المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 582 - بتاريخ: 28 - 08 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٨٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 582

- بتاريخ: 28 - 08 - 1944

ص: -1

‌العمالية الفكرية

للدكتور محمد مندور

نقصد بالعمالية الفكرية نشوء طبقة اجتماعية جديدة ينزل قيها المشتغلون بالمسائل العقلية منزلة العمال بما لهم من حقوق ومطالب ومشكلات على نحو ما شاهد النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالنسبة للعمال اليدويين، وبخاصة عمال الصناعة؛ وتلك مشكلة ستتمخض عنها الحرب بعد أن مهدت لها الحرب السابقة. ولفهمها لا بد من إلقاء نظرة عابرة على قيمة العمل الإنساني خلال التاريخ، وتطور تلك القيمة إلى يومنا هذا.

في العصور القديمة كان العمل من اختصاص العبيد، وأما المواطنون فكانوا يرون عاراَ أن يزاول أحدهم بنفسه زراعة أو صناعة، ولقد أثقلت هذه النظرة تاريخ الإنسانية، وجاهد المفكرون وطلائع البشر في رفع هذا الثقل قروناً طوالَا، بالرغم من أن الإنسانية قد اجتمعت كلمتها على إلغاء الرق؛ فأنه لا يزال العمل ينظر إليه إلى اليوم نظرة لا تتفق مع قيمته الحقيقية من حيث أنه منبع الثروة الوحيد. ومن غريب الأمر أن قدماء الإغريق أنفسهم قد فطنوا إلى قيمة العمل، فجسمها أرسطوفانيس المؤلف الكوميدي الشهير في رواية رائعة هي بلوتس - إله الذهب وهذا إله أعمى قالوا إن الآثينيين ضرعوا إلى الإله الطبيب أيسكيلاب أن يشفيه من عماه فيقيم بمدينتهم اعترافاً بالجميل؛ وهذا ما كان. واستوطن الإله بآثينا، وإذا بالسماء تمطر الذهب حتى غصت به الطرق والحارات، وأمسك جميع السكان عن العمل اكتفاء بهذا الذهب الوفير يغرفون منه لقضاء حاجاتهم. ولكنهم لم يلبثوا بعد أيام أن رأوا المنتجات تنفد، وإذا بهم يتضورون جوعاً والذهب تحت أرجلهم. وهال عقلائهم الأمر، فخفوا إلى الإله الطبيب يرجونه أن يسكب في عين إله الذهب ما يذهب ببصره ثانية، حتى يستطيعوا آسفين معتذرين أن يقودوه خارج مدينتهم لترتفع عنهم تلك المحنة القاسية، محنة الذهب، ويعودوا إلى نشاطهم المثمر، يعودوا إلى الكد وعرق الجبين الذي ينتج من الخيرات ما يشبع حاجاتهم الحيوية، هذا ما رآه الإغريق القدماء، أما رآه أحد كبار مفكريهم، ومع ذلك ظل العمل من اختصاص الرقيق، ولم يستطع أن يتمتع بما له من واجب الاحترام، بل التقديس، وهذا أمر بديهي، فأنت تستطيع أن تملأ خزائنك بالمال،

ص: 1

وتترك هذا المال بالخزائن طوال السنين، ثم ترى أنه لم تنتج شيئاً، وإنما المنتج كد الرجال

وفي خلال القرون الوسطى لم يتغير الموقف، فكان الرجال ملحقين بالأرض، تنتقل ملكيتهم بانتقالها من يد إلى يد. ولم يتحرر البشر إلى حد ما إلا عندما أخذت المدن تتكون وتنشا بها طبقات اجتماعية جديدة من الصناع والتجار. ومن المعلوم أن نشأة هذه المدن هي التي مهدت السبيل لمناهضة أمراء الإقطاع، والقضاء على نفوذهم القاسي، وقد اعتمد عليها الملوك في انتزاع السلطة من يد المراء وتوحيد الممالك. وفي مقابل ذلك كان الملوك يمنحون تلك المدن وثائق بها كثير من مبادئ التحرر السياسي والاقتصادي. ومع هذا فإن الحريات التي أعطيت للمدن لم يصب العامل منها إلا خيراَ يسيراَ، وذلك لأن رق الإقطاع قد قابله في المدن تكوين اتحادات عمالية كانت لرؤسائها على أفراد العمال حقوق ثقيلة. وفي الحق إنه لم يكن بد لكي يسترد العمل كرامته من أن تظهر الشخصية البشرية أولاً في الهيئة الاجتماعية، ويسلم لها باستقلالها الذاتي لتستطيع بعد ذلك أن تنضم إلى اتحاد أو نقابة راضية مستنيرة. وتحرير الشخصية البشرية من رق المجموع هو الكسب العظيم الذي كسبته الإنسانية في عصر النهضة الذي وضع حداً للقرون الوسطى. فمنذ ذلك العصر نستطيع أن نقول إن فجر الإنسانية قد تنفس

ثم اخذ المفكرون يبحثون في منابع الثروة ووسائل الإنتاج، وعلاقة الإنسان بكل ذلك. ولما كانت الصناعات لم تنشأ بعد، فقد رأى الباحثون في الاقتصاد عندئذ أن الزراعة هي المصدر الوحيد للثروة، وأما الصناعة فما هي إلا تحويل للمواد الأولية التي تنتجها الزراعة، فهي لا تخلق جديداَ، والتجارة ليست إلا نقلاً للمنتجات

وجاء القرن التاسع عشر باختراعاته العظيمة وأخذت الصناعات تنشأ، ففطن المفكرون إلى أن الإنتاج الاقتصادي ليس تكوين شيء من العدم، والعدم لا ينتج شيئاً، وإنما هو خلق لقيم اقتصادية جديدة، ومقدرة على إشباع الحاجات الإنسانية المختلفة؛ فالمادة الأولية بتحويلها تصبح قيماً جديدة وتشبع حاجات جديدة، وأنث كذلك إذا نقلتها من مكان لا يحتاجها فيه أحد إلى مكان تطلب فيه تعطيها قيمة جديدة أيضاً. وهكذا دخلت الصناعة والتجارة في ميدان الإنتاج، وكان في المناقشات التي دارت حول منابع الثروة وإنتاجها ما انتهى بالمفكرين إلى تقدير العمل الإنساني. ولكن التقدير شيء، والتسليم بحقوق هذا العمل شيء آخر؛ ثم إنه

ص: 2

كان تقدير المفكرين، وهؤلاء في كل العصور نفر من الخاصة، والأمر لم يكن يوماً لسوء الحظ بيدهم ليستطيعوا تحقيق نظرهم عملاً، فهم طلائع البشر ولكنهم ليسوا قادته الفعليين. ومع ذلك فقد كان في سبقهم إلى تقدير قيمة العمل البشري قيمته الحقة ما أيقظ ضمائر العمال؛ ولهذا عند ما ظل أصحاب رءوس الأموال متخلفين عن مسايرة العقلية الجديدة لم يلبث التصادم أن نشأ بينهم وبين عمالهم. ورأى العامل أنه لا يستطيع أن يقاوم بمفرده فتكونت النقابات، واجتمعت النقابات في اتحادات، واستعرت روح الطبقات واحتدم الكفاح بينها، حتى انتهى الأمر إلى الحركات الاشتراكية والشيوعية المعروفة، وحتى في البلاد التي حافظت على الملكية الفردية كحافز قوي للإنتاج لم تفلت لم نظمها الاقتصادية، من أن تتأثر بالكثير من المبادئ الاشتراكية بحيث يمكن القول بان الديمقراطية ذاتها قد أصبحت في جميع بقاع الأرض ديمقراطية اشتراكية، أو اجتماعية إذا أردت أن تتجنب اللفظ

هذا الجهاد الإنساني الطويل قد انتهى إلى الإقرار بقيمة العمل اليدوي والتسليم لطبقة العمال، وبخاصة في الصناعة، بالكثير من حقوقها، وهي لم تمنح تلك الحقوق بل أخذتها أخذاً، بحيث نستطيع أن نقول إن العمال في معظم بلاد أوربا كانوا قد وصلوا قبل الحرب الحاضرة إلى درجة محمودة من الرخاء لم يصل إليها المشتغلون بالأعمال العقلية. ولقد رأيت في فرنسا قبيل هذه الحرب العامل المتخصص يكسب ما لا يقل عن ثلاثين جنيهاً شهرياً، بينما ُيعطى القاضي الفرنسي ثمانية عشر جنيهاً. ولقد رأيت في جميع أنحاء أوربا أن الطبقة المهضومة لم تعد طبقة العمال، بل طبقة أولئك العقليين، فبينهم تفشت البطالة، وعن حقوقهم سكتت الهيئة الاجتماعية، وذلك لأن إنتاجهم غير ملموس النتائج، وأفرادهم لم ينظموا بعد في نقابات أو اتحادات. هنالك تجد الموظف تحت رحمة الحكومة، والصحفي مستذلا لصاحب الجريدة، والكاتب يتحكم فيه الناشر، والمتعلم يبحث عن عمل فلا يجده. وليس من شك في أن الإنسانية التي لا يمكن أن تفنى لابد ملتمسة علاجاً لهذه الحالة الصارخة. ولقد عدت إلى مصر فوجدت البلوى أعم: نقابة للصحفيين لم أر لتكوينها مثيلاً في العالم، فهي تضم العمال وأصحاب العمل، ومن الطبيعي أن يتحكم هؤلاء في أولئك. والوضع الطبيعي أن ينفصل كل في نقابته، وأن تتفاوض نقابة مع نقابة لا أن يجتمعوا سوياً كقطط وفيران في مصيدة واحدة. ورأيت أثرياء يخشون أن تطالبهم الحكومة بما يجب

ص: 3

أن يدفعوه من ضرائب فيصيحون بها أن أمسكي عن إنصاف المظلومين من الموظفين، وقد عضتهم الحياة بأنيابها، مع أن الضرائب في بلادنا قلما تصل إلى أكثر من 12 % بينما هي لا تنحط في أي بلد أوربي أثناء السلم عن 36 % على نسب تصاعدية عادله. ورأيت ناشرين من التجار الجشعين، يتحكمون في عقول الكتاب وأقلامهم، وينزلون بهم إلى حد الدعارة العقلية لتروج البضاعة التي يقبلونها منهم. وأخيراَ كم بين المتعلمين من عاطلين؟! ولقد جاءت تلك الحرب فقلبت أوضاع الحياة الاجتماعية، فإذا بالعزيز ذليل والصعلوك ثري كبير، ونمت روح الدجل والنصب والاحتيال والنفاق حتى لأعتقد مؤمناً أنه لا بد لتستقيم الحياة الاجتماعية من أن يعاد إليها اتزانها بأية وسيلة كانت

ليست هناك هيئة اجتماعية تستحق الاحترام إذا لم يقدس فيها الفكر، وهذا الفكر هو القوة التي نسيطر بها، لا على النفوس فحسب، بل على المادة أيضاً. وهاهي الحرب قد أوشكت أن تنتهي، وأنا على ثقة من أن العمالية الفكرية ستحزم أمرها، وهي التي تقود الرأي العام، فتطالب بحماية حقوقها وتوفير كرامتها وضمان استقلالها المادي حتى لا يستذلها أحد. وإنه لمن غريب الأمر ألا ترى ببلادنا إلى اليوم قانوناً يحمي الملكية الأدبية والفنية، ولا نقابات للعقليين الذين يزاولون النشاط الحر والثقافة غير المهنية، وإذا أريد لتلك النقابات النجاح، فمن الواجب أن تنحى عنها السياسة، وأن يكون تكوينها سليماً.

محمد مندور

ص: 4

‌6 - نقد رامي

للأستاذ دريني خشبة

لا نحسب أننا فرغنا من محاسن رامي حتى نخلص إلى معايبه. . . إن كانت له معايب تزري بنبله الجم، وشاعريته الرقيقة، وروحه الذي ظل للعالم العربي كله برداً وسلاماً وروحاً ونشوة أكثر من عشرين عاماً مباركاً يسكب في آذاننا شدو قلبه النابض، وغناء وجدانه الفياض، وأنات نفسه الجريحة الدامية

1 -

وأول ما يلفت النظر في حياة رامي وإنتاجه الأدبي هو انصرافه العجيب المفاجئ عن قرض الشعر، واقتصاره على توشية أغانيه المصرية الساحرة، وذلك منذ أن دخلت في حياته الآنسة أم كلثوم!. . . لماذا؟ لماذا يا ترى رضى الشاعر الإنساني أن يكون بلبلاً فحسب؟! حقيقة إنه نظم ثلاثين أو أربعين أو خمسين مقطوعة. . . ولا نقول قصيدة. . . لكنها جميعاً من ذلك النوع الذي ذكرنا آنفاً أنه يصح تسميته (خطابات منظومة) كان الشاعر يضمنها بعض بثه إلى المخلوق السعيد الذي أعاد الحياة إلى قلبه، والإيمان إلى روحه، وإن تكن حياة كلها شكوى وشك وغيرة، وإن يكن إيماناً قلقاً مزعزعاً ينضح بالدموع والآلام

لقد ذكر رامي لصديقي الشاعر الذي سفر بيني وبينه تمهيداً لكتابة هذه الفصول أن لديه مجموعة كبيرة من الشعر الذي نظمه في خلال هذه الحقبة الطويلة من عمره ولم ينشره؛ وقد حاولت أن أطلع على هذه المجموعة ولكني لم أشهدها لأن السفر أعجلني عن ذلك. . . ومهما يكن من أمر هذه المجموعة، فرامي مقصر ولا شك، وثروة الشعر العربي لن تفتأ تطالبه بعشرة أجزاء من ديوانيه الخالد الذي كان يصدره بمعدل جزء عن كل عامين؛ ونحن لا نشك في أن إنتاجه الشعري قد أصبح قلة في جانب إنتاجه الغنائي، وإن يكن قد أودع أغانيه كل ما كان يودع شعره من قطع قلبه وروحه ودموعه. . . ويسرنا أن نسجل أن شعر رامي القليل الذي نظمه في الشطر الأخير من عمره المبارك (الطويل إن شاء الله) أحسن ديباجة وأرق نسجاً، وأحفل بالموسيقى الداخلية من جميع شعره القديم الذي شملته دواوينه الثلاثة؛ ونحن نعنى بالموسيقى الداخلية ذلك التوافق الصوتي الجميل الخلاب، الذي اكتسبه رامي بلا شك من طوال اختلاطه بالموسيقيين والملحنين والمطربين. . .

ص: 5

ولعل القطعة التالية التي شدا بها فؤاده من أجل ولده، والتي تذكرنا في رامي بشاعر الإنسانية، هي خير ما نقدمه دليلاً على استنتاجنا:

يا بُنيْ! ما أُحَيْلي يا بُنيْ

أنت ظل مده الله عليّ

نعمة العمر وتذكار الصبى

والأمانيَّ التي عزَّتْ لديّ

لست أنساك جنيناً خافياً

في ضمير الغيب أدعوك إليّ

أتمناك لعيني قرة

حين ألقاك وليداً في يديّ

أرقب اليوم الذي تبسم لي

وترى آي الرضى في مقلتيّ

فأناجيك بألحان الهوى

سابقات خاطري في شفتي

كلمات هي لا معنى لها

غير أن تسمع مني أي شيِّء

فتراعيني ولا تقوى على

غض أجفانك عني يا بُنيَّ!

وتشبه هذه القطعة في موسيقاها الداخلية قطعة (القمرية) المنشورة بعدها في مجموعة مكتبة النهضة (1942)

إن رامي يستطيع فيما نعتقد أن يعدل في إنتاجه بين أغانيه المصرية وبين شعره هذا الجميل الرائع العذب. . . ولولا أنني أوثر ألا أنزلق إلى الخوض في قضية العربية والعامية الآن، لأشرت على رامي بإيداع معانيه (البكر)، التي لفتت نظر حافظ من قبل، والتي ضمنها أغانيه المصرية، حينما طغت هذه الأغاني على أشعار رامي،. . . لأشرت عليه بإيداعها بعض قصائده، ليكسب بها الشعر العربي ثروة ثمينة خالدة. . . ولكن. . . هل هذا مستطاع

2 -

ولن نعرف الرحمة ولا (الذوق!) ونحن نأخذ على رامي جنايته على الغناء المصري، أو الغناء العربي الحديث، بتركه تلك الفرصة الذهبية النادرة التي أتاحها الله له ليجدد لنا غناءنا تجديداً كاملاً شاملاً، ولتوسيع آفاق أغانينا بإدخال الأوبرا والأوبريت، اللتين لا بد أنه يعرفهما معرفة جيدة، ويزن الفائدة الجليلة البعيدة الأثر التي كانت تعود على الموسيقا العربية ـ أقصد المصرية - والغناء المصري، لو أنه استغل هذا (التخت) العظيم الذي عاش أكثر من عشرين عاماً (يجتر) أغانيه ويرددها ويسندها ويبدأ ويعيد فيها. . . لقد أساء رامي استغلال هذا (التخت) العظيم، كما أساء استغلال دخول الآنسة أم كلثوم - في حياته،

ص: 6

فلم يوجه فيها أغانينا التوجيه الصالح الواسع الأفق، الذي يخرج بتلك الأغاني من (دنيا التخت) إلى دنيا المسرح، وإلى دنيا الأوركسترا الراقصة الطروب اللعوب. . . وقد يُعترض على هذا بأنه ليس من عمل الشاعر الذي ينظم لحساب غيره. . . ونحن نرد على ذلك بأنه كلام لا يصح أن يعتذر به لرامي المثقف الذي يعرف من فنون الثقافة الشعرية الأوربية أزهى ألوانها وأبدع ضروبها، ويعرف أن الأغنية التي ترسلها أم كلثوم على التخت، غير تلك الأغنية ذاتها إذا أرسلتها وهي تؤدي دورها في مأساة أو ملهاة أو درامة أخلاقية، لأن الأغنية حينئذ يكون لها جمالها الخارجي الذي يضيفه عليها الموضوع، لا جمالها الداخلي الذي تكسبه من ذاتها فحسب. . . ورب معترض يقول إن رامي قد صنع هذا الذي نطالبه به في أغنياته الكثيرة التي نظمها للأشرطة السينمائية الإثني عشر التي طلب إليه نظم أغانيها كلها أو بعضها. . . وأنه مؤلف (وداد ودنانير). . . ونحن نوافق على أن هذا صحيح وجميل، إلا أنه شيء آخر غير الذي نطالب به رامياً. . . إننا محرومون إلى اليوم من الرواية التمثيلية الغنائية الكاملة أو التي يصل أغانيها وكثيراً من حوارها النثر الخفيف، وهذه الرواية التمثيلية الغنائية شيء عظيم بارع في آداب أوربا وموسيقاها وهو غير موجود إطلاقاً في أدبنا أو في موسيقانا. . . فمن من شعرائنا جميعاً - غير رامي - هيأ الله له تلك الفرصة الذهبية النادرة من حيث اتصاله بالموسيقيين والملحنين والمطربين ثم أساء استغلالها كما أساء استغلالها رامي، فلم ينتفع بها في إحداث تلك الثورة التي سوف تظل أغانينا ناقصة معيبة شوهاء ما لم يجرفها تيارها، وما لم تحترق في نارها فتخرج زكية سنية ذات روح وذات لألاء وذات جوهر نقي مُصفى

3 -

ولعل غلطة رامي في ذلك - أنه قصر صداقته الفنية على أبطال موسيقي (التخت) - وهم - مع إجلالنا لهم وإعجابنا بهم والإشادة بذكرهم في غير مناسبة، قوم أميون في ثقافتهم الفنية، فهم لا يفهمون ما الأوبرا وما الأوبريت، ومن الخبال أن نطالبهم في ذلك الميدان بشيء هو ضد طبائعهم، وعكس سلائقهم الفنية، التي لا تزيد كثيراً على تكرير الغناء وتسنيده أو التمهيد له - ولذلك فنحن نستحثهم أن ينتفعوا بفرصة معهد الموسيقى والغناء المسرحي، فلا يدعوها تفلت منهم، لأن في إفلاتها القضاء عليهم. . . وهذا موضوع آخر له حينه ومقامه إن شاء الله

ص: 7

نريد أن نعيب على رامي عدم انتفاعه بأحد ممن ثقفوا الموسيقى الغربية ومرنوا فيها، بل برزوا في التأليف بها. . . والمؤلم أنه يعرف الكثيرين منهم، وأن الكثيرين منهم يعرفونه. والرجل الذي تضعه المقادير في المكان الذي يهيئ له القيام بثورة إصلاحية ثم ينكص على عقبيه، فلا ينتهز الفرصة التي هيأتها له هذه المقادير هو رجل مقصر بلا ريب، إن لم يكن شيئاً آخر لا نؤثر التعبير به

4 -

ويزيد في أسفنا - بهذه المناسبة - إعراض رامي عن التأليف للمسرح في دائرة اختصاص مواهبه الشعرية: ولعل الذين لا يعرفون ماضي رامي المسرحي يسألون: وما بال رامي، وما بال مطالبته بشيء لم يدرسه، أو لم يألفه؟ فعلى هؤلاء أن يعلموا أن رامياً قد خدم الثقافة المسرحية في مصر خدمة طيبة سيذكرها له الذاكرون دائماً؛ فقد أخذ نفسه بترجمة مجموعة كبيرة من أشهر الروايات مثلت جميعاً على المسرح المصري، وخلبت الباب نظارتها بجمال أسلوبها وحسن اختيارها ومرونة ترجمتها حتى تلائم المتوسط العام لجمهور مسرحنا، ومن هذه الروايات هملت ويوليوس قيصر والعاصفة والنسر الصغير، ويهوديت وفي سبيل التاج وجان دارك وشالون كورداي وسميراميس. . . ومجرد ذكر أسماء هذه الروايات يذكرنا بماضيها المسرحي الناجح في المسرح المصري. ولست أدري كيف يبلغ رامي هذه الدرجة من المجد الشعري، وكيف يبذل كل هذا المجهود في دنيا المسرح ولا يفكر مطلقاً في نظم الدرامة المسرحية. . . ماذا نسمي هذا التقصير الذي يحدث هوة سحيقة في مجد رامي؟ وما سبب هذا التقصير يا ترى؟ هل سببه أنه كان يخضع لمقتضيات البيئة الفنية التي كان يعمل لحسابها؟! تلك البيئة التي صرفته - أو أوشكت أن تصرفه - عن قول الشعر، وعن التفكير في نظم الأوبرا أو الأوبريت، لقد حاول رامي مرة أن ينظم الدرامة المسرحية، وكانت محاولته جيدة ناجحة، وذلك حينما نظم (غرام الشعراء) التي نشرها (في الرسالة)(على ما اذكر)، والتي مثلتها إحدى الفرق المصرية ولا تزال محطة الإذاعة الحكومية تعيد إذاعتها بين الفينة والفينة. فماذا وقر في ذهن رامي بعد هذه المحاولة؟

5 -

ومما يؤخذ على رامي أنه وقف بتجديده في الأغاني المصرية عند حد الابتعاد بها عن الابتذال القديم، وتوسيع افقها بتضمينها تصوير الطبيعة المصرية والإفاضة في تحليل

ص: 8

العواطف الإنسانية مما أشرنا إليه من قبل، ومما شكرناه لرامي الشكر الذي يستحقه؛ وقد كنا نطمع من رامي أن يذهب في التجديد إلى أبعد من هذا الحد، فكان يحاول مثلاً نظم الأغاني القصصية التي ُحرم منها الشعر المصري الحديث ذلك الحرمان المزري المعيب، فعسى أن يتحفنا الشاعر الذي عمر حياتنا بأعذب ألحانه وأرق أغانيه بهذا اللون المفقود في غنائنا المصري. . . القديم والحديث

6 -

كان أن رامي موفقاً في معظم أناشيده. . . إلا أنها وا أسفاه جاءت كلها أناشيد غنائية يصعب على الجماعة أداؤها. وليس ذلك لطبيعة تلحينها كما يتبادر إلى الذهن أول الأمر، ولكن لطبيعة تأليفها دخل كبير في ذلك. . . ومن السخف أن نطالب رامي بنشيد قومي. . . ولكن من الواجب أن نطالبه بأناشيد مصرية متنوعة يسجل فيها رامي بأسلوبه الساحر وتصويره الشاعر ونظمه العذب الدقيق: مصر الحديثة الناهضة، مصر الفلاحة العاملة. مصر التي تذهب كل صباح إلى الكتاتيب والمدارس والجامعات. . . مصر المتضامنة التي تأبى أن تتخلف عن قافلة المدنية. . . تلك القافلة التي جد بها المسير

7 -

أما لغة رامي، وموسيقى شعره الخارجية. . . أعني أوزانه وبحوره وقوافيه. . . فالنقد الذي يعنى بالناحية الجدية يستحيى أن نقول فيها شيئاً. . . عاش رامي حياة طويلة طيبة، تنبض بالحب في قلب مصر الحديثة، وعاش لمصر والشرق يملأهما شدواً وغناء وتجديداً. . .

دريني خشبة

ص: 9

‌هاهو ذا الإنسان

لحن ثائر وطبيعة منحرفة!

للأستاذ زكريا إبراهيم

شعلة متوهجة تقدح الشرر، ولهب حار تتراقص فيه النيران، وسيل جارف تتدفق منه الأمواه: تلك هي ملحمة نيتشه الفلسفية الرائعة!

إنها شعر دافئ ينبض بالحياة، ولحن ثائر يزخر بالقوة، وموسيقى صاخبة تفيض بالنشوة. . . هي فلسفة حية نبعت من قلب الوجود، وسرت في دماء صاحبها حارة فائرة، ثم تدفقت على لسانه عاصفة هوجاء تهدر وتزفر! ولكنها فلسفة قد شاقها الأفق البعيد، واستهواها النجم القصى، فلما حلقت بجناحيها كالنسر في أجواز الفضاء، وأشرفت على الوجود من قبة السماء، لعبت برأسها نشوة العلو، فتضاءل الوجود في عينيها المشدوهتين، وتصاغر الكل تحت جناحيها المنشورين!

. . . أجل، إن في شعر نيتشه سحراً غريباً يستأثر بالخيال؛ فإن الصور والمشاهد تتابع فيه كالرؤى والأحلام، والنفس تتنقل معه كأنما هي في رحلة رومانتيكية رائعة في بلاد ساحرة فاتنة: تمر بها المشاهد الأليمة المرعبة، بعد المشاهد السارة المبهجة، ويطوف بها الغريب المضحك، بعد الجليل الرائع؛ ولكن الأمر الوحيد الذي يفسد على الإنسان كل ما في نيتشه من الجوانب الوجدانية المستحبة، ويدفعه إلى النفور منه والعزوف عنه، هو تلك الكبرياء المتعالية التي اصطبغت بها فلسفته، وذلك الغرور المتطرف الذي اتسمت به أحكامه. . .

كان نيتشه يعتقد أنه نسيج وَحْدِه، ولذلك فقد اتخذ في كل مؤلفاته موقف فاوست المتمرد ذي النزعة الرومانتيكية، وثار معه على كل قانون، وكل أخلاق، وكل حياة اجتماعية. ولما تضخمت عنده شخصيته، أصبح ينظر إلى ذاته على أنها مركز للعالم كله، لا بل أستغفر الله، على أنها تستوعب العالم كله وتضمه تحتها! فإذا قال نيتشه بفكرة، فقد وجب ألا يكون أحد قد سبقه إلى تلك الفكرة؛ وإذا أصدر نيتشه حكما، فلا بد أن يكون هذا الحكم صحيحاً، ولو أجمعت الإنسانية كلها على أنه غير صحيح!. . . لقد عاشت الإنسانية على قيم فاسدة وشرائع كاذبة، فلابد من أن يأتي نيتشه بلوحة جديدة للقيم يقضي بها على كل تلك الأوهام

ص: 10

والخرافات التي ظلت الإنسانية تحرق لها البخور طوال حياتها! أليس نيتشه هو مسيح العصر الحديث الذي اعتقد في نفسه أنه أعظم رجل أنجبه عصره؟ ألم يقل نيتشه إن الثورة الفلسفية التي سوف تحدثها آراؤه، ستكون نقطة البدء لانقلاب هائل يحل بالإنسانية كلها؟ ألم يعتقد نيتشه أنه حطم شريعة المسيحية ووضع حداً لقيمها الكاذبة ومعاييرها الخاطئة؟ إذن فليس من حرج عليه إذا قال بملء شدقيه:(إن الناس تخطيء الحساب، إذ تعتبر بداية التاريخ، ذلك اليوم المشئوم الذي بدأت به المسيحية. أجل، لماذا لا تكون بداية التاريخ هي نهاية المسيحية؟ إذن فلنحسب القرون والأجيال، ابتداءً من اليوم، فإن يومنا هذا هو يوم تحول مطلق للقيم والمعايير كلها)!

هكذا قال صاحب لوحة العهد الجديد، الذي آمن بالأرستقراطية المتطرفة، وانتهى به غروره إلى قمة الجنون الباردة وليس بدْعا أن يعتقد نيتشه في نفسه أنه مسيح العهد الجديد، فقد خيل إليه أن شريعة المسيح قد تهدمت على يديه، وأن عليه هو أن يقدم للإنسانية شرعة جديدة يقيم بها بناء القيم من جديد! وقد قارن نيتشه بين نفسه وبين المسيح، وقدم نفسه في كتابه:(هاهو ذا الإنسان!): باعتبار أنه المسيح الجديد! وحينما كان الجنون قد أخذ يتسلل إليه، نراه يوقع خطابه الأخير إلى (براند يس) بإمضاء (المصلوب)! وليس من عجب أن يعتقد نيتشه ذلك نفسه، فقد توهم أن العمل الذي قام به في عالم الأخلاق والفلسفة، عمل فريد لم ينهض به أحد من قبل. . . وأما مؤلفاته فقد اعتبرها من قبيل ذلك الوحي الذي يجيء به الأنبياء المرسلون، وأن كانت تختلف عنه في أنها وحي صادق لم تموهه الأكاذيب والأساطير! وتبعاً لذلك فقد تحدَّث نيتشة عن كل كتاب من كتبه، باعتباره حدَثاً هاماً بالنسبة إلى العالم كله؛ ووسم واحداً من هذه الكتب باسم (الفجر)، ظناً منه أنه هو فجر اليوم الجديد الذي طلع على العالم بأسره!

وحينما نظر نيتشه إلى عالم القيم ألفي أن النقد السائد فيه نقد زائف بهرج، فأعلن بقوة وحماسة أن الوقت قد حان لتغيير مادة ذلك النقد وصورته معاً. . . أجل، إن الإنسانية قد أخطأت حتى الآن في كل قيم الحياة التي اتخذتها لنفسها، فلابد من أن يأتي مشرع هذا العصر، فيقدم لها صورة صادقة للحياة الوحيدة التي يمكن أن تكون جديرة بأن يتحمل المرء في سبيلها مرارة العيش! وقد نادى نيتشه بقيم الحياة الجديدة، ثم هتف في نشوة

ص: 11

وسرور: (إن آلاف الأجيال القادمة لن تقسم إلا باسمي)!

وتضخمت في نفس نيتشه عاطفة الأرستقراطية، فلم يلبث شعوره بنفسه أن تزايد، حتى استحال إلى شعور مريض غير طبيعي. وليس أدل على انحراف نفسيته في هذا الصدد، من أنه كان يعتقد أنه ينتسب إلى سلالة نبيلة من جنس سلافي، كأن السلافيين جنس راق ليس أنبل منه، وكأنما هو سلافي أصيل حقاً! - فهذا الألماني الذي تجري في عروقه دماء جرمانية خالصة، كان يفخر طوال حياته بأنه من أصل بولوني عريق، هو آل على حين أن أخته نفسها قد ذكرت أنه ليس في عروقه قطرة واحدة من الدم البولندي! وهذا الابن الذي أنجبه قسيس ألماني من مقاطعة بروسية، كان يتوهم دائماً أنه ليس بألماني! وقد كوَّن عنده ذلك الأصل البولوني المزعوم فكرة متسلطة سيطرت على نفسه وكان لها تأثير كبير في حياته، حتى لقد أصبح يخضع لها في كل تفكيره وعمله

ولما كان النبيل البولندي - فيما يروى نيتشه - يفصل في الحكم الذي يُصدره مجلس بأكمله، فيحكم عليه بجرة قلم واحدة أنه منقوض أو ملغي، وبذلك ينسخ حكم ذلك المجلس بكلمة واحدة، فقد شاء نيتشه أيضاً أن يقضى على كل ما حكمت به الإنسانية مثل هذا القضاء، ومن ثم فقد تقدم في بطولة وإقدام، وكتب تحت كل ما قضت به الإنسانية حتى الآن:(منقوص)! ونحن نعلم أن كويرنيكوس كان بولونياً؛ وقد غير كويرنيكوس نظام الكون، فلا بد أيضاً من أن يقلب نيتشه نظام الأفكار والمعايير رأساً على عقب، ولا بُدَّ من أن يجعل الإنسانية تدور حول محور مما كانت تحتقره وترذله - وإذا كان شوبان البولندي (وهو في الحقيقة فرنسي أيضاً بحكم أن أباه كان فرنسياً) قد حرَّر الموسيقى من التأثيرات الألمانية، فإن نيتشه لا بد أيضاً أن يحرر الفلسفة من هذه التأثيرات الألمانية! ولكن كل ما فعله نيتشة في الواقع هو أنه عدَّل فلسفة شوبنهور واتجه بها اتجاهاً خاصاً؛ فلم يتجه بإرادة الحياة اتجاهاً تشاؤمياً، ولم يَلْقَ ضروب التغير وما يجيء معها من ألوان الألم المختلفة بكلمة (لا)(كما فعل شوبنهور) بل اتجه بإدارة الحياة اتجاهاً تفاؤلياً، وتقبَّل كل وما يجئ به التغير من ضروب الألم. أما الذي جعله يعتقد أنه قد اتجه بالفلسفة اتجاها جديداً خاصاً، فهو ميله إلى اعتبار نفسه رائد الإنسانية الأول! فإن نيتشة حينما كان ينتج فكرة من الأفكار، كان يتوهم أن أحداً قبله لم يسبقه إلى تصور تلك الفكرة؛ ومن أجل ذلك فإن كل

ص: 12

عبارة من عباراته، وكل قول من أقواله، يرن في السمع كأنه كلمة الخالق:(ليكن نور)! أي كأنما هو يستخرج عالماً من العدم!

وعلى الرغم من أن نتيشه قد انتقض على الفلاسفة الألمانيين جميعاً، فإنه قد اعتقد بمثل ما اعتقد به هؤلاء (ابتداء من هيجل حتى شوبنهر) وهو أن ليس في استطاعة أحد غيره أن يفهمه! وفي كتابه (عدو المسيح) نجده يذكر أن اليوم الذي سيكون ملكاً له إنما هو اليوم الذي يتلو الغد. . . (إن هناك أناساً يولدون بعد موتهم؛ وأنا أعرف جيداً ما هي الشروط التي لا بدّ منها، لكي يفهمني الناس: آذان جديدة تستطيع أن تتسمع الموسيقى الجديدة. . . أعين جديدة تستطيع أن تستشف الأشياء البعيدة. شعورٌ جديد يستطيع أن يتقبل الحقائق التي ظلت صامته خرساء حتى الآن. إن من يتهيأ لهم هذا كله، هم وحدهم قرائي، قرائي الحقيقيون، المقدَّرون لي منذ الأزل؛ فماذا يعنيني عن الباقين؟ إن الباقين هم الإنسانية (أو العامة، فالمعنى واحد)؛ ولا بد أن نسمو على الإنسانية في القوة، ورفعة النفس، والقدرة على الاحتقار)!

هذا هو نيتشه كما بدا لنفسه، فقد اعتقد فيلسوفنا أنه ليس ثمة رجل يدانيه بين أهل عصره. وعلى الرغم من أن نظرته إلى نفسه لا تخلو من الصدق في بعض النواحي - لأن شخصية نيتشه في الواقع شخصية فريدة، قلما يعثر المؤرخ على نظير لها - إلا أن في هذه النظرة أيضاً شيئاً غير قليل من الإغراق والتهويل. ومهما يكن من شيء؛ فإن قارئ نيتشه تتوزّعه عاطفتان مختلفتان أثناء مطالعته لكتب فيلسوفنا: عاطفة الإعجاب من ناحية، وعاطفة الشفقة والرثاء من ناحية أخرى (بالرغم من أن نيتشه قد اطرَّح هذه العاطفة الأخيرة واعتبرها إهانة أو مسبَّة) فنحن نجد لدى نيتشه، وفي تضاعيف كثير من الأفكار السامية، شيئاً ينطوي على الانحراف والشذوذ، وهذا الشيء يستوقف أحياناً، ويضيع على القارئ أروع التأثيرات العقلية في أحيان أخرى. وإذا كان نيتشه قد وسم كتاباً من كتبه باسم (مسألة فجنر، مشكلة موسيقية)، أفليس في استطاعتنا نحن أيضاً أن نقول:(مسألة نيتشه، مشكلة مَرَضِيَّة)

زكريا إبراهيم

ص: 13

‌في رمضان.

. .

للأستاذ منصور جاب الله

لكل أمة مواسمها وأعيادها، وللمسلمين في رمضان موسم حافل جليل، فأما حفوله فيرجع إلى أن له طابعاً يمتاز به على سائر الشهور، فله مطاعم خاصة ومشارب خاصة لا تلذها الأعين في غير أيامه، ولا تشتهيها الأنفس إلا في صيامه، وهو يعد موسم التجارة ونفاق الأسواق، وزيادة الكسب، وتضاعف المرابح، فكم من تجارة معطلة أو بضاعة مزجاة تجد في غضونه موسمها الرائج، وعصرها الذهبي، وكم من صناعة يحييها رمضان من العدم، وتبقى ما بقيت أيامه، فإذا مضى انقضت بانقضائه، وأمست في قرارة النفس منها ذكرى

فهو ولا غرو شهر تحي فيه النفوس وتستمتع به القلوب والعيون، وإذا كان رجل التقوى والورع يجد فيه متاع نفسه ولذتها، فرجل الفن ولا ريب واجد فيه طلبة روحه وبغيتها، فللحكمة فيه بلاغ، وللتذكرة مساغ، وللفكاهة تطريب، وللعلم ترغيب. وإذا كان المسلم يجد في رمضان متاعاً من جهة الدين والتقى، فغير المسلم واجد متاعه من جهة الفن والملهى وكم شهدنا صدقاناً لنا على غير الإسلام يطوون هذا الشهر المبارك صائمين نهارهم فإذا جنهم الليل عمدوا إلى فطور المسلمين متلذين فرحين، ولقد كان بعضهم يرى في الإمساك عن الطعام مشاطرة لإخوانه المسلمين، وحفاظاً على تقاليد البلد الإسلامي، وتأدباً دون المجاهرة بالإفطار، فرمضان من هذه الناحية قاس على المفطرين، فما يُرى المرء مفطراً يطعم الطعام جهاراً نهاراً إلا أحس منه خروجاً على العرف ومخالفة مشنوعة للتقاليد، قد تتاخم في بعض الحين جريمة الاعتداء على المال أو العرض! ولقد كانت الدولات الإسلامية في ذرورها تعاقب المفطرين من غير عذر، بإقامة الحدود عليهم، هكذا يكون عقاب المستهترين بدين الله وشعائر الدولة والخارجين على نظام الحكومة وتقاليدها، ردعاً لهم وقمعاً لشهوات الناس المطوّحة بهم في سبل من المنكر لا ترضى

وإذا كان قد رفع الحد عن المفطر لما تخاذلت الدولات الإسلامية، وتداخل العنصر غير العربي في إدارة الشئون، فلقد بقى على الأيام الحد الأدبي، فما أفطر بغير عذر إلا طريد مجتمع أو أضحوكة في المجالس

وأما الآخرون من غير المسلمين فيصومون رمضان لا ورعاً ولا تقى، ولكن يصومونه

ص: 14

صوماً فنياً بمعنى أنهم لا يشعرون بالأحاسيس الوجدانية والنفحات اللدنية التي يستحسها الصائمون القائمون من المسلمين. وإنما يرون فيه حمية قامعة لا تحتاج إلى استشارة الطبيب، وهم إذا يرون ألوان المطعوم والمشروب يتشهون ما تقع عليه العيون، ويتحلب منهم اللعاب ثم يقبلون على الشراء وإذا هم يذكرون أنهم مأخوذون من تلقاء أنفسهم بالحمية والامتناع من مزاولة الطعام والشراب، فيمضون في الحمية إلى غاية النهار، يروضون النفس على قوة الإرادة. وتلك هي (فنية) الصوم عند الصائمين المشاطرين من غير المسلمين

على أن للصوم حكمة تسمو على (الفن) يستشعرها الصائم صوماً حقيقياً لا أثر فيه للرياء ولا للمكابرة، وتلك هي المقصودة من قوله تعالى:(يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فما يبعث الصوم إلا على التقوى، وما يستثير في النفس غير الورع والرثاء لحال ذوى الخصاصة والمخمصة والفقراء والمساكين، وما تشعر النفس إلا بالحدب على هؤلاء، وإيثارهم بالصدقة، وبرهم بالزكاة

وأن الله جلت قدرته لعليم بما يضار به الصائم وما يلحقه من أذى إذ يترك ـ بأمره تعالى ـ طعامه وشرابه، ويقتسر اقتساراً على هجران كيوفه ولذاذاته، وما كانت تلك منه إلا بمنزلة النفس يتردد، أو القلب يتحرك!

فهذا وهذا يجتمعان على النفس، ويأتلفان على الروح، مما يصعب في قليل أو كثير على الناس، ولكن لا مناص لهم من هجران مطاعمهم وكيوفهم وإذلال نفوسهم، حتى تعرف النفس الناعمة الراضية مقدار ما يعاني أهل المخمصة من ألم الجوع وحرارة العطش وأوصاب المرض وبرحاء الألم

وهذه، ولا ريب حكمة تسمو على كل حكمة، وما تخفي مراميها على أحد سبر كنه الصيام

والصائمون وكثير ما هم، أتراهم يحسبون حكمة في الصيام؟ لعل كثرتهم الكثيرة لا ترى في الصوم إلا أنه ضرب من التسلية والتلهي؛ فلا تشق الشهر الأطول إلا بنهار نؤوم وليل ما جن؛ فإذا جاء العيد انقلبوا فكهين. وعادوا إلى ما كانوا يقارفون من فنون القطر. وكأن هؤلاء ما صاموا ولا طووا النهار عطاشاً جائعين

ولقد تجد فرداَ من الناس اقتعد من الناس مكان الصدارة، وتبوأ كرسي الرياسة، وإذا به

ص: 15

يستفتح مجلس اللغو، مرسلاً لسانه يخوض في عرض هذا ويثلم شرف هذا وينحى باللوم الشديد على هذا، حتى إذا وقف لسانه في حلقه من شدة التعب - تعب الكلام وتعب الصيام - ونال من كل الناس مبغاه وقضى من كل ما يريد وطراً. رفع بصره إلى السماء وصاح في ورع متكلف (اللهم إني صائم اللهم إني صائم)، كأن هذه العبارة في عرفة تجب كل ما سبق، وتنسخ سائر ما قبلها، وتفتح له باب السماء، وتكون توبة نصوحا يلقى بها وجه الله راجمة حسناته سيئاته، وما هذه إلا صورة لا تخفى من صور رمضان، وما نرانا في حاجة إلى استيعاب غيرها من الصور؛ فالكلام في رمضان لا يتناهى عند حد، والكلام فيه لا يمل له دفع ولا رد.

ونخلص من هذا إلى القول بأن رمضان في هذه الأيام العصيبة التي أخذ الناس فيها يدركون معنى الإسلام الحقيقي. وتقدمت فيها الصفة الإسلامية للدولة، إلى مقام الصدرة من سائر بلدان الإسلام، نقول إن رمضان قد أصبح في هذا العهد ذا صفة بارزة محسوسة، إن كاد ليكون شيئاً مادياً تلمسه الأيدي وتراه العيون، وإن كاد ليأخذ بتلابيب المفطر ليدله على احترام شعائر الله وأداء فرائضه. وما هذا إلا من بشائر التوفيق ونصرة دين الله.

منصور جاب الله

ص: 16

‌على هامش الغفران

للأستاذ كامل كيلاني

(مقدمة كتاب (على هامش الغفران) الذي يصدر في أول

سبتمبر بمناسبة العيد الألفي لأبي العلاء المعري)

تمهيد

1 -

شجر الحور

صور فيلسوفنا (أبو العلاء) فيما صور من روائع أخيلته في (رسالة الغفران) ما لقيه صاحبه في موقف الحشر - قبل أن يؤذن له بدخول الفردوس - وما كابده يومئذ من شدائد وأهوال، يتضاءل بالقياس إليها كل ما قاساه في حياته الأدبية من عناء البحث والدرس. ثم صور ما نعم به - بعد ذلك - في رحاب الفراديس من أطايب ولذائذ مرتقيات، يتضاءل - بالقياس إليها - كل ما يبهج الأديب في أفقه الفكري من متع عقلية، ومعان فلسفية، وصور بيانية. ثم تمثل فيلسوفنا صاحبه وقد رافقه في دار الخلد ملك كريم، فجعل يريه من رياض الجنة عجائب، لا يعرف كنهها إلا الله سبحانه. وثمة قال الملك:

(خذ ثمرة من هذا الثمر فاكسرها، فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور)

فيأخذ سفرجلة، أو رمانة، أو تفاحة - أو ما شاء الله من الثمار - فيكسرها، فتخرج منها جارية حوراء عيناء، تبرق - لحسنها - حوريات الجنان)

2 -

قارئ الغفران

ثم التفت فيلسوفنا إلى قارئ رسالته، وقد خشي أن تحول غرابة بعض ألفاظها بينه وبين دخول فرودسه الأدبي البهيج واجتناء ثمار جنته الفكرية، فقال:

وإنما أفرق (أفزع) من وقوع هذه الرسالة في يد غلام مترعرع ليس - إلى الفهم - بمتسرع، فتستعجم عليه اللفظة (يستبهم معناها ويستغلق فلا يتبينه) فيظل معها في مثل القيد، لا يقدر على العجل (السرعة) ولا الرُّوَيد (المهل)

3 -

ترجمة النصوص

ص: 17

وما أجدرنا أن نستشعر - من الإشفاق والحذر - أضعاف ما شعر به فيلسوفنا - قبل مئين عشر من السنين، وأن نزيد، إلى شرحه - أضعاف ما أثبته، وأن نترجم نصوصه إلى الأسلوب العصري، وأن نصنع بها صنيعنا في أجزاء (حديقة أبي العلاء) و (رسالة الهناء)، حتى لا يضجر شبابنا الذكي بما يعترض طريقه إلى هذه الجنات الفكرية - بين خطوة وخطوة - من صخور وهضاب ومتاعب وصعاب، إن كانت تؤمن معها العثرات، فلا مرية أنها - على الأقل - معوقات

4 -

في صحبة المعري

ولا أكتم القارئ أني - كلما امتدت بي صحبة هذا الفيلسوف الموهوب، ورأيت إقبال الخاصة على أدبه الصادق وخياله الأصيل - وجدت لذلك في نفسي غبطة لا يعدلها إلا غبطتي بما أكن من حب وتقدير لهذه الشخصية العالمية الفذة التي تفتن الباحث بما انفردت به من الخصائص والمزايا؛ فيؤثرها على غيرها من الشخصيات - في عالم الفكر والبيان - ولا تلبث عبقريتها أن تملك عليه من مذاهب التكريم والإعجاب قدر ما ملكت آثارها الرائعة من مذاهب الجودة والإبداع.

5 -

تبسيط الآثار العلائية

وإنه ليطيب لي أن يكون في موالاة الحديث عن (أبي العلاء) تجلية لما بقي في أيدينا من روائعه بين قراء العربية، وإذاعة لخصائص ذلك الفكر النفاذ بألمعيته إلى سرائر الكون ودقائق الحياة، المؤيد بقدرة ساحرة على التصور والتصوير، وتملك شامل لناحية اللغة في الإبانة والتعبير.

ولست أشك في أن تبسيط هذه الكتب العلائية، وترجمة جمهورها إلى الأساليب العصرية، سيخلق من المتأدبين أشياعاً جدد لأبي العلاء، ومريدين عارفين بدقائق مراميه، وغوامض أهدافه ومعانيه، ونصراء لأدبه الرفيع، وصحابة يؤمنون بفنه العالي، فلا يلبث صاحب (الغفران) و (اللزوميات)، و (الفصول الغايات) أن تزف إليه مكانة الصدر التي ينفرد بها بين قادة الفكر العربي غير منازع

6 -

جزاء العاملين

ص: 18

وقد تضافرت الحوافز البعيدة، والجهود الموفقة الرشيدة، على استثارة هذا الكنز العلائي الذي كان مغيباً في ظلمات الأيام، وكان هذا دليل اليقظة الأدبية الصادقة في هذا العصر، كما أسلفنا القول - منذ عشرين عاماً أو تزيد - في مقدمة اللزوميات، كما كان هذا التقدير خير جزاء للعاملين

7 -

صديق وأستاذ

لقد كان من دواعي السعادة التي ظفرنا بها في مستهل حياتنا الفكرية، أن شببنا ونحن شديدو الولوع بهذا الأديب الموهوب، وما زلنا مأخوذين بما نظم ونثر، نديم التفكير في فلسفته العالية التي تمتح من قريحة صافية، مفتونين بنظراته التي تمدها بصيرة كأنما أودعها الله حرارة كوكب آلق لا يفتأ يشع، حرصاء على استنفاد الوسع في نقصي بدائعه. فكان (أبو العلاء) لنا - منذ نشأتنا الأدبية - صديقاً بل أستاذاً لا نريم مجلسه، ولا نمل حديثه، فما نزال نبدي في روائعه ونعيد، حتى لقد أفقدتنا تلك الروائع كراهة الحديث المعاد.

والحق أن الاستماع إلى البيان الساحر كالنظر إلى الجمال الساحر، كلاهما أخاذ يستولي على نقس الرائي والسامع جميعاً، متجدد الفتنة أمام أعينهما أبداً، كأنما عناه (ابن الرومي) حين قال:

(ليت شعري إذا أعاد إليها

كرة الطرف مبدأ ومعيد

أهي شيء لا تسأم العين منه

أم لها - كل ساعة - تجديد

بل هي العيش لا يزال - متى استع

رض - يملى غرائباً ويفيد)

8 -

سحر البيان

ولولا هذا السحر الذي غمر نفوسنا من الأدب العربي، وذلك الولاء الذي طوينا عليه جنوبنا للفن العلائي، لما تيسر لنا أن نظفر بتذليل ما لقيناه من المصاعب في تحقيق النصوص الكاملة لرسالتي الهناء والغفران، وترجمتهما - مع ما ترجمناه من رسائله الأخرى وأشعاره - إلى الأسلوب العصري.

9 -

حوافز ومرغبات

ص: 19

وكان من الحوافز التي زينت لنفوسنا هذه الفكرة التي ترمي إلى تقريب البيان العلائي، من أذهان الجمهور العربي في عصره العتيد أننا عنينا - من قبل - بترجمة طائفة من روائع كتاب الغرب وشعرائه، وكان لما نقلناه من أدب (شكسبير) حظ من الإقبال والتقدير، بعيد المدى عظيم التأثير، جدير بعبقرية هذا الشاعر العالمي الكبير

10 -

ترجمة إنجليزية

ثم يسر الله لنا - من بعد - أن نتعاون مع الأديب الإنجليزي المسترج. براكنبري على إخراج ترجمة إنجليزية لرسالة الغفران مقتبسة من الطبعة الثالثة، وترجمة ثانية مقتبسة من (حديقة أبي العلاء)، وقد ظهرت الأولى؛ فلقيت من أدباء الغرب ومفكريه ما هي خليقة به من الإعجاب والإطراء. وسنتبعها الثانية بعد قريب.

11 -

در في أصدافه

وما أحق هذا، بأن يوحي إلينا أن يكون الأدب العلائي قريب الجني، عذب المنهل، لكل وارد عربي، يسمع بالمعري، ويعلم مكانته وعبقرية، ثم تحول الحوائل بينه وبين الاستمتاع بما ترك من روائع الفكر، وخوالد الأثر إذ ألف ذلك العربي أسلوبنا العصري، وتصعب عليه ما سواه من تليد البيان، وبوده أن تتفتح له الأصداف عن غوالي الدرر، تتكشف له الأقنعة عن واضح الغرر

12 -

تجلية الغامض

وما أجدر رواد الأدب العربي عامة والأدب العلائي خاصة أن يطيلوا الروية والجلاد والمصابرة ليتسنى لهم الاهتداء إلى حل طلاسم التحريف التي عقدتها أنامل النساخ، وتجلية الغامض من العبارات، وتحقيق المشكل من المفردات، والتعليق على المعاني بما يؤيدها من شعر (أبي العلاء)، حتى يستعين القارئ بذلك كله على استطلاع وجود الرأي في أغراض ذلك المفكر العبقري، واختلاف الصور في شعره وضوحاً وغموضاً، وإجمالاً وتفصيلاً، ولكي يصبح ذلك كله باباً من أبواب البحث الأدبي، وهو لا ينفتح إلا بطول الاستقراء، واستحثاث الملاحظة، وإذكاء الفطنة.

13 -

عرائس الخيال

ص: 20

وإن ذلك ليستعصي على البحث إذا لم نحبب إليه ملازمة أبي العلاء، فنوضح له من أسراره ودقائقه ووجود آرائه، ما يستغلق على من يكتفي بالنظرة العابرة، والخطرة الذاهبة. ومتى ظفرنا بتحقيق هذه الغاية، أنس القارئ بفيلسوفنا، وأحسن معه الصحبة، فلم يضجر بأسلوبه، ولم ينفر من غرابته، ولم يجد في فردوسه من الثمار إلا ما وجده (ابن القارح) في جنة الحور، فلا يكسر منها ثمرة إلا خرجت منها عروس أخاذة من بنات الأفكار، بارعة الجمال، تبرق (تتحير) - لحسنها - أبكار المعاني وعرائس الخيال.

14 -

أغرض الهامش

وقد جعلنا هذا الهامش تبياناً لما أحاط برسالة الغفران من ملابسات، وما بعث عليها من دوافع، حتى يأنس القارئ بجلية خبرها، فيما يطالع من صورها. وعقبنا على ذلك يبسط جمهرة من الأغراض العلائية البعيدة الأغوار، مما لم يتسع له تعليقنا على النص الكامل الذي توخينا في شرحه ما وسعنا من قصد وإيجاز.

وقصارى رجائنا أن تكون فصول هذا الهامش وأجزاؤه عوناً لشبابنا على تفهم ما استسر من مغالق الغفران وخباياها ورائدا يكشف لهم ما دق من غوامضها وخفاياها، وهادياً يؤمنهم مخاوف الطريق، إلى روائع هذا الكنز السحيق، ويقفهم على مرامي هذا الفيلسوف البارع، ويجلو لهم بدائع لفتاته وأمثلته، ومفاتن صوره وأخيلته، ويسلمهم مقاليد فلسفته.

15 -

ذهب ونحاس

وقد أضفنا بما ترجمناه وقبسناه وشرحناه - كما أسلفنا القول في (حديقة أبي العلاء) - إلى ما يحتويه المنجم العلائي من حر ذهبه الأصفر، قليلاً من النحاس الأحمر، ليصبح كالعملة الذهبية الحديثة، أقرب تداولاً، وأدنى تناولاً وأيسر جدوى.

كامل كيلاني

ص: 21

‌في مؤتمر المحامين العرب

وزير مصر يمهد للوحدة العربية

للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

التعارف سبيل التآلف في الميول والرغبات، والتفاهم على المقاصد والغايات، والأخذ بأسباب المودة الوطنية الأكيدة، وإذا قلت التعارف فلست أقصد ما يجري من ذلك على الأوضاع الرسمية والتقاليد الدبلوماسية، وإنما أعني التعارف الذي تتقارب به الأرواح، وتتمازج فيه العواطف، وتتضامن به الفكر والغايات، فيكون كل فرد في دائرته قبلة صاحبه ووجهته، ويكون الجميع في هذه الدائرة حلقة متماسكة لا تنفصل، وقوة متساندة لا تلين، ووجهة واحدة في تحقيق الخير الشامل والصالح العام

هذا التعارف أحوج ما تكون إليه الأمم العربية، وهي في هذا الطور تنشد الوحدة بين أفرادها، والتعاون بين حكوماتها، والتآلف بين أبنائها، والتضامن القوي الجميع في تحقيق الآمال المشتركة والأغراض المتفقة والغايات المنشودة. وإذا كانت تتلك الأقطار ظلت نحو ربع قرن من الزمان وهي تكافح في هذا السبيل، فإن كل أمة بقيت في هذا الكفاح محصورة في ميدانها، ولم يكن يربطها في ذلك إلا زيارة وزير تجري على الوضع الرسمي، أو نقلة كبير يقوم بها عابر سبيل إن صح أن يكون هذا رباطاً بين الأشقاء الخلصاء.

وفي الفترة الأخيرة فطنت الأمة العربية إلى ما يجب عليها في هذا الشأن من توطيد التعارف وتبادل العواطف، ورأت أن خير ما يؤدي إلى هذا السبيل هو عقد المؤتمرات العامة ليلتقي بذلك قادتها وزعماؤها، وليكون مدعاة تقاربها وامتزاجها بما يتم من تبادل الرأي وتضامن الأفكار في تحليل المسائل الهامة وتذليل العقبات الصعبة، والتغلب على ما يقف في سبيل نهوضها. وإننا لنكتب هذه السطور وقلوبنا مفعمة بالغبطة والبهجة لعقد مؤتمر المحامين العرب الذي دعت إليه سوريا، فتم على صورة رائعة موفقة دلت على الصدق والإخلاص في الأخذ بأسباب نهضة شاملة ووحدة جامعة، ويقظة تملأ النفوس والقلوب، وإذا كانت سوريا قد أحسنت في الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر الهام في هدفه وغايته، وإذا كانت قد أحسنت مرة أخرى إذ دعت إليه جهابذة القانون وعلماء التشريع في

ص: 22

مصر ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، فنهضوا إلى تلبية دعوتها الكريمة فخورين مبتهلين، فإن مصر قد أحسنت من جانبها كل الإحسان، إذ رأت أن يكون رئيس الوفد المصري في هذه السفارة وزير العدل، ثم أحسنت كذلك مرة أخرى إذ اختارت صاحب المعالي الأستاذ محمد صبري أبو علم باشا بذاته، ليكون رسول أمته في تبليغ أمانيها وتوضيح غاياتها بين وفود العروبة في هذا المؤتمر، فإنه بعقله وحكمته، وبما حباه الله من سعة الإدراك والمواهب، وبما تم له من شرف السمعة وقوة الخبرة أبلغ ما يكون في تبليغ الرسالة، وأقدر ما يكون لحمل الأمانة، وأوفق ما يجب لتمثيل مصر الزعيمة بين وفود الأقطار الشقيقة

أحسنت مصر كل الإحسان ووفقت حكومتها كل التوفيق في اختيار معالي صبري باشا في هذه المهمة نظراً لما اكتمل بشخصيته من بلاغة الحجة، وبراعة التعبير، ودقة البحث وعمقه في ميدان التشريع، ثم هو في ميدان الدعوة للعربية يمتلئ غيرة وحماسة ويتدفق إيماناً بالحق ويقيناً بالصدق، مما وسع له في المنزلة والمكانة في قلوب أبناء الأقطار الشقيقة؛ فكلهم له أخ وصديق، وهو لهم جميعاً أخ وصديق، لهم في قلبه وفي نفسه ماله في قلوبهم وفي نفوسهم، ولا ريب أنه كان يعبر عن ذات نفسه أصدق تعبير، إذ قال عند سفره:(إنني بانتقالي إلى سوريا أنتقل إلى قطعة من مصر وأهل هم من أبناء مصر)، لأنه هكذا يرى في كل قطر من أقطار العربية وهكذا إحساسه نحو أبناء العروبة.

ولقد كانت لفتة بارعة من هذا الفطن اللبق، إذ تقدم إلى فخامة رئيس الجمهورية السورية بهدية متواضعة في قيمتها ولكنها عظيمة في دلالتها. أجل لقد قدم إلى فخامته مسبحة حجازية، وماذا تكون قيمة المسبحة مهما بلغت، إلا أنها جلب من الحجاز الشقيق، فهي إشارة لها مغزاها ومعناها في الحرص على جمع الشمل، وتوطيد الوحدة الجامعة، وإلا فما كان أهون على الوزير أن يختارها هدية منسوبة إلى مصر، ولكنه يرى أن مصر والحجاز وسوريا وسائر الأقطار الشقيقة كلها وطن العروبة، وكل ما فيها عام للجميع.

بهذا الشعور الفياض الدافق قصد معالي صبري باشا إلى ملاقاة أبناء العروبة في سوريا، وبمثل هذا الشعور اليقظ النابض تلقوه مرحبين مبتهجين يرون في صورته صورة مصر الزعيمة الأمينة، ويلمسون في إحساسه الشريف إحساس مصر الصادقة الغيور؛ فهو ينزل فيهم على الرحب والسعة، ويمشي على الإكرام والتكريم؛ فاستقبله فخامة الرئيس استقبالاً

ص: 23

يفيض بالمحبة والمودة، ودعاه الوزراء والكبراء إلى حفلات تكريم هي مظهر الصداقة والأخوة، وصدرت الصحف كلها مزدانة بصورته، تطرى فيه عالماً جليلاً وقائداً مجاهدا ووزيراً مشرعاً ورسولاً كريماً من الكنانة الخالدة إلى شقيقتها المحبة المخلصة؛ فماذا يكون هذا كله وما الغرض منه والدافع إليه إلا أنها عواطف أبناء العروبة، نضجت على الإخاء واستوت على الرخاء، وإلا أنها منزلة كريمة لمصر بين شقيقاتها من الأمم يرفع لواءها زعيم مصر ويؤدي رسالتها وزير مصر

لقد تجلى هذا الشعور كأوضح ما يكون في موقف الوزير في حفلة افتتاح المؤتمر ليؤدي تحية النيل - على حد تعبيره - إلى بردى والفرات وفلسطين ولبنان وشرق الأردن مقرونة بالإعجاب وعرفان الجميل. فلم يقف في أداء هذه التحية عند واجب المجاملة الكلامية، بل ولم يقف عند الحدود المرسومة لمباحث المؤتمر ومداولاته، ولكنه امتد في التحية بما تطمع إليه مصر وما ترجوه لشقيقاتها من الخير وما تتمنى أن يكون من عقد المؤتمرات النافعة المثمرة، إذ قال في خطبته موجهاً الخطاب إلى فخامة رئيس الجمهورية السورية ورجال حكومتها الاماجد وأعضاء المؤتمر:

يا فخامة الرئيس

يجتمع حولك في هذه القاعة ممثلو البلاد العربية، وإن اجتماعهم في هذه الظروف وفي هذه المناسبة لفياض بالمعاني، جياش بالحقائق، هاتف بالرجاء في المستقبل، عازف بألحان الأمل البسام، هابط برسالة المجد والسلام، ناشر لصحيفة من الصحف الأولى، صحف الأولين الخالدين من أبطال التاريخ العربي المجيد

نجتمع هنا في هذه القاعة حاملين إلى فخامتكم، وإلى حكومتكم، وإلى كل أمة ممثلة هنا صورة من الآمال التي تحدونا، وآية من المجد الذي ينادينا، ونوراً من الإصلاح الذي نعمر به نوادينا، نجتمع لا لنستلهم مجداً فردياً. ولا لنستمطر السماء على بلد دون آخر. إن لساننا ليهتف مع الشاعر العربي إذ يقول:

ولو أنى حبيت الخلد فرداً

لما أحببت بالخلد انفراداً

فلا هطلت علي ولا بأرضي

سحائب ليس تنتظم البلادا

وإن الوحدة التي يبغيها المحامون المجتمعون هنا للتشريع هدفاً وغاية هي صورة مصغرة

ص: 24

للوحدة التي تبتغيها الأمم العربية في الحياة مثلاً أعلى وحصناً تحتمي فيه عند كل ملمة، وبقدر ما يصادف هذا المؤتمر من توفيق ونجاح تتفتح أبواب الخير لمشروع الوحدة العربية، وإننا إن شاء الله لواصلون إلى تحقيق هذا المشروع؛ فإن مشروعاً عظيماً كهذا تخفق من حوله قلوب الملايين من أبناء الأمم العربية داعية متهللة وتتولاه أيدي كرام الزعماء الذين وضعوا أيديهم في يد زعيم مصر رفعة مصطفى النحاس باشا بعد أن عاهدوه على العمل لإنقاذه وجعله حقيقة لمشروع مكتوب له التحقيق والتوفيق إن شاء الله

وهذا كلام طيب يملأ كل نفس مخلصة بالغبطة، ولقد كان وقعه في نفوس المؤتمرين جميلاً إذ قابلوه بالتصفيق والهتاف تحية لمصر المجاهدة وتقديراً لوزيرها الصادق الأمين وإكباراً لطموحها الموفق السديد، ولن يسع كل عربي مخلص إلا أن يكبر المعنى المقصود في هذا الكلام وأن يسأل الله تحقيق الأمل فيه.

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 25

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشا شيبي

592 -

إذا المودة أقرب الأنساب

في الأغاني: قال طوق بن مالك للعتابي: أما ترى عشيرتك - يعني بني تغلب - كيف تدل عليّ، وتتمرغ وتستطيل وأنا أصبر عليهم

فقال العتابي: أيها الأمير، إن عشيرتك من أحسن عشرتك، وإن عمك من عمك خيره، وإن قريبك من قرب منك نفعه، وإن أخف الناس عندك أخفهم ثقلاً عليك وأنا الذي أقول:

إني بلوت الناس في حالاتهم

وخبرت ما وصلوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً

وإذا المودة وأقرب الأنساب

593 -

إذ صار بيدي ساعة واحدة

قال الحسن بن علي بن حسين لامرأته عائشة بنت طلحة: أمرك بيدك

فقالت: قد كان عشرين سنة بيدك فأحسنت حفظه، فلن أضيعه إذ صار بيدي ساعة واحدة، وقد صرفته إليك. فأعجبه ذلك منها وأمسكها

594 -

دية المسيح

(عيون الأخبار): ولى أعرابي بعض النواحي، فجمع اليهود في عمله وسألهم عن المسيح، فقالوا: قتلناه وصلبناه

قال: فهل أديتم ديته؟

قالوا: لا

قال: فوالله لا تخرجون أو تؤدوها، فلم يبرحوا حتى أدوها

595 -

تمثالا تدمر

قال أبو دلف في التمثالين اللذين في تدمر:

ما صورتان بتدمر قد راعتا

أهل الحجى وجماعة العشاق

غبرا على طول الزمان ومرِّه

لم يسأما من ألفة وعناق

وقال محمد بن الحاجب يذكرهما:

ص: 26

أتدمر، صورتاك هما لقلبي

غرامٌ ليس يشبهه غرام

أقل من التعجب: أي شيء

أقامهما فقد طال المقام

يمر الدهر يوماً بعد يوم

ويمضي عامُه يتلوه عام

ومكثهُما يزيدهما جمالاً

جمال الدر زّينة النظام!

وقال أبو الحسن العجلي:

أرى بتدمر تمثالين زانهما

تأنق الصانع المستغرق الفطن

هما اللتان يروق العين حسنهما

يستعطفان قلوب الخلق بالفتن

596 -

فكلفتنا ضيق الضمان

كلم رجل آخر في أن يؤخر شيئاً على غيره، فقال اضمنْ أنت عنه

فقال: أردنا منك سعة المهلة فكلفتنا ضيق الضمان.

597 -

تزي النص إلا أنها تتأول

الوزير عون الدين بن هبيرة:

يلذ بهذا العيش من ليس يعقل

ويزهد فيه الألمعي المحصل

إلى الله أشكو همة دنيوية

ترى النص إلا أنها تتأول

598 -

هذا هو الحر الذي ينبغي أن يصطنع

نفح الطيب:

لما ورد ابنُ القراء الأخفش على المرية مدح رفيع الدولة ابن المعتصم. فقال له من أراد ضَرّه: يا سيدي، لا تُقرِّب هذا اللعين، فإنه قال في اليهودي:

ولكنَّ عندي للوفاة شريعةً

تركتُ بها الإسلامَ يبكي على الكفر

فقال رفيع الدولة: هذا (والله) هو الحرُّ الذي ينبغي أن يُصطنع

فلولا وفاؤه ما بكى كافراً بعد موته، وقد وجدنا في أصحابنا

من لا يرعى مسلماً في حياته.

ص: 27

‌مآثر النور.

. .

شعر علمي

للأستاذ نقولا الحداد

أما خلق الضياءُ لنا العيونا

وشقَّ لها عن المُقَل الجفونا

رسولُ النور يستدنى الأقاصي

وعنها يشرح الخبر اليقينا

جمال الكون لاح بوجنتيه

وداجي هجره طمس الظنونا

إذا ما غاب لم يفقد ضريرٌ

بصيرته ويعمى المبصرونا

بدت صُحُفُ الضيا تطوي رسوماً

بدائعَ ثم تنشرها فنونا

ودَّبجتِ المروجَ الخضرَ لما

طلت أزهارها لوناً فلونا

فما بين احمرار وازرقاقٍ

تموَّجت الأزاهرُ يُزْدَهَيْنا

فيالك من شِعاعٍ ناظماتٍ

قصدَ الروض يسحرنا فتونا

فموسيقى الضياء تريك نقشاً

وموسيقى الأفانين الأنينا

إِذا هبَّ النسيم وفاض ضوءُ

تهللت الربى وصفت معينا

وإن غمَر الرياضَ سنا ذكاءٍ

تفجرتِ الحياةُ بها عيونا

وحيَّتها الطيور مغنياتٍ

وقد رقصت حدائِقها غصونا

أيا قمراً يريدُ سناك يحوي

رسالاتِ الهوى للعاشقينا

وعندكِ تلتقي الأبصار تروى

إذا أصغيتُ عن مهجٍ شجونا

فكم من عاشق ناغاكَ وجداً

وكم من مدنن ناجى حزينا

ألم يُمْلأْ سجلُّكَ من قضايا

غرام مسامريك مدى السنينا؟

فما فتواكَ في شيخ تصابى

وهام بكاعبٍ بكرٍ جنونا

أتأتلف الحمامةُ مع بعيرٍ

وتألفُ ظبيةً بغلاً حَرُونا

ألا سل جدة الأقمار ماذا

دهاها حين قاربت العرينا

بدا الضرغام يكبرها ألوفاً

تهادى نحوها يمشي الهوينا

وداعبها وراودها فعفت

فعاهدها يكون لها قرينا

فقالت: ويكَ لو زفّوا لَجّدٍ

حفيدَته وربك يكفرونا

ص: 28

وجاذبها إليه فدافعته

فمزّق عن محياها الجبينا

فصدَّته وقد تَفلت عليهِ

تُفَال الغيظ سجّيلاً وطينا

وما ركلته حتى فرَّعنها

وأصبح من تغضُّبها أمينا

وقد بقيت قذائِفُها لديها

كواكبَ دائراتٍ يُجتلينا

ص: 29

‌البريد الأبي

في سبيل وحدة الوجود

قرأت الكلمة الأخيرة للأستاذ دريني خشبة في الرد على الأستاذ معروف الرصافي، وهي كلمة لا تتسق مع موضوع البحث، لأن الأستاذ دريني سلك فيها مسلك التحدي للأستاذ الرصافي، وذلك مسلك لا أرتضيه في أمثال هذه المساجلات وسبب هذه المعارك القلمية يرجع إلى آرائي عن وحدة الوجود في كتاب التصوف الإسلامي، وكان المنتظر أن أقول كلمة في الفصل بين أولئك المتخاصمين، ولكني سكت عن عمد، لأن تلك المعارك اتجهت وجهة دينية، مع أن نظرية وحدة الوجود نظرية فلسفية، والدين يلاقي الفلسفة في حين ويفترق عنها في أحيان

كنت أستطيع أن أفصل بين أولئك المتخاصمين، لأن كتابي سبب هذه الخصومة، ولأني شغلت نفسي بدرس هذه النظرية عدداً من السنين، ولكني رأيت أن أقف على الحياد، لأن اشتراكي في المناظرة سيزيدها احتداماً إلى احتدام، وسيسوقنا جميعاً إلى متاعب فكرية تزلزل العقول، وتبلبل القلوب

أنا حاضر لخوض هذه المعركة من جديد، ولكن أين الميدان؟

سيتصدَّى للرد على ناس لا يفهمون مرامي كلامي، كالناس الذين زعموا أني أنكرت إعجاز القرآن في كتاب النثر الفني، مع أن آرائي في إعجاز القرآن هي الآراء الباقية، وإن قال بعض الخلق إنها من الكفر الموبق!

لن أعيد القول في نظرية وحدة الوجود إلا يوم أضمن أن ينظر الناس لحرية الرأي، كما كان ينظر المسلمون إلى تلك الحرية في عهد ازدهار المدنية الإسلامية

أما اليوم فأنا يائس من حرية الرأي، فكل كاتب يحاول أن يكون واعظاً في مسجد، أو راعياً في كنيسة، كأن الفكر الحر من القيود لم يبق له مكان في هذا الوجود

والذي يهمني في هذه الكلمة الوجيزة هو دعوة الباحث المفضال الأستاذ درينى خشبة إلى اجتياز عقبات هذه المساجلة بأسلوب لا يجرح الأستاذ الرصافي، ولا يصور الباحثين المصريين بصورة المتعنتين

وكنت وعدت بالرد على الأستاذ الرصافي، وسأفي بما وعدت ولكن بالتجمل والترفق، فما

ص: 30

يجوز أن أجرح رجلاً شغل نفسه بتأليف كتاب يردّ به على كتابين من مؤلفاتي، والأستاذ دريني يعرف أن الذوق هو خير ما دعا إليه الأنبياء

والمودة الوثيقة التي أضمرها للأستاذ درينى توجب عليّ أن أدعوه إلى الاقتصاد في الغض من نظرية وحدة الوجود، فهي نظرية عبقرية، وهي خير ما جادت به قرائح الفلاسفة في تاريخ الفكر الإنساني، وليس من السهل أن تنهدم بمقالات يؤازره فيها الأستاذ عبد المنعم خلاف، وإن بلغا الغاية في قوة الحجاج

أنا أحترم كل رأي يصدر عن عقيدة، وأن أنكره عقلي، ولا أحتقر غير الآراء التي تصدر عن الرياء

ومن المؤكد عندي أن الأستاذ درينى والأستاذ عبد المنعم يصدران عن عقيدة في الغض من نظرية وحدة الوجود، فأنا أنظر إلى ما يكتبان بعين المحب العطوف

فإن قال قائل: وكيف جاز أن أسكت عن تأييد هذه النظرية والأقلام تنوشها من كل جانب؟ فجوابي أنني قلت فيها كل ما أملك من القول في كتاب التصرف الإسلامي، وأنا أكره الحديث المعاد

وأنا أيضاً نقضت هذه النظرية بعد أن شرحتها في كتابي، لأن طريقتي في التأليف تقوم على أساس الاستقصاء في موازنة الآراء

وهنالك مشكلة سكت عنها الأستاذ درينى وهي تأثير تلك النظرية في الحياة الإسلامية، إن كان قرأ الفصل الخاص بالمدائح النبوية في كتاب التصرف الإسلامي

فما رأيه في هذه المشكلة، وهي من كبريات المشكلات؟

سيدفع الأستاذ درينى ثمن المودة التي أضمرها لروحه اللطيف، والثمن هو دعوته إلى قراءة كتاب التصوف الإسلامي مرة ثانية ليرى كيف أقمت نظرية وحدة الوجود على أمتن أساس

يسرني أن أساجل باحثاً له في نفسي منزلة الصديق الغالي، ويسرني أن ينتصر في المساجلة؛ فما لي غرض غير الوصول إلى الحق، ولو كان دليلي إليه أعدي أعدائي

أنا أعلن أيماني بنظرية وحدة الوجود على نحو ما ذهبت إليه في كتاب التصوف الإسلامي، ولن أرتاب إلا بإقناع، فهل تستطيع إقناعي يا أيها الصديق؟

ص: 31

يجب أن تعرف أني سأقهرك على المشي فوق الأشواك، وأني سأصل إلى إقناعك بما لم يقنعك به الأستاذ معروف الرصافي

أنت تهدد بالعودة من المصيف، لتجتاح خصومك

وأنا أهددك بما ادّخرت لعقلي وقلبي من هجير مصر الجديدة فتعال إلى مساجلتي يا أيها الصديق الغالي

وأساس المساجلة أن تترك التفكير في أن نظرية وحدة الوجود تجني على العقيدة الإسلامية

وأنا أعتذر بالنيابة عنك للأستاذ معروف الرصافي، وهو رجل أعفى نفسه في جميع أطوار حياته من الرياء، وسيكون له في تاريخ الشعر والرأي مكان

إنه رجل يعتذر عن الضعف بشيخوخته، فكيف تستطيل عليه بشبابيك؟

سأرى ما تجيب به يا صديقي بعد عودتك من المصيف، إن كان لي سبيل إلى الهرب من مصاولتك، وهي أني أستعد لشرح مسابقة الأدب العربي، فقد بدأتها في الرسالة منذ أعوام ومكانها في مجلة الرسالة وهو مكانها الأول، فإلى اللقاء بعد أسابيع.

زكي مبارك

من الأستاذ خليل مطران إلى الأستاذ عبد الرحمن صدقي

حضرة الأديب الكبير والصديق الكريم الأستاذ عبد الرحمن صدقي

كتبت لأبي نواس ترجمةً وافيةً من طراز جديد، بلغة لا تختلف إلا قليلاً، فُصَحُها في هذا العهد، عما كانت في أزهر عهودها. وقد آثرت لها الأسلوب القصصي البارع في الجانب الذي صّلُح منها لهذا الأسلوب، فبلغت بقوة الخيال وحسن السبك، مع مراعاة الحقيقة التاريخية غاية ما يبلغه الكاتب القصصي المجيد من التشويق. وكم كانت لك جولة متعمقة وموفقة في نواحي تلك النفس المنغمسة في الشهوات، الحائرة الرتابة، المؤمنة في النهاية، التي فعلت فيها البيئة الظرفية أفاعيلها على الولاء

وما من شك في أن ذلك الشاعر المطبوع - الذي لم يدرك ذروته شاعر في العرب بعذوبة اللفظ، وجلاء المعنى، وطرافة الفطن، وبداعة التصوير - قد ظل طوال أيامه، وعلى اختلاف الحوادث التي مرت، وعلى علاتها الجمة صادقاً مع نفسه كل الصدق فيما استقر

ص: 32

عليه رأيه الأدبي، أو الاجتماعي، أو معتقده الديني. ولذلك يستحق المعذرة لعبقريته، وإن تصرَّف في سيرته المتهتكة تصرفاً لا يحبه الناس من الرجل العظيم

فأشكر لك هديتك، وأثني عليك بما يحق لك. ولئن عاقني عن التوسع في متابعة دراستك الحلوة ضعفُ جسمي ووهى عزمي، لقد أوجزت لك بكلمة ما جرى به القلم على قدر

بارك الله فيك، ويسّر لك أن تزيد العالم العربي من ثمرات ألمعيتك.

المخلص

خليل مطران

حول الخوارزمي

حجزتنا أشاغيل طرآنية عن التعقيب على كلمة الأستاذ علي محمد حسن في حينها، ونحن إذ نحمد للكاتب يقظته في تتبع السقطات والعثرات في كل مقال أو قصيدة، نحب أن نطمئنه إلى أن (ظلم القرون) الذي تطوع بإزالته عن أبي بكر الخوارزمي، قد فطن إليه المتأخرون من نقدة الأدب العربي، ونحسب أن أحد المستشرقين وضع بحثاً علمياً في المناظرة بين البديع والخوارزمي، كما أن الدكتور عبد الوهاب عزام سلسل في (الرسالة) قبل سنين مقالات ماتعة أزال بها الوهم الذي علق بأذهان المتأدبين فيما يتصل بهذه المناظرة التي وصفها الخوارزمي نفسه بأنها (شعبذة)، وإذا لم تكن شعبذة فليست من الأدب في شيء

كذلك لم تغب عنا المراجع التي نقل عنها الأستاذ أسانيده في نصفة الخوارزمي، ومع احتفاظنا برأينا في أدب الرجلين لا نجزم بصحة المناظرة، ولا بجدّيتها إن صحت، وإنما جرنا إلى ذكرها في مقالنا الأول سياق الكلام لنثبت (رجعية) النظرة إلى الأديب من كلام الصاحب بن عباد الذي نسب إليه أيضاً قوله:(لو أدركت عيسى بن الهمذاني لأمرت بقطع يده) فلما سئل في ذلك قال: (لأنه جمع شذور اللغة فرفع عن المتأدبين عناء البحث) يعني بذلك كتاب (الألفاظ الكتابية) ومعنى هذا أن كل من وضع موسوعة أو صنّف معجماً استحق في دين (الصاحب) قطع يده. . . نسأل الله السلامة!

(الرمل)

ص: 33

منصور جاب الله

حول أغلاط أيضاً

في عدد الرسالة الأخير تصويبات لغوية للأستاذ عبد الحميد ناصف المدرس بكلية اللغة العربية، وقد أدهشني أن أرى فيها كثيراً من الأخطاء التي لا يصح إغفالها والسكوت عليها فآثرت أن أنبه على بعضها

1 -

يدعى الأستاذ أن الصدفة كلمة لغوية بالرغم مما شاع من عدم لغويتها، فكثير من المعاجم وكتب اللغة كاللسان أوردها، وفي حديث أبي ذر (والبر ما حاك في النفس ولم تلده الصدفة)

ولقد اطلعت على اللسان والقاموس والمختار والمصباح فلم أجد كتاباً أورد لفظ صدفة، على أن الذي حيرني واستوقفني أثار عجبي هذا الحديث الذي ذكره. وليت شعري كيف يسيغ الأستاذ مثل هذا الخلط العجيب الذي لا تصححه رواية، ولا تجيزه دراية ولا يلتئم عليه معنى؟ وهل يستجيز عقل أو يستبيح ذوق أن يكون البر مما يحوك في النفس ويتردد في القلب؟ وأين يقع الإثم إذا؟

لقد ورد هذا الحديث في كتب السنة هكذا (عن النواس ابن سمعان رضى الله عنه) قال: سألت رسول الله (ص) عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. وفي رواية أخرى سأل رجل رسول الله (ص) عن البر. فقال: جئت تسأل عن البر. قال: نعم فقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وأن أفتاك الناس أفتوك، وهكذا كل روايات الحديث، وهي موافقة للمعنى المستقيم الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ولم يرد فيها لفظ الصدفة، ولا هي مما تمت إلى معانيه بسبب. فمن أين أدخلت على الأستاذ روايته وكتب السنة بأجمعها دون استثناء ليس فيها كلمة صدفة المقحمة في هذا الحديث

وأعجب شيء أن يستدل بصحة هناء يقول الشاعر:

هناء محا ذاك الغراء المقدما

فما عبس المحزون حتى تبسما

ص: 34

ومن هذا الشاعر الذي احتج بقوله؟ هو ابن نباته المصري المتوفي سنة 768هـ. قاله في تهنئة الملك الأفضل صاحب حماة، وتعزيته في وفاة والده المؤيد. فهل ابن نباته ممن يحتج بكلامهم في اللغة أم ذلك مذهب جديد في فن الاحتجاج والاستشهاد

2 -

وصف الجمع بصفة المفرد لعله لم يرد إلا في كلام المؤلفين وافتراضات المتأخرين؛ فإن ذهبت تلتمس له شاهداً صحيحاً من كلام العرب أعجزك العثور عليه. أما البيت الذي زعم أن جريراً قاله فلا يوجد في ديوانه ولا هو مما يشبه شعره

عبد الحميد المسلوت

ملاحظات ورجاء

اطلعت على القسم الثاني من ملحمة السراب للأستاذ الكبير الدكتور إبراهيم ناجي في العدد 575 من الرسالة الغراء، فأعجبني تصويره أيما إعجاب حيث تجلت فيه عبقرية الشاعر العظيم. وبينما كنت في طريقي أثناء قراءة الملحمة لاحظت عند منتهاها قبل البيت الأخير أن ضلع الشطر الثاني مكسور. وهذا هو البيت:

مرحباً بالهوى الكبير فإن يب

ق وإن تسلمي يطب لنفسي البقاء

ويمكن الجبر بحذف شيء منه أو بتغيير الشطر، وقد سبق في العدد الماضي من الرسالة 574 أن أبدى الأستاذ علي محمد حسن رأيه في القصيدة المعنونة بالسراب، حيث لا حظ كسراً في ضلع بعض الأبيات. والقصيدتان من بحر الخفيف، فأرجو أن يتفضل الشاعر الألمعي فيجبر الكسر مع قبول عظيم تشكراتي وخالص تحياتي.

مكة المكرمة

يوسف قستي

ص: 35