الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 579
- بتاريخ: 07 - 08 - 1944
طفيليون ومقترحون
للأستاذ عباس محمود العقاد
لبعض الهيئات الإنجليزية نشرات دورية تصدر بأسماء الكتب التي تؤلف وتطبع في الموضوعات المختلفة شهراً بعد شهر وموسماً بعد موسم، وترسل إلى من يشاء في أنحاء الأرض للتوصية والانتقاء
في النشرة التي صدرت أول السنة الحاضرة أسماء كتب كثيرة في موضوعات مختلفة، منها كتاب بعنوان النسر والحمامة، من تأليف ساكفيل وست، يدور على ترجمة القديسة تيريزا راعية أسبانيا، وترجمة القديسة تيريزا الليزية الملقبة بالزهرة الصغيرة!
ومن هذه الكتب ترجمة لقارع الجرس البيروني الذي استطاع في القرن الثامن عشر أن يقفز في أسبانيا من قارع جرس إلى كردينال وأن يحكم البلاد الأسبانية بسلطان الدين والدنيا. وعدة صفحات الكتاب نحو ثلثمائة صفحة يباع بواحد وعشرين شلناً
ومنها ترجمة جديدة - شعرية - لقصيدة دانتي الشاعر الإيطالي عن الجحيم
وهذا بعض المحصول في شهر واحد من السنة الحاضرة فأين المقترحون يا ترى في البلاد الإنجليزية؟
مسكينة تلك البلاد التي لا تظفر بمقترح واحد من مقترحينا الذين يعدون بالعشرات.
فأول ما يخطر على البال أن نزود أولئك المساكين ببعثة من هؤلاء المقترحين يعلمونهم ما يكتبون وما لا يكتبون، ويذكرونهم أنهم في حرب زبون، وأنهم يضربون بالقنابل صباح مساء، وأنهم مواجهون بمشكلة التعمير في لندن والبلاد الإنجليزية، ومشكلة التعمير في أوربا والقارات الأخرى، ومشكلة البلاد الحرة والمستعمرات، ومشكلة النقد والتصدير والمعاملات بينهم وبين الدول كبيرها وصغيرها، ومشكلة التفاهم على توحيد الخطة بينهم وبين الروس والأمريكيين والصينيين، ومشكلة العمال ورءوس الأموال، والتأمين الاجتماعي، والتوفيق بين الديمقراطية وسائر المذاهب الاجتماعية نسى المساكين هذه الحرب الحاضرة التي يذكرها المقترحون الطفيليون عندنا ويذكرون بها الكتاب والمؤلفين
نسى المساكين أنهم في سنة 1944. للميلاد، وأنهم مواجهون بتلك المشكلات التي لا تواجه أمة من الأمم. فظهر بينهم من يؤلف الكتب في القديسات في البلاد الأجنبية، وعن قارعي
الأجراس في بلاد الأسبان قبل قرنين، وعن شعر رجل إيطالي ينظم القصائد قبل ستة قرون
وعندنا نحن في مصر ذخيرة كافية من المقترحين و (المهنكرين) الذين يقفون على أيدي المؤلفين ليعلموهم ما يكتبون وما لا يكتبون
فلماذا نبخل على الناس بحفنة من هذه الذخيرة الكافية تذكرهم ما نسوه، وتحاسبهم على ما فرطوا فيه، وتمر بالمداد الأسود على أسماء الكتب التي لا يجوز أن تكتب أو تطبع في سنة 1944، لأنها ترجع إلى موضوعات في سنة 1800 أو سنة 1300 أو ما قبل ذلك بزمن يقصر أو يطول؟
لسبب واحد يصح أن نبخل على الناس بحفنة من تلك الذخيرة الكافية، وهو أنها ذخيرة مستغنى عنها في الأمم الصالحة كل الاستغناء، فيوشك أن تعود في السفينة التي ذهبت بها إلى الديار الإنجليزية، لتقترح بيننا ما تشاء في البلد الذي يحب المقترحات ويكره الأعمال
الأمم الصالحة تستغني عن تلك الذخيرة كل الاستغناء، لأنها تعلم أن المعرفة مطلوبة حيث كانت، وأن التاريخ قد خلق ليكتب عن الماضي البعيد والقريب، ولولا ذلك لما خلق التاريخ، وأن المؤلف يحاسب بشيء واحد وهو إحسان ما يكتب وإتقان ما يطرق من الموضوعات؛ فإن أحسن فهو مقبول نافع، وإن كتب عمل قبل الطوفان؛ وإن أساء فهو مرفوض غير نافع، وإن كتب عن موضوعات يومه ساعة بعد ساعة، ولم ينتظر بكتابته عن اليوم موعد الغروب
الأمم الصالحة لا تفهم تلك البدعة الزرية التي تجعل العقول البشرية مرهونة بالأفران والمطابخ، فلا تفكر ولا تكتب إلا في الطعام والشراب يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام
وأقسم أن الذين يتفيهقون بتلك البدعة عندنا لا يفهمون كذلك ما يقولون، ولا يدرون أو لا يدري كثير منهم أنهم مسخرون لأغراض يساقون إليها وهم لا يشعرون
فالواقع أن الكتابة عن الماضي لا تبطل في زمن الأزمان، لأن الناس كانوا يعرفون أن التاريخ (ماض) حين اخترعوه وكتبوا فيه
وأن الكتابة عن النفس الآدمية وأسرارها في العظماء وغير العظماء تبطل في زمن
الأزمان، لأن التعريف بإنسان واحد هو تعريف بالنوع الإنساني كله من قديمه وحديثه وماضيه وآتيه، وهو معرفة ينمو بها العقل الذي تنميه كل معرفة في كل موضوع
ولكن الدعاة المغرضين للمذاهب الهدامة يكرهون الكتابة في بعض الأمور ولا يجسرون على الجهر بعلة الكراهة، لأنها تصرف عنهم الأسماع والعقول، فيحاولون الوصول إلى أغراضهم من طريق غير طريق العقول: من طريق المعدات والبطون
هاتوا الفتة! نحن لا نريد التاريخ ولا نريد النفس البشرية فتسمعهم البطون وإن لم تسمعهم العقول
أصحاب المذاهب الهدامة يكرهون الكتابة عن عمر ابن الخطاب وخالد بن الوليد وعن الأدب واللغة وتواريخ الأوطان وتواريخ الأديان
يكرهون الكتابة عن كل ما يحيى في الأمم نخوة وطنية أو نخوة روحية أو نخوة أدبية أو لغوية، لأنهم لا يريدون من الناس إلا أن يشعروا بطبقة واحدة تحارب جميع الطبقات ولا تجمعها بالآخرين جامعة دين ولا وطن ولا لغة ولا مطلب من المطالب الإنسانية التي تتجاوز الأجور والأسواق
يكرهون ذلك ولكنهم يخرسون دون الجهر بما يكرهون، فلا يقولون إنهم يكرهون الكتابة فيما يحيي الكرامة الوطنية أو الكرامة الروحية بل يصيحون: الفتة الفتة، والجوع الجوع، والحاضر الحاضر، لتعمى العيون وقت البطون كما يقولون
ومتى كانت (مشكلات اليوم) مانعة أن يفكر الناس في مقاصد المعرفة ومطالب النفس الإنسانية؟
ومتى كان الكلام في التاريخ وسير العظماء وأسرار النفس البشرية معطلاً لبحوث الزراعيين والصناعيين ودعاة الإصلاح الاجتماعي والعدالة الاجتماعية؟
هنا في مصر - ولا نقول في أوربا وأمريكا - تصدر بين الحين والحين كتب في الزراعة وتربية الحيوان ومستقبل النقد وقواعد المعاملات وأصول السياسة تزيد في العدد على كتب الأدب والتاريخ
فإن كان البحاثون الاقتصاديون لا يحسنون جمع الأرقام واستخلاص الحقائق التي يبنون عليها صلاح المجتمع المصري فقولوا لهؤلاء إنكم مقصرون وإنكم لا تكتبون فيما ينبغي
لكم أن تكتبوا فيه
قولوا لبائع الملابس إنك لا تأتي بالصوف الأصيل والقطن الجيد والكتان المتين، ولكن لا تقولوا للصيدلي أو بائع السكر إنك المسئول دون غيرك عن الصوف المصنوع والقطن المخلوط والكتان المدخول والتفصيل المعيب
أو قولوا إن كنتم مخلصين إن المعرفة مطلوبة وإن دراسة النفوس البشرية حسنة نافعة، ولكننا نحتاج إلى مؤلفين آخرين يكتبون فيما نقترح عليهم من المقاصد والأغراض
لكنهم لا يقولون هذا ولا ذاك
وإنما الشيء الوحيد (غير اللازم) عندهم هو الكتابة في إحياء النخوة القومية أو النخوة الروحية أو أن تجعل بين أبناء آدم آصرة غير آصرة الأجور والأسواق. وليكتب من شاء بعد ذلك فيما يشاء
ويأتي المقترحون الطفيليون عندنا فلا يكتبون ولا يدعون غيرهم يكتب فيما يحسن أو يدرس، ويحسن الناس أن يقرأوه
فإن كان بهم لاعج من الهم أن يبسطوا القول في الزراعة والصناعة ومعارض الثروة ومحصول القمح والبرسيم فما منعهم أن يبسطوا القول فيها ويعقدوا الفصول عليها ويملئوا المكتبات بمصنفاتها ومترجماتها وهم يحملون الأقلام ويسطرون؟
نحن في شهر أغسطس وفيه ذكرى سعد العظيم وهو رحمه الله لا يجهل هؤلاء المقترحين لأنهم عاشوا في زمانه كما يعيشون في هذا الزمان
ففي سياق الذكرى والعبرة نشير إلى كلمة له في هذا الصدد تأتي ولا ريب في أوانها المقدور
قال لي مرة: (إن آفتنا الكبرى ألا نحمل تبعاتنا وأن نحاسب غيرنا على واجباتهم ولا نحاسب أنفسنا على واجباتنا. ثم استطرد قائلاً: منذ نحو ثلاثين سنة دعونا بفراش مشهور طلبنا إليه أن يقيم سرادق عرس وأوصيناه أن يفرغ من إقامته قبل المساء. وفي عصاري اليوم مررنا بالمكان فإذا بالسرادق أكوام من الأخشاب والكراسي والثريات والمصابيح ولا سرادق إلا العمدان مفرقة هنا وهناك لا تؤذن بالانتهاء قبل أيام. . . ما الخبر؟ الخبر أن العمال اختلفوا في التنظيم والتقسيم فراح كل عامل منهم يشير على غيره بما يعمل وينتظر
هو تنفيذ الإشارة! واضع الكراسي يقول إنه لا يدري كيف يصفها قبل أن تقام العمدان، فيأمر من يقيم العمدان بأن يقيمها حسبما يأمره ويملي عليه! ومعلق الثريات في خلاف مع الاثنين يقول إن الكراسي ينبغي أن تصف هنا والعمدان يجب أن تقام هناك. . . ولو أقبل كل على عمله لانتهوا جميعاً واستطاعوا أن يفضوا فيما بينهم هذا الخلاف - 553 من كتاب سعد زغلول)
ونحن نعرف ما نصنع ونكتب ما نريد أن نكتب ونعرف لما نكتبه ونريده. فعلى غيرنا أن يلتفتوا إلى كراسيهم وثرياتهم وعمدانهم فيشتغلوا بها عن الاقتراح والإشارة وهم مكتوفو اليدين
أما الذين يتطاولون فيومئون إلى مكاسب الكتب فإنما نقطع ألسنتهم بكلمات معدودات لا نزيد عليها، وهي أنهم يعملون وغيرهم يعلم في أنحاء العالم العربي أن كاتب هذه السطور قادر على أن يكسب بقلمه أضعاف ما يكسبه من الكتب إذا سولت له نفسه أن يخدم الدعوات التي يخدمونها أو يخدمون أمثالها. . . وفي هذا الكفاية!
عباس محمود العقاد
3 - أحمد رامي
للأستاذ دريني خشبة
لعلنا لم نفاجئ أحداً بتلك الصورة الشاحبة التي حاولنا أن نرسم بها خطوطاً سريعة لقلب رامي. . . ذلك القلب الذي كان الناس يحسبونه خلق للفرح والمرح والغناء، والليالي الساهرة الطروب. فإذا هم يرونه قلباً ينضج بالآلام، ويفيض بالمآسي، التي استحالت في فم الشاعر شدواً حزيناً باكياً، وغناءً رقيقاً رفيقاً موجعاً. وإذا هم يرونه قلباً عالمياً يخفق بآمال الإنسانية وآلامها. يكلم الناي ويناجي البدر، ويتوجع للقيط، ويخاطب الطير، ويرثي للجمال الراحل، ويرق للغريب، ويندب حظ الهزار السجين، وينتفض لليتيم، ويفي للحبيب، ويأسى للزهرة الذابلة، ويخفق بجناح الرحمة فوق قبر الجندي المجهول
ونحن لا نعتذر عن هذه الصورة الشاحبة ما دامت هي الصورة الحقيقية لقلب رامي، وما دامت هي النبع الصافي الذي شاعت موسيقا خريره في أغانيه. في تلك السنين العشرين التي ظل رامي طوالها أسطع شاعر من شعراء الغناء في مصر، بل في العالم العربي كله
لم يطبع رامي من شعره الكثير الزاخر غير هذه الدواوين الثلاثة التي يجمع أولها شعره بين سنتي 1916 و1917، وثانيها شعره بين سنتي 1918 و1920، وثالثها شعره بين سنتي 1921 و1925. كما نشرت له سنة 1942 مجموعة من شعره لأغانيه. ويختلف الجزء الثالث عن الجزء الأول والثاني اختلافاً شديداً بيناً؛ إذ نرى الشاعر في أول الديوان يشكو عزوفاً عن قول الشعر. ونراه يحن إلى جنته الأولى التي طالما خفق فيها بجناحيه. وحلق فوق أفنانها يغازل الحور ويعب من الخمرة الإلهية. . . ونراه لا ينظم في العام الطويل العريض غير قصيدة واحدة أو قصيدتين يتشوف فيهما إلى عروس غابه التي كانت تلهمه وتوحي إليه. ثم صدت فجأة. . . وولت لا يدري إلى أين. . .
أين وحي الخيال والوجدان
…
يستقي منه خاطري ولساني
طال صمتي حتى خشيت على شعر
…
ي يفنى وخفت وأد بياني
أسكوت والكون جم المعاني
…
وسكون والنفس في ثوران
هذه نضرة الطبيعة تنثا
…
ل جمالاً على مُحيَّا الزمان
وحرام في ليلة البدر ألا
…
تسمع الأذن سجعة الكروان
وحرام ألا يُحيي طلوع ال
…
فجر طير الصباح بالألحان
وحرام ألا تميل غصون ال
…
روض في هبة النسيم الواني
لست أدري أأستحم لخطب الد
…
هر أم أنطوي على أحزاني
يا بنات الشعر انفحيني وغن
…
يني وهاتي من شيقات المعاني
ودعيني إما أنوح على ح
…
ظي وإما أبكي شبابي الفاني
لا أريد المضي عن هذه الدني
…
اولم تمتلئ ببث جناني
إن صعبا على المزاهر تبلى
…
لا تَناغَى على أكف القيان
وشديداً على النفوس مدارا
…
ة أساها بالصبر والكتمان
فاجعلي أنّي روياً فبعض الن
…
وح أشجى من مطربات المعاني
ودعي همسة الضمير تُدوّى
…
من عميق الآباد في الآذان
ربما شاق لحنها قلب محزو
…
ن وراقت ألفاظها سمع عان
كنت رطب اللسان ينطف منه
…
ريّق الشعر بين آن وآن
وإذا بي حرمت نفسي سلوا
…
ها وحرّمتها على إخواني
هذه أبيات من قصيدة جميلة لم يقل رامي غيرها في مدى ستة أشهر. وإليك أبياتاً من قصيدة أخرى لم يقل غيرها في مدى ستة أشهر كذلك:
إني لأخشى أن تموت عواطفي
…
ويجف ذاك النبع من أشعاري
وتقر نفسي بعد ثورتها فلا
…
يهتاجها شيء سوى التذكار
وترى مجال الكون عيني خالياً
…
من بهجة الآصال والأسحار
إني ليحزنني بقائي صامتاً
…
ولدي هذا الكنز من أفكاري
وأكاد أندب خاطري ومشاعري
…
وهما إلى نفائس الأذخار
في الشعر تأسائي وفيه رفاهتي
…
وإليه أشكو صولة الأقدار
فإذا سكت فقد حرمت شكايتي
…
ولرب شكوى نفست أكداري
ترى، لماذا صمت رامي هذا الصمت الذي أفزع خياله، وأرق شيطانه، وجعل عرائس الشعر تجأر بالشكوى من طول ما سكت البلبل؟! إن رامي يجيب على ذلك بقوله:
هل زال من دنياي حُسْنٌ هزّني
…
أم قرّ في قلبي لهيب نار؟
حب تضرم في حنايا أضلعي
…
فأصابه يأس بطول قرار (؟؟)
وبكيته حتى مللت بكاءه
…
فسكت منطوياً وحزني وار
وأردت أسدل فوق ماضي صبوتي
…
من طول أيامي فضول ستار
فإذا الحياة خلت من الحسن الذي
…
قد كان فيها متعة الأبصار
وإذا بها أقوت من المعنى الذي
…
قد راقني في سالف الأدهار
وإذا بقلبي في مناحي أضلعي
…
مثل الغريب غدار رهين سفار
مستوحشاً في مهمه متطاول
…
بعدت مطارحه على الأنظار
ويزيدنا علماً بمأساة قلبه، فيقول هذه الأبيات الخوالد:
لمن الغناء أقوله فأصوغه
…
من ادمعي ودمي وطيب سراري
ومن الذي يوحي إلى من الهوى
…
قبس الخيال، وصدحة الأوتار
ما أطلق الطير الصدوح بشدوه
…
مثل ابتسام الزهر والنوّار
أو نضر الزرع البهيج زهوره
…
كالشمس والماء النمير الجاري
أو أرقص البحر الخضم عبابه
…
كالبدر يشرق باهر الأنوار
الحب نبع الشعر منه تفجرت
…
عين المعاني والخيال الساري
الحب لحن النفس وقعه على
…
وتر القريض بنان موسيقار
الحب يفسح في الحياة مراحها
…
ويحفها ببدائع الآثار
فلرب ساعة خلوة هفافة
…
طالت عن الأجيال والأعمار
ولرب وجهٍ أبدعت قسماته
…
أبهى من الجنات والأنهار
ولربما فاقت مناجاة الهوى
…
معنى ومغزى ممتع الأسفار
ولرب ثغر باسم أحيا المنى
…
وأطارها في النفس كل مطار
هذا هو الحب الذي أشتاقه
…
فيهيج ساكن روحي الزخّار
ويمدّني بالشعر معنى سامياً
…
ويبث فيه جلائل الأسرار
وبعد. . . فنخشى إذا أطلنا الاقتباس على هذا النحو أن يخرج المقال مكتوباً بقلم رامي نفسه. . . وبعد أيضاً، فلنسأل رامي عن هذا الحب العجيب الذي تضرم في حنايا أضلعه، وبكاه حتى مل بكاءه، ثم سكت منطوياً عليه وحزنه وار، وأراد أن يسدل ستاراً على
ماضي صبوته، فلما فعل، وجد الحياة قد أقفرت من معناها الجميل الذي كان يروقه في الزمان الغابر. وإذا. . .
وإذا بقلبي في مناحي أضلعي
…
مثل الغريب غدا رهين سفار
مستوحشاً في مهمه متطاول
…
بعدت مطارحه على الأنظار؟!
ولله هذه الصورة الرائعة للقلب الذي أقفر من الحب، يصورها خيال رامي الشاعر المبدع الفنان! إنها لصورة تذكرنا بصورة صديقنا العبقري الدكتور إبراهيم ناجي، صاحب القلب:
الشهيد المتواري في الضلوع!
وهنا. . . يجب أن نقف قليلاً لنقذف في أسماع شعرائنا خاصة، وأدبائنا عامة، بذلك السؤال الذي طالما هممت أن أكتب في موضوعه كلاماً طويلاً لا ينتهي، أناقش فيه أولئك الشعراء والأدباء الحساب عن قصص قلوبهم، وأنباء حبهم؟
لماذا لا يصارحنا سادتنا الشعراء والأدباء بأنباء ذلك الحب الذي يخفونه عنا، وهم يعلمون أن:
الحب نبع الشعر منه تفجرت
…
عين المعاني والخيال الساري
والحب لحن النفس وقّعه على
…
وتر القريض بنانُ موسيقار
لماذا يتركنا سادتنا الشعراء والأدباء في ذلك الظلام الدامس من أنباء حبهم، ونحن لا نفتح كتاباً من كتب تاريخ الأدب في الشرق أو الغرب إلا ونطلع من أنباء غرام الشعراء والأدباء المفصلة تفصيلاً تاماً ظريفاً طريفاً ما نقف منه على أهم صفحة في كتاب حياة كل منهم؟ أي شاعر من شعراء العرب الجاهليين أو المخضرمين أو الإسلاميين أو الأمويين أو العباسيين لا نعرف قصة حبه رائعة مفصلة؟ وأي شاعر من شعراء الغرب لم تكتب عن أخباره الغرامية الكتب والمؤلفات؟ هل يعتبر شعراؤنا الخوض في أحاديث حبهم فضيحة؟ حبهم الذي أثمر لنا أشهى ثمار الشعر المصري الحديث، والقصص المصري الحديث، والأدب المصري الحديث؟
إن إمتاع رامي هذه الحقبة الطويلة عن قول الشعر بسبب نكبته في حبه الذي نجهل أخباره، يشبه إمتناع ناجي عن قول الشعر تلك الحقبة الطويلة التي تكلمنا عنها حينما كنا نكتب عنه، وذلك بسبب نكبته في حبه الذي نجهله كذلك، والذي أبى ناجي أن يحدثنا عنه
(لأن أوان ذلك لم يؤن بعد) كما قال لنا مرة ونحن نحاوره في ذلك:
لماذا نجهل حديث حب ناجي، ونحن نعلم حديث حب شلي؟
ولماذا نجهل حديث حب رامي، ونحن نعلم حديث حب قيس؟
ولماذا نجهل حديث حب علي محمود طه، ونحن نعلم حديث حب بودلير؟
ولماذا نجهل حديث حب العقاد ونحن نلم بأحاديث حب بيرون؟
وهذا الغزل الرقيق الذي يطرفنا به الجارم، ولا يزال يطرفنا به، حتى في المؤتمرات الطبية، ما خطبه؟ حب من هذه التي لا تزال توحي إلى أستاذنا الجارم هذا الغزل الراقص الرقيق يا ترى؟!
لماذا تعدون الكلام في أحاديث القلوب عيباً لا ينبغي، وأنتم تطرفوننا بكل هذا الغزل الجميل العلوي الخالد؟
لقد حدثنا العقاد في ساره أحاديث ملفوفة عن وقائع قد تكون فصولاً من كتاب حبه
ولقد حدثنا الحكيم في عودة الروح أحاديث مبرقشة عن وقائع قد تكون فصولاً في كتاب حبه، الذي ربما كان عصفور من الشرق وراقصة المعبد وبعض قصصه الأخرى فصولاً منه كذلك
ولقد حدثنا المازني أحاديثه عن مغامراته بمثل ذلك الأسلوب غير الصريح
أما الأستاذ عزيز أباظة فقد كان أصرح أدباء مصر الحديثة وشعرائها جميعاً، حينما صارحنا بقصة قلبه في ديوانه الباكي (أنات حائرة)
هذا سؤال ألقيه في جو مصر الأبي، وأرجو ألا يثير زوبعة!
وهذا سؤال ألقيه وقد أحسست بالشوك يدمي قدمي وأنا أسير في جنة حب رامي. . . هذا الحب الذي خاض الناس فيه كثيراً، ولم يعرفوا حقيقته إلى الآن.
دريني خشبة
وحدة الوجود
والأستاذ دريني خشبة في مقاله الثالث
للأستاذ معروف الرصافي
كتب الأستاذ دريني خشبة في مجلة (الرسالة) المصرية، أربع مقالات متتالية، تعقب بها (رسائل التعليقات) للرصافي، وفند بعض ما جاء فيها من أقوال. ونحن هنا لا نريد أن نعرض إلا لمقاله الثالث فقط المنشور في العدد 572 من الرسالة أما مقاله الأول والثاني والرابع فنضرب عنها صفحاً، لأنها خارجة عن حدود آداب البحث والنقد. والظاهر أنها مكتوبة لغرض آخر غير النقد لا نشك في أن الأستاذ خشبة يعرف حدوده فلا يتعداها، كما يعرف حقوقه فيرعاها، وواجباته فيؤديها؛ إذ وجه فيها إلى الرصافي تهمة هو بريء منها، ونسب إليه أقوالاً لم يقلها، وكل ذلك يدل على أنه لم يقرأ رسائل التعليقات، وإنما تصفحها سريعاً بلا إمعان ولا تثبيت، ولم ينقل عبارات الرصافي بنصوصها، بل ذكرها ناقصة مقتضبة ومشوهة واكتفى بالإشارة إلى عدد صفحاتها، ولا شك أن الناقد النزيه لا ينظر إلى المساوئ فقط، بل في المحاسن أيضاً، وقد تعمد في تعابيره القدح والشتم، مما لا يليق بأقلام النقاد العارفين، إلى غير ذلك مما يدل على أنه لم يقف فيما كتبه موقف الناقد، بل موقف الطاعن الحاقد، لسبب لا نعلمه نحن بل هو
وأما مقاله الثالث المنشور في العدد (572) من الرسالة؛ فإنه قد ترجم فيه للقراء أقوال القدماء من فلاسفة اليونان حول وحدة الوجود كما يزعم هو، ليثبت بها أن نظرية وحدة الوجود قديمة، وأنها ليست بإسلامية محضة كما يقول الرصافي
فعلى ذلك نقول: كان يجب على الأستاذ أن يذكر أولاً نظرية وحدة الوجود التي يقول بها أهل التصوف كما ذكرها وصورها الرصافي في رسائل التعليقات، ثم يأتي بعد ذلك بأقوال فلاسفة اليونان، لكي يعلم القراء أين تقع هذه الأقوال من وحدة الوجود التي ذكرها الرصافي، ولكنه لم يفعل ذلك، بل أهمل ذكرها، فكان، بسبب ذلك، قراء الرسالة في حكمهم كالقاضي الذي سمع رد المدعي عليه من دون أن يسمع دعوى المدعي ولا ريب أن ذلك مخالف لآداب البحث والنقد
ولنذكر وحدة الوجود التي ذكرها الرصافي في تعليقاته، ثم نذكر تلك الأقوال ونقارن بينها
لكي نرى أين هذه من تلك
وحدة الوجود عند الصوفية
يعبر الصوفية عن ذات الله (بالوجود الكلي المطلق اللانهائي) ويقولون بأنه لا موجود غيره، وأن هذه الكائنات ما هي إلا مظاهر وصور للوجود الكلي قائمة به، فليس لها وجود غير الوجود الكلي، ويشبهون ذلك بأمواج البحر؛ فكما أن الأمواج ليست سوى مظاهر وصور قائمة بالماء، وكما أنها لا وجود لها غير وجود الماء، كذلك هذه الكائنات بالنسبة إلي الوجود الكلي
هذا مجمل ما يقال في تصوير وحدة الوجود التي يقول بها أهل التصوف ويمثلونها بقولهم لا موجود إلا الله وهم فيها مستمدون من الآيات القرآنية، كما هو مذكور بالتفصيل في رسائل التعليقات
ما يقوله فلاسفة اليونان
لقد ذكر لهم الأستاذ خشبة أقوالاً كثيرة، وكلها بعيدة عن وحدة الوجود؛ فلا نعرض إلا لأقربها حوماً حول الوحدة التي يقول بها أهل التصوف، وإذا ثبت بطلان هذه ثبت بطلان غيرها بطريق الأولى فنقول:
ذكر الأستاذ في رقم (5) أقوال (أجرنوفانس) الذي دعا الناس إلى عبادة الله الواحد الذي ليس كمثله شيء، والذي تنزه عن الأعضاء فهو سميع كله سمع، وبصير كله بصر، وعاقل كله عقل. . . موجود في كل الوجود، إلا أنه كان يؤمن بأن الله (حال) في العالم، وأنه ليس شيئاً غيره. قال الأستاذ وهو في ذلك أول قائل بوحدة الوجود
فنقول إن القول بالحلول ينافي وحدة الوجود كل المنافاة، لأنه بحكم الضرورة يقتضي حالاً ومحلولاً فيه. فيكون الوجود وجودين، لا وجوداً واحداً. فكيف يكون الله حالاً في العالم، ويكون ليس شيئاً غيره
والصوفية ينكرون الحلول أشد الإنكار، ويرون القول به كفراً بوحدة الوجود، فالعالم عندهم ليس له وجود حقيقي غير الوجود الكلي فهو قائم به ومظهر من مظاهره ليس إلا، وكذلك الموجة في البحر، فإن الماء لا يكون حالاً في الموجة، لأن الموجة لا وجود لها غير وجود
الماء. فالوجود واحد، وهو وجود الماء، والموجة لا وجود لها وإنما هي صورة قائمة بالماء
فإن كان الأستاذ خشبة يرى قول هذا الفيلسوف اليوناني منطبقاً على وحدة الوجود، فهذه ليست بوحدة الوجود التي قال بها الصوفية في الإسلام
ثم نقل الأستاذ في رقم (10) بعض أقوال الذريين في فلاسفة اليونان، فذكر عن (أناجزاجوراس) أنه كان يقول بتعدد العناصر، وبوجود قوة عاقلة مدبرة حكيمة هي (العقل) تتولى تحريك تلك العناصر، وتوجيهها وجهة عالية صالحة تضمن جمال الكون ونظامه، إلا أنه يعتقد قدم العقل والعناصر على السواء، وأن أحدهما لم يخلق الآخر، وإن حرك العقل العناصر وألف معها وحدة الوجود
فنقول حق لنا أن نتمثل هنا بالمثل القائل: (صرحت بجدان)، فإن قول هذا الفيلسوف مصرح عن وجودين قديمين. فأي معنى يبقى لقوله في الجملة الأخيرة:(وإن حرك العقل العناصر وألف معها وحدة الوجود). وكيف يصح تأليف الوحدة من وجودين قديمين، وكيف يصح من الأستاذ أن يعتبر هذا الفيلسوف قائلا بوحدة الوجود. نعود هنا فنقول إن الصوفية يقولون بالوجود الكلي المطلق اللانهائي، وإنه لا موجود في الحقيقة سواه، وإن جميع الكائنات ليس لها وجود حقيقي مستقل عن الوجود الكلي، وإنما هي مظاهر للوجود الكلي، وصور قائمة به قيام صور الأمواج بماء البحر
نكتفي من تلك الأقوال التي ذكرها الأستاذ بهذين القولين تاركين التعرض لغيرهما، لأنهما يحومان بعض الحوم حول نظرية وحدة الوجود، وإن كان بينهما بون بعيد جداً
هذا ما نريد أن نقوله الآن للأستاذ خشبة، وقد بقى أمران لا بد من التعرض لهما، الأول أننا نرى الأستاذ خشبة في مقالاته يتهم الرصافي بأنه (يدعونا إلى دين جديد). فعلى هذا نقول:
إن الرصافي في رسائل التعليقات لم يجيء مقرراً لمبدأ، ولا واضعاً لمذهب، وإنما تكلم عن وحدة الوجود التي قال بها كبار الصوفية من قديم الزمان، فأوضحها وشرح غوامضها، وكشف النقاب عن وجهها، وهو في كل ما قال عنها منتهج مناهج الصوفية الذين يعبر هو عنهم (بفلاسفة الإسلام)،
سلوا من شتم ممن عرفوا الرصافي من قريب أو بعيد، هل ادعى التصوف أو هل تظاهر
به، فإنكم لا تجدون من يجيبكم بنعم. على أنكم لو كنتم قرأتم رسائل التعليقات بإحاطة واستقصاء، لعلمتم أن الرصافي يخالف الصوفية في بعض أقوالهم، وينكر عليهم بعضها، وإن وافقهم في كثير منها، لا سيما وحدة الوجود
فالرصافي لم يتكلم في رسائل التعليقات عن وحدة الوجود دعاية للتصوف، وإنما تكلم عنها بمناسبة مطالعته كتاب (التصوف الإسلامي) للدكتور زكي مبارك يقصد الاستفادة منه، لأنه منذ أيام الصبا مولع بمباحث التصوف، وإن لم يكن هو من الصوفية
وإذا كان هذا هكذا فماذا يريد الأستاذ بقوله إن الرصافي يدعونا إلى دين جديد، وأي دين يعني، وكل من قرأ الرسائل علم أن الرصافي غير داع إلى شيء، وإنما هو فيما كتبه هناك موضح وشارح ومفسر لا غير، ولكن الأستاذ أراد التهويل والتشنيع عند العامة فقال هذا القول المخالف للحقيقة من دون مبالاة، فالظلم غفرا
الثاني: يظهر من الكلمة الأخير التي كتبها الأستاذ خشبة في (الرسالة) رداً على رسائل التعليقات، أنه يتهم الصوفية أهل وحدة الوجود كلهم، لا الرصافي وحده، بأنهم زنادقة وأنهم إباحيون، وأنهم مثل القورينيين من تلامذة سقراط ينشدون اللذة، واللذة الجنسية الخسيسة على وجه الخصوص (وأنهم يقولون بأن الهداية والضلال واحد، وأن التقى والدعارة صنوان، وأن المصير واحد) إلى غير ذلك من الأقوال التي ذهبت مشرقة والصوفية مغربون، وهم منها بريئون، وعنها بعيدون
إن في هذه الأراجيف لدليلاً آخر على أن الأستاذ لم يقرأ رسائل التعليقات، بل مر بها الخطَفى، فثارت به حميته الدينية، لا ثقافته العلمية، فأخذ يقول هذه الأقوال جزافاً، ويرمي الكلام على عواهنه رمياً من دون تأن ولا تثبيت
ولننظر في الذي دعا الأستاذ إلى هذه التهم ما هو، فنقول: لما كان الصوفية يقولون، كل ما وقع في هذا الكون فهو حق، وأنه لا باطل إلا المحال كما هو مذكور في رسائل التعليقات، تساوت عندهم المتضادات، فالشر كالخير والضلال كالهدى كلاهما حق، لأنه واقع، ولو كان باطلاً لما وقع، لأن الباطل هو المحال الممتنع الوقوع. ولكن هذا التساوي في المتضادات، إنما هو بالنسبة إلى الوجود الكلي أي إلى ذات الله، لا بالنسبة إلينا، فذات الله في رأيهم لا يصدر عنها الباطل، بل كل ما صدر عنها فهو حق، وهم يستدلون على ذلك
بآيات من القرآن كما هو مذكور في رسائل التعليقات
فإذا كان الأستاذ خشبة ينكر عليهم هذا الرأي فما عليه إلا أن يذكر دليلهم، ثم ينقضه بدليل مثله أو خير منه، وأن يفسر لنا الآيات التي استدلوا بها تفسيراً يبطل به رأيهم، وحينئذ نشكر له ذلك شكراً جزيلاً، ويكون هو أيضاً في غنى عن اتهامه إياهم هذه التهم المنكرة بغير حق
ولا بد أن الأستاذ خشبة قد قرأ كتاب التصوف الإسلامي للدكتور زكي مبارك، واطلع على ما نقله عن الجيلي من أن الله هو الهادي وهو المضل، وأن الضال متحقق بصفة الضلال كما أن المهتدي متحقق بصفة الهداية، وأنهما أمام الله سواء، كما هو مذكور في رسائل التعليقات أيضاً. وهذا صريح في أن تساويهما إنما يكون أمام الله، أي بالنسبة إلى الله، لا بالنسبة إلينا
إلا أن الدكتور زكي مبارك حفظه الله لم ينتبه إلى أن هذا التساوي إنما هو بالنسبة إلى الله فقد، فلذا أخذ في كتابه يتخوف منه على الشريعة والديانة، والدولة والقوانين والأنظمة، بما هو مذكور في كتاب التصوف الإسلامي ولا حاجة إلى ذكره هنا. ونحن في رسائل التعليقات قد أوضحنا للدكتور زكي مبارك أن هذه المخاوف واقعة في غير محلها، بما لا حاجة إلى تكراره هنا
ولو أن الأستاذ خشبة قرأ رسائل التعليقات واطلع على ما كتبناه في رد هذه المخاوف، لما وجه هذه التهم إلى الصوفية الأبرياء، ولعلم أن القول بتساوي المتضادات، لا يصادم أحكام الشرع، ولا يستلزم الفوضى، ولا يجعل الدعارة في الناس كالتقوى، ولا الرذيلة منهم كالفضيلة، ولكن اتباع الهوى، هوى النفس هو الذي حمله على هذا التهويل والتشنيع، حتى نثل ما في كنانته في تهم منكرة على صدور هؤلاء الأبرياء
ومن المعلوم أنه قد انتسب إلى الصوفية في الأزمنة الماضية أناس ليسوا منهم، فكانوا ولم يزالوا في التصوف أدعياء، وبالصوفية لصقاء، وكثروا في البلاد حتى كانت لهم الزوايا والرباطات والخانقاهات، وانتشرت بدعتهم حتى كتب في ذمهم وتوهينهم ما كتب بعض المتحمسين من علماء الدين كابن تيمية وابن القيم وغيرهما
ولا ريب أن هؤلاء ليسوا من الصوفية في العير ولا في النفير، وقد تكلم عنهم الرصافي
في رسائله ونفاهم من التصوف، واستخرج نفاوتهم من الصوفية فرماها جانباً، وقال نحن إذا قلنا الصوفية فلا نعني بهم هؤلاء وإنما نعني بهم رجالاً من الأصفياء الأبرار، أولى النفوس الزكية والتفكير الحر، القائلين بوحدة الوجود
ولكن الأستاذ خشبة قد أبى ضميره المدفوع إلا أن يخلط هؤلاء بهؤلاء، ويجعلهم كلهم فئة واحدة، ويوسعهم ذماً وتعباً، لا سيما القائلين بوحدة الوجود، فإنه قد شدد عليهم النكير، وشنع عليهم قولهم بوحدة الوجود كل تشنيع، وعبر عنهم بالأنجاس، ولم يستثن منهم أحداً حتى الجنيد وأمثاله ممن تقدم عليه أو تأخر عنه. ولم يكتف بذلك حتى أخذ يذكر قراء الرسالة بما كتبه علماء الدين في الماضي من ذمهم وتوهينهم، كأن ذلك كأقوال القدماء من الفلاسفة اليونان، شيء لا يعلمه أحد إلا الأستاذ خشبة
ومما يدعوا إلى الحيرة والعجب، أننا لم نر في الأولين ولا في الآخرين من اتهم الصوفية بأنهم إباحيون يطلبون اللذة الجنسية الخسيسة في جميع أحوالهم، حتى جاء الأستاذ خشبة فافتأت عليهم هذا الباطل الذي ليس فوقه من باطل
إن الكلمة الأخيرة من الأستاذ خشبة قد هتكت لنا ستار ضميره، وكل ما قاله عن رسائل التعليقات يدل دلالة واضحة على أنه لم يكن ناقداً، بل كان مشوهاً ومشنعاً، فهل كان هذا منه بدافع من تحمسه الديني، أو كان بدافع آخر. وإلا فليس من آداب البحث والنقد، ولا من المعقول، أن يهرف (!) برسائل التعليقات كل هذا (الهرف!) من دون داع إليه
وآخر ما نقول، هو أن الرصافي إنما يكتب للحقيقة، لا لأغراض أخرى، فإن أصاب فلله المن والفضل، وإن أخطأ فأجره من الله مأمول، وعذره عند كرام الناس مقبول.
(الرصافي)
على هامش ذكرى المعري
(داعي الدعاة) مناظر المعري
للدكتور محمد كامل حسين
- 3 -
استجاب إبن صالح المرداسي صاحب حلب دعوة المؤيد؛ فدخل المؤيد حلب ومعه خزائن الأموال والسلاح والخلع ومكث مدة يستريح ويدبر أمر ما هو مقدم عليه، ثم أخذ يرسل الكتب إلى أمراء العرب والأكراد يستميلهم إليه وإلى المذهب الفاطمي ويدعوهم للقيام لنصرته ضد طغرلبك؛ فأستجاب له بعضهم مثل ابن مروان صاحب ديار بكر وابن الأحزم الخفاجي صاحب الكوفة وابن قائد صاحب واسط ووعدوه جميعاً بإمداده بالجند كما أقاموا الدعوة في بلادهم باسم المستنصر الفاطمي، وقد حفظ لنا المؤيد في سيرته نص رسائله إلى أمراء العرب وجوابهم له مما يجعل (السيرة المؤيدية) وثيقة تاريخية لها قيمتها لمن يدرس العالم الإسلامي في القرن الخامس من الهجرة
سار المؤيد ومعه خزائنه وجيوش ابن صالح حتى بلغ الرحبة حيث البساسيري وجيوشه، وخرج البساسيري ومعه أمراؤه للقائه، وفي ذلك يقول المؤيد (إلى أن لقينا أبو الحارث البساسيري والعسكر البغدادي على رحلتين من الرحبة، وإذا هم قد ضربوا مصافهم وضرب خيلنا مصافه؛ فرأيت العسكر تلاحق ميمنة نحو الجبل وميسرة طرف الفرات، وسمعت الأبواق تخرق الحجب بالأصوات، ورأيت أقطار الهواء كأنها صبغت حمراء وصفراء من أصباغ الرايات، ودخلنا الرحبة دخولاً عليه من آثار السعادة وسم، وتجاوزناها إلى شاطئ الفرات فنصبنا الخيام ووسطت جمعاً جمع كل قاطع زقاق، وكل جلال من الناس ودقاق، تراموا إلى تلك البقعة من كل آفاق تركي وكردي وعجمي على اختلاف الجنس وعربي من كل طامع ذي ناب من الطمع حديد)
أخذ المؤيد بعد ذلك العهود والمواثيق على الأمراء، وخلع عليهم الخلع الفاطمية النفيسة التي لم يشاهدوا لها مثلاً، ووهب كل فريق نصيبه من الأموال؛ فكان بعضهم يأخذ نصيبه شاكراً، وبعضهم كان يستقل القدر ويرده طمعاً في المزيد، وتذمر أكثر الجنود وطالبوا
بزيادة العطاء، وانتشر دعاة السوء بينهم، فحاول المؤيد أن يرضيهم بالحسنى فلم يوفق. وأخيراً اضطر إلى أن يأنبهم وأن يسامحهم باليمين التي أقسموها بين يديه وأظهروا أن الأمر إنما هو أمر الدين قبل كل شيء؛ فعادوا جميعاً يعتذرون إليه وجددوا اليمين بين يديه، وبعد أيام دعا أبا الحارث البساسيري وخلع عليه وقرأ عهده على الناس في يوم مشهود. ثم علم المؤيد أن نور الدين بن مزيد الأسدي وهو رجل العرب إذ ذاك وأكبر أمرائهم قد نقم على طغرلبك، فانتهز المؤيد هذه الفرصة وكاتبه ليحثه على اللحاق به والانضمام إليه؛ فذهب ابن مزيد إلى الرحبة ومعه جماعة من العلماء والأمراء، وأخذ يفاوض المؤيد في شروط الانضمام إليه وتحالفه معه، كما أوعز ابن مزيد للعلماء بمناظرة المؤيد أمامه في بعض المسائل الدينية والمؤيد مضطر إلى أن يصطنع الصبر، وأن يداهن ابن مزيد ومن معه، حتى قبل ابن مزيد بعد لأي أن يقسم يمين بين يدي المؤيد؛ فكتب المؤيد له العهد ولقبه (بالأمير سلطان ملوك العرب سيف الخلافة صفي أمير المؤمنين)، ومع ذلك كله أخذ ابن مزيد يطالب المؤيد بأمور من شأنها أن تقسم الجيش وتبعد ابن صالح والمؤيد يقابله بشيء من المكر والدهاء، ويحاول أن يسعى بين ابن صالح وابن مزيد، ولكن سعيه (كان سعي امرئ بين ضباع تتهارش، وذئاب تتجارح وتتحارش) فالجيش كما قلت كان من أجناس مختلفة ومذاهب متباينة تدب فيه روح التشاحن والتباغض، مما جعل المؤيد يصبح ويمسي في التوفيق بينهم، وفي ذلك يقول المؤيد (وكنت أصبح وأمسي في أثواب من انقطعت به الحبال، وضاعت على يده الأموال، وضاقت به من الهم السهول والجبال، غير أني أظهر في خلال ما أقاسيه جلداً، ولا أشعرت بحزازات صدري أحداً، وازداد الأمر سوءاً بورود نجدة من دمشق من بعض الأمراء الكلبيين الذين سرعان ما ضجوا وتذمروا زعماً منهم بأنهم جردوا على أن يشهدوا جيش القبائل العربية خارجاً عن جماعة الأتراك والأكراد، فاضطر المؤيد إلى أن يغريهم بالأموال الجزيلة، وأن يضاعف عطاءاتهم، فساروا مع باقي الجيش إلى أن ظفروا بالانتصار على جيوش طغرلبك في رمضان سنة 448 في موقعة سنجار، وهي الموقعة التي أشار إليها ابن حيوس الشاعر بقوله:
عجبت لمدعي الآفاق ملكاً
…
وغايته ببغداد الركود
ومن مستخلف بالهون يرضى
…
يذاد عن الحياض ولا يذود
وأعجب منهما سيف بمصر
…
تقام به بسنجار الحدود
بانتصار المؤيد في هذه الموقعة استطاعت جيوشه أن تدخل الموصل في شوال، واستطاع كذلك بعض الأمراء الذين ترددوا من قبل في محالفة المؤيد أن يسارعوا بالانضمام إليه وشد أزره، وأن يقيموا الدعوة في بلادهم باسم المستنصر الفاطمي صاحب مصر
ولكن الجيش عاد إلى الانقسام وأنفصل عنه بنو عقيل، وتبعهم عدد كبير، وانتهز طغرلبك هذه الفرصة فأسرع للانتقام منه، كما أن الكندري وزيره أخذ في الاتصال بالأمراء الذين انضموا للمؤيد، وأخذ الكندري يخدعهم ويمنيهم بالولايات المختلفة فاستجاب له بعضهم، ولما رأى البساسيري حالة جيشه اضطر إلى الهرب؛ فتشتت بذلك شمل جيش المؤيد الذي كان في الرحبة، وكان يظهر للناس جلداً ويشجعهم ويقوي من نفوسهم ويحاول لم شعثهم. أما في قرارة نفسه فكن كما وصف نفسه، (وأنا في باطن أمري متكفن متخبط أنتظر تخبط الأيدي لي من كل مكان، وأجمع أمري على أنه إن دهمني ما أحذره رميت بنفسي في جانب البر؛ فلا أزال أضرب فيه إلى أن يحضرني حاضر الجوع والتعب والعطش فأهلك، وإن أدركني طالب من جهة العدو أبيت أن أعطيه قيادي دون أن أقطع قطعه قطعة تفادياً من أن أقاد إليهم حياً). وأمر المقربين إليه بالابتعاد عنه، أو الهرب من الرحبة خوفاً عليهم من سطوات العدو. وأخيراً اضطر المؤيد نفسه إلى أن يهرب من الرحبة؛ فدخل حلب سنة 449 ومكث بها يترقب ويكاتب الأمراء والقواد، وفي حلب ناظر المعري في مسألة تحريم أكل اللحوم، وهي المناظرات المتداولة المعروفة. وسنتحدث عنها فيما بعد
أخذ المؤيد في إرسال الرسائل للأمراء يستميلهم إليه مرة أخرى، ويعدهم النصر على أعدائهم، وكان على صلة بالبساسيري الذي لم ييأس، بل جمع إليه بعض الجند، وكاتب المؤيد يطلب مقابلته دون أن يفطن أحد إلى هذا اللقاء، فتقابلا في دير حافر، (وهي قرية بين حلب وبالس)، واتفقا على الخطة التي يجب أن يسيرا عليها حتى ينجح مسعاهما. ثم جاء إلى المؤيد وفد من قبل إبراهيم بن نيال يطلب من الظاهر الخضوع لطغرلبك، وفي الباطن يطلب من المؤيد أن يخلع على ابن نيال، ويلقبه إذا غدر بطغرلبك، وشايع المؤيد وملك البلاد باسم الفاطميين، فرحب المؤيد بذلك، وأمر البساسيري بالرجوع إلى الرحبة،
وتمت المؤامرة بالنجاح، إذ استطاعت جيوش البساسيري أن تدخل بغداد سنة 450هـ. وأن يدعي على منابرها باسم المستنصر الفاطمي، وأن يأسر القائم بأمر الله العباسي، وأن يصلب ابن المسلمة وزيره عدو المؤيد القديم الذي أرسله الخليفة العباسي لأبي كاليجار البويهي لإخراج المؤيد من شيراز، وقد أظهر المؤيد شيئاً من الابتهاج بصلب هذا الرجل، وظهر ذلك في شعر المؤيد بقوله:
وعبوس يوم لابن عباس به
…
لاقى الردى متشخصاً لعيانه
إذ بات يعثر في ذيول مذلة
…
يعتاض ضيق الحبس عن إيوانه
وأرى على الصاري ابن مسلمة الذي
…
ضجت فم الإسلام من عداوته
فسقى الإله سجال رحمته ثرى
…
قبر ثوى فيه أبو عمراته
إن ابنه كم من مقام قامه
…
صعبا بثبت جنانه ولسانه
في رفع رايات النبي وآله
…
وضرابه لعداتهم وطعانه
واتجه المؤيد إلى مصر، وفي الطريق قابله صاحب البريد ومعه أمر من الوزير المغربي بأن يعود المؤيد إلى حلب؛ فدهش المؤيد من هذا الأمر وأخذ يفكر فيه، وأخيراً استقر رأيه على أن يواصل سيره إلى مصر، ولكنه فوجئ بأمر ثان كالأول فلم يأبه وواصل رحيله. فإذا بأمر ثالث مما جعل المؤيد في حيرة من أمر هؤلاء الذين يحاولون منعه من دخول مصر بعد هذه الخدمات التي أداها لهم، وبعد أن نشر دعوتهم وبسط سلطانهم في قلب أملاك العباسيين، بل بعد أن أزال سلطان العباسيين من عاصمة ملكهم وبعد أن أسر الخليفة العباسي نفسه، وبالرغم من وصول هذه الأوامر إليه فقد أصر على دخول مصر وخشي أن يتخذ في سيره إلى مصر الطرق المألوفة فيفاجأ بمثل هذه الأوامر، لذلك عمد إلى أن يتخذ طريقه في المجاهل، وسار إلى مصر متنكراً في رحلته إليها، كما جاءها متنكراً في رحلته الأولى، فما شعر به أحد حتى رأوه على باب القاهرة فأسقط في يد الوزير ولم يدر ماذا يصنع.
يخيل إليّ أن المؤيد لم يجد من الوزير المغربي ما كان أهلاً له وما يجدر بمثله، ولكن الوزير اضطر إلى أن يكل إلى المؤيد أمر الدعوة، وبذلك أصبح المؤيد حجة الدعوة وداعيها المطلق ولقب (بالرئيس الأجل عصمة أمير المؤمنين). وبذلك وصل المؤيد إلى ما
كانت تصبو إليه نفسه وبلغ أعلى درجات الدعوة الفاطمية فقد أصبحت مرتبته تلي مرتبة الإمام مباشرة، ولكنها مرتبة روحية قبل كل شيء، وليس لصاحبها أن يتدخل في شئون السلطة التنفيذية
ولا أستطيع أن أحدد المدة التي مكثها المؤيد في هذه المرتبة ولم يحدثنا أحد من المؤرخين عنه، ولم يحدثنا هو نفسه عن حياته بعد سنة 450 هـ، وكل الذي وصلنا أن الوزير عبد الله بن يحيى ابن المدبر (الذي تولى الوزارة مرتين إحداهما في صفر سنة 453 هـ وصرف عنها بعد شهور، والأخرى في ربيع سنة 455هـ وتوفي عنها في جمادى الأولى من هذه السنة) قد طلب إبعاد المؤيد من مصر ونفيه إلى الشام فسير المؤيد إلى الشام وعاد إلى مصر بعد مدة، ولا أدري متى كان ذلك، ولا أشك أن المؤيد أصبح له بعض النفوذ في مصر حتى خشي الوزير سطوته ونفوذه، فاقترح بإبعاده عن البلد ثم نرى بعد ذلك شيئاً من نفوذ المؤيد إذ تولى صنيعته وكاتبه ونائبه في ديوان الإنشاء أبو الحسن بن الأنباري الوزارة سنة 457 هـ ومع ذلك كله فحياة المؤيد بعد سنة 450هـ غامضة أشد الغموض إلا ما كان من أمر علاقته بقاضي قضاة اليمن لمك بن مالك الذي جاء مصر على رأس وفد من علماء اليمن ومكث في دار المؤيد خمس سنوات وأخذ عنه كل علوم المذهب الفاطمي، وعاد إلى بلاده يبشر بآراء المؤيد وعلومه، وسنتحدث عن ذلك فيما بعد. ولا تختلف المصادر في أن المؤيد توفي سنة 470 هـ ودفن في دار العلم بالقاهرة وصلى عليه إمامه المستنصر الفاطمي.
(يتبع)
دكتور
محمد كامل حسين
بكلية الآداب بالقاهرة
على هامش العرائس والشياطين
الطبيعة
في الشعر العربي والشعر العالمي
للأستاذ سيد قطب
أثارت مجموعة (عرائس وشياطين) التي اختارها الأستاذ العقاد من الشعر العالمي - وما زالت تثير - في نفسي موازنات شتى بين الشعر العربي والشعر العالمي في الاتجاهات العامة والخصائص الذاتية، وهذه الموازنات - كما قلت - ضرورية للجيل الجديد من الشعراء، يرى على ضوئها كيف يحسن أن يكون اتجاهه في الالتفات وطرائق التعبير، لا على سبيل التقليد والمحاكاة، ولكن على سبيل الاستفادة والتوجيه. ولهذا سأخرج في مقال اليوم قليلاً عن (العرائس والشياطين) فيما اختاره من النماذج العربية والعالمية
يخيل إليّ من مجموعة الشعر العربي أن (الطبيعة) لم تكن إلا قليلاً - متصلة بإحساس الشعراء العرب اتصال الصداقة والألفة - بله اتصال المجموعة الحية - فهي في الغالب صلة عداء يمثلها قول الشاعر:
وركب كأن الريح تطلب عندهم
…
لها (تِرَةً) من جذبها بالعصائب
وإن كانت هذه الظاهرة العامة لا تنفي الأحاسيس المفردة لبعض الشعراء حينما تختلف البيئة كقول حمدونة الشاعرة الأندلسية:
وقانا لفحة الرمضاء واد
…
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
…
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا
…
ألذ من المدامة والنديم
وكأبيات المتنبي المعجمة في وصف شِعب بوان وفيها ذلك البيت الجميل
يقول بشعب بَوانٍ حصاني
…
أمن هذا يسار إلى الطعان؟!
وظاهرة أخرى تغلب في الشعر العربي، وهي الإحساس بالطبيعة عند ألفتها كأنها منظر يوصف أو يلتذ، لا شخوص تحيا، وحياة تدب. والمواضع التي أحس فيها الشعراء العرب بالطبيعة هذا الإحساس الأخير تكاد تعد. فنحن إذا استثنينا - ابن الرومي - وكان بدعاً في
الشعر العربي كله، ولا نكاد نعثر إلا على أبيات ومقطعات يحس الشعراء فيها هذا الإحساس على تفاوت في قيمتها الفنية. نذكر منها على سبيل المثال قول مسلم ابن الوليد:
تمشي الرياح به حسرى مولهة
…
حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
وأبيات البحتري في وصف الربيع التي مطلعها:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
…
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقول ابن خفاجة الأندلسي في وصف جبل:
وأرعن طماح الذؤابة شامخ
…
يطاول أعنان السماء بغارب
وقور على ظهر الفلاة كأنه
…
طوال الليالي ناظر في العواقب
أصخت إليه وهو أخرس صامت
…
فحدثني ليل السري بالعجائب
وفيما عدا ابن الرومي وتلك الأبيات والمقطعات التي ضربنا لها هذه الأمثلة تكاد الطبيعة في الشعر العربي (تستعمل من الظاهر!)؛ فهي منظر جامدة للوصف الحسي والتشبيه بالمحسوسات، تعلو سلم الفن، حتى تكون كأبيات المتنبي في شعب بوان، وتسفل حتى تصل إلى تشبيهات ابن المعتز جميعاً!
وظاهرة ثالثة: هي أن الطبيعة في الشعر العربي قد تحيا وتدب ويحس الشاعر بما يضطرب فيها من حياة، ويلحظ خلجاتها ويحصي نبضاتها، كما يصنع ابن الرومي في بدائعه. ولكنه هو لا يندمج في هذه الطبيعة، ولا يحس أنه شخص من شخوصها وفرد من أبنائها، وأن حركته من حركاتها، ونبضه من نبضاتها، وأنه منها وإليها، وأحاسيسه موصولة بأحاسيسها
فأبن الرومي حين يقول:
لم يبق للأرض من سر تكاتمه
…
إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف وشى من أزاهرها
…
حمراً وصفراً وكل نبت غبراء
أو حين يقول:
برياض تخايل الأرض فيها
…
خيلاء الفتاة بالأبراد
منظر معجب تحية أنف
…
ريحه ريح طيب الأولاد
إنما يبلغ في هذين المثالين وفي غيرهما أبدع ما يبلغه الشعر العربي من الإحساس بحياة
الطبيعة، ولكنه يبقى في منتصف الطريق بين هذا المدى، والمدى الذي يبلغه الشعر العالمي عند بعض الأمم في الاتصال بالطبيعة اتصال الفرد بالأسرة والخلية بالجسم الحي، والذرة الصغيرة بالكيان الكبير
فها هي ذي الشاعرة الإنجليزية المعاصرة (روث بتر)، تقول في مجموعة العرائس والشياطين، للموت:
لا تناديني والصيف مشرق أيها الموت!
إنني في الصيف لن أجيب النداء
حين يوسوس العشب ويتمايل بأعطافه
لا ترفع إلى صوتك بالنداء من تلك الظلال السفلى
(حين يحن الصفصاف ويترقرق الماء
حين يتوانى الجدول وينعس الهواء
حين يتموج اللبلاب على الأسوار
لا تنادني. قلت لك لا تنادني أيها الموت في ذلك الأوان
إنك عبثاً تنادي وترفع الصوت بالنداء
ففي إبان الأزاهير النامية لن أصغي إليك)
(لكنني سأصغي إليك حين يتجرد كل حال وحالية
ومرحباً بدعائك حين ينتثر الورق من الشجر على ثراه
حين يسمع للسفوح فحيح في العاصف المهتاج
حين يشم الرعاة من الشرق رائحة الثلوج
حين يهجر الحقل للريح تتولى حصاده
حين يصبح الإعصار حطاب الوادي الذي يطيح بأعواده
حين يصبح البَرَد بذرة الأرض التي تنثرها السماء
حين ننفر من كل شيء ولا نتوق إلى شيء
ناد يومئذ يا موت ولك الإصغاء والترحاب
فيومئذ أسمع وأنهض وأمضي!)
وليس لدينا من الفراغ ما نقف على مواضع الجمال الجزئية في تصوير الطبيعة في الصيف إبان الحياة، وفي والشتاء إبان الموت، ولا في تصوير وسوسات الحياة ووساوس الموت هنا وهناك:(حين يوسوس العشب ويتمايل بأعطافه. وحين يحن الصفصاف ويترقرق الماء. وحين يتوانى الجدول وينعس الهواء)، أو:(حين يسمع للسفوح فحيح في العاصف المهتاج. وحين يصبح الإعصار حطاب الوادي الذي يطيح بأعواده. وحين يهجر الحقل الريح تتولى حصاده). . . الخ. فهذه جزئيات قد تخطر للشعر العربي، ولا سيما لابن الرومي
ولكننا نتجاوز هذا إلى الظاهرة الكبيرة الجامعة في هذه المقطوعة. تلك هي شعور الفتاة بأنها لا تستطيع أن تموت والطبيعة في فصل الحياة، ولن تلبي الموت إذا دعاها، لأن الطبيعة حولها حتى وهي خلية حية في هذه الطبيعة النامية. أما حين يدب الموت في الأم الكبيرة. فهنا يحس أبناؤها أن لا مانع من إجابة دعاء الموت، وذلك (حين ننفر من كل شيء ولا نتوق لشيء)، وحين يدب الموت من الداخل تسهل إجابة النداء من الخارج
وفي القطعة مجال لتصوير (المرأة) التي تحسب الموت طوع رغباتها ورغبات الحياة النابضة في قلبها كأمها الطبيعة، فهي تناديه أن ينصرف عنها الآن، كما تنادي الخطيب والحبيب في تمنع وإدلال! ولكننا معجلون عن الإفاضة في هذا إلى إيضاح الظاهرة الكبيرة الجامعة في قطعة أخرى لفتاة جديدة! (للورنس هوب) الاسم الرمزي لشاعرة إنجليزية معاصرة أيضاً!
إن رفيق الحياة يدعوها. . . وإنها لترغب في إجابة دعوة الحب والحياة، ولكن الطبيعة حولها حزينة والليلة شاتية، وإنها لتشعر أنها هي وهو وثمرة هذه الاستجابة إنما هم جميعاً خلايا في هذا الجسم الحي، وأن هذا الحزن الذي يدب في حنايا الطبيعة سيتسرب في (الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجدُّ فيها جثمانها). فتنشأ الثمرة وفيها من هذا الحزن قطرات. فلتؤجل الدعوة إذن إلى حين تكون الطبيعة كلها في فرح صبوح:
(لا. . . غير هذه الليلة!
إن المطر يقطر حزينا وانياً. . .
عبراتِ أسى تحت سماء شجية
وعلى البعد (ابن آوى) هزيل خافت العواء
يزيد الغسق وحشة وعزلة
(النهر الدافق يتقدم إلى البحر بهمهمة الشكوى
والظلال تؤوي إليها الوساوسَ الخفية
وعيناي ترنوان نحو عينيك ابتغاء عزاء
فتلقاهما الأهداب مبللة بالدموع
(إن الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجدْ فيها جثمانها
إن دخلتْ من خلال قبلاتنا إلى حظيرة الحياة
ورثت كل ما في قلوبنا من أسى
وكلَّ ما في المطر المنحدر من شجن مكظوم
(لا. حين تشتهي استجابة الحب الكبرى
أقبل إليَّ والصباح يرتع في الأنوار
والبلابل من حولنا مشوقة تصدح بالغناء
بين الورود من حمر وبيض
(وكذلك حين يقضي الله لي تلك الفريضة الحلوة القدسية
مذعنة لمشيئته الإلهية
كي أمنح الدنيا صورة من جمالك
لأسلمنها إذن إلى الدنيا ومعها فرحي فيك)
فهذه شاعرة وامرأة. يبدو في مقطوعتها طريقة إحساسها بفرح الطبيعة وحزنها، وتتبين الوشائج الحية بينها وبين هذه الأم الكبيرة؛ وهذه هي الظاهرة التي نريد إبرازها. ولكن هذا لا ينسينا أن نقف مرتين أمام موضعين من مواضع الإبداع في القصيدة:
الأول: طريقة الإحساس بحزن الطبيعة وفرحها: فالمطر (الذي يقطر حزيناً وانياً عبرات أسى تحت سماء شجية) يجتمع إلى (ابن آوى هزيل خافت العواء على البعد) فيزيد الغسق وحشة وعزلة. و (النهر الدافق يتقدم إلى البحر بهمهمة الشكوى) يجتمع إلى (الظلال تؤوي إليها الوساوس الخفية) وكلاهما يجتمع إلى (عينيها ترنوان نحو عينيه ابتغاء عزاء فتلقاهما
الأهداب مبللة بالدموع). ثم في الوجه الآخر: (الصباح يرتع في الأنوار. والبلابل مشوقة تصدح بالغناء) وكلمة (مشوقة) خاصة في هذا المكان إنها لوحة متناسقة الألوان أو سيمفونية متوافقة الألحان بين الطبيعة وأبنائها الجميع
والثاني: تلك الكناية الدقيقة البارعة عن (الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجدْ فيها جثمانها) وعن (استجابة الحب الكبرى) التي ترتفع بها وترتفع حتى تجعلها (الفريضة الحلوة القدسية التي يقضيها الله). إنها كناية امرأة. وامرأة تحب. وامرأة شاعرة تجتمع كلها في سياق!
وقد توجهنا حتى الآن في الموازنة بين الشعر العربي والشعر العالمي إلى شعراء الغرب في مجموعة (العرائس والشياطين) وبخاصة الشعراء الإنجليز، فلنتوجه نحو الشرق أيضاً في هذه الموازنة ففي الشرق البعيد، وفي مصر الفرعونية مثل نتقدم بها مطمئنين
يقول الشاعر الصيني (يوان مي) من شعراء القرن الثامن عشر الميلادي بعنوان (زهر الصفصاف):
(أزهار الصفصاف كنديف الثلوج. . . إلى أين؟
أين تمضي جموعك الضالة مع الريح؟
(قلما نبالي. وأقل من ذلك ما ندري!
إنما سبيلنا من سبيل الهواء
حياتنا في دوّاماته العاصفة
وموتنا في الهاوية هناك)
فهذا إنسان يحس بنفسه وبالناس كزهرة أو أزهار للصفصاف. (سبيلهم جميعاً من سبيل الهواء. حياتهم في دوّاماته العاصفة وموتهم في الهاوية هناك). فيزيد على إحساس الغربيين بالاندماج في الطبيعة، تلك الصوفية الغيبية، طابع الشرق الجميل العميق البسيط الذي لا يكاد يبدو في الشعر العربي
وفي المجموعة قطعة أخرى للشاعر نفسه فيها هذه الصوفية الرقيقة وبجانبها إحساس المودة الصادقة بينه وبين الطبيعة التي تداعبه نسماتها وترسل عليه زحاماً من العطور وتبسم في وجهه وهو لا يدري من زحمة العطور عليه عطر الورد من عطر البشنين:
(على ضفة الجدول الغربي
تطيف بي الأحلام في النسق المزنبق
وتداعبني نسمات الربيع
فترسل عليّ زحاماً من العطور
وتبسم في وجهي حين لا أدري
عطرَ الورد من عطرِ البشين)
ونتجاوز مجموعة (العرائس والشياطين) لنقع على أغنية مصرية قديمة حيث: (تدعو شجرة الجميز فتاة إلى موعد حب تحت ظلالها، واعدة أن تكون أمينة على أسرارها)!
وفي الموضوع كما ترى تلك الصداقة الحلوة بين شجرة الجميز وبين الحبيبين، حيث تشترك الطبيعة في مباركة الحب. فإذا أضفنا إلى ذلك أن شجرة الجميز كانت مقدسة عند المصريين لأن إلهة (الخصب)(حاتحور) كانت تسكنها وترسم مطلة بين فروعها، زاد الموضوع قوة. فليست الطبيعة وحدها هي التي تبارك الحب بل الآلهة أيضاً، وإلهة الخصب بنوع خاص!
وهذه المقطوعة مترجمة ترجمة حرفية ربما ذهبت بالكثير من جمالها ولكنها تفي بالغرض الموضوعي:
(غنت شجرة الجميز إلى فتاة جميلة
وكانت كلماتها تتساقط كقطرات الشهد
فأصبح الثمر الذي أحمله بلون الياقوت الأحمر
وكل ما في تعريشتي لأجلك
(إن أوراقي تزدان بلون خضرة البردي
وفروعي وجذعي لهما بريق عين الهر
تعالي تحت ظلي الرطب
ليستريح حلم قلبك الذي به تحملين
(سترسل سيدتي رسالة حب
إلى الشخص الذي سيكون سعيداً
قائلة: احضر إلى حديقتي قليلاً
واجلس معي في ظلي
سأجني لك الفاكهة لسرورك
وسأقطع الخبز وأصب النبيذ
سأقطف لك الأزهار النضرة
(في يوم هذا العيد السعيد
ستكون سيدتي وحدها مع حبيبها
آه. سأصمت عما أرى
ولا أتفوه بما سمعت!)
إن إحياء الطبيعة والاندماج في حياتها، كلاهما مرحلة بعد أخرى. وكلتاهما في حاجة إلى رصيد ضخم مذخور من الحيوية الباطنية. وقد كانت حيوية العرب حيوية حس تنفق أولاً بأول في الانفعال القريب والحركة المباشرة، والعمل المنظور. فلم يبق في نفوسهم ذلك الرصيد المذخور في الباطن للتأملات والتصورات، التي هي أعلى وأعز ما في الفنون. ولعل في هذا تعليلاً لعدم نمو القصة الفنية في الأدب العربي إلا على نحو قريب من الحكاية والخبر
والكلام في هذا الموضوع يطول. وليس هذا المقال موضعه على كل حال.
سيد قطب
من أدب الزراعة
الخط الأول. . .
لصاحب العزة محمد محمود جلال بك
لثمانية أعوام خلت كنت إذا مررت بناحية معينة من زراعتي أشعر فجأة بشبه صدمة يعقبها شيء من الاشمئزاز، إذ تقع عيني بين نضرة النبات على بقعة جرداء. وحتى في الأوقات التي لا تكتسي الأرض بحلة من زرع كنت أرى في لون التربة معنى من الجدب ولوناً من الإهمال. كنت أراها كالمن يفسد معروف الرجال، وتجاور هذه البقعة مقابر (الشيخ عطا)؛ فكأنما تفصل بين الدنيا والآخرة. وكم آلمني منظرها، والفلاح كالفنان يجد أذى في النشاز؛ فهذا يسره اتساق المزروعات مرأى، وذاك يكره تنافر الألوان، أو إهمال التنسيق في ناحية من تمثاله
وقلت مرة إن إصلاحها يأخذ بيد أهل الدنيا، ويرفه الجوار لسكان هذه المقبرة!. . . كان ذلك سنة 1936
ومنذ يومين مررت بها كأي مرور مما يحدث مرتين في الشهر على الأقل. ولكن ما أدري كيف سبح الخيال إلى عام 1936، ولمَ رجعت الذاكرة سراعا إلى ما كان؟!
نظرت فإذا الحقل ضمن زراعة القطن هذا العام، وإذا الحقل يمتد في نظام ونضرة واتساق إلى آخر حدود المقبرة!
تلفت إلى ناظر الزراعة عن يميني، وتلفت القلب إلى صفحات تنشر من عمر مضى، وكادت تشغل الصحف كل البال، وتغمر في طياتها الحاضر. ثم تيقظ العزم وتيقظ الحاضر؛ فتساءلت: أين القطعة التي عملنا على إصلاحها؟ قال: هي تلك! مشيراً بيده: انظر، لقد أصبحت أخصب ناحية في زمام القطن. . . المجاور!
وهل زرعت لحسابنا؟ قال: كيف! لقد تقاطر الراغبون حين فراغنا من عملية الإصلاح، وإني لأذكر كيف كانت مطمح النظر لأول (خط) رسمه المحراث فيها
وفي الشهر الماضي زرت صديقي وأستاذي صاحب الرسالة، وفي حديثنا أشار بلفظه العذب وأسلوبه الصافي عاتباً عليَّ انقطاع كتابتي قائلاً: أهكذا لا شيء من نظمك ولا شيء من نثرك؟ إني غاضب حقاً. لم يكن ردي اعتذار ووعد بإعادة ما كان بيني وبين الرسالة
ولست أخفي على قراء (الرسالة) أني تهيبت العودة إلى ساحتها، وكل ما فيها رشيق دقيق. تهيبت تهيب من يخشى لأمانته حسن قدره للأمور مع الرغبة في الوفاء
وقمت في بكور اليوم إلى مكتبي أسجل هذه السطور القليلة؛ ويقوي من عزمي ما أعلم من أن الأدب أوسع صدراً وأبر بمن ينسب إليه، أو يحاول قربه من أن يرده خائباً، أو أن يطوى عنه ستره
ومنذ سنة 1936 لم أكتب شيئاً، ومن العجب اتفاق التاريخين.
وما كدت أكتب السطر الأول في تعليقي على ما رأيت حتى ذكرت (الخط الأول) الذي أشار إليه ناظر الزراعة. فالخط الأول في كل سعي هو أشقه! أو لم يقبل الزارعون إثر الخط الأول في الحرث؟ وإذن فلتقبل معاني الأدب وعظاته ما تم الخط الأول في المحاولة
ومن أروع ما قرأت حكمة لأبي شرف الأندلسي عنيت بها قديماً، حتى نقشتها في رحبة داري وجعلتها خلف الباب، لتكون أمامي وأمام أولادي شحذاً للعزم، متى همّ أحدنا بالخروج. قال أبو شرف:(إذا خرجت من دارك، فقد قطعت ثلثي الطريق).
وإذن فالخط الأول. . . هو الخط الأول. . .
الشيخ عطا) في
5 شعبان 1363
25 يولية 1944
محمد محمود جلال
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
587 -
وبشرى به للقتيل الكفن
قال أبو الحجاج البلوى في كتابه (ألف با): أنشدني الشيخ الفقيه أبو محمد العثماني لبعض الشعراء يمدح أحد الملوك، وكان يرمي عدوه في حال القتال بسهام من ذهب!:
وقد صاغ من ذهبٍ نصلَه
…
فأبدى من المنّ ما لم يُمَنْ
يُداوي الجريح به جرحَه
…
ويشرى به للقتيل الكَفَنْ
588 -
حمق شاعر وسخف صوفي
في تتمة (اليتيمة): استصفع حيدر الخجندي بقوله:
ما إن سالت الله مذ أيقنت
…
نفسي أن الذل تحت السؤال
وإنما كتبته تعجباً من خرقه وحمقه في الترفع عما يدين به أفضل العالم وسيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونظيره في الجهل الكثيف والعقل السخيف - الصوفي الذي كان إذا ذكر الله (سبحانه) لا يقول: تبارك وتعالى، ولا عز وجل؛ فإذا قيل له في ذلك أنشد:
إذا صفت المودة بين قوم
…
ودام إخاؤهم سمج الثناء. . .
589 -
كتب الدولة وعرضها على أئمة اللسان والفتوى
في (طبقات الشافعية) للسبكي: كان إلى (ابن برِّي) التصفح في ديوان الإنشاء، لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفحه إمام من أئمة اللسان وكان (القاضي الفاضل) يتصفح الكتب التي يكتبها العماد الكاتب ومن دونه. وكانوا يستعظمون صدور كتاب عن السلطان غير معروض على أئمة اللسان وأئمة الفتوى
وفي (وفيات الأعيان): كانت وظيفة (ابن بابشاذ) بمصر أن ديوان الإنشاء لا يخرج منه كتاب حتى يعرض عليه ويتأمل؛ فإن كان فيه خطأ من جهة النحو واللغة أصلحة، فسيروه إلى الجهة التي كتب إليها، وكان له على هذه الوظيفة راتب من الخزانة يتناوله في كل شهر، وأقام على ذلك زماناً. . .
59 -
البخيل
في (بخلاء) الجاحظ، في رسالة أبي العاص بن عبد الوهاب الثقفي: البخيل عند الناس ليس هو الذي يبخل على نفسه فقط، فقد يستحق عندهم اسم البخيل ويستوجب الذم ولا يدع لنفسه هوى إلا ركبه، ولا حاجة إلا قضاها، ولا شهوة إلا بلغ فيها غايته، وإنما يقع عليه اسم البخيل إذا كان زاهداً في كل ما أوجب الشكر، ونوه بالذكر، واذّخر الأجر. وقد يعلق البخيل على نفسه من المؤن، ويلزمها من الكلف، ويتخذ من الجواري والخدم، ومن الدواب والحشم، ومن الآنية العجيبة، ومن البزة الفاخرة، والشارة الحسنة ما يربي على نفقة السخي المثري وجود الجواد
591 -
إذا ماتوا لم يخلفوا شيئاً
قال الصفدي: كان أبو الحسين بن السماك يتكلم على رؤوس الناس بجامع المدينة، وكان لا يحسن شيئاً إلا ما شاء الله، وكان مطبوعاً بالتكلم على مذاهب الصوفية فرفعت إليه رقعة فيها:(ما تقول السادة الفقهاء في رجل مات وخلف كذا وكذا) فلما فتحها ورأى ما فيها من الفرائض رماها من يده وقال: أنا أتكلم على مذاهب أقوام إذا ماتوا لم يخلفوا شيئاً
فعجب الحاضرون من سرعة جوابه
3 - السراب.
. .!
للدكتور إبراهيم ناجي
مر يومي كأمسه مسرحاً تُعْ
…
رَضُ فيه الحياةُ والأحياءُ
آدم كالقديم قلباً وتفكي
…
راً ولكنْ تَبَدَّلُ الأزياءُ
لم يَحُلْ طبعه ولا ذات يومٍ
…
لَبِستْ غير نَفسِها حوَّاءُ
النَّضارُ المعبودُ ربٌ وَمِحْرا
…
بٌ وقدسُ والشهرَةُ الجوفاء
والحُطامُ الفاني عليه اقتتالٌ
…
والأماني بَريقُها إغراءُ!
وسفينُ تمرُّ إثرَ سفينٍ
…
والرياحُ اللذاتُ والأهواء
والغيوبُ المُحجَّباتُ رِحابٌ
…
تعبتْ في رموزها الحُكماء
عندها المرفأ المؤمَّلُ والشَّطّ (م)
…
المُرَجَّى والصخرةُ الصماء
مرّ بي اليوم كاسفاً وأتى لَيْ
…
لٌ مُضيءٌ تُزَفُّ فيه السماء
قد جلت فيه عُرسْها كل نجم
…
قدحٌ يستحمُّ فيه الضياء
لم تزل تسكب السلاف والأق
…
داح فيها تجدُّدٌ وامتلاء
لم تزل! حتى هوَّمَ الحان نعسا
…
ن وأغفى البِساطُ والتُّذْماء
غير نجم في جانب الأفق يقظا
…
نُ له رونقٌ به وجلاء
ذاك نجم السعيدُ مِنِّي له الشو
…
ق ومنه الوميض والإيماء
كم أُغِّنيه بالحنين كما غَنَّ (م)
…
تْ على فرع غصنها الورقاء
وذراعاي في انتظار وصدري
…
فيه للضيق فرحة واحتفاء
موقداً للغريب نار ضلوعي
…
رُبَّ بالنار للغريب اهتداَء
قد سرى مُدْلجاً إليّ على خو
…
ف وبيني وبينه بَيْداء
كم دعوناه وهْوَ نور بعيدٌ
…
فاحتويناه وهْوَ جسم مضاء
كيف خلَّيْتَني وباعَدْتَ مَسْرا
…
ك وما لي إلى ذُرَاكَ ارْتِعاء
بالذي فيك من سنا لا تدعني
…
فيم هذا التسويفُ والإبطاء
ما تُراني وقد ذَهبتُ بخطى
…
أخطأتني من بعدك النَّعماء
وانتهى بعدك الجميل فلا فض
…
ل لمسْدِ ولا يَدٌ بيضاء
ومضى الحسن بعد بينك والإحس
…
ان طرَّا والغُرة السمحاء
حسناتٌ كانت يد الدهر عندي
…
فانطوت بانطوائِها للألأء
إبراهيم ناجي
تحية المعري
(ألقيت في مهرجانه الألفي الذي أقيم في حيفا)
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
سلام عليك حبيس الظلام
…
حليف العذاب، طريد القدرْ
على قلبك المبتلى بالشقاءِ
…
على روحك المضطرب المستعرْ
سلام عليك سلام الندى
…
إذا صافح الزهر غبَّ السحر
أمنطلقاً من قيود التراب
…
على حين يرسف فيها البشر
ومتخذاً عزلة المحبسيْن
…
صفياً يقيه أذاةً وشر
ويا من حييت بروح تأبى
…
على ربقة الجسد المنتصر
أجزْ برزخاً قام ما بيننا
…
وبينك وارفع كشيف السُّتُر
ومن عالم الغيب أشرف علينا
…
وبينْ لنا كنهه المستتر
وقل كيف بتَّ وراء الزمان
…
وهل طبت نفساً بذاك المقر
أما زلت تسعى وراء اليقين
…
فينأى به عنك عقل عسر
ظللت مدى العمر في أسره
…
وما قاد يوماً إلى مستقر
فكم حيرتك خبايا الغيوب
…
وأورثك الشكُّ سودَ الفكر
لقد فلسفتك حياة ألحت
…
عليك بآلامها - والغير
حياة تمرُّ على جانبيها
…
فهذا يُسيُّء وهذا يَسُرّ
طوت عنك وجه بشاشاتها
…
وأولتك وجهاً لها مكفهر
فأقفر قلبك وهو الخصيبُ
…
وعاف الرَّفاة وعاف الأشَرْ
عذرتك، ما أنصفتك الحياة
…
فكيف يطيب لديها العمر
وكيف يروق، ولا نفسَ تهفو
…
فتحنو عليك بقلب أبرْ
ويا باعث النور يهدي البصائر
…
ما ذاق نعمةَ نور البصر
تملَّ من السرمديَّ البقاءِ
…
ضياَء الأُلوهية المنتشر
ضياء يفيض الرضى والأمان
…
على من يحط رحال السفر
هنالك لا محنة تبتليك
…
ولا أنت تشقى بخط عثر
ويا سيرة تملأ الخافقيْن
…
فتعنو لديها كبار السير
حياة الفتى حلم ينقضي
…
وما العمر إلا خلود الأثر
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
البريد الأدبي
تعقيب على مقال
طلعت علينا الرسالة الغراء في عددها الـ 573 بمقال قيم للأستاذ عبد المنعم خلاف، عنوانه (دليل علمي يدحض مذهب وحدة الوجود)، ولما كانت بعض الآراء التي يحويها المقال المذكور تحتاج إلى مزيد من التمحيص والإيضاح رأيت أن أدل على ذلك باختصار في هذه العجالة
والذي يلفت النظر لأول وهلة قول الأستاذ في مستهل مقاله: إنه اهتدى إلى (دليل علمي قاطع يدحض هذا المذهب، ويلقي ضوءاً جديداً أمام العقل البشري الموغل في بحث علاقة الله بالكون) ومذهب الواحدية أو وحدة الوجود من أقدم المذاهب الفلسفية في العالم وأشدها إثارة للجدل. ويكفي لإدراك خطره في تاريخ الفلسفة الحديثة، أن نذكر الفيلسوف الكبير (سبينوزا) الذي يعد من أساطين هذا المذهب في العصر الحديث ومن أعظم الداعين إليه بالقول والعمل
فليأذن الأستاذ - ونحن من المعجبين بكتاباته - بأن نناقشه الرأي في هذا الموضوع الخطير، الذي لا يصح إطلاق القول فيه من غير حجة أو برهان
1 -
بدأ الأستاذ بقوله: (وبدهيّ أن النظرة الأولى تهدي إلى أن الله غير الطبيعة، وأن هناك انفصالاُ بين الخالق والمخلوق. . .) ونحن لا نوافق الأستاذ على أن هذه القضية من (البدهيات)، بل ينبغي أن تعد من مسائل الفلسفة الكبرى التي شغلت عقول المفكرين القدامى والمحدثين. . . وعلى أساس الحلول التي قدموها لهذه المشكلة قامت مذاهب لها أثرها في تاريخ الفكر - ومنها مذهب وحدة الوجود
ولعل أقرب دليل على أنها ليست أمراً (بدهياً) أن يعني الأستاذ خلاف بإيراد دليل علمي جديد لإثباتها
2 -
يقول الأستاذ خلاف: (ينبغي للمفكرين التجريديين أن يقتصدوا في تلك الفلسفات الفرضية والشطحات الصوفية. لأنها ذاتها (ذاتية) وليست (موضوعية). . .)
ونسائل الأستاذ مستطلعين لا منكرين: هل يجوز أن نصطنع الطريقة (الموضوعية) في بحث المسائل الدينية؟ ألا يمكن أن تؤدي بنا هذه الطريقة إلى نتائج تشبه ما توصل إليه
(رينان) في بحثه القيم المعروف؟ أم ترى ذلك صحيحاً بالقياس إلى الدين المسيحي، وليس يصدق على الدين الإسلامي؟
3 -
أما الدليل العلمي الذي يدحض به الأستاذ مذهب وحدة الوجود. فخلاصته:
(أن العقل البشري تسلط باللاسلكي وتحكم به في الآلات وإدارتها ورصدها من بعد شاسع. كما نرى في (الرادار) وغيره (وعلى هذا الأساس) يجوز أن تقاس علاقة الله بالكائنات، وبذلك تحل المشكلة التي خلقتها عقول (أصحاب) مذهب وحدة الوجود)
وهذا التعليل (العلمي) طريف ولا شك، ولكنه متهافت قليل الغناء. ألا ترى أنه يوقع الأستاذ خلاف - وهو المؤمن المخبت لله - في ورطة أخرى لا قبل له بها، هي (التجسيم والتشبيه)!
وإن كان (ماركوني) قد أضاء مكاناً في أستراليا وهو في أوربا، كما يقول الأستاذ. فالعلم الحديث يفسر هذه الظاهرة تفسيراً مادياً بحتاً. . . ومَثلُ (ماركوني) في ذلك مثل الذي يوقد ناراً بحجرين يصك بعضهما ببعض. وحاش لله أن يتصل بنا على هذا الوجه المادي الغليظ. . .
4 -
ويقول أخيراً: (ينبغي للمفكرين أن ينادوا معنا إلى الصوفية المادية). فما الصوفية المادية التي يدعو إليها الأستاذ؟ فإن رأى الأستاذ خلاف إيضاح ما سبق على صفحات الرسالة الغراء، ليعم به النفع، ويرتفع اللبس، كنا له من الشاكرين.
(بغداد)
صدقي حمدي
حول أغلاط
أخذ الأستاذ (علي محمد حسن) في عدد ماض من الرسالة على الدكتور ناجي بعض أغلاط قصيدته (السراب) أحببت أن أصحح بعضها فيما يلي:
1 -
لعل البيت المكسور ينقصه كلمة (عندنا) فيكون هكذا:
اسمك العذب عندنا أروع الأسماء
…
مهما تعددت أسماء
وبذلك يكون صحيحاً
2 -
(الصدفة) كلمة لغوية بالرغم مما شاع من عدم لغويتها، فكثير من المعاجم وكتب اللغة كاللسان أوردها. وفي حديث أبي ذر (والبر ما حاك في النفس ولم تلده صدفة) وقال أبو دهبل الجحمي:
فطوراً أمني النفس لقياك صدفة
…
وطوراً إذ ما لج بي الحزن أنشج
أما (الهناء) فلم أعثر عليها إلا في قول الشاعر:
هناء محا ذاك العزاء المقدما
…
فما لبث المحزون حتى تبسما
3 -
يوصف الجمع أحياناً بوصف المفرد، وخاصة فيما كان مفرده على أفعل مذكر فعلاء (المغني والأشموني) كأهوج وهوجاء وأسود وسوداء
قال جرير:
وجوههم السوداء جهم كأنها
…
ظرابي غربان بمجرودة محل
4 -
أما الأبد عند الدكتور ناجي، فلم يخرج عن الزمن عند اللغويين، ولكنه زمن الشاعر الذي يتجسم في خياله المعنى والزمن كأنه محدود.
عبد الحميد ناص
مدرس بكلية اللغة العربية
الخوارزمي
جاء في مقال الأستاذ منصور جاب الله المنشور في العدد 575 من الرسالة ما يأتي:
(كان القدامى يعدون الأديب أديباً بكثرة حفظه، على حين أن كثرة الحفظ لا تجعل من الإنسان أديباً، وإنما تخلق منه (راوية). وليس أدل على ذلك من أن الخوارزمي الذي صدرنا بحكايته هذا الفصل قد هزم هزيمة نكراء حيال بديع الزمان الهمذاني، وهو الشاب الحدث هزيمة اختصرت حياته)
ولا أريد أن أستعرض مع الأستاذ ما كان يراد بكلمة (أديب) في العصور المختلفة، ولا أن أناقشه في أن القدامى لم يطلقوا هذا اللفظ على الخوارزمي لكثرة حفظه فحسب، وإنما رأوا مع ذلك فيه الشاعر الناثر، لست أريد شيئاً من هذا، وإنما أريد أن أرفع عن أبي بكر هذا الظلم الذي لحقه طوال هذه القرون
فالخوارزمي لم يهزم في هذه المناظرة من ضعف أو تقصير، ولكننا نجمل أشياء لعلها ترفع عنه هذا الحيف:
(1)
انفراد البديع برواية هذه المناظرة، وهو شاب حدث يطلب الشهرة؛ فمن شأنه التزيد والادعاء
(2)
استغل البديع قبل المناظرة سيداً شيعياً من المحكمين مدحه بقصيدة. ثم ادعى على الخوارزمي كرهه للشيعة الخوارزمي مبغوضاً من وجوه القوم في نيسابور البلد الذي جرت فيه المناظرة.
(4)
استعان البديع بفتائه وحداثة سنه وميل الحاضرين إليه فهوش وشوش، ولعل الخوارزمي استصغر هذه الأمور فكف وعف
(5)
وعلى فرض أن الخوارزمي هزم حقيقة في هذا الصراع. فالمعروف أن المناظرة لم تكن في أمور أدبية ذات بال، حتى يستدل بذلك الأستاذ على ما دعاه
هذا مجمل موجز لهذا الموضوع أحببت به أن أنبه الأذهان إلى الحق في هذه المناظرة التاريخية المشهورة
على محمد حسن
مدرس بالأزهر
(وجيدة) للأستاذ شعبان فهمي
تفضل الأستاذ شعبان فهمي المحامي فأهداني قصة (وجيدة) التي قامت بنشرها جماعة نشر الثقافة بالثغر الحبيب؛ فأخذت أنقل البصر بين صفحاتها، وأرسل الفكر وراء لفتاتها؛ فما وجدت فيها غير حيوية تفرض عليك شخصية المؤلف الفاضل في رفق وأناة في غير ما مبالغة في التصوير ولا اضطراب في الوحدة القصصية
القصة صورة واضحة التقاسيم، باسمة الألوان التي تصور البيئة التي أنبتت بطلها ووجد فيها منازع تصوره ومطارح هواه ومهابط إلهامه، وهي فوق ذلك توشك أن تكون طبيعة صادقة تزخر بالآمال والأحلام وتموج بالأشجان والآلام، وقد نلمس آثارها في كل صفحة بل في كل كلمة من كلماتها. ولقد صدق الدكتور (المرحوم) إسماعيل أدهم حين قال إنها قد
تكون أول قصة مصرية طويلة تنبع من أصول مصرية وتفيض بمشاعر مصرية
وبعد، فليس بغريب أن تكون القصة على هذه الحال من الكمال في الوحدة والسهولة في العرض والصدق في التعبير فصاحبها الصديق الفاضل تجري في دمائه الروح القصصية، بل إن ثقافته القانونية لتفرض عليه ذلك.
(الإسكندرية)
حسين محمود البشبيشي