الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 58
- بتاريخ: 13 - 08 - 1934
ذكرياتنا القومية
تعاودنا في كل عام بعض الذكريات الأليمة التي يغص بها تاريخنا الحديث؛ وفي الأمم المغلوبة التي سلبت أعز ما تزهو به الأمم، أعني حرياتها القومية، تنسخ الذكريات الأليمة كل ماعداها من ذكريات الفخار والمجد؛ وإذا أتيح لها يوماً أن تحتفل بإحدى هاته الذكريات المجيدة، فان محنتها الحاضرة تكدر دائماً صفاء شعورها القومي، وتذهب بكل ما يمكن أن تأنس به من كبرياء وغبطة وفخار.
وقد مرت بنا منذ أسابيع قلائل بعض هذه الذكريات السود في تاريخنا: حوادث الإسكندرية المشئومة في 11 يونيه؛ وضرب الأسطول الإنجليزى للإسكندرية في 11 يوليه؛ وستحل بعد أسابيع قلائل ثالثة الذكريات المفجعة، أعني تمام احتلال الإنجليز لمصر في 15 سبتمبر؛ ومنذ عامين كان قد انقضى على ضياع الحريات القومية وقيام الاحتلال الأجنبي في مصر خمسون عاما. فكيف نستقبل هذه الذكريات المؤسية في تاريخنا القومي؟ وماذا نفيد منها من عظات وعبر؟
الواقع أننا لا ننسى هذه الذكريات التي تعاودنا كل عام، وينبهنا إليها دائماً استمرار المحنة واستمرار الاعتداء على حقوقنا وحرياتنا. وقد تكون الذكرى وحدها فضيلة. ولكن الذكرى المجردة لا تكفي دائما للإفادة من عبر الحوادث وتغذية الشعور القومي وإذكاء الهمم للنضال في سبيل استرداد الحقوق المسلوبة. وما الخير في أن نستقبل هذه الذكريات كل عام بعدة فصول ومقالات في الصحف تكاد تتفق دائماً في ألفاظها ومعانيها: بكاء على الماضي، ورثاء للاستقلال الذاهب، واستنكار للاعتداء الواقع، وتنديد بنكث المعتدي، وتشهير بأساليب الاستعمار؟ هذا ما نقرأ دائماً في صحفنا في هذه المناسبات، وهذا كل ما نفعل لاستقبال ذكرى الحوادث والخطوب التي ذهبت بحرياتنا واستقلالنا. وهذا حسن بلا ريب؛ ولكنه لا يكفي لتحقيق الغاية القومية التي يعلق تحقيقها عليه.
وليس هنا مقام تفصيل ما يجب أن تعمله أمة كأمتنا في مثل هذه المناسبات. ولكن الجهاد السلمي لإحياء الشعور القومي، وإعداد الأمم للنضال في سبيل استرداد حقوقها متعدد الوسائل والصور. وترديد النواح والعبارات المؤثرة لا يفيد شيئاً في سبيل استقلال الأمم؛ وإنما يفيد أن تثير دعوة مقنعة لبيان حقك، وأن تتخذ هذه المناسبات لتنظيم جهود سلمية جديدة، سياسية أو اقتصادية في سبيل الكفاح القومي؛ وأن تعقد الاجتماعات والمحافل
السلمية، وأن تنظم الاحتجاجات بالقول والفعل، وأن تلقى رسالة المستقبل إلى الشباب بطريقة عملية؛ ويحسن أن يدوي صدى احتجاجك في الخارج، في جميع أنحاء العالم، فقضايا الأمم المغلوبة دائماً بحاجة إلى التعريف، وقد يلقى التعريف أحياناً شيئاً من التأييد أو العطف في ثنية الضمير الدولي. ومن جهة أخرى فان هذه المناسبات يمكن أن تتخذ ذريعة حسنة للقيام ببعض الأعمال والمشاريع الوطنية النافعة، فتكون دائماً رمزاً عملياً لإذكاء الشعور القومي.
ونود بهذه المناسبة أن نشير إلى نقطة أخرى جديرة بالتأمل، ذلك أننا نشهد في مصر احتفال بعض الأمم الغربية بأعيادها القومية؛ ومن هذه الأمم من تسيطر بقوة الغصب والاستعمار مع شعوب عربية وإسلامية شقيقة، وتسومها أمر ضروب الاضطهاد والذلة، ففي مثل هذه المناسبات نجد بكل أسف صحفنا ومجلاتنا تشيد بأعياد هذه الأمم المستعمرة وتشاركها في الاحتفاء والابتهاج. خذ مثلا عيد 14 يوليه الفرنسي الذي يزف إلينا دائماً بأنه عيد الحرية والإخاء الإنساني، وتأمل كيف تفيض صحفنا كل عام في الإشادة به وبآثار الحوادث التي ارتبطت به في تحطيم صروح الظلم والاستبداد، وكيف يشترك كثير من شبابنا الأغرار في الحفلات التي تقام لهذه المناسبة، وكيف ينسى هؤلاء وهؤلاء أن هذه الأمة التي تتغنى بنشيد الحرية والإخاء والمساواة، هي نفس الأمة التي تفرض نير الذلة والاستعباد على ملايين المسلمين، وتعصف سياستها الاستعمارية الحديدية بدينهم ولغتهم وكل تراثهم القومي؛ هذا بينما يقضي الواجب الوطني وواجب التضامن الإسلامى أن نقف دائماً من هذه المناسبات موقفا سلبيا، بل أن نذكّر هذه الأمم الاستعمارية بما في دعواها من تناقض، وبأن الأمم المغلوبة لا يمكن أن تؤمن بنداء الحرية، وهي ترى أن أولئك المنادين به هم نفس الجناة على حرياتها واستقلالها.
إن تقدير الذكريات القومية، وتنوع الاحتفاء بها، وحسن الاستفادة منها، من شواهد اليقظة القومية؛ وإن المتغلب المستعمر لا يفوته أبداً أن يلاحظ هذه المواقف في حياة الأمم المغلوبة لأنها في نظره مقياس للشعور القومي؛ وهو أشد ما يخشى هذا الشعور وأحرص ما يكون على محاربته وإخماده، وإن كثيراً من الخطط والوسائل التي يدبرها الغالب لتثبيت نيره أو مصانعة فريسته يتوقف على مبلغ ما يأنسه فيها من قوة الشعور القومي أو ضعفه، ومن
الأسف أننا نجوز مرحلة فتر فيها الشعور القومي، وفترت فيها قوة المقاومة؛ فلنعمل بكل ما وسع الجهاد المشروع لإذكاء هذا الشعور، ولنلتمس دائما لإذكائه ذكريات المحن القومية، فالمحنة تشحذ همم الأمم الحية، والشعور القومي لا يكفي في تغذيته أن تردد الفصول الفاترة المتماثلة كل عام، والحريات لا تغنمها إلا شعوب فياضة الوطنية، فياضة الشعور بكرامتها.
(ع)
-
حول الحر
للأستاذ أحمد أمين
اشتد الحر وشغل الناس بالتفكير فيه، وبطرق التغلب عليه، وبالتأفف منه، فهذا يدبر المال للإقامة في مصيف فيوفق ويرحل، وهذا لا يواتيه المال فيقيم على مضض، وهذا نزاع عائلي بين ميزة الاصطياف في أوربا والاصطياف في الإسكندرية، وهذا غني أفلس يأتي عليه الحر فيذكره بأيام هنية قضاها في أجود المصايف وأنزه الأماكن، فتجتمع عليه لذعة الحر ولذعة الذكرى - وهذا بائع المرطبات والمبردات يسأل الله أن يزيد في الحر حتى يكثر بيعه، ويزيد ربحه؛ وهذا يرقب درجة الحرارة من حين لآخر ليعلم أتحسن الجو أم ساء، وهو يتبع المقياس في رضاه وسخطه، وهذا يقرأ نشرات مصلحة الطبيعيات ليقارن بين القاهرة والإسكندرية، والقاهرة وبور سعيد، فإن كان في الإسكندرية رثى لمن في القاهرة، وإن كان في القاهرة حسد من كان في الإسكندرية؛ وإن كان في أسيوط عزى نفسه بقلة الرطوبة وجفاف الهواء؛ ومن كان في مصر كلها حمد الله على أنه ليس في أمريكا حيث يختنق الناس - وهذه شغلها التفكير في المقارنة بين حمام ستانلي وسيدي بشر: أيهما أكثر ناساً، وأنظف مرتاداً، وأحسن للعرض وأمتع للنفس. وهذا يرتقب غروب الشمس التي تكويه بنارها، ليخرج إلى الجزر والأنهار والمقاهي المفتوحة والملاهي في الجو الطلق، فينتقم في ليله من نهاره - وهذا وهذا وهذه وتلك مما لا يعدو ولا يستقصى؛ ولكن لابد من ناحية أخرى أُنسيتُها، فهاذ كاتب وشاعر شغله الحر من ناحية أخرى فهو يريد تشبيهاً جميلاً للحر أو تعبيراً بليغا، فيقول: هذا الجو أحرّ من الرمضاء، وأحرّ من دمع الصب، وأحر من قلب العاشق، ومن فؤاد الثاكل؛ ثم لا تعجبه هذه كلها فيريد تشبيهاً مخترعاً، أو عبارة مبتكرة، أو استعارة بديعة، فيسبح في الخيال، وينسى الحر، وهي حيلة لطيفة للتخلص منه!!
أما أنا فقد ضايقني الحر، وحرت بين مصر والاسكندرية، تؤلمني الأولى بحرها القاسي، وتؤلمني الثانية برطوبتها الثقيلة، ووددت أن لو كان لي من المال ما يمكنني من أن أطير صباحاً فأقضي النهار في الإسكندرية، وأطير مساء فأقضي الليل في القاهرة وأخيراً رأيت أن أهرب من الحر حيناً بالتفكير في الكتابة فيه، وقلت إنها فرصة جميلة أن أكتب في
الحر، فان خرج المقال قيماً ممتلئاً حرارة وقوة ربحت ربح المحسن في عمله - وليس لي كبير أمل في ذلك - وإن خرج المقال بارداً أكون قد أحسنت إلى الناس فرفهت عليهم، وانتقمت من الحر، وأعنتهم عليه؛ وأية فرصة للكاتب خير من هذه؟ يَحسن إذا أحسن، ويحسن إذا أساء؛ وللإنصاف لابد أن أعلن أني لست مبتكراً لهذا المعنى، إنما سرقته من نادرة لها اتصال بالحر، فقد أنشَدَ بعضهم بيتاً من الشعر، فقال سامعه: إن هذا البيت لو طرح في نار المتنبي لأطفأها، ويريد ببيت المتنبي قوله:
ففي فؤادِ المحب نارُ جَوىً
…
أحرُّ نار الجحيم أبرَدُها
فكذلك أدرت أن أثأر لنفسي وللناس من حر هذا العام بكتابة مقالة تطفئه، وأخشى ما أخشاه أن تخرج فاترة، لا بالحارّة فتعجب، ولا بالباردة فتطفئ.
أول ما خطر لي في الحر أني الآن لابس ثوباً خفيفاً أبيض، واسعاً فضفاضا، مكشوف الرأس، عاري القدمين، جالس في حديقة، أشجار عن يميني، وأشجار عن يساري، وحوض زهر أمامي، وقد رشت الأرض من حولي، وبجانبي إناء مما يحفظ فيه الماء مثلوجاً، لا أدري ما اسمه بالعربية، وأخشى أن أقول (ترمس) فينقدني علماء اللغة؛ وكل شيء حولي يرطب الجو ويلطفه ويعدّله، وأنا مع هذا كله برم بالحر، ضيق الصدر، مغيظ محنق، أتلمس أقل سبب، لأعلن الغضب - وعلى البعد مني أصوات ترتفع بالنداء، هذه تحمل قفصاً مملوءاً بالفراخ، وهذا يجر عربة ملئت بأصناف الخضر، وهذا ثالث يحمل على رأسه سفطاً كبيراً قد ملئ بالتين أو العنب، وهو سائر طول نهاره في هذا القيظ ينادي، لا يعبأ بشمس ولا حر، ولا يضجر كما أضجر، ولا يألم كما آلم، ولا يفكر في الحر كما أفكر - أليس في الأرض عدل؟ أليس الشقاء قد أكسبه مناعة وقوة؟
أو ليست الرفاهية والمدنية والنعيم قد حرمتني الجلد والاحتمال؟
إنه ليسعد بما أشقى به، إنه ليسعد بشربة ماء من كوز من حنفية، ويسعد بالارتماء في ظل بيت في الشارع بعد أن أعياه التعب وأضناه السير، ويسعد بقريش يكسبه ليشتري به خبزاً جافاً يأكله فينعم به - إن كانت السعادة في اللذة والطمأنينة وهدوء البال فمما لاشك فيه أن هناك مجالاً للتفكير العميق (أينا أسعد) وتباً للعيش الناعم، والمدنية المعقدة، والرفاهية المترفة، التي أرهفت حواسنا وإحساساتنا، وأفقدنا الصبر واحتمال المكاره، وجعلتنا نفر من
نعيم إلى نعيم أدق منه نظن فيه السعادة، وما السعادة إلا في العيش البسيط والمران على الجلد، واحتمال ألوان الحياة وصنوف التعب، وأقلها الحر والبرد، إن تحتمل الحر فلا حر، وان تحتمل البرد فلا برد، وان تعتدْ بساطة العيش تكره نفاق المدنية، وان السعادة لخيرُ ما يحقق مذهب (آينشتين) في النسبية، فكل شيء في الحياة من لذة وألم نسبي، وليست اللذة والألم يعتمدان على الشيء الخارجي فحسب، بل هما نتيجة تفاعل بين الشيء الخارجي والنفس، ويختلف هذا التفاعل اختلافاً كبيراً باختلاف النفوس، فليس الألم من الحر والبرد يعتمد على درجة الحرارة وحدها، بل إن صلح الترمومتر أن يكون مقياساً لحرارة الجو، فلا يصلح ان يكون مقياساً لألم النفس من الحر، وليس لهذه الحال ترمومتر مشترك يتساوى فيه الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص، ولذلك ترى من يموت من الحر، ومن يموت من الضحك على الحر - ومن الغريب أن يتوجه كل الناس بكل مجهودهم للتخلص من الحر بالاصطياف وسكنى الشواطئ والمراوح والمرطبات، ولا يبذلون أي جهد في الناحية الأخرى وهي الناحية النفسية بترويضها وتمرينها على الاحتمال، وتعويدها الصلابة، وهذا في نظري ليس أقل شأناً ولا أصغر قيمة من العلاج الأول.
وخطر لي أن علماء الجريمة يذكرون أن هناك أنواعاً من الأجرام تكثر في الصيف كالأجرام الجنسي، وأنواعاً تكثر في الشتاء كأجرام السلب والنهب، فقلت لعل ذلك أيضاً في الأدب، فالأدباء يهيج بعضهم على بعض صيفاً أكثر مما يهيجون شتاء، ويهيجون في القاهرة أكثر مما يهيجون في الاسكندرية، إن شئت مصداق ذلك فانظر ما كان بين من يسمونهم أدباء الشيوخ وأدباء الشباب، وانظر ما كان بين أدباء الشيوخ بعضهم وبعض، وأدباء الشباب بعضهم وبعض، أليس هذا كله فعل الحر؟
أو ليس من كان في الإسكندرية على شاطئ البحر كان يعجب من فعل الحر في أدباء القاهرة؟ - ولئن كان الحر يؤاخَذ على ما جنى من تعريض العلاقات بين بعض الأدباء لخطر، فانه يشكر على أنه استطاع أن يستخرج من الأدباء قطعاً فنية بديعة أكملت أبواب الأدب، فان القدماء قد عدوا من أبوابه باب الهجاء كما عدوا باب المديح - كما أنه يشكر إذ لم يسلط ناره الحامية على الأدباء طويلاً فقد حوَّل، عدسته إلى غيرهم ليتنازعوا فنجا
الأدباء، من ثورته، وهدأت عواطفهم وتصافت نفوسهم.
وأخيراً خطري لي محمدة جليلة للحر القائظ، والبرد القارس وقلت إن هذه المحمدة تفوق كل ما كان للحر والبرد من سوء ولولاها لما تقدمت الإنسانية، ولما رقى النوع البشري هذا الرقي، ولظل هائماً على وجهه كالوحوش، ذلك أن الشمس بنارها اللافحة، والحر بشدته اللاذعة، والبرد بحدُته القاسية، وأمطار المنهمرة، وببرَده وثلوجه، والطبيعة العنيفة - بعواصفها ورياحها - كل ذلك هو الذي ألجأ الإنسان قديماً إلى أن يبحث له عن ملجأ يأوى إليه من الحر والبرد، فسكن الكهوف نشأته الأولى وظل يرتقي في ضروب من الارتقاء حتى أسس البيت، وأسس الاسرة، وكونت الأسر القبائل والمدن وكونت هذه القبائل الأمم، ثم تعاونت الأمم على ترقية النوع الإنساني فلولا الحر والبرد ما أظن أن قد كان بيت، ولولا البيت ما كانت أسرة، ولولا الأسر ما كانت أمم - أليس الحر والبرد إذن كانا أفعل في ترقية النوع الإنساني من كل مظاهر الحياة وظواهر الكون؟ فإذا قلنا إن تقدم النوع البشري مدين في تقدمه لرداءة الجو، وشدة الحر والبرد، لم نُبْعِد.
خطر لي كل هذا حينما حاولت أن أكتب في الحر فبدأ الضجر يقل، والألم يحتمل، والنفس تهدأ، والعاصفة تسكن والاحتمال يقوى - فهل هذا مستمر؟ سأجرب.
على كل حال قد هزئت بالحر ونسيته - ولو إلى حين - بكتابة مقال فيه.
احمد أمين
قصة أب
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
حدثني المسكين فيما حدَّث وهو يصف ما نزل به قال:
رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباءً فَنَسأ بالولد في آثارهم، ومدَّ بالنسل في وجودهم، وزاد منه في أرواحهم أرواحاً، وضم به إلى قلوبهم قلوباً، وملأ أعينهم من ذلك بما تَقّر به قُرّةَ عَين كانت لم تجد ثم وَجدت، فهم بهؤلاء الأطفال يملكون القوة التي ترجعهم أطفالاً مثلهم في كل ما يسرهم، فيكبر الفرح في أنفسهم وإن كان في ذات نفسه ضئيلاً صغيراً، ويعظم الأمل في أشيائهم وإن كان هو عن شيء حقير لا يُؤبْه له؛ وتلك حقيقة من حقائق السعادة لا أسمى ولا أعظم منها إلا الحقيقة الأخرى، وهي القوة التي يتحول بها الكون في قلب الوالدين إلى كنز من الحب والرحمة وجمال العاطفة، بسحر من ابتسامة طفل أو طفلة، أو بكلمة منهما أو حركة، على حين لا يتحول مثل ذلك ولا قريباً منه بمال الدنيا ولا يملك الدنيا.
رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباءً، ولكنه ابتلاني بأن أكون أباً، وأخرج لي من أفراح قلبي أحزانَ قلبي!
ولقد كنت كرجل ملك داراً يستمتع بها، فتمنى أن يشرع في جانب منها غرفةُ يُزخرفها، فلما تم له ذلك وبلغ المقْترح إنهدمت الدار، وبقيت الغرفة قائمة!
عَمْرَك الله، أيشعر هذا الرجل في نكبته بالغرفة أم بالدار؟
وهل تراه زاد أو نقص؟ ويا ليتهما بيت وغرفة من بيت؛ فان الحجارة تحيا بالبناء إذا ماتت بالهدم، ولكن من ذا يحي الزوجة ماتت بعد أن وضعت بِكرَها الأول والآخر:
إنها طفلة وِلدتُ وكأنما أٌخرجت من تحت الردم إذ وُلدت تحت ماضٍ من الحياة منهدم. وهل فرقٌ بين هذا وبين أن تكون أمها قد ولدتها في الصحراء ثم أكرهت أن تدعها وحدها في ذلك القفر تصرخ وتبكي! فالمسكينة على الحالين منقطعة أولَ ما انقطعت من حنان الأم ورحمتها.
طفلة وُلدت صارخة، لا صرخة الحياة، ولكن صرخة النوْح والندب على أمها.
صرخة حزينة معناها: ضعوني مع أمي ولو في القبر!
صرخة ترتعد كأن المسكينة شعرت أن الدنيا خالية من الصدر الذي يُدفئها!
صرخة تترد في ضراعة كأنها جملة مركبة من هذه الكلمات: (يا رب ارحمني من الحياة بلا أم!).
قال المسكين هو يبكي امرأته:
ولما ضَرَبها المخاض ضاعفت قوتها من شعورها أنها ستكون بعد قليل مضاعفة، وستكون روحين لا روحاً واحدة، وتلد لي الحياة والحبَّ والإلهى معاً، وتأتي لقلبي بمثل طفولته الأولى التي يستحيل ان تأتي الرجلَ إلا من زوجه. كل ذلك ضاعف قواها ساعة وشدّ منها، ولكن ما أسرع ما تبينتْ أنه الموت إذُ عضَّلتْ وعسر خروج مولودها وجاءها اِلجراحّى بمبضعة، وكأنما رأته ذابحاً لا طبيباً فجعلت تعبر بعينها إذ لم تملك في آلامها القاتلة غير لغة هاتين العينين.
كانت بنظرة تبكي عليّ وعلى بؤسي، وبأخرى تبكي على بؤس مولودها وشقائه؛ وبنظرة تودعني، وبأخرى تدعو الله لي جزاء ما أحسنت إليها؛ وبنظرة تتوجع لنفسها، وبأخرى تتألم من أنها تراني أكاد اجن.
نظرات نظرات.
يا إلهي! لقد خيل إليّ أن ملك الموت واقف بين عشرين مرآة تحيط به، فأنا أراه موتاً متعدداً لأموتاً واحداً. وكل نظرة عينْي زوجتي إليّ كانت منها هي نظرةً، وكانت عندي أنا مرآة الروح للروح.
ولكنها لم تنس أنها تموت لوضع مولودها، وإن هذه الآلام الدموية الذابحة هي الوسيلة لأن تترك لي بقية حية منها؛ فيا للرحمة والحنان والحب! لقد ابتسمت لي وهي تموت، وهي تلد، وهي تذبح!
ليست رحمة المرأة المحبة خيالاً إلا إذا كانت حرارة الشمس التي تحي الدنيا خيالاً أيضاً؛ إن هذا القلب النسوي المستقر فوق أحشاء تحمل الجنين صابرة راضية فرحة بآلامها، وتغذوه وتقاسمه حياة نفسها - هذا القلب يحمل الحب أيضاً صابراً راضياً فرحاً بآلامه، ويغذوه ويقاسمه حياة نفسه. وللرحمة الإلهية أدلة كثيرة تدل الإنسان عليها دلالاتٍ مختلفة؛ فالشمس تدل عليها بالضوء الذي تَطعمه الحياة، والهواء يدل عليها بالضوء الذي تتنفسه
الحياة، والماء يدل عليها بالضوء الذي تشربه الحياة، وهكذا إلى أن يأتي في الآخر قلب المرأة فيدل على رحمة الله بالحب الذي تقوم به الحياة.
ابتسامة الحب غالبت زفراتِ الموت التي تعتلج من تحتها حتى غلبتها، وأعادت الحياة لحظة إلى وجه زوجتي لأراها آخر ما أراها في صورة المُحبة، فكان كل جمال نفسها منتشراً على ذلك الوجه، وظهرت فيه روحها وعواطفها تودعني وداعاً حزيناً متبسما يتكلم؛ يتكلم بعجزه عن الكلام.
ابتسامة لا ريب أن فيها أشياء ليست من جمال هذه الدنيا ولا من حقائقها؛ فكأنما التمعت بأشعة من الخلد ترفّ رفيفها على وجه الحبيب ليظهر ساعة الموت أن حبه أقوى من الموت.
قال المسكين: ونثر الطبيب ذا بطِنها فكانت طفلة، وما كانت زوجتي تقترح أن يكون الجنين غيرها، بل كانت مستيقنة أنها تضعها أنثى، وصنعت لها ثيابها، ووشتها بزينة الأنوثة، وعرضت أسماءَ البنات فاخترت اسمها أيضاً، وكنت أكره ذلك منها وأريد ولداً لابنتا، فكانت تغايظني بعملها وإصرارها غيظ دعابة لا غيظ جفاء.
ومضت لا تذكر إلا بنتها مدة الحمل، ولا تتكلم إلا عن بنتها، وقد كانت أعجب لذلك، فلما قضى الله فيها قضاءه علمت أن ذلك أمر من أمر الروح، فكان الإلهام فيها أنها على باب قبرها وأنها لن ترى طفلتها ولن تعيش لها، فعاشت أيام الحمل مع ذكراها، تضم ثيابها إلى صدرها، وتحملها على يدها، وتناغيها وتقبّلها، وتأخذها من الوهم وتردّها اليه. وكذلك نعمت المسكينة بالمسكينة!
لكِ الله يا معجزة الرحمة؟، يا نفس الأم!
ولما قيل: ماتت - جعل يكلمني المتكلم ولا أعقل، فان الكلمة التي تأتي بالمصيبة المتوقَّعة طال ارتقابها - لا تأتي بمعان لغوية كغيرها من الكلام، بل بأسلحة تضرب في النفس وفي العقل، وتُثْخنُها جراحا وفتكا.
وجعلني موتها كأني ميت يحمل نفسه، ما حوله إلا المشّيعون، وأحسست كأن قوة أخذت بإحدى رجليّ فوضعتها في الآخرة، وتركت الثانية في الدنيا، ولحقني من الجزع ما الله عالم به، ووجدت أحرق الوجد، وبكيت أحر البكاء؛ وجعلتْ أفكاري تنحدر من رأسي إلى
حلقي فأختنق بها، ثم لا يُنفّس عني إلا الدمع، كأن أعضائي اختلّت مما ضغطني من الحزن فأنا أتنفس برئتّي وعينّي.
بموتها شعرت بها، ولعله من أجله ذلك لا يشعر الإنسان بلذة الحب كاملةً إلا في آلام الحب وحدها، وكانت في حياتها تضع من روحها في سروري، وهذا هو سرّ المرأة المحبوبة، يجد مُحبُّها في كل سرور لمحات روحانية، وكذلك فعلت بعد موتها، فجعلت روحها في أحزاني؛ ولولا أن روحها في أحزاني لقتلتْني المصيبة.
وكنت أدلف وراء النعش وقد بطل في نفسي الشعور بالدنيا، وكان الناس يمشون حولي بما فيهم من الحياة، وكانوا ذاهبين إلى المقبرة على أنهم سائرون كما يذهبون إلى كل مكان، أما أنا فكنت أمشي بما فيّ من الحب منكسراً منخذلاً متضعضعاً، لأني وحدي سائر وراء مالاُ يلحق.
وثقل الناس على قلبي، ورجع كل أمرهم عندي إلي العيب والنقيصة، إذ كان لي عقل طارئ من الحالة التي أنا فيها ليس مثُله لأحدٍ منهم، وكنت وحدي المصاب يبينهم، فكنت وحدي بينهم العاقل.
أنا أمشي لأنتهى إلى آخر مصيبتي، وهم يمشون لينتهوا إلى آخر الطريق؛ وشتّانَ ما نحن وشتان!
ولما رأيت قبرها ابتدرت عيناي تنظران بالدموع لا بالنظر، ورأيت التراب كأنه غيوم ملوَّنة بألوان السحب السوداء تتهيأ في سمائها تحت الظلام لتخفي كوكباً من الكواكب؛ وظهر لي القبر كأنه فم الأرض يخاطب الإنسان بحزم صارم، يخاطب الفقير والغني، والضعيف والقوي، والملوك والصعاليك:(إن كل قوة تُنزع هنا).
قال المسكين: وكما يجد الإنسان في أيام المطر رائحة النسيم المبتلّ بالماء كنت أستروح في رجعتي إلى الدار رائحة نسيم مبتلّ بالدموع، وحضرت المأتم وعزّاني الناس فكنت فيهم كالمأسور بينهم لا أتمنى إلا أن يَدَعوني فأنجوَ على وجهي، ولا أرى إلا أنهم يجرّعونني الوجودَ غُصصاً كما تجرعت الفقدَ غصة غُصة، إلا أن تفرقوا مع سواد الليل، فانكفأت إلى الدار فإذا كل شيء قد تغير ولمسه الموت لمسة، وإذا الدار نفسها كالعين المقروحة من آثار البكاء، مآثَمّ إلا ليطالعني بأن مسراتي قد ماتت!
ولاح الصبح ليعنّي الساهرتين صبحاً فاتراً تبينتُ فيه الخجل كأنه يقول: (لم أطلع لك)، فانسللتُ من البيت، وذهبت أمشي في دنيا هي الكآبة المضيئة، سِخرت الأقدار منها بإظهارها في هذا الضوء مظهرَ وجه العجوز المتصابية في زينة لا تزيدها إلا قبحاً!
ومضيت على وجهي لا غاية لي، أضرب في كل جهة كأنما أريد أن أهرب من نفسي! وما خطر لي قط أني في يوم جديد، بل كنت عند نفسي لا أزال في أمس، وتغير عندي الزمان والمكان؛ فأحدهما ساعة موت لا تترك ما فيها، والآخر قبر ميّتة لا يرد ما فيه.
آه من الوقت الذي ينتهي فيه الموجود ليعذبنا بالتذكر أِنه كان موجوداً!
قال المسكين: ثم أعادتني قدماي إلى البيت لأرى طفلتي - وما كنت رأيتها - ولقد كانت ولادتها أولَ الحياة لها، وأول الحياة لي أيضاً، إذ لولاها لانتحرت غيرَ شكً.
يا ويلتا! لم تلتق عيني بعين الطفلة حتى انفجرت تبكي، أتبكين لي يا ابنتي أم عليّ؟
أهذا بكاؤك أيتها المسكينة، أم هو صوت قلبك اليتيم؟
أصوتكِ أنتِ، أم هي روح أمكِ تصرخ ترثى لي وتتوجع لفرط ما قاسيت!
يا ابنتي، إنما أنت الحقيقة الصغيرة التي خرجتْ لي من كل تلك الخيالات الشعرية الجميلة - خيالات الأيام السعيدة التي مرّت! يُخلَق المواليد من اللحم والدم، وأراكِ أنتِ يا مسكينة، خلقتِ من اللحم والدم والدموع!
بقَّية حياةٍ ماتت! فهل معنى ذلك إلا أنكِ بقية موتٍ يحيا؟
مسكينة، مسكينة، لو أن نواميس العالم متغيرة لشيء لتغير من أجل بؤسك فردّت لك الأم، ولكنها لم تتغير، وما بكاؤنا وآلامنا وتعاستنا إلا تراث الحياة في أجسامنا الأرضية؛ كل ذلك طبيعة، ولكن بقعة أنظف من بقعة، وأراكِ يا بنتي كالبيت الذي هُدِم أوَل ما بنى يملؤه ترابه!
لن تتغير النواميس، فلن تجدي عطف الأم، ولكن لن يتغير قلبي أيضاً، فلن تحرمي عطف الأب.
وإذا صبر الناس على الحياة فمن أجلكِ يا مسكينة! من أجل ضعفك وانقطاعك سأعاني الصبر لك، وأعاني الصبر لي، وأعاني الصبر من أمك، سأصبر على الصبر نفسه!
يا ابنتي، يا ابنتي، لماذا وضعتك الأقدار من هذه الحياة في الناحية التي ليس فيها إلا قبر
مظلم مقفل على أمكِ، وأب مسكين مقفل على آلامه؟!
قال المسكين: وهكذا كتبتُ من أهل البؤس والهم، فلم أتزوج إلا لتصنع لي حبيبتي دموعي، ثم لم تمت إلا بعد ان تركت لي حبيبةً أخرى ستظل زمناً طويلا تصنع لي دموعي.
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
مجهولو الأبطال
ابنا النقيب
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
أرأيت التاريخ اتسع يوماً لذكر الألوف المؤلفة ممن سيروا حوادث الدهر، ودفعوا تيارات الزمان نحو مستقرها؟ قد يذكر التاريخ عظيما أو بعض عظماء، وهؤلاء قد يكونون من قادة الحرب وزعماء أرباب السيف، وقد يكونون من أهل السياسة وأصحاب الدهاء والكياسة، الذين تألفوا الناس وحركوا الأحزاب، وقد يكونون من أهل القلم، لا بل قد يكونون من أصحاب العلم الذي أضاءوا للناس سبلهم في الحياة. ولكن كم يكون هؤلاء الذين يذكرهم التاريخ؟ أيكونون بضع مئات في كل عصر؟ أم لعلهم يبلغون بضعة ألوف؟ وأين يقع هؤلاء من ذلك التيار الأتيَّ الذي تزدحم به الأيام والليالي من الناس؟
قد يزعم زاعم أن الأفذاذ كانوا أبداً قليلي العدد، وأن التاريخ لا يذكر إلا هؤلاء الأفذاذ. وذلك زعم أكِل الحكم فيه لكل من وقعت عينه على هذه الكلمات، فإني لا أخال فيهم الكثيرين ممن بلغت بهم الأنانية إلى تطلع لذكر التاريخ والخلود في صحائفه. فإذا كان أكثرنا لا يطمع في ذكر التاريخ والخلود فيه، أأيأ] أيأينبتيسنبتيمسبتيسننيستبيسبينبتيسنبتيسبسأيكون ذلك مُخَذلاً لنا عن القيام بما يجب علينا؟ إن من الناس من يعطي المسكين أمام أعين الناس. حتى يشتهر بينهم بالأفضال والاحسان، وإن منهم من يرفع رأسه بكلمة الحق، وهو على مسمع من قوم يطمع أن يقولوا عنه إنه حر أبي كريم النفس، وإن منهم من تدفعه الحمية وهو على مرأى من الناس إلى أن يخوض الأخطار في سبيل المكارم، لتكون له بذلك ذكرى بينهم وحسن أحدوثة. وهذا الحق لا بأس على الناس ان يأتوه، فان الخير لا يضره أن يكون من ورائه منفعة لمن يقدمه. غير أن تلك المرتبة في المحل الثاني من المكارم، وأما المحل الأول فقد سبق إليه من يواسي في الخفاء، وهو لا يطمع في شكر من يواسيه، ولا يتطلع إلى إعجاب من حوله من الناس، ومن يصدع بالحق لا يبتغي من وراء ذلك إلا أن يقوم بواجبه أمام نفسه، ومن يصنع الخير للناس لا ليجازوه بالاجلال، ولا ليفوز منهم بالإعجاب. بل لأنه يطيع طبيعته في ذلك وينطل على سجيته. ومن ثم كان الأولى بشكر الإنسانية من يقوم على المكرمات،
ويمضي في الخير، وهو في غمار الناس لا يستشرفه أحد من الناس، ولا يشرئب هو بعنقه إليهم. فإذا نحن رضينا بذلك كان انتدابنا إلى أداء الواجب من تلقاء أنفسنا غاية ما يحرص عليه أماثلنا، ولم يكن إعجاب الناس ولا ثناؤهم بما يطمع فيه الكرام أو تطمع فيه الكرام أو تطمح إليه النفوس العالية.
ولقد كان في مصر في مختلف العصور جماعات كثيرة، بلغت من سمو النفس أنها أدت واجبها، ولم تعبأ بأن يتخلف عنها في التاريخ ذكر. ومضى التاريخ بذكرياته وأسمائه، فلم يذكر من هؤلاء إلا النزر اليسير. ونحن اليوم موردون ذكر اثنين من هؤلاء أبى الله إلا أن يحفظ لنا اسميهما لتكون تلك آية دالة على أن فيمن مضى جماعات لا عد لأفرادها أدوا واجبهم، ومضوا في ثنايا ضباب الماضي، ولم يعبأوا بأن يلتفتوا التفاتة واحدة إلى الناس يطلبون منهم شكراً ولا ثناء. وتلك هي مكارم الأخلاق ومروءة الحياة.
كان في مصر جماعة الأمراء المصريين الذين يظلمهم التاريخ بأن يطلق عليهم اسم (المماليك)، وكانوا يسمون أنفسهم الأمراء المصريين. ومهما يكن من محامدهم أو مساوئهم، فقد كانوا معتزين في كل الأحوال بمصريتهم يحبون هذه البلاد كأعظم ما يحب الرجل بلاده.
وكان من هؤلاء الأمراء من استقل بمصر استقلالاً تاماً وأحاط ذلك الاستقلال بسياج من قوة قلبه وحماسة نفسه. ثم عدت على ذلك الاستقلال العوادي فآثر أن يبذل دمه قبل أن يبصر صرحه ينهار، وقضى قتيلاً في دفاعه كما يموت الأسد وهو يدفع عن عرينه. وكان أحد هؤلاء أمير مصر الأشهر على بك بلوط قبن المعروف بعلي الكبير. وقد كان في أيام هذا الأمير كثيرون من الأفاضل الأمجاد، منهم أخوان من نسل هاشمي حسيني: أحدهما اسمه السيد علي بن موسى الحسيني الأزهري المصري، والآخر اسمه بدر الدين الحسيني المصري. ويعرف كل منهما بابن النقيب، لأنهما من سلالة بيت كان منه نقباء في بيت المقدس. وكانا عالمين، نالا من العلم أقصى ما ينال من زمانهما. وبلغا من ذلك مرتبة التدريس، فكان أكبرهما (على) يدرس في المشهد الحسيني التفسير والفقه والحديث، وتبعه أخوه الأصغر بعد موته في إملاء الحديث في المشهد الحسيني نفسه. وكانا مع ذلك كاتبين مبرزين، فكان السيد على يتبع في النثر طريقة طريفة (لا يتكلف السجع، وإذا سئل من
مسئلة كتب عليها الجواب أحسن من الروض جاده الغمام).
غير أن هذين الأخوين لم تقنع نفساهما بما بلغتا من مرتبة العلم، إذ رأيا أن دونهما واجبا عاما يجب عليهما أن يضطلعا به، وذلك أنهما رأيا الحياة العامة محتاجة إلى كثير من التقويم والتهذيب، فكان الأخ الأكبر يخرج في دروسه عن التلقين المجرد (إلى الرد العنيف على أرباب الأموال والأكابر وملوك الزمان) حتى انه اضطر للهجرة في سبيل الحق من مصر إلى بلاد السلطنة العثمانية، ثم اضطر مرة أخرى إلى أن يهاجر إلى مصر هارباً من حكومة السلطان لأنه لم يرضها ولم ترضه.
وكان الأمراء يعرفون له إخلاصه، ويقدرون له صراحته في الحق، فان الأمير محمد بك أبا الذهب الذي آل إليه الأمر بعد علي بك الكبير سأله مرة على سبيل المباسطة فقال له:(كيف رأيت أهل اسلامبول؟) فقال له: (لم يبق باسلامبول ولا بمصر خير) فلم يغضب الأمير من شدة رده، بل قضى ديونه وأعانه بما يتصدق به على الفقراء.
وكان السيد على فارساً شهما (لا يخلوا (اصطلبه) من الخيل، ويضمرها ويعتني بأحوالها، ويرغب في شرائها لمعرفته بالفروسية في رمي السهام واستعمال السلاح واللعب بالرماح وغير ذلك) فكان مقصد اللاجئين من الناس، وموئل المظلومين من العامة، ومكان الإجلال من أهل الحكم، يقضون ما يأتي فيه شافعا، ويخشون نقده ويكرمون نصحه. ثم مات السيد علي وتبعه أخوه الأصغر السيد بدر الدين. فسار على منهج أخيه من (التردد إلى الأعيان والأمراء، والسعي في حوائج الناس، والتصدي لأهل جهته وخطته في دعاويهم، وفصل خصوماتهم وضلحهم، والذب عنهم، ومدافعة المعتدي عليهم، ولو من الأمراء والحكام)، وصارت له مكانة كبرى في البلاد وعند الأمراء) يخشون جانبه وصولته) ثم ذهبت أيام هؤلاء الأمراء المصريين وهبطت على مصر كارثة الأجنبي، إذ دخل الفرنسيون مصر، فدمروا وهدموا وغيروا، وأبوا إلا أن تكون مصر على مثل خطتهم ومدنيتهم. فغضب كرام المصريين لذلك، ورأوا في تلك المحاولة قضاء على شخصيتهم وازدراء لمدنيتهم الموروثة التليدة. فانتهزوا الفرصة وثاروا على الفرنسيين، وكان السيد بدر الدين من زعما الثوار. (فجمع جموعه من أهل الحسينية والجهات البرانية، وانتبذ لمحاربة الفرنج ومقاتلهم وبذل جهده في ذلك) غير أن الثورة لم تنجح كما هو معروف، فخرج السيد بدر الدين من مصر
منذ رآها غير صالحة لمقامه فيها. وأي مقام للحر الكريم المجاهد في بلاد الضيم وبلاد الله واسعة يستطيع أن يهاجر فيها؟ واتبعه غضب الفرنسيين في داخل البلاد وفي خارجها، وانتقموا منه بهدم ما ترك في مصر من أبنية، وسلب ما خلف فيها من أموال، غير أنه لم يبال شيء من ذلك، ولم يكن مثل بدر الدين ليعبأ بما يصيبه في المال من خسارة، ومازال في خارج مصر يجاهد مع المجاهدين حتى عاد النصر كما أنه لم يضعف في أيام المحنة من الخيبة والخذلان، ولما عاد إلى مصر استأنف السعي في خير المجموع وهو قرير العين بما نال من توفيق، وكان مما يزيد قلبه اطمئناناً وسلاماً أن يذكر ما أصابه من الألم في جهاده.
ولم يكن ابنا النقيب سوى درتين من عقد أبطال سمى التاريخ بعضهم ونسى البعض، ورحم الله من سمى ومن لم يسم. لقد طوى الماضي في بطون الثرى ألوف الألوف من الأجداد، وقد يكون منا من يتهم هؤلاء الجدود ببعض التهم، وجدير بنا أن نفكر مرتين قبل أن نجرؤ على ذلك الاتهام.
لقد كان من الماضين من هم أقوى منا مروءة في حياتهم وجهادهم وسعيهم إلى الخير، منذ كانوا يؤدون أمانتهم غير طامعين في أن يعرف الأحفاد عنهم ما صنعوا. وحري بنا أن نتسامى إلى مثل هذا الكرم فنسعى إلى أداء الأمانة، ونحن في ستر الخفاء لا يطلع علينا إلا الله، ولا ترقبنا بعد الله سوى عين الضمير.
محمد فريد أبو حديد
شعب شرير
النور
نشأتهم وخواصهم وفنونهم
النور (الغجر) جنس غريب من البدو الرحل، مشتت في سائر أنحاء العالم، في أوربا وغرب آسيا وشمال افريقية وأمريكا وأستراليا، ويقدر تعداده بنحو تسعمائة ألف نسمة، منهم في المجر وحدها نحو 280 ألفاً، وفي رومانيا نحو 250 ألفاً، وفي تركيا نحو مائة ألف، وباقيهم مشتت في سائر الأنحاء. ويقول بعض علماء اللغة أن كلمة ومثيلاتها في الأوربية، ومعناها النور، مشتقة في الأصل من كلمة أعني مصر، ويستدل البعض بذلك على أن النور ربما نزحوا من مصر إلى أوربا في غابر العصور. بيد أن أصلهم غامض جداً، وكل ما يمكن أن يقال في ذلك أن النور يظهروا في أوربا، وبالأخص في بلاد البلقان، منذ القرن الرابع عشر، ثم انتشروا في جميع البلدان الأوربية حتى سواحل البلطيق وانكلترا، وعرفوا بالبداوة وعدم الاستقرار، يتنقلون دائماً ويقيمون في الحقول والغابات في خيام يحملونها، ويسافرون على الخيل والعربات المقفلة، ويزاولون الحرف المريبة كالسحر والتنجيم؛ وعرفواً أيضاً بكثير من الخلال السيئة وبانحلال الأخلاق والأقدام على ارتكاب الجرائم.
ولما اشتد عيثهم في أواخر القرن السادس عشر، قررت فرنسا ومعظم دول أوربا نفيهم وعقاب المخالفين بالإعدام، فطوردوا في كل مكان وعذبوا وأحرق منهم كثيرون لأنهم (نور) فقط. وفي القرن السابع اشتهروا بخطف الأطفال، وهبت عليهم من أجل ذلك ريح جديدة من المطاردة، وكانوا في كثير من البلاد ولاسيما رومانيا وألمانيا يعتبرون رقيقاً يحل بيعهم وشراؤهم. ولكنهم من القرن الثامن عشر، أخذوا يتقدمون في اكتساب الحقوق العامة، ومنحوا الحرية في المجر، واهتمت بأمرهم الإمبراطورة ماريا تيريزيا، وأمرت بتعليمهم الزراعة، وتحسنت أحوالهم وأطوارهم نوعا. وفي القرن التاسع عشر اعترفت بهم معظم البلدان كرعايا، ومنحوا الحقوق والحريات السياسية. وفي سنة 1906 عقد النور ومن يهتم بأمرهم مؤتمراً في صوفيا عاصمة بلغاريا، وطالبوا بالاعتراف لهم بكافة الحقوق التي تمنح لباقي الرعايا وعرفت النور منذ عصور بإتقان بعض الحرف مثل صنع الحلي والأواني
النحاسية الدقيقة، وأجراس الكنائس، والنجارة، وصنع السلاسل، والحفر أحياناً، واشتهروا بالاتجار في الخيل؛ بيد أنهم اشتهروا بالأخص بالبراعة في الموسيقى، وهي موسيقى خاصة بهم، وذهب بعض النقدة الموسيقيين في تقدير الموسيقى النورية إلى حد بعيد، حتى قال الموسيقي المجري الكبير (لسزت) إن الموسيقى المجرية ترجع إلى أصل نوري. كذلك برع النور في الغناء والرقص، واشتهر نساؤهم بالتنجيم وقراءة الكف والورق، ولنساء النور جمال شرقي خلاب، ولكن تغلب عليهم الرثاثة، ولهن ولع بالثياب والحلي، ويغلب عليهن الانحلال الخلقي.
وليس النور دين خاص بهم، ولكنهم يعتنقون في الغالب دين البلد الذي يحلون به، وتغلب عليهم التقاليد الوثنية والخرافات، كذلك ليس للنور لغة خاصة معروفة، ولكنهم يتكلمون لهجات عديدة، وقد دل البحث على أن هذه اللهجات ترجع إلى بعض اللهجات الهندية، حتى اعتقد البعض أنهم نزحوا أصلا من الهند.
هذا وقد قرأنا عن النور وخواصهم وأخلاقهم وفنونهم بحثاً ممتعاً للكاتب المجري الكبير يوليوس كودلاني، رأينا أن ننقله لقراء (الرسالة) فيما يلي، وحديث الكاتب يتعلق على الأخص بالنور المجريين، وهم كما رأينا أكبر كتلة من النور في العالم. قال الكاتب:
لبث النور المجريون حتى أحدث العصور يقاومون كل محاولة لتمدينهم، وقد كانوا كأبناء جنسهم في البلاد الأخرى يعيشون في جماعات بدوية متنقلة لا ترتبط برباط المواصلة، ولم ينتهوا إلا في أيامنا إلى البدء بالاستقرار ومزاولة الأعمال المنظمة. ويوجد في المجر نوعان من النور:(نور الكولومبار)، (ونور الفلاج) وكلاهما يرجع إلى أصل آرى كباقي النور ولكن توجد بينهما فروق ظاهرة في طرق الحياة وفي اللغة والأخلاق، وكذلك في القوام والمحيا، وبينما يميل الكولومبار إلى الرباعة والغلظة، إذا بالفلاج غالباً ممشوق القد، وسيم المحيا. ولنور الكولومبار لدى الفلاحين سمعة سيئة، ويشعر الفلاحون نحوهم ببغض مقرون بالخوف، فإذا ما نزلوا بجوار قرية ما بذل الفلاحون كل ما استطاعوا للتخلص منهم، واتخذوا كل تحوط للمحافظة على دجاجهم ومواشيهم وثيابهم.
ويشتغل نور الكولومبار بصنع الآنية وأقمشة الخيام وبعض أعمال الحدادة. ويزاول نساؤهم السحر ولهن فيه براعة، ويتبعن في مزاولته كثيراً من الرسوم الوثنية التي اختفت من بين
الشعوب المتمدنة، وهن يتنبأن بالمستقبل ويكشفن الأوراق، ولهن براعة مدهشة في الوقوف على عواطف الرجال وغرائزهم، ويعربن في نبوءاتهم عن الأماني الخفية، والشهوات المكتومة؛ ويلجأن إلى الرسوم الرمزية، ويكتشفن ما يجول في صدور قصادهن من الرغبات والشهوات. وقد بثت الحياة الخشنة المضطربة، والعزلة الدنيوية، والحرمان المستمر، في نفوس هاته القبائل ميلاً إلى تحقيق الغاية دون عنف وبوسائل ملتوية؛ فهؤلاء النور يكذبون ببراعة، ولهم فصاحة مقنعة، ومثابرة مدهشة. ولو أردنا أن ندرس من الوجهة النفسية أساليبهم وتأثيرهم الغريب، شبه الروحي، الذي يبثونه في نفوس ذوي الغرائز المضطربة لانتهينا إلى نتائج في منتهى الأهمية. وهم الشعب الوحيد الذي استطاع أن يحتفظ في قلب أوربا، وفي قلب المجتمعات المتمدنة بالحياة البدوية التي تذكرنا بحياة الهنود الحمر في أمريكا الجنوبية أو الزنوج في التي تذكرنا بحياة الهنود الحمر في أمريكا الجنوبية أو الزنوج في أفريقية. ذلك أنهم معرضون دائماً لنزعات الطبيعة، ولهم علاقات دائمة مع قواها، فهم يحملون بذلك إلى كل ما يقرب من الحيوان والغريزة.
والنور لا يملكون شيئاً، ولذا فهم لا يحترمون الملكية؛ فإذا استطاعوا الاستيلاء على شيء استولوا عليه بأي الوسائل، وحياتهم العائلية منظمة على قاعدة الشيوع، وأن لا ملكية يعترف بها ونور (الفلاج) أظرف وأفضل خلالاً من نور الكولومبار؛ وهم يشتغلون عادة بصنع الآلات الخشبية بمهارة، ويطوفون القرى لبيعها، ويبدون في جميع الأسواق مثقلين بالسلع. ويرتدون ثياباً وأزياء غير تلك التي يرتديها زملاؤهم، ويسكنون غالباً في السهل، عند أطراف القرى، في بيوت من الطوب الأخضر، ويعنون بتربية الماشية. وفي أقاليم المجر الغربية ينشئون نوعاً من القرى المنعزلة بجوار الغابات، ويعلب أطفالهم عراة بين الأعشاب والماء. ولهاته القبائل قضاة منها يختصون بالفصل في المنازعات الصغيرة؛ ولا يعيشون عيشة العائلة إلا حيثما اكتسبوا نوعاً من الملك كقطعة أرض أو منزل قروي. ولهم ولع بالخيل واقتنائها بأي الأثمان.
وأهل القرى لا يبدون لنور (الفلاج) من البغض ما يبدونه لنور الكولومبار. وهم يعاملونهم بكبرياء واحتقار ولكن بنوع من العطف؛ ولا يخشون منهم على متاعهم وأموالهم بمثل ما يخشون من زملائهم؛ ويكثرون من التصدق عليهم، ويعهدون اليهم بصنع الأشياء الخشبية.
وعلى ذلك فإذا كان النوري الفلاجي لا يمكن أن يعتبر عضواً في المجتمع، أو إنساناً متمدناً، فانه في طريقه ليصير كذلك. وهو منذ الآن ينزل عن بعض العادات التي كان يتمسك بها دائماً فيقص شعره ويرتدي السراويل، ويعتاد العمل، ويرغب في اقتناء الملك شيئاً فشيئاً؛ وهذا بلا ريب أساس قوي للتطور.
وأخلاق النوري نتيجة محتومة لنوع حياته، فهو لا يملك أرضاً ولا بيتاً؛ وما يملك من المؤن والأدوات وغيرها ليس له في الواقع، بل هو ملك الجماعة كلها؛ وهو لا يشعر بشعور الأسرة ولا يقدر معناها، ولما كان لا يرث ولا يورث، فسواء لديه أكان ولده منه أم من آخر. وكذلك المرأة النورية لا تختص برجل واحد كنساء الشعوب المتمدنة، فهي مخلوق همجي، لا تنكر غرائزها، ولا تستطيع أن تكبح جماحها، والطفل النوري يعيش مع أسرته في نفس الخيمة أو الكوخ، ويشهد عن قرب حياتها التناسلية، فإذا شب اتجهت شهواته الجنسية الأولى إلى الأسرة، فيعاشر الأخ أخته، والولد أمه، والأب ابنته، وتجري هذه المعاشرة دون ذرة من الحرج أو الندم. ولا حاجة للقول بأنه لا وفاء بين الأزواج، فهم كاثوليك ويذهبون إلى الكنسية في الحفلات الكبرى، ولكن مبادئهم الأخلاقية ليست نصرانية في شيء، بل هم غالباً صرعى غرائزهم الوحشية.
وقد اهتم الارشيدوق يوسف (1833 - 1905) بأمر النور وأبدى نحوهم عطفاً، وبعث ذلك إلى الاهتمام بشأنهم، وكان هذا الأمير العظيم الذي يعشق حياة البداوة والبساطة، ينفق كل أوقات فراغه بين النور، ويدرس حياتهم، ويتذوق رقصهم وأغانيهم وأمثالهم وأطوارهم وخلالهم، وقد حاول أن يعودهم الحياة المنظمة، وأن يجمعهم في مكان مستقر، ولكنه لم ينجح كثيراً في محاولته، ثم عكف الباحثون على جمع الأغاني والأمثال النورية وترجمتها، ولكن هذا الاهتمام فتر فيما بعد، ولما كان النور اليوم في طريق التحضر والاندماج في المجتمع المتمدن، فقد يعود هذا الاهتمام بعد فوات الوقت، وبذا تضيع معالم جنسية ونفسية إلى الأبد. بيد أنه قد يكون ثمة أسر أو قبائل مازالت تحتفظ بخلالها الوثنية، وبأساطيرها، وقصصها، وأغانيها ورقصاتها، وتلك يمكن تخليدها بواسطة السينما أو (الجراموفون).
وقد قلنا إن إبعاد النور عن المجتمع المتمدن، واضطهادهم المستمر، وحياتهم البدوية، تحملهم على الريبة والوجل والعنت وانتهاز الفرصة وسرعة التأثر، وهم لا يهتمون بِغَدِهم،
ويحتملون شقاء الحاضر بجلدِ الشريد، كالأطفال أو الشعوب الهمجية. وهذه الصفات ذاتها تمثل في فنهم، فرقصاتهم عاصفة مضطرمة الروي، فياضة بالغزل، ونصوص أغانيهم فياضة بالرموز الغرامية، والكلمات الضخمة، والإخلاص الساذج، وألحانهم محزنة منكسرة، روى مطبق، وغزل مطلق، وفسق خالص يلهب أعصابهم، وهذا ما يشحذ مشاعرهم بنوع خاص، ويعاونهم على التمكن من روح الموسيقى والقوافي الأجانب تحدث فيهم نفس الأثر؛ فالنوري الروماني ينشد الأغاني الرومانية، والنوري السربي ينشد الأغاني السربية، والنوري السلافي ينشد الأغاني السلافية، ويجمعون في كل مكان عناصر الموسيقى الخاصة بالشعب الذي يعيشون بين ظهرانيه؛ والنوري المجري، هو الوحيد الذي لا تتأثر موسيقاه بخواص الموسيقى الريفية المجرية، وذلك لأسباب خاصة به وبظروفه ذلك أن الموسيقيين من النور المجريين هم أشراف النور، فهم يرتفعون فوق مستوى جنسهم، وفي أحيان كثيرة نراهم وقد نسوا لغتهم الأصلية، وغيروا كل ظروف حياتهم. وفي القرى يتحول النوري من حرفته العادية إلى الموسيقى، وفي يوم الأحد وأيام الحفلات أو السوق يحمل آلاته الموسيقية، القيثارة أو المزمار أو غيرهما، ويذهب مع بعض زملائه إلى مجالي النزهة، ولموسيقاه ضجيج مروع، وصخب يصمهم، ولا تشترك مع موسيقى الحضر إلا في الروي، ويتحول النور إلى احتراف الموسيقى شيئاً فشيئاً، ويهجرون صنع الأواني والسلع الخشبية والآجر، ويجتمع بعضهم فيؤلفون فرقة (أوركستر) ويتجولون يوم السوق من قرية إلى قرية، ويلاحظ أيضاً أنهم أخذوا يستبدلون ثيابهم النورية بثياب الحضر، وبين النور المجريين كثيرون ممن درسوا في معهد الموسيقى الأعلى (الكونسر فتوار)، ومنهم من درس الموسيقى نظرياً وعلمياً، ومنهم فانون يعجب بفنهم العالم كله، فهم حقاً من أمراء الموسيقى، لهم مقامهم في المجر وفي الخارج؛ وممن قدر موسيقاهم وأعجب بها أساتذة عظام مثل هيبرمان وكيبورا ولسزت.
وقد كان من المستطاع أن نحمل النور المجريين على درس الموسيقى الريفية الأصلية، كإخوانهم نور رومانيا أو سلوفينا أو روسيا؛ فالنور يتلقون ببراعة مدهشة كل فن وكل روي، وتلك أعظم خواصهم؛ والنوري يغتبط جد الاغتباط إذا ألفى مستمعاً يستطيع أن يرشده وأن يعلمه الأسلوب الحق؛ وعندئذ يدرك معنى الموسيقى الريفية وينفذ إلى روحها،
ويترك تلك الألحان الصاخبة التي يملأ بها أغانيه. ولسنا ممن يجاري بعض المتشائمين من نقدتنا الموسيقيين في قولهم بوجوب القضاء على الموسيقى النورية؛ فإن لديهم خواص عجيبة ترجع إلى مقدرتهم على التشبه والاقتباس.
هذا وقد استطاع النور في إسبانيا وإنكلترا وبسارابيا واليوكرين أن ينشئوا ثقافة موسيقية خاصة. وأغاني النور الأوكرانيين ورقصاتهم ذائعة معروفة في كل مكان. أما النور المجريون فلا يعرضون علينا فنهم قط، حتى ليقال أن ليس لهم فن. ولكنهم في الواقع ينشدون أغانيهم فيما بينهم، ويرقصون رقصاتهم، ويتلون أمثالهم وقصصهم. وهم يعيشون في عزلة مطبقة حتى أن البحث عن خواصهم الجنسية والفنية ليصطدم بأكبر الصعاب. ولديهم وسيلة أخرى للدفاع هي لغتهم التي هي مزيج من العناصر السلافية والرومانية وغيرها. وهم يضمرون البغض والريبة للأجانب لما فرض عليهم من الحياة الوضيعة التي تكاد تنحط إلى المستوى الحيواني، وشأنهم في ذلك شأن القبائل الهندية التي غزاها الأوربيون. والنوري يقدر ما بينه وبين الغير من الفروق، ويعرف أن الغير لا يعتبره إنساناً بالمعنى الصحيح؛ ولا يجد سوى الموسيقى للتعبير عن نفسه ومقدرته؛ فإذا سنحت له فرصة العزف، فانه يملأ موسيقاه وألحانه بكل ما يشعر به من الشهوات وألوان البغض والغضب، والحنان، والثورات، والاحتقار، والفرح، واليأس؛ ويبقى النوري في ذلك المجتمع المتمدن الرأسمالي، النصراني، الذي يرغمه على الاستقرار والاعتراف بالملكية، والتنصير، والخضوع للقوانين بين الغابات والسهول الوحشة - يبقى دائماً وثنياً، جامع العاطفة، مخلوق الغريزة، ويلجأ إلى الموسيقى لبث مقاومته وشكواه؛ ولو نبذ النوري أساطيره وسحره، ونسى لغته، وترك قصصه وأناشيده ورقصه، فانه يبقى مع ذلك نورياً بالموسيقى.
ولن تمضي أعوام أخرى حتى يغمر النور ذلك البحر الإنساني الذي يحيط بهم؛ ولن تمضي أجيال قليلة حتى يغدو النور كالزراع، وينسون كل خوصاهم وتقاليدهم؛ ولن يبقى من الفن النوري سوى قليل من الأغاني والقصص، ذلك الفن الذي هو أعجب الفنون الشعبية وأكثرها طرافة؛ وعندئذ لن نجد سوى بعض الفنانين الذين ينحدرون من أصل نوري، يتجولون هنا وهنالك في بعض المدن؛ بقية شعب كبير كان يجوب السهول والغابات،
يزاول السحر والكهانة، ويخاطب الأرواح، ذليل عزيز مع ذلك لأنه حر. وتلك خسارة فادحة للنور وللوثنية والقصص والحرية. . . بيد أنه يستحيل علينا أن ننقذ النور في ذلك المجتمع الذي يناقضهم في كل شيء.
بين توفيق الحكيم وأهل الكهف
بقلم شهدي عطية الشافعي
قرأت لتوفيق أهل الكهف فيمن قرأ. وأحببتها حباً فوق حب الناس لها. ولكن ناحية منها لم ترضني، وليس ذلك بجريرة للمؤلف آخذها عليه. ولكنه شعور نفسي تملكني.
منظر
في إحدى جنان الخلد. ثلاثة رجال متكئون على الأرائك وأمامهم أبارين وأكواب من ذهب وفضة، والأطيار من حولهم تشدو مرنوش:(متأملاً حوله) - يا لله! ما أبدع هذا وما أجمله! مشلينيا أيها الكسول. إلا تستيقظ لتستمتع بهذا الجمال.
مشلينيا: (يفرك عينه) أهذا أنت يا مرنوش! أين نحن؟ لسنا في الكهف.
مرنوش: (في حدة) الكهف؟ تباً لك! لا تذكرني به، لقد كان كابوساً مخيفاً.
مشلينيا: لعنة الله عليه ما أشامه. . . وهذه الثلثمائة عام التي لبثناها فيه.! وملك آخر مسيحي مكان دقيانوس الوثني. . . وبريسكا غير بريسكا. كيف كان كل هذا؟
يميخا: (مستيقظاً) حمداً لك يا خالق السموات والأرض. اللهم إنا نمجدك ونؤمن بعيسى نبيك.
مرنوش: (مأخوذاً) يمليخا؟ كيف أنت؟
يمليخا: (في خشوع) ألا تحسان فيضاً من النور الإلهي يخترق شغاف القلب. كأني على قيد ذراع من الله. يا لروعة هذا!
مرنوش: (في عجب) إنك لتبدو جميلاً يا يمليخا. أنّى لك هذا الثور المزركش وذلك الوجه الصبوح؟
مشلينيا: (في دهش) ولكنك لم تر ثيابنا يا مرنوش. إنها موشاة بالذهب. مَن أتانا بها (ناهضاً) مرنوش يا للعجب!
لقد شف جسمي حتى لأرى ما بداخله! مرنوش! مرنوش. لقدَ خف ثقلي حتى لاحسبني طيراً ذا جناحين!
مرنوش: مشلينيا، ماهذا؟ لقد صدقت. ألا تذكر استكراش بطني وانتفاخ رجليّ. لقد ذهب كل هذا (بتحسن وجهه) لله ما أنعم وجهي وما أرقه!
مشلينيا: وأنت يا يمليخا (لا يجيب ولكنه يذهب بعيداً) يمليخا! أتاركنا؟ إلى أين؟
يمليخا: إلى حيث قطمير كلبي.
مرنوش: (ضاحكا) أليس لك في هذا الجمال سلوى عن قطمير؟
يمليخا: (مبتئساً) قطمير. عزيز قطمير. حارس غنمي ورفيق طريقي وصاحبي في السراء والضراء (متهللا فجأة) يا لله! هاهو ذا مقبلاً. انه يهز ذيله فرحا.
مشلينيا: (عابثاً) أهذا قطمير كلبك؟ أين هذا ذو الشحم واللحم من قطمير الضاوي البطن البارز الأضلاع؟
يمليخا: (في سرور) إنه قطمير بعينه. إنني مستطيع أن أتبينه من كلاب الأرض جميعاً. تعالت قدرتك يا إلهي. لقد أنلتني بغيتي وجمعتني بكلبي!! سبحانك اللهم نسبح بحمدك!
مرنوش: (متجهاً بنظره) وما يدريك لعله امرأة. (بعد برهة) إنه يضع قرصاً أحمر فوق رأسه ويشد عنقه بمنديل.
يمليخا: انه اسرع في خطاه نحونا.
مرنوش: لعلع ذلك لحاجة له. إنني أرى تقاطيع وجهه جيداً. إنه رجل يا مشلينيا. يا لغرابة لباسه. إنه يشد عنقه بحبل ملون لا بمنديل.
توفيق الحكيم: (بلباس إفرنجي وفوق رأسه طربوش متبينا القوم) ميشلينا! مرنوش! يمليخا!. وقطمير أيضاً هنا! يا لحسن حظي. كيف أنتم؟ لقد كنت أتوق لرؤيتكم.
(أهل الكهف يتلاومون ويتأملون توفيقاً في خوف غير قليل)
يمليخا: (متشجعاً) ومن عساك تكون؟ ومن أنباك بأسمائنا؟
توفيق: ألا تعرفونني؟ لكنني أعرفكم حق المعرفة، وأحفظ وجوهكم كأني عشت بينكم ألف عام. أنا توفيق الحكيم.
مشلينيا: ماذا يقول؟
يمليخا: (هاماً) انه يخبر عن صناعته. فهو حكيم.
مرنوش: (في اضطراب) ولكن ليس بنا من مرض يا سيدي.
توفيق: لا. لا. إنه اسمي. توفيق الحكيم. لقد قرأت سيرتكم وتحدثت عنها في قصة حوت فن باريس وفلسفة أثينا وحكمة الروم.
يمليخا: (في همس) إنه يذكر الروم.
مرنوش: (في ذكاء) آه. لقد فهمت يا سيدي. لعلك - رأيتنا إذ بعثنا من كهفنا بعد نومنا الطويل.
توفيق: لا، لا، ليس هذا. إني قرأت عنكم وامتزجت روحي بروحكم، ولكنني لم أركم قط رؤيا العين.
مشلينيا: ولكن أنى لك بمعرفة وجوهنا؟
توفيق: (في دلال) إنه الفن يا سيدي. يسمو بالمرء حتى ليرى ما تختلج به نفوس القوم، وما تضطرب به أفئدة البشر، إنه الفن الذي يصل الماضي بالحاضر. لقد ترجمت عما في نفوسكم واستكشفت خباياها بعد موتكم بعشرات القرون. أفيعجزني الآن أن أتعرف إلى وجوهكم؟
مرنوش: (هامساً في خوف) لعل به مسّاً من الشيطان!
يمليخا: (معترضاً كالهامس) لعله قديس وهبه الله قبساً من نوره فقرأ ما في نفوس البشر.
مرنوش: (في همس) لقد عرفنا وعرف أسماءنا، برغم انه لم يرنا قط.
مشلينيا: بل ويزعم أنه استطلع ما في نفوسنا.
توفيق: (عابثاً) نعم. ألست أنت مرنوش (مشيراً إليه). ألم يكن لك زوج تحبها. وبنيت بها في الخفاء فأنجبت لك غلاماً، ثم نجوت بنفسك إلى الكهف خوفاً من دقيانوس وشروره!!
يمليخا: (هامساً) ألم أقل لكما أنه قديس؟ (في صوت عال) صدقت أيها القديس.
توفيق: (متمماً حديثه) ولولا زوجك هذه يا مشلينيا لما كنت مسيحياً، ولمت وثنياً، ونقمت على المسيح والمسيحيين. أنت يا ساعد دقيانوس الأيمن في مذابحه قبل زواجك. . . فإذا ما افتقدت زوجك وغلامك انقلبت ساخطاً على السماء والأرض (ومت مجرداً من كل شيء عارياً كما ظهرت، فلا أفكار ولا عواطف ولا عقائد).
مرنوش: أتعنيني أنا؟ (هامسا إلى زميله) لقد حسبت به مساً من الشيطان، ولكني واثق الآن أنه الشيطان نفسه.
ولعله كان يسكن هذا الكهف المظلم المشئوم الذي لبثنا فيه حقبة من الدهر. ولابد أنه تحسس أخبارنا ونحن في ظلمة لنتبين من أمره شيئاً.
(ثم يتوجه بكلامه إلى توفيق في صوت عميق حار) لا يا سيدي لد عشت مسيحياً، ومت كما عشت، ولقد أرتني زوجي الطريق إلى الله فأحببته بكل جارحة، وما عبأت بدقيانوس ولا بمكاني عنده.
مشلينيا: (هامساً) لنمتحنه! فلعل ما يدريه عني خير مما عرفه عنك (في صوت مرتفع) وماذا عندك لي يا. . يا. . معذرة يا سيدي الفاضل.
توفيق: (متردداً) مشلينيا الذي أحب بريسكا وأحبته، بل عبدته، حتى لقد اعتنقت المسيحية من أجله، ورضيت بدين عشيقها عن دين آبائها بديلا.
مشلينيا: (محاولات كتمان غضبه) تا لله لقد أخطأت. إنها أرادت لنفسها هذا الدين وآمنت به قبل أن تدري عن مسيحيتي شيئاً. لقد كان دين الحب، وكانت تعاليمه البساطة عينها والنبل نفسه، فآمنت بريسكا الطاهرة الساذجة، وكان إيمانها قوياً.
ألا تذكر يا مرنوش كيف كانت تمزج قبلاتها لي بالصلاة لله شاكرة له أن هداها سواء السبيل، وأن أرشدها إلى نوره الحق؟ أو تذكر عند هروبنا تحت جنح الليل، وقد كشفوا أمرنا كيف كانت مطمئنة واثقة أن الله سينجي عباده المخلصين؟ وكيف أخذت على نفسها عهداً أن تصلي وتصلي لعل الله ينجينا.؟
يمليخا: (هامس في ذعر) إن هذا الرجل لا يعجبني! ماذا يقفه ببابنا؟ ما أقبح عينيه! انه ليشع منها ذكاء خبيث!
مشلينيا: ألم تحسبه قديساً؟
يمليخا: لقد نسيت أن الشياطين تتخذ أحياناً ثوب القديسين.
توفيق: (محاولات التقرب بعد ما أحس منهم نفوراً) ويمليخا. . . . الراعي الذي آمن في اخلاص، وأحب الله في قوة.
ورضى قرير العين أن يترك غنمه ليرشدكم إلى الكهف تلجئون إليه.؟
مرنوش: ولماذا جعلته من بيننا وحده المؤمن؟
توفيق: (بين التردد والأحجام) لم يكن له أهل (وكان قلبه خليّا، فلا يضيره أن يمنح قلبه لله).
مرنوش: (هامساً لزميليه) ألا تشمان في عبارته رائحة الخبث والسخرية المخبوءة؟
مشلينيا: (في ضجر) لقد صدقناك يا سيدي. ولكن ما دفع بك إلينا؟
توفيق: لقد اتصلت روحي - روح الفنان بروحكم، ولم تستطع الأجيال أن تفصل بيننا، فبعثت قصتكم بعثاً جديداً إلى القرن العشرين.
مرنوش: (في تهكم خفيف) أكنا في حاجة إلى هذا البعث.؟
توفيق: (في غيظ) أتنكرون فضلي؟. لقد أصبح القوم ولا حديث لهم إلا أهل الكهف. ولقد أخرجتكم إلى الناس في ثوب من الفن أنيق، أتقنت في الصياغة، وأجدت فيه الانسجام، وسخرت له كل ما قرأت من فلسفة اليونان، وفلسفة القرن العشرين؟!!
مرنوش: ولكنك مسختنا وأنكرت علينا إيماننا ومسيحيتنا التي كانت كل شيء لنا.
مشلينيا: ولقد أهنت بريسكا الطاهرة الجميلة.
يمليخا: (في سأم وضيق) سيدي القديس! لعل في جوارنا أهل كهف آخرين. فلتبحث عنهم. أما نحن فلسنا من ذكرت.!!
شهدي عطية الشافعي
بكالوريوس آداب
مصر تنسى شاعرها حافظ إبراهيم
للأستاذ كرم ملحم كرم
تألم صاح (الرسالة) المصرية لحظ الأدباء المنكود. وأوجعه أن يسير حافظ إبراهيم إلى مثواه الأخير بين حفنة من رجال الفضل والأدب، وألا يمشي وراء نعش أحمد زكي باشا رجل العلم والهدى غير نفر معدود، على حين أن السياسيين إذا ماتوا اندفعت وراءهم الأمة بأسرها على في شبه مظاهرة، وأبدت عليهم من الأسف واللوعة مالا تفكر أن تبديه حيال أي أديب.
ومما زاد في إيلام صاحب (الرسالة) أن القوم في مصر تناسوا أدب حافظ إبراهيم، وبات الرجل لديهم أشبه بأبي نواس في مجونه، فهم إذا ذكروه تحدثوا عن نوادره لاعن أدبه، كأنما شاعر البائسين أضحى من الهازلين، كأنما أضحى جحا في مداعباته مع أن حافظاً خالد في شعره ونثره، فقد أبقى من المنظوم والمنثور ما يحق للغة العربية، وخصوصاً لمصر، أن تفاخر به. فان حافظاً شاعر الوطنية وشاعر الأدب البائس. وقد أحيا في قصائده كما أحيا شوقي والمطران، عهداً للأدب مشرقاً في مصر، فأعادوا على ضفاف النيل عهد الفرزدق والأخطل وجرير على ضفاف بردي.
ومصر مدينة لحافظ بشيء من هذه النهضة الوطنية البادية فيها. أما هز النفوس بقصائده في ضرورة إنقاذ مصر من الطغيان الأجنبي؟ أما أظهر استبداد المحتلين وجورهم وسعيهم لي إذلال مصر؟. . .
لقد ترددت قصائد حافظ تحت سماء وادي النيل كأنها أنفاس بوق يدعو المصريين إلى الجهاد والاستشهاد، ومع كل هذه الغيرة الملتهبة على مصر من حافظ، لم يجد حافظ من المصريين أي وفاء، فما اعترفوا له بمكرمة ولا بمأثرة في غير بطون الكتب والصحف والمجلات. أما عامتهم، ولاننسى خاصتهم، فما فكروا في أن يقيموا لشاعرهم ضريحاً. ولقد ضل الوفد اللبناني طريقه إلى هذا الضريح وهو يحمل إليه إكليلاً مضفوراً من فلذة أكباد اللبنانيين الذين يجاهدون في سبيل أدبهم، الأدب العربي، ويقدرونه قدره، والذين لا ينسون لحافظ أقواله فيهم وحبه لهم وإعجابه بهم مع أن من واجب مصر ألا تجحد فضل شاعرها عليها، من واجبها أن تقيم له ضريحاً يليق به، من واجبها أن تذكره كشاعر قبل أن تذكره
كما جن، فالمجون في حافظ لا يغلب على الشعر.
وكنا نعتقد أن صداقة حافظ لمحمد محمود باشا ستدفع به إلى تخليد ذكرى الشاعر بإنشاء ضريح فحم يضم رفات فقيد الأدب. ومما حملنا على هذا الاعتقاد ما يتمتع به محمد محمود باشا من ثروة، ولقد أخلص حافظ إبراهيم للرجل، ولقي من عنت حكومة إسماعيل صدقي باشا ما لقي لأجل إخلاصه لمحمد باشا محمود وصداقته له، أيكون هذا جزاءه منه؟. . .
أيضن الرجل المصري العظيم الثروة بقليل من المال في سبيل تشييد ضريح يرد فيه جثمان حافظ بأمان؟. . .
من حق صاحب (الرسالة) أن يتألم، وإننا لنشاطره ألمه ونأسف على مصير الأدب والأدباء في البلاد العربية. فالأديب لا يجد من ينصفه، لا في حياته ولا في مماته. فان قيمته لدى الناس لا تزيد على ما يملك في جيبه من المال. فإذا كان ذا ثروة وجد من يحفل به ويشيعه إلى مرقده الأخير. أما إذا خانته الثروة فلا صديقه يتأثر لفقده ولا بنو قومه. فالمال هو كل شيء في هذه الحياة.
ولو لم يمت شوقي عن ثروة ضخمة لكان نصيبه من بني قومه نصيب حافظ، وربما كان دون نصيب حافظ. وربما كان دون نصيب حافظ. إلا أن ثروة شوقي شفعت له في حياته ومماته، فساعدته على التربع في عرش أمارة الشعر، وحلمت الناس على الإطناب فيه، وهي هي التي دفعت الحكومة المصرية إلى إقامة ذلك المهرجان العظيم لرثاء شوقي والاحتفال بذكراه.
نعم، هي المآرب السياسية وصلات القربى التي مالت بإسماعيل صدقي باشا إلى إقامة ذلك المهرجان نكاية في الوفديين والأحرار الدستوريين الذين أخلص لهم حافظ، وتودد إليهم في أيامه الأخيرة إلا أن الوفديين والأحرار الدستوريين هم الفئة الكبرى في مصر فكيف تناسوا حافظاً ولم يحتفلوا بتخليد ذكراه، ولو لأجل النكاية كما اختلفت حكومة إسماعيل صدقي بتخليد ذكرى شوقي؟.
إن حافظاً ليس في حاجة إلى ضريح خاص يقام له ليخلد، ولا بحاجة إلى مهرجان أدبي تقال فيه قصائد الرثاء ليمس الرجل ذا قدر في عالم الأدب، فان آثاره تكفي لتخليده، وتلك المظاهر الزائلة ليست ذات شأن في مقام حافظ الأدبي، بل هي عديمة الشأن، إلا أن
الفضل يجب أن يعلن، والوفاء واجب على من طوق حافظ جيدهم بجميله، وعلى كل ذي مروءة وحمية إلا يصدف عن هذا الواجب المفروض.
لسنا نجهل أن حكومة إسماعيل صدقي ماتت، ولكن الوفديين والأحرار الدستوريين لم يموتوا، وما فاتهم بالأمس يجب إلا يفوتهم اليوم، وعلى مصر بأجمعها ألا تنسى بنيها ذوى الأدمغة النيرة فيها، وتلك النشرة الخاصة التي أذاعتها جريدة (السياسة) لإحياء ذكرى حافظ لا تكفي، فمن الواجب الدعوة إلى المهرجان، من الواجب تشييد الضريح، وإن مجلة (الرسالة) لا تخطئ إذا خصصت أحد أعدادها بحافظ، فتدعو أدباء الأقطار العربية جمعاء إلى إعلان كلمتهم في الشاعر المبدع الموهوب، فان نشرة كهذه يذهب لها صدى بعيد، وتحمل كل ذي شمم على الاهتمام بشاعر كل عيبه أنه رغب في توطيد دعائم الأدب في وادي النيل وفي الإشادة بوطنه، وفي لفت أنظار سائر البلاد العربية إلى ذلك الأدب الريان المورق في خمائل مصر.
وإن تكن (الرسالة) تطمع في المساواة بين حافظ وشوقي فلتخصص نشرة من نشراتها بحافظ ونشرة أخرى بشوقي، فذلك إليها، على أن تثبت الدعوة إلى مهرجان حافظ وإلى بناء ضريحه، وبهذه الهمة تخدم الأدب وبنيه خدمة لم تسبقها إليها صحيفة عربية، ويكفي أن تعظ المصريين بتذكيرهم بواجبهم حيال علم من أعلامهم خفق في ميدان الوطنية والأدب، فان هذا التذكير لابد منه لأجل مصر قبل الجميع، لئلا تتحقق كلمة المتنبي وحافظ فيها:
فما أنت يا مصر دار الأدي
…
ب ولا أنت بالبلد الطيب
نحن نتألم لنصيب حافظ من بني قومه كما يتألم صاحب (الرسالة) الأستاذ الزيات. وإنا لعلى اعتقاد تام أنه لن يغفل عما نبدي من رأي. وحرام وألف حرام أن يطرح حافظ جانباً كالمنبوذين من الناس، وأن يقصد الغريب عن مصر إلى ضريحه يحج إليه فلا يجد من يهديه إلى هذا الضريح، وقد تناسب مصر واجبها حيال شاعرها، فما جادت ببضعة دنانير تحفظ بها بقاياه!
بيروت
كرم ملحم كرم صاحب مجلة العاصفة
والرسالة نرجو أن توفق إلى رأي الأستاذ
حول مقال
نجار ونجار
بقلم محمد السيد محمد المويلحي
تشاء سخرية القدر اللاذعة أن تحملني قسراً، وأن تضطرني اضطراراً، وأن تخرج قلمي عما اعتاده نحو أساتذته من الإشادة بنتاجهم والفخر بأدبهم الذي يضفي علينا ألواناً من الثقافة الحق التي هي جماع ما في الأدب من رقة ودقة وجمال. . .
أقول: تشاء هذه السخرية المرة أن تحملني على نقد مقال لصاحب فجر الإسلام، وضحى الإسلام، بل صاحب الثقافة الناتئة في شمم المجد، السامقة في سماء الخلود. . . لِزَلَّةٍ زّلهَا، وكبوة كباها، ولا أحب أن أكون قاسياً شديداً فأقول:(إنها زلَّة وطنية، وكبوة قومُّية) سوف تكون سلاحاً ماضياً، وحجة دامغة في يد أعدائنا الذين يتصيدون هفواتنا، وأخطاءنا، والذين يستغلون عيوبنا الصغيرة الناشئة من جهل بعضنا، لتكون سيفاً يشهرونه في وجوهنا كلما هممنا أن نطلب العزة، وأن ننشد الكرامة، وأن ندَّعي الكفاية. .
إنما أحب أن أكون هادئاً ومرشداً إلى حقيقة ربما تجاهلها الأستاذ ليرفه عن قرائه، ويضحكهم بذكر عيوب إخوانهم وأبناء وطنهم، وليهرب في الوقت نفسه من عناء البحث المضني والتفكير المرهق، الذي لا يتفق مع هذا الحر.
وهذه الحقيقة: هي أن ضيوفنا الأجانب الذين يمتصون دماءنا، ويسلبون أموالنا، بمختلف الطرق وشتى الأساليب. . . يؤلمهم جداً، ويخيفهم جداً، أن يروا تلك النهضة المباركة التي قام بها المصريون، وتلك المزاحمة التي أوشكت أن تغلغل في كل شيء بعْد أن كان أغلب المهن المُزَاحَم فيها وقفاً على الأجانب دون غيرهم. لذلك تراهم يسرفون في اتهامهم وفي محاربتهم لجهودنا، بل تراهم يقاومون كل عمل مثمر لنا أشد المقاومة وأخسها وأبعدها عن الشرف والكرامة. . . فكيف بهم، وهم يرون أستاذاً جليلاً، وعالماً رزيناً، يعتقد المصريون فيه كل الخير، ويؤمنون بوطنيته أعمق الايمان، كيف بهم، وهم يرون الأستاذ يتطوع للدفاع عنهم بطعن شخصية مصرية بلُغة تبعث على احتقراها وتشويهها. ثم ينبري لتمجيد نفر منهم، وتكريم شخصيته بأسلوب يطفح إعجاباً، ويشجع على لئم يد صاحبها التي تعمل بسكون وهدوء، والتي لا تقلق راحة الأستاذ، بل تدفعه إلى النوم، لأنه لا يحس بها ولا
بحاملها. .
أكبر الظن أن الأستاذ نال منا أكثر مما ناله الأجانب، وحقَّر فئة منا لم تحقرها الأجانب، لأنها مشتركة معها في عيبها وكيف لا يكون قد نال منا وحقرنا وهو يصف بقلمه الخصب المطاوع شخصية شاب مصري يمتهن النجارة. ويعمل في حانوت أمام منزل الأستاذ الذي كان يراقبه عن كثب، ولا ينصرف عنه إلا ليصف (قُصتَه ُ) الكبيرة الخارجة من طربوشه صاعدة إلى السماء. . وإلا تلك الملابس القذرة الممزقة التي تعلو جسمه. . وإلا تلك الحفلات التي كان يقيمها (ليلا) في حانوته ليشرب وإخوانه بنت الحان. . وإلا تلك الأشياء التي إن يأخذها المسكين ليرممها فيبيعها، فيأتي أصحابها ويلتحم الجميع في معركة حامية لا يعيرها البوليس أدنى اهتمام لأنه كما يقول أستاذنا: لا يهتم بهذه السفاسف. . وإلا تلك الضجة الهائلة التي كان يحدثها عندما يشتغل ليلا والناس نيام. . فيأمره الأستاذ بالكف عنها رحمة بالجيرة فلا يصدع بما يؤمر. . وإلا هذا الحجز الذي وقع عليه. .
أفرأى الناس. . وبخاصة القاصّين منهم كيف أن الأستاذ قد بذَّهم في ابتكار شخصية مصرية ليطعنها كل هذه المطاعن؟.
فتارة يرميها بالقذارة والعربدة والكذب، وطوراً يرميها بالنصب والعمل على إقلاق راحة الناس؟؟
هب يا سيدي الأستاذ أن هذه الشخصية المصرية حقيقية.
فهل يجوز أن تذكرها في مجلة نبيلة واسعة الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها.؟ على أنني أستميح عذر الأستاذ وحلمه فأقول:
إنني أشك كثيراً في هذه الشخصية المسكينة. . . فكلنا يعلم أن زمن (القُصة) قد انمحى. . وكلنا يعلم أن قذارة الملبس، وتمزيقه لا تكون لنصاب يبيع أدوات الناس وأثاثهم. بل كلنا لم يشاهد نجاراً واحداً يغلق حانوته نهاراً، ويفتحه ليلا ليشرب ويعربد ثم يقوم فيشتغل!! أين البوليس الذي يقوم بالحراسة والمحافظة على راحة الناس، وبخاصة في الأحياء الراقية التي يقطنها الأستاذ؟؟
هل كان يترك الأسطى حسن يعربد، ويشرب، ويدق، ويشرق، ويتركك ترجوه وتستعطفه دون أن يعبر هذا أدنى اهتمام أم كان كما تقول في حديثك عنه (لا يهتم لهذه السفاسف).؟؟
وإذا كان النصب والاحتيال، والسكر والعربدة، وإقلاق راحة الناس سفاسف، فما هي الكبائر. .؟؟
أعترف أن الحر يؤثر في نشاط العقول حتى الكبيرة منها، وأعترف أيضاً أن جو ضاحية الأستاذ قد ظلم الأسطى حسن المصري أفحش الظلم، وأشاد بفضل الأسطى (الرومي) كل الإشادة، حتى أن الأستاذ لفرط إعجابه به لم يسمع شقه ودقه. لأنه يشق، ويدق في حرير لا في خشب!! وإلا لما قال ما معناه. .
(. . . وحلَّ محل الأسطى حسن شاب رومي يماثله سناً ومهنة. ويختلف عنه نظافة وأدباً وإتقاناً وصدقاً. . حتى أنني لم أحسن به إلا بعد ستة شهور. لأنه يفتح حانوته نهاراً، ويغلقه قبيل الغروب. . وأذكر أنني استدعيته مرة ليصلح دولاباً فطلب ضعف ما كان يطلبه الأسطى حسن فأعطيته ما طلب لوثوقي من وفائه، وصدق ميعاده. .)
يالله. . . وكيف لا يكون وفياً صادق الوعد، وقد أعطيته ضعف ما كان يأخذه المسكين حسن الذي لو جرؤ وطلب هذا الضعف لرميته بالجشع والطمع. .
لعلي في هذا الكلمة قد أرضيت الحقيقة التي تكلمت عنها في كلمتي السابقة بالوادي الأغر، والتي قلت فيها.
(أنني لا أحب إلا الحق، ولا أكتب إلا له، وله وحده: لا فرق عندي بين شيخ وشاب، ومشهور ومقبور).
ولعل الأستاذ يعتقد أنني لم أكتب هذه الكلمة إلا لأني أحب أن أقرأ لصاحب فجر الإسلام وضحاه شيئاً غير هذا الأدب الذي يبعث الأجانب على احتقارنا.
ولعلي أيضاً لم أغضب أستاذنا فيتقبل كلمتي بقبول حسن، ويحملها محملاً خالياً من الغرض، بريئاً من اللؤم. فإنها لا ترمى إلا إلى تمجيد أمة فتية تتوثب نحو الكمال والنور.
(الرسالة) نعتقد ويعتقد معنا الكاتب الفاضل أن الأستاذ الجليل احمد أمين لم يرد بما كتب تحقير العامل المصري ولا إيثار الأجنبي عليه، وإنما أراد إيقاظه وإصلاحه من طريق المقارنة والمثل. وإخفاء العيوب خوف الشماتة مظنة لعدم الشعور بها، ومن حق الناقد الاجتماعي أن يجسم بعض العيوب لتتمثل في الإحساس الضعيف، وتبرز أمام العين الكليلة. ولأن نسمع عيوبنا من أساتذتنا نقداً ونصيحة، خير من أن نسمعها من خصومنا سباً
ونقيصة!
نسبة شعر
قرأت في مقال (إبراهيم بك مرزوق) المنشور في العدد السابع والخمسين من الرسالة بقلم الأستاذ محمود خيرت فيما روي عن المرحوم المنفلوطي هذا البيت:
مضى بها ما مضى من عقل شاربها
…
وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي
أورده في قصة حكاها عن رجل قال إنه كان رئيساً (باشكاتب) لكتبة محكمة إسكندرية الشرعية؛ ثم قال الراوي: (ولا أدري إذا كان هذا البيت من مقولة أو قديم).
والبيت قديم من قصيدة لعبد الله بن العباس الربيعي يقول فيها:
ومستطيلٍ على الصهباء باكَرَها
…
في فتيةٍ باصطباح الراح حُذّاقٍ
يمضى بها من عقل شاربها
…
وفي الزجاجة باقِ يطلب الباقي
فكل شيء رآه خالُه قدحاً
…
وكل شخص رآه ظنه الساقي
والذي نسبتْ إليه القصة لم يكن رئيساً للكتبة، ولكنه كان أحدهم، واسمه الشيخ احمد، وكان مليح النادرة معروفا بالنكتة، سمعت عنه مضحكات كثيرة، منها انه كان ذات يوم نازلا من المحكمة فالتقى برجل صاعد يطلب مقابلة الرئيس، فسأله الرجل:
يا شيخ احمد هل الرئيس فوق؟. قال هو فوق ولكن أعضاءه نزلتْ. . ومنها أن عمى المرحوم الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الرافعي، وكان نقيباً لمحكمة إسكندرية، سئل في ميراث يراد معرفة ما يُفرض منه لكل وارث، وكان الشيخ احمد هذا يكتب عنه الفتاوي، فكلفه المفتي أن يعمل ما يسمونه (شبّاكا) وهو رسم ذو بيوت يُذكر فيه الورثة أصولا وفروعا وفريضة كل منهم، ولما كان الغد سأله: يا شيخ احمد هل عملت (الشباك)؟ فقال يا سي الشيخ: ما ليش (طاقة).
أما النادرة التي رواها الأستاذ خيرت وحكاها له المنفلوطي فليست بصحيحة على ذلك الوجه البتة، إذ لا يعقل أن عالما فاضلا رئيساً لمحكمة شرعية يقول لرجل: أنت طالق.
والذي روُي لي أن أحد الموظفين مع الشيخ احمد قاطعة مع طريقته فطلقه ثلاثاً، وجاء الباقون يسعون في الصلح بينهما وأخذوا المعتدِي إلى المعتدَي عليه ترضيةً له، فلما دخلوا (بالمطلق) على الشيخ احمد فعل بجبته ما تفعل المطلقة بملاءتها إذا استترت ممن لا تحلُّ له. . فضحك الجميع وشاعت النادرة، ولعل الشيخ احمد نظر فيها إلى نادرة قريبة منها رواها صاحب الأغاني في كتابه والله أعلم.
مصطفى صادق الرافعي
فصول مدرسية في الأدب الدرامي
1 -
الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
الرواية تمثل طائفة من الناس لحادث متحقق أو متخيل لا يخرج عن حدود الحقيقة أو الإمكان. فكونها تمثيلاً يخرج الملحمة لأنها حكاية صرفة، والرواية مدارها على التطبيق والعمل، فليس لمؤلفها وجود في المسرح ولا حضور في الذهن، وإنما يرى المشاهد ويسمع الأشخاص يعملون بعينه وأذنه.
وكون الحادث متحققاً أو متخيلاً يفيد أن الحقيقة التاريخية ليست شرطاً في الرواية، فيستطيع الكاتب أن يكملها بالزيادة ويجملها بالمبالغة كما فعل كوريني في (بوليكت)، أو يختلق الحادث وحده اختلاقاً كما فعل في (السيد)، أو يخترع الحادث والأشخاص اختراعاً كما فعل فولتير في (زيير).
وقولنا (لا يخرج عن حدود الحقيقة أو الإمكان) احتراس من إدخال الخوارق في الرواية، لأن قانونها الأساسي أن تكون صورة للحياة البشرية ما استطاعت. ولن تستطيع أن تتصور الحياة أو تقلدها إلا بتوخي الحوادث الحقيقية الواقعة أو الممكنة.
وشرط الإمكانية يوجب على الكاتب أن يقف عند حدود الممكن المعقول في الموضوعات المتخيلة، وأن يضحي بالواقع أحياناً إذا بعد احتماله لشذوذه وغرابته في الموضوعات المتحققة. على أن من الجائز استعمال الخوارق قليلاً في الرواية إذا كان الكاتب قادراً والمخرج المسرحي ماهراً كما وقع في رواية (فيلوكتيت) لسوفوكليس، ورواية (أتالي) لراسين؛ ومحل ذلك حين يراد تقوية الشعور وإثارة العاطفة وتحريك الهوى في شخص من أشخاص الرواية، بإبراز هواجس فكره ووساوس نفسه في صورة مشخصة مجسمة، كما صنع شكسبير بشبح (هملت) وساحرات (ماكبث). وليس من الضروري أن يهبط الآلهة والأشباح والهواتف على منصة المسرح، بل يجوز أن يحدث ذلك في ظاهرة ثم يخبر به شخص من الأشخاص، كما حدث مثلاً في حلم أتالي وبولين، وفي موت هيبولييت وأوديب.
منشأ الرواية وتأثيرها
كان منشأ هذا النوع من الأدب تلك اللذة التي يبعثها في نفوسنا ويفيضها على حواسنا تقليدنا لطبيعة الإنسان وعمله.
فتمثيل الطبيعة الناطقة والصامتة والأحجار والألوان والألحان إنما يلذنا منه ذلك التقليد الذي أجاده الفنان وأحكمه. قال أرسطو طاليس في كتاب (الشعر): (إن الإنسان مقلد بطبعه، وأشد ما يطربه ويعجبه من الفنون إنما هو التقليد). وليس من شك في أن التقليد في الرواية أكمل صنعاً وأقوى ظهوراً منه في غيرها من سائر الفنون. لأن التقليد فيها لا يقف عند الأشكال الخارجية للإنسان كالنحت والتصوير، وإنما يتغلغل في باطنه، فيصور نوازع نفسه وخواطر فكره ودواعي عمله. أضف إلى ذلك تلك الحاجة الملحة التي تدفع الإنسان إلى السبوح في أجواء الخيال فراراً من وحدة العيش وضيق الحياة وثقل الحقيقة وجد الإنسان تلك اللذة وقضاء هذه الحاجة في التمثيل المسرحي، فسرَّه أن يخرج من نفسه، ويقلد أبناء جنسه، ممثلاً لعينه ذلك المثل الأعلى الذي طالما رسمه في خياله، وتمنى أن يعيش على مثاله. ظهر ذلك أولاً عند الإغريق في أعياد باخوس إله الخمر، إذ تقدم (إبيجين) من أهل (سسيون فمثل ذلك الآلة على المسرح، وقطع مابين الأناشيد بحكاية بعض الحوادث الحماسية، فاستغل (يسبيس) ذلك الابتكار، وجاء (أسخيلوس أبو المأساة، فأضاف إلى الممثل الأول ممثلاً آخر، فخلق الحوار ثم اخترع الوجه الكاذب، والثوب الضافي والحذاء العالي واستعمل الألفاظ الجزلة، والتراكيب الفخمة، واختصر الأناشيد التي سميت بعد ذلك (خورس)، فضعف شأنها في الموضوع.
على هذا النحو نشأت المأساة، وهي أحد فرعي الرواية كما ستعلم بعد. أما فرعها الآخر وهو الملهاة فمنشؤه ذلك التهريج الذي كان يستبيحه الشعب الإغريقي لنفسه في مواكب باخوس وهو يجول جولان الفرح في قرى (أتيكا). ومن ذلك يعلم أن الرواية منذ خلقها الإغريق تنقسم إلى قسمين مستقلين: هما المأساة والملهاة أو التراجيدية والكوميدية كما سيجيئك تفصيله بعد قليل.
أما تأثير الرواية أو المسرح فلا جدال في قوته وخطره، فالحكاية مهما قويت في التعبير وبالغت في التأثير لا تبلغ شأو الرواية في ذلك، إذ القصص الحكائي لا يخاطب إلا المخيلة، وهي تختلف في الناس ضعفًا وقوة، فلا يكون تأثرها إلا بمقدار، أما القصص
الروائي فيخاطب الخيال والحس، ويملأ البصر والسمع، فيكون فعله أقوى وأثره أشد، أرأيتك إذا قرأت أو سمعت حادثة قتل مثلا، فهل يبلغ أثرها منك مهما عظم واشتد ما يبلغه ذلك الأثر الذي يستولي على نفسك وحسك حين تسمع استغاثة المذبوح، وترى انسكاب الدم المسفوح؟ لذلك كان حقاً على الكتاب أن يتوسلوا بهذه الوسيلة الناجعة إلى إقرار الخير في النفوس، واقتلاع الشر من الرءوس، وتغذية القلوب المريضة بالعواطف النبيلة بتصوير مُثلها العليا كما في المأساة، أو إلى إصلاح الفاسد وتقويم المعوج من العادات والأخلاق باتخاذ أهلها مضحكة للناس كما في الملهاة. أما تلك القطع الداعرة التي يلفقها ضعاف الكتاب، ويمثلها صغار الفرق، تمليقاً للشهوة وتصيُّداً للمال، فهي من عمل الزور وتجارة المحظور وإذاعة الفاحشة، وهي لا تجد مكانها إلا في الشعوب البهيمية الجافية التي لم يثقفها علم ولم تهذبها حضارة، فواجب النقد الأدبي يعن مهاجمة هذا الخطر، فان ضرره لا ينال الخلق وحده، وإنما ينال الأدب والذوق والفن جميعاً.
العمل الروائي
العمل الروائي هو الفعل الذي يجري على المسرح من قيام وقعود وحركة وسكون. وبعبارة أدق هو العراك الناشب بين الوسائل والحوائل التي تتنازع حادثا من الحوادث، فالأولى تعمل لوقوعه، والأخرى تعمل لمنع أو إنتاج ضده.
فمن هذا التعريف نستنتج أن العمل لابد أن يكون مريباً غير مؤكد، ثم لا يزال في عماية من الشك وغيابه من الظن حتى آخر الرواية، لأن عقدة العمل إذا لم يكن لها إلا محل واحد يدل عليه المنطق، ويتنبأ به المشاهد، فقد المداورة، وهي تحول ذهن الشاهد من الضد إلى الضد تبعاً لتصرف الأشخاص وتقلب الظروف، فتارة يقدر النتيجة على نحو معين، وتارة يقدرها على نحو آخر، وهكذا دواليك حتى ينتهي العمل، وربما انتهى على غير ما فكر وقدر. فالتباس العمل هو الذي يوجد هذه المداورة ويفرض كثيراً من الحلول، ويف المشاهد بين الخوف والرجاء، وعلى ذلك كله يقوم أساس التشويق والجاذبية، ولكن ماذا عسى يصنع الكاتب لو كان للعمل حلان ممكنان فسبقه ذكاء المشاهدين إليهما، ووقف قبل النهاية عليهما؟ أو لو كانت روايته على ما يريد الفن، ولكنها مثلت غير مرة، فعرف الناس كيف تتعقد وكيف تتحلل، إلا يكون معنى ذلك أن إبهام العمل لا يفيد المشاهد ولا يجذبه إلا أول
مرة؟ وجواب ذلك أن تذليل هذه العقبة ليس في طوق الكتاب ولا هو من واجبه، وإنما هو عمل الممثل وأخص واجباته. وهل يكون الوهم المسرحي بالغاً كماله إلا إذا أنساك ما تعلم وشغل فكرك بما ترى؟
كذلك نستنتج من التعريف أن الحوادث المتعارضة كلما كانت مسافة الخلف بينها بعيدة، ومناقضة بعضها لبعض شديدة، كان شأنها أهم وجاذبيتها أقوى، وذلك حق لا جدال فيه، فان حوادث العمل إذا تتابعت طائفة منها مفرطة في الحزن، وأخرى مفرطة في السرور، كان حلها أمتع وألذ مما لو سارت ضعيفة في جهة وقوية في أخرى، أضرب لك مثلا برواية بُوليُكت لكورني: لو أن كورني جعل (بولين) مشغوفة الفؤاد بحب زوجها لكانت المشكلة أعقد وأصعب، وموقف بولين أقسى وأرهب، ولكن كورني جعلها عاشقة (لسفير) ففضل جاذبية الإعجاب على جاذبية الإرهاب، وأطاع عبقريته في هذه القطعة فحرك الدهش وسكّن الفجيعة.
وليس تعاقب الحزن والسرور والخوف والرجاء من خواص المأساة، وإنما يكون في الملهاة أيضاً، فان جاذبيتها لا تتم إلا بشيئين: أولهما أن تجعل المشاهد يتمنى أن يؤول أمر الأضحوكة إلى السخرية والاحتقار، ثانيهما أن تولد في نفسه القلق والفضول والرغبة في أن يرى هذه الأمنية كيف تتحقق. ففي رواية البخيل يدور في نفس المشاهد هذا السؤال: أيتزوج البخيل من مريان أم يتخلى عنها لابنه؟ وفي رواية ترتوف أو الشيخ متلوف تترد على خاطره هذه المشكلة: أيفتضح أمر ترتوف عند أُرجون ويبوء باللعنة والخزى أم يتمتع بثمرة حبه وخبثه؟ على أن الحزن في الملهاة يجب ألا يتعدى أشخاص الرواية إلى جمهرة المشاهدينفان ذلك ميزة المأساة. ومن حق النظارة عليك أن تسرهم على حساب أشخاصك فتضحكهم من بكائهم وتسعدهم بشقائهم. وسيمر بك تفصيل ما أجمله التعريف من صفات العمل وتحليله فنجتزئ الآن بذلك.
يتبع
(الزيات)
بمناسبة الفيضان المبارك
النيل
للأديب حسين شوقي
عند ما انتهى المصريون من تشييد معبد الكرنك الفخم، تكريماً للإله (آمون)، دعا (آمون) الآلهة الآخرين إلى اجتماع خاص ليختاروا أحسن هدية تقدم لبني مصر مكافأة لهم على عملهم، ولا سيما أن المصريين ما برحوا يبنون مثل هذه المعابد الشاهقة لآلتهم من آن الآخر. . . فاقترح (هوروس) الإله الشاب أن تقدم إلى فرعون آلة سينما لتسليته هو وأولاده في ليالي الشتاء العابسة، ولكن الإله (سوكر) وكان شيوعي النزعة اعترض على هذا الاقتراح قائلاً: إن الشعب المصري هو الذي أُرهق في بناء المعبد، فالهدية يجب أن تكون له لا لفرعون، فثار بعضهم على اعتراض (سوكر) وكاد المجلس ينقلب إلى عراك بين شيوعيين وفرعونيين، إلا أن (أنوبيس) - آله الموتى - صاح فيهم بصوته المزعج: أنصتوا إليّ لقد وجدت ضالتكم، أقيموا للمصريين جبلاً الذهب بجوار طيبة أو منفيس فانهم يعبون هذا المعدن في حياتهم، ويستصحبونه معهم في قبورهم بعد مماتهم. ولكن (حوتيب) آله الحكمة اعترض على هذا فقال: إن وجود الذهب بمثل هذه الكثرة في مصر يعلّم أهلها الجشع والكسل. . ثم هنالك الأجانب الذين يرهقون البلاد وهي فقيرة، فما بالك إذا عرفوا وجود مثل هذا الكنز؟ إن هؤلاء القوم لا حدّ لطمعهم، تصوّر انهم أنشئوا بوارج في السموات ليستولوا بها على عالمنا العلوي بعد ما انتهوا من الاستيلاء على الأرض؟
ثم رأى إله ثالث غرس غابات في مصر حتى تخف حرارة الجو في الصيف، ولكن (ست) وكان إلها أنانياً صاح: هل جننت حتى ترى مثل هذا الرأي؟ إلا تدري أن الجو إذا رطب صارت هياكلنا رماداً في سنين قليلة.؟
ثم نهض (آمون) الإله الأكبر الذي لازم السكوت طول الحديث وقال: أبنائي الأعزاء لا تتبعوا أنفسكم، ولا تجهدوا قرائكحم، لقد وجدت ما تنشدون وعرفت أحسن هدية تقدم لمصر ولشعبها الوفي، سأعطيها حياة هنيئة سعيدة، سأعطيها نهراً عظيما ينتفع به الحاكم والمحكوم، الإنسان والحيوان على السواء. سأعطيها وادياً خصباً. . سأعطيها النيل. .
فوافق الآلهة بإجماع الآراء على هذا الرأي المفيد، ثم استمر (آمون) قائلاً: وسندعو الآلهة
الأجانب إلى الاحتفال بهذا الحادث الجليل، ثم جلس (هوروس) الإله الشاب الذي كان يقوم بأعمال السكرتارية في المجلس، بناء على إشارة من الرئيس، إلى آلته الكاتبة فكتب الدعوات على وجه السرعة، ثم ناولها إلى (آمون) فمهرها بخاتمه، ثم أعطيت إلى (أبس) الإله الطائر فحملها في منقاره وطار بها إلى الأقطار الأجنبية. . بعد ذلك أخذوا يبحثون عن المكان الذي يبدأ منه النهر فرأى أحدهم أن تكون بدايته أسوان، ولكن الحكيم (حوتيب) اعترض مرة أخرى قائلاً: إن مصر سوف يزيد عدد سكانها مع الزمن، فيحسن لذلك أن نعطي لها فسحة. . وبعد البحث اختيرت إحدى بحيرات بلاد (البونت) المقدسة لارتفاعها، ولتكون تحت إشراف الآلهة ورعايتها. . ثم جاء يوم الاحتفال وكان يومًا فريداً في التاريخ، شرب فيه الآلهةكثيراً من نبيذ قبرص اللذيذ الذي جاء به (دينوزيس) إلهِ الخمر الإغريقي هدية (لآمون)، كما أن (إيزيس) الآلهة الساحرة قامت بألعات سحرية مدهشة سرّ لها الناظرون، منها أنها قطعت بالسكين رأس دجاجة، ثم أشارت بعصاها إلى ذلك الرأس فعاد فالتحم بالجسد. وقد أعجب بهذا المنظر، بصفة خاصة، (بعل) إله آشور الكبير فأخذ يضحك ملء شدقيه. . ثم قصد الجميع إلى جبل قائم بجوار البحيرة، فأشار (آمون) إليه بيده وأخذ ينادي أرواح الماء بصوت عظيم يشبه الرعد، فتفجرت المياه نقية عذبة من الصخور. . في جلال وروعة. . وكان (بنتاؤر) الشاعر، البشري الوحيد الذي دعا إلى الحفلة، ليخلد على قيثارته ذلك اليوم المهيب، ولكنه أرتج عليه من هيبة المنظر وظل صامتها لحظة، وقد أخضلت عيناه بالدمع، ولم تحل عقدة لسانه إلا بعد أن شرب جرعة من ماء النيل، فأنشد:(سلامٌ عليك أيها النيل! يا من يتفجر من الصخر حياة ويسراً! إنك حينما تهبط تخضّر الأرض، كما أن عيدان القمح تنحني لك إجلالاً، وتقدم لك بذورها قرباناً. . إنك تخلق للصانع العمل، وللأرض الغبطة. كما أن كل معدة تسر لمقدمك، كذلك يهتز كل منكب من شدة الفرح. . دم أيها النيل حياة لمصر ويسراً للمصريين!)
فصاح الحاضرون: آمين! آمين!
حسين شوقي
12 - أعيان القرن الرابع عشر
للعلامة المغفور له احمد باشا تيمور
الشيخ أحمد مفتاح
العالم الشاعر الناثر، أحمد بن مفتاح بن هرون بن أبي النُّعاس ينتهي نسبه إلى عُمار بضّم العين المهملة وتخفيف الميم، أحد العرب النازلين من الصفراء إلى أرض مصر حوالي القرن العاشر، وبين أبي النعاس وعُمار جدان أو ثلاثة، ولما ورد عمار مصر قطن بإقليم منية ابن الخصيب في صعيد مصر، وقامت بين عرب تلك الجهة منازعة أدت إلى مقاتلة، كان لجّد المترجم أبي النعاس اليد الطولي فيها، ويقال إنه حضر بعض الوقائع بدون سلاح، ولقوّته أمسك جحشاً صغيراً من رجليه وضرب به حتى مات الجحش.
وقطن هرون الجدّ الأدنى للمترجم في بلدة على الشاطئ الغربي للنيل بإقليم المنية تابعة لبني مزار، أنشأها حسن بن عبد العزيز أحد أجداد المترجم من جهة والدته، وهي بلدة صغيرة اشتهرت بين العامة باسم أبي عجيز محرفاً عن أبي عزيز، يعنون به حسن بن عبد العزيز مؤسسها، على عاداتهم في تكنية الرجل باسم أبيه، وما زال هرون المذكور بها حتى ولد له مفتاح أبو المترجم سنة 1229، وكان في هذه البلدة رجل اسمه علي أبو محمد، من أقارب والدة المترجم، جعلته الحكومة شيخ المشايخ، وهو لقب كان يطلق إذ ذاك على من يحكم عدّة بلاد، وكان جائزاً في معاملته فاعتدى على أناس من أهل البلد بالضرب حتى أشرفوا على الهلاك فاضطر بعض أهلها إلى الشكوى للمدير مستعينين بعلي افنيدي الشريعي والد حسن باشا الشريعي، وبعد اللتيا والتي ساعدوهم على الانفصال فانفصلوا واختطوا بلدة أخرى شمالي أبي عزيز سنة 1264 سموها نزلة عمرو، وانتقل إليها هرون بولده أبي المترجم، وبني بها دارًا كبيرة، وبقي بها حتى مات بعد أن أسن، وكان سديد الرأي يُرجع إليه في المشكلات.
ثم سكن في هذه البلدة بعده ولده مفتاح، وتزوج بها وأعقب جميع وأولاده، وحج سنة 1304 فأرخ حجه ولده المترجم بقوله:
حَجَّ مفتاحٌ أبي معتمرا
سنة 1304
ومات سنة 1308، وكان طويلاً خفيف اللحية، وقد وخطبها الشيب، وكان اشتغاله بالزراعة دون غيرها، ويتحرى الحلال في كسبه، ويقول الحق ولو على نفسه، وتعلم القراءة والكتابة في الكبر ولم يجدهما، ولما وصل ينعيه إلى ولده المترجم بالقاهرة رثاه على البديهة بقوله:
قضى والدي بالرغم مني وليتني
…
سبقت لأمر ساورتني غوائله
لقد عاش دهراً لم يشبه بريبة
…
حياة سخيّ فاض بالقوم نائله
وقام بعبء الدين والفضل صادقا
…
وما المرء إلا دينه وفضائله
عليه سلام كلما غاب كوكب
…
وسالت من الجفن القريح هو أمله
وكانت ولادة المترجم ليلة السبت الرابع من شعبان سنة 1274 ونشأ بالبلدة المذكورة في حياطة والده، وابتدأ القراءة على الشيخ جاد المولى، فقرأ عليه القرآن وبعض المتون، ومكث بعدها نحو ثلاث سنوات، ثم حضر إلى القاهرة سنة 1289 لطلب العلم بالجامع الأزهر، وتلقى عن شيوخ وقته، فقرأ النحو على الشيخ محمد الشعبوني المغربي، والشيخ عرفة سالم السفطي، والشيخ عبد الله الفيومي، والشيخ محمد البحيري، والشيخ سالم البولاقي، والشيخ محمد الانبابي؛ والفقه الحنفي على الشيخ عبد الرحمن السويسي، والشيخ صالح قرقوش، وحضر بعض دروس الأستاذ الكبير الشيخ محمد العباسي المهدي شيخ الجامع الأزهر، ومفتي مصر إذ ذاك؛ والبيان على الشيخ عرفة، والشيخ علي الجنائني، والشيخ محمد البحيري؛ وآداب البحث على الشيخ محمد البحيري المذكور، والمنطق على الشيخ محمد عبدة، والشيخ أحمد أبي خطوة، والشيخ سالم البولاقي، والشيخ محمد البحيري، والعروض على الشيخ محمد موسى البجيرمي.
وفي أثناء مجاورته بينما كان مسافراً من بلدته إلى القاهرة في سفينة كبيرة أيام زيادة النيل، نزل يغتسل على سكان السفينة مع جماعة فانحدر مع الماء في وسط النيل، وتبعه أحد المغتسلين لإنجاده، فما زال سابحاً حتى كلت سواعده وكاد يغرق، ثم نجا وخرج على الشاطئ الغربي للنيل وأرسل إليه من بالسفينة زورقا وصل به اليه، وسافر مرة من القاهرة عائداً إلى بلدته في سفينة، فتشاحن مع ربانها تشاحناً أدى إلى إخراجه منها، فخرج إلى بلدة يقال لها الرّقة بإقليم بني سويف، لا يملك شروي نقير، سوى كتاب مخطوط رهنه في أجرة
القطار لبلدته، وله نوادر كثيرة أمثال ذلك من المشي على القدمين بعيدة، والمبيت على الطوى في كل غدوة وروحة بين القاهرة وبلدته.
وبعد أن قضى سبع سنوات بالأزهر مجداً في طلب العلم ومباحثة الشيوخ، عاد إلى بلدته ومكث بها نحو سنتين مشتغلاً بحفظ الشعر ونظمه، ولم يكن له بالأزهر كبير عناية به لانصرافه إلى تحصيل العلوم، ثم حضر إلى القاهرة، ودخل مدرسة دار العلوم سنة 1298 فأعاد بها معظم العلوم العربية مع الجزء الأول من تاريخ ابن خلدون المشهور بالمقدمة على الشيخ حسين المرصفي، ثم خلفه في تدريس اللغة العربية شيخنا الشيخ حسن الطويل فتلقى عنه بعض المثل السائر، ورسالة ابن زيدون الهجوية، والزوراء للجلال الدوّاني في الحكمة، وانتفع به كثيراً، وقال فيه وفي الأستاذ المرصفي:
دار العلوم شكت فراق أبي الهدى
…
المرصفي الحبر أو حد ذا الزَمنْ
فأجبتها حَسن المعارف بعده
…
لا تجزعي إن الحسين أخو الحسن
وتلقى التفسير والحديث بالمدرسة عن الشيخ احمد شرف الدين المرصفّي، والفقه الحنفي عن الشيخ حسونة النواوي، والعلوم الطبيعية والرياضية على أساتذة آخرين بالمدرسة، ثم خرج منها بعد أن نال الشهادة الدالة على براعته سنة 1302، فقال بعد مفارقته المدرسة مضّمناً:
دار العلوم نثرتِ نظم أحبة
…
كانوا بدوراً في سماء علاك
حتى بَلى عهدي بهم وتغيروا
…
يا دار غّيرك البلى ومحاك
واشتغل بعد خروجه من المدرسة بالكتابة في صحف الأخبار كالأعلام والقاهرة، وبالتدريس لبعض أناس منهم السيد توفيق البكري، ولما اتصل به حسّن له خلع العمامة والجبة وإبدالهما بالملابس الإفرنجية، والطربوش، ثم فارقه واستُخدم كاتباً بمحكمة بني سويف الأهلية نحو عشرة أشهر، ثم انفصل وورد القاهرة فكتب في المؤيد أياماً قليلة، ثم امتحن للدخول بمدرسة دار العلوم مدرساً للإنشاء فحاز قصب السبق وعاد للعمامة والجبة، وأقام بها تسع سنين انتفع فيها الطلبة وتخرّج عليه كثيرون ممن يحسنون الكتابة الآن. ثم نقلوه بعد ذلك مدرساً للنحو بالمدارس الابتدائية في الأقاليم، فحطوا من درجته إلا أنهم أبقوا له مرتبه، وكان أخيراً بمدرسة بني سويف ومرض بها فأحيل على المعاش واختار السكنى
بالقاهرة، وابتغى مكاناً يعتزل فيه الخلق ويشتغل بالمطالعة وإتمام بعض تآليفه، فاختار مصر الجديدة واكترى بها داراً صغيرة أقام فيها بمفرده مع خادم مسنّ كان يقضي له حاجاته من السوق، ويقوم بتنظيف المكان، وكان الشيخ مريضاً بمرض يعرف عند الأطباء بتصلّب الشرايين وهو لا يعلم بأمره ولا يهتمّ بنفسه، حتى اشتد عليه أخيراً وهو يظنه ضيفاً مرتحلاً، ثم تركه الخادم وعاد لبلده، فبقي وحيداً بالدار حتى أدركه أجله المحتوم فجأة والأبواب مغلقة عليه، وبقى أياماً لا يعلم به أحد، حتى ظهرت رائحته للجيران فأخبروا رجال الشرطة فحضروا وكسروا الأقفال فألفوه مائلاً في سريره وجزء من كتاب الأغاني ملقى بجانبه، وكان ذلك يوم الأحد 28 محرم سنة 1329، وقرر الطبيب أنه مضى على وفاته ثلاثة عشر يوماً، فنقلوه ودفنوه تغمده الله برحمته.
ولم يكن اشتغاله بالعلوم على السواء، بل كان جلّ اعتنائه بمتن اللغة والشعر والنثر، فحفظ من اللغة مقداراً وافياً من الغريب وغيره، وكلف بتصحيح شرح القاموس عند طبعه برّمته المرة الثانية. وكان اشتغاله بالشعر في الأزهر قليلا كما قدمنا، ولم يبرع فيه إلا عند دخوله دار العلوم طالبا، وقد أرّخ أو إجادته فيه بقوله:
أقول الشعر عن فكر سليم 1298
ونظم بعد ذلك القصائد المتينة والمقطّعات الثمينة، وكان ينهج فيها منهج العرب لكثرة نظره في دواوينها واقتناء الكثير منها استنساخاً أو نسخاً بيده، ولو تم له الخيال الشعري كما تمت له الديباجة وجزالة الألفاظ لكان أشعر أهل زمانه بلا منازع. ولما عاد الأمير محمود سامي باشا أشعر شعراء العصر من منفاه بسيلان، وكان بعيد العبد بشعراء مصر ومن حدث منهم لم يعجبه إلا شعر المترجم في رصانة البناء وسلامة التراكيب. وأما نثره فتوأم شعره في الأسلوب العربي، وكان مولعاً بالتضمين فيه من شطر عربي أو مثل سائر، لا تكاد تخلو قطعة منه من ذلك.
وقد ترك من التآليف (رفع اللثام عن أسماء الضرغام) جمع فيه ما ينيف على خمسمائة اسم للأسد، طبع بمصر؛ و (مفتاح الأفكار في النثر المختار) جمع فيه مختار النثر من رسائل وخطب من الجاهلية إلى هذا العصر، وهو كتاب جليل الفائدة، طبع بمصر أيضاً؛ و (مفتاح الأفكار في الشعر المختار) جمع به مختار الشعر من الجاهلية إلى عصرنا هذا، لم
يطبع ولم نطلع عليه؛ وله ديوان حماسة من الشعر العرب استدرك به على أبي تمّام مافاته؛ و (مفتاح الإنشاء) لم يكمله، وأخذ في أواخر أيامه في جمع شعره ونثره وترتيبه في ديوان، ولا أدري ما فعل الدهر به.
وكان رحمه الله غريب الأطوار، سريع الغضب سريع الرضا، مع صفاء الباطن، له شذوذ في أخلاقه يتحمله من عرفه وعاشره، أسمر اللون، أسود اللحية والشاربين كبيرهما، أميل إلى الطول، له هزة وتبخير في مشيته لمرض كان أصابه في ظهره ورجليه. ولما انتقل إلى مدارس الأقاليم صار يحضر إلى القاهرة في فترات فينزل عندنا ويجتمع به إخوانه وأصدقاؤه في ليال كنا نحييها بالمطارحات الأدبية وإنشاد الأشعار.
ومات لم يعقب غير بنتين زوجهما في حياته، رحمه الله.
الشيخ أحمد وهبي
كان طالب علم فقير ثم تزوج بإحدى الموسرات فحسنت حاله وفتح له حانوت طرابيش بالغورية جعلها مجتمع الأدباء والشعراء ولم ينجح في التجارة فتركها وأخذه الشيخ مصطفى سلامة النجاري معه في الوقائع المصرية وجعل محرّراً ثانياً بها ثم فصل وتقلبت به الأحوال فاتصل بأسرة المويلحيّ ثم بالشيخ علي أبي النصر شاعر الخديوي إسماعيل باشا فسعى له في الاستخدام بنظارة المعارف فلم يوّفق.
احمد تيمور
(الرسالة) بهذه الترجمة انتهى ما كتبه العلامة الجليل المرحوم أحمد باشا تيمور من تراجم علماء القرن الرابع عشر وأدبائه، وسيدرك القراء ولا ريب حزاز من الأسف على انقطاع هذه السلسلة الفريدة في روحها اللطيف، وأسلوبها العذب، ومعرضها المشرق، وصدقها الأخاذ، وطابعها الجميل. فهل لشيخ من شيوخ الأدب اجتمعت له مزايا الفقيد من فهم العصر، وملابسة الأشخاص، وتذوق التاريخ، وتوخى الايجاز، وصراحة اللهجة، يصل ما انقطع من هذه السلسلة؟ ومَنْ أحق بهذه الخدمة الجليلة للأدب والعلم والوطن من الأستاذ عبد الوهاب النجار؟
في تاريخ الأدب
رأي جديد في المعلقات
نقد وتعقيب
بقلم محمد طه الحاجري
كتب الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي فصلاً في (الرسالة) جعل عنوانه: (المعلقات. رأي جديد فيها)، وقد والله فتننى هذا العنوان أيما فتنة، واستوقفني عن قراءة المقال برهة، وأسلمني إلى طائفة من الخواطر غير قليلة. فقد طال عهدنا بالطريف من الآراء في تاريخ الأدب، واشتدت حاجتنا إلى إعادة النظر وتقليب الفكر في تراثنا الأدبي، واستشفاف الحقيقة المستكنة في ثنايا النصوص المختلفة، والتأويلات الكثيرة، ولا سيما فيما يتعلق بالعصر الجاهلي، وقد وقفنا منه في مجهل لا يتبين الباحث فيه إلا لمحات خاطفة، وأثارات ضئيلة، يكتفنها الغموض ويحيط بها الإبهام وتلعب بها الأوهام. . . وما نشك في أن المعلقات صورة صحيحة من ذلك العصر، مهما كان أمرها، ومهما اختلفت فيها مذاهب الباحثين وآراؤهم. فكل رأي جديد فيها جدير أن تلتفت إليه القلوب. وتصغي إليه العقول، ويتلقاه المتأدبون بالبشر والترحيب، إذ الجديد وحده هو الذي ينتظر منه أن يبدد الظلمات ويزيل الشبهات، ويفسر المشكلات. وليس الأستاذ الصعيدي ممن يتهم بأن له مع المستشرقين علاقة هوى، فيميل ميلهم، ويفسد الأدب والتاريخ بآرائهم! فجديده لابد أن يكون الجديد الخالص لا يشوبه شوب من تقليد. وهو رجل محافظ بطبعه، فيما يظن الناس، فجديده خالص لوجه العلم والحقيقة، لا عن رغبة في الخلاف وهيام بالتجديد.
حدثتني بهذا الحديث نفسي، وأنا واقف عند حد العنوان، ولكني كنت أنتقل في مدارج الغبطة والفخر والسرور، حتى أقبلت على المقال ألتهمه التهاماً، فإذا بي لا أحس شيئاً مما خيله لي المقام، وزينته لي الأوهام، ثم اتهمت مشاعري فعدت إلى المقال أقرؤه جملة جملة وكلمة كلمة. فإذا بي أر تكس على عقبي، وأحس في نفسي ما يحسه الطاعم لقاء طعام سئمته نفسه، ومجه حسه، وبرمت به معدته من كثرة ما تقلب فيها.
أما هذا الرأي (الجديد) فليس رأيا في المعلقات من حيث هي صورة للجاهلية، نلمح فيها
صفاتها، ونقرأ فيها خلائقها وعاداتها، وليس بحثاً فيها من حيث وثاقة رواتها، أو الوضع في أبياتها، ولكنه رأى في سبب وتسميتها، ثم ما يحتاج من توجيه وتعضيد، وإنحاء على الآراء الأخرى بالمحاجة والمجادلة ثم التوهين، وهذا بحث جليل لا يضع من قيمته جزئية موضوعه، مادام متمشياً مع الأسلوب العلمي، قائماً على أصول البحث الصارمة.
يقول الأستاذ في سبب التسمية: (فهذه المعلقات معلقات مما حدث للناس بعد جمعها من حبهم لها وتتبعهم إياها بما كانوا يتتبعونها به من حفظها وشرحها، وهي معلقات بمعنى محفوظات أو مشروحات، وقد خصت بهذا الاسم لأنها كانت أول ما عنى بجمعه وتدوينه وحفظه وشرحه من الشعر).
فهو يذكر هنا سببين متداخلين: الحب والتتبع، ثم التتبع بالحفظ والشرح، وما أدري فيهم هذه المعاظلة؟. أما كان الأدنى إلى الاستقامة أن يقتصر على السبب الأول، ويكون ما بعده مرتباً عليه، راجعاً إليه ناتجاً منه، فيكون سبيل التسمية هو هذه الدرجة الرفيعة التي قدرها الناس لهذه القصائد، فتعلقوا بها، وأولها حبهم وإعجابهم، وما يمليه عليهم الحب والإعجاب من القيام عليها بالاستظهار والشرح، أما التعليق بمعنى كتابة الشرح على المتن فما نسحبه مما كان يسوغ في عرف اللغة حينذاك.
هذا هو الجديد فيما يزعم الأستاذ، ولوددت والله لو كان جديداً حقاً، فنرفع به رءوسنا تيهاً وفخراً، ولكنه رأي مقرر، يدرسه طلاب المعلقات فيما يدرسون من الآراء فيها منذ أصبح لدراسة المعلقات في مصر سبيل علمي معبد، وأسلوب جامعي ثابت، فليس الجديد في حقيقة الأمر إلا اعتبار هذا الرأي جديداً اليوم.
وإذا كان لابد من ثبت لما ندعيه من قدم هذا الرأي وإمعانه في الشيوع بين جمهرة العلماء، فها هو العلامة المستشرق الجليل نولدكه وهمك به من علامة ذائع الصيت، يقول في الفصل الذي كتبه عن المعلقات في دائرة المعارف البريطانية، وهي أدنى ما يقصد إليه الباحثون:
(إن قصة القول بأن هذه القصائد كتبت بالذهب ترجع إلى تسميتها بالقصائد المذهبات، وهي تسمية مجازية للدلالة على عظم أمرها، وكذلك يجب أن نؤول تسميتها بالمعلقات على هذا الأساس نفسه، فمن المحتمل جداً أن تعنى هذه التسمية أن هذه القصائد قد سمت إلى
درجة خاصة مجيدة، وأن هناك اشتقاقاً آخر من المادة نفسها، وهو كلمة (علق)، ومعناها الشيء النفيس) فمدار القول هو الاعتبار المجازي في فهم الكلمة وإغفال المعنى الحرفي لها. فأين هي الجدة التي يسندها الأستاذ إلى رأيه؟.
وأما قوله إن المعلقات هي أول ما عنى بجمعه وتدوينه وحفظه بدعوى لا نحسب إلا أن علم الأستاذ وفضله ينوءان بها، وأيا كان الأمر، فان تعيين الأولية في هذا العصر البعيد أمر ليس من السهولة بحيث يلقى في كلمة في درج الكلام، بل لابد من النص الواضح أو الاستنتاج القاطع.
وبعد أن انتهى الأستاذ من عرض هذا الرأي وتوجيهه عمد إلى ما يخالفه من الآراء عرضاً ومناقشة، وقد اكتفى من هذا برأيين: الأول رأي ابن عبد ربه وابن خلدون وابن رشيق، والثاني رأي أبي جعفر النحاس المصري، وكان المنتظر أن يعرض إلى غير هذين الرأيين من آراء المحدثين، فقد جعل مستهل مقاله أن العلماء قد اختلفوا قديماً وحديثاً في سبب تسمية هذه القصائد، فالقارئ معذور إذا ظن أن الأستاذ يعرف مذهب المحدثين إلى التفسير المجازي، ثم أغضى عنه تمهيداً لوصف رأيه بالجدة والابتكار، وإلا فأين ما خالف فيه المحدثون عن رأي المتقدمين؟ ولكنا لا نقول بهذا، فليس مذهبنا في النقد أن ندخل إلى الضمائر ونحاسب على النيات، ولا نقول هنا إلا أن أول واجب يفرضه العلم على الباحث المؤرخ هو التقصي في طلب النصوص ومعرفة الآراء، والتثبت في وصف الرأي، والعصمة لله وحده.
أما أول الرأيين فيقول إن المعلقات كتبت بالذهب، وعلقت على أستار الكعبة، وكأن الأستاذ رأي هذا الرأي بين البطلان ظاهر الاستحالة، فاكتفى بعرض أقوال القائلين به وأغفل مناقشته ونقضه.
وأما الرأي الآخر فينكر دعوى تعليق المعلقات على أستار الكعبة، ويذهب إلى أن الملك كان إذا استحسن قصيدة مما كان ينشد في سوق عكاظ قال علقوا لنا هذه وأثبتوها في خزانتي فانظر ماذا يصنع النقد في هذا الكلام؟ يقول أبو جعفر (الملك) مطلقاً من غير تعيين، فيأبى الأستاذ إلا أن يفترض أن هذا الملك هو النعمان بن المنذر، ثم يبني على هذا الافتراض الذي افترضه هو اعتراضه موجهاً إلى أبي جعفر، فيقول إن عصر النعمان
أحدث من عصر كثير من أصحاب المعلقات فلا يصح أن يكون هو الذي كان يعلق قصائدهم بخزانته بعد إنشادهم لها بسوق عكاظ واستحسانه إنشادها، وهذا ولا ريب سبيل ملتو، وتحكم في النقد غير محمود، وتحريف للكلم عن مواضعه، وتخصيص للعام بدون مخصص.
ويتوارد العلامة نولدكه والأستاذ الصعيدي في نقد عبارة النحاس عند هذه النقطة، أما الأستاذ الصعيدي فقد ذهب إلى ما رأينا من التحكم والبناء على الفرض، وأما نولدكه فيقول إن من الصعب احتمال أن ملكاً عربياً كان يشهد سوق عكاظ. ويؤلمنا والله أن يكون هذا العلامة الأعجمي أكثر توفيقاً، وأهدى إلى الجادة في فهم الكلام وتخريج النصوص.
ثم ينتقل الأستاذ إلى وجه آخر من وجوه النقد، فيقول إن سوق عكاظ التي أجمعوا على أن تلك القصائد كانت تلقى فيها أحدث بكثير من عهد أصحاب المعلقات، لأنها أقيمت بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، ولوددنا والله دلنا الأستاذ على مصدر هذا القول، فلسنا نذكر أن ياقوتاً تعرض في معجمه إلى تاريخ إنشائها، والذي نحسبه أن عهد هذه السوق أقدم مما ذكر الأستاذ، ففي سيرة ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد حرب الفجار وعمره أربع عشرة سنة، ويذكرون في سببها أن قريشاً حين بلغها مقتل عروة الرحال، كانت في عكاظ، وفيها قامت الحرب، وسميت باسمها، وقال ابن الزبعري في مدح العنابس:
وفي يوم عكاظ منعوا الناس من الظلم.
بل إنهم ليذكرون فجاراً آخر قامت وعمر الرسول صلوات الله عليه عشرة أعوام، ويذكرون في سببها أن أحد الغفاريين كان له مجلس في سوق عكاظ يفتخر فيه، ويزعم أنه أعز العرب فوثب عليه رجل فضربه بالسيف على ركبته.
وأوضح من هذا في الدلالة على قيام هذه السوق قبل التاريخ الذي حدده له الأستاذ ما جاء في أخبار عبد شمس بن عبد مناف أن زوجته عبلة بنت عبيد كانت قبله تحت رجل من بني جشم ابن بكر فبعثها بأنحاء سمن تبيعها له بعكاظ، فباعت السمن وراحلتين كان عليهما وشربت بثمنها الخمر. . الخ القصة، وهي مذكورة في الجزء الأول من الأغاني في أخبار عمر بن أبي ربيعة، وهي تدلنا دلالة قاطعة على قيام سوق عكاظ في عهد عبد شمس،
وأين عبد شمس مما ذكره الأستاذ؟ فكيف يصح مع هذا أن يكون عام 586 تاريخياً لبدء قيامها؟
والأمر بعد هذه النصوص كلها بعيد الاحتمال بالنسبة للأمة العربية، وهي أمة تجارية منذ أقدم عصورها، وقد جعلت من أسواقها نطاقا يحيط بالجزيرة، ونظمت قيامها تنظيماً يتفق مع سير التجارة، وكانت عكاظ حلقة من هذه السلسلة. فكيف يسوغ القول بأن إنشاءها كان في هذا العهد المتأخر؟ ولكن لعل الأستاذ قد اعتمد على نص صريح قوي يضعف ما قدمنا من النصوص، ويهدما ما رأينا من منطق الأمور.
وبعد، فلا يحسبن القارئ أننا ندافع بهذا القول عن رأي أبي جعفر النحاس، فلسنا، ولله الحمد، من القائلين بالتفسير الحرفي لكلمة المعلقات، وما نبغي من كل ما أسلفنا إلا أن نقر الأمور في نصابها، فلا نغمض في الإقرار بالحقوق لأصحابها، وأن نصطنع الإنصاف يفي نقد ما نراه جديراً به، فلا نتجنى على الشيء مالا يحتمل، ولا نستعصم إلا بالقاطع من الأدلة والصحيح من الحجج. ونرجو أن نكون قد وقفنا على الجادة في هذا النقد فلم يستزلنا الهوى ولم يخطئنا التوفيق.
محمد طه الحاجري بكلية الآداب
مِن طرائف الشِعر
نادرة
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
ما أنتِ إلا نادرة
…
في كل فنّ ساحره
للسمع أنتِ متُعةٌ
…
ومُتعةٌ للباصره
أنتِ لشعبٍ كُسِرَتْ
…
منه القلوب جابره
أميرةَ الفنّ على ال
…
إيداع أنتِ قادره
أنتِ جديرة بح
…
قٍ أن تكوني الآمره
وأنتِ عبقرية
…
من أكبر العباقره
معجزة بالغة
…
من معجزات القاهره
بين أغانيكِ ووج
…
هكِ الجميل أصره
ليلتنا من بيضاء مِنْ
…
خير الليالي الساهره
حسُبكٍ أن الناس حو
…
لَ الرافدَين شاكره
أما الأغاني فهي
…
من قلب رقيق صادره
في جوّها الأرواح من
…
أفراحهنّ طائره
بما بعينيكِ من
…
السحر القلوبُ شاعره
رفقاً فإنا لا نطي
…
ق النظرات القاهره
ما حيلة الضعيف تل
…
قاء السيوف الباتره
ليس له من حُجَّة
…
غير الدموع الطافره
تعطي القلوبُ جِزيةَ ال_غرام وهي صاغره
من الجمال ليس تش
…
بع العيونُ الناظره
الغادة الحسناء تش
…
به النجومَ الحاسره
أنحن فوق أرضنا
…
أم في السماء الزاهره؟
لو كان يحيا الَميْتُ أح
…
يته الأغاني الساحره
فحبذا الفن وح
…
بذا أغاني (نادره)
نحن بحفل جامع
…
للنخبة المؤازره
كأنما عاد الربيع
…
ناثراً أزاهره
يا عندليب الروض غرّ
…
د للوجوه الناضره
أميرةَ الفن تحيّ
…
تي إليك عاطره
كوني لشيخ قد صبا
…
إلى الجمال عاذره
لا تحسبي الشيوخَ أم
…
ثالَ الرسوم الدائرة
كل امرئ يتبع في
…
أمياله عناصره
وهل إذا النفس صبت
…
في الشيخ فهي وازره؟
وقد يعود لي الصبا
…
وعهدُه في الذاكره
أبكي إذا ذكرته
…
على سنيه الغابره
إن لم أُجلَّ الفن فَلْ
…
تَدرْ عليَّ الدائره
وَلْنَتَمَلَّ قبل أن
…
نردي الحياةَ الحاضره
إن الحياة كلها
…
إلى الحتوف صائره
ولْنكسِب الدنيا وربّ
…
ي غافرٌ في الآخره
هذا غناء فيه آ
…
ثار النبوغ ظاهره
أجدتِ يا نادرتي
…
أوّلَهُ وآخره
أشيم ناراً سِعُرت
…
وأنتِ أنت الساعره
والناس في حرب الهوى
…
مدحورةٌ وداحره
يا زهرتي حيّتْكِ أن
…
داء الربيع الماطره
تحذّري تحذّري
…
من الزهور الغائره
هذا الهتاف المستطي
…
ر كله لنادره
غنَّتْ فكانت فتنة
…
في النغمات الثائره
وردّدت فهيجت
…
فينا الشجون الحادرة
تجسّ نبضَ العود أح
…
ياناً بأيدٍ ماهره
فيصرخ العودُ كطف
…
لٍ دغدغته الخافره
العودُ شاعرٌ بها
…
وهي به لشاعره
غنّى لحرّيتنا ال
…
حبيبة المهاجره
كنا بها في حقبة
…
من الشعوب الظافره
قضت على آمالنا
…
يدُ الزمان الغادره
هوت بنا ساعةَ أد
…
لجنا الجدودُ العاثره
ماكان هذا في مظن
…
ة النفوس الثائره
وربما دار الزما
…
نُ معُلِناً بشائره
فخوّل الشعبّ حقو
…
قَ الأمم المجاوره
بغداد
جميل صدقي الزهاوي
ثمالة كأس
للأستاذ فخري أبو السعود
بقية أيام تَقَضَّى كثيرها
…
بنعماَء أو بأساَء والعيش قُلَّبُ
غدوتُ أقضِّيها بأرضِ عَلقْتهاَ
…
وطاب بها لي مستراد ومذهب
وطاب اجتلاء الحسن بين شعابها
…
أشرِّق فيها تارة وأغرِّب
تَبَسَّمُ أحياناً فيعذب بِشْرُها
…
ولستُ بِخاَشً سُخْطَهَا إذ تُقَطَّب
بها مُسَتجَمُّ للجسوم ومتعة
…
وَرِىُّ وللنفس الشجية مهرب
إذا ما سقاها الغيث صفىَّ أديمها
…
ونقَّى ثراها حيثما يتصبب
قرفَّ بها عشب وشفَّ بها صفاً
…
وماد بها غصن ندىُّ مُرَطَّبُ
وفاح بها عطر ورقَّت نسائم
…
وتاه على البلور قاعٌ ومَشْعَب
فكم ثَمَّ من حُسن نثير منظَّم
…
وشِعْرٍ إلِهيّ هنالك يُكتب
على هَامهَا حيناً وفي وهَدَاتِها
…
أُصَعَّدُ في جنح الدجى وأُصَوِّبُ
وفي نشوة الآصال أو يقظة الضحى
…
وعند شروق الشمس أو حين تغرب
فكم ليلة قد جَمَّدَ البردُ ماَءها
…
بأحشائها أقبلت لا أتهيَّب
وقد عَوتِ الأرواحُ فيها وأطفأتْ
…
مصابيحها لم يَبْد ثمَّتَ كوكب
وكم مَشْرِقٍ بادرته في طلوعه
…
ومازال ماء المزن في الغصن يضرب
وقد عظَّ أهلوها وَأقبلتُ مِثْلَ مَنْ
…
له عند قرص الشمس في الأفقْ مأرب
يُنَقِّطُنى غصُن بُمنْهَلَّ قَطْرِهِ
…
ويعبق من حولي نسيمُ ويلعب
صَحَابي هاتيك الشِّعابُ أَلِفْنَني
…
ويعرفه خطوى حيثما رُحْتُ أدأَب
لقد آذنتْ بالبين صُحبتنا سوى
…
ثمالة كأس عن قليل ستنضب
أُبَا كِرُها صَفْواً وأَعْلّمُ موقنا
…
بأن ثَّماَلَ الكأس أشْهَى وَأطيَبُ
سأذكرها يوماً فَأَحْمَدُ عَهْدَها
…
وأَهفُو إليها مستهامًاَ وأَطرب
فخري أبو السعود
العودة إلى الريف
بقلم فريد عين شوكة
أمل على رغم الزمانِ يوافى
…
يا طالما ضنّ الزمانُ الجافي
لج الحنين بمقلتيّ إلى القرى
…
مأ وى صبايَ ومُنتدَى إلا في
يا نفسُ فاستبقى الزمانَ إلى غد
…
فغدٌ قرارُك بعد طول طواف
إسكندرية يا عروس الشرق من
…
ماضي العصور وغابر الأسلاف
ومُنى الشباب وُبغية الفتيات في
…
الصيف الحرور ومتعة المصطاف
مهماَ حبتْكِ يد الرشاقةَ حليها
…
ولبستِ أبراد الجمال الضافي
وبهرتِ شبان البلاد وشيبها
…
برُوائك المتوقرق الرّفاف
فالريف أزين من حِماك حرائراً
…
وأحبُّ لي من هذه الأطياف
خطرت عليه يد الإله فأبدعت
…
ما شاء من وشىٍ ومن أفواف
وصفت أصائله وطاب نسيمه
…
كنسيم جنات النعيم الصافي
وسعى إليه وران فوق ربوعه
…
سحرٌ عن العين الكليلة خاف
سحر تحيرت النُّهي في كنهه
…
فسمتْ به عن رائع الأوصاف
يا ريفُ شاهَ جمالك السحريّ من
…
سيل الخطوب الماِحق المِتلاف
وعدتْ عليك يد المدائن فاجتنت
…
ما فيك من ثمر وطيبِ قطافِ
وازدانَ مغناها بماِ لك فاغتدت
…
فتانة الأحشاء والأطراف
حتى استطال الفقر فيك وصوَّحتْ
…
دنياك من تحفٍ ومن ألطاف
وتكبكب الفلاحُ في أزماته
…
وغدا بمصر ضحية الإسراف
وأمضّه الفقر العضوض فحاله
…
ما بين مسغبةٍ وبين كِفافِ
وبنوه - يا لبنيه! - من غول الضنى
…
زهرٌ ذوىَ من حُرقة وجفاف
إن ضجّ بالشكوى فما من مُسعد
…
أو ضاق بالبلوى فما من واف
آذانهم صمّاء عما يشتكى
…
وعيونهم عما دهاه غوافِ
لكنهم متدافعون عليه كالطير
…
الصِدىّ على النمير الشافي
يجبون من دمه العزيز نقودهم
…
لتضيع في سرفَ وفي إتلاف
يا شِقوةَ الفلاح في مصرَ التي
…
لولاهُ لم تك غير بعض فَيافَ
إسكندرية كم رثيتكِ إذ رأي
…
تكٍ للأجانب سهلة الأكناف
سيلُ الأجانب فيك كم ألقى على
…
عيني المضيئةِ حالك الاسداف
يلقوْن منك التبر في جوف الثرى
…
واللؤلؤ المشفوف في الأصدافِ
ويرون فيك النُّعميات وليتهم
…
جازوك غير الكفر والإجحاف
صِيغَ الأجانبُ في ربوع الشرق من
…
فرط الجحود وقلة الأنصاف!
غَفراً (منوفُ) إذا هجرتكِ حقبة=وحُرمت روعةَ حسنك الشفاف
سأزيح عن قلبي تباريح النوى
…
وأحُطُّ عبء البعد عن أكتافي
فريد عين شوكة
رسالتان فلسفيتان
بين فولتير وروسو
للأستاذ خليل هنداوي
طوَّح بليسبونة زلزال روَّع النفوس وذهب بكثير الضحايا، فواع فولتير - وهو رسول العطف - أن تعمد العناية الإلهية إلى مثل هذه الوسائل في أعلاه الشر، فهاجم ربوع القائلين بنظرية الخير الشامل، وأين هو الخير؟ ونظم هذه المقطوعة يرثى بها من نكبهم الزلزال، ويتخذ منه برهاناً يؤيده في جحوده العناية الإلهية، ويرى أن الوجود مبنيُّ على الشر والعذاب. وأجابه رو سو على مقطوعته برسالة فلسفية عميقة ينكر عليه هذا الإسراف في التشاؤم، وهذا الاستسلام الأعمى لسلطان العاطفة، ويظهر فلسفة الرضا عن الوجود وعن أنظمته برغم ما يشيع في بعضها من فساد، ويعتقد أن هذا الكون هو خير ما أبدعته فكرة المبدع (إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان).
وهذه هي المقطوعة:
(أيها الأموات التعساء! أيتها الأرض الخاشعة!
أنتم يا من قذفتكم قواذف لا معنى لوقعها).
وأنتم أيها الفلاسفة الذين تصيحون في الأرض (ليس على الأرض إلا الخير).
تعالوا معي واهرعوا إلى هذه الخرائب الدامية، هذه البقايا الهاوية، انظروا الرماد الحائل، وهؤلاء النساء والأطفال يتهاوى بعضهم على بعض مهشمي الأعضاء تحت الحجارة، وهناك ألوف الضحايا التهمتها الأرض.
وجوه دامية، وقلوب خافقة، وأشلاء ممزقة.
قد ماتوا! ولم يدركهم مسعف.
ماتوا! وهم ينظرون إلى الموت
أتقولون أيها الفلاسفة،
وأنتم تسمعون أنينهم وترونهم وهم يحتضرون:
(إن هذا إلا صنع الشرائع الخالدة، وإن إلهاً حراً في مشيئته شاء لهم ذلك).
أتقولون: إن الآلة قد انتقم لنفسه منهم لأنهم كانوا آثمين، وما كان تقتليهم إلا جزاء آثامهم.
فأية جريمة أم أي رجس فعل هؤلاء الأطفال الذين لقوا مصارعهم على صدر أمهاتهم؟
ليسبونة التي أمست لاشيء، أكانت أكثر رذائل من (لوندرة) ومن (باريس) الغارقة في بحر من الملذات. ليسبونة هوت في الهاوية. وباريس لا تزال ترقص.
إن بعض المشاهدين يتأملون في مصيبة إخوانكم وهم يتحرون عن أسباب العاصفة بهدوء وسلام.
ولكنهم حين يشعرون بضربات الحظ الأعمى تنصب عليهم، يتحرك في نفوسهم معنى الإنسانية، ويبكون مثلنا على مصارعهم.
آمنوا إني صادق الشكوى واللوعة!
وأن مظالم الحظ شائعة في كل مكان. .
ذروني أشْكُ!
كل شيء في العالم يئن، بعضه يفني بعضاً!.
وكل شيء يولد للهموم والأذى.
وأنتم - هنا - تجعلون من شقاء كل موجود سعادة مطلقة، فأية سعادة أسندوها إليك أيها الإنسان الذي يكتنفه الموت والضعف والشقاء. . .؟
أنتم تصيحون هاتفين (ليس على سطحها إلا الخير!)
الوجود يكذبكبكم، وقلوبكم تدحض أراءكم!
وهذه عناصر المادة، حيوانها وإنسانها وجمادها، كلٌ في نزاع مستمر!. . .
يجب أن تقولوا معي (ليس على سطحها إلا الشر)
إن سر الوجود لا يزال مجهولاً. . .
فهل يصدر هذا الشر عن مصدر صاحب الخير نفسه؟ ولكن يكف يُدرك الفكر أن رباً يزجي إلى أبنائه الخير الذي يرتضيه لهم، هو بذاته يصب عليهم سوط عذابه؟ أية عين تستطيع أن تتبين في هذه الأغوار العميقة؟. لا يمكن أن يكون مصدر الشر كله من الوجود.
والشر لن يرسله أحد غير الله، لأنه هو سيد الوجود وهو الكائن في كل موجود.
يالها من حقائق مؤلمة!. .
وياله من مزيج لعناصر متباينة!. . .)
وهذه هي الرسالة التي كتبها رو سو جواباً على هذه المقطوعة: (اسمح لي أيها العزيز بأن أشكو إليك من هذه العقيدة، إذ كنت أرتقب منك ما هو خير وأهدى لهذه الإنسانية التي تريد منك أن تنفس عنها. أنت تلوم (بوب) و (ليبنتز) لأنهما خففا عن الإنسانية عذابها بإعلانهما (أن لاشيء عليا إلا الخير) ورحت ترينا شقاءنا وتهدينا إلى تعسنا، تدفعك إلى هذا عاطفتك الهوجاء؛ وبدلاً من أن تكون رسول تعزية لي لم تعمل إلا على إثارة حزني. قد يقال إنك تخشى أنني لا أرى مبلغ شقائي في هذا الوجود، وأنك إذا تركتني أسيء الظن بالكون تخفف عني شقائي.
قال لي (بوب وليبنتز): صبراً أيها الإنسان فان الألم شيء ضروري في الطبيعة والوجود، فان الموجد الخالد الحسن الذي يحكم هذا العالم ودّ أن يعصمك فيه عن كثير من الأنظمة المطلقة، فانتخب نظامًا هو أصلح الأنظمة وأقلها شراً وأكثرها خيراً، فلماذا المكابرة؟ لنقل هذه الكلمة وان كانت قاسية:(إذا لم يصنع إله الكون خيراً مما صنع، فلأنه لا يقد على أن يصنع خيراً منه) وأنت ماذا تقول لي في قصيدتك؟ تقول: تألم إلى الأبد أيها الشقي، فإذا كان - ثمت - خالق أوجد فهو قادر بدون شك على أن يزحزح عنك آلامك ويطلق نفسك من قيودها. ولكن لا ترج من آلامك أن تتزحزح، لأن من المحال أن تعرف لماذا وجدت إذا لم توجد للألم والموت.
إنني لأراني أتحرى عن أسباب الشقاء الأدبي في الإنسان الحر الكامل والإنسان الفاسد. وأما الشقاء المادي فإذا صح ما أشعر به فان بين المادة الحساسة والمادة الجامدة الميتة نزاعاً مستمراً، فهذا الشقاء وجوده محتم في كل جزء يتصل به الإنسان. وإذ ذاك يصبح سؤالنا (لماذا لم يخلق الإنسان سعيداً) لغواً لا معنى له. وإنما يسأل (لماذا وجد الإنسان)؟
وأقول: إن كل مصائبنا - ما عدا الموت - إنما نوطن لها بأسباب تتقدمها، وجل مصائبنا المادية تجنيها علينا أيدينا، عد إلى موضوع قصيدتك نفسها، وهب أن الطبيعة لم ترفع هنالك عشرين ألف منزل بطبقات مختلفات، وأن سكان هذه المنازل قد توزعوا فرقاً فرقاً في مساكن حقيرة، أفليست النكبة تكون أهون شراً إذا كان لا مفرَّ من النكبة؟
ولكن يتسنى لنا العودة إلى المذهب الذي ضربته، فلا غنى لنا حال تجريبه وامتحانه عن
أن نميز الألم الخاص الذي لا ينفي وجوده فيلسوف من الألم العام الذي ينفي وجود التفاؤل. ولا ينبغي هنالك أن يسأل أحدنا الآخر: أذقت ألماً أنت أم لم تذق؟ وأنا ينبغي أن نفهم إذا كان الوجود بني على أساس الخير، أو إذا كانت آلامنا فيه محتمة لا محيص عنها؟
وهكذا أرى قولنا (مجموع الكل هو خير) أدنى إلى الحقيقة من قولنا (كل شيء هو خير) وإذ ذاك لا سبيل لأحد أن يأتي ببراهين لأثبات شيء أو لدافع شيء. لأن هذه البراهين تتعلق رأساً بمعرفة عمارة الكون والاطلاع على غاية خالقها، وهذه المعرفة يبعد على العقل البشري أن يُلم بها، والقواعد الصحيحة لمذهب التفاؤل لا تستمد من متاع المادة ولا من ميكانيكية العالم، ولكنها تُستَمد بواسطة العقل من كمالات الله التي يدبر بها كل شيء.
إذا عدتَ بهذه الأسئلة المتباينة إلى مصدرها الشامل رأيتها كلها تعود إلى مسألة وجود الله، فإذا ثبت وجود الله فلابدَّ أن يكون كاملا، وإذا كان كاملا فلابد أن يكون عاقلا وقديراً وعادلاً، وإذا كان عادلاً وقديراً فكل شيء مبني على خير وصلاح، وإذا كان عادلاً وقديراً فروحي هي خالدة، وإذا كانت روحي خالدة فان ثلاثين عاماً من عمري لا توازي شيئاً عندي، وربما كانت ضرورية لإنقاذ الكون. فإذا ما سلمتَ لي بالقضية الأولى فلم تتزعزع هذه النتائج التي وقفها عليها، وإذا لم تسلم بها وكان نصيبها منك الجحود فان كل مجادلة في توابعها تذهب عبثاً.
بيروت
خليل هنداوي
العلوم
بلوتو
السيار التاسع
للأستاذ مصطفى محمود حافظ
في العدد (56) من مجلة الرسالة مقال ذكر به أن الكواكب السيارة ثمانية، وأنها - مرتبة حسب قربها من الشمس - (عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون). وقد كان هذا القول صحيحاً حتى شهر مارس سنة 1930، فكان مدار (نبتون) يحدد نهاية المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها كرتنا الأرضية، ثم اتسعت هذه المجموعة باكتشاف سيار تاسع هو (بلوتو) وإلى القارئ قصة هذا الكشف.
الفرق بين النجم والسيار:
في المقال المشار إليه سابقاً نظريتان من النظريات التي وضعت في تفسير كيفية تكوين السيارات حول الشمس، ولعل أقرب هاتين النظريتين إلى الصحة هي أحدثهما، وهي نظرية المد التي يؤيدها الآن كثير من العلماء تأييداً رياضياً، منهم العالم الإنجليزي المشهور (سير جيمز جينز)، فشمسنا الحالية ومعها كل ما انفصل منها على شكل كواكب وذرات متحطمة وإشعاع كانت في الماضي السحيق تكون نجماً هائلاً، اقترب منه نجم ثان - ربما كان أكبر منه - فجذب إليه جزءاً من الأول على شكل السيجار ومن هذا السيجار انفصلت الكواكب السيارة. ولعل ترتيب السيارات بحجومها الحالية يؤيد هذه النظرية، فأضخمها في الوسط وأصغرها في الطرفين. وهذه المجموعة الشمسية تسبح كلها في الفضاء تفصلها ملايين ملايين الأميال عن أقرب نجم إليها. فإذا نظر الإنسان وهو على الأرض إلى القبة السماوي رأى بعينه المجردة آلافا من هذه النجوم، وقد يكون الوقت ملائماً لأن يرى سياراً أو أكثر. ويمكنه أن يميز السيار عن النجم بشدة لمعانه وعدم تألقه وتغييره لمكانه النسبي بين النجوم الثوابت على مر الشهور والأعوام (ومن هنا نشأت تسميته بالسيار أو التائه) وكذلك يميز السيار بظهوره على شكل قرص صغير في عدسة التلسكوب، على حين أن النجوم لا يمكن أن تظهر أكثر من نقطة، ولكن ذلك لا يساعدنا
دائما على الكشف عن السيارات، فعطارد لا يبعد عن أمه الشمس إلا قليلا، فتصعب رؤيته بالعين المجردة إلا في البقعة المنبسطة قبيل شروق الشمس أو بعيد غروبها، وأورانوس ونبتون لا تراهما العين المجردة لبعدهما عن الشمس والأرض بعداً يجعل الزاوية التي يحدثها قطر كل منهما عند العين لا تمكنها من الرؤية، وهذا هو السبب في عدم معرفة العرب القدماء لها قبل اختراع التلسكوب.
وكلما ابتعد السيار عن الشمس صعب كشفه وتمييزه عن النجوم، وقد كشف (هر شل) عن اورانوس (أب زحل آله الزرع) عفواً في سنة 1781 هو يوجه منظاره إلى جزء من السماء، وقد ظنه في أول الأمر (مُذَنبا) وكشف (جال) عن نبتون (آله البحر) في سنة 1846 بعد بحوث (ليفرييه) الرياضية.
البحث عن سيار تائه:
وفي أوائل القرن الحالي كان الأستاذ (برسيفال لول) يقول بوجوب وجود سيار آخر تابع لمجموعتنا الشمسية أبعد من نبتون، وقد جاء هذا القول نتيجة لبحوثه الرياضية في مدارات السيارات المعروفة في ذلك الوقت، وعدم اتفاق المدار الرياضي مع المدار المشاهد. فانطلق الفلكيون هواة ومحترفين يبحثون عن ذلك السيار التائه، ولعل لولا التعاون الدائم بين فروع المعرفة العام في الوصول إلى الحق لما تمكن أحد إلى الآن من الكشف عن هذا السيار، فان محاول الكشف عنه كان عليه أن ينظر إلى جزء من السماء في وقت معين من كل ليلة ويطيل النظر إلى آلاف النقط اللوامع التي يراها، ويحاول أن يجد أيها يغير موضعه على مر الليالي، وبذلك يميز السيار عن النجم الثابت، فهذه النجوم (الثوابت) وإن كانت في حركة مستمرة إلا أن بعدها السحيق يخفي عنها هذه الحركة ولا يظهرها إلى على مر الأجيال الطويلة، وذلك كما يلاحظه الإنسان أن القطار السريع البعيد يدب دبيبا.
وعملية ملاحظة حركة السيارات هذه عملية شاقة تحتاج إلى صبر كثيرة ودقة وأمانة في التقدير، فان إطالة النظر إلى عدسة التلسكوب تثقب شبكية العين وتجعلها ترى ما ليس له وجود، ولكن تضافر نواحي المعرفة للوصل إلى الحق هو الذي مكن العلماء من الوصول إلى السيار التاسع، وذلك باستخدام الكمرا في تصوير السماء بدلا من الملاحظة والتخطيط، فأغلب تلسكوبات العالم الآن مجهزة بآلات فوتوغرافية تمكن الفلكي من تصوير أي جزء
من السماء بكل دقة وأمانة، كما أنها تزيد من قدرته على الملاحظة، فالجسم الضعيف النور قد لا يؤثر في العين باستمرار النظر إلى موضعه، ولكنه يؤثر في اللوح الحساس باستمرار تعريضه إليه عدة ساعات، وأحياناً عدة ليال، وذلك بادرة التلسكوب إدارة تعادل حركة الأرض، فيصبح اللوح دائماً في مواجهة الجزء المارد تصويره.
الكشف عن بلوتو:
قلنا إن الأستاذ (برسيفال لول) كان قد تنبأ في أوائل القرن الحالي بوجود تابع تاسع لمجموعتنا الشمسية، وقد تكمن فلكيو مرصد (لول) في (أريزونا) من الكشف عن هذا السيار، وبذلك أصبحت التوابع المعروفة لشمسنا تسعة إذا استثنينا مئات التوابع الصغرى التي تقع بين مداري المريخ والمشتري، والتي قد تكون بقايا سيار منفجر أو متحطم ابتدأ البحث عن هذا السيار الجديد بأن عرضت الألواح الفوتوغرافية إلى أجزاء السماء المشتبه فيها مدة من الزمن تكفي لانطباع أثار كل ما في السماء على الألواح، وتكررت هذه العملية في الليالي المتتالية، ثم امتحنت الألواح المختلفة فلوحظ أن جميع النقط اللامعة لم تغير مواضعها بالنسبة لبعضها البعض، إلا نقطة واحدة جعلت تسبح بين مواضع النجوم الثابتة، فكانت هي السيار المنشود مادامت جميع السيارات المعروفة بعيدة عن الموضع المصور، وبهذه الطريقة تم الكشف عن السيار التاسع، فان الفلكي الشاب مستر (كليد تمباو) لاحظ بامتحان لوحين أخذا في 2 مارس سنة 1930، 5 مارس سنة 1930 أن نقطة لامعة قد غيرت موضعها تغييراً محسوساً.
وبذلك يكون هو أول من كشف عن (التائه) التائه. وكان بعده عن الأرض في ذلك الوقت 4000 مليون ميل، أي أن الضوء المنعكس عن سطحه يصل إلى الأرض بعد خمس ساعات ونصف ساعة من وقت انعكاسه، وقد سمى بلوتو (آله العالم السفلي)، وهو الاسم الذي أطلقته عليه فتاة كان سنها 11 عاماً تدعى (فينيتا). وهي ابنة أخي الأستاذ (مادن) أستاذ العلوم في كلية (ايتون) ولا يعرف الآن كل شيء عن هذا السيار، وذلك لبعد المسافة التي تفصلنا عنه، ولكن مداره حول الشمس قد عرف بدارسة الألواح الفوتوغرافية التي يظهر فيها من وقت لآخر، ويعتقد أنه يعادل الأرض حجماً، ولكنه أكبر منها كتلة، فمادته أكثر كثافة من مادة الأرض.
ولا يمكن أن يقال الآن إن بلوتو يحدد نهاية مجموعتنا الشمسية، فقد تفسر دراسة الخرائط السماوية عن وجود سيار آخر فتتسع مجموعتنا الشمسية، ولكن ذلك قليل الاحتمال لأن قوة جاذبية الشمس لهذه السيارات تضعف مع البعد، فتقل قدرتها على الإمساك بالسيار وجعله يدور حولها.
مصطفى محمود حافظ
مدرس بمدرسة امبابة للمعلمين
القصَص
من صور الريف - قصة واقعية
الشقراء المجنونة. . .!!
بقلم محمود البكري
. . . فتاة مثقفة على خلق عظيم، تناولت من التعليم حظاً غير قليل وفيها شيء من الجمال: عينان ساجيتان، شعر يشبه أن يكون خيوطاً من ذهب. . . ثم نفس شاعرة متمردة تحس الجمال وتتذوق الأدب. . كانت (فتحية) صورة نادرة في الفتيات: امتزج فيها سمو الروح بجمال الصورة، تعلمت في وقرأت جوت ولا مارتين ودوي موسيه. فظمئت روحها إلى حب عنيف، وعرفت (سامي) فوجدت عنده رياً لروحها الصادى، فأنست إليه وهام بها، وكان حب بينهما، حب جبار قوي كأنه الإعصار لا تسيره المنافع ولا تغيره المطامع ولا توهنه أحداث الحياة، وهو فوق هذا نبيل بصورة لا تقع في الوهم، طاهر بشكل لا يتعلق به ظن.
. . . وكانا يقضيان حياة فيها حظ من الشعر والخيال: يتقابلان في الحدائق فيجلسان على العشب الندي، ويخلوان إلى نفسيهما فيأخذان في فتون من الحديث والأدب، حتى يتقدم الليل فيفترقان إلى عود. . . وكانا يتفقان على الإعجاب بالأدب الفرنسي، وينفقان في القراءة وقتاً غير قليل، ويستطيل كل منهما على صاحبها أحياناً في رقة ورفق ودعابة.
ومضى على هذا الحب سنوات ثلاث. ثم أحيط أبوها بخبره، وكان صارماً قاسياً شديد القسوة، عنيداً مسرفاً في العناد، فاستعدي فتحية فجأة. .
. . . وكان يوم الوداع ثقيل الظل سريع الخطو. . . وجاء القطار! فجاشت الدموع في صدر فتحية، ولكنها تجلدت ونهنهت عينها، وأخذت نفسها بصمت عميق، وإن كانت روحها تكتم ثورة صاخبة تضطرم في عينيها الحالمتين في ذهول واستغراق. . وكانت تخرج منديلها الأزرق الصغير من حين إلى حين فتلقط به دمعة أو دمعتين. . ثم تحرك القطار وغاب في أحشاء الطريق. فاهتدت الدموع الضالة إلى عين فتحية وغلبتها على أمرها، فاستسلمت للغريزة، وأرسلت عينيها في حرارة وغزارة وذلة وصمت. . .!!
وخطبها إلى أبيها رجل كبير من أعيان الريف أوتى بسطة من المال، إلا أن بضاعته من الثقافة والعلم مزجاة، وكان يكبرها بثلاثين سنة أو تزيد!. . . مانعت وتمردت. وثار بينها وبين أبيها نقاش قصير ولكنه حاد. أيهما أشد إسرافاً في الجريمة؟ أهو لأنه يريد أن يقضي على سعادة ابنته؟! أم هي لأنها تخالف أباها في أن تتزوج رجلا لا تفهمه، وليس بينهما صلة من عاطفة أو سن أو ثقافة، وكان جدال عنيف في شيء لا يحتمل الجدال ولا يستدعي الحجة. لأنه بين لا لبس فيه ولا غموض، ولأن حق حرية اختيار الزوج لا يسخط الله ويرضى الناس، يقره العل ولا يرى القانون بأساً في أن يسمح به، ولكن الحق مهما يكن، ينكره ويلتوي به المكابرون، والمكابرون لا حيلة فيهم ولا دواء لهم. والوالد يحتال حيناً ويتطلف، ويقسو حيناً آخر ويهدد، والفتاة على كل حال تتمرد وتثور. . .!
. . . وأخيراً استقرت ثورتها وانتهت إلى مثل ما تنتهي إليه ثورات النساء في منازلنا: استسلام مغلوب.
. . . وأخيراً!! تبددت في مهب الظلم آمال، وتحطمت على شعاب العناد أحلام، وضاعت في غمرة الطمع أماني. . .
. . . وأخيراً. . . زفت فتحية التي تعلمت في إلى الرجل الذي اختير لها وأكرهت عليه إكراهاً. . .
أغدق عليها مالا وحلياً وثياباً، فلم تبهرها هذه المظاهر، ولم تكسر من حدة نفارها ولم ترد جماحها. . . كانت تبكي في اتصال ومرارة.!
وكان حب سامي لما يزل يستبد بها فينسيها في النهار الراحة والقرار، وفي الليل المنام. . . كانت تغفو أحياناً قليلة، ثم تفيق صارخة مضطربة روعتها الأشباح، وطاردتها أرواح الذكريات في إلحاح وقسوة، فراحت حياتها خليطاً مشوشاً من الصور المرعبة، كانت تحبه حبا طاغيا عنيفاً جعل حياتها في البعد عنه سلسلة طويلة متصلة من الشقاء.
حاولت جهدها أن تنسى: فكانت تخرج إلى الحقول، وتقرأ كثيراً، ولكنها كانت تفر من عذاب إلى عذاب.
وكان زوجها سخيف العقل ضعيف الرأي ضيق النظر؛ وعنده أن المرأة لم تخلق إلا لتكون ماء أو شيئاً يشبه الماء يطفئ به الرجل جذوة الحيوانية. . . فأما أن تتعلم أو تقرأ أتكتب
أو تحب، فكل ذلك حياد عن القصد وجور عن السبيل، وخروج عن العرف، وانتقاض على التقاليد.
كانت الهوة بينه وبين فتحية عميقة سحيقة لا حد لها ولا غاية ولا قرار: انصرفت هي إلى حبها وذكرياتها وكتبها فاستغرقتها واستأثرت بها، فلم تجعل لشيء آخر في قلبا مستقراً ولا مقاماً.
وتولى هو إلى مزارعه وماله عن كل شيء عداها، وكان حقير النفس فقير العاطفة مجدب الشعور، لا يضطرب في نفسه إحساس ولا تعرف العواطف إلى قلبه سبيلا: كل أيامه بعد أعماله أكل ونوم. . . يمر النهار فلا يكاد يتحدث إلى زوجه بأكثر من كلمات آلية معدودة، وإن تحدث ففي شئون مزارعه وماشيته حديثاً تافهاً ضئيلا لا يدل على معنى، وإن كان يدفع السأم ويرد إلى الضجر القاتل.
ضاقت فتحية بهذه الصور المتشابهة من العيش، وأسقمها هذا اللون من الحياة المضطردة الباردة، فاندفع السأم واليأس إلى نفسها اندفاعا قويا.
وضاعت في تيه الذكريات والظلم هذه المخلوقة الشقية التي تستقبل الصباح بالدموع وتودع النهار بالدموع. . . فزعت إلى الكتب تقرؤها إذا كان وجه النهار إلى الضحى، فإذا أقبل العصر خرجت إلى الحقول مطرقة ذليلة لا تحدث إنساناً ولا تستمع إلى إنسان فتقضي وقتاً ما، ثم تأخذ طريقها الصامت إلى المنزل فتخلوا إلى نفسها في غرفتها، ثم تخرج صور سامي فتتحدث إليها وتسكب أمامها الدمع كأنها عابد في المحراب. . .!
. . . وظهر زوجها على صور سامي ورسائله، فثارت نفسه وارتد وحشاً ضاريا عاتياً ديس عرينه وأبيح حرمه واستحل حماه، وبدت في خلقه صورة جديدة، الغيرة الصارخة العنيفة. فمسخت تصرفاته كلها وصبغت حياته بلون قاتم ظالم مستبد.
العرض والشرف في الريف شيئان يهون معهما كل شيء. . .! ومضى الوحش يفكر في انتقام هائل مروع بعيد الأثر: فكر في قتلها وفي طلاقها: ولكن هذه الصور لم ترض شعوره المحنق، ولم ترو نفسه الصادية إلى الدم، لأن في كل هذا موتاً سريعاً مريحاً، ولكنه يريدها أن تموت على مهل في نزع طويل بطيء واستقرت نفسه الحائرة أخيراً على تجربة بدأها حالاً، فعمد إلى كتبها وأوراقها فجعلها وقوداً للنار، ثم أخذها هي بالقسوة وسوء
الحساب: يضربها إذا كان النهار، ويهجرها إذا كان الليل، وهو فوق هذا يكلفها من أعمال المنزل مالا طاقة لها به. . .
ومضى السجان الجبار في تجربته والضحية البريئة تذبل على مهل. تمادت بها الآلام فأغرت بها اليأس، وردها اليأس إلى لون من الحسرة ملح، عميق يسوقها إلى الجنون سوقا متداركا سريعاً.!
وكل هذا قصته على أختي عن صديقتها زوج جارنا الغني.
ولأيام خلت كنت أجلس في حديقتي في ظل شجرة هرمة إلى جانب الساقية التي تنوح أبداً. . . سمعت صرخات متصلة ومتقطعة، وكلها ثائرة ومجنونة، وسمعت كلمات مبهمة مختلطة. . . صمتّ وصمتت الساقية وحسبت دموعها، ومالت الغصون على الغدير هامسة (إذن أفلحت التجربة وجنت الشقراء!!) واستأنفت الساقية نواحها. . . وأرسلت دموعها. . . على الشقراء المجنونة. . .!!
(قلوصنا)
محمود البكري القلوصناوي
من المسرح الغنائي
2 -
سافو
لأوجييه اميل
ترجمة الأستاذ محمود خيرت
الفصل الثاني
(منزل حنا جوسين بباريس وبه حنا ووالده سيزار ثم أمه ديفون وإيرين ابنة عمه)
حنا - إنك تتعب نفسك يا أبي.
سيزار - صه. صه.
حنا - (متأملا صورة فوق الحائط) ما أجمل منزلنا وهو يتحكّم في السهل، وتمتد كرومه نحو الأفق. وما أحلى ما ألمح أمي عند الباب فيتضاعف اجتهادي. ولكن أين هي؟
سيزار - في الدير يا ولدي عند ابنة عمك إيرين.
حنا - وهل تعود إيرين معكما؟
سيزار - نعم لنتسلّى بها في غيبتك.
حنا - حسناً تفعلان يا أبي.
(تدخل ديفون وإيرين)
ديفون - آه يا ولدي ما هذه المدينة. ما أكثر مبانيها، وما أكثر الحركة فيها. إن طرقاتها تموج بالعربات والناس، فأين هي بجلَبَتها من قريتنا الهادئة. آه يا ولدي المسكين!
سيزار - قضى الأمر فلا محل للتبرّم الآن.
ديفون - ولكن هل نسيت إيرين يا حنا؟
حنا - حقيقة كيف أنت يا ابنة عمي؟
ديفون - وكيف تراها الآن؟ أليست صَبُوحةً كالنهار، جملية جمال المِلكات. ولقد ضمّك صدري من الصغر (لزوجها) يجب أن نرحل يا سيزار فهيئ نفسك، بينما ألقي نظر إلى غرف الدار (لولدها وهي خارجة مع سيزار) ضمّها يا حنا (يخرجان).
حنا - ما كان أسعدني بهما، فأنا أغبطك يا إيرين لأنك ستكونين معهما بقريتنا، هبة الشمس
وموطن الأمل والحب.
إيرين - ولعلك تذكر أيام كنا نقصد إلى الغابة فوق حمارنا بلا تشبيه بينما أجراسه تُجلجل تحت عنقه وهو ينهب بنا الأرض.
حنا - نعم يا إيرين وأذكر أيضاً ساعة كنت أضع يدي في يدك وأنا معتزٌ بك مباهٍ بحسنك.
إيرين - كنا نقلد اليهود عند فرارهم من مصر وأنا أسميك يوسف وأنت تدعوني مريم. هل نسيت؟
حنا - لا. لم أنس.
إيرين - وكنا بعدئذ نفر إلى المنزل كأنما يطاردنا هيرود العاتي الذي أسرف في دم الأبرياء، وأذكر أيضاً اغتباطنا عند عودتنا ونحن نسمع صياح الإوز يحمله إلينا النسيم.
حنا - وإن إيرين عندما كنت تقترب من الدار كانت تسرع فتضمني.
إيرين - ما كان عليّ وقتئذ من حرج.
حنا - والآن؟
إيرين - آه. . .
حنا - إذن لا تغضبين لو أنني ضممتك.
إيرين - كما كنا نفعل فيما مضى؟
حنا - نعم كما كنا في ذلك العهد (يضمها ويقبلها في جبينها)
(يدخل سيزار وديفون وفي يديها مصباح وقد رأياهما)
ديفون - (هامسة في أذن زوجها) أرأيت يا سيزار؟
سيزار - رأيت.
ديفون - في رعاية الله يا ولدي.
حنا - دعيني أصحبك يا أميِّ.
ديفون - (تمنعه) مكانك. فهذا المكتب أولى بك. إن العمل في هذه المدينة الواسعة هو الذي يدفع عنك خطرها.
سيزار - صدقت يا ديفون.
ديفون - الوداع يا حنا. ثم احتفظ بها المصباح القديم. فقد كنت على ضوئه أهيئ لك
الثياب، وأنظر إلى وجهك من خلل الأستار وأنت طفل في المهد.
إلى الملتقى يا ولدي.
حنا - (متألماً) أمي. . .؟
سيزار - (لديفون وهي متأثرة) ديفون!
ديفون - ثم عليك يا ولدي بالدرس. واجعل نصب عينيك أن تكون رجلاً. والله يرعاك.
حنا - (باكياً) ما أكرمك يا أماه.
ديفون - (متأثرة جداً) تشجّع يا ولدي.
سيزار - (متأثراً مثلها) حنا. . .
ديفون - أراك على وشك البكاء أنت أيضاً.
إيرين - ولكن ألا تشعر بالوحدة هنا.
حنا - يجب يا إيرين. . .
سيزار - إلى المتلقى يا ولدي.
حنا - إلى الملتقى يا أبي. إلى الملتقى يا أمي. إلى الملتقى (يخرجون ولا يبقى إلا حنا ثم فني)
هاهم رحلوا وها أنا في وحدتي. ولكن كيف تطيب حياتي هنا بعد أن ذهبت لذة لقياهم، وبعد أن عشت معهم تحت سماء ذلك المنزل. لقد أصبحت فريداً في باريس تدوي بضوضائها من حولي كما تدوي العاصفة من حول السفينة. آه لم لا يحين الفراق إلا في الساعة التي يحلو عندها الحب؟ لقد دلوا الألم على طريق قلبي. وعرّفوا الدموع مكان أجفاني. . .
(تدخل فني ببطء بحيث لا يشعر بها)
فني - بيبى.
حنا - (يلتفت) أنتِ. . .؟
فني - نعم أنا. أظننت أن كل شيء انتهى. إنني ممن ليس لحبهن مدى. وإذا كنت قد انقطعت عنك فلأنني علمت بمقدم أهلك. ولكن قل لي: من تكون تلك الفتاة الصغيرة التي كانت معهم؟ أختك. هِه؟ (ثم تضحك).
حنا - بل ابنة عمي.
فني - (ببرود) إنها لطيفة حقاً. . . إنني أخذت أرقبهم حتى رحلوا فأسرعت إليك.
حنا - لقد أعدّت لي أمي هذا المنزل لأنصرف فيه إلى درسي.
فني - إذن أذهب حتى لا أضيع وقتك.
حنا - ولم؟. أما كنت أشتغل من قبل وأنت إلى جانبي.
فني - على أنني سأكون عاقلة وحكيمة يا حنا (يقع نظرها على تمثال لها من المرمر) ولكن كيف حصلت على هذا التمثال؟
حنا - إنه لسافو التي صورها كاوودال. إلا تعرفينها.
فني - سافو!. . . أسمع يا حنا إنني أمقت أولئك الفنانين فلا تذكرهم لي فكم أساؤا إلي.
حنا - ولكن الفن جميل يشرح النفس ويرسل السرور إلى المتٌّقد. الجميل هو تلك النفس التي يرفعها الحب فوق مستوى النفوس فتدرك أن السعادة لا تكون إلا حيث تأتلف القلوب
(يحاول هنا حنا أن يقبلها فتشير إلى مكتبه)
عد إلى عملك يا بيبى.
حنا - لا بأس من لحظة.
فني - إذا كنت تحبي فانصرف إلى درسك.
(يعود إلى عمله متظاهراً بالمطالعة وهي يراقبها وكأنها تناجي نفسها)
يا مَن تملّكني هوا
…
هُ وقد سرى بمفاصلي
خُذلي أماناً من لِحَا
…
ظِكَ إنهنَّ قو اتلي
حنا - آه يا فني ليتك تنشدينني دائماً شعر هذا الحب
أنِعشي مسمَعي وغني
…
قصة الغرامْ
واعلَمي يا مناي أني
…
فيك مُستهامْ
كلما هجتٍ مسمَعي
…
لا أرى خاطرِي مَعي
فارحمي المُتيّم
فني - هل تُرى حلَّ قلبهُ=صادق الهيامْ
هل تُرى حلَّ قلبهُ
…
صادق الهيامْ
أم تُرى أنَ حُبَّهُ
…
مالهُ دَوامْ
ربّما خاب مَطْمِعي
…
وانطوى فيه مصرعَي
فالرحيل أسلَمْ
(تحاول الذهاب فيمنعها)
حنا - أنت مِلْكِي لا مَرَد
فني - لستُ ملكاً لأحَدْ
حنا - آه ما كنتُ أظنْ
فني - إن تُرِدني فليكنْ
حُّبنا ملكُ الأبَدْ
حنا - أنا يا فنيّ فقيرْ
فني - في الهوى كل الِغنَى
إنما البؤسُ يصيرْ
…
في حِمى الحبِّ هَنا
حنا - مستحيلٌ. مستحيلْ
فني - ليس في الحُب مُحالْ
أنا في البيت أزيلْ
…
عنكَ أسباب الَملَالْ
كلما أبصرتني
…
أتثني زِدتَ جِد
فاجتهد لا تثني
…
ولنكن ملك الأبدْ
حنا - دعي شفتي تَغتنمْ قبلةً=من الوجنتين لأحيا بها
فقد صار حسنك لي قبلةً
…
يصلي غرامي بمحرابها
فني - ودعني لصدرك أنسى به=عذاباً بقلبي وحظاً قسا
فيالتهم علِموا ما بهِ
…
وما جرّعوني كؤوس الأسى
معاً - نعمنا على غفلةِ من رقيبْ=وتمَّ المرامْ
كذاك الحياةُ فليستْ تطيبْ
…
بغير الغرام
(قبل وعناق)
الفصل الثالث
المنظر الأول
(في مطعم (نعيم البطون) بحديقة مدينة أفريسي في يوم أحد)
(فني في نافذة تطل على الحديقة وحنا من خلفها)
فني - ما أطيب الحب تغمره مثل هذه الشمس، ألا نخرج يا حنا؟
حنا - نعم نخرج (محاولا ضمها)
فني - ألا تخشى أن يرانا الناس.
حنا - بعد سنة. . . ونحن هنا، ما أسرع مر الأ يام.
آه كم ملكت مشاعري يا فني؟
فني - ولكنك مع هذا لم تصبح كلك لي. إني أود أن تكون لي وحدي. وألا تشوب سماءً هذا الحب غيومُ حياتي الأولى.
حنا - ألم نقطع شهى الحياة في هذه المروج الساحرة؟
فني - وأنا أرقب عودتك عند كل مساءٍ.
حنا - فإذا ما عدت هزّتنا أحلام القُبَلِ وأناشيد الحب والأغصان خفاقة نشوى بتغريد الطيور (يجذبها إليه) آه يا فني؟
فني - ليس هكذا. دع ليس ساعدك ليشعر الناس أنك إلى جانبي.
حنا - (يفعل ما طلبت)
فني - نعم هكذا. هلم الآن.
حنا - (يغني).
أضاءتَ حياتي فيوضُ السّنا
…
فليلي نهار
وأطْربني بنشيد المُنى
…
لسان الهزاز
فني - وطوّق خصري حبيب الهنا=وحسني إزار
أنا مِعْصُم الحسن يزهو أنا
…
وأنت السوار
(يختفيان حيث يؤم الحديقة لا بودري وبعض فتيان وفتيات وكذلك كاوودال حيث تقع عينه على المطعم فيشير إليهم)
كاوودال - من هنا. من هنا.
لا بودري - حقاً إنه مكان بديع.
كاوودال - (مشيراً إلى اسم المطعم)، ثم انظر إلى هذا العنوان.
لا بودري - لقد صدق والله. إن الطعام في الواقع نعيم البطون (يقترب الباقون لاغطين فرحين)
(يتبع)
محمود خيرت
2 - سيوة
باني سيوة
إذا تسامحت كثيراً يمكنني أن أقول إن سيوة في مبانيها ومنازلها وصوامعها تعادل في تفصيلها وشكلها أحقر قرية من قرى وادي النيل. فالمنازل في تلك الواحة تبنى بقطع من الملح والطين بغير نظام في البناء أو حفر لوضع الأساس في الأرض، بل إن البنّاء و (أسميه بناء على سبيل المجاز) إذا أراد أن يبنى منزلاً فانه يضع قطعة من الحبل يحدد بها أربع حوائط المنزل، ثم يبني بعد ذلك فوق سطح الأرض بقطع من الملح والطين بارتفاع متراً آخر وينتظر أسبوعاً ثانياً ثم يكمل البناء لسقف المنزل. وفي العادة أن الحجرات في سيوة لا يزيد ارتفاع سقفها على مترين ونصف متر أو ثلاثة أمتار، والحوائط يكون سمكها في نهاية ارتفاعها أقل كثيراً منه وهي قريبة من سطح الأرض، وتتكون الأسقف بعد ذلك من خشب النخيل، وطريقة ذلك أن يشقوا بالطول خشب بعض النخلات المتينة ثم يضعوا أنصاف النخيل فوق الحوائط ويسمونها (قناطر) ثم يضعون فوقها ألواحاً يقطعونها من النخيل أيضاً ثم يغطون هذه الألواح بالطين.
ولبعد الواحة وصعوبة المواصلات إليها لا يمكن للسكان أن يحصلوا على أخشاب ليصنعوا منها أبوابًا ونوافذ المنازل، ولذا فنوافذ المنازل الصغيرة، لا يزيد اتساع إحداها على نصف متر مربع، ويصنعون النافذة نفسها من خشب صناديق البنزين التي تحملها سيارات النقل معها، ولذا فالنافذة الصغيرة تعمل من أربعة مصاريع رغم صغير حجمها، وتتكون المنازل عادة من طابقين، وبعض الأغنياء يقيمون أمام منازلهم مظلات يجلسون تحت وقت الحر الشديد، لأنه من الصعب أن يتعرض إنسان لحرارة الشمس في سيوة مدة الصيف، إذ تصل درجة الحرارة فيها إلى 48 سنتجراد، وتمتاز سيوة بدروبها الضيقة وحواريها المتعرجة المتلوية، حتى ارتبك مأمور البلدة كيف يضع أحد مصابيح الإنارة في إحدى الجهات لأنه وجد أن المصباح لن ينير إلا الموضع الذي هو فيه لكثيرة الالتواء والانحناء، ولأن المنازل متنافرة غير منسجمة الوضع.
وعدا ذلك فان جزءاً من القرية وهو الجزء الغربي مبني على صخرة ترتفع تدريجياً عن باقي القرية، ولذا تجد منزلين متقاربين يرتفع أحدهما عما يجاوره بما يقرب من ثمانية
أمتار.
ومن الظواهر الواضحة في سيوة أن الزائر لها يرى وهو في وسط سوق صخرة مرتفعة تشرف على ميدان السوق وقد علتها منازل من الملح والطين ونزعت سقوفها وتهدمت جدرانها، وظهرت بشكل بشع مخيف، وليست تلك المنازل إلا سيوة القديمة هجرها أهلها من فوق الجبل بأمر الحكومة من زمن غير بعيد وأقطعتهم أراضي في سفح الجبل وفي الأرض الواطئة المجاورة له فبنوا منزلهم الحالية.
وكان الأهالي يقطنون فوق الجبل في تلك المنازل المتلاصقة، وقد أحاطوا منازلهم بسور مرتفع يضم القرية كلها، وفتحوا في ذلك السور فتحات صغيرة كفتحات الحصون الكبيرة التي تعملها الجيوش لرؤية العدو ولإطلاق النار منها، ووصل ارتفاع هذا السور في بعض الجهات إلى نحو خمسين متراً، وصنعوا في ذلك السور عدة أبواب ضخمة من خشب النخيل كانت تقفل أثناء الليل حينما يأوى سكان الواحة إلى منازلهم.
وقد سألت عن الغرض من سكنى السيويين في الماضي في مثل هذا الحصن فوق الجبل، فعلمت أنهم إنما فعلوا ذلك حفظاً لأنفسهم من هجوم أعراب الصحراء الغربية، إذ أنهم كانوا يحضرون بالليل لنهب سيوة وسبلها.
وبدأت منازل سيوة القديمة فوق الجبل متجاورة كالمعتاد في كل القرى، ولكن لما زاد عدد سكان الواحة بنوا منازل أخرى فوق المنازل القديمة حتى لا يخرجوا على السور الخارجي الذي هو حصن لهم، ولذا فبدلا من أن تسع رقعة الواحة كلما ازداد سكانها بدأت ترتفع أبنيتها وهي في نفس المساحة الضيقة التي ابتدأت فيها. وهكذا استمر الحال وبمرور الزمن ازدحمت الأبنية فوق بعضها، وضاقت أزقتها وشوارعها وتعرجت منافذها حتى أصبحت أشبه شيء بخلية النحل، بل وصل الأمر ببعض المنازل أن أصبحت وهي داخل السور أكثر ارتفاعا من السور نفسه وأصبحت الشوارع لاتسع رجلين يسيران متجاورين فيها، وأظلمت جميع أنحاء القرية من ارتفاع المنازل وضيق المنافذ التي توصل الضوء إلى فتحاتهم الصغيرة التي كانوا يفتحونها على أنها نوافذ، وأصبح السائر فيها يحتاج في الواقع إلى مصباح يحمله معه أثناء النهار لينير له الطريق. على أن الذي يقف فوق تلك المنازل يرى أمامه الواحة بحقولها الخضراء وحدائقها اليانعة بأشجار الزيتون والليمون، ونخيلها
الهادئ الساكن، فيأخذه هذا المنظر الجذاب، ويرجع بذاكرته إلى تلك المواقف البهيجة التي أكثر عمر الخيام من وصفها في رباعياته.
وطبيعي أن الحرارة تكون شديدة في منازل القرية، لأن الشمس شديدة التأثير بينما التهوية تكاد تكون معدومة.
وفي وسط القرية في مكان متسع قليلاً بين هذه المنازل المرتفعة المظلمة توجد بئر منحوتة في الصخور بها ماء عذب، لأن في أسفل الصخر عين ماء تتغذى تلك البئر، وأيضاً تغذى بئرين صغيرتين مجاورتين للبئر السالفة. عند قاعدة هذا الجبل بنى الأهالي منازلهم الحديثة بعد أن تركوا تلك القرية التي كانت مزدحمة بهم وهم الآن آمنون من الهجوم، بل إن هذه الفكرة لا تتطرق إلى مخيلتهم، فالحكومة مسيطرة على الصحراء بإعرابها وقبائلها جميعاً، وقد فضل كثير من السكان أن يبنوا منازلهم وسط حدائقهم وحقولهم في ناحيتي السبوخا والمنشية، وللأغنياء منهم منازل للشتاء حيث يرجون الدفء وسط القرية، ومنازل للصيف وسط الحدائق المتسعة يقضون فيها فصل الصيف حينما تشتد حرارة الشمس وتصبح غير محتملة، وتمتاز منازل المشايخ والأغنياء بطلاء جزء منها بالجير الأبيض من الخارج، ولذا فانهم يغضبون إذا حاول أحد الفقراء أن يطلي منزله بالجير تشبهاً بهم، بل إن معظم الفقراء لا يفكرون في ذلك تلافياً لغضب مشايخهم عليهم، وبهذه المناسبة فان كل الأضرحة للأتقياء منهم تمتاز بطلائها بالجير إكباراً لشأنها وشأن أصحابها. وهذا الدهان يكون عادة من تبرعات يدفعها السكان تبركاً بصاحب الضريح.
توجد بسيوة ثلاثة أسواق كبيرة لبيع البلح والزيتون تسمى بالمساطيح، والمسطاح مكان متسع تكتنفه حائط يبلغ ارتفاعها مترين، وهذه الحوائط تخالف في بنائها حوائط المنازل، إذ أنهم رغبة منهم في توفير العمل صنعوها من جريد النخيل، ثم أحاطوا الجريد من الوجهين بقطع من الملح والطين، فإذا جف الطين تماسك بسعف الجريد وهي في الحقيقة فكرة قديمة للخرسانة المسلحة ورغبة منهم في الإقلال من سمك الحائط، وضعوا الجريد رأسياً وهو يعادل أسياخ الصلب في الخرسانة. وأحد هذه المساطيح للسكان الغربيين من الواحة، والثاني للسكان الشرقيين، والثالث هو أكبرهم وأعمهم لجميع سكان الواحة. ويقطن رجل سوداني أو كفري (نسبة إلى واحة الكفرة) منزلاً صغيراً عند مدخل المسطاح ليحرس
بلح الناس وزيتونهم طول العام نظير هبات يعطونها إياه من الشعير والبلح والزيت، ويحضر الأعراب عادة في فصل الخريف من وادي النيل ومن الصحراء ليشتروا البلح من سيوة، ثم ينقلونه على الجمال لوادي النيل حيث يباع في الأسواق بثمن معتدل وحول هذه المساطيح أقام بعض الأعراب الذين يتاجرون بالبلح حظائر لجمالهم ومنازل لهم، وفي فصل الخريف ترى مئات من هؤلاء الأعراب بأرديتهم البيضاء يجوبون أنحاء المساطيح بين أكوام البلح ذات الألوان المختلفة من أحمر إلى أصفر إلى داكن بين الحمرة والسود يساومون أصحابها في أثمانها على حين تنتظر جمالهم خارج المساطيح مجلجلة بأصواتها كأنما تنادي أصحابها في الداخل، وتزيد الحركة ببعض العبيد وهم يحملون البلح المشتري مكبوساً داخل (مقاطف) كبيرة من الخوص ليحملوه على الجمال. وما أجمل منظر الناقة تحمل حملها وتسير وسط السوق تشق طريقها بين الناس كأنها باخرة تشق طريقها في الماء، أضف إلى ذلك صهيل خيول الأعراب ونهيق الحمير ونباح الكلاب، منظر يدل على أن في البلد حركة كبيرة، ولا شك فان البلح والزيتون هما عماد الثروة في واحة سيوة.
ويقضي العرف بين الناس بالسماح لكل من يشاء أن يأكل ما شاء من البلح في المساطيح من غير مقابل، غير أنه ممنوع أن يأخذ معه شيئاً خارج المسطاح، ولذا ينتهز الشحاذون من الأعراب فرصة هذا الموسم ويدخلون المساطيح سائلين أصحاب البلح أكلة منه ليفوزوا بالشبع.
وبيع (العجوة) شائع في السوق أكثر من غيره، وبعض الناس يبيعونها من غير (نوى)؛ وفي عرض البلح للبيع بهذه الطريقة خطورة كبيرة: فالذباب يملأ المساطيح، والناس يطأون البلح بأقدام قذرة، ويعبئونه بأيد لا يفكر أصحابها في نظافتها. ولو أن العناية تصل إلى تنظيم طريقة البيع لكان في ذلك أمان وطمأنينة لمن يأكلونه.
(يتبع)
كابتن