المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 581 - بتاريخ: 21 - 08 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٨١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 581

- بتاريخ: 21 - 08 - 1944

ص: -1

‌من قراءتهم تعرفونهم

للأستاذ عباس محمود العقاد

بين المطالعة والتدخين مشابهة قريبة في خصلة واحدة، وهي أن المدخن الأصيل في ذوق التدخين يستطيب صنفاً واحداً من التبغ لا يساوي به صنفاً آخر. بل قد يتساوى لديه الإقلاع عن التدخين بتة وتدخين صنف آخر غير الذي تعوده واستراح إليه

وكذلك القارئ المطبوع، يتوشج مزاجه على صنف واحد من القراءة يوائمه ويتصل النسب بينه وبين عقله وخلقه وهواه. فإذا عرفت الكتاب ومؤلفه عرفت القارئ ومزاجه، أو عرفت على الأقل أن إقباله على طراز آخر من المؤلفين بعيد، وأن اعتكافه على نمط آخر من التأليف عجيب

وكل قارئ بينه وبين مؤلفه وكتابه نسب في الذهن وصلة في الموضوع؛ فهو القارئ الذي يقرأ بقلبه ويعيش في صفحات كتابه، وليس بالقارئ الذي يعبر الصفحات والساعات للتسلية وتزجية الفراغ، ثم ينسى ما كان فيه وينتقل منه إلى نمط آخر من التواليف بينه وبين النمط الأول مسافة شاسعة في عالم الفهم أو الشعور

ويصدق هذا المعنى على قراء الشعر والقصة وما إليها من مبدعات الحس والخيال، ولكنه أقل من ذلك صدقاً على سائر الموضوعات

ذكرت هذه الحقيقة حين قرأت في أنباء الغزو في نورمندية أن القائد المعروف في مصر (برنارد مونتغمري) يقضي أوقات فراغه بالميدان في قراءة روايات القصصي الإنجليزي المشهور أنتوني ترولوب

قال المراسل الذي وصف الغزو: (وكان كل يوم ينقضي يزيد التوتر في ديوان القيادة العليا لقوات الحملة المتحالفة. ولكن الجو كان جو سكينة في المقر الشخصي للقواد، وترك مونتي لمرءوسيه الأعمال التفصيلية التي يمقتها، وعكف على مؤلفات أنتوني ترولوب وهو آثر كاتب عنده)

ورسالة كبيرة في ترجمة القائد العبقري لا تنم على أخلاقه ومزاجه وميول نفسه. كما تنم عليه هذه الأسطر القليلة، أو هذه الحقيقة العابرة، وهي ولعه بترولوب وتفضيله إياه على أبناء جيله، ومن خلفهم من القصاص وكتاب الروايات

ص: 1

فأنتوني ترولوب قبل كل شيء كاتب القرية (البسيطة)، ولا سيما قرى الريف الأيرلندي حيث قضى (مونتي) أوائل صباه. وهو كذلك كاتب المعيشة الدينية الصادقة، فقلنا تخلو له قصة من ظل الكنيسة ومعيشة الورعين الأتقياء من رجالها واللائذين بجوارها. ويغلب على قصصه كلها جو السلامة الفطرية مع شيء من البداهة ومسحة من الشظف والخشونة. وإذا مس الناحية السياسية فهو يمسها من جانب التعميم، لا من جانب التحيز البغيض والعصبية الممقوتة

ومن خصائصه التي يمتاز بها بين معاصريه حاسة الواجب أو الضمير الصراح، وتشمل هذه الحاسة نساء رواياته، كما تشمل الرجال البارزين فيها. فيوشك أن ينعقد كل زواج في رواياته على الشعور بالواجب والوفاء دون المتعة والهوى، وتقضي المرأة بقية العمر شقية بهذا الواجب في مصارعة الغواية أو دفع الفكر والمصلحة

وتقترن (حاسة الواجب) بالصرامة التي تلازمها في أصحاب هذه الحاسة اليقظى، وإن كانت صرامة يمازجها الذكاء والتصرف والطبع المستجيب

أما أسلوبه في شرح وقائعه ووصف مناظره فهو أسلوب التفصيل الدقيق مع التشويق والإحاطة، وفيه ملكة يصح أن نسميها بالملكة (الطبوغرافية) إذا أردنا أن نقرن بينها وبين الملكة العسكرية

ويشع في رواياته جميعاً بريق من التهكم الطيب الرفيق الذي لا وخز فيه ولا ضغينة، وكثيراً ما يرسل هذا التهكم الخفي على خلائق من صنيع خياله الصادق وديدنهم الجد وصعوبة المراس والغلظة الريفية، ولكنه إذا تخيلهم فإنما يتخيل في وصفهم ذلك التخيل (المضبوط) الذي لا يخرج بهم عن الواقع المحسوس

تلك جملة الحقائق التي عرف بها الكاتب الدؤوب الموهوب؛ وحسبك من صفاته الخلقية - إلى جانب صفاته الأدبية - أنه كان يدأب على التأليف وهو مقيد بأعمال وظيفية في مصلحة البريد، فلا يقصر في التأليف ولا يقصر في تلك الأعمال

وكلا الكاتب والقارئ إذن عنوان صاحبه في جملة هذه الخلائق والطباع. فترولوب هو الكاتب (المنتقى) لمونتغمري، ومونتغمري هو القارئ المنتقى لترولوب

فالقائد الموهوب الدؤوب قد نشأ في بيئة دينية مشهورة بالتقوى والبساطة، وصحب الجنود

ص: 2

والضباط فلم تغيره صحبتهم عن هذه الخليقة الموروثة معاً في أبيه وأمه. فجاوز الخمسين وهو لا يدخن ولا يقرب الخمر ولا يحيد عن سنن الدين. وأخذ مرؤوسيه باجتناب الخمر والتدخين من طريق غير طريق الأمر والنهي اللذين لا يفيدان، فكان يكلف جميع رجاله وضباطه بالعدو في كل أسبوع شوطاً يبلغ سبعة أميال. ولا صبر للمدخن ولا لمعاقر الخمر على هذا الشوط ولو مرة في كل أسبوع

وصرامته في خلقه وحاسة الواجب عنده خصلتان من أشهر خصاله بين رؤسائه ومرءوسيه، فهو إذا جد لا يهزل وإذا عزم لا ينثني. ومن أقواله لجنوده في دنكرك:(إذا نفذت ذخيرتكم فمزقوا العود إرباً إرباً بأيديكم) ولم يكن يعني غير ما يقول

ومن مزايا مونتغمري في قيادته أنه عظيم العناية بالأرض ومواقعها قبل تطبيق خطط القتال عليها. ولعله لم ينس هذه العناية العظيمة في إعجابه بكتابة ترولوب. فإن وصف ترولوب لمواقع أرضه ووصفه لخلائق رجاله ونسائه كلاهما وفاق الرغبة من سليقة هذا الجندي الموهوب

ٍفإذا قال القائلون: من كلامهم تعرفونهم، فهم حريون أن يقولوا مثل هذا القول عن القراء وعن الصلة الخلقية بين المؤلفين والقراء المطبوعين. وكان إنسان يعرف الجسد خلقاً وعادة فهو قارئ مطبوع يقرأ بفؤاده وعقله ومزاجه، لأنه يأنف أن يضيع الوقت في تسلية خاوية لا تنفذ منه إلى مكامن الفهم والشعور

ولهذا ينبغي فيما نرى أن تكون مطالعات العظماء باباً من الأبواب الأولى التي لا يغفلها المترجم ودارس الأخلاق، لأنهم سواء قرءوا للجد أو للتسلية ينكشفون للمترجم ودارس الخلاق فيما يقرءون

وهناك حقائق شتى تنكشف من مطالعات العظماء، ولا سيما في ميادين الحرب إبان القتال

فأول ما يخطر على البال حين يقال إن قائداً من قادة الحرب يقرأ في ميدان القتال أنه يقرأ في كتب التعبئة أو الفنون العسكرية أو سير القواد وأخبار الوقائع والغزوات

ويجوز أن يحدث هذا في الحين بعد الحين، ولكنه إذا حدث فهو الاستثناء النادر، وليس بالقاعدة العامة في أكثر الأحيان

لأن القائد لا يتعلم خططه ساعة القتال، ولا يتمم دروسه وهو بين السيوف والنيران، ولكنه

ص: 3

يقرأ ما يقرأ في ساحة الحرب كلم فرغ من واجبه وخلا بنفسه وأحب الخروج هنيهة مما هو محيط به ومطبق عليه، وهو في هذه الحالة يختار للقراءة غير ما هو مشغول به مستغرق فيه، ليظفر بما يبتغيه من الترفيه والترويح، ويحتسب القراءة من الرياضات النافعة التي تنسيه جهود العمل ومضنياته إلى حين

ومن قواد هذه الحرب الذين عرفوا بالقراءة في ساحات القتال أو في طريقهم إلى الغزو كل من القائدين ويفل وإيزنهور فكان ويفل يقرأ في طريقه إلى الحبشة مسرحية من مسرحيات شيكسبير، وكان يقضي أوقات فراغه بمطالعة الدواوين الشعرية لمختلف الشعراء، ومن جملة هذه المطالعات جمع تلك النخبة الطريفة من الأشعار التي سماها:(أزهار أناس آخرين) وكتبنا عنها في الرسالة منذ أسابيع

أما إيزنهور فقراءته المحببة إليه روايات التحليل النفسي وحوادث المفاجآت التي تجري في حياة الغرب من القارة الأمريكية، وكلاهما مما يقع في الخاطر أنه محبب إليه وأثير لديه

وخليق بهذه الملاحظات أن تحضر أبداً في إخلاد أولئك الدعاة المتحذلقين الذين يصطنعون الغيرة على الطبقات الفقيرة أو الطبقات العاملة وهم من أجهل الناس بما يصلح لتلك الطبقات

فمن حذلقتهم في هذه الدعوة - أو هذه الدعوى - أنهم يفرضون على الفقير أين يعيش في عالم الخبز والضرورة ساعة العمل وساعة المطالعة وساعة الرياضة النفسية، إن اعترفوا بشيء يسمى الرياضة النفسية

وذلك محض خطأ وضلال عجيب؛ لأن المرء إنما يقرأ للثقافة أو للرياضة والتسرية عن البال، وليس من والتثقيف أن يتحول الكاتب إلى رغيف، وليس من الرياضة أن يحلم المرء بالجهود والضرورات، وهو لا ينشد الرياضة إلا لفرط اشتغاله بتلك الجهود والضرورات

وإنها مع هذا لمهانة وليست بالخطأ وكفى. لأن الذين يطلبون التسوية بين الطبقة الفقيرة وغيرها من الطبقات لا يجمل بهم أن يسجلوا على الطبقة الفقيرة عجزها عم مجاراة غيرها في مذاهب الفهم والتخيل والشعور المهذب والمطامح الآدمية، ولا ينصفون عقول الفقراء

ص: 4

حين يمثلونها في صورة المعدات والبطون التي لا تحلم ولا تفكر ولا تقضي العمل والفراغ إلا للطعام وبالطعام

ومن شأن الطبقات التي يصمها الأدعياء بتلك الوصمة أن تنصف سمعتها من أولئك الأدعياء

ولكن الإنسانية - كائناً ما كان رأى الأدعياء والطبقات في هذه الأمور - هي أكرم على نفسها من أن تعيش أبداً في (المطبخ الحاضر) الذي لا ماضي له ولا مستقبل له إلا بين القطن والبرسيم والقمح والشعير، وإحصاء الموازين والمكاييل

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌مسائل في وحدة الوجود

للأستاذ عبد المنعم خلاف

كتب كاتب فاضل من بغداد بتوقيع (صدقي حمدي) في العدد 579 من الرسالة كلمة يعقب بها ببعض المسائل على مقالي في نقض مذهب وحدة الوجود المنشور بالعدد 573. قال: (والذي يلفت النظر لأول وهلة قول الأستاذ في مستهل مقاله إنه اهتدى إلى دليل علمي قاطع يدحض هذا المذهب ويلقي ضوءاً جديداً أمام العقل البشري الموغل في بحث علاقة الله بالكون). ومذهب الواحدية أو وحدة الوجود من أقدم المذاهب الفلسفية في العالم وأشدها إثارة للجدل، ويكفي لإدراك خطره في تاريخ الفلسفة الحديثة أن نذكر الفيلسوف الكبير (سيبنوزا) الذي يعد من أساطين هذا المذهب في العصر الحديث، ومن أعظم الداعين إليه بالقول والعمل) إلى أن قال:(فلا يصح إطلاق القول فيه بغير حجة أو برهان)

وإني ما أنكرت أن يكون لهذا المذهب تاريخ طويل ومعتنقون كثيرون من الفلاسفة والصوفية القدماء والمحدثين، وما أطلقت القول في نقضه بغير حجة أو برهان، وإنما سقت ما اهتديت إليه واعتقدته دليلاً حديثاً كافياً في دحض هذا المذهب، وسواء عليّ بعد ذلك أكان محيي الدين بن عربي وسيبنوزا وهيجل وغيرهم من معتنقيه أم من مخالفيه. فمن شاء فليأخذ هذا الدليل الذي سقته من حقائق الحياة العلمية الحاضرة ويستأنس به في بحث العلاقة بين الله والكون ويرفض على ضوئه مذهب الوحدة، ومن شاء فليتركه على شرط أن يأتي هو بدليل

ومن الواجب أن أذكر أنني كنت أثناء التفكير في مقالاتي عن الإيمان بالإنسان يحوم فكري كثيراً حول مذهب الوحدة، ويكاد يقبل عليه تحت ضغط الإعجاب والتقدير للروح البشري الخالق والجهد العلمي الأخير الذي سلك الإنسان في عداد قوى الخلق والتكوين والإنشاء التي يدير الله بها الكون المادي في الأرض. . . فلم يكن من المستبعد في الوهم حينئذ أن أنزلق بفكري إلى الأخذ بهذا المذهب الذي يجعل الإنسان جزءاً من الخالق الأعظم ومظهراً للوجود الكلي قائماً به

ولكن هذا الدليل قضى في نفسي على بوادر التفكير والتوجه إلى هذا المذهب الذي لا يكاد معتنقه يتماسك أمام نفسه وأمام الكون قلقاً وحيرة حين يختلط في فكره شعوره بأنه جزء من

ص: 6

الخالق، وشعوره بأنه مخلوق عاجز، وحين ييأس من أن يرى الله بنفسه مع أنه جزء منه، وحين يظل فكره دائراً حائراً في متاهات السموات والأرض يبحث عن (مصدره الأول) فلا يراه إلا في المظاهر المادية التي كان يراها نفس الرؤية قبل اختلاطه وشعوره بازدواج الشخصية بين خالق ومخلوق وخالد وفانٍ. حينئذ يبتدئ ينشد لنفسه ويغني على هواها باعتبارها جزءاً من الله، كالحلاج وابن عربي. وهنا ابتداء التجديف و (الجنون الديني) والبيان الملتبس الذي تختل فيه مقاييس المنطق الإنساني، لأنه يصير خليطاً من منطق الخالق المتوهَّم والمخلوق الواهِم. . .

ومذهب الحلول ومذهب الاتحاد أو الوحدة غالباً يكون اللجوء إليهما بعد الإعياء في البحث عن الله وابتغاء رؤيته والاقتراب منه والأخذ عنه مباشرة، وما ينبغي لأفكارنا المحدودة العاجزة الرهينة المسجونة في أقفاص الأرض الضئيلة بالنسبة للكون أن تطلب هذا المطلب الأعلى الذي لا تدركه الأبصار والأفكار ولا يعلم قدره غيره. وقد قال محمد سيد الأصفياء:(إن الله احتجب عن الأنظار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه)

ولعل لنا عودة إلى هذا الموضوع بتفصيل يتناول منشأ الأوهام التي دخلت فكرة البحث عن الله وأفسدتها

2 -

لم ير الأستاذ صدقي رأيي القائل: (وبدهي أن النظرة الأولى تهدي إلى أن الله غير الطبيعة، وأن هناك انفصالاً بين الخالق والمخلوق)

ويلوح لي أنه التبس عليه فهم هذه الجملة، فخلط بين بداهة هدى النظرة الأولى إلى أن الله غير الطبيعة الخ. وبين القضية في ذاتها بعد التفكير العميق فيها. . . فالقضية في ذاتها غير بديهية بعد التفكير العميق وإدارة الرأي والزوية، ولكن النظرة الأولى الفطرية الساذجة ترى انفصال النفس عن الطبيعة وانفصال الله عنها. لأنها أول درجات الفكر في الطبيعة ومصدرها. ثم بعد ذلك يبتدئ الفكر الفلسفي الذي يشك في كل شيء، ويطلب مبدأ كل شيء، يحيل هذا البديهي إلى شيء معقد. فيطلب مصدر الطبيعة: فتارة يقول إنه لا مصدر لها، وتارة يقول إن مصدرها ممتزج بها، وتارة يقول إن مصدرها منفصل عنها. ولذلك أكرر القول إن النظرة الأولى تهدي إلى ذلك. ثم يأتي التأمل الذي لا يقنع بالظاهر الواضح فيطمس هذه النظرة، ويوغل فيما وراء سطح الوجود. ويلتبس عليه كثير من البديهي فلا

ص: 7

يرى بداهته، بل يطلب له الأدلة والبراهين.

وحقاً يتحول كل بديهي إلى غير بديهي حين يوغل الفكر فيه ويتعمقه، ألا ترى أن بعض المدارس الفلسفية تزعم أن حقائق الأشياء غير ثابتة، وأن المحسوس لا يجوز اتخاذه أساساً، وأن الموجودات كلها أوهام، وأنه ليس في الكون كله حقيقة ثابتة؟ حتى لقد قال بعضهم (لو وجدت حقيقة ثابتة واحدة لاتخذتها أساساً أبني عليه جميع الحقائق!) ألم تسمع بالنظرية الجديدة التي تبطل السببية، وتقول إن الكون يسير بالاحتمالات التي لا نهاية لها! ألم تسمع بذلك السفسطائي اليوناني الذي أنكر وجود جدار أمامه وقال إنه وهم من الأوهام، فلما تحداه مناظره أن يقوم ويخترقه إن كان زعمه صحيحاً قام وجرى إليه حتى اصطدم به فكانت النتيجة ارتطام جسمه وتمزق أوصاله!؟

إن الفكر البشري كائن عجيب متمرد له قدرة هائلة على الذهاب في أي إتجاه، وخلق عوالم صناعية وخيالية لا وجود لها. وصخرة النجاة أمامه هي الاستمساك بالعيش على سطح الحياة وأخذ الحياة بدون تعمق وتعقيد لما تحت البديهي السطحي حتى يبقى لنا شيء ثابت نرتكز عليه. إنما يباح لنا فقط إدمان التعجب مما نرى وتقلب أفكارنا وأيدينا فيه بقدر ما نستطيع أن نسخره ونستغله ونتغلب عليه حتى لا تتهددنا عوامل الشقاء والفناء

وقد ظل الناس خاضعين لفلسفة الفروض والتجريدات يدورون فيها دوراناً عقيماً حتى أتى دور الفلسفة التجريبية التي نادى بها (فرنسيس بيكون) ودور الفلسفة الإثباتية التي ثبت قواعدها (ديكارت) فكانت النتائج الباهرة في العلوم والمعارف الطبيعية والنفسية التي فتحت على الناس بركات من السماء والأرض، وما تزال تفتح. وقد أقبلت البشرية على هذا الاتجاه العلمي الإثباتي فعاشت به عيشة رحبة زادت ثقتها في نفسها وحياتها، وفتحت عليها كنوز الآمال السعيدة، واستدبرت عالم الفروض الفلسفية والخيالات والشك فيما لا طائل وراء الشك فيه، ولا قدرة على الاستغناء عنه، واتخذت بدهيات الحس والفكر قواعد ارتكاز فثبتت أقدامها على الطريق إلى الله. . . ووجدت وحدة منطقها وجهدها تتحقق في هذا الطريق

3 -

استطلع الأستاذ رأيي في هل يجوز أن نتخذ الطريقة الموضوعية في بحث المسائل الدينية؟

ص: 8

ورأيي أنه لا يجوز لنا أن نصطنع الطريقة (الذاتية) إلا في (الفن) وحده. أما العلم والدين فلن يسمحا (للذاتية) أن تنطلق في رحابهما

والموضوعية في العلم أمرها واضح. أما موضوعية الدين فتحتاج إلى بيان:

إن مجال العلم هو البحث في الكون المادي فيما يستطيع أن يصل إليه بأدواته المعروفة ليصل من وراء ذلك إلى (القوانين) التي تسير بها الطبيعة ليرضي كفاية (الإثبات) في النفس البشرية. وليستطيع أن (يعتمد) على هذه القوانين كحقائق لا تتبدل ولا تتغير. وليرضى في النفس كفاية (الاختيار والحرية) بين القوى المادية العمياء الجامدة المجبورة والمجال الأصلي للدين هو نفس مجال العلم. هو الكون المادي أيضاً، ولكن لا على الاعتبار السابق؛ ولكن على اعتبار آخر هو استنتاج (صفات) صانع هذا الكون من الكون؛ ليرضى في النفس كفاية (الاعتقاد) وهذه هي الفكرة الأصلية في الدين. فكرة الاعتقاد بصانع لهذا الكون له من العلم والقدرة والإحاطة بكل دقيق وجليل في الكون ما ظهرت آثاره وما وضح في قوانينه من الدقة والإحكام وعدم التناقض

والذي لا شك فيه عند العقول الموزونة التي لم تنحرف ولم تشذ عن الفطرة أن الإحكام والدقة والجلال والجمال والتنويع والتفريع والاطراد وغيرها من صفات الكون توحي وتلزم كل عقل غير مدخول أن وراء هذا الكون عقلاً أعظم منه يدبره ويقوم عليه. له من العلم والقدرة والحكمة والإحاطة والهيمنة والقهر وغيرها من صفات الكمال ما يليق بالقِوامَة والتدبير لهذا الكون الرحب الذي لا تدرك نهايته الأوهام البشرية. هذه هي الفكرة الأولى في الدين. وهي فكرة لا شك (موضوعية) موضوعها الكون كله ليستنتج الناس منه صفات خالقه. وهي صفات لا تختلف باختلاف جمهرة العقول

إن الدين بهذا الوضع (نتيجة) حتمية للعلم وضرورة لازمة للألفة (العقلية) التي لا بد منها في العقل العلمي. ولن يتأتى الكمال في العقل العلمي إلا إذا جمعت فيه كفاية (الإثبات) وكفاية (الاعتقاد) ورجال الدين بهذا الوضع هم رجال العلم الطبيعي وحدهم لا غيرهم من صناع الفروض والأوهام المفتونين بزخرف الكلام يرسلونه فارغاً إلا من نزعات شعرية وبدوات خيالية

ورجل العلم لا يبحث في ذات الله وكنهها، لأن الطريقة العلمية عوّدته أن يتدرج في أبجدية

ص: 9

الحقائق، وهو للآن ولما بعد الآن بكثير من الآباد لم يفرغ من إدراك موجودات الطبيعة المحدودة في الأرض الضئيلة ولم يدرك الروح الإنساني ولا أصل الحياة البيولوجية بل لم يدرك المادة، حتى أن (ملكن) أكبر علماء الكهرباء المعاصرين قال:(خبروني ما هي المادة قبل أن تسألوا ما هي الروح؟)

ولذلك قلت ينبغي للمتأملين التجريديين ألا يسرفوا على أنفسهم وعلى الكون كله فيحاولوا إدراك ذات الله قبل أن يدركوا ذات أنفسهم وذوات الأشياء المادية الضئيلة التافهة

إن الإنسانية إن قدر لها أن تدرك شيئاً من ذلك فلن يكون هذا الإدراك إلا عن طريق العلم الذي فتحت أبوابه وأقبلت حقائقه المخبوءة التي سوف تكون المنطق الإنساني الحديث الذي لا يقيم وزناً للتأمل الفلسفي أو الصوفي أو الشعري الشارد الجامح!

4 -

خشي الأستاذ من أن يجرنا قياس اتصال الله بالكون على اتصال العقل الإنساني بواسطة اللاسلكي بالآلات وإحاطته بها وإدراكه إياها إلى التورط في التجسيم والتشبيه!

وهذا الدليل الذي سقته لا يستلزم شيئاً من هذا. فليس اتصال الله بنا وبالكون بآلات ورواصد، كما هو الحال في اتصال الإنسان بالآلات والآفاق بواسطة اللاسلكي، وإنما هو اتصال مباشر بالعلم المحيط والقدرة التي لا تحتاج إلى وسائط وأدوات. . . واللاسلكي في معرض هذا الاستدلال ليس إلا مثلاً مضروباً يوضح لتلك العقول التي لم تر لها طريقاً للتصور إلا الإيمان بوحدة الوجود وعدم الانفصال بين الله والطبيعة؛ إذ أن خيالها ضاق عن تصور هذا الانفصال

وخلاصة هذا الدليل أننا إذا كنا نرى العقل البشري العاجز يتصل بمخلوقاته من الآلات بعد أن كونها وأعطاها قوانينها، ويتصرف فيها ويتحكم بها باللاسلكي وهو متحرر منها بعيد عنها غير ممتزج بها؛ فما بالنا لا نرى العقل الأعظم الذي نعرف قدرته يستطيع أن يتصل بنا بعلمه وقدرته بدون حاجة إلى الاتحاد والامتزاج؟!

وما ندري ماذا يأتينا به العلم من وسائط الاتصال؟ لعله يجعلنا نتصل بالأشياء ونؤثر فيها بدون حاجة إلى وسائط اللاسلكي وغير اللاسلكي. لعله يكشف في النفس قوة قادرة على ذلك. وهذا لا شك كمال لنا، وليس بمستحيل فرضه عقلاً. . .

فقبيح بنا أن يضيق تفكيرنا حتى نخضع رب الكون لما نستطيع نحن العجزة الضعفاء أن

ص: 10

نتحرر منه ونستغني عنه.

إننا نحس في أنفسنا قدرة على الخلق والتحرر وتنقيح الطبيعة، فلماذا نجعل الله شبه سجين فيها لا يستطيع من قوانينها فكاكاً مع أنه واضع هذه القوانين، إذ لا جائز أن تكون وضعت نفسها؟!

إن أحلام الحرمان التي تطوف برءوس العجزة المحرومين لا يرضيها من القدرة والغنى إلا أن تأمر بالطعام، فيكون الطعام وببساطة الريح فيكون البساط، وبحك (خاتم القدرة) فيحضر المارد القدير، وبالنظرة في (البللورة السحرية) فترى ما استتر واستكن في طوايا السموات والأرض!

فإذا كان هذا هو ما في خيال الناس عن قدرة القادرين من العجزة المخلوقين، فكيف بما في الخيال حين يتصل بالله الذي يمسك السموات ويحبس البحار، ويدير ملايين الملايين من الكواكب في أفلاكها بغير اختلال وصدام، ويؤلف بين القوانين المتضادة في الطبيعة حتى يخرج منها (هرموني) وتناسقاً عجيباً!

إذن فلا تجسيم ولا تشبيه ولا مخابر ولا معامل كيمياء وفيزياء ولا نظارات ولا قارورات ولا اتصال بسيط أو غليظ كما يتوهم الأستاذ. وإنما هي إرادة عالمة قادرة تقول للمعدوم (كن) فيكون!

لقد حكى القرآن الكريم أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه: رب أرني كيف تحيي الموتى! قال أو لم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي. قال فخذ أربعة من الطير فصرْهُنَّ إليك (اذبحهن) ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم أدْعهُنَّ يأتينك سعياً) وقد فعل إبراهيم فأتته ساعية من غير أن يرى شيئاً يجمعها ويركب أعضاءها ويهندس وضعها!

لقد توهم إبراهيم أن هناك (كيفية) للإحياء، وأن هناك أدوات ووسائل للخلق والتكوين، ولذلك سأل ربه سؤاله. ولكن تبين له بعد أن دعا أشلاء الطير المذبوحة المطروحة في كل أفق، فإذا بها مقبلة حية أن إيجاد الله ليس إلا بتوجيه الإرادة إليها، فإذا هي كائنة

5 -

أما الصوفية المادية التي ندعو إليها ويسألنا عنها الأستاذ؛ فقد سبق لنا أحاديث فيها بين تضاعيف مقالاتنا السابقة، وبخاصة المقال الرابع من مقالات (أومن بالإنسان) وقد نشر بالعدد 396 من هذه المجلة، ومقال (الحياة صادقة) الذي نشر بالعدد 206 من الثقافة

ص: 11

ولعل لنا إليها عودة بتوضيح آخر. والله يهدينا إلى اليقين ويفتح لنا من رحمته!

والسلام على جيرة بغداد العزيزة!

عبد المنعم خلاف

ص: 12

‌5 - أحمد رامي

(في أغانيه)

للأستاذ دريني خشبة

منذ أن أخذ رامي في نظم أغانيه للمطربة الآنسة أم كلثوم والثورة على أشدها في عالم الغناء المصري، بل عالم الغناء العربي كله. لقد كانت أغاني رامي حرباً بين القديم والجديد. انتهت بفوز الوجهة الجديدة التي وجه رامي أذواقنا إليها، وإن وجد كثيرون من عشاق المذهب القديم لا يزالون يحنون إليه ويؤثرونه على هذا التجديد الذي لا يروقهم

وأغاني رامي - من حيث اللغة نوعان. . . نوع ألتزم فيه اللغة الفصحى، واختار له الديباجة المشرقة الناعمة السهلة، والألفاظ العذبة الموسيقية التي لا تتضمن لفظة واحدة يصعب فهمها على الشخص العادي. . . ونوع التزم فيه العامية المصرية القاهرية الساحرة التي يفهمها العالم العربي كله، ويستعملها لحسن الحظ

وأغانيه - من حيث الكَيْف. . . أو من حيث الروح - نوعان كذلك: نوع نلمس فيه قلب رامي، ونحس فيه داءه القديم، وحزنه الممض المقيم؛ ومعظمه مما نظم للآنسة أم كلثوم. . . ونوع نلحظ فيه بيان رامي، وفنه، ومقدرته الكبيرة المأثورة على التلوين والتظليل والتخطيط، وإن لم نحس فيه نبضة واحدة من نبضات قلبه المحترق، ولا طرقةً مفردة من طرفات جفنه المؤرق، ومعظمه مما نظم لسائر المطربين غير الآنسة أم كلثوم، وسبب ذلك واضح معلوم، فقد كان صوت أم كلثوم الملهم الأكبر الذي أعاد إلى قلب رامي حياته الأولى:

حسبي من الشعر ومن نظمه

صوتك يسري في مدى مسمعي

سلوى من الدنيا تعزّى بها

قلب شديد الخفق في أضلعي

سمعته فأنساب في خاطري

للشعر عين ثرّة المنبع

وما ذروة المجد التي امتد دَرْبها

على حرّةٍ حَزن ووعر جبل

سوى روحنة الأشعار وشّع سَرْحها

أفانين أفكاري وزهر خيالي

وأنت بهذا الروض بلبه الذي

يرجّع في مغناه عذب مقالي

بعثتِ فنون الشعر فيّ فصغتُها

وغنيتِها لحن الهوى فحلالي!

ص: 13

ونستطيع أن نسمي النوع الأول (أغاني الطبع) والنوع الثاني (أغاني الصنعة) ونقول إن معظم ما نظم رامي لأم كلثوم هو من أغاني الطبع، ولا نقول كله لأنه نظم لها كثيراً من (أغاني الصنعة) التي طلب إليه نظمها من أجل أشرطتها السينمائية، وعلى ذكر الأشرطة السينمائية نلاحظ أن رامياً قد عوض حرارة أغانيه فيها بفنه الرفيع، وبيانه الرائع، ومقدرته على التلوين والتظليل والتخطيط كما قدمنا، ثم باستغراقه، في مناسبات بديعة، في تصوير الطبيعة المصرية الفاتنة الساكنة، والتعبير عنها ذلك التعبير الهيّن الليّن الذي تنعكس فيه أروع لوحات تلك الطبيعة الممتازة المليئة بالمفاتن. وليس معنى هذا أنه قصر تصوير تلك اللوحات على غير أغاني أم كلثوم، ولكن معناه أنه خص الكثرة الغالبة من أغاني غيرها بأروع تلك اللوحات، وإن أودع بعض أغانيها شيئاً ثميناً قميناً بالملاحظة من تلك اللوحات

من منا لم يردد في نفسه ألف مرة (لحن الكروان) الذي نظمه رامي لشريط (دموع الحي)؟ والذي مطلعه:

ياللى بتنادي أليفك

والفؤاد حيران عليه

ومن منا لم تأخذه مقدرة رامي الفنية في تصوير الليالي المصرية المقمرة التي ينسكب فيها تغريد الكروان العاشق فيزيدها بهاء وروعة؟!

كروان حيران

سابح في نور القمر

والصوت رنَّان

ملا الفضا وانحدر

والكون نعسان

حتى الطيور ع الشجر

. . . . . . . . .

هايم ينادي حبيبه

من غير ما يعرف فين

وإن كان ح يسمع نحيبه

تحتار تشوفه العين

وتتجلى في هذا اللحن الخالد مقدرة رامي في الانتقال من تصوير الطبيعة إلى بث الهوى وشكوى الهيام

أو هذا اللحن الذي مطلعه:

ما أحلى الحبيب بين الميّه

وبين الأغصان

ص: 14

والذي يقول فيه:

آدي النسيم يشكي غرامه

والغصن يسمع منه يميل

والطير يغني وكلامه

يخلي دمع الزهر يسيل

أسمع لُغَى الطير الشادي لما يغني

اسمع حفيف الغصون

تبكي بدمع الغمام

لما شجاها النسيم

باحت بسر الغرام

والموج في حضن الموج نايم

على شط النيل

إن نبهه الطير العايم

يشبع تقبيل

كل الوجود حب وشجن

في السر يشكي والعَلَن

تعالي واسي فؤادي

أسقيك من كاس حناني

وأسمْعك لحن حبي

ونطير في جو الأماني!!

فهل رأيت هذا التمهيد الطويل من وصف الطبيعة المصرية لينتهي اللحن بهذا الرجاء الجميل في البيتين الأخيرين

وأسمعك لحن حبي

ونطير في جو الأماني؟!

ثم ذاك اللحن البديع الذي يصف الشاطئ المصري في جنة المصيف:

يا ما أرق النسيم

لما يداعب خيالي

خلاني وحدي أهيم

واسبح في وادي آمالي

الجو رايق وصافي

والبحر موجه يوافي

طال به الحنين للبر

والبر عنه بعيد

فِضِل يهيم في البحر

والشوق ف قلبه يزيد

ولما جا الشط الهادي

ريّح جنبه

ووشوش الرمل النادي

وشكى غلبه

والشمس عند الأصيل

راخيه شعور الذهب

تسبي العيون

والغيم بلونه الجميل

خلاني وحدي أهيم

ص: 15

واسبح ف وادي الأماني

وهكذا نجد أن اللحن كله أغنية عذبة تغمغم بها مصر المفتان على شاطئ البحر الأبيض. وإذا صح أن من كلام الشاعر كلمات تدل على شاعريته، فكل كلمة من كلمات تلك الأغنية طابع قوي تشهد لرامي بالشاعرية الفريدة الفذة. . . وحسبك أن تتخيل ذلك الموج الهائم في البحر، حتى إذا وصل إلى الشاطئ:

ريّح جنبه. . . ووشوش الرمل النادي!

ومن الصور القلية البارعة التي ضمنها رامي إحدى أغانيه لأم كلثوم، صورة الليل المصري المقمر في أغنية (أبات أناجي خيالك). . . كما نسمع الطبيعة المصرية بحقولها وأشجارها وأطيارها وأنهارها تنادينا أعذب النداء وأرقه في أغنيات: يا ما نديت. . . و. . . فاكر. . . و. . . بكرة السفر، وفرحة القلب، وليالي القمر، ووداع،. . . ولكنها صور عارضة لا تستغرق الأغاني كلها، كما نلاحظ في الأغاني التي نظمت لغير أم كلثوم

ومن الصور الجيدة في أغاني رامي تلك التي يبرر لنا فيها القلب الإنساني في شتى انفعالاته الغرامية، وفي مواساته هوله، كأنه صديقه الأول. . . من ذلك تلك الصور الرائعة في أغنيات: يا طول عذابي، وما لك يا قلبي، وإن كنت أسامح، وسكت ليه يا لساني. . . ثم في أغنية، عنيّة فيها الدموع:

عنيّه فيها الدموع

والجو ساكن وصافْي

والقلب بين الضلوع

حيران على خل وافي

طاير يهفهف جناحه

عدم في عشه الأمان

لا حد واسى جراحه

ولا سقاه الحنان

لو كان مهنّى

لبات يغّني

لكن حزين

شدوه أنين

ينوح على الأغصان وحده

ويشتكي لليل وجده

. . . الخ. . .

وأغاني رامي. . . مثل شعره. . . مليئة بالمعاني البكر التي لا نعرف أن أحداً سبقه إليها، وهو مع ذاك يؤديها في عذوبة ورقة متناهيتين. . . من ذلك قوله في أبدع أغانيه (ميعاد):

ص: 16

حرمت عيني الليل م النوم

لأجل النهار ما يطمنّي

صعب عليّ أنام

أحسن أشوف في المنام

غير اللي يتمناه قلبي

سهرت أستناه

واسمع كلامي معاه

وأشوف خياله

قاعد جنبي

من كتر شوقي

سبقت عمري!!

وشفت بكره

والوقت بدري!!

وإيه يفيد الزمن

من اللي عايش في الخيال. . . الخ

والأغنية كلها - على طولها - معان جديدة مبتكرة، وإن لف الشعراء حولها أحياناً وداروا. . .

وأعجب العجب في أغاني رامي أن بينها وبين ملحنها من فنانين الأماثل وشائج تشبه وشائج القربى الروحية. إنهم جميعاً يفرحون بتلحينها لأن الشاعر الرقيق يفسح لهم فيها، ويلونها لهم تلويناً يغازل عبقريتهم الموسيقية. ويتنقل بهم في كل منها من الضرب العروضي الكامل، إلى المشطور البديع المتألق، ومن بحر إلى بحر، ومن أوزان يخترعها اختراعا

وأعجب من هذا كله ذلك التجاوب التام المنتظم بين روح رامي وشعره، وبين الذين يتغنونه من كبار مطربينا. فلقد يخيل للإنسان أن مؤلف شعر رامي وأغانيه ليس رامي وحده، بل هم أولئك المطربون والمطربات والموسيقيون والملحنون جميعاً. إنه مجد كامل يحار الإنسان في تعيين بانيه، ولكن الذي شك فيه أن رامياً هو واضع حجر الأساس في ذلك البنيان المنيف الذي يتألف منه الغناء المصري الحديث.

دريني خشبة

ص: 17

‌على هامش النقد

المعاني والظلال

للأستاذ سيد قطب

هناك فارق حاسم بين لغة العلم ولغة الفن، نستطيع إجماله في أن العلم يعنيه ما في السطور، وأن الفن يعنيه ما بين السطور، وبتعبير آخر إن العلم يعنيه معنى التعبير، والفن يعنيه الظل الذي يلقيه التعبير. ولا يفهم أحد من هذا ما كان مفهوماً عندنا قبل ثلاثين أو أربعين سنة من أن الفن هو تلك الألاعيب اللفظية، والبرقشات التعبيرية، فبين هذا وبين ما نريده فرق بعيد

إن ما نقوله لا يتنافى مع صدق الإحساس، وصدق التعبير عن الحياة، وهما مفرق الطريق بين ما كان يعنيه الأدب قبل هذا الجيل، وما يعنيه الآن. وبعد تحقق هذه المرحلة نبحث عما في السطور وعما بين السطور أو عن المعاني والظلال في التعبير عن الأحاسيس الصادقة التي هي الخطوة الأولى في كل أدب صحيح

وحين نأمن اللبس من هذه الناحية نتحدث - في حرية - عن أشكال التعبير وعن طرق الأداء التي نفضلها على أشكال وطرق أخرى

لقد أخذنا على الأدب العربي في جملته أن (المعاني) تعنيه، أكثر مما تعنيه (الحالات النفسية) وأن التعبير فيه يعني بهذه المعاني الكلية - الحسية أو الذهنية - قبل أن يعني (بالإنسان) من وراء هذه المعاني والاحساسات

وعذر العرب في هذا واضح. لقد كانوا أمة حس، لا تختزن في نفوسها رصيداً من الأحاسيس الوجدانات إنما تنفقه للحظة في الحركة والعمل، فضلاً على أن طبيعة بلادهم لا تهيئ لهم هذا الرصيد

فما عذرنا نحن - في مصر خاصة - وبيئتها أبعد ما تكون عن بيئة الصحراء في ألا ننتفع بالبيئة المواتية والطبيعة العريقة، في إبداع فن يأخذ من اللغة العربية ألفاظها وعباراتها، ويغير في طريقة الإحساس وطريقة التعبير، لنكون بهذا أمناء لأنفسنا، أمناء لطبيعة بلادنا، أمناء للفن الرفيع في جوهره ومظهره

لقد تحدثت في المقالات الثلاث الماضية بمناسبة كتاب (عرائس وشياطين) عما نعنيه

ص: 18

بالجانب الإنساني وعما نعنيه بالحالات النفسية، فاليوم أتحدث عن طريقة الأداء التي نؤثرها، ونبين المزايا الفنية لهذه الطريقة

التعبير الذي يلقى المعنى مجرداً يخاطب الذهن وحده، والتعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلاً يخاطب الحس والوجدان، ويطبع في النفس صورة من صنع الخيال. وطبيعي أن الطريقة الثانية أقرب إلى طبيعة الفنون، وأن الطريقة الأولى أقرب إلى طبيعة العلوم. والنموذج يوضح هذه القضية أكثر مما يوضحها أي بيان، فالنقد الفني موكل بالمثال أكثر من الإجمال:

لقد اختار القرآن الكريم طريقة التصوير والتخييل، وجعلها قاعدة فيه للتعبير. ومن العجيب أن يكون القرآن هو كتاب العرب الأول، ثم لا يستفيد الأدب العربي من طريقته الأساسية شيئاً بعد نزوله، وتيسيره للذكر في أيديهم. إلا فلتات في ديوان كل شاعر، هي امتداد للتصوير في الأدب الجاهلي وعلى طريقته، لا على طريقة القرآن الرفيعة

ولعل مرد ذلك إلى أن الحاسة الفنية عند أولئك الشعراء كانت أقل من أن تتطلع إلى هذا الأفق الرفيع في ذلك الأوان. فلعلنا أن نكون اليوم أحق بهذا التطلع من جميع من مضوا من شعراء العربية خلال أربعة عشر قرناً

إن تفرد القرآن بطريقته التصويرية في هذا المستوى بين الشعر الجاهلي والشعر العربي بعده يمكن أن يتخذ دليلاً فنياً على تفرد مصدر هذا القرآن، لولا أننا هنا في مقام البحث الفني، لا البحث الديني

والآن نعود إلى نماذج القرآن التصويرية في التعبير، لبيان فضل هذه الطريقة من الناحية الفنية:

1 -

معنى النفور الشديد من الدعوة إلى الهدى، يمكن أن يؤدي في صورته التجريدية الذهنية على نحو كهذا: إنهم لينفرون أشد النفرة من الدعوة إلى الإيمان. فيتملى الذهن وحده معنى النفور في برود وسكون

ولكن التعبير القرآني يؤديه في هذه الصورة الحية المتحركة: (فما لهم عن التَّذكِرَةِ مُعْرِضِين؛ كأنهم حُمرٌ مُستنفِرة فَرَّتْ من قَسْورة) فتشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال، ويثور في النفس شعور السخرية وشعور الجمال؛ السخرية من هؤلاء القوم

ص: 19

النافرين كالحمر، الوحشية المذعورة من الأسد، والجمال الذي في الصورة المتحركة الطليقة

فللتعبير هنا ظلال حوله تزيد في مساحته النفسية، إذا صح هذا التعبير!

2 -

ومعنى عجز الآلهة التي كان العرب يعبدونها من دون الله، يمكن أن يؤدي في عدة تعبيرات ذهنية مجردة كأن يقال: إن ما تعبدون من دون الله لأعجز من خلق أحقر الأشياء. فيصل المعنى إلى الذهن مجرداً باهتاً

ولكن التعبير القرآني يؤديه في هذه الصورة:

(إنَّ الّذينَ تّعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمَعُوا لَهُ؛ وإنْ يَسْلُبْهُمُ آلذُّبابُ شيْئاً لا يِستَنقُذوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطالِبُ وَالْمَطْلوبُ)

فيحيا هذا المعنى الساكن، ويتحرك في تلك الصور المتحركة المتعاقبة

أرأيت إلى تصوير الضعف المزري، وإلى التدرج في تصويره بما يثير في النفس السخرية اللاذعة والاحتقار المهين:

(لن يخلقوا ذباباً) وهذه درجة (ولو اجتمعوا له) وهذه أحرى (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) وهذه أنكى

ولكن أهذه مبالغة؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو؟

كلا! فهذه حقيقة واقعة بسيطة. فهؤلاء الآلهة (لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) والذباب صغير حقير، ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل والفيل. لأنها معجزة خلق الحياة، يستوي فيها الجسيم والضئيل، وليست المعجزة في صميمها هي خلق الهائل من الأحياء، وإنما هي خلق الذرة الحية المفردة

ولكن البراعة هنا هي في عرض هذه الحقيقة بصورة ترسم العجز عن بلوغ مسألة هينة في ظاهرها، والجمال هنا هو في تلك الظلال التي تلقيها خطوات الصورة من خلال التعبير

3 -

والتعبير الذهني المجرد عن هول يوم القيامة يمكن أن يكون نصوصاً كثيرة، كأن يقال (إنه لهول مفزع مروع مذهل. . .) فلا ترتسم في النفس صورته كما يرسمها التعبير القرآني المصور:

ص: 20

(إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ ترَونَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٌٍ عَمَّا أرضَعَتْ؛ وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها، وَتَرى الناسَ سُكارَى، وَما هُمْ بِسُكارَى ولَكنَّ عّذابَ اللهِ شَديدٌ)

وليس النسق القرآني وحده في النظم هو الذي يرتفع بهذا التعبير إلى مستواه الذي تستشعره النفس عند تلاوته. إنما هي هذه الطريقة التصويرية كذلك، حيث يزدحم الخيال بصور كل مرضعة ذاهلة عما أرضعت، شاخصة تنظر ولا ترى، وتتحرك ولا تعي، وصور الناس سكارى وما هم بسكارى، في عيونهم ذهول السكر، وفي خطواتهم ترنحه

إن هذا الحشد من الصور الذاهلة هو العمل الفني الضخم في هذا التعبير

وليست هذه الصور فلتات في القرآن إنما تلك طريقة متبعة وخصيصة شاملة، وفي هذا يتفرد القرآن وحده. فالتصوير قد يقع فلتات في الشعر العربي، تكثر في الشعر الجاهلي وتقل في الشعر الإسلامي. ولا يعد قاعدة في هذا الأدب كله. ثم تبقى بعد ذلك درجات السمو في هذا التصوير. ولها مجال غير هذا المجال

طريقة التصوير والتظليل التي نوجه إليها الأنظار، هي الطريقة التي وردت فيها فرائد الشعر العربي التي تهيأت للشعراء على ممر الأجيال

فأجود ما وقع لامرئ القيس هو من الشعر التصويري مثل:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت: له لما تمطى بصلبه

وأردف أعجازاً وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل

فتشخيص الليل هنا ومنحه الحياة، ورسم هذه الصورة المتحركة له، هي موضع الجمال في هذه الأبيات لا مجرد معنى أن الليل قد طال وأنه سئم هذا الطول

وكذلك بيته الآخر في وصف حصانه:

مِكَّرٌ مِفَّرٌ مقبل مدبر معاً

كجلمود صخر حطه السيل من عل

وما فيه من تشخيص الصورة والحركة، لا مجرد معنى أنه يكر ويفر ويقبل ويدبر في لحظة واحدة. وأجود ما وقع لزهير أبياته التصويرية كذلك مثل:

إذا ما غَدَوْنا نبتغي الصيدَ مرَّةً

متى نَرَهُ فإننا لا نُخاتِلُهْ

فَبَيْنا نُبَغِّي الصَّيْدَ جاء غُلامُنا

يَدِبُّ ويُخْفي شَخْصَهُ ويُضائِلُهْ

ص: 21

ففي صورة هذا الغلام الشاخصة هنا وفي حركته المرسومة كأنما على الشاشة جمال فني لا شك فيه

وأجود ما وقع لسويد بن كاهل اليشكري أبياته التي يصور فيها حاسده صوراً شاخصة فيها الملامح الحسية والانفعالات النفسية. وجميعها صور وظلال لا معان مجردة:

رُبَّ من أنضجْتُ غيظاً قلبَهُ

قد تَمنَّى لي موتاً لم يُطعْ

ويراني كالشجا في حلقه

عَسِراً مَخْرَجُهُ ما يُنتزع

مُزبدٌ يَخطُرُ ما لم يَرَني

فإذا أسمعته صوتي انقمع

لم يضرني غير أن يحسدني

فهوَ يرْقو مثلما يزقو الضوع)

فتتم الصور المزرية التي يرسمها له بعد أن تترك في النفس ظلالاً واضحة، وفي الحس صوراً شاخصة، فيها كل جمالها الفني الذي يتيحه التصوير والتخييل

ويكثر التصوير في الشعر الجاهلي، ويقل في الشعر الإسلامي، على عكس ما كان منتظراً بعد وجود القرآن بين أيديهم، وتعبيره كله قائم على الطريقة التصويرية، ولكن قاتل الله (المعاني)، لقد أصبحت كل هم الشعراء وغلبت طريقة العلم على طريقة الفن، فتقهقر الأدب العربي من هذه الناحية، بجانب خطواته التي تقدمها في نواح أخرى

فإذا نحن تجاوزنا ابن الرومي - وهو فريد في تاريخ الأدب، العربي كله - لم نعثر إلا على فلتات في ديوان كل شاعر، قام فيها التعبير بمهمة التصوير. فلتات قد تكون مائة وقد تكون ألفاً، ولكنها تبدو ضئيلة جداً بين ملايين الأبيات من الشعر العربي على ممر الأجيال

وإن أجود ما وقع للشعراء هنا كذلك، لهي الأبيات التي عبر عنها بطريقة التصوير والتخييل. مثل بيت مسلم بن الوليد الذي نقلناه في كلمة ماضية:

تمشي الرياح به حسرى مولهة

حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد

وما فيه من تشخيص وخلع الحياة على الرياح

ومثل بيتي كثير:

وإني وتهيامي بعزة بعد ما

تخليت مما بيننا وتخلّت

لكا لمرتجى ظل الغمامة، كلما

تهيأ منها للمقبل استقلت

وما فيها من حركة متخيلة: حركة حسية تقابلها حركة نفسية في تساوق واتفاق. ومثل بيتي

ص: 22

المتنبي:

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضاح وثغرك باسم

وفيهما مشهد استعراض متحرك يضاعف جمال المعنى الذهني المجرد

ومثل بيتي المعري الفريدين:

رُبَّ قبر قد صار قبراً مراراً

ضاحك من تزاحم الأضداد

ودفين على بقايا دفين

في طويل الأزمان والآباد

وما فيهما من سخرية مصورة شاخصة، تتسق مع السخرية النفسية، وتوضح رموزها وتجسمها

ونكتفي بهذه النماذج لتصوير ما نريده من الجمال الفني في الصور والظلال حين يرسمها التعبير. ثم ننبه هنا إلى لبس قد يؤدي إليه سياق المقال:

نحن لا نعني أن طريقة التصوير وحدها تؤدي إلى أن يأتي كل من يتبعها بقرآن أو ما يشبه القرآن، ولا أن يبلغ هذا المدى الذي بلغه مسلم والمتنبي والمعري وكثيّر وغيرهم. فليست طريقة من طرق الأداء عصا سحرية تبلغ بمفردها مدى الإعجاز والعبقرية!

إنما نعني أن هذه الطريقة أنسب للتعبير الفني من الطريقة التجريدية، وأن الشاعر الواحد يبلغ بها في إنتاجه ما لا يبلغه من الجمال الفني لو اتبع الطريقة الذهنية. ثم يبقى بعد ذلك مجال التفاضل في الإحساس لم نمسه، ولم نحاول البحث فيه. فتلك هبة توهب، أما الطريقة فهي خطة يلفت إليها النظر، وإن كان لها من الهبة الَّلدُنَّية نصيب

سيد قطب

ص: 23

‌التحامق في العصر العباسي

للأستاذ صلاح الدين المنجد

في العصر العباسي ظاهرة غريبة تلذ الباحث بطرافتها ولطافتها، هي التحامق وإظهار البلاهة تارة والغفلة مرة

وقد تدهش بادئ ذي بداءة وتعجب؛ فإذا انثنيْتَ على نفسك مفكراً متأملاً معتبراً، أو مقايساً باحثاً، علمتَ أن في هذا التحامق من الصواب ما ينبئ عن حدة ذهن، ودقة فهم، وجودة حدس

فلقد وجد الناس في ذلك ضروباً من الفائدة، فكانوا يلجئون إليه كلما ضاق عليهم الأمر، وعسرت أمامهم المسالك؛ فينالون ما يشتهون، ويحظون بما يحبون. وما كانوا ليتحامقوا بعد علمهم أن أولئك الناس العوام أشدُّ منهم حمقاً، وأقل فطنة، وأكثر غباوة. وما لهم لا يتحامقون في عصر قال العتابيُّ الشاعر عن ناسه إنهم بقر لا يفقهون

فقد ذكروا عن عثمان الوراق أنه رأى العتابي الشاعر يأكل الخبز على الطريق بباب الشام (في بغداد)، فقال له: ويحك، أما تستحي؟ قال: أرايت لو كنا في دار بقر كنتَ تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟ قال الوراق: لا. قال فاصبر حتى أعلمكَ أنهم بقر. فقام العتابي، فوعظ وقصَّ ودعا؛ حتى كثُرَ الزحام عليه، ثم قال لهم:(روى لنا غير واحد أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار!) فما بقى أحد إلا أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه ويقدّره يبلغُها أم لا. . . فلما تفرّقوا التفت العتابي إلى صاحبه وقال: (ألم أخبرك أنهم بقر. . .؟!)

وكان أناس يرون في الحمق الرَوْح والراحة، وطيب العيش فسعوا إليه، وتحدّث الشعراء بذلك، فقال أحدهم:

الروح والراحة في الحمق

وفي زوالِ العقلِ والخُرْق

فمن أراد العيش في راحةٍ

فليلزمِ الجهلَ مع الحمقِ

وما ذلك إلا لأن العقل كان عدو الإنسان في ذلك الزمان.

ص: 24

يقول الشاعر القُمَّي:

تحامق، تطبْ عيشاً ولا تكُ عاقلاً

فعقلُ الفتى في ذا الزمان عدوّه

ولأن من يتحامق يربح ويستريح. فقد سُئل مرة زيد بن سعيد العبدي عن تحامقه، فقال:(جَددت فشقيتُ، ثم تحامقتُ فأرحتُ واسترحت)

وكان أناس آخرون يتحامقون لينالوا الغنى. قالوا إنه كان في بغداد رجل عاقل، أديب فَهْمٌ، شاعر، يقال له عامر. وكان مع أدبه محرماً مجازفاً. فلما ضاق صدره، أظهر التحامق والتجانن، فتفقده صاحب له، وجعل يطلبه حتى ظفر به في بعض القرى، وحوله الصبيان، يضحك ويضحكون، فقال له: يا عامر، مذ كم صرت بهذه الحال؟ فقال:

جنَنْتُ نفسي لكي أنال الغنى

فالعقل في ذا الزمان حِرمان

وقد يدرك المتحامق الملوك بتحامقه فتحسن حاله، ويزيد ماله. قالوا إن علياً القصريُّ كان ممن يجيد الشعر؛ وكان محروماً لا يؤبه له. فتحامقَ وأخذ في الهزل، فحسُنت حاله، وراج أمره، حتى أن الملوك والأشراف أولعوا به، فأفاد من هزله وحمقه المال الوافر، والنشبَ الكثير. وذلك لأنه:

إن كنتَ تهوى أن تنال المالا

فالبس من الحمقِ غداً سربالاً

فيسهل ما عسر، وتوسر وتغنى،

وتقوم بقوت عيالك وأهلك

عذلوني على الحماقة جهلاً

وهي من عقلهم ألذُّ وأحلى

ولقد قلتُ حين أغروا بلوْمي=أيها اللائمون في الحمق مهلا

حمقى قائمٌ بقوت عيالي

ويموتون إن تعاقلت هزلا

وقد يتحامقون لينجوا من آفة أو بلاء. أُدخِل عُبادةُ المخنث على الواثق، والناسُ يُضربونَ ويُقتلون في الامتحان. (قتال): فقلتُ والله لئن امتحنني قتلني؛ فبدأته، فقلت: أعظم الله أجرك أيها الخليفة. قال فيمن؟ قلتُ في القرآن! قال: ويحك، والقرآن يموت؟ قلت: نعم، كل مخلوق يموت. فإذا مات القرآن في شعبان فبأيش يصلِّي الناس في رمضان؟ قال: أخرجوه

ص: 25

فإنه مجنون!

وكثيراً ما كان العلماء يتحامقون أو يتجانّون إذا دُعوا إلى القضاء. وكانوا يرون فيه مهلكة لا ينجو منها إلا من رحم الله. ويخافون أن يزلّوا فيعاقبوا. دعا المنصور أبا حنيفة وسفياناً الثوري، ومسعراً، وشريكاً، ليوليهم القضاء. قال أبو حنيفة: أنا أتحامق فيكم، فأُقال وأتخلص. وأما مسعر فيتجان ويتملص، وأما سفيان فيهرب. وأما شريك فيقع. فدخلوا على المنصور، فتحامق أبو حنيفة، وتجانن الثوري ومسعر، فنجوا

ومثل هذا فعل عبد الله بن وهب لما دعاه الخليفة ليتولى قضاء مصر، فقد تجنن نفسه، فلزم بيته

وقد حفلت كتب الأدب بنوادر رائعة، غير ما ذكرنا، عن التحامق والتجانن في هذا الباب، فمن أطرف ما يروى في ذلك أن رجلاً آلى بيمين أن لا يتزوج حتى يستشير مائة نفس لما قاسى من بلاء النساء. فاستشار تسعة وتسعين نفساً وبقي واحد. فخرجَ على أن يسأل أول من نظر إليه. فرأى مجنوناً قد اتخذ قلادة من عَظم، وسوّد وجهه، وركب قصبته. فسلَّم عليه الرجل، وقال له: مسألة. فقال المجنون: سل ما يعنيك، وإياك وما لا يعنيك. قال الرجل: فقلت مجنون والله، ثم حدثته أني أصبتُ من النساء بلاء، وآليت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة نفس، وأنت تمام المائة. فقال اعلم أن النساء ثلاث. واحدة لك، وواحدة عليك، وواحدة لا لك ولا عليك. فأما التي لك، فشابة طرية لم تمس الرجال؛ فهي إن رأت خيراً حمدت، وإن رأت شراً قالت: كل الرجال على مثل هذا. وأما التي عليك، فامرأة ذات ولد من غيرك، فهي تسلخ الزوج لتجمع لولدها. وأما التي لا لك ولا عليك، فامرأة قد تزوجت قبلك. فإن رأت خيراً قالت هكذا يجب، وإن رأت شراً، حنت إلى زوجها الأول. فأعجبني كلامه، وملأ نفسي، فسألته ما الذي غير من أمره: قال. رشحت للقضاء، فاخترت ما ترى على القضاء

فهذي طرف تضحك بادئ ذي بدء، فإذا تأملها الإنسان وجد في عمل أصحابها العقل الحسن؛ والتدبير الحازم، والرأي السديد

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 26

‌الحب عند المتنبي

للأستاذ حسن الأمين

هل أحب المتنبي وهل أحس بلواعج الوجد وتباريح الغرام؟ هل استطاعت امرأة أن تخلب لبه وتفتن قلبه، فيشيد بها ويتغنى بجمالها ومحاسنها؟

إذا أردنا أن نتخذ شعر المتنبي دليلاً على ترجيح السلب أو الإيجاب، وإذا أردنا أن نرجع إلى ديوانه لندلي بالجواب؛ فإننا نستطيع أنه نقول بدون تردد إن المتنبي لم يعرف الحب ولم يعانه، فالذي يقول:

وما العشق إلا غرة وطماعة

يعرض قلب نفسه فيصاب

وغير فؤادي للغواني رمية

وغير بناني للزجاج ركاب

إن الذي يقول هذا القول لا يمكن أن يكون من أهل الحب بل هو من الهازئين بالحب وأهله المشنعين عليهم الرامين لهم بالضعف، فالحب عنده غرة وطماعة، وليس من رأيه أن القلب يرمي من حيث لا يحتسب، بل من رأيه أن القلب هو الذي يعرض نفسه لهذه الغرة والطماعة فيصاب، ولو شاء هذا القلب ألا يصاب لما أصيب وهذا قلبه فإنه لم يشأ أن يصاب فلم يصب. ولم يسكت المتنبي عند هذا القول، بل ردده في مواضع شتى فقال:

مما أضر بأهل العشق أنهم

هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا

تفنى عيونهم دمعاً وأنفسهم

في إثر كل قبيح وجهه حسن

فالذي يراه المحبون حسناً فتفنى عيونهم به وتذوب نفوسهم ليس إلا الوجوه فقط، وأما النفوس فإنها قبيحة لا خير فيها، ولو أنهم اطلعوا على ما وراء هذا الحسن الخادع لما أضر بهم عشقهم، ولكنهم أحبوا وعشقوا، دون أن يمنعوا في التأمل بحقائق الدنيا، فلم يعرفوا دخائل من أحبوا، ولم يفطنوا إلى ما ينطوي عليه من غدر ومخاتلة وخداع. وهذا الرأي القاتم متأت ولا شك عن نظرة المتنبي للناس عامة ذكوراً وإناثاً، فلا تحسب المرأة أن المتنبي من أعدائها وحدها، فهو ثائر على الكون ناقم على البشر جميعاً، لأنه يرى نفسه مهتضماً مغيظاً لا يبل له أوام ولا يجاب نداء، وهذا الرأي هو صدى لرأيه القائل:

ومن عرف الأيام معرفتي بها

وبالناس روى رمحه غير راحم

وبعد أن يعلن المتنبي رأيه بالعشق وأهل العشق يلتفت إلى الغانيات المغريات، فيجبههن

ص: 28

بأعنف القول وأمر الكلام ويخاطبهن بقسوة وتهكم صارخاً بهن:

تحملوا حملتكم كل ناجية

فكل بين على اليوم مؤتمن

فلا التهديد بالرحيل ولا الوعيد بالهجر، استطاع أن يلين قلبه ويميل به إلى الهوى، بل أعلن بأن البين لن يضيره، وأن النأي لن يزعجه. ولماذا يهتم ببعدهن ويشغل نفسه بهن، ولماذا يحزن لفراقهن ويأسى على رحيلهن ما دامت مهجته وحدها هي التي ستتحمل عبء ذلك كله، وما دام لن يجد لهذه المهجة إذا ذابت شوقاً وتلاشت حنيناً - لن يجد عوضاً عنها في الظعائن وثمناً لها في الهوادج!

ما في هوادجكم عن مهجتي عوض

إن مت شوقاً ولا فيها لها ثمن

وإن الذي يقول:

وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق

محتقر في همتي

كشعزة في مفرقي

والذي يقول عن نفسه وعن الناس:

ودهر ناسه ناس صغار

وإن كانت لهم جثث ضخام

وما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام

إن الذي يقول هذا القول لا يكون غريباً عليه أن يرى مهجته أسمى من أن يذيبها شوق لمخلوق، ونفسه أعظم من أن يقتلها حب لإنسان

وإذا كنا قلنا آنفاً إن المتنبي ناقم على الناس جميعاً وإن ثورته ليست على المرأة وحدها، فهذا لا يعني أن ليس له فيها نظرة خاصة. فقوله:

إذا عذرت حسناء وفت بعدها

فمن عهدها أن لا يدوم لها عهد

وقوله:

ومن خبر الغواني فالغواني

ضياء في مواطنه ظلام

إن هذا القول صراحة في تخصيصه إياها بالشطر الوافي من حملاته على بني الإنسان وصراحة رأيه السيئ بها، بل إن هذا القول يضعه في صف خصومها الألداء وأعدائها الأشداء، على أنه ربما كان أحسن وصفها كل الإحسان وأنصفها كل الإنصاف حين قال:

وإن عشقت كانت أشد صبابة

وإن فركت فأذهب فما في فركها قصد

ص: 29

وإن حقدت لم يبق في قلبها رضاً

وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد

ولكن المتنبي صاحب هذه الآراء القاسية في المرأة والغرام لم يستطع أن يجرد شعره من الغزل فقد افتتح كثيراً من قصائده بالغزل وتحدث عن الحب والنساء، وتظاهر بالهوى وشكوى النوى، وشارك العاشقين في بث الوجد وذكر الوصل والصد، حتى أنه أغرق في ذلك أحياناً إغراقاً حاول فيه أن يتسمى بالعاشق كل العاشق:

وما أنا إلا عاشق كل عاشق

أعق خليليه الصفيين لائمه

وأن يجعل عشقه فوق كل عشق:

وطرف إن سقى العشاق كأساً

بها نقص سقانيها دهاقا

وأن يكون شاعراً غزلاً:

أحيا وأيسر ما عانيت ما قتلا

والبين جار على ضعفي وما عدلا

فهو يتحدث عن حب قاتل يعجب معه كيف يبقى حياً، ويتحدث عن بين جار عليه فلم ينصف ضعفه. ولا يقتصر على هذا الحديث الإجمالي عن الحب بل يعود فيخاطب حبيبة بعينها فيتضرع لها تضرع الولهان:

بما بجفنيك من سحر صلى دنفاً

يهوى الحياة وأما إن صددت فلا

ثم يسهب بوصف عواطفه الغامضة في عدة أبيات يصل بعدها إلى ما أراده من مدح أحد الناس وينتهي الأمر. وهكذا يبدو غزله بوجه عام، فهو إما أن يرتفع قليلاً عن هذا المستوى أو ينحط عنه قليلاً أو كثيراً، ومهما ارتفع أو انحط فهو غزل لا طائل تحته، ولا عاطفة تذكيه ولا شعور يوريه ويسف أحياناً كل الإسفاف فيقول:

أوه بديل من قولتي واها

لمن تأت والبديل ذكراها

أوه لمن لا أرى محاسنها

واصل واهاً وأوه مرآها

والمتنبي نفسه يعلن رأيه في هذا الغزل الفاشي في بعض قصائده ولا يحجم عن أن يقول إنه سير على سنن غيره من الشعراء، وأن طريقة الشعر قد اقتضت هذا، وأن افتتاح القصائد بالغزل ليس دليلاً على الحب والغرام:

إذا كان مدح فالنسيب المقدم

أكل فصيح قال شعراً متيم

وكأن المتنبي صاحب الدعوة ضد الحب والمرأة قد خشي أن يؤخذ عليه غزله وأن يعتبر

ص: 30

تناقضاً مع آرائه الصريحة فاعتذر عن هذا الغزل وأعلن حقيقته، وأنه ليس في الواقع الغزل الذي عرفه الناس ونظمه الشعراء، بل هو غزل رمزي يخفي تحته شعوراً غير شعور الغرام، وحباً لغير المرأة، وشغفاً بغير ثناياها الغر وأحداقها النجل، فبعد أن افتتح قصيدة بالغزل المألوف عاد يقول:

محب كني بالبيض عن مرهفاته

وبالحسن في أجسامهن عن الصقل

وبالسمر عن سمر القنا غير أنني

خباها أحبائي وأطرافها أسلى

عدمت فؤاداً لم تبت فيه فضلة

لغير الثنايا الغر والحدق النجل

فما حرمت حسناء بالهجر غبطة

ولا بلغتها من شكي الهجر بالوصل

وهو في بيته الثالث عنيف متشدد وفي بيته الأخير مستهزئ بلذائذ الوصال مستهتر بالهجر لا يرى أن غضب الحسناء وهجرها يمكن أن يحرم المرء أية غبطة ولا أن وصلها يمكن أن يجلب أية سعادة وهذه أقسى مظهر من مظاهر آرائه الصلبة. على أننا لا نستطيع أن نجرد جميع غزله من العاطفة والشعور فلا شك أن في القليل من بعضه عاطفة جياشة وحساً نابضاً ولكن ليس الحب وليست المرأة هي مصدر ذلك، بل هي ذكريات أيام سوالف وأشواق إلى منازلة نائية وأهل بعيدين كأن يقول:

ما لاح برق أو ترنم طائر

إلا انثنيت ولي فؤاد شيق

أو يقول:

وكيف التذاذي بالأصائل والضحى

إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا

فيا شوق ما أبقى ويالي من النوى

ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى

أو يقول:

ليالي بعد الظاعنين شكول

طوال وليل العاشقين طويل

يبن لي البدر الذي لا أريده

ويخفين بدراً ما إليه سبيل

وما عشت من بعد الأحبة سلوة

ولكنني للنائبات حمول

إذا كان شم الروح أدنى إليكم

فلا برحتني روضة وقبول

وما شرقي بالماء إلا تذكراً

لماء به أهل الحبيب نزول

وما أدرانا أن لا يكون وهو يرسل هذا الشعر وأمثاله إنما يذكر تلك العجوز الذي رأينا

ص: 31

إشفاقه عليها وشغفه بها في رثائه لها، وأنه يذكر أيام صباه الماضية في بلده بين أهله وقومه:

أما الأحبة فالبيداء دونهم

فليت دونك بيد دونها بيد

ولا بد لنا ونحن في الحديث عن غزله من أن نلم بالأبيات الجميلة التي تغزل فيها بالأعرابيات وعرض بالحضريات:

ما أوجه الحضر المستحسنات بها

كأوجه البدويات الرعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

أين المعيز من الآرام ناظرة

وغير ناظرة في الحسن والطيب

أفدي ظباء فلان ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ومن هوى كل من ليست مموهة

تركت لون مشيبي غير مخضوب

ولا شك أن هذا الغزل البدوي، والتظاهر بالشغف بالأعرابيات إنما هو أثر من آثار النقمة على المرأة فقد اتخذ من بساطة البدويات وسيلة للحملة على غادات المدن وانشغالهن بالزينة والتطرية والتجميل فتهكم على أصباغهن ومساحيقهن، وهزأ بمضغهن الكلام وشبههن بالمعزى، وعاب عليهن تمويه الحقائق وجردهن من كل محمدة وحسن، ومع ذلك ومع أنه اتخذ الأعرابيات ترساً بتواري وراءه في الهجوم على الحضريات فإن سجيته أبت إلا أن تتغلب عليه فلم يستطع أن يترك ثناءه على نساء البدو خالصاً لا شائبة فيه، بل عاوده داؤه المزمن في الغضب على الجنس البشري والنقمة على بني الإنسان فغمز من البادية وأهل البادية غمزة قاسية:

فؤاد كل محب في بيوتهم

ومال كل أخيذ المال محروب

حسن الأمين

ص: 32

‌إلى الرجال والنساء

الغرام السوقي. . .

للشاعر الأستاذ محمد الأسمر

هذه القصيدة تصف ناحية من النواحي الاجتماعية التي إذا تركت وشأنها انقلبت وباء، وأودت بسعادة الأسر رجالاً ونساء وأطفالا. وهل هناك أشد خطراً على سعادة الأسرة من أن يقع الزوج في حبائل خادعة له تصرفه عن زوجته وأولاده، أو تقع الزوجة في حبائل خادع لها يصرفها عن زوجها وأولادها. إن غراماً ينشأ بين زوج وأخرى غير زوجته، أو بين زوجة وآخر غير زوجها غرام سوقي قائم على الحب الزائف لا على الحب الذي يجلب السعادة للمحبين، خصوصاً إذا كانت بطلة هذا الغرام إحدى بنات الليالي المعروفات بالأرتستات، وقد تناول الشاعر في قصيدته تلك هذه الناحية الاجتماعية وبعض ما يتشعب منها. وجعل إهداءها إلى صديقه الأستاذ كامل الشناوي:

لا يُلهينَّك تغريدُ العصافيرُ

وناعم الريش عن نَقْر المناقيرِ

وأحذرْ من القطة الملساء إن لها

أنيابها، ولها خدش الأظافير

ورُبَّ حسناء أمسى بعض ما صنعتْ

بالناس وهو أحاديث الجماهير

فاحذر غوانيّ إن صدَّتْ وإن وصلت

فهنَّ أشبه شيءٍ بالمناشير

يُصبِينَ حتى أخا سبعينَ ليس له

صباً فتسخو يداه بالدنانير

هُنَّ التواجرُ في كل الأمور فما

يسقطن إلا على القوم المياسير

وهنَّ حولَ الذي يُلقي بلقمته

شواخص الطرف أشباه السنانير

حتى إذا نَضبتْ يوماً موائده

بحثن عن غيرها بحث المساعير

فاحذر شوارد منها لا رقيب لها

ولا تَغُّرَّنك رباتُ المقاصير

كم من قصور حَوَتْ أركانُها دنساً

تَعجَّبت منه أركان المواخير

تلك الغواني غواني السوق ليس لها

خِلٌّ ولو كان وهَّابَ القناطير

وما شكرن يداً أسدت لهن يداً

بل هن في الأخذ أشباه الأعاصير

يبيت في أسرهنَّ المرءُ مبتسماً

يخدعَنَّهُ فهو وضاح الأسارير

فيا عجيباً تراه وهو مغتبطٌ

ولو درى لرأى سُخرَ المقادير

ص: 33

هذا وكم من رجال أدنياَء لهمْ

إن صادَفوا غِرَّةً فتكُ المغاوير

وإن أحاطوا بسرٍ ليس يعرفه

سواهُم أعلنوه بالمزامير

ومنهُم معشرُ أعداءُ أمتهم

لهم غرام بأعراض المشاهير

مُبالغون، وقد تلقاهم وضعوا

ما يأفكون به وضع الأساطير

يا ويحَ من أعرضوا عن بحث أنفسهم

ويبحثون سواهمْ بالمناظير

لو أن كل امرئ يمنى بحالته

لم يمشِ قومٌ لقومٍ بالأخابير

ومن تأمل يوماً ما صحيفتهُ

الهاه ذلك عن فحص الأضابير

يا لهف نفسي على (الزوجات) ضيَّعها

من الرجال بعولُ كالطراطير

تخْفى الحقائق عنهم وهي واضحة

فينظرون إليها كالسمادير

ولا يثورون بركاناً له حَممٌ

لكن يثورون أشباه القراقير

كيف اطمأنوا فناموا عن حدائقهم

: سرى اللصوص فما نوم النواطير؟!

وكل بستان وردٍ نام صاحبه

عن حفظه فهو منهوب الأزاهير

ولهفَ نفسي على (زوج) تُدَنِّسهُ

قرينةٌ زوجُها زوجُ الفوازير

من الغوامض، لا رملُ يُبينَّها

ولا شيوخ قعود بالطوامير

من اللواتي إذا ما ريبةٌ عرضت

فهُنَّ ما هنَّ في خلق المعاذير!

فيا لها من ظلام غير منكشف

يلوح كالصبح وضّاح التباشير

الله للناس، عمَّ الشرُّ وامتلأت

أسواقه بالأباليس المناكير

فاحذر، وحذر، وأصلح ما استطعت ولا

تبغ الفساد، ورفقاً بالقوارير

ص: 34

‌البريد الأدبي

الرصافي يغضب ويتبرأ

فوجئت بالرد الذي نشره الأستاذ الرصافي وأنا بعيد عن القاهرة. وقد اتهمنا فيه (1) بأننا بدلنا أقواله (2) ولم نكن أمناء في نقلها (3) وبأنه استنتج من ذاك أننا لم نقرأ التعليقات قراءة مستنيرة بل مررنا بها مروراً خاطفاً، (4) وبأن يداً خفية تحركنا (!!)(5) وبأننا حاقدون عليه (6) وبأننا نعرف آداب البحث والنقد والمناقشة لكننا ضربنا صفحاً عنها في تناول تعليقاته لسبب لا يعرفه (7) وبأننا خلطنا بين آراء الفلاسفة اليونانيين في وحدة الوجود، وآراء الزنادقة من متصوفة المشرق (8) وبأن الغيرة الدينية هي التي أعمت بصائرنا عن الحق (9) ثم ذكر أنه ليس متصوفاً، وطلب إلينا أن نسأل الذين يعرفونه ليثبت لنا ذلك (10) وأنه لا يدعو إلى شيء كما هوّلنا نحن بذلك لدى العامة (!)(11) ثم ذكر أننا نتجنى على المتصوفة حين نتهمهم بميلهم إلى اللذائذ الجنسية الخسيسة وتحللهم من الشرائع والقوانين والآداب العامة. . . إلى آخر هذا التخبط ونعود فنقول بأننا الآن بعيدون عن القاهرة. . . فليست أعداد الرسالة التي سفهنا فيها تعليقات الأستاذ الجليل تحت أيدينا لنرى مقدار ما شوهدنا أقواله، ما دام هو لم يجرؤ أن يقدم لنا دليلاً واحداً على هذا التشويه. وليست رسائل التعليقات تحت أيدينا كذلك، فقد أعطيناها لصديقنا الدكتور زكي مبارك ليرى فيها رأيه (وذلك منذ شهر تقريباً). . . ونحن نطمئن الأستاذ الرصافي على سلامة تفكير الجمهور من القراء في مصر وفي العالم العربي. . . لأنه جمهور لا يكتفي بأن يقال له إن كل ما ذكره دريني خشبة عن الأستاذ الجليل معروف الرصافي باطل ملفق ليصدق هذا القول. . . ويسرنا أن نعترف للأستاذ الرصافي بأنه صحيح أن يداً خفية تحركنا للرد عليه. لأنها يد الله التي تمحق الباطل والمبطلين دائماً. الله الذي نتواضع في الإيمان به هذا الإيمان الفطري الساذج الذي لا يوقعنا في لغو اللاغين وتناقض المتناقضين، بعد أن بلونا من مثل ما يبلو أخونا الرصافي الآن ألواناً وألواناً. . .

إلا أنني لا أستطيع أن أسكت، حتى أعود إلى القاهرة بعد شهر أن شاء الله تعالى، دون أن أعرض على العقلاء في العالم الإسلامي كله جانباً من هذا الذي عاد الأستاذ الجليل معروف الرصافي فتحدث إلينا به في رده المتهافت، وذلك بخصوص استواء المتناقضات أمام الله لا

ص: 35

أمام الناس:

لما كان الصوفية يقولون: كل ما وقع في هذا الكون فهو حق، وأنه لا باطل إلا المحال كما هو مذكور في رسائل التعليقات، تساوت عندهم المتضادات، فالشر كالخير، والضلال كالهدى، كلاهما حق، لأنه واقع، ولو كان باطلاً لما وقع، لأن الباطل هو المحال الممتنع الوقوع، ولكن هذا التساوي في المتضادات إنما هو بالنسبة إلى الوجود الكلي - أي إلى ذات الله - لا بالنسبة إلينا، فذات الله في رأيهم لا يصدر عنها الباطل، بل كل ما صدر عنها فهو حق، وهم يستدلون على ذلك بآيات من القرآن كما هو مذكور في رسائل التعليقات

. . . . . . . . . ولا بد أن الأستاذ خشبة قد قرأ كتاب التصوف الإسلامي للدكتور زكي مبارك واطلع على ما نقله عن الجيلي من أن الله هو الهادي وهو المضل، وأن الضال متحقق بصفة الضلال، كما أن المهتدي متحقق بصفة الضلال، وأنهما أمام الله سواء، كما هو مذكور في رسائل التعليقات أيضاً، وهذا صريح في أن تساويهما إنما يكون أمام الله، أي بالنسبة إلى الله، لا بالنسبة إلينا)

فما رأي العقلاء في العالم الإسلامي كله في هذا؟!

لقد فزع الدكتور زكي مبارك (نفسه!) من الأخذ بهذا الضلال، وفزع منه على الأخلاق والقوانين والشرائع، فطمأنه الأستاذ الرصافي بأن التساوي إنما يكون أمام الله لا أمامنا نحن، أي بالنسبة إلى الله لا بالنسبة إلينا. . . لأننا لا وجود لنا، لأن الوجود الكلي المطلق هو الله. . .

إن الأستاذ الرصافي يطلب إلينا تفسير الآيات التي استشهد بها المتخبطون على لغوهم هذا، وهو يطلب إلينا ذلك ظاناً أنه يوقفنا أمام مشكل صوره له اضطرابه. ونحن نطمئنه، لأننا سوف نعود إليه،. . . ثم نسأله هل ينكر أنه ينكر البعث كما يؤمن به المسلمون، وأنه ينكر القرآن كلام الله، بل هو كلام محمد ألقى في روعه أنه يقوله بلسان الله، وأنه لا معنى للعقاب والثواب والحساب إلا على الصور الجنونية التي زخرفها له وسواسه، وأنه ينكر الأدعية، ومنها الصلوات، لأنها لن تغير من قوانين (الوجود الكلي المطلق شيئاً)؟!

وبعد. . . فهل صحيح أن الرصافي لم يدعنا إلى شيء؟! هل نسي ما علق به على ذلك

ص: 36

المستشرق الإيطالي الجاهل؟ ألم يطلب إلينا أن نفيق؟! نفيق مم يا ترى؟!

وإلى عود قريب إن شاء الله. . .

دريني خشبة

إلى الأستاذ زكريا إبراهيم

ما هذا يا أخي؟ لماذا قطعت أحاديثك عن وحدة الوجود بعد إذ بدأتها؟ ماذا حدث؟

د. خ

إلى الأستاذ الجليل النشاشيبي

ذكرت أيها الأستاذ الجليل في العدد (576) من الرسالة الغراء ضمن (نقل الأديب) التي لا يفي بمدحها لسان أو بيان قصة ابن يعيش حينما أخذ يسرح قول ذي الرمة:

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقا. . . آأنت أم أم سالم

فأطال القول في ذلك، بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن، ولكن الفقيه الذي كان يقرأ عليه ويسمع منه سأله بعد كل ذلك: إيش في هذه المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ فتندر عليه الشيخ قائلاً: تشبهها في ذنبها وقرونها! فضحك الحاضرون، وخجل الفقيه، ولم يعد إلى المجلس بعد ذلك! هذا ولم تعلق على القصة بشيء. . .

ولكن ما رأي الأستاذ الجليل حينما يعلم - وهو خير من علم ويعلم - أن ما ذكره الشيخ موفق الدين على سبيل التندر والانبساط قد ورد على سبيل الجد والنقد، وأوخذ به ذو الرمة من جارية معاصرة له، وقد أقر الشاعر لها بهذه المؤاخذة، واحتال عليها بالمال كي تكتم هذا العيب؟ ذكر ابن الجوزي في كتابه (الأذكياء) ص 165 القصة التالية:

دخل ذو الرمة الكوفة، فبينا هو يسير في بعض شوارعها على نجيب له إذ رأى جارية سوداء واقفة على باب دار، فاستحسنها ووقعت بقلبه، فدنا إليها فقال: يا جارية! اسقني ماء! فأخرجت إليه كوزاً فشرب، فأراد أن يمازحها ويستدعي كلامها، فقال: يا جارية! ما أحر ماءك!. فقالت: لو شئت لأقبلت على عيوب شعرك وتركت حرّ مائي وبرده، فقال لها: وأي شعري له عيب؟ فقالت: ألست ذا الرمة؟ قال: بلى. قالت:

فأنت الذي شبهت عنزاً بقفرة

لها ذنب فوق استها أم سالم

ص: 37

جعلت لها قرنين فوق جبينها

وطبيين مسودين مثل المحاجم

وساقين إن يستمكنا منك يتركا

بجلدك يا غيلان مثل المآثم

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقا آأنت أم أم سالم؟!

قال: نشدتك بالله إلا أخذت راحلتي وما عليها ولم تظهري هذا؛ ونزل عن راحلته فدفعها إليها، وذهب ليمضي فدفعتها إليه، وضمنت له ألا تذكر لأحد ما جرى!

هذه هي القصة، فما رأي الأستاذ الجليل؟. .

أحمد الشرباصي

خريج كلية اللغة العربية

ص: 38