فقيراً وعاش مشرداً، فتوثقت معرفته بالحياة. كتب لوحات للمقابر والنذور ومحفورات للتماثيل وصوراً للشعراء والفنانين وقطعاً فلسفية وأخلاقية، كتب الكثير منها لصغار الناس: صيادين وعزّالات يحملون القربان إلى الآلهة أو يموتون لشدة الكد في الحياة، ومن ثم واقعية شعره وألفاظه الملونة بالمهن المختلفة، ألفاظ دقيقة تشف عن عاطفة حيِيَّة. لقد عبر في سحر عن جمال الحياة الفقيرة الجاهدة كما عبر عن روعة الربيع وصفاء الينابيع استوحى مثلاً الشاعر القديم سيمونيدس فوصف حقارة الحياة. وصف تلك النقطة، الهروب بين أبديتين: أبدية الماضي وأبدية المستقبل

(لقد انقضى أيها الرجل زمن سحيق قبل أن تأتي إلى الحياة وسينقضي زمن سحيق بعد نزولك إلى هاديس (العالم الآخر). ما هي برهة حياتك؟ نقطة أو أقل من ذلك، وهذه الحياة شاقة، فاللحظة الراهنة ذاتها لا سرور فيها، بل إنها لأشد إيلاماً من الموت البغيض. اهرب إذن من الحياة، اهرب إلى المرفأ)

ولربما كان أقوى الجميع ملياجر الذي جمع مختاراته المسماة (بالتاج) فكانت نواة للمختارات الإغريقية التي بين أيدينا. ولنستمع إليه يرثي هليودورا حبيبته:

(لتذهب إليك دموعي، هليودورا، هدية! لتذهب إلى هاديس كأثر مقدس لحبي! دموع قاسية الإراقة. هأنا أسكب فوق قبرك الذي طالما بكيته، أسكب الأسى ذكرى لغرامي. أنا ملياجر، أئن من أجلك أيتها العزيزة الراحلة، أئن في ألم، ألم مبرح. قربانا للأكيرون لا خيرَ فيه. وا أسفاه! أين غصني الأخضر الذي طالما أحببته! لقد سلبني إياه هاديس، وهذه الزهرة المتفتحة قد غبرها التراب، آه إنني أضرع إليك جاثياً، أضرع إليك أيتها الأرض الكريمة الثمار أن تتقبلي في رفق من الطفلة المبكية، تقبليها في رفق أيتها الأم وضميها إلى صدرك، بين أحضانك)

أغاني الرعاة

ص: 2

وهنا أيضاً دعنا نكتفي بتيوقريطس؛ فهو أكبر شعراء الرعاة، بل أكبر شعراء عصر الإسكندرية، ولعله من كبار شعراء الإنسانية، ولنوجز ما نريد معرفته عنه لنستطيع بعد ذلك أن ننصت إلى شيء من شعره وفيه ما يبعث النضرة في القلوب

ولد تيوقريطس في سيراكوسة بصقلية في السنوات الأخيرة من القرن الرابع ق. م. وأمضى جزءاً من حياته بجزيرة كوس حيث تعرف إلى الشاعر فيليتاس ومدرسته كما تعرف بألكبيادس الساموسي السابق الذكر وبأراتوس، وعاش جزءاً آخر في إغريقية الكبيرة (= جنوب إيطاليا). أرسل قبيل سنة 270 ق. م. إلى هيرون مستبد سيراقوسة قصيدة مدح ليمنحه رعايته ولكنه لم ينجح فانصرف بمديحه إلى بطليموس فيلادف وعاش في الإسكندرية بعض الزمن. وأما تاريخ موته فلا نعرفه على وجه التحقيق

لدينا من شعره عدد من المقطوعات الصغيرة ثم ثلاثون قصيدة تسمى (إيدليا) وهذه اللفظة تصغير للفظة إبدوس الإغريقية، وإبدوس معناها قصيدة غنائية إطلاماً واذن فالإيديليا هي القصائد أو اللوحات الصغيرة. ولكنه لما كانت قصائد الرعاة تغلب في المجموعة؛ فقد غلب هذا المعنى على اللفظ في العصور الحديثة

ولكن شعر تيوقريطس في الحقيقة ليس كله من أغاني الرعاة؛ فمن بين الثلاثين قصيدة تسقط خمساً منتحلة واثنتين كشوك فيهما، وننظر في الباقي فنجد من بينها أغاني الغرام وفصول المحاكاة التي تشبه أشعار هيرونداس. ومنها الريفيات التي تجمع بين الغناء والمحاكاة، ومنها القطع القصصية، ومنها الأناشيد، وأخيراً منها المدائح

كل ذلك إلى جوار أغاني الرعاة

لقد تملك تيوقريطس القدرة على الإحساس؛ ثم القدرة على خلق شخصيات حية في أسلوب شخصي. لقد استمر الرجل الطبيعي حياً فيه. استمر فلم يقتله الأديب. فهو يرى العالم: يرى صيغة وألوانه وعبيره. الكأس لا يزال يفوح فخاره، وفروة الراعي ليكيداس تشتم منها الخميرة، وروائح الخريف تطفو في أعياد التاليسيا. وعذوبة الماء والظلال، ولين المخدع من أوراق الكرم، كل هذا يدركه تيوقريطس مختلطاً بخرير الينابيع وتغريد العندليب

الفكرة المسيطرة عند تيوقريطس هي الحلم بالحياة الريفية. وهذا شعور كثيراً ما يظهر في

ص: 3

عصور الحضارة. وموضع المشقة فيه هو أن يأتي طبيعياً. وبهذا تميز تيوقريطس عن غيره من اللاحقين.

الطبيعة عنده ليست الطبيعة القاسية التي عرفها هزيودوس، ولا الطبيعة الحزينة الحالمة، التي تغنى بها فرجيليوس، ولكنها طبيعية مشرقة يراها الشاعر دائماً في فصل الضوء بأعلى الجبال حيث ترعى القطعان. وما نظن شاعراً قد حملنا على الإحساس بأواخر الصيف وأوائل الخريف مثلما فعل تيوقريطس في وصف التاليسيا، العيد الذي أشرنا إليه فيها سبق:

(أهداني ليكيداس في ابتسامة عذبة عصاه، أعطاها رمزاً لصداقتنا باسم ربات الوحي؛ ثم اتجه إلى اليسار متابعاً طريق البسكا، وأما إقريطس وأنا وأمينتوس الجميل؛ فقد يممنا بيت فرازيداموس، حيث رقدنا فوق أسرة كثيفة من ورق الكرم النضر. وكان كثير من السرو والعبل يترنح فوق رءوسنا غير بعيد من الموجة المقدسة التي تخر من كهف النامف

وفي الأعشاب المشتبكة كانت الصراصير التي أحرقتها حرارة الشمس تغني حتى بح صوتها، والضفدعة الخضراء تصيح قصية تحت الأشواك المتداخلة. والقبرة وعصافير الجنة تغرد، واليمام يئن، والنحل الأصفر يطن حول الينابيع. من كل فج كانت تنبعث رائحة الصيف، وقد مازجها عبير الخريف، والكمثري والتفاح تتساقط وفيرة على أرجلنا وإلى جانبنا، وقد ثقلت الأغصان بالبرقوق، فتدلت حتى مست الأرض. وأزيل عن الدنان طين عتيق. يا نامف كاستاليا: يا ساكنة. البرناس! هل قدم كيرون العجوز كأساً كهذه إلى هرقل في كهف الفولوس الخصيب؟ ليتني أستطيع أن أعود فأضع المذراة في القمح، بينما تضحك هي وقد امتلأت يداها بالسنبل والحبوب)

هذه لوحة ناطقة موحية. سر جمالها في بساطتها وصدقها؛ فالشاعر يسمي الأشياء بأسمائها، وهو أرهف حساً من أن يصطنع لغة شعرية متحجرة. فالضفدعة والصرصار لم يتحولا تحت قلمه إلى كروان وعندليب، وكل من يعرف الريف يذكر صدق ما وصف. وبفضل طبيعية أسلوبه نحس بأعقاب الصيف وأوائل الخريف وقد غمرها الشعر، فإذا هي أفعل في النفس من الواقع.

وما يحبه تيوقريطس من الرعاة هو بساطتهم: شعر أشعث وحزام من جلد الشجر، وفتاة

ص: 4

طبيعة يتغنى بجمالها. وما يعنيه ما يظن الناس بذلك الجمال

(يا ميز ببريه! غن معي الطفلة الرقيقة. فكل ما تمسينه أيتها الإلهة يصبح جميلاً. بومبيكا أيتها الفتاة الباسمة الخفيفة الدم! يدعوك الجميع سورية عجفاء قد أحرقتها الشمس، ولكني أنا، أنا وحدي، أقول إنك شقراء كالعسل. البنفسج أيضاً أسود، والزنبق مجعد. ومع ذلك يُجمعان للتيجان قبل غيرهما من الزهور. الجدي يجري وراء شجرة النحل، والذئب وراء النعجة، والبجع خلف المحراث، وأنا مجنون بك. بودي لو كنت غنياً كقارون. إذن لأقمت لنا تمثالا من الذهب هدية لأفروديت: أنت بالناي ووردة وتفاحة، وأنا بثوب جديد وأحذية فخمة. بومبيكا أيتها الباسمة الخفيفة الدم! إقدامك كعقل الأصابع، وصوتك كالحلم، وأما جمالك فلا أستطيع أن أصفه)

ولقد يحمل السيكلوب بوليفيم في إحدى قصائده على التغني بجمال معشوقته جالاتيه بقوله:

(جالاتيه أيتها البيضاء، لماذا تردين من يحبك؟ أنت أنصع بياضاً من اللبن المخيض، أنت أرق وداعة من الحمل، وأشد حيوية من البقر، وأمعن لذعاً من عنقود العنب الأخضر)

هذه قصائد فيها اهتزاز من انفعال الحب، فيها نغمة صادقة كأنها من حرارة الحياة

تيوقريطس شاعر الريف. شاعر الغرام. وأما ما دون ذلك من شعره في المديح فتافه

وهو إلى جانب ذلك شاعر المحاكاة حتى ليعتبر حواره بين نساء سيراقوسة أنموذجاً لذلك النوع من الأدب الذي سنتحدث عنه في المقال الآتي

محمد مندور

ص: 5

‌2 - احمد رامي

للأستاذ دريني خشبة

كل الناس على أن موهبة رامي في الغزل وشعر الغناء هي خير مواهبه. . . ونحن لا نرى هذا الرأي

لا نرى هذا الرأي بالرغم من هذه الخمسين والمائة أغنية التي تملأ آذاننا وقلوبنا، وتتدفق مع أعذب الأصوات وأرخمها في كل جوارحنا، وتطوي مع الأثير في كل لحظة ألفاف الهواء حول كواكبنا؛ فتداوي كلوم المحبين، وتذهب بلواعج المدنفين وتترنم بها الأصوات كلها حتى المنكر منها والأجش، فيخيل لها أنها صارت بلابل!

لا نرى مطلقاً أن موهبة رامي هي روحه الغنائية التي تجيد الغزل، وتفتن في مذاهبه هذا الافتنان الحلو الموفق، الذي يحس الناس في ثناياه حرارة الحب، ويتسمعون إلى دقات القلوب العاشقة، ويشهدون من فنون الجفون المؤرقة، والأنفاس المحترقة، أشكالاً وألواناً

إن رامي الذي يحترق من أجلنا، ويذيب قلبه وروحه كيما يطب لنا، هو شاعر الإنسانية ولسانها الناطق وترجمانها الأمين

إن الذين يزعمون أنه شاعر الليالي الحمر، والسهرات الصوادح، أولئك يصدفون عن حقيقة رامي، ويخطئون جوهره، إنما رامي شاعر الإنسانية كلها. . . الشاعر الذي صدق في التعبير عن آلامها، لأنه بلا منها الشيء الكثير الشيء المتنوع، والغزل - أو شعر الحب - هو أحد الألوان التعبيرية الصارخة التي أذهلت الناس عما هو أشد منها من ألوان رامي التعبيرية الأخرى، لأنهم سمعوه من هذين اللسانين الخالدين وحياً بديعاً، لا تسجيعاً ولا ترجيعاً، ولو ذكرنا قلب رامي المعذب ونحن نلتذ أغانيه تشيع بالنشوة في أرواحنا، لحق أن نتذكر قوله:

أنا في غيهب الحياة منار

ضاء من فرط نوره الديجور

لم أذق في الحياة للسعد طعما

كيف يدري الحلو الفم المرور

أطرب الناس بالأغاني من الش

عر وفي القلب لوعة وسعير

ولذكرنا أن رامي يستعين بشعره للتنفيس عن آلامنا بما ينظمه لنا من تباريح قلبه شعراً نحسبه يفيض بهجة في حين أنه يقطر دماً. ونخاله يندى بشاشة في حين أنه يتنزى ألماً

ص: 6

دعيني يا بنات الشعر أبكي

على ما نالت الأيام مني

أمان مِتْن في قلبي صغاراً

كما ذوت الأزاهر فوق غصن

وزرع طاب لم أقطف جناه

وكم بذرت يداي ولست أجني

وأهل أصبحوا بدداً وشدوا

إلى دار النوى أرحال ظعن

ولست أطيق بعدهم، ولكن

أروح عن فؤادي بالتمني

فكوني يا بنات الشعر أهلي

وأشياعي لدى البلوى وركني

وغنّى من أساك وألهميني

فبينك في الهوى عهد وبيني

أراك بخاطري وأودأني

أراك بناظري وأن تريني

إذن أشفقت من وجدي وسقمي

وشفّك لاعجي وشحوب لوني

ولسمعناه يستعبر قائلاً:

أحن إلى الماضي كما يذكر الحمى

طليح نوى ترمي به الفلواتُ

وأندب أيامي اللواتي تصرمت

لشعري إذا ضمتني الخلوات

وفي الشعر تأساء وفيه رفاهة

وفيه لقلب ياقظ نشوات

أنيم به حزني كما يبعث الكرى

إلى عين طفل صارخ نغمات

وأكذب نفسي أنني إن صدقتها

أغار عليها الهم والحسرات

لقد ألفت نفسي الشقاء وإن يكن

أليماً فمن آلامه الخطرات

وما يحسن الأشعار إلا معذب

تضرّمُ في أحنائه الحرقات

ولو كان كل ناعماً في حياته

لما بهرتكم هذه النفحات

لقد صنعت لنا الآلام من رامي هذا الشاعر المرهف الحس، الدقيق الشعور، الذي حرك ألسنتنا كما ملأ عواطفنا، بأغانيه ولعل كارثته في المغفور له والده العزيز - الدكتور محمد رامي - المتوفى بالقاهرة يوم الأحد 21 سبتمبر 1919، هي التي وجهت قلب رامي، أو شعره، تلك الوجهة الإنسانية التي تجتمع فيها عواطف الألم والرحمة والرثاء للضعفاء، وإسعاد المحزونين، وتمني الخير للناس جميعاً. . . وذلك أن الشاعر قد ألقيت على كاهله بوفاة والده مسئوليات عائلة كاملة، فيها الأم البارة الرؤوم وفيها الأخوة الصغار الخُضْر كأفراخ القطا، وفيها الشاعر نفسه الذي لم يكن يغنى، وينظم خلجات شبابه الغض وصباه

ص: 7

المتفتح، باقات يانعة من هذه القصائد التي يضمها الجزء الأول من ديوانه 1926 - 1937 حتى قذف بقلبه جميعاً في خضم اليتم المصطخب ذي الأمواج والأثباج، ولهذا لا نكاد نرى ديواناً عربياً من دواوين شعرائنا يفيض بالروح العائلي، كما يفيض به الجزء الثاني من ديوان رامي وما جاء من ذلك في الجزءين الأول والثالث، وما لم ينشره رامي من شعره في ديوان بعد. . . وذلك إذا استثنينا ديوان (أنات حائرة) لشاعرنا الجليل الأستاذ عزيز أباظة بك

اسمع إلى رامي ينظر إلى سرير أبيه المريض، ثم يتوجع ويقول من قصيدته (نهر الحياة)، ذاكراً أخاه النازح، وأمه واخوته:

يا نهر أيامي، أما آخر

لشقة العيش التي أقطع

أربت همومي فنبا مضجعي

وصاحب الآلام لا يهج

أب طريح في فراش الضنى

أقض في رقدته المضجع

تتابعت في الليل أناته

وكل أنات الدجى تسمع

شكا من الداء الذي شفه

وانهمرت من عينه الأدمع

وقال أخشى أن يحل الردى

ولي قطا زُغبٌ ولي مطمع

أخاف أمضي عنهم تاركاً

عشهم تلوى به زعزع

ولي أخ يا نهر عيشي خلت

منه ديار وخلا مهيع

وكان أنسى في ضمير الدجى

وكان لي من عطفه مرتع

فهل لذي العلة من صحة

وهل لنضو نازح مرجع

وهل لليل العيش من مشرق

يجلو ظلام اليأس إذ يطلع

لو كنت فرداً لم أرع إربة

إن كان يعطي الدهر أو يمنع

لكن لي أماً ولي اخوةً

ولي أباً في ظله نرتع

ولا يطيب العيش إلا إذا

سقاهم حوض المنى المترع

هذا شعر يحس فيه القارئ لذع الألم الذي يرتجف أمام شبح اليتم

ثم مات الوالد المريض، وبعد أن خفت وقدة الحزن في نفس رامي، رثاه بتلك المنظومة الفريدة التي أومأ فيها إلى أيام مرضه، ثم إلى الأماني التي كان الوالد يعلقها على الشاعر

ص: 8

الشاب، وإلى الوضع الذي وضعته فيه المقادير بعد هذا الخطب الجلل:

كم جنى والد على أبن ولكنا

جنينا عليك - صفحاً وغفرا

ثم هنيئاً فليس بالميْت من خلّ

ف من بعد موته ابناً أبرّاً

أنا أحنو على اليتامى وأرعى

أيّما عاشرتك بالطهر دهرا

ثم أحيي ذكراك ميتاً وقد خلد

ت ذكرى تضوع في الكون نشرا

ولم يفتأ رامي يذكر أباه ويرعى عهوده، ويذرف عليه دموع أمانيه:

كم مر بي عيد تمنيت أن

يكسوني فيه جديد الثياب

وكم نقضت بي ليال ولا

سمير لي فيهن إلا الكتاب

وحين أدركت المنى لم أفز

من ثغره بالبسمات العِذاب

وكم جلسنا أسرة نرتجي

رجوعه بعد طويل الغياب

نرنو إلى موضعه بيننا

وقد خلا من بشره والحِبابْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . .

نشأت في يتم ولي والد

فما اكتفى الدهر بهذا العذاب

نرنو إلى موضعه بيننا! ما أبسط هذا التعبير وما أبدعه وما أشد لذعه! لقد كان يتم رامي مفجر ينابيع الإنسانية في قلبه الشاعر النابض الكسير! لقد صحبه ذلك الشعور باليتم حتى في رثائه أصدقاءه، ولعل ما رثى به صديقه، فقيد الأدب والشعر والمسرح المرحوم محمد تيمور، هو من عيون الشعر العربي في باب رثاء الأصدقاء:

كيف أرثيك يا رفيق شبابي

يا نجي من شيعة الأحباب

أبدمعي؟ الدمع أرخص ما يب

كى به صاحب على الأصحاب

أنت أولى بأن يبلل مثوا

ك بنضح من الفؤاد مذاب

وهو يلم في القصيدة كلها تلك الإلمامات العائلية المؤلمة التي لا يقدرها إلا من جربها، والتي تذيب القلوب وتقطع نياطها ألماً وحزناً:

طار لبي لما نعيت وضاقت

بي دنيا كثيرة الأسباب

تلك حالي؛ فكيف حالك يا تيم

ور لما غدوت في الغياب

خلت الدار منك يا بهجة العم

ر وأقوت من سرحها المخضاب

ص: 9

ثم أضحت (ريري) تنادي أبي أيْ

ن ولا من يرد رجع الخطاب

طرت من عشها وكنت لها عط

فا وزقا تحت الظلال الرطاب

ثم طال انتظارها لك حتى

يئست بعد صبرها من إياب

فاطمأنت على مصارحة الده

ر وقرت على أليم المصاب

وقد لزمت رامي هذه الروح الرثائية في معظم شعره، وفي معظم نظراته التي كان ينظم فيها الشعر لنفسه خاصة، ونقول لنفسه خاصة، لأن لرامي منظومات كان (يصنعها تحت الطلب)، وهي منظومات - أو أغان - لنا فيها رأي ربما أعلناه فيما بعد. وتتجلي هذه الروح الرثائية في قصيدته (إلى أخي البعيد ج 2)، التي يتمنى فيها أوبة هذا الأخ المسافر. فيحسب الإنسان أنه يرثيه بشعر من أجود أشعار الرثاء. . . وتتجلى أيضاً في قصيدتيه الفريدتين (الجمال العاطل - والجمال الراحل ج 2). ثم قصيدته (اللقيط)، وفي (غريب يغني)، و (مستقبل الحب)، و (إلى البدر)، و (شكوى عليل)، و (طيور الأماني)، و (شعر الدموع)، و (الشيب الباكر). إلى آخر هذه المجموعة المؤثرة من أشعار رامي الإنسانية الباكية التي جمعها الجزء الثاني من ديوانه، والتي ترن أصداؤها في جميع أغانيه

(يتبع)

دريني خشبة

ص: 10

‌محرجات.

. .

للأستاذ علي الجندي

كان المجلس مرصعاً بكواكب لامعة من الأدباء والأديبات، فدار الحديث حول مبالغة بعض الناس في كتمان سنهم، وأن أديباً كبيراً قضى نحبه ولم يعرف سنه أحد! حتى كأنها من مفاتح الغيب التي استأثر الله بعلمها! وهنا انبرت أديبة نابهة فقالت:

الناس جميعاً في ذلك سواء بدليل أن الأستاذ - وأشارت إلى - لا تسعفه شجاعته بإخبارنا عن سنّه! فدارت بي الأرض الفضاء، وأطرقت قليلاً أزور في نفسي كلاماً، فلحظت الشيطانة ذلك، وعلمت أن وراء الإطراق ما وراءه! فاستدركت قائلة: على شرط أن يقول الصدق كل الصدق، لا شيء غير الصدق!

ويحك أيتها الإنسانة! إن الصدق ليكون أحياناً معجزة للمرء كما يقول بعض السلف رحمه الله!

ومع أني لم أتجاوز دائرة الشباب، وهي دائرة (مرنة) والحمد لله! ومع أني لا أستجيز الكذب إلا في الشعر، فقد أحسست ميلاً شديداً إليه! وخيل إلى أنه لا بأس في هذا المقام أن أطرح من عمري بضع سنوات! ولكني عدت فتذممت من ذلك، ووجدت عنه مندوحة في قولي:

أعلم أني ولدت في أيام حرب من الحروب المشهورة، فقال أديب: لعلها حرب البسوس! وقال آخر: لعلها حرب الردة! فقالت الأديبة: هذا تحامل شديد! أظنها: حرب (المائة عام)! فقلت: ولم لا تكون حرب (الوردتين)! فضحكوا وضحكن! وانفسح المجال للمفاكهة البريئة، فتنوسي السؤال، وكفى الله المؤمنين القتال!

وحينما كنت مدرساً بالتجارة، جاءتنا من الوزارة (نشرة) تطلب فيها من المدرسين أن يخبروها بأسمائهم وعناوينهم وشهاداتهم ومرتباتهم وأسنانهم، والخطب فيما عدا السن يسير، ولكن من الذي يستطيع أن يدون أسمه على مرأى ومسمع من زملائه؟! أشهد لو أن الوزارة ضاعفت لهم الحصص، أو قطعت عنهم المرتبات ما ثاروا عليها هذه الثورة! وطال تردد المسألة بين الناظر والمدرسين على غير طائل حتى كادت تحدث الجفوة، وأخيراً فطن الناظر لما كان يجب أن يفطن له أولاً، فاستدعاهم إلى مكتبه، وقال - وهو

ص: 11

يضحك - لقد عرفت السر! ليبح كل واحد منكم لي بسنه على انفراد وعليّ عهد موثَّق أن أطويه في صدري! وهنا برح الخفاء وانفرجت الشفاه عما أجنته السرائر! ولكن أستطيع أن أزعم: أن كثيراً مما قيل تبرأ منه شهادات الميلاد!

وإني لأعرف قوماً يجهلون زمن مولدهم! أو قل: يتجاهلونه فلا يحتفلون به، كما يحتفل بعض الناس! ويلذ لهم أن يذهلوا عنه عامدين متعمدين! ومع أن ذلك مغالطة في الحقيقة المرة لا تجدي عليهم شيئاً، إلا أن النفوس تأنس لهذه المغالطة وتسكن إليها!

ولا يصح أن يكون هذا موضع العجب، لأنه فطرة في الإنسان يستوي فيها الرجل والمرأة، فالتعلق بالشباب يعادل التعلق بالحياة، بل الحياة في أنضر عهودها وأبهى مظاهرها، وكل سنة تمر علينا تبعدنا من هذا الشباب المحبب المرموق بقدر ما تدنينا من شيء كريه مقيت هو الهرم الذي يسلمنا إلى الفناء! وإنه ليروعك أن ترى شاعراً زميتاً جاداً صارماً كالمتنبي يبكي الشباب، وهو يرفل في ورقه النّضر ويمرح في ظله السابغ فيقول:

ولقد بكيت على الشباب ولِمّتي

مُسودّة ولماءِ وجهي رونق

حذراً عليه قبل يوم فراقه

حتى لكدت بماء جفني أشرق

وصدق عمرو بن العلاء في قوله: ما بكت العرب شيئاً ما بكت الشباب، وما بلغت به قدره. كما صدق الأصمعي حين يقول: أحسنُ أنماط الشعر: المراثي والبكاء على الشباب!

وإنك لمستطيع أن تقدر مبلغ حرص الإنسان على الشباب، وحسرته على زواله من هذه النادرة التي حدثت بين الرشيد ومغنّيه إبراهيم الموصلي، مع ما يملك الملوك من وسائل تغنيهم عن الشباب أو تعزّيهم عنه على الأقل: جاء في أمالي المرتضى: أن إسحاق الموصلي حدث عن أبيه إبراهيم. قال: غنيّت بين يدي الرشيد يوماً والستارة منصوبة:

وأرى الغوانيَ لا يُواصلن امرأً

فقد الشباب وقد يصلن الأمردا

فطرب الرشيد واستعاده وأمر لي بمال. فلما أردت الانصراف وجه إليّ كلاماً شديداً وقال: أتتغنى بهذا الصوت وجواريّ من وراء الستارة؟! لولا حرمتك لضربت عنقك! قال إبراهيم فتركت الصوت والله حتى نسيته!

وقد كنت أظن أن كتمان السن والمغالاة في إخفائه من سمات العصر الذي لانت فيه الأخلاق، واشتد الحرص على المتع، وكثر فيه الزور والزيف، ولكني وجدت ذلك سنة

ص: 12

القدامى من أعلام السلف؛ ففي النجوم الزاهرة: أن الإمام أبا بكر الأنصاري كان إذا سئل عن سنه يقول: أقبلوا على شأنكم، لا ينبغي لأحد أن يُخبر عن سنه؛ إن كان صغيراً يستحقروه، وإن كان كبيراً يستهرموه! ثم ينشد:

لي مُدّة لابدّ بالغها

فإذا انقضت وتصرمت مِتُّ

لو عاندتني الأسدُ ضاربةً

ما ضرّني ما لم يَج الوقت

وفي نفح الطيب يحدث المقَّري الأكبر عن نفسه قائلاً:

كان مولدي بتلمسان، ووقفت على تاريخ ذلك، ولكني رأيت الصفح عنه، لأن أبا الحسن بنُ مؤمن سأل أبا طاهر السَّلفي عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت أبا الفتح بن زيّان عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت علي بن محمد ابن اللبان عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سالت حمزة ابن يوسف السهمي عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت أبا بكر المنقري عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت الترمذيّ عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت الشافعي عن سنه فقال: أقبل على شأنك؛ فإني سألت مالك بن أنس عن سنه، فقال: أقبل على شأنك؛ ليس من المروءة للرجل أن يخبر عن سنه!

وقد زاد بعض الأقدمين على كتمان السنّ، كتمان السر والمال والمذهب، وفيها يقول الحسين البغدادي كما نقله معجم الأدباء:

احفظ لسانك لا تبح بثلاثةٍ

سر ومالٍ، ما استطعت، ومذهب

فعلى الثلاثة تُبْتلَى بثلاثة

بمفكّر وبحاسد ومكذّب

وقد جاء في كتمان المال: ما رواه الكامل في المبرد: من أن عبد الملك بن مروان سأل عبد الله بن يزيد بن خالد - وكان من العقلاء - عن مقدار ماله، فقال له: شيئان لا عيلة عليْ معهما: الرضاء عن الله، والغنى عن الناس. فلما خرج قيل له: هلا أخبرت الخليفة! قال: لا يعدو أن يكون قليلاً فيحقرني، أو كثيراً فيحسدني.

علي الجندي

ص: 13

‌صفحة من كتاب

نيتشه والزواج

(صفحة مهداة إلى الآنسة المهذبة (أ. م.))

للأستاذ زكريا إبراهيم

في ظلال الوحدة القاسية، ومن خلال الحياة العقلية الباردة، أرسل نيتشه صيحته العالية:(إن ما تسمونه الحب، ليس إلا سلسلة من الحماقات القصيرة المتتالية. أما الزواج فهو الحماقة المستقرة الكبرى التي تجيء خاتمة لتلك الحماقات)! وليس من عجب أن يعلن نيتشه مثل هذا الحكم على لسان نبيَّه زرادشت؛ فإن فيلسوفنا قد جهل المرأة، ففاتته بذلك معرفة جانب كبير من جوانب الحياة الإنسانية. وقد شهدت بذلك أخته فقالت:(إنني لم أشهد لديه أدنى أثر من آثار عاطفة المحبة. فكل اهتمامه كان منصرفاً إلى المسائل العقلية، وأما ما عدا ذلك فلم يكن يلقى منه غير اهتمام سطحي. ويظهر أنه هو نفسه قد عانى كثيراً فيما بعد، بسبب انعدام كل عاطفة من عواطف الحب لديه). وإذا كان نيتشه قد جهل ذلك العلم الكبير الذي سماه سقراط باسم (الحب)؛ فليس بدعاً أن تجيء أحكامه التي أطلقها على المرأة، أحكاماً قاسية لا تثبُّت فيها ولا هوادة. وهو نفسه قد فطن إلى أن جهله بالمرأة لابد أن ينحرف به عن جادة الصواب؛ فذكر على لسان تلك المرأة العجوز التي التقى بها حكيمه زرادشت:(إن من الغريب أن ينطق زرادشت بالحق في حديثه عن النساء، مع أنه لا يعرف عنهن إلا الشيء القليل!)

ولكن ما هو هذا الحق الذي نطق به زرادشت في حديثه عن المرأة؟ أَلا فلنستمع إليه وهو يفضي إلى تلك المرأة العجوز بسر (المرأة) الذي كشفت له عنه الحياة!: (كل ما في المرأة لغز، وليس لهذا اللغز من حل إلا الولادة. . . ليس الرجل للمرأة إلا وسيلة، أما الغاية فهي دائماً: الولد. . . يجب أن يُنشأ الرجل للحرب والقتال، أما المرأة فيجب تُعّد للترويح عن المحاربين، وكل ما عدا ذلك فهو حمق وضلال). أما المساواة بين الرجل والمرأة فهي حديث خرافة، لأن الجنسين مختلفان، ووظيفة كل منهما مختلفة كذلك عن وظيفة الآخر. ويصف نيتشه هذه المساواة بأنها مساواة مضادّة للطبيعة لأن من المحال أن تنقلب المرأة

ص: 14

رجلاً، مهما أجهد أنفسهم في توطيد أسباب ذلك الانقلاب. ومهمة الرجل في نظر نيتشه هي أن يقوم بجلائل الأعمال، ومختلف ضروب الحرب والقتال؛ أما المرأة فإنه ليس ثمة لديها شيء سوى الحب والطفل. وتبعاً لذلك فإن سعادة الرجل هي:(أنا أريد)، وأما سعادة المرأة فهي:(هو يريد)

وقد حَمَل نيتشه على (الزواج الحديث) - كدأبه في الحَمْل على كل ما هو مُحدث -، وأخذ عليه أنه زواج يقوم على العواطف الصاخبة التي لا تدوم، والأهواء الجامحة التي لا تستقر. فالزواج لا يمكن أن يقوم على الحب، لأن الحب يعصف برجاحة الحكم؛ وإنما الواجب أن يقوم على أساس من التدبر والحكمة. وإذا كان نظام الزواج، في المجتمع الأوربي الحديث، قد أخذ يزحف على ساقين؛ فما ذلك إلا لأن زواج الحب قد أصبح يُنظر إليه اليوم نظرة ملؤها التسامح والتساهل. أما الزواج الكامل الذي تتحقق فيه حكمة هذا النظام على أحسن وجه، فهو ذلك الذي تكون فيه الرابطة بين الزوجين، رابطة قوية لا تنفصم عُراها، بحيث لا يمكن أن تعصف بها الأهواء العابرة والنزوات العارضة. ومثل هذا الزواج لا يمكن أن يكون الأصل فيه هو الحب، بل (غريزة النوع) أو (غريزة الامتلاك)(باعتبار أن الزوجة والأبناء بمثابة ممتلكات للزوج)، أو (غريزة السيطرة). ويؤكد نيتشه قيمة غزيرة السيطرة في الزواج؛ فيقول إن الأسرة أشبه ما تكون بمملكة صغيرة تحتاج إلى أبناء وورثة لكي يدوم بقاؤها، ففي مجال الأسرة يستطيع الرجل أن (يباشر) إرادة القوة التي توجد لديه!

بيد أن نيتشه سرعان ما يعدل عن هذه النظرة، لكي يقدِّم لنا عن الزواج صورة أخرى محببة جميلة، يُدخل فيها فكرته عن الإنسان الأعلى؛ فيقول: (أنت شاب في مقتبل العمر، وتتمنى أن تكون لك زوجة وأولاد، ولكنني أسائلك: هل أنت رجل يحق له أن يطمع في البنين؟ هل أنت الرجل الظافر المنتصر على نفسه، المسيطر على حواسه، السائد على فضائله؟ أم أن الشهوة الحيوانية والحاجة الضرورية هما اللتان تتكلمان بلسان رغبتك؟ أم هي العزلة قد دعتك إلى ذلك؟ أم هو اضطرابك وتنازعك مع نفسك؟ إنني أريد أن يكون ظفرك وحريتك هما اللذان يتشوفان إلى الولد؛ وإن عليك أن تبتني الأنصاب الحية لظفرك وحريتك. أجل، إن عليك أن تبتني شيئاً يعلو عليك، ويسمو فوق مستواك. ولكن يجب قبل

ص: 15

ذلك أن تكون أنت نفسك متين البنية، قوياً في الجسم والروح. فليس عليك أن تتناسل وتنتج فحسب، بل إن عليك أن تُنتج في صعود، فترتفع بنفسك إلى ما فوق. . . وإنما الزواج عندي هو اتحاد إرادتيْن أو شخصين، لكي ينشأ منهما واحد يكون خيراً منهما)

وعلى هذا النحو لا تعود المرأة مجرد أُلْهيَّة، ولا تقف مهمتها بعد عند الترويح عن المحاربين، وإنما تصبح مخلوقاً جديراً بالاحترام والتقدير، نظراً لأن قيمتها لا تقل عن قيمة الرجل في خَلْق الإنسان الأعلى، والتأدِّي بالإنسانية إلى تلك الغاية السامية التي تعلو عليها.

زكريا إبراهيم

ص: 16

‌القضايا الكبرى في الإسلام

قضية الشاعرين هدبة وزيادة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 7 -

هذه قضية الشاعرين العذْريين: هُدْبة بن خشْرَمٍ وزيادة بن زيد، بل مأساة الشعر الذي أراد الإسلام أن يجعل منه رسالة إصلاح، وصلة تراحم، فأبى إلا أن يمضي على ما كان عليه قبله، يثير العصبية بين العرب، ويقطع صلة التراحم بينهم وقد شغلت هذه القضية الناس ثلاث سنين، بوقائعها المثيرة، وأخبارها المؤثرة، وأشعارها البليغة، وكان أهل المدينة أكثر الناس افتناناً بأخبارها وأشعارها، لأن وقائعها جرت فيما بينهم، وكان هدبة أول من أُقيد منه في الإسلام، فأحدث ذلك في أهل المدينة الوادعة أثراً عظيماً، حتى قال مصعب الزبيري: كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا خبر هدبة وزيادة ازدريناه، وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما ونعجب بها.

وكان من أمر هذه القضية أن هدبة وزيادة اصطحبا في ركب من قومهما إلى الحج؛ فكانا يتعاقبان السوق بالإبل، وكان مع هدبة أخته فاطمة، فنزل فارتجز فقال:

عوجي علينا واربعي يا فاطما

مادون أن يرى البعير قائما

ألا ترين الدمع مني ساجما

حذار دار منك لن تلائما

فعرَّجت مُطرداً عُراهما

فعماً يَبُذُّ القطف الرواسما

كأن في المثْناة منه عائما

إنك والله لأن تباغما

خَوْداً كأن البوص والمآكما

منها نقاً مخالطٌ صرائما

خير من استقبالك السمائما

ومن مناد يبتغي معاكما

فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته، فنزل فرجز بأخت زيادة، وكانت تدعى أم خازم أو أم القاسم، فقال:

لقد أراني والغلام الحازما

نزجي المطى ضُمَّرا سواهما

متى تظن القلص الرواسما

والجلة الناجية العياهما

ص: 17

يبلغنِّ أم خازم وخازما

إذا هبطن مستحيراً قاتما

ورجع الحادي لها الهماهما

ألا ترين الحزن مني دائماً

حذار دار منك لن تلائما

والله لا يشفى الفؤاد الهائما

تماحك اللبات والمآكما

ولا اللمام دون أن تلازما

ولا اللزام دون أن تفاقما

ولا الفقام دون أن تفاغما

وتركب القوائم القوائما

فشتمه زيادة وشتمه هدبة، وتسابا طويلاً، ثم صاح بهما القوم: اركبا لا حملكما الله، فإنا قوم حجاج

وقد خشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه، وهدبة أشدهما حنقاً، لأنه رأى أن زيادة قد ضامه إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله، ورجز هو بأخته وهي غائبة لا تسمع قوله؛ فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى قضيا حجهما، ورجعا إلى عشائرهما

وكان هدبة من بني عامر وزيادة من بني رقاش، فتفاقم الشر بين الرهطين، والتقى نفر من بني عامر فيهم أبو جبر وهو رئيسهم الذي لا يعصونه، وخشرم أبو هدبة، وزفر عم هدبة، ونفر من بني رقاش فيهم زيادة واخوته عبد الرحمن ونفاع وأدرع، وكان ذلك بواد من أودية حرتهم؛ فكان بينهم كلام؛ فغضب أدرع وأبو جبر، وكان زفر عم هدبة يعزى إلى رجل من بني رقاش؛ فقام أدرع فرجز به فقال:

أدُّوا إلينا زُفَرا

نعرف منه النظرا

وعينه والأثرا

فغضب رهط هدبة وادعوا حداً على بني رقاش، فتداعوا إلى السلطان. ثم اصطلحوا على أن يدفع إليهم أدرع فيخلو به نفر منهم؛ فما رأوه عليه أمضوه. فلما خلوا به ضربوه الحد ضرباً مبرحاً؛ فراح بنو رقاش وقد أضمروا الحرب وغضبوا، وكان على السلطان أن يتولى إقامة الحد على أدرع، حتى يهدئ تلك النفوس التي لا تزال تنزع إلى جاهليتها، وتحاول الرجوع إلى عاداتها التي قضى الإسلام عليها

ثم جعل زيادة وهدبة يتهاديان الأشعار ويتفاخران، ويطلب كل واحد منهما العلو على

ص: 18

صاحبه في شعره، وجرت بينهما في ذلك أشعار كثيرة روى صاحب الأغاني بعضها، ولم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله، ثم تنحى مخافة السلطان. وكان على المدينة يومئذ سعيد بن العاص؛ فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة. فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه، وتخلص عمه وأهله؛ فلم يزل محبوساً حتى شخص عبد الرحمن أخو زيادة إلى معاوية بدمشق؛ فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد من هدبة إذا قامت البينة فأقامها؛ فمشى رهط هدبة إلى عبد الرحمن وسألوه قبول الدية فامتنع. وقال:

أنختم علينا كلكل الحرب مرة

فنحن منيخوها عليكم بكلكل

فلا تدعني قومي لزيد بن مالك

لئن لم أُعجل ضربة أو أُعجل

أبعد الذي بالنعف نعف كويكب

رهينة رمس ذي تراب وجندل

أُذكر بالبقيا على من أصابني

وبقياي أني جاهد غير مؤتل

وقيل إن سعيد بن العاص كره الحكم بين هدبة وعبد الرحمن. فحملهما إلى معاوية بدمشق؛ فلما صارا بين يدي معاوية قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي، وقتل أخي، وترويع نسوتي. فقال معاوية لهدبة: قل. فقال هدبة: إن هذا رجل سَجَّاعةٌ، فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاماً أو شعراً فعلت. فقال له معاوية: لا بل شعراً. فقال هدبة:

ألَا يا لقومي للنوائب والدَّهر

وللمرء يُردى نفسه وهو لا يدري

وللأرض كم من صالح قد تأكمتْ

عليه فوارته بِلَمَّاعةٍ قَفْرِ

فلا تتقي ذا هيبة لجلاله

ولا ذا ضياع هن يتركن للقفر

إلى أن قال:

رمينا فرامينا فصادف رمينا

منايا رجال في كتاب وفي قَدْر

وأنت أمير المؤمنين فمالنا

وراءك من مَعْدىً ولا عنك قَصْر

فإن تك في أموالنا لم نضق بها

ذراعاً وإن صبر فنصبر للصبر

فقال له معاوية: أراك قد أقررت بقتل صاحبهم. ثم قال لعبد الرحمن: هل لزيادة ولد؟ قال: نعم، المسور، وهو غلام صغير لم يبلغ، وأنا عمه وولي دم أبيه. فقال له معاوية: إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق، والمسور أحق بدم أبيه

ثم رد معاوية هدبة إلى المدينة، فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور، فذهب عبد الرحمن

ص: 19

به إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص، وقيل مروان بن الحكم، فسأل سعيد عبد الرحمن أن يقبل الدية عن أخيه، وقال له: أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب، أعطيك مائة ناقة حمراء، ليس فيها جَدَّاء، ولا ذات داء. فقال له عبد الرحمن: والله لو نقبت لي قبتك هذه ثم ملأتها ذهباً ما رضيت بها من دم هذا الأجدع. فلم يزل سعيد يسأله ويعرض عليه فيأبى، ثم قال له: والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله:

لَنَجدْ عنَّ بأيدينا أنوفكم

ويذهب القتل فيما بيننا هدرا

فدفعه سعيد إليه ليقتله، وكان الأولى أيضاً أن يتولى قتله بنفسه

فلما مضى من السجن إلى القتل التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل النساء، فقال:

أَقِلِّي عليَّ اللومَ يا أَمَّ بوزعا

ولا تجزعي مما أصاب فأوجعا

ولا تنكحي إن فَرَّق الدهر بيننا

أغَمَّ القفا والوجه ليس بأنزعا

كلِيلاً سوى ما كان من حد ضرسه

أُكَيْبدَ مِبْطانَ العشيات أروعا

ضروباً بلحييه على عظم زَوْرِهِ

إذا الناس هشوا للفعال تَقنَّعا

وحُلِّي بذى أكرومة وحميَّة

وصبر إذا ما الدهر عض فأسرعا

فمضت إلى السوق حتى انتهت إلى قصاب فقالت له: أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك. ففعل فقربت من حائط وأرسلت ملحفتها على وجهها، ثم جدعت أنفها من أصله، ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى دخلت بين الناس وقالت: يا هدبة، أتراني متزوجة بعد ما ترى؟ قال: لا الآن طاب الموت

ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه يتوقعان الثُّكلَ وهما بسوء حال، فأقبل عليهما وقال:

أبلياني اليوم صبراً منكما

إن حزناً إن بدا باديُّ شر

لا أراني اليوم ميتاً

إن بعد الموت دار المستَقرْ

اصبرا اليوم فإني صابر

كل حَيٍّ لقضاء وقَدَرْ

فلما دفع هدبة إلى عبد الرحمن ليقتله استأذن في أن يصلي ركعتين، فأذن له فصلاهما وخفَّفَ، ثم التفت إلى من حضر فقال: لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما، فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما. ثم قال قبل أن يقتل:

ص: 20

إن تقتلوني في الحديد فإني

قتلت أخاكم مطلقاً لم يُقَيَّدِ

فقال عبد الرحمن: والله لا قتلته إلا مطلقاً من وثاقه. فأطلق فقام إليه وهز السيف ثم قال:

قد علمتْ نفسي وأنت تعلمُهْ

لأقتلنَّ اليوم من لا أرحمهْ

ثم قتله. وقد رثاه واسع بن خشرم فقال:

يا هدب يا خير فتيان العشيرة من

يُفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

الله يعلم أني لو خشيتهمُ

أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أُسْلِمْ أُخَيَّ لهم

حتى نعيش جميعاً أو نموت معا

وكان هدبة قد بعث إلى عائشة يقول لها: استغفري لي. فقالت: إن قتلت استغفرت لك. فلما قتل وفت بوعدها واستغفرت له.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 21

‌2 - فساد الطريقة

في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

(عدم الدقة أيضاً)

ومثل آخر يجمع صنوفاً من عدم دقة صاحب الكتاب، موقفه من السجع. فإننا صرفنا النظر عن موقفه من سجع القرآن نجد صاحب الكتاب غير دقيق في تعبيره، وغير دقيق في تفهم كلام غيره، كما نجده غير دقيق في تقسيمه بل في تفكيره، حتى لتبلغ أغلاطه من هذه الناحية أحياناً مبلغ التناقض

فمن عدم دقته في التعبير خلطة بين السجع والازدواج في شاهدين من شواهد ثلاثة استشهد بها من كلام ابن المعتز (على أن التزام السجع لم يغلب غلبة مطلقة كما سنرى عند كتاب القرن الرابع، وإنما هي طلائع لهجوم السجع نراها عند كتاب القرن الثالث) كما يقول

فأول الشاهدين قدم له صاحب الكتاب بقوله من صفحة 82 من الجزء الأول: (ولابن المعتز من كلمة ثانية يغلب عليها السجع والازدواج) ثم ذكر سطرين أو أكثر قليلاً من كلام ابن المعتز يغلب عليهما الازدواج وليس فيهما إلا سجعة واحدة. فليس فيهما إذن ما يدل على غلبة السجع على كلمة ابن المعتز وإن كان فيهما ما يصح أن يدل على غلبة الازدواج. والدقة كانت تقتضي أن يأتي بشاهد يدل على غلبة الاثنين، فإن كان لا بد أن يكون أحدهما أظهر فليكن السجع لا الزدواج، لأن الموضوع موضوع السجع، والفصل فصل أطوار السجع، والاستنتاج متعلق بالسجع وطلائع هجومه عند كتاب القرن الثالث

وثاني الشاهدين كأولهما في دلالته، فقد اقتبس صاحب الكتاب لنفس الغرض من كلمة أخرى لابن المعتز ما يزيد قليلاً عن أربعة أسطر يغلب عليها الازدواج، ولا تحوي إلا سجعتين متفرقتين لا تدلان على أن السجع كان يغلب على كلمتي ابن المعتز كالازدواج، ولا على ما أراد صاحب الكتاب أن يستدل عليه من بدء هجوم السجع في القرن الثالث، لأن مثل الفقرتين المشار إليهما يمكن استخراجه لكاتب ما من المشاهير أو غير المشاهير بين كتاب أي قرن. فليس فيهما إذن دلالة خاصة عن السجع في قرن خاص كالقرن الثالث،

ص: 22

خصوصاً، وقد زعم صاحب الكتاب في الصفحة قبل ذلك أن السجع بعد أن ضعف سلطانه قليلاً في العصر الأموي - وكان غالباً فيما زعم على عصر النبوة - أخذ يسترد قوته في أواخر القرن الثاني. وهذا معناه أن طلائع هجوم السجع ظهرت لا في القرن الثالث ولكن في أواخر القرن الثاني إن كان لكلام هذا الرجل قيمة ووزن، ولم يكن يكتب كل ما يرد على خاطره من غير تمييز أو تمحيص

ولم يقف صاحب الكتاب عند مجرد القول إن السجع (عاد يسترد قوته في أواخر القرن الثاني) بل تجاوز ذلك فزعم أنه بدأ يرى في أواخر القرن الثاني (رسائل يكاد يلتزم فيها السجع). فإن صدق في قوله هذا كان ذلك أدل على الحين الذي أخذ السجع يغلب فيه من الشاهدين المشار إليهما آنفاً من كلام ابن المعتز في النصف الثاني من القرن الثالث، لأن ذينك الشاهدين ليس فيهما التزام ولا شبه التزام للسجع كما بينا لك. صحيح إنه جاء لابن المعتز بفقرة ثالثة طويلة كلها سجع لكنه كذلك جاء بفقرة فيها طول لكلثوم بن عمرو العتابي يؤيد بها قوله إن القرن الثاني شهد في أواخره رسائل يكاد يلتزم فيها السجع. فهذا كاتب من القرن الثاني وذاك كاتب من القرن الثالث، وبكل استشهد صاحب الكتاب على أن السجع بدأ يغلب في زمنه. وواضح أنه إذا كان السجع بدأ يغلب في أواخر أحد القرنين فمن المستحيل أن يكون بدأ يغلب في أواخر القرن الآخر؛ فصحة أحد القولين تبطل صحة القول الآخر من غير ريب على أننا إذا رجعنا إلى ما زعم صاحب الكتاب في أول صفحة 81 من أن السجع (كان يغلب على النثر في عصر النبوة، ثم أخذ سلطانه يضعف قليلاً في العصر الأموي وإن حرص عليه القصاص والخطباء وناقلوا أحاديث الأعراب) وقارنا ذلك بقوله عن السجع عقب ذلك مباشرة (إنه عاد يسترد قوته في أواخر القرن الثاني، وبدأنا نرى وسائل يكاد يلتزم فيها السجع). فإننا نجد رأياً ثالثاً لصاحب الكتاب لا يتفق مع بدء غلبة السجع في أواخر القرن الثاني ولا الثالث. ذلك أن السجع إذا كان غالباً في عصر النبوة فضعفه قليلاً في العصر الأموي معناه نقص في مقدار غلبته لا انمحاؤها، فهو إذن في زعم صاحب الكتاب كان أيضاً غالباً في العصر الأموي وإن دون غلبته في عصر النبوة؛ وهذا هو معنى وصف الضعف بالقلة إن كان لذلك الوصف معنى. وإذن تكون عودة السجع إلى استرداد القوة في أواخر القرن الثاني معناها عودته إلى ازدياد الغلب لا إلى

ص: 23

اكتساب الغلب. فالسجع حسب هذا الكلام من صاحب الكتاب كان غالباً في العصر النبوي، وظل غالباً في العصر الأموي، وإن إلى درجة أقل، ثم ازداد غلبه وظهوره في أواخر القرن الثاني. فلا معنى إذن لقوله بعد ذلك إن طلائع هجوم السجع بدأت تظهر في القرن الثالث في حين لم يسبق قول بأن السجع فقد الغلبة التي كانت له في القرنين الأولين إن صح ما زعم صاحب الكتاب

فالمسألة كما ترى ليست مجرد عدم دقة في التعبير ولكنها في حقيقتها قلة تحقيق وعدم دقة في التفكير

لكن من عجيب أمر صاحب الكتاب، وذاك كلامه عن السجع في القرنين الأولين، أن يسمى السجع في القرن الثالث بدعة كما ترى من قوله في صفحة 83:

(ومن أظهر الدلائل على ذيوع بدعة السجع في القرن الثالث ما رأيناه من حرص ابن داود على وضع عناوين الفصول مسجوعة في كتاب الزهرة)، وهو لم يكن ذكر قبل أن السجع كان قد اختفى أو تضاءل لا في القرن الثاني ولا في أوائل القرن الثالث حتى يصح إذا عثر على نص منه أو نصوص في أواسط القرن الثالث أو أواخره أن يعد ذلك بدعة ذاعت يستدل على ذيوعها باطراد السجع في عناوين الفصول من كتاب

ثم بيْنا أنت تقرأ له هذا في صفحة 83 إذا بك تقرأ له في صفحة 96 من نفس الفصل: (وكلام ابن الأثير يؤيد ما انتهينا إليه في أثناء هذا الفصل من أن بناء الجملة لم يخرج في جوهره عن السجع طوال القرن الثاني والثالث)! وابن الأثير صاحب المثل السائر عاش في أوائل القرن السابع، وكلامه لم يكن في تاريخ السجع متى ظهر وغلب، أو متى ضعف واختفى، ولكن كان في مدح السجع إذا استوفى شروطه؛ فكيف يمكن أن يكون ذلك في كلامه ذلك ما يؤيد ما انتهى إليه صاحب الكتاب في تاريخ السجع وتطوره؟ ثم إذا كان ما انتهى إليه صاحب الكتاب في أثناء الفصل هو (أن بناء الجملة لم يخرج في جوهره عن السجع طوال القرن الثاني والثالث) فكيف يمكن أن يكون السجع عاد يسترد قوته في أواخر القرن الثاني؟ أم كيف يستقيم أن يسمى السجع في القرن الثالث بدعة يلتمس لذيوعها الدليل؟ إن تلك الجملة التي لخص فيها صاحب الكتاب ما انتهى إليه لا تدع له محلاً للاستثناء في أمر السجع وذيوعه، لا من ناحية الزمن ولا من ناحية الكلام، فليس أشمل من

ص: 24

ناحية الكلام من أن بناء الجملة لم يخرج في جوهره عن السجع، وليس أكثر استغراقاً من ناحية الزمن من قوله إن ذلك كان طوال القرنين الثاني والثالث

فهذه نقطة واحدة بسيطة تضارب صاحب الكتاب فيها عدة مرات

على أننا إذا تركنا اضطراب صاحب الكتاب في السجع في القرون الثلاثة الأولى، وذهبنا إلى القرن الرابع الذي هو الأصل في بحثه، لم نجده فيه أقل اضطراباً ولا أكثر دقة وتحقيقاً

وأول ما تلقاه من فصل السجع والازدواج (صفحة 113) أربعة أسطر يخبرك صاحب الكتاب في الأولين منها أنه بين لك أطوار السجع في النثر الفني، وأنك رأيت كتاب القرن الأول والثاني والثالث يتنقلون بين السجع والازدواج، ويذكر لك في السطرين الآخرين أن التزام السجع صار من خصائص نثر القرن الرابع، وأن كتابه لا يتحررون من السجع إلا إلى الازدواج! فإن كنت ترى فرقاً بين هذا الذي ذكر لك عن كتاب الرابع وذلك الذي أخبرك عن كتاب الأول والثاني والثالث كنت كبير النصيب من قوة الخيال، فإذا قرأت له عقب ذلك عن القرن الرابع قوله:(ولم يخرج من كتاب هذا العصر إلى الحرية في الصياغة الفنية إلا عدد قليل) عجبت أولاً كيف يكون التزام السجع من خصائص النثر الفني في القرن الرابع ويكون بين كتابه مطلقاً من يؤثرون الحرية في الصياغة الفنية، قلوا أو لم يقلوا، وعجبت ثانياً كيف ينبه صاحب الكتاب إلى الحرية الفنية في القرن الرابع دون القرون الثلاثة قبله، كأن القرن الرابع كان أقل التزاماً للسجع من تلك القرون

ثم تقرأ له بعد ذلك تقسيم كتاب القرن الرابع إلى طوائف ثلاث: طائفة تلتزم السجع وتزاوج قليلاً، وطائفة تؤثر الازدواج، وتسجع قليلاً، وطائفة تؤثر الحرية، فلا تسجع أو تزاوج إلا قليلاً. وقد عد لك من الأولى تسعة، منهم الخوارزمي ومن الثانية ثمانية منهم ابن العميد، ومن الثالثة سبعة منهم ابن مسكويه

فإذا قارنت بين عدد من عدّ لك من كتاب الطوائف الثلاث عجبت كيف وصف الطائفة الثالثة من قبل بالقلة وهي سبعة أثمان الثانية وسبعة اتساع الأولى إن كانت تلك الأرقام تتناسب مع اتساع كل طائفة كما ينبغي أن تكون. على أنه بعد ذلك قد زاد في الطائفة الثالثة حين عد منهم إخوان

ص: 25

ثم يأخذك عجب أشد حين تقرأ له في صفحة 115: (وإذا نظرنا في نثر ابن العميد وجدنا الحرية غالبة عليه، ولكنا نراه يلتزم السجع أحياناً، كأن يقول. . .). ويأتيك بمثل كله سجع. يشتد عجبك حين تقرأ هذا، وتتساءل كيف أمكن أن يخطئ صاحب الكتاب هذا الخطأ، أو كيف أمكن أن يتراخى في التعبير إلى هذا الحد: يجعل ابن العميد على رأس الطائفة الثانية، ثم يقول إن الحرية تغلب عليه فيحشره مع الطائفة الثالثة! أي باحث هذا الذي يقسم فلا يحسن التقسيم، أو يطبق فلا يحسن التطبيق؟

فإذا خطر لك أن تستقري ما أورد صاحب الكتاب من نثر ابن العميد لترى إلى أي الطائفتين ينسبه في الحقيقة، انقلب عجبك سخرية بهذا الباحث الذي يجعل ابن العميد على رأس طائفة، ثم يدخله بالوصف في طائفة أخرى، ثم لا يورد له من شواهد نثره في كتابه بجزأيه إلا ما يخرجه من الطائفتين جميعاً ويلحقه بالطائفة الباقية! لأن ابن العميد في تلك الشواهد يسجع أكثر مما يزاوج، بل الازدواج قليل في تلك الشواهد بالنسبة إلى السجع، أما الحرية فليس له منها إلا أقل من القليل

وإذا كان هذا هو مبلغ تناقض صاحب النثر الفني في الحكم على نثر كاتب مشهور مثل ابن العميد، حتى فيما الحكم فيه سهل، فكيف يمكن أن يوثق أو يطمأن إلى حكمه على من ذكر أو لم يذكر من كتاب القرن الرابع أو غير القرن الرابع؟

الحق أن الرجل لا يحسن تقسيما ولا حكما، ولا استقراء ولا استنباطاً، وإن نادى على نفسه أنه باحث كبير يستطيع الخروج على الإجماع حتى في أمر القرآن

محمد أحمد الغمراوي

ص: 26

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

583 بل يتعدى إلى الأحقاب

قال النواحي: قال التيفاشي في كتابه (سرور النفس بمدارك الحواس الخمس). وهو عدة مجلدات: إني وجدت جل من يستعمل هذا المشروب لا يفي له خيره بشره، ولا يقوم نفعه بضره. وذلك لجهله بوجه استعماله؛ فإن من المعلوم أن المقصود من شرب الخمر منفعتان: إحداهما راجعة للنفس، وهي التفريح ونفي الهموم، والأخرى للبدن وهي حفظ صحته عليه، ونفي الأمراض النازلة به. ويتحقق عند كل من له أدنى مسكة من عقل أنها إذا استعملت على غير ما ينبغي انعكست هاتان المنفعتان مضرتين؛ فصار عوض السرور هماً وغماً وضجراً وسوء خلق، وعوض الصحة مرضاً مزمناً أو موتاً فجأة. إلا أنه لا يقتصر الأمر على عكس هاتين المنفعتين فقط، بل يتعدى إلى مضار أخرى عظيمة إن سلمت المهجة كذهاب العقل والمال والجاه والذكر الجميل. ولا يقف الأمر على ذلك بل يتعدى إلى الأعقاب؛ فإن الحكماء أجمعوا قاطبة على أن مدمن الخمر لا ينجب، وإن أنجب كان الولد أحمق

584 -

هذا الكلام عليك لا لك

لما ناظر أبو الوليد (سليمان بن خلف) الباجي الفقيه أبا محمد علي بن حزم قال له الباجي: أنا أعظم منك همة في طلب العلم، لأنك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة الذهب؛ وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق

فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاءً تبديل بها مثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته؛ فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة. فأفحمه

585 -

. . . زادتها سنة أذرع

في (الحوادث الجامعة) لابن الفوطي: في سنة (641) أنفذ محي الدين بن يوسف الجوزي رسولاً إلى ملك الروم (كيخسرو بن كيقباذ)، فاجتمع به في إنطاكية؛ فلما عاد حكى أشياء

ص: 27

غريبة، منها أن النساء يتعممن كالرجال، والرجال يلبسون السراقوجات، وعمائم النساء تختلف في الكبر والصغر، لأن المرأة إذا جاءت بولد تعممت بعمامة طولها ستة أذرع، وكلما جاءها ولد زادتها ستة أذرع. وذراعهم ذراع ونصف بذراع بغداد

586 -

دعانا إلى الخروج عليك

أسر عتاب بن ورقاء جماعة من الخوارج؛ فوجد فيهم امرأة فقال: وأنت يا عدوة الله ممن مرق من الدين، وخرج على المسلمين، أما سمعت قول الله تعالى:

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جر الذيول

فقالت: حسن معرفتك بكتاب الله دعانا إلى الخروج عليك يا عدو الله

ص: 28

‌من وادي عبقر

معركة الثلوج. . .!

(من أدب الحرب)

يا صاحبي هلا شهدت اليوم معركة الثلوج؟

حشد الحمام بها وسائله على بيض المروج

ومشى إلى الغابات مصطخب الخطى جم الضجيجِ!

هو منجل الحصَّاد يقتطف الجني قبل النضوج!

كم من شباب باسم الخطوات وثاب بهيج!

حُشِدوا إلى الموت الذي بسموا له حشد الحجيج!

فوق الجواري المنشآت وتحت ألوية البروج

حرب الحضارة هذه يا صاح

هل بلغت مداها؟

تئد الذي تلد العلوم

وما تغار على جناها

مجنونة بالفتك طاغية

تجور على فتاها

كم آلة للبطش قاسية

تهدِّم من بناها!

ويح لعقل يبتني مج

داً ويهدمه سفاها

سكت النهى وتكلم الفولا

ذ واأسفى، وتاها

قد حرتُ فيمَ يهدم الر

جل المثقف أو يحاربْ

أيقية الوحش القديم

بنفسه تلد العجائب!

أم تلك فطرته استوى

في لؤمها ذئب وراهب؟

أم في سبيل المجد قد

حشد الفواتك والكتائبْ

ما المجد غير مظاهر خد

اععة ومنى كواذبْ

يا ويح من شاد القصو

ر وبات يرتع في الخرائب!

ركب الهواء وغاص تحت

الماء يغلب أو يغالب!

أترى يشيد العلم أر

كان الحضارة من جديد؟

أترى فوارق الأجنا

س في الزمن الرشيد!

ص: 29

أترى نشيد ثقافة كبرى

تجل عن الحدود؟

وتعيش أسرة آدم

في عالم مرح سعيد؟

لا شعب يفخر بانتصار

ناضح بدم الجنودِ

أو سيداً يختال في الد

نيا على شرف المسود

المجد نعرفه ولكن

في مؤازرة وجود!

(الخرطوم - السودان)

سعد الدين. أ. فوزي

ص: 30

‌ألزم الإلزام من لزوم ما لا يلزم

لأبي العلاء المعري

خف دعوة المظلوم فهي سريعة

طلعت فجاءت بالعذاب النازلِ

عزل الأمير عن البلاد وماله

الادعاء ضعيفها من عازل

إذا ما تبينا الأمور تكشفت

لنا وأمير القوم للقوم خادم

وفي كل مصر حاكم فموفق

وطاغ يحابي في أخس المطامع

يجور فينفى الملك عن مستحقه

فتسكب أسراب الدموع الهوامع

ومن حوله قوم كأن وجوههم

صفا لم يلين بالغيوث الهوامع

ذريّة الأنس، لا تزهو، فإنكم

ذرا تعدون أو نملا تضاهونا

فجنَّب الزهو في الدنيا فلو زهيت

غر الغمام لذُم القطر إذ نزلا

وليحذر الدعوى اللبيب فإنها

للفضل مهلكة وخطب موبق

لو قال بدر التم: إني درهم

قالت له السفهاء أنت: مزأبق

وكيف يؤمل الإنسان رشداً

وما ينفك متبعاً هواه

يظن بنفسه شرفاً وقدراً

كأن الله لم يخلق سواه

لا يفخرن الهاشمي ع

لى امرئ من آل بربر

فالحق يحلف ما ع

لى عنده إلا كقنبر

ص: 31

‌البريد الأدبي

حول بعث القديم

نشرت (الرسالة) بعددها الأخير لأديب أظنه أحد طلبة المدارس تعليقات على مقالي بعث القديم. ولم يكن هذا المقال يقصد إلى تحقيق جزئيات بل إلى استخلاص حقائق عامة بقيت بنفسي من تدريس الأدب المصري المعاصر بالجامعة. والظاهر أن الطالب الأديب لم يفهم ما قصدت إليه فحشد كتبه المدرسية ليحتاجني بها

قلت: (إننا لم نستطع أن نستخدم الطباعة إلا في سنة 1822) وفي موضع آخر، (إننا لم نستخدمها على نحو مطرد إلا منذ سنة 1822) والمعنى واضح، فالمقصود هو ابتداء طبع الكتب. وهذا ما يثبته ما نقله جرجي زيدان في تاريخ الأدب العربي الجزء الرابع ص 58 عن بيانكي إذ قال (إن أول ما طبع كان قاموساً إيطالياً عربياً سنة 1822)، وأضاف جرجي زيدان إلى ذلك في نفس الموضع أنه (اطلع في مكتبة محمد بك آصف بمصر على كتاب في صباغة الحرير ترجمة القس رفائيل راهب عن الفرنسية وطبع في بولاق سنة 1822) وإذن فما قلته صحيح. ومع ذلك يأتي الطالب الأديب فيخبرني مشكوراً أن كتب التاريخ حتى ما كان في أيدي صبية المدارس الابتدائية تذكر أن مطبعة بولاق أسست سنة 1821. وهذا ما لم أتحدث عنه. ومع ذلك فأنا أخبر الطالب الأديب دون أن أنتظر منه شكراً أن كتب صبية المدارس التي اطلع عليها كذابة وأنه قد اكتشفت منذ عشر سنوات ببولاق لوحة تركية دون فيها تاريخ افتتاح مطبعة بولاق ونشر صورتها الدكتور إبراهيم عبده في كتابه عن (تاريخ الوقائع الرسمية)، وهي تثبت أن هذه المطبعة قد افتتحت سنة 1819 - 1820لا سنة 1821 كما حدثته كتب صبية المدارس

وذكرت أن (أقدم الجمعيات التي تألفت لنشر الكتب وهي جمعية المعارف التي أسسها محمد عارف باشا لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860) وإيراد التاريخ على هذا النحو لا يفيد تحديداً ومع ذلك لم يفهم الطالب الأديب فقال وكتبه المدرسية بيده إن مؤسس الجمعية هو إبراهيم بك المويلحي وإن تأسيسها كان سنة 1867 والأمر لم نتركه بغير تحديد إلا لأنه ليس من البساطة بحيث يظن الطالب الأديب، ونحن لم نكن بحاجة لذلك التحديد لتستقيم المحاجة، ولهذا لم نقف عنده. وفي المرجع الذي أشرنا إليه فيما سبق يذكر جرجي زيدان

ص: 32

أن محمد عارف باشا قد أسسها سنة 1868، ولكن نفس المؤلف يذكر في (تراجم المشاهير الشرق في القرن التاسع عشر) طبعة سنة 1911 جزء 2ص 115 ما يأتي:(اتفق المويلحي مع المرحوم عارف باشا أحد أعضاء مجلس الأحكام بمصر وصاحب المآثر الكبرى على نشر الكتب على تأسيس جمعية عرفت بجمعية المعارف غرضها نشر الكتب النافعة وتسهيل اقتنائها وأنشأ هو مطبعة باسمه سنة 1285 لطبع تلك الكتب وهي من أقدم المطابع المصرية. على أن الجمعية كانت تطبع كتبها في مطابع أخرى وخصوصاً المطبعة الوهبية). والذي يستفاد من هذا النص هو أن المويلحي قد أنشأ مطبعة سنة 1285هـ أي حوالي سنة 1867 ميلادية، ولكن المطبعة شيء والجمعية شيء آخر، وأظن أنه من الطبيعي أن المطبعة لم تنشأ إلا بعد تأسيس الجمعية خصوصاً وأن الجمعية كانت تطبع في مطابع أخرى، والراجح أن اتفاق المويلحي مع عارف باشا كان على طبع الكتب التي تريد الجمعية نشرها في مطبعة المويلحي، ولقد تفادينا في المقال كل هذه التفصيلات التي لا تحتملها مجلة وأخذنا بخصوص مؤسسها برأي زيدان الذي صرح فيه أن المؤسس الحقيقي للجمعية كان عارف باشا، وأما عن تاريخ إنشائها فحيث أننا لم نستطع أن نجزم به فقد قلنا إطلاقاً إنه لا يرجع إلى أبعد من سنة 1860، وفي هذا ما يكفينا لنمضي في محاجتنا

هذه هي الوقائع التاريخية. وأما ما دون ذلك من الآراء التي أوردها الطالب الأديب، فهي لا تستحق المنافسة لأنها مبنية على عدم فهم لما ذكرنا أو خلط فيه لالتماس مجال للكلام. فالذي نقصده بأسبقية الشعر على النثر في النهوض قائم على الموازنة بين النثر الأدبي الفني والشعر في بدء النهضة. والنثر الفني الأدبي غير نثر الترجمة أو التأليف، بل إن هذا الأخير نفسه لم يتحرر من الزخرفة اللفظية إلا من عهد قريب، وعناوين الكتب التي ترجمت في عصر محمد علي ومن يليه بل والكتب التي ألفت كانت مسجوعة مثل (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) للطهطاوي ومع أنه كتاب ذكرياته عن مدة البعثة بفرنسا. وفي كتاب جواهر الأدب الهاشمي مئات من الأمثلة للنثر الفني الأدبي في ذلك العصر من رسائل شكر على هدايا إلى وصف لفصول العام إلى منظرات بين مدن القطر المختلفة مما يعرفه الجميع صبية المدارس القدماء، وأما عن الطهطاوي؛ فأنا لم أقل إنه أول من بعث القديم. بل قلت إنه كان يؤمن به ويدفع إليه بحكم ثقافته المستنيرة التي عاد

ص: 33

بها من أوربا، وهذا ما أقر به الطالب الأديب بعد أن نفاه

وأما عن المعلومات الكثيرة التي سردها الطالب الأديب عن الصحف والترجمة ففي الكتب الأكبر من مراجعه معلومات أكثر منها وهو يستطيع أن يعود إلى كتب برو كلمان وشيخو وزيدان وعبد الرحمن بك الرافعي وغيرهم كثيرين لينسخ صفحات مكدسة بأسماء الكتب والكتاب والصحف والصحفيين، ولا شك أن هذه المراجع أغنى من (المجمل)(والمفصل)، ولا شك أن وضعها في الهوامش يدل على علم أغزر واطلاع أوسع. وهذا لا ريب خير من المهاترة التي ضيعت على الطالب الأديب ما كنت أود أن أتبسط معه في شرحه وإيضاحه لو أنه قصد إلى فهم ما لم يفهم بدلاً من التخبط والتناقض الباديين في مقاله المضحك

محمد مندور

عمرو بن العاص

استعرض الباحث النابه الأستاذ سيد قطب في صحيفة النقد بالعدد 281 من مجلة الثقافة، مؤلف (عمرو بن العاص) للكاتب الجليل عباس العقاد؛ فجلا روائعه أحسن جلاء يستوجب جزيل الشكر وعاطر الثناء

ولقد رأى مخالفة المؤلف في عدّه عمرا من عباقرة الأخلاق لأنه لم يكن عظيما في أخلاقه، ولكنه لم يدعم ما ارتآه بدليل على أننا لا نظن أن شيئاً من هذا يجل عن أن يقف عليه أستاذنا العقاد ولو قد وقف لكان له من أخلاق عمرو موقفه الصائب الحكيم

ومما يشهد لعلم الإسلام بسمو سجاياه وجلال فضائله؛ قول إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن قبيصة بن جابر: صحبت عمرو ابن العاص فما رأيت رجلاً أبين منه قرآنا، ولا أكرم خلقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه.

دسوقي إبراهيم

تلاشي

أخذ الأستاذ الشيخ علي محمد حسن في عدد سابق من الرسالة، على بعض الشعراء استعماله كلمة (تلاشى) وذكر أنه لا يعرفها في لسان العرب

ص: 34

وطلع علينا العدد السابق بمحاولة يرمي الكاتب فيها إلى تصحيح هذه الكلمة، وكلها نقل عن مجلة المجمع من بحث للأستاذ الجليل النشاشيبي

وهي تدور على قطبين، أولهما وجود الكلمة في النهج، ونقل الشارح كلمة (لشا) عن بعض أئمة اللغة - فأما وجودها في النهج فإن أول من يدفع الاستشهاد بما فيه هو أستاذنا النشاشيبي، وأمر الخلاف فيه بيّن، ويكاد الإجماع الأدبي ينعقد على أن بعض ما فيه عن كلام الصدور بمنأى. وأما وجود (لشا) فغير مدفوع، بيد أنه لا يقتضي بحالٍ وجود تلاشي، والأستاذ خبير بأن جمهرة المزيدات غير مقيسة، ثم هذا التحول في المعنى ماذا أحلَّه - فإن (لشا) من الضعة والخسة، وأختها أو لصيقها (تلاشى) من الاضمحلال

والقطب الثاني هو ورود الكلمة في كلام المؤلفين الثقاة، ولكن متى كان كلام المؤلف - مهما كان موثقاً حجة ثبيتاً - قاطعاً في ثبوت كلمة لغوية، ودليلاً على أنها صريحة النسب في اللسان العربي

كثر أولئك الذين روي لنا عنهم الكاتب ناقلاً عن الأستاذ الجليل، ولكنها كثرةُ قِلَّةٍ لا تأتي بقطع دليل، ولا بغير برهان

وكأنها إلى معاونة النفي أقرب منها إلى مؤازرة الإثبات.

كامل السيد شاهين

المدرس بمدرسة رأس التين الأميرية

الاتحاد والحلول ووحدة الوجود

كثرت المناقشات حول وحدة الوجود في الأعداد السابقة من الرسالة الغراء، واتجهت في آخر كلمة للأستاذ الفاضل دريني خشبة إلى الرغبة في تحديد وجهة الخلاف وبيان مقدار سلامة أو عيب دعوى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود ولست أريد بهذه الكلمة الرد على الأستاذ دريني أو الأستاذ المفضال زكريا إبراهيم وإنما أقصد بها عرض هذه القضايا عرضاً موجزاً مع مناقشتها والرد عليها

فإن فكرة التصوف الأصلية بعيدة كل البعد عن ترهات الحلول وضلالات الاتحاد وظلمات الوحدة، فقد ظل مذهب التصوف غير مشوب بها إلى القرن الثالث حيث تمكن واشتد

ص: 35

اختلاط المتصوفة بغلاة الشيعة القائلين بدعوى الحلول فنقلها عنهم متأخرو الصوفية الذين قال بعضهم بأن السالك إذا أمعن وتوغل وجاهد فعبر (لجة الوصول) وانتهى سلوكه إلى الله وفي الله واستغرق في بحار التوحيد وكان صادقاً في هذا السلوك؛ فإن الله (عند أصحاب هذه الدعوى) قد يحل فيه!

هذا وقد ظهر الاتحاد والحلول عند النصارى فقد قالوا بأن الله تعالى ثلاثة أقانيم هي الوجود والعلم والحياة وهي ما يعبر عنها (بالأب والابن والروح القدس) وتفصيل ذلك معلوم

كما أن هناك جماعة من غلاة الشيعة، رأوا جواز ظهور الله في صورة بعض الكاملين من الناس وقدموا بطبيعة الحال سيدنا علي على سائر الكاملين، كما قدموا أيضاً أولاد سيدنا علي

ولئن فرض علينا التحقيق العلمي دراستها كتراث عقلي إنه ليفرض علينا أيضاً التأمل في بطلانها والرد عليها وإنا لنقول بصدد الرد على دعوى الحلول والاتحاد

إن الله واجب والواجب يتنزه عن صفات الحلول وأن الحلول محال على الله تعالى لأسباب كثيرة؛ ذلك لأن القديم يختلف عن الحادث لاختلاف الماهية في كل منهما وهذا الاختلاف يوجب استحالة حلول القديم في الحادث

ثم إن الله واجب الوجود، وهذا الوصف ينفي الحلول، لأنه في حالة حدوثه يصبح الحال تابعاً لما حل فيه كما يصبح معلولاً لهذا المحل ومتأثراً به، بل إنه ليصبح في غير الإمكان تصور الحال إلا بتصور المحل! وإذن ينتفي الحلول في هذه المرة كما استحال في الأولى

ثم إن الله واجب الوجود، والواجب ليس عرضاً أو ليس جوهراً. فإذا كان الحلول حلول عرض في جوهر؛ فلا يمكن بالنسبة لله تعالى لأنه ليس بعرض، وإذا كان حلول جوهر في جوهر؛ فلا يمكن أيضاً لأن الله تعالى ليس بجوهر

. . . هذا من ناحية الحلول، أما من ناحية الاتحاد؛ فكما تنزه الواجب عن الحلول، فهو يتنزه عن الاتحاد، لأنه لو حدث أن اتحد الواجب يغيره نتج عن ذلك حالتان: إما أن يبقيا موجودين، وإما أن يدركهما العدم معاً ويخرج منهما ثالث أو يدرك لعدم أحدهما ويبقى الآخر

ص: 36

ففي بقائهما موجودين: فهما إذاً في هذه الحال اثنان متباينان متمايزان، وهذا التمايز ينافي الاتحاد، لأن الاتحاد يستلزم أن يصبحا واحداً

وفي عدمهما معاً يبطل الاتحاد، لأن المعدوم لا يتحد بمعدوم، وفي حالة عدم أحدهما فقط فإن الاتحاد لم يتحقق أصلاً

أما وحدة الوجود فمذهب أحدثه في الإسلام متأخرو الصوفية المتكلمون فيما وراء الحس، وخلاصته أن الله تعالى هو الموجود المطلق وأن غيره لا يتصف بالوجود أصلاً، فلو قيل إن الإنسان موجود فمعنى ذلك عندهم أن له تعلقاً بالوجود وهو الله تعالى. وإن جميع العوالم سواء اختلفت أنواعها وتباينت أجناسها وأشخاصها موجودة من العدم، وإن وجودها هذا محفوظ عليها بوجود الله تعالى وليس بنفسها لأنها معدومة من جهة نفسها بعدمها الأصلي، ومن ثم فوجودها الذي هي به موجودة في كل هو وجود الله تعالى فقط، وإن الوجود الحق هو عين ذات الحق أي الله تعالى، وهو واحد لا ينقسم ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتنقل ولا يتغير ولا يتعدد أصلاً، ثم هو مطلق عن الكيفيات والكميات والأماكن والأزمان. . .

هذه خلاصة وحدة الوجود، وإننا لا ننكر كون العالم موجود بقدرة الله وإرادته، ولكن يجب أن نفرق بين وجود الله وهو وجود أزلي لا بداية له ولا نهاية، ووجود العوالم وهو وجود حادث له بداية ونهاية

ثم إننا أيضاً نسلم بأن وجود العوالم مسبب عن الله تعالى ولكن لنا أن نقرر أن هناك فرقاً كبيراً بين السبب والمسبب والعلة والمعلول

وأغرب ما في الأمر أنهم بعد أن أثبتوا أن وجود الله (لا ينمو ولا يتبعض ولا يتجزأ) أجاز لهم منطقهم بعد ذلك توزيع هذا الوجود على أفراد الموجودات، وحلوله فيها حلولاً أزلياً!!

وبعد: ففي هذا القدر الكفاية، وللأستاذ الفاضل دريني الشكر على غيرته، وللأخ الكريم الأستاذ زكريا الإعجاب بحيويته. ألهمنا الله الصواب

(الإسكندرية)

حسين محمود البشبيشي

ص: 37