المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 580 - بتاريخ: 14 - 08 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٨٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 580

- بتاريخ: 14 - 08 - 1944

ص: -1

‌مسألة الجنسين

للأستاذ عبد العزيز جادو

نستعير هذه العنوان من الأستاذ العقاد لنتكلم في هذا الموضوع من وجهة نظر أخرى يحتمل أن يكون لها اتصال وثيق بما كتب الأستاذ الكبير، وربما تكون متممة لبحثه من الوجهة السيكولوجية والبيولوجية معاً. فمن رأينا أن حركة الأنوثة تستهدف لثلاثة عوامل هي من الأهمية بمكان:(الأول) أنها في حاجة إلى أي ظاهرة متيقظة و (الثاني) أن قوتها الشديدة لا تزال تكمن في قسمين محكمي السد: السيكولوجيا الأنثوية القديمة التي عليها يترتب ضعف الأنثى مدى حياتها؛ والسيكولوجيا العنيفة الحديثة، ويدخل التحصيل من ضمن فروعها. . . وهاتان لا يمكن أن تمتزجا بحال؛ و (الثالث) حركة الأنوثة ويعوزها البرنامج الثابت الذي يحسب للذكر حسابه. ولا يمكن أن ينجح أي برنامج اجتماعي أو سيكولوجي ما لم يكن مشتملاً على اشتراطات أو نصوص لكل جماعة اجتماعية وسيكولوجية في حدود اختصاصها. . .

قام جماعة منذ حين بدعوة يرمون من ورائها نشر ما يسمونه مذهب العُرى، وأسسوا لأنفسهم أندية كانت تعرف بأندية العراة. بيد أننا لا نعرف غرض تلك الشرذمة تماماً ولا ما يقصدون من هذا العرى. ومع هذا فنحن نقول هنا: هيا نتجرد من ملابسنا المعنوية جميعاً، سيكولوجيا وبيولولجيا، طارحين وراءنا القيود الجنسية والاعتبارات الأخرى، لنرى ما هذه المادة التي بأسفل هذا الحيوان الذي نسميه امرأة، سواء أكانت مستترة بنبات الخلنج أم بأوراق التين؛ وهذا الحيوان الذي نسميه رجلاً، سواء أكان مستوراً تحت ستر سرمدي أو سروال

من المحقق أم جهاز التفكير، جهاز (حالات الشعور مثلاً) الذي أتيح بضعة أسماء عظيمة كسيكولوجية الأنثى، كان يجب أن يُهمل من مدة بعيدة. والمرأة بالرغم من حريتها لا تزال مولعة بأعمال الخدم، فهي تمضي أكثر وقتها في المطبخ تعمل في غسل الأواني. وإذا تأنقت كانت دمية. والذكر أينما كان لا يملك سوى دقيقة واحدة يمضيها معها عندما يؤثر عليها بطريقة أو أخرى

والحياة كلها استجابة للبيئة. والوراثة ما هي إلا حركة انتقال لتجارب بيولوجية عالقة لا

ص: 1

الذاكرة. فالمرأة استجابت لبيئتها بما نعرفه عنها كامرأة، وملابسات الضعف انتقلت في خلايا النطفة في أمشاج كلا الجنسين. وهي لا يعوزها إلا أن تغيِّر بيئتها لتغير استجابتها؛ وهي لا تحتاج إلا أن تُعاد ولادتها سيكولوجياً كي تمحو العوامل المتناقضة التي تصدّها وتقيدها

والمرأة في أمريكا ربما يكون لها النفوذ والكلمة العليا. والرجل ربما كان مجرد (حصان) ينقل الأحمال. . . ولكن كيف تكونت المرأة على هذه الحال من الضعف، والنعومة، واللطف؟ إن أحداً لا يعرف الجواب الصحيح، لأن هذا كما يقول الأستاذ العقاد من وراء سلطان العلم والعلماء. ولكن هناك من يقول إن هذا راجع إلى نماذج الجنس في مراكز خلايا النطفة. وهناك أيضاً من يقول إنه يرجع إلى وظيفة الحمل، وربما يرجع إلى الحادث الشهري في الأنثى البشرية (الحيض)

ولو أن الحيوانات الذكور من أي نوع يمكن أن تحوط الإناث التي من صنفها ببيئة من الضعف، أو بشيء مضعف، ترى الإناث تحت أضرار الحمل تنسل. والحيوانات الذكور، على الأقل، تستميلها الإناث عندما تكون متأثرة بانفعال أو تأثر. والجهاز يعمل جيداً إذا كنا حيوانات راقية. ولكن الزمن هو الذي جعلنا ننتج مقداراً كبيراً من الأناس بتحسينات في المبادئ الأساسية، وتمحيصات للعمل والمظهر أكثر مما لو كنا نعمل في إنشاء السيارات وإصلاح الإطارات وتحسين الإنارة كلما واجهنا ضرورات الحياة الحديثة والنظم المبتكرة

لنكشف عن خلايا النطفة أولاً: خلية الأنثى كبيرة، مستديرة تحمل مخزناً صغيراً من الغذاء، كما تحمل عدداً معيناً من الأمشاج وخلية الذكر أصغر كثيراً، مستطيلة، لا تحمل غذاء، ولها ذيل عائم، تحمل عدداً مماثلاً من الأمشاج التي تشمل نماذج فيزيقية وعقلية لأسلاف الجنين. وحينما تتقابل هاتان الخليتان يطرحان اختلافهما ويجددان ترتيب مادتهما اللقاحية إلى أن يتماثلا تماماً عندما يتدفقان معاً ويبدآن واجبهما العادي في تقسيم الخلية

والجنس على الأرجح مثل الشعر يميل إلى السرعة حينما يتم توافق الأمشاج. وعلى أي حال لا يمكننا أن نقرّ جنس الجنين حتى الأسبوع الخامس أو السادس من تكوينه، غير أن هناك من يزعم معرفة الجنس لكل الخلايا. على أن حقيقة الذكورة أو الأنوثة ترينا اختلافات واضحة حتى في رحم الأم. وكذلك في أي جهاز للتناسل. فعلينا أن نعمل ما

ص: 2

ازدراه نيكوديموس وهو أن ندخل مرة أخرى في بطون أمهاتنا ونولد ثانية لنؤرخ الميلاد من وقت وصول خلايا النطفة

إن مدة الحمل في الذكر تقل يومين عن الحمل في الأنثى، وذلك لأن الذكورة أشد تحولاً من الأنوثة. واشتغال نمو الجنين يسير بسرعة ونشاط أكثر. والطفل الذكر أثقل في الوزن من الطفل الأنثى، كما شوهد من بحوث بوديش وهايبرج وآخرين، كما أن أعضاءه وعظامه أثقل

والأطفال من كلا الجنسين يختلفون في حجم أعضائهم الجسمانية وفي وزن عظامهم. ولكن يمكننا أن نعزو أي اختلاف بينهم إلى الحقيقة بأن مبيض الأنثى ينتج بويضات على حين أن الذكر ينتج الحييونات المنوية وغدد كلا الجنسين تقتسمها خلية ذات فتحة مشتركة

وفي خلال الفترة التي تسبق المراهقة ينمو البنون والبنات نمواً يكاد يكون متشابها بالرغم من القصور الذاتي الأنثى. وليس يبدو على المرأة حتى انقطاع الحيض أنها في حلٍ من موانع سيكولوجيتها الأنثوية. إنها سن الفتح، وهي السن التي يتسنى فيها لنساء أن يصبحن ذوات شخصيات متسلطة قوية. وحينما نجردها من ملابسها يمكننا أن نلاحظ أن تشريحها ينتج لنا اختلافات كَميَّة فقط، من الاستجابة للبيئة. والمرأة يُقويها التشريح السهل، وإذا كانت نموذجاً حسناً قلنا إنها جميلة، بمعنى أنها أكثر طفولة وأكثر وداعة. فهي إذن أكثر ميلاً إلى جنسها، ولذا تُححَب ويُرغب فيها. . . ولو أن الذكر الحالي يعجب بنوع من الجمال الأنثوي الذي كان يعتبر فيما مضى (أداة) للتناسل

وهناك نقطتان ضيقتان في تشريح الأنثى بجانب مقدار صغير من أنسجتها العضلية، وأعضائها القليلة الفعالية والكفاية، الأولى: ميلها إلى البدانة بسهولة. وهذا الميل إلى البدانة عرض من أعراض التحول فبدلاً من أن يحرق الجسم الغذاء إلى نقطة النشاط يقف في منتصف الطريق عند نقطة البداية. وهذا يوضح السبب بنوع ما في اتساع صدور نساء كثيرات. والبدانة مصدر حيرة شديدة للمرأة الحديثة أياً كان عملها. وهذا الميل إلى البدانة إنما هو نتيجة ضعف أنسجتها العضلية، لأن حاجزها البطني الضعيف لم يبين إلا موضعاً عضلياً واحداً. ولكن هذا المشدّ الحقيقي في غاية الأهمية، لا لأنه يمسك الأحشاء في مكانها فحسب، ولكن لأنه يحافظ على ضغط الدم المناسب، ويقف خفقان القلب عند حده.

ص: 3

أما الرجل فإن له مشداً متوتراً من العضل في حاجزه البطني، وهذا يمده بضغط دمه العالي، ودقات قلبه البطيئة. ويبدو واضحاً غاية الوضوح عندما نذكر أن الحزوز البطنية الممتدة تكون في بعض الحالات سبباً لصدمة جراحية لا يكون الجراح مسئولاً عنها

والرجل والمرأة في اختبارات الذكاء متساويان، ولكن المرأة تتأخر في التحصيل، لأنها في حاجة إلى قوة توصِّلها إلى أطماحها. وإن تحولها البطيء، وحاجزها البطني الضعيف هما العائقان الرئيسيان لبلوغ تمام القوة

والنقطة الأخرى هي أن الأمراض التي تتعرض المرأة لها تدل أيضاً على أن تحولها أقل قيمة، في حين أن الأمراض التي يكون الذكر متعرضاً لها تشير إلى أن هناك تحولاً يعمل زيادة عن المقرر. ومن رأي (ماك ليود) أن تحول الأنثى أقل من تحول الذكر بنسبة 6. 8 % ولقد وجد (ألفاريز) من دراساته في ضغط الدم أن ضغط الدم عند الذكر أعلى مما هو عند الأنثى بـ 16. 5 ملليمترات. ويعرف كل شخص أن دقات قلب المرأة أسرع منها في الرجل. وبالطبع يجب علينا أن نتأمل الغدد الصماء بما فيها غدد الجنس. ولكننا لا نعرف إلا القليل لنستنتج النتيجة الأخيرة

إذا سلَّمنا جدلاً بعبارتي ذكر وأنثى، ترى أنه ليس هناك ذكور بحت ولا أنوثة بحت، وما دامت الحالة كذلك نضع اسماً لا يكون مربكاً، ولتكن كلمة (الطفل) أو (ناقص النمو) بدلاً مما نعني بالمؤنث. وعبارة (مراهق) أو (تام النمو) بدلاً مما نقصد بالذكر. وقد ترى المرأة أن هذه التعبيرات غير مقبولة، ولكن ليس في كل أنثى ما يجعلها (طفلة) أكثر مما يجعل كل ذكر مراهقاً. إذن، فحركة المراهقة هي التي يشمل برنامجها وظواهرها كلا الجنسين. وعلى الذين يحبون أن يشتركوا في المفاضلة بين الرجل والمرأة أن يدركوا تماماً أن الجنسين كليهما مشترك في التبعة. وربما يكون الرجال أكثر خطأ في ذلك؛ فقد ساعدوا المرأة على الاحتفاظ بضعفها لكي تكون أكثر خضوعاً لهم سواء كانت ألعوبة أو خادمة. وربما يعترض الرجال على الكلام المتعلق بالمراهقة على ضوء ما تقدم بقدر ما تستنكر النساء كلمة (الطفولة) التي أصبحت تنطبق على أجسامهن، ويجب علينا أن نفهم بادئ الرأي أن واجب الرجل في حركة المراهقة يكاد يكون ثورياً كما في المرأة، ولو أنه قد تم فعلاً في مجالات مختلفة

ص: 4

وحركة المراهقة معناها الميلاد الجديد لكلا الجنسين. ففي حالة المرأة مثلاً - يجب أن تستسلم لسيكولوجية المراهقة التي تطغي على الحياة من المهد إلى اللحد. لأن المرأة تولد في سيكولوجية خاصة مضعفة تتمشى معها في الحياة. وسيكولوجية الأنثى هذه هي التي تجعل إضعاف البيئة ممكناً. والتي تحتفظ على الدوام بكلمة السر لتحفظ الأشياء مأمونة هادئة

وهناك حالات في تاريخ البشر انعكست فيها وظائف الجنسين أو حُوِّرت بوضوح. فمن بين الإسكيمو نشاهد الذكر يقوم في بعض الأحيان بما يتطلبه العمل المنزلي، وهو لذلك سمين مترهل. ويقول أريستوفانس إن نساء أسبرطة كان يمكنهن أن يخنقن ثوراً بأيديهن. ونقرأ في التلمود أن وظائف الجنس تغيرت أثناء عصر واحد من التاريخ العبراني

وبينما تعمل الغدد في إفراز الهرمونات التي تؤثر في التقدم وفي السلوك، يجب علينا أن نذكر أن معظم الاختلافات تكوِّن شيئاً هاماً في السلالة البشرية ويفهم هذا عندما نذكر أن المبيض يزن من جرامين إلى ثلاثة جرامات فقط، على حين أن الخصية تزن من 10 جرامات إلى 14 جراماً. وهذا جزء من التفاوت في الوزن يتمشى مع القاعدة العامة للوزن الأقل لجميع أعضاء الأنثى. والمرأة القوية يحتمل أن يكون لها مبايض أثقل كما يمكن أن يكون لها قلب أكبر. ولكن تأثير الغدد الجنسية واحد لا يقدر ليستا خالصتي الذاتية: هما دائماً أخلاط، فصيلة المراهقين تقدم أخلاطاً موزونة ذات فائدة كبيرة لمصلحة الجنسين. والفرق النوعي الواضح بين الرجل والمرأة هو التركيب المنوي في الذكر والتركيب البيضي في الأنثى وغدد الجنس ليست منابع لما عرفناه بالمزايا العرضية فحسب، وإنما تعتبر الكمية والجوهر لكل ما يمكن أن يذكر فيما نعتبره مبدأ بيولوجيا سليما، أي أن الرجل والمرأة كليهما استجابة بروتيبلازمية للبيئة وما دامت الحالة كذلك يمكننا أن نؤثر بتوسع في الاستجابة بتغيير البيئة. واختلافات الجهاز بين أشكال البروتبلازم الحيوية للذكر والأنثى تافهة وعديمة الأهمية، والاختلافات التي نشاهدها هي في الغالب آثار من صنعنا، وهي تنشأ في الغالب من حالات العقل والعادات. واختلاف التركيب الجنسي لا يمكن أن يعلل بحرية الذكر وبلوغه ما يشتهي، ولا يمكن أن يعلل بالخضوع والعجز في العمل من جهة الأنثى.

ص: 5

والسبب في تفوق الذكر ليس في حقيقة جنسه ولكن في المنافع التي يفعلها بقواه، إنه يعيش لا في بيئة (الذكر) ولكن في بيئة من القوى. وإنه لا يستعمل سيكولوجية (الذكر) على الأقل، حيث ينجح، ولكنها سيكولوجية من القوة. . . ليس (البرهان) ذكراً: إنه منطق التحصيل. . . وليست (البداهة) أنثى: إنها عقدة من العبث والكذب والمخادعة. . . وضعف الأنثى ليس سببه الغدد في حد ذاتها، وليس حقيقة أنها أنثى، ولكن السبب يرجع إلى تحول فسيولوجي وسيكولوجي ناتج عن الاستعمال الضيق المحدود لقواها، والفكر الحديث والطب أزالا إلى حد كبير الآثار المكبوتة للحيض والولادة.

وليس الحب هو كل الحياة لفتاة يافعة أو لامرأة ناضجة. فالحب الحقيقي يأتي فقط عندما يفقد المرء حياته، والعاشق هو الشخص الذي يحاول أن ينقذ حياته فيفقد كل حبه وحياته

والمرأة - بالتأكيد - لها دور خاص هو ولادة الطفل، وللرجل دور خاص هو إنتاج الطفل، ولكن هذه الأدوار التي يقوم بها الجنسان بولغ فيها مبالغة لا يتسع لتفصيلها المقام

(الإسكندرية)

عبد العزيز جادو

ص: 6

‌الأدب الإغريقي

في عصر الإسكندرية

للدكتور محمد مندور

رأينا أن شعر الإسكندرية لا يهز النفوس إلا عندما يعود فيتصل بالحياة، ولقد شهدنا ذلك الاتصال في المقطوعات الصغيرة وفي أغاني الريف والرعاة. وبإنعام النظر فيما سقنا من أمثلة يلاحظ القارئ بلا ريب أن ذلك الشعر وإن كان نقياً خالصاً فإنه لم يخل من واقعية، وذلك لا في الأسلوب فحسب، بل وفي نوع الإحساس والتفكير. ولقد استمعنا إلى تيوقريطس ينصت إلى الضفدعة الخضراء، ويتغنى ببمبيكا الباسمة الخفيفة الدم، وقد جن بها عادياً خلفها كما يعدو الذئب وراء النعجة والبجع خلف المحراث، وعنده أن جالاتيه، البيضاء كاللبن المخيض، لاذعة كعنقود العنب الخضر.

وهذه الواقعية لا علاقة لها بالمذهب الأدبي الذي ظهر خلال القرن التاسع عشر بذلك الاسم، فأدباء ذلك القرن وعلى رأسهم بازك وفلوبير وموباسان إنما كانوا يقصدون بالواقعية الكشف عن الجوانب الوضيعة في النفس البشرية، حتى لقد تطور مذهبهم فانتهى إلى الطبيعية التي نجدها عند زولا حيث لا ترى إلا الغرائز الشاذة والقوى العضوية ومخلفات الوراثة المثقلة تقود أبطال الروايات. واقعية شعراء الإسكندرية لا غوص فيها ولا تحليل ولا التماس للجوانب المظلمة في النفس، وإنما هي تصوير لواقع الحياة الساذجة، ولشعور النفس المفطر بأسلوب مباشر

وإذا كانت هذه الواقعية قد طالعتنا من ثنايا الأغاني، فإنه لم يكن بد من أن تنفرد بنوع بذاته من أنواع الأدب، وهذا النوع هو ما سميناه فصول المحاكاة

فصول المحاكاة

نشأ هذا الفن بصقلية كما نشأت أشعار الرعاة، وإن يكن أقدم منها تاريخاً، إذا يعتبره النقاد عنصراً من العناصر التي مهدت للكوميديا، وأكبر الظن أنه نشأ في القرن الخامس ق. م. على يد سُفُرون وزيناركوس، وإن يكن ما كتبناه قد ضاع. ولهذا لا نستطيع أن نجزم بطريقة بنائهما لتلك الفصول، وإن كان من الراجح أنها كانت على غرار ما وصلنا من

ص: 7

اللاحقين لهما، وبخاصة هيرونداس (يسميه البعض هيروداس) الذي نشر له العالم الإنجليزي كنيون سنة 1891 سبعة فصول عن ورقة من أوراق البردي موجودة بالمتحف البريطاني. وكل فصل منها عبارة عن حوار بين شخصين أو ثلاثة أشخاص أحياناً من النساء وأحياناً من الرجال، وهو شديد الشبه بفصل من مسرحية، وإن كانت تلك الفصول لم تعد للتمثيل، بل كتبت للقراءة أو الإلقاء. ولقد كان هيرونداس هذا فيما يبدو معاصراً لتيوقريطس. وأشخاص الحوار من عامة الشعب أو من الطبقة الوسطى. فتجد معلم المدرسة وبائع الرقيق والقوادة والجزمجي الشهير. . . الخ. . . والشاعر يصورهم في حياتهم اليومية، وهو يلتمس لحواره أي سبب كان: لقاء في طريق، أو احتكاكا في زحام، أو مساومة على سلعة. وإذا بنا نشهد ساعة من حياتهم بهمومها الدارجة، ومسراتها المألوفة، وشهواتها الصغيرة، وثرثرتها الأبدية التي نعرفها جميعاً في أفراد الشعب، وما يتخلل حديثهم من أمثال وتحيات محفوظة، وشتائم موروثة ومصطلحات لا نفهم لها وضعاً ولا معنى. من أمثال:(بلا آفية) و (يا سيدي لما إنت)، وما إلى ذلك مما يستطيع أن يسمعه القارئ بكل ركن من أركان الحسينية أو البغالة، فنستمع طوراً بعد طور إلى القوادة ذات الناب الأزرق تنقل إلى فتاة مغريات عربيد كبير، أو بائع الرقيق يقص على المحكمة محنة ويطلب إليها العدل، أو أب يتحدث إلى معلم المدرسة عن ولده (الشيطان الرجيم) ويقص عليه (عفرتته) التي لا تنتهي؛ أو نرى بائع الأحذية الشهير يعرض على (مترو) أحذيته الجيدة ويطري البضاعة

فصول المحاكاة لوحات أخلاقية صغيرة، لوحات لا عمق فيها ولكنها تصوير صادق للحياة، وهي وإن خلت من عنصر الدراما إلا أنها مع ذلك تكوِّن غالباً وحدة لها بدؤها ونهايتها. وموضع الجمال فيها هو سذاجتها رما بها من دقة الملاحظة، ثم بقاؤها في مستوى الشعب، فلن تجد فيها أي تداخل من كاتبها. بإحساسه الخاص أو آراءه ومثله، فكأن الشاعر سلبي بحت يستمع إلى من حوله ويرصد ما يستمع، ومع ذلك كم فيها من دقة وصدق وحسن اختيار للتفاصيل الدالة، وقد تتابعت بها دعارة القول وعفة الحياء، وقاحة بائع الرقيق وسذاجة نساء الحارات، مكر بائع الأحذية وتصنع المستهترات.

في هذه الفصول مجموعة كاملة من المشاعر المتوسطة التي نجدها عند عامة الناس،

ص: 8

والشاعر لا يحيد بها إلى التزمت ولا إلى التسامح المسرف، بل يلازم الصدق فهو لا يمتدحها ولا يهجوها بل يصورها كما هي غير متجنب ما فيها من قبح ولا مبالغ فيه. وهو لا يخشى العبارة المسفة ولكنه لا يبحث عنها، كما أنه لا يغدق العطف على ما يجب ولا يصب اللوم على ما يكره. وشخصياته وإن لم تخل من رذائل وقسوة إلا أن تصرفاتهم لا تصل قط إلى حد المآسي الدراميتيكية. وهم بهذا أيضاً يظلون في واقع الحياة. الحياة الحقيقية التي يندر بها الأبطال الخارقون كما يندر كبار المجرمين

ثم إن هذه الفصول وإن كانت تصور نواحي إنسانية عامة إلا أنها تضيف إلى ذلك حقائق تاريخية خاصة بشعب صقلية في ذلك الحين، ذلك الشعب الذي اشتهر منذ القدم بكثرة الحركة وخفة اللسان ومرونة الخلق والنزوع إلى الاستطلاع

ولقد كتب تيوقريطس نفسه كما ذكرنا في نهاية المقال السابق بعضاً من تلك الفصول، ولعل (نساء سيراقوزة) خير مثل يضرب لها. والحوار يجري بمدينة الإسكندرية في يوم من أيام عيد أدونيس وبطلاه امرأتان أتت بهما من سيراقوزة إلى الإسكندرية بعض المهام التجارية فذهبتا إلى العيد حيث لا تنقضي تعليقاتهما على ما يريان، فالحصان الرمادي الضخم يخفيهما وكل منهما تشكو من زوجها وإن كانتا في حقيقة الأمر أميل إلى الطيبة، وهما لا يغنيان ولكنهما يحبان الاستماع إلى الغناء، وبالفعل ينشد أحد المغنيين نشيداً جميلاً لأدونيس وبه ينتهي الفصل. وهانحن بعيدون عن رعاة الجبال وقد انتقلنا إلى المدن حيث تجري الحياة المتواضعة التي لا شعر فيها، ولكننا نجد في صدق التصوير وسذاجته ما يعوض عن الشعر، وإن كان تيوقريطس لم يتمالك من أن يختم فصله بنشيد فيه شذا الشعر الجميل

الشعر العلمي (الأكاديمي)

قلنا من قبل إن الكثير من شعر الإسكندرية كان شعراً مصنوعاً وضعه العلماء بعيداً عن الحياة، ولدينا من هذا النوع الشيء الكثير، فأراتوس يتحدث عن (ظواهر الطبيعة) في كتاب ضخم. وكاليما كوس يقص نسبب الآلهة بمغامراتهم وحوادثهم المعروفة في أسلوب تعليمي في (أناشيده) أو يوضح الأسباب والمسببات في (أصوله) بل ومنهم من أخذ في محاكاة هوميروس فحال أن يضع الملاحم. وأكبر هؤلاء المقلدين هو أبولونيوس الرودسي الذي ألف ملحمة كبيرة يقص فيها رحلة جازون ورفاقه بحثاً عن الجزة الذهبية، ذلك أن

ص: 9

جازون هذا كان عمه قد اغتصب من أبيه العرش؛ وعندما حاول استرداده طلب إليه العم أن يأتيه أولاً بالجزة الذهبية، وكانت تلك الجزة ببلاد تراقيا النائية حيث يحرسها تنين ضخم فضلاً عما في تلك الرحلة البعيدة من مخاطر. ولقد استطاع جازون أن يأتي بالجزة، وذلك بفضل ميديه بنت ملك تراقيا التي أحبت البطل وجنبته بنصائحها وذكائها مواضع التهلكة بل وهربت معه. وهذه هي القصة المعروفة بقصة (الأرجونوت) أي بحارة (أرجو) وهو اسم السفينة التي أبحر عليها جازون ورفاقه

وأبولونيوس وإن يكن بلا ريب من الشعراء العلماء، شعراء الصنعة فإنه يعد برغم ذلك شاعراً كبيراً وبخاصة في بعض أجزاء ملحمته التي استرسل فيها مع إحساسه إلى حد ما. ولعل من خير ما كتب وصفه لغرام ميديه: (مدّ الليل ظلاله على الأرض، وفي البحر نام البحارة بسفنهم وهم يتأملون هيليكنيه ونجوم الأريون. وقد هفا المسافرون في الطريق إلى ساعة النوم، كما هفا الحراس على الأبواب. بل والأم الحديثة عهد بموت أبنائها قد لفها خدر نوم عميق. وعواء الكلاب لم يعد يسمع بالمدينة. لم يعد ثمة همس لصوت. لقد تملك الصمت ظلام الليل

ولكن ميديه لم يغزها عذب النوم، لقد أيقظتها آلاف من الهموم، هموم غرامها وكان قلبها يثب في صدرها بلا انقطاع، وكأنه شعاع يثب في غرفة وقد عكسته مياه تصب في قدر. فهو يهتز دائراً في سرعة فيقفر هنا وهناك. على هذا النحو كان يدور قلب الفتاة بصدرها

حدثت نفسها حيناً بأنها ستعطي المادة السحرية الثيران (التي كانت ستفترس جازون) لتهدئها، وحيناً بأنها لن تعطيها. فكرت في أن تموت، ثم في أن لا تموت، وأن لا تعطي المادة السحرية محتملة ألمها دون تفعل شيئاً. وأخيراً جلست وفكرت، ثم قالت: ما أشقاني! لقد تحوطتني المحن. أين المفر؟ بكل سبيل شكوك لنفسي! لا دواء لألمي الذي لا يمسك عن إحراقي. آه! ليت أرتميس (إلهة الصيد) استطاعت أن تقتلني بسهامها قبل أن أراه. كيف أستطيع أن أعد المواد السحرية خفية عن أهلي؟ ماذا أقول؟ أي حيلة أخترع لأداري معونتي؟ هل أحادثه سراً بعيداً عن رفاقه؟ يا للبؤس! إن موته ذاته لن يدع لي أملاً في الشفاء من آلامي. بعد موته سيحتضنني الألم. وداعاً عفافي! وداعاً ضياء حياتي! فلينج على يدي ولينأ من هنا دون جراح. لينأ إلى حيث يهوى فؤاده)

ص: 10

ولست أدري ماذا يظن القارئ بهذه الفقرة التي هي بلا ريب من خير ما كتب وإن كنت عن نفسي أحس فيها الصنعة بادية والتكلف واضحاً، ولا أدل على ذلك من أن ننعم النظر في تشبيهه المعقد لقلب الفتاة بالشعاع الذي يثب في غرفة وفي الغرفة قدر وبالقدر يصب الماء، والماء يعكس الشعاع، والشعاع يتطاير شرره في كل ناحية وما إلى ذلك من تفيهق العلماء وصنعتهم المرذولة

ذلك عن فن الملاحم. ولقد سبق أيضاً أن قلنا إن شعراء ذلك العصر قد حاولوا كافة الفنون الأدبية، فهم لم يقفوا عند الملاحم يحاولون بعثها بعد أن كان زمن الفطرة والطبع السليم قد انقضى، بل كتبوا أيضاً التراجيديات. ومن غريب الأمر أنه أكبر شعراء التراجيديات في ذلك العصر وهو ليكوفون لم يرقه ما أحدثه أوربيدس في أسلوب التراجيديا من تطور نحو النثرية. فأراد (كأديب مرهف) أن يعود بها إلى اللغة الشعرية القديمة. فأخذ يحاكي أيسكيلوس وبنداروس، ولكن التكلف أفسد محاولته كما نتوقع، وكان في هذا فشل للتراجيديا لا يقل عن فشل الملاحم

وتخلص من كل ما سبق عن أدب عصر الإسكندرية إلى أن لم يجد إلا عند ما عاد إلى الحياة، لقد جاد في شعر ليونيداس لأنه لامس بؤس الحياة وخبر أسرارها، وجاد في شعر تيوقريطس لأنه هاجر إلى الريف حيث السذاجة الساحرة، وجاد في فصول المحاكاة، لأنه صور واقع الحياة، ولقد صدقت نغماته في شعر الغرام، لأن الحب شعور غلاب، وأما فيما عدا ذلك فقد جاء شعر علم وتكلف وكتب وصالونات

(انتهى)

محمد مندور

ص: 11

‌4 - أحمد رامي

للأستاذ دريني خشبة

لم نستطع أن نهتدي إلى شيء في قصة حب رامي، هذا الحب الذي لمسنا أثره في الكلمة السابقة، والذي تفجر بعد ذلك ألحاناً صافية، فيها كثير من الدموع، وفيها كثير من الألم، وذلك حينما دخلت في حياة الشاعر مطربة الخلود الآنسة أم كلثوم، فوجدتها حياة تضطرب بتلك الآلام التي تختلط فيها ذكريات اليتم والحب. . . اليتم العابس المتجهم ذي المسئوليات، والحب الخائب المنكوب ذي الصبوات، وجدته يقول:

هل زال من دنياي حسن هزني؟

أم قر في قلبي لهيب النار؟

حب تضرّم في حنايا أضلعي

فأصابه يأس بطول قرار

وبكيته حتى مللت بكاءه

فسكت منطوياً وحزنيَ وارِ

وهذا كلام سهل لين، لكنه مؤثر، بل مُبكٍ. . . وأي قلب. . . لا يتأثر حينما يسمع رامي في رقته وسمو عاطفته، يهتف بهذا الشعر الجميل السهل اللين، شاكياً باكياً، ذرافاً دموع قلبه، مصعّداً أنات روحه، واقفاً عند الشطر الأخير:

فسكت منطوياً وحزنيَ وارِ!

وقفة العاشق المكروب أمام هذا الحطام المقدس من بقايا حبه!

لقد أرهفت أم كلثوم سمعها حينما سمعت رامياً يئن ذلك الأنين الموجع وسط جنته الذاوية الذابلة، فوجدته يسائل الأطياف التي تهمهم من حوله:

لمن الغناء أقوله فأصوغه

من أدمعي ودمي، وطيب سراري

ومن الذي يوحي إليّ من الهوى

قبس الخيال وصدحة الأوتار

ما أطلق الطيرَ الصدوحَ بشدوه

مثل ابتسام الزهر والنوار

أو نضرَ الزرع البهيجَ زهورَه

كالشمس والماء النمير الجاري

أو أرقص البحر الخضم عبابه

كالبدر يشرق باهر الأنوار

وتلفت رامي فجأة على صوت رخيم رضيٍ يقول له:

(أيها الطائر المنفرد المعذب المهيض الجناح، صُغْ غناءك لي أملأ به الكون، وأجعل لك به دماً جديداً وحياة جديدة. . . صُغه لي أوح إليك من أفانين الهوى ألوانها الزاهرة الباهرة،

ص: 12

وأنفض الرماد عن قبس خيالك، والصدأ عن صدحة أوتارك، وأبتسم لك ابتسام الزهر والنوار، وأشرق على عباب بحرك الخضم إشراق البدر باهر الأنوار، وأدفئ جنتك بمثل الشمس التي جَرَتْ في فلكك الدَوَّار وأُرْوِها بمائي النمير الجار، وأترددْ في أنفاسك عطراً، وأتبلجْ في ظلام بأسك فجراً، وأرد عليك شيطانك النافر، وأُذُدْ عنك وسواسك الساهر، واسحر لك بنات غابك، وعرائس عُبابك، فتفرش لك طرقات جنتك بأفواف الزهر، ولآلئ البحر، وتمدك بروائع الفكر، ونفثات السحر. . . و. . . و. . .). وما إلى ذلك مما يغازل الأقلام من الشعر، وهي تكتب عن رامي وأم كلثوم

وانتفض فؤاد رامي لذلك الصوت الرؤوف الرحيم انتفاضة هائلة لم تزل تتردد ملء أضالعه عشرين عاماً، وأحسبها سوف تتردد فيه حتى يشيخ رامي، وحتى يهرم معه أناس آخرون

لقد رأينا كيف عز على رامي أن يصمت هذا الصمت الذي أفزعه وشغل باله، وهو شاعر الإنسانية الحزين الذي يقول:

الحزن أدبني، وهذب خاطري

وأنالني عُلو الخيال السامي

وأسأل أسراب الدموع فصغتها

صوغ المعاني في شجيّ نظامي

وأرق إحساسي ومدّ مشاعري

فوصلت كل الناس في أرحامي

قاسمتهم أحزانهم وحملت من

أعبائهم شطراً من الآلام

فلما سمع من أم كلثوم هذا النداء الرخيم الندي الرضيّ، خفق قلبه، واستجاب له، وحلت مطربة الخلود عقدة السحر عن لسانه، فأنطلق يصوغ لها أغانيه الخالدة (من أدمعه ودمه وطيب سراره)، وانطلقت هي (توحي إليه من الهوى، قبس الخيال وصدحة الأوتار)

ولقد كان دخول أم كلثوم في حياة رامي ثورة كاملة في تلك الحياة اليتيمة الحزينة الباكية، ولقد استطاعت أم كلثوم أن تلهم رامياً كل هذه الثروة الطائلة من المعاني (البكر!) التي لم يسبقه إليها أحد من الشعراء (فيما نعلم) والتي سجلها في (شعره الجديد) وأغانيه المصرية العذبة التي أنقذت الغناء المصري من الإسفاف الذي تردّى فيه زماناً طويلاً قبل أن يهيئ له الله رامياً، ليجدده، وليهذبه، ولينفي عنه ما كان يشوبه من خيال غث، وتعبيرات رخيصة، وغزل بارد مكشوف؛ مما سنخصص له كلمة مستقلة إن شاء الله

ص: 13

واستطاعت أم كلثوم كذلك أن تخفف من برحاء الحزن في نفس رامي، وان تلطف من لَذْع الحُرَق التي كان ينطوي عليها من جراء نكبته في حبه، وقد اعترف هو بذلك في كثير من شعره الذي أخذ يرق ويصفو لدخول أم كلثوم فيه:

صوتك هاج الشجو في مسمعي

وأرسل المكنون من أدمعي

سمعته فانساب في خاطري

للشعر عين ثرَّةُ المنبع

ودبّ في نفسي دبيب المنى

والبرء في نضواَ لجِوى الموجعِ

سلوى من الدنيا تسلي بها

قلب شديد الخفق في أضلعي

طال به السهد كأن الدجى

ضل به الفجر فلم يطلع

حتى إذا غنيتِ ذاق الكرى

ونام نوم الطفل في المضجع

كأنما لفظك في شدوه

منحدر من دمعي الظَّيّع

فيه صباباتي وفيه الضنى

يشكو تباريح فؤادي معي

نظمت أشعاري وغنيتها

منظومة الحبات من مدمعي

أودعتها الشكوى فما رق لي

من راح بالقلب ولم يرجع

ولو تغنَّيتِ بها عنده

عاد إلى الود ولم يقطع

أما حديث هذا (الذي راح بالقلب ولم يرجع) فعلمه عند رامي الذي يقول بعد هذا:

يا من شَدَت بنسيبٍ

ناجيت فيه حبيبي

وردّدت من شكاتي

ورجّعت من نحيبي

وأودَعَت في الأغاني

تناوحي ووجيبي

فجرتِ نبعَ خيالي

من بعد طول النضوب

أنمت حزن فؤادي

بصوتك المحبوب

وكنتِ مألف حسي

وظل روحي الغريب

وآنس اليوم قلبي

نجيّه في القلوب

حتى غنيت بنجوا

ك عن هوى وحبيب

فنحن إلى الآن تلقاء حالات ثلاث من أحوال رامي. . . أولاها رامي المحب المحزون، وثانيتها رامي الذي يشكر القدر على هذا الصوت الذي أخذ (يدب في نفسه دبيب المنى،

ص: 14

والبرء في نضو الجَوى الموجع)، رامي الذي لا يزال يحن إلى إلفه القديم فيقول:

أودعتها الشكوى فما رق لي

من راح بالقلب ولم يرجع

ولو تغنّيتِ بها عنده

عاد إلى الود ولم يقطع

أما الحالة الثالثة، فرامي الذي أخذ يتسلى عن هواه القديم، حيث يقول:

أنمتِ حزن فؤادي

بصوتك المحبوب

وكنتِ مألف حسي

وظل روحي الغريب

وآنس اليوم قلبي

نُجيّه في القلوب

حتى غنيت بنجوا

ك عن هوى وحبيب

وذلك اعتراف صريح من رامي بأن قلبه قد آنس اليوم نجيّه في القلوب، حتى غَنِيَ بنجواه عن كل هوى وكل حبيب

أما تاريخ قلب رامي بعد هذه الأطوار الثلاثة من أطوار حبه فليس من شأننا، ونستطيع أن نقول إنه أصبح قلباً شديد الصلة بأذنيه. . . أي من هذه القلوب التي تعشق بالأذن قبل أن تعشق بالعين أحياناً وإن تك عين رامي من أعشق عيون الشعراء الذين عرفناهم أجمعين. ونستطيع أيضاً أن نلفت النظر إلى حب جديد شب في قلب رامي فجأة، وجعله لأول مرة في حياته يذكر الشك ويردده كثيراً في أشعاره الجديدة وفي أغانيه المصرية البارعة الرائعة:

تقول أسأت الظن بي فكأنما

تخال محباً لا تسوء ظنونه

وهل قر قلب في هواه ولو غدا

يساجله فرط الحنان خدينه

إذا لم يكن في الحب شك وحيرة

فمن أين يحلو للمحب يقينهُ؟

ومن قصيدته (بين الشك واليقين):

قد أحاطت بك العيون فما أس

طيع ألقي مكان عيني منك

وجرت حولك الأحاديث حتى

كدت أنسى الذي أحدِّث عنك

وأطافت بك القلوب وقلبي

ضاع في غَمْرها ولما يُضعك

خبريني أي القلوب تناجي

ن فقد همت في غيابة شك

ومن قصيدته (كذب الظنون) التي مطلعها:

ص: 15

أخاف عليك من نجوى العيون

وأخشى أنّه القلب الحزين

وأعلم ميل نفسك أن تكوني

هوى الدنيا ومُنْبَعَثَ الحنين

فأخشى قولة العُذَّال مالت

لغيرك، وانمحي كذب الظنون

وقفت على هواك مطار فكري

ومسرى خاطري وهوى فنوني

ووحّدت المعاني فيك حتى

رأيت الكون خلواً من شجوني

فهل يرضيك ما ألقى فأرضي

نصيبي فيك من ذل وهون

أم الظن المريب أضل رشدي

وأرسل ليله يغشى يقيني

وأنت كما عهدتك في غرامي

نجية قلبّي الراعي الأمين

ومن قصيدته (ظن المحبين):

ساورتني الظنون فيها ولكن

يَ غالبت سوء ظني حينا

ثم ساءلتها أتحمل عني

بعض ما ذقت في هواها فنونا

فثنت طرفها وقالت أما تبر

ح يا ظالمي تسيء الظنونا

وأنا لا أشيم في قلبك السا

در نوراً ولا أحس يقينا

كلنا سيئ الظنون وما أح

سب إلا أن الأمانة فينا!

وكما يتردد ذكر الشك في شعر رامي الجديد تتردد الشكوى من كثرة المحبين الذين تتهاوى فراشات قلوبهم في نار حبيبه المقدسة:

يا من أخذت فؤادي

أخْذ العدو الحبيب

قلبي لديك فقل لي

ما حاله في القلوب

وما أعذب مطلع قصيدته (هوى الغانيات)

كيف مرت على هواك القلوب

فتحيرت من يكون الحبيب؟

ومن قصيدته (بين الشك واليقين):

وأطافت بك القلوب وقلبي

ضاع في غمرها ولما يضعك

خبريني أي القلوب تناج

ين فقد ضعت في غيابة شك

ثم تكثر في شعر رامي الجديد تلك المقطوعات الرقيقة التي لا نستطيع أن نسميها إلا (خطابات شعرية) كان يرسل بها إلى حبيبه الجديد، يملأها بالشكوى وبالشك والحنين وهو

ص: 16

يصرح في معظم هذه (الخطابات المنظومة) بأن حبيبه هذا ذو صوت حنون حلو:

عشقتك للصوت الحنون وللشجي

وما كنت أدري ما يجر هواك

غناء كشدو الطير في رونق الضحى

ومعنى تناغي في سماء مناك

وإذا سئل رامي عمن يكون هذا الحبيب أجاب:

أرادوني على أني أبوح

وهل يتكلم القلب الجريح

إلى أن يقول:

وتزدحم القلوب على هواها

فتنكرني ولي كبد قريح؟

وبعد. . . فمن الفضول في تاريخ شعرائنا أن نعدو هذا الحد. مَنَّ الله على رامي بنعمة الهدوء في عش حياته العائلي. زوجاً كريماً ووالداً برَّا رحيما.

دريني خشبة

ص: 17

‌على هامش ذكرى المعري

(داعي الدعاة) مناظر المعري

للدكتور محمد كامل حسين

- 4 -

لخصت في مقالاتي السابقة شيئاً من حياة المؤيد داعي الدعاة، وتحدثت عن شيء من نشاطه في الحياة السياسية، ولم أشأ أن أدخل في تفصيلات لا تتحملها الصحف السيارة، والآن أتحدث عن أثر المؤيد في الحياة العلمية والأدبية. فقد كان المؤيد عظيم الأثر في معاصريه، واستطاع أن يسحرهم بفصاحته ويبهرهم بقوة حججه فانقاد له خلق كثير، واستطاع كذلك أن يجعل من تلاميذه مدرسة لها طابعه، تتحدث بآرائه وتبشر بتعاليمه، كما وضع عدة كتب لا تزال إلى الآن من أمهات الكتب التي لا يقر بها إلا شيوخ الدعوة الطيبية في الهند واليمن، (أي طائفة البهرة)، وقد سرد عبد الله بن المجدوع في رسائله أسماء الكتب التي وضعها المؤيد في الدين، وهي تبلغ نحو ثلاثة عشر كتاباً. منها كتاب واحد بالفارسية هو كتاب أساس التأويل، وقال إن المؤيد ترجم الكتاب عن العربية عن كتاب (أساس التأويل) لأبي حنيفة النعمان بن حيون المغربي. وقدر لي أن أطلع على هذا الكتاب بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن؛ فإذا هو يبحث في تأويل قصص الأنبياء بعد أن قدم في عدة صفحات قليلة بوجوب تأويل القرآن الكريم تأويلاً باطنياً، ووجوب معرفة الظاهر والباطن

ولعل أكبر أثر تركه المؤيد هو كتاب (المجالس المؤيدية)، وهو مجموعة محاضراته التي ألقاها في مجالس الدعوة، وتجمع كل مذهب الفاطميين. فلم يترك المؤيد شيئاً من مذهبه دون الحديث عنه في هذه المحاضرات التي بلغت الثمانمائة محاضرة، ولا أدري تماماً متى جمعت هذه المحاضرات ومن الذي أطلق عليها هذا الاسم، ولكن الذي لا شك فيه أن الداعي اليمني حاتم بن إبراهيم المتوفى سنة 596 رتب هذه المحاضرات حسب ونشرها باسم (جامع الحقائق) فأدى بذلك خدمة جليلة لمن يبحث في المجالس المؤيدية

قسم حاتم بن إبراهيم المجالس المؤيدية إلى ثمانية عشر باباً، جمع في الباب الأول ما ذكره

ص: 18

المؤيد عن التوحيد، وفي الباب الثاني ما اختص بالإبداع والمبدع الأول، وفي الباب الثالث ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الباب الرابع عن النبي (ص) وعلي بن أبي طالب، وافرد الباب الخامس لعلي بن أبي طالب، وجمع في الباب السادس ما قيل في إثبات الإمامة في ولد علي، وأن الإمامة تنتقل من والد إلى مولود لا تنقطع إلى يوم القيامة، وفي الباب السابع حديث عن الأشباح الروحانية وفضلهم، وفي الباب الثامن ما قيل في المادة والتأييد والوحي المتصل بالأنبياء، وحديث عن الأنبياء والأوصياء، وفي البابين التاسع والعاشر وجوب أخذ العهد على المستجيبين للدعوة، ووجوب التأويل وصحته، وفي الباب الحادي عشر نجد رد المؤيد على غلاة الشيعة وعلى القائلين بالتناسخ، وفي الباب الثاني عشر رد المؤيد على الفلاسفة والمعطلة والمنجمين، وفي الباب الثالث عشر رسائل المؤيد إلى أبي المعري، ورد المؤيد على المعتزلة وعلماء أهل السنة واليهود ورده على ابن الراوندي صاحب كتاب الزمردة الذي يحتج فيه على الرسل، ويحاول أن يبرهن على إبطال الرسالة، وفي الباب الرابع عشر تحدث المؤيد عن أضداد الأنبياء والأوصياء منذ عهد آدم، وفي الباب الخامس عشر جمع بعض مناجاة المؤيد وخطبه ومواعظه، وجعل في الباب السادس عشر في ذكر فضل المهدي المنتظر، أو بحسب اصطلاحهم (قائم القيامة) والباب السابع عشر عن المعاد والثواب وذكر أهل العذاب، وختم كتابه بالباب الثامن عشر وهو خاص بأهل العذاب

هذه هي الموضوعات التي تحدث عنها المؤيد في مجالسه، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن المؤيد كان واسع الاطلاع عالماً بمذهبه وبآراء جميع الفرق الإسلامية الأخرى، وبما نقل إلى العربية من مذاهب الفلاسفة الأقدمين. والمؤيد في كثير من مجالسه كان يأخذ آية من القرآن الكريم، أو قولاً مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد أئمة الفاطميين ويشرحه شرحاً يتفق مع ما كان يدعو إليه. فهي مجالس تأويل إن صح أن نسميها بهذا الاسم، وهنا تتجلى لنا شخصية المؤيد، إذ أن داعي الدعاة الأكبر أو الحجة هو صاحب التأويل في عصره، ولهذا نرى شيئاً من الاختلاف بين الدعاة في تأويل بعض الآيات القرآنية الكريمة. فالتأويل شخصي يختلف باختلاف الدعاة وباختلاف العصور، فتأويل النعمان بن حيون يختلف عن تأويل جعفر بن منصور اليمني صاحب كتاب

ص: 19

الكشف، وكتاب سرائر النطقاء، وكتاب أسرار النطقاء، وهما يختلفان عن تأويل المؤيد في مجالسه. وهم جميعاً يختلفون عن تأويل دعاة اليمن، وهذا عجيب من قوم يدعون أن التأويل من عند الله سبحانه وتعالى!

كان المؤيد يبدأ مجالسه بمقدمة يحمد فيها الله ويثني بالصلاة على النبي وعلى وصيه، ثم يخاطب السامعين بقوله:(معشر المؤمنين). . . معلوم أن. . . كما كان يختم كل مجلس بالدعاء لسامعيه، ثم يعقبها بحمد الله والصلاة على النبي والوصي والأئمة. وكان إذا أراد التحدث عن نفسه في مجالسه يقول: وقع في أيدي أحد دعاتنا. . . أو (سئل العالم)(قال العالم)، لأنه كان يستر نفسه موهماً جمهور المستمعين أن هذه المجالس إنما هي صادرة عن الإمام نفسه

وهاكم نص المجلس الثاني من المجالس المؤيدية في موضوع الشرع والعقل بعد حذف المقدمة لطولها (معلوم أن المسلمين يشهدون بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام ضرورة من حيث أن القرآن الكريم مشحون بذكرهما وقصصهما. وهم (المسلمون) خصوم أمتيهما اللتين هما اليهود والنصارى، وشهادة الخصم لا يحتاج إلى بينة، وهم ينكرون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بينة للمسلمين غير القرآن الذي لا يقبلونه ويقولون ما هو بلغتنا ولا يلزمنا فيه حكم إعجاز، والأخبار التي يأثرونها في إعجاز النبي (ص) هم يردونها ولا يقبلونها. فكيف الحيلة في إثبات نبوته عليهم، من حيث لا يستطيعون ردها!

المناظر من المسلمين إذا ناظرهم قال إن كان موسى الذي دل عليه نبينا (ص) ونطق به القرآن الذي هو كتابه؛ فقد لزمتكم نبوة صاحبنا كما لزمتنا نبوة صاحبكم، وإلا لم نعرف صاحبكم كما لا تعرفون صاحبنا. وعنده أنه دقق بالمناظرة وأحسن وجّود، ولم يعلم أنه قابل كفراً بكفر؛ فكان كما قال الله تعالى:(ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وإنما الطريق عليهم أن يسألوا عن برهان سبقهم وأحدهم وأضاع دينهم من حيث العقل فيوافقوا على كون اليهودية والنصرانية عندهم لفظاً بلا معنى وأن معاني ذلك محصورة في دين الإسلام الذي أتى به محمد (ص) فيتعين على من طلب النجاة منهم؛ فلم يمل ميل الهوى الإيمان به وقول آخر: معلوم أن النبي (ص) مبعوث إلى الكافة كما قال الله تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) وأن معجزة القرآن الذي هو كلام عربي يختص

ص: 20

بلسان العرب، فإنه يستحيل أن يكلف الرومي والهندي والتركي أن يقبلوا القرآن معجزاً ويؤمنوا به وبمن أتى به، فما حجة نبوة محمد (ص) على هذه الأمم كلها إلا أن يقام عليهم من صورهم وتراكيبهم حجج عقلية هي موجودة في معاني القرآن دون ظاهر لفظة عند الراسخين في العلم يقوم منها برهان نبوة النبي (ص) وإلا فلا برهان.

وقول آخر مختصر شاف: أن العقل صنع الله سبحانه في باطن الإنسان يرى به مبصرات الآخرة ككون العين صنعه في ظاهره يرى بها مبصرات الدنيا، وقد يشرك الحيوان الإنسان في العين، ولا يشركه في العقل؛ فما يقال فيمن أعمي عينه بيده فحجب عنها ضياء العالم ونوره؟ وهل يحكم على من فعل ذلك بعين يشركه الحيوان فيها إلا بضعف الرأي وسوء الاختيار؟ أفلا يحكم على من أعمى العين المطموح بها إلى دار القرار بالشقوة والخسار وحلول جهنم دار البوار نعوذ بالله من ذلك. وجملة ما يقال في قضية قولهم إن الشرع غير موضوع على العقل إن ولي أفاقه من قصر أن يكون بجناح البرهان فيها طائر فرأى أنه إن أثبت لكل شيء برهاناً ودليلاً، واقع خطباً طويلاً، وبدل تصحيح جسم رياسته تعليلاً فأبى أن يسلك في هذا القول مضيقاً، وآثر أن يقتصر على نفسه طريقاً، ونفى أن بين الشرع والعقل صحبة أو قربة وسن بقوله هذا سنة أبقت على دين الإسلام سبة. الخ)

هذا نص المجلس الثاني من المجالس المؤيدية بعد حذف الابتداء والانتهاء وهو يدل على مقدار حذق المؤيد وقوة حجته وتهكمه بخصوم مذهبه. ومن الطريف أني قرأت في الأسبوع الماضي مقالاً للأستاذ الجليل عزيز بك خانجي يتحدث فيه عما سمعه من المرحوم الشيخ محمد عبده في تفسير سورة (والتين والزيتون) وأضيف الآن أن المؤيد داعي الدعاة أشار إلى هذه السورة في ديوانه بقوله:

ففكروا في التين والزيتون

واستكشفوا عن سره المكنون

ولم أتى من ربنا به القسم

كما أتى بالنون أيضاً والقلم

أما في المجالس المؤيدية فقد أوَّل هذا القسم بنفس التفسير الذي سمعه الأستاذ خانجي من الشيخ محمد عبده. فقال المؤيد: (وقعت الكناية عن آدم بالتين وعن نوح بالزيتون لأن كل ثمرة يتقدمها ورق ونوار، والتين ينشق عنه أعواد الشجر وكل حي يسبقه حبل وولادة، وآدم استخلصه الله من أديم الأرض من غير حبل وولادة فمن أجل ذلك مثله بالتين،

ص: 21

وخلاصة الزيتون هي الزيت المأخوذ عنه كأنه الغرض من الزيتون وكمثل ذلك. فخلاصة نوح إبراهيم المستخلص من ذريته حتى كأن الغرض من نوح إبراهيم فهو مضمر في نفس القسم من الله سبحانه. أما معنى (طور سينين) فالرمز لموسى عليه السلام، وطور سينين هو موضوع مناجاته ومكان فضيلته، وفيه إضمار وهو المسيح (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت الدهن وصبغ للآكلين) فالمسيح هو الشجرة الخارجة من طور سيناء النابت من منبعة ملة موسى فشرفه الله ورفعه. وهذا البلد الأمين كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم، هناك قبلة الله الناسخة للقبل، بيتها أو بنيان بني على وجه الأرض، كما قال الله تعالى:(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) لآخر ساكن من أولي العزم من الرسل قال الله سبحانه وتعالى: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد)

فتوارد الخواطر بين المؤيد والإمام الشيخ محمد عبده في تفسير هذه السورة أوضح من أن يحتاج إلى شرح فإني أشك في أن الإمام الشيخ محمد عبده قد اطلع على تفسير المؤيد، فسايره في تفسيره الذي ورد في المجالس المؤيدية التي اعتبرها من الكنوز التي تركها علماء المذهب الفاطمي، والتي لا غنى عنها لمن يدرس تاريخ وعقائد الدولة الفاطمية.

(يتبع)

دكتور

محمد كامل حسين

بكلية الآداب بالقاهرة

ص: 22

‌حول بعث القديم

منزلة المنفلوطي بين كتابنا

للأستاذ محمد خليفة التونسي

أوردت في مقالي السابق (حول بعث القديم) خمس ملاحظات مما عن لي ملاحظته على مقال الدكتور محمد مندور (بعث القديم) وهأنذا أعود إلى مناقشة رأي الدكتور في المنفلوطي، وانقسام النثر إلى تيارين الآن، كما وعدت في آخر مقالي السابق، وكما أبيت على نفسي هناك أن أقف فيما لاحظت موقفاً سلبياً، فوقفت بعده موقفاً إيجابياً - سأقف هنا ليكون الرأي أوضح والكلام أتم، وسألزم نفسي الإيجاز هنا، كما ألزمتها إياه هناك لضيق المقام

رأي الدكتور أن القصة بمجرد ظهورها أخذت تغذي السجع بمادة الفكر، على نحو ما نجد في المويلحي (محمد)، ثم شاع الفكر بعدها، ومنها إلى المقالة (على نحو ما نجد عند السيد توفيق البكري الذي جمع في أسلوبه بين الصنعة اللفظية وجمال الصورة الخيالية وصدق الإحساس أو أصالة الرأي). ثم خطا النثر خطوة أخرى في القرن العشرين على يد المنفلوطي، فأصبح كالنثر الأوربي (تعبيراً مباشراً عن فكر غني أو إحساس صادق). ثم قال:(واليوم ننظر في نثرنا فنرى تيارين كبيرين ينطوي في أثناء أحدهما المويلحي والبكري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات، على اختلاف في الأمزجة وعمق التفكير أو الإحساس، ولكنهم يجتمعون معاً في خاصية واحدة، هي أنهم وإن يكونوا أبعد من أن يمثلوا في شيء اللفظية التي سادت في عصور مصر الإسلامية المتأخرة، إلا أنهم رغم ذلك يحرصون على تجويد العبارة تجويداً فنياً، ويخضعون الفكر أو الإحساس لطرق الأداء، حتى ليأخذك في أدبهم جمال الصياغة قبل أصالة الموضوع، أو تحس بأن تلك الأصالة قد اضطرتهم إليها أصول الأسلوب التي ينتهجونها. والتيار الثاني يبتدئ كما قلنا بالمنفلوطي، ذلك الرجل المرهف الإحساس العذب الأسلوب. ذلك الكاتب الذي غذى أجيال الشباب الناهضة أجمل الغذاء، وبلغ من التأثير في نفوسهم ما لم يكد يبلغه كاتب آخر)

ولا تعنيني هنا مناقشة رأي الدكتور في تقدم الجد الفكري في القصة على المقال، فقد خالفته في ذلك ونقضته في المقال السابق، بل يعنيني ما نقلته بعد ذلك، وغنما ذكرته

ص: 23

لأحفظ لآراء الدكتور اطرادها وتماسكها، ولأن ما لخصت أساس لما نقلت، ومن أجل هذه لجأت إلى نقل ما أريد مناقشته مع طوله دون التلخيص. وأسأل نفسي هنا سؤالاً يحدد الرأي الذي أريد مناقشته هنا، وسنرى أكان الدكتور موفقاً في الإجابة عنه أم لم يوفق

آلمنفلوطي ممن ينطوون في أثناء التيار الأول كالمويلحي والبكري والرافعي والزيات، أم ممن ينطوون في أثناء التيار الثاني كطه حسين الذي ضربه الدكتور مثلاً لرجال هذا التيار؟

يرى الدكتور أن المنفلوطي ممن ينطوون في أثناء التيار الثاني، بل يوغل فيرى أن التيار الثاني يبتدئ به، ونترك الآن أن هذا التيار ابتدأ به، وحسبنا أن نرى أكان أم لم يكن من رجاله؟

وقبل أن نناقش رأي الدكتور نلاحظ عليه أولاً أنه حدد الخاصية التي يجتمع فيها - كما عبر - رجال التيار الأول وسكت عن الخاصية التي يجتمع فيها رجال التيار الثاني، وقد تكرر هذا السكوت مرات منه حين لجأ إلى التقسيم

وما نظننا في حاجة إلى مقياس جديد غير مقياس الدكتور نطبقه لنرى أي تيار ينطوي فيه المنفلوطي، فعلينا أن نتمسك به وهو وحده كفيل ببيان الحق الذي ننشده، وكفيل ببيان أن الدكتور أخطأ في تطبيق مقياسه وناقض نفسه ولم يصل إلى الغاية التي كان يجب أن ينتهي إليها، فقد استقام على سنن واضح في أول أمره ثم حطم مقياسه فانتهى إلى نهاية لم يتخذ لها بدايتها، ولم تكن البداية التي سلكها لتصل به إليها

أما رجال التيار الأول - كما قال الدكتور - مثل (المويلحي والبكري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات على اختلاف في الأمزجة وعمق التفكير أو الإحساس، ولكنهم يجتمعون في خاصية واحدة، هي أنهم وإن يكونوا أبعد من أن يمثلوا في شيء اللفظية التي سادت في عصور مصر الإسلامية المتأخرة، إلا أنهم رغم ذلك يحرصون على تجويد العبارة تجويداً فنياً ويخضعون الفكر أو الإحساس لطرق الأداء حتى ليأخذك في أدبهم جمال الصياغة قبل أصالة الموضوع، أو تحس بأن تلك الأصالة قد اضطرتهم إليها أصول الأسلوب التي ينتهجونها)

والمقام لا يتسع لإيراد الشواهد من كلام المنفلوطي، وما نظننا بحاجة إلى الوقوف عند

ص: 24

شاهد خاص لنتبين أن هذه الخاصية تتحقق في كل ما كتب المنفلوطي كما تتحقق في المويلحي والبكري والرافعي والزيات من رجال التيار الأول، فأي كلام للمنفلوطي صالح لأن يكون شاهداً على قيام هذه الخاصية بأوضح سماتها، ومن أجل هذا ولضيق المقام تركت الاستشهاد، وأترك للدكتور أن يجيل بصره في أي صفحة مما كتب المنفلوطي - وإنه لكثير - سواء ما وضع وما ترجم وأنا واثق أنه سيجد هذه السمات التي رآها رجال التيار الأول القائمة في آثار المنفلوطي، بل سيجدها في آثاره أوضح مما هي في آثارهم، فما أكثر ما لجأ المنفلوطي في سبيل إخضاع الفكر أو الإحساس لطرق الأداء، وتجويد العبارة إلى إخراج الفكرة مضطربة، والإحساس شائهاً، وأظهر ما تظهر هذه السمات فيما ترجم المنفلوطي فإنه - لجهله الأصل يترجم عنه - لا يقف في تصرفه عند حد حتى ليضل من يقرأ جزءاً من ترجمته العربية حين يحاول أن يتعرف مقابله من الأصل الأجنبي، بل كان يلجأ أحياناً إلى القصة الأجنبية فيجعل مقدماتها أعجازها، ويشيع فيها الهدم علواً وسفلاً، ويقص بعض أطرافها ويزيد في بعضها الآخر، ولا يزال مكباً عليها مسخاً وتشويهاً حتى ليعجز متبعه عن السير معه وحتى ليكاد يخفي الأصل كله عنه لولا أن يهتدي إليه من طريق آخر كالأعلام مثلاً، وما علينا إلا أن نرجع إلى ترجمته لقصة غادة الكاميليا فقد غير حتى عنوانها ثم جعلها قصتين بعنوانين، كما يظهر ذلك من الرجوع إلى مجموعته (العبرات) وهذان العنوانان يظهران حتى في فهرس المجموعة، ولو وازناً بين ترجمة القصة في آخر مجموعته والأصل الفرنسي أو بينها وبين الترجمة العربية للدكتور أحمد زكي بك لرأينا مقدار ما جنى المنفلوطي بجهله الأصل وحريته التي لا تقف عند حد - على هذه القصة الفريدة الخالدة، ولقد كان مسخه يمتد إلى كل ما يترجم حتى العناوين، وما أظن الزيات فيما ترجم - مع حرصه أيضاً على تجويد العبارة - قد اجترح شيئاً من آثام المنفلوطي لأنه يعرف الأصل ولا يترك الاتصال به في أي موضع من المواضع، وإنما اخترت الزيات لأنه باعتراف الدكتور من رجال التيار الأول

ولم يكن المنفلوطي ليكتفي في الترجمة بما تضعه اللغة العربية بألفاظها وخصائصها من عراقيل في طريقه رغم أنفه، مع أن كثيراً من ذلك يستمد معناه من البيئة الصحراوية التي نشأت فيها العربية كما يستمده من الحوادث العربية المحضة، وإنه لعبء أي عبء يحس

ص: 25

به من شاء الترجمة الشفافة من أي لغة أجنبية إلى العربية، بل كان المنفلوطي يضيف إلى العراقيل السابقة عراقيله هو من التشبيهات والكنايات والمجازات والاستعارات العربية التي يستمدها من أساليب الأقدمين، وإنها لرواشم توارثها العرب لاحقاً عن سابق، وهي تمت إلى خصائص عربية بدوية وتصبغ الكلام بصبغة عربية بدوية لا تخطر إلا في بال من عاش في هذه البيئة التي نشأت فيها تلك اللغة وتلك الأساليب مما لا يتصوره ذهن غربي ولا يلوكه لسان غربي ولا يوجد في لغة غربية

أما ما كان يضعه المنفلوطي، فقد كان حرصه فيه على جودة التعبير كما يفهمها هو من حيث البلاغة العربية أكثر منه فيما يترجم؛ فقد كانت الترجمة تمده بالفكر والإحساس، فلا يبقى له إلا التعبير، أما ما وضع، فالفكر والإحساس فيه له وحده. وإنه لفكر ركيك وإحساس إما فاتر وإما حار، ولكن المبالغة فيه تبعث الإنسان على السخرية أكثر مما تبعثه على المشاركة فيه والعدوى به

يرى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني أن الترجمة خير محك للكلام الجميل، فالجميل في لغة جميل في غيرها، والرديء في لغة رديء في غيرها، ونحن مع ذلك نعتقد أن الكلام في نقله من لغة إلى أخرى يفقد كثيراً من جماله، ولكن الأفكار والأحاسيس يستطاع نقلها مع المحافظة على جمالها، وليس يضيع في النقل إلا جمال التعبير

فماذا على الدكتور لو أنه نقل جزءاً مما كتب المنفلوطي إلى لغة أجنبية يعرفها ثم نظر فيه بعد ذلك!

أنا واثق أن الدكتور لن يجد بين يديه شيئاً تافهاً أو لا شيء، لأن جودة التعبير هي أبرز فضائل المنفلوطي، وهي شيء يضيع أثناء النقل، فلا يبقى له إلا الفكرة أو الإحساس، وإنهما لشيئان تافهان - هذا إذا كانت هناك فكرة وكان إحساس

وقد لاحظنا أننا نتكلم عن أسلوب التفكير وأسلوب التعبير، فلنلاحظ أنه كلما كانت الفكرة أو الإحساس أو الصورة أدنى إلى السذاجة كان التعبير عنها أيسر، فإذا كان المنفلوطي أيسر فهماً من الرافعي والزيات وغيرهما؛ فمصدر ذلك أنه لا يتعمق في فكره كما يتعمقون، ولا يرهف إحساسه ويصدق كما يرهفون ويصدقون، ولا يجهد نفسه ليرتقي إلى آفاق الفكر العليا والمثل الإنسانية الرفيعة كما يجهدون ويرتقون

ص: 26

والصبي إذا استطاع أن يعبر الجدول قفزاً دون أن يصيبه البلل ليس له أن يفخر على الرجل إذ يعجز عن عبور النهر إلا سباحة فيقاسي ما يقاسي في عبوره من هول الأمواج والتيارات ووحوش الماء، ولا ينال ما يريد إلا بعد أن يأخذ منه النصب كل مأخذ ويلقى من المتاعب ما لا يخطر للصبي على بال، وما على الصبي إذا يشاء للفخر إلا أن يلقي بنفسه في النهر كالرجل وسيعرف أنه ليس الجدول كالنهر

من أجل هذا نرى أن المنفلوطي ليس من رجال التيار الثاني، فلا يجوز بحال أن نرى ما رأى الدكتور من أن التيار الثاني قد ابتدأ به، ومن أجل هذا كان المنفلوطي من رجال التيار الأول، بل إنه لآصل فيه من بعض من يظنهم الدكتور أصلاء فيه، وخاصة الرافعي وعلى وجه أخص الزيات؛ فإن الزيات أدنى منه إلى رجال التيار الثاني وأشبه بهم منه

ولطالما هجم الزيات على أعقد مما اضطرب فيه المنفلوطي من المشاكل الفكرية، ومع محافظته على اطراد آرائه واتزان خطاه وصفاء فكره وخصائص شخصيته - استطاع أن يحتفظ لتعبيره بطلاوته وأناقته وإشراقه على النحو الذي يفهمه من بلاغة أسلوب التعبير في اللغة العربية، كما أبان لنا عنه في مقالاته حين تعرض للدفاع عن البلاغة

وإنه ليبلغ من بلاغة التعبير ما يريد دون أن ينسى أو ينسيك المشكلة التي تعالجها، أو يخدعك بجمال الصياغة عن الموضوع الذي يحدثك به، وما هكذا المنفلوطي؛ فإنه ليبلغ منه الحرص على جودة التعبير أحياناً مبلغاً يخرجه حتى من رجال التيار الأول المحتفظين بجمال الصياغة، مع احتفاظهم بوضوح شخصيتهم وخصائص أمزجتهم والصدق في إحساسهم والجد في تفكيرهم - ويدنيه إلى الفئة الذين كل همهم أن يخدعوك عن ثقافتهم بحلية لفظية زائفة كرجال العصور الإسلامية المتأخرة أمثال الحريري وأبن زيدون والقاضي الفاضل والوطواط وابن نباتة والصفدي وابن حبيب الحلبي والجبرتي والشرقاوي وغيرهم ممن تخلو كتاباتهم الأدبية من كل فكر جاد وإحساس صادق. ونقول يدنيه منهم ولا نقول يضعه فيهم، لأن المنفلوطي - مهما يسف - لن ينحط حتى يكون مثلهم، ولن يتهافت حتى يبلغ مبلغهم من التفاهة والسخافة والفسولة، ولكنه كثيراً ما نزق مثل نزقهم، وإن كان أرفع منهم أفقاً وأقوم فكراً وأصدق حساً. فظهر كالمشعبذ مثلهم، ولو أن شعبذته من صنف أرقى وأدق وأعمق

ص: 27

المنفلوطي من رجال التيار الأول، وليس أفضل رجاله، وإن كان من أفضلهم، ونحن نظلمه حين نخرجه عن أشباهه إلى غير أشباهه؛ فلنضعه حيث وضعه الله ووضعته ملكاته ومؤهلاته وتربيته وثقافته، وبهذا نوفيه حقه ونعرف له فضله، وإنه لفضل عظيم. . .

ووداعاً يا سيدي الدكتور إلى أن نلتقي في مقال آخر نجيب به عن هذا السؤال: آلمنفلوطي - كما قلت أنت - الكاتب الذي غذى أجيال الشباب الناهضة أجمل الغذاء، وبلغ من التأثير في نفوسهم ما لم يكد يبلغه كاتب آخر؟

وإليك مني خالص تحياتي وتجلاتي

(سمالوط)

محمد خليفة التونسي

ص: 28

‌3 - فساد الطريق

في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

سوء فهم

من عجيب عيوب الكتاب سوء فهم صاحبه لنصوص تعرض لها؛ فإن أقل ما ينتظر من أديب متخصص إلا يخطئ معنى نص إن عرض له في بحث؛ فإذا هو أخطأ كما أخطأ صاحب الكتاب كان ذلك دليل نقص في الفهم أو الفكر أو نقص في الإخلاص للحق الذي زعم أنه يبحث عنه. ونحن موردون لهذه الظاهرة في الكتاب أمثلة شتى تختلف في أهميتها وتتفق في دلالتها

وأول ما نذكر من ذلك موقفه من الآية الكريمة: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لأرتاب المبطلون)؛ فقد احتج بها لنفسه على المسيو مرسيه، كما سبق أن أشرنا في بعض ما سبق من الكلمات. المسيو مرسيه ينكر إنكاراً مطلقاً أن يكون في العصر الجاهلي نثر فني أو مؤلفات نثرية، وصاحب الكتاب يزعم أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية. وحجة المسيو مرسيه أنه لو كانت هناك مؤلفات نثرية لدونت وحفظت ونقلت إلينا كلها أو بعضها، كما هو الشأن في آثار الهند والفرس والروم. وحجة زكي مبارك أن فقدان تلك الآثار لا يكفي لإنكار أنها كانت موجودة، وأن القرآن يشير إلى أنه كانت هناك كتب دينية وأدبية لم يطلع عليها النبي، فيتهم بتلفيق القرآن مما قرأ فيها (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لارتاب المبطلون) كما يستشهد صاحب الكتاب

والآية الكريمة لا تدل على شيء مما ذهب إليه زكي مبارك لأن الحجة فيها تصدق بأمية الرسول صلوات الله عليه مع عدم وجود الكتب، كما تصدق بأمية الرسول مع وجود بعض الكتب. ووجود بعض الكتب يصدق بوجود التوراة التي كان معروفاً أنها موجودة، وحاكم الرسول أهل الكتاب إليها في أكثر من حادثة. فاستشهاد صاحب النثر الفني بالآية على وجود كتب دينية وأدبية لعرب الجاهلية تعسف وتصيد للدليل. فهو قد جرى مع الهوى إن كان قد فهم الآية، وهو لم يفهم الآية إن كان لم يجر مع الهوى. وقد كان واجباً عليه إن كان

ص: 29

يبحث للحق لا الهوى أن يقارن هذه الآية بأمثالها من القرآن ليفسر بعضها ببعض، ولينظر هل تنصره الآيات الأخرى فيما ذهب إليه؛ ولو فعل لواجهته آيات عدة كلها تشهد ضده: مثل قوله تعالى (أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون)

وقوله تعالى: (ايتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين)

وقوله تعالى: (أم لكم سلطان مبين. فائتوا بكتابكم إن كنتم صادقين)

وقوله تعالى: (أم لكم كتاب فيه تدرسون)

وقوله تعالى: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير)

فهذه كلها آيات تدل على عكس ما فهم زكي مبارك من الآية التي استشهد بها من سورة العنكبوت وأخطأ فذكر أنها من سورة القصص؛ والآيات التي أوردناها تتدرج في تعميم النفي، نفي ما ذهب إليه زكي مبارك حتى لا تدع الآيتان الأخيرتان منها عند المسترشد بالقرآن شكا في أن الجاهليين لم يكن لديهم كتب تدرس في الدين أو في الأدب. وهذا يتفق مع وصف الله إياهم بالأميين في قوله سبحانه من سورة الجمعة:(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته وزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)؛ كما يتفق مع الحديث الصحيح: نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا. فهذه كلها نصوص تشهد على صاحب النثر الفني أنه لم يفهم آية سورة العنكبوت، وتتركه كالسفينة على اليبس ليس له إلى ما يريد من سبيل

هذا مثل من سوء فهم صاحب الكتاب وفساد طريقته، أو من عجزه حين يتطلب منه البحث شيئاً من التحقيق. ومثل آخر هو أعجب من هذا وأقبح، موقفه من آية أخرى، آية سورة هود. فإنه بعد أن أبدأ وأعاد في أن القرآن من جنس كلام العرب وجوهره ومعدنه، لا يمتاز - زعم - بالأسلوب ولكن بقوة المعنى وقوة الروح، أراد أن يفسر لماذا لم يأتوا بشيء من مثله فقال:

(القرآن نفسه فصَل في هذه المسالة حين قال (فائتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). فلتتأمل جيداً عبارة (إن كنتم صادقين) ففيها الجواب كل الجواب. وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعاً أنبياء حتى يصلوا إلى ما وصل إليه مواطنهم وزعيمهم وسيدهم محمد بن عبد الله الذي صدقت كلمتهم فيه قبل

ص: 30

نبوته حيث لقبوه بالصادق الأمين؟)

وهذا الكلام من صاحب الكتاب فيه أكثر من عجيبة واحدة فإن قوله: (زعيمهم وسيدهم الخ) خلط بين حال النبي بعد فتح مكة وحاله قبل فتحها، قبل الهجرة؛ فإن الآية التي ذكر من سورة هود، وسورة هود مكية أي نزلت قبل الهجرة. ولم يكن عدد المسلمين قبل الهجرة يزيد على بضع مئات إن كان بلغها، فلم يكن للنبي صلى الله عليه زعامة على أهل مكة بله العرب إذ ذاك ولا سيادة. فصاحب الكتاب إما أن يكون على جهل بالآية متى نزلت، وإما أن يكون أراد اتقاء التهمة عند الناس

وفي قوله: (وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعاً أنبياء حتى يصلوا إلى ما وصل إليه مواطنهم الخ) عجيبة أخرى، لأن فيه إشارة خفية أو ظاهرة إلى أن محمداً وصل إلى القرآن من نفسه بصدقه الذي عرفوه فيه قبل نبوته، ولما لم يكونوا مثله في الصدق لم يستطيعوا أن يأتوا بقرآن كقرآنه، ولو كانوا مثله في الصدق لاستطاعوا. وإذا كان العرب جميعاً لم يكونوا على مثل صدق محمد قبل نبوته، فليس من الممتنع عقلاً أن يكون بعضهم كان على مثل صدقه ذلك. فكلام صاحب الكتاب هذا يترك الباب مفتوحاً لإمكان إتيان بعض العرب بمثل القرآن، من غير أن يفسر لماذا لم يأت ذلك البعض بمثله

ولا يتبين ما وراء هذا الكلام لصاحب الكتاب إلا إذا قورن بقوله من مناظرة له في كلية الآداب: (فيكم من قرأ القرآن وفيكم من قرأ التوراة وفيكم من قرأ الإنجيل. . . وهل فيكم من ينكر أن من أعظم الجوانب في تلك الكتب هي الجوانب الخاصة بالتشريع؟ ولمن توضع قواعد التشريع إذا اطمأن الأنبياء إلى أن المجتمع في أمان من شر الفساد والانحلال) وفي قوله: (إذا اطمأن الأنبياء) الدليل كل الدليل إلى رأي صاحب الكتاب في قواعد التشريع في القرآن والتوراة والإنجيل هل هي من وضع الأنبياء أو من عند الله. ومن هنا يتبين ماذا أراد بقوله: (وهل كان في مقدور العرب أن يكونوا جميعاً أنبياء) إلى آخر ما قال تفسيراً لعدم استطاعتهم الإتيان بمثل القرآن

على أن همنا الآن ليس هو العودة إلى تبيان رأي صاحب الكتاب في القرآن لمن هو؛ فهذا إنما جاء عرضاً، ولولا ما جاء متعلقاً به في الشاهد الذي أوردناه من كلام صاحب الكتاب ما عرجنا عليه. إنما همنا أن ندل على عجيب سوء فهم صاحب الكتاب للآية التي أورد

ص: 31

بعضها من سورة هود. وسوء فهمه يتجلى في حَمله (إن كنتم صادقين) في الآية الكريمة على الصدق الخلقي لا على الصدق الإخباري في قول خاص قد قالوه، كما يتجلى في زعمه أن في هذه الكلمات الثلاث، بهذا المعنى وعلى هذا الوجه، الجواب كل الجواب على سؤال السائل: لماذا لم يأت العرب بمثل القرآن وهو من جنس كلامهم، لا يمتاز عنه بأسلوب، ولكن بقوة المعنى والروح. ونعفي الامتياز في الأسلوب يستلزم طبعاً نفي الامتياز بقوة الروح، كما أن إثبات قوة الروح يستلزم إثبات قوة الأسلوب لو كان صاحب الكتاب يعرف مظهر قوة الروح في الكلام. لكنه مشغول عن كل هذا بظنه أن المسألة مسألة صدق معنوي روحي فحسب، فلو صدق العرب مثل صدق محمد لجاءوا بمثل القرآن. وهذا طبعاً يترك الباب مفتوحاً للإنسانية في مستقبل الزمن وحاضره أن تأتي بمثل القرآن إذا وجد فيها من يبلغ من الصدق المبلغ المطلوب!

ولسنا ندري كيف خفي على الرجل أن الصدق على هذا الوجه يفسد النص الذي ذكره من الآية الكريمة، ويدخل عليه من الخلل والتناقض ما لا يخطر ببال، إذ يصير معنى ما اقتضب من الآية هو: فائتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كان خلقكم الصدق في القول والعمل! وواضح أن فعل الشرط هو مدار التعجيز لعدم توفره فيهم، ولو توفر لاستطاعوا أن يأتوا بما طلب منهم أن يأتوا به. فيكون المعنى على فهم صاحب الكتاب أنهم لو كانوا على خلق من الصدق، وطبع من محبة الحق والبصر به، لاستطاعوا أن يفتروا عشر سور من مثل القرآن! وما دام الصدق المشروط قد توفر في محمد إلى حد لم يتوفر فيهم، فمحمد استطاع أن يفتري كل القرآن على فهم صاحب الكتاب. ونعوذ بالله من الخذلان!

طبعاً لم يفصل القرآن في الموضوع هذا الفصل المطابق لفهم زكي مبارك أو الموافق لوحي شيطانه. وإن فهماً يخرج المحكم من القول عن إحكامه هذا الإخراج لهو فهم مختل بالغ الاختلال. وإذا قرأت الآية تامة، لا كما ابتسرها لك زكي مبارك لغرض في نفسه وجدت المعنى نيراً واضحاً لا عوج فيه، والحجة مستقيمة ملزمة لا خلل فيها

إن الآية هي: (أم يقولون افتراه، قل فائتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين). والتلميذ المبتدئ إذا قرأ الآية تامة هكذا يدرك حالاً أن (إن

ص: 32

كنتم صادقين) معناها إن كنتم صادقين في قولكم إن محمداً افتراه، لا كما زعم هذا الباحث المتخصص من أن معناها إن كنتم مثل محمد مطبوعين على الصدق مفطورين على محبة الحق

والفرق بين المعنيين هو الفرق بين الحق والباطل، وبين النور والظلمات. ألا ترى أن ظاهر الآية الذي لا يمكن أن يخفى حتى على المبتدئين هو أن صدقهم في دعواهم يستلزم قدرتهم على الإتيان بمثل القرآن، فإذا لم يقدروا فهم كاذبون في رميهم النبي بافتراء القرآن على الله؛ في حين أن ما فهمه زكي مبارك الأديب البحاثة مؤداه أن تخلقهم بالصدق يستلزم مقدرتهم على الإتيان بمثل القرآن، فإذا لم يقدروا فهم مفطورون على الكذب. كأن خلق الكذب والعجز عن افتراء القرآن متلازمان، كما أن خلق الصدق والقدرة على افترائه متلازمان كذلك! وقد شهد صاحب الكتاب للنبي بالصدق فطرة وسجية، فقد شهد له إذن بالقدرة على مثل القرآن، أو بالأحرى شهد عليه - حاشاه صلى الله عليه - أنه افترى القرآن على الله كما هو لازم منطق الآية في فهم صاحب الكتاب!

لقد جئنا بالآية مثلاً على النقص البالغ في مقدرة صاحب الكتاب على الفهم، فإذا بالتحليل المنطقي لفهم صاحب الكتاب للآية يؤدي إلى أن صدق محمد يقتضي في رأي صاحب الكتاب أن يكون القرآن لمحمد افتراه على الله. وخسئ صاحب الكتاب وخسر أي الوجهين فضل أو أي النتيجتين اختار

هذا عجب من سوء فهم صاحب الكتاب لآيتين من كلام الله، وسترى عجباً من سوء فهمه لبعض كلام الناس

محمد أحمد الغمراوي

ص: 33

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ بشر فارس

قدمت لك رسالتي في (الإسلام والفنون الجميلة)، وكان جميلاً منك أن عرفت بها قراء المقتطف، ولكن الذي تولى عنك التعريف - في عدد يونيو سنة 944 ص83 - لم يلتزم جانب الصدق في مهمته، بل راح يتهمني في جرأة غريبة بخيانة الأمانة العلمية، فكتبت إليك لترد الحق إلى نصابه وطلبت إليك أن تنشر ردي، كما نشرت من قبل كلمته كما يقضي بذلك العدل والمنطق السليم، ولكنك لم تفعل، فلا نشرت خطابي كما هو، ولا كنت أميناً في تلخيصه كما ينبغي، بل اخترت - أو اختار صاحب الإشارة - منه فقرات لا تصور رأيي على حقيقته، واستباح لنفسه أن يرد على ذلك الذي اختاره من خطابي، واستبحت لنفسك أن تنشر رده لتوهم القراء أنه رأيي وما هو من رأيي في شيء. وبعد، فقد تفضلت مجلة الرسالة - منبر الحق - فأفسحت لي من صدرها مكاناً أنشر فيه خطابي ' إليك الذي أبيت نشره ثم أعقب على الرد الذي ظهر في عدد يوليو سنة 944 من مجلة المقتطف

أما خطابي فنصه:

القاهرة في 21 يونيو سنة 1944

سيدي المحترم الأستاذ بشر فارس

قرأت اليوم في مجلة المقتطف كلمة عن كتيبي (الإسلام والفنون الجميلة) وإنني لأشكر لك عنايتك بتلك الرسالة الصغيرة، ولشد ما كنت أحب أن أقف عند حد هذا الشكر لا أتعداه، لولا أنك يا سيدي لم تكن موفقاً في اختيار الناقد الذي عهدت إليه بنقد تلك الرسالة وتعريف القراء بها، وأغلب الظن أن ناقدك المحترم ليس من الاختصاصيين في موضوع الرسالة بدليل أنه لم يستطع صبراً على قراءتها على صغر حجمها، ولم ينفذ إلى ما تضمنته من آراء حتى يناقشها ليهدمها أو يعدلها أو يؤيدها أو يأتي في الموضوع بجديد، لا سيما والبحث حديث لم يتجاوز الذين كتبوا فيه عدد أصابع اليد الواحد، كما ذكرت في المقدمة

وناقدك المحترم، يا سيدي، كذلك ليس من أهل النظر وأعداء الهوى كما تريد له أن يكون، فلقد أثبت بما كتبه أنه وقف عند الصفحة الثالثة من الرسالة التي تتضمن ثبتاً بالمحتويات

ص: 34

ولم يتجاوزها إلا إلى الصور ليلقي عليها نظرة عابرة، وليته قرأ هذه الصفحة الواحدة بإمعان، بل تسرع فأخطأ في نقل بعض ما بها. إذ ذكر في نقده (النقابات المساعدة) وحقيقتها (النقابات الإسلامية)، وهو بعد هذا لم يفطن إلى الصفحات الثمانية التي لخصت فيها البحث باللغة الإنجليزية، فلم يشر إليها ولم تدخل في حسابه الذي توج به نقده إذ ذكر أن صفحات الرسالة 32 (كما هو وارد في الصفحة الثالثة) بينما هي في الحقيقة 40 صفحة، وأما الصور، فإن نظرته السريعة إليها قد دفعته إلى الظن بأنني اكتفيت بتلك الكلمة التي قصدت بها إيضاح الفكرة، فحسب، وجعلته يسارع في اتهامي بما أحرص عليه أشد الحرص، ولو كان حضرته حريصاً على الأمانة العلمية حرصي عليها لقرأ الرسالة كما يقرأ القاضي النزيه أوراق القضية قبل الحكم فيها، وعندئذ يجد أنني ذكرت في الصفحة السابعة والعشرين أسماء الكتب التي نقلت عنها الصور وأسماء مؤلفيها. بقيت مسألة أسف حضرة الناقد، لأنني نقلت إحدى عشرة صورة بحجمها من كتب نشرت قبل الآن، ثم أمنيته في أن أعنى بنشر صور جديدة، وفي الحق إنني لآسف له، راثٍ لحاله إذ كشف عن سطحيته إن صح هذا التعبير، لأنه لو كان قرأ البحث وأدركه حق الإدراك لوجد أنه يدور حول موقف الإسلام من الفنون الجميلة، وبيان هذا الموقف لا يتطلب أكثر من توضيح الفكرة بأي وسيلة إيضاح ميسورة، فمن الإسراف حقاً ألا يستفيد الإنسان من (كليشيهات) أنفقت الدولة على صنع معظمها، طالما أن ذلك لا يؤثر في جوهر الموضوع ويكشف عن الفكرة بجلاء. ولو كان البحث في الفنون الجميلة نفسها لكان الناقد على حق في مطالبته بصور جديدة، لأن المقصود عندئذ يكون ببيان الفن وتنوعه لا بيان الفكرة الكامنة وراءه

وبعد فإنني أعتقد أن من حقي عليك - يا سيدي الأستاذ - ومن حق المكانة العلمية السامية التي تتمتع بها مجلة المقتطف، بل ومن حق الأمانة العلمية التي تشدق بها حضرة ناقدك المحترم ونسيها في تقده أن تنشر هذه الكلمة في نفس الموضوع الذي نشرت فيه نقده في أول عدد يصدر من المجلة لترد الحق إلى نصابه. ولك مني بعد ذلك أطيب التحيات وخالص الاحترام

محمد عبد العزيز مرزوق

ص: 35

وأما تعقيبي على الرد الذي نشر في عدد شهر يوليو سنة 944 ص190 من المقتطف فهو أنني ما زلت أعتقد من (صاحب الإشارة) ليس من الاختصاصيين في موضوع الرسالة، ولا يستطيع أن يستر دعواه بقوله إنه (لم ير مجالاً لمناقشة الآراء وإنها على حسن عرضها ليست على خطر ولا جدة). ولو كان حقاً من رجال هذا الموضوع لناقش ولو رأياً واحداً من الآراء الكثيرة التي تضمنتها. على أنني لا أعيب عليه هذا قط ولا أطالبه بأن يكون من الاختصاصيين، وإنما أطالبه بأن يكون أميناً في التعريف بما يتصدى له من كتب وأبحاث، مخلصاً فيما يتولاه من هذا العمل، مدققاً فيما يصدر عنه من أحكام، لا سيما إذا كانت تمس الآخرين. وأما قصة (الكليشيهات) فأظنه قد عز عليه أن يعود، إلى الحق مع أن الرجوع إليه - كما يعلم - من أعظم الفضائل. فعندما وضعت إصبعه على المكان الذي يرى فيه جلياً أنني شديد الحرص على المادة العلمية راح يستر تراجعه بقوله:(بل أريد المصدر تحت الصورة)، ومع أنني فعلت هذا فعلاً عندما نشرت البحث في مجلة الرسالة (راجع العداد 534، 539، 541) إلا أنني لم أشأ أن اشوه جمال الصور في كتابي بذكر مراجعها ووصفها على نفس الورق المصقول تحت الصورة بل آثرت تحقيقاً للذوق الجميل أن أجعل وصف اللوحات ومراجعها في مكان واضح في الكتاب لا يخطئه إلا مهمل أو مغرض، وكلاهما لا يقام لحكمه وزن.

محمد عبد العزيز مرزوق

الأمين المساعد بدار الآثار العربية

ويل للفلسفة من الناس!

يظهر أن القدماء كانوا على حق حين قال قائلهم: (لا تذيعوا الحكمة بين غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم). وقد كنت إلى حين قريب أجهل قيمة الشطر الأول من هذه الحكمة، حتى ورد إليّ خطاب غريب من أديب لا أعرفه، يتهمني فيه بالكفر والإلحاد (بطبيعة الحال)، ويسفه فيه بعض آرائي (الفاسدة المضلة)! وإنما أعترف لهذا الأديب الفاضل بأني قد أخطأت وأسأت، ولكنني أرجوه أن يعرف أن الكلمة من صاحبها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها. فإذا كانت كلمتي الأخيرة تنطوي على شيء من

ص: 36

هذا الذي توهمه أديبنا الفاضل، فلعله مما يشفع لي أن أكون قد أسأت التعبير، أو أن يكون هو قد أساء الفهم! وليطمئن صاحبنا الهمام، فإنه لن تكون لنا رجعة إلى هذا الموضوع بعد اليوم. . .

زكريا إبراهيم

حاشية: كنت قد وعدت الأستاذ الفاضل دريني خشبة بأن

أعرض لنقد ابن تيمية، وأعقب على اعتراضاته في كلمة

أنشرها بالرسالة، ولكن يظهر أن المجال لا يتسع لذلك، فضلا

عن أن الوقت لم يحن بعد للكلام في مثل هذه المسائل عندنا،

فأرجو المعذرة؛ وعسى أن أرسل البحث بأكمله للأستاذ

الفاضل حتى يطلع عليه. . .

(ز. إ.)

إلى الدكتور محمد مندور

ذكرتُ في مقالي (حول بعث القديم) في عدد الرسالة 577 خمس ملاحظات لاحظتها على مقالك (بعث القديم)، ولما تناولت عدد الرسالة الأخير وجدتك قد نشرت رداً لم أفد منه إلا أنك أحياناً تتخلى عما يليق بالعلماء إلى ما لا يليق. فقد بدأت ردك بأنك تظن أني طالب ثم جزمت بأني طالب. ولست أدري أولاً ماذا يعنيك إن كنت طالباً أم لم أكن، ولست أدري ثانياً ماذا حملك على الاتجاه إلى شخصي ولم أتقدم إليك إلا برأيي

لقد واجهتُك بخمس ملاحظات فانظر كيف أجبتَ عنها لقد تركتَ الرد على ثلاث ملاحظات لاحظتها عليك لم تتعرض لها لتوقع في وهم القراء أنك أفحمتني بما أجبت عنه وذلك ما لا أرضاه لك، فلتجب عنها إن كنت تستطيع.

وقد تعرضت لملاحظتين: إحداهما تاريخ الطباعة في مصر في عهد محمد علي، وقد لجأت

ص: 37

في تعرضك لها إلى المراوغة والطعن، ثم قلت إن الكتب التي بين يدي كاذبة، ولن تأت ببرهان كعادتك

والملاحظة الثانية قد رجعت فيها إلى رأيي، وهو أن جمعية المعارف ومطبعتها اللتين أسسهما المويلحي ترجعان إلى سنة 1867، لا كما قلت أنت بأسلوب المراوغ المكابر إنها لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860، وقد اعتمدتُ أنا على ما ورد بنصه في كتاب (الإسلام والتجديد) للدكتور تشارلز آدمس، وقد أشرتُ إليه في هامش ردي، ومع ذلك تزعم أن هذا المصدر مدرسي. ففي أي مدرسة في مصر يدرس هذا الكتاب؟ وإن جورجي زيدان الذي استشهد برأيه يؤيدني ولا يؤيدك

ثم زعمت كذباً عليّ أني أوافقك في أن رفاعة الطهطاوي بعث القديم بحكم ثقافته المستنيرة وأنا لم أقل ذلك، ولكنني قلت اعتماداً على أستاذك وأستاذي أحمد أمين بك وهو يترجمه إن رفاعة كان مقلداً المستشرقين ده ساس وكوزن في بعث القديم، ولقد نسيت أو تناسيت المصادر، وما كان لك أن تنسى المصادر ولا أن تتناساها، وذكرت أسماء بروكلمان وشيخو وزيدان والرافعي، ولم تذكرت ما يؤيدك. فهل تريد أن تقول إنك قرأت ما قالوا في ذلك وكفى. إن يكن ذلك فما تعرضنا لك فيه.

(سمالوط)

محمد خليفة التونسي

ص: 38