المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 583 - بتاريخ: 04 - 09 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٨٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 583

- بتاريخ: 04 - 09 - 1944

ص: -1

‌زواج الأقارب والأباعد

للأستاذ عباس محمود العقاد

(هل لي أن ألتمس لديكم الرأي في أمر عنّ لي لم أوفق إلى غيركم أطمئن إليه. . . لأعهد إليه في الإجابة الشافية القويمة؟

(والمسألة هي مسألة زواج ذوي القرابة وخصوصاً القرابة (القريبة) بين من يسميهم الإنجليز أبناء العمومة

(فقد زعم بعض من كتب في هذا الموضوع وقرأت لهم أن النسل يأتي هزيلاً معتل البنية والذهن، كلما اقترب الزوجان في النسب، (ولنضرب مثلاً لذلك صاحب كتاب أصول الحضارة في تدعيمه رأيه ببيوتات أوربا المالكة)، كما قرأت أيضاً ما ينفي هذا القول ويثبت نقيضه.

(ثم إنني رأيت أن نبينا محمداً صلوات الله عليه قد ذهب إلى تزويج بنتين من بناته من رجلين من ذوي قرباهما القريبة. فاستنتجت من ذلك ألا غضاضة ولا مضرة في مثل هذا الزواج.

(ومن هنا ترون التضارب والخبط بين علماء أوربا وأدباء العربية القدامى في أمور هي من الأهمية بالمكان الأول، لأنها تتعلق بمستقبل بني الإنسان وما يرجى لهم على هذه الأرض من ارتقاء في بنية الجسوم والعقول والأخلاق.

(وعلى هذا نلتمس بين أيديكم الحجة والصواب في هذه المشكلة من الناحية البيولوجية والعلمية. . . وأما ونحن بصدد الزواج وما يدور حوله فليسمح لي الأستاذ أن أستفتيه في اقتران المصريين من الأوربيات الغربيات من الناحية البيولوجية الحديثة. . .)

(الإسكندرية)

(م. ت)

ومسألة الزواج اليوم - وبعد الحرب الحاضرة على الخصوص - هي إحدى المسائل التي يتجدد البحث فيها، أو يعاد النظر إليها على ضوء من العلم الحديث والتجارب السابقة واللاحقة في المجتمعات المختلفة، حسبما تدين به تلك المجتمعات من العقائد الدينية

ص: 1

والسياسية، ولا سيما المجتمعات التي تفرض عليها عقائدها رأياً خاصاً في بناء الأسرة وعلاقات الرجال والنساء.

فالنظر إليها من بعض جوانبها مقدمة لنظرات كثيرة في الواقع سيشغل بها أبناء مصر مختارين أو غير مختارين بعد زمن قصير.

ومن هذه الجوانب التي تستحق النظر أو تستحق إعادة البحث فيها جانب الزواج بين الأقارب والأباعد، وما يقوله عنه المختصون بهذه الشؤون من علماء الاجتماع ومؤرخي طبائع الأجناس.

فالزواج بالأباعد، وهو ما يسميه خبراء هذه الشؤون (إكسو جامي) هو عادة أو شريعة من أقدم الشرائع في المجتمعات الفطرية والمجتمعات التي أخذت بنصيب من الحضارة

ويندر بين هذه المجتمعات من لم يعرف (الإكسوجامي) في صورة من صوره الكثيرة التي تتقلب على جميع الفروض وتتناقض أغرب التناقض في بعض الأحوال.

فمن هذه المجتمعات ما يحرم فيه زواج الأخوين ولا يحرم فيه زواج الأب ببنته، ومنه ما يحرم فيه زواج هؤلاء جميعاً ومعهم أبناء الأعمام، ومنه ما يحرم فيه زواج أبناء القبيلة الواحدة الذين ينتسبون إلى جد واحد، ومنه ما يحرم فيه الحمل ولا تحرم فيه الصلات الجنسية.

والاختلاف في تعليل هذا التحريم بين الباحثين فيه أكبر وأوسع من اختلاف القبائل في هذه العادة، وهذه الشريعة

فمنهم من يعزوها إلى غيرة الأب من ولده، وغيرة الأم من بنتها، ومنهم من يعزوها إلى رغبة الرجال في إظهار القوة باغتصاب الحلائل من القبائل البعيدة، ومنهم من يعزوها إلى (الطوطمية)، أو اتخاذ حيوان من الحيوانات جداً للقبيلة كلها ورباً حارساً لجميع أفرادها، فهم جميعاً في حكم الأسرة الواحدة التي لا يجوز لها أن تأكل من لحمها ودمها). . . ومنهم من يعزوه إلى الأسباب الاقتصادية، لأن الأب يتقاضى مهراً من الزوج الغريب ولا يتقاضاه من ابنه أو ابن عمه، ومنهم من يعزوه إلى ما يكون بين الأقربين من الألفة التي تضعف الرغبة الجنسية وتنشئ بين الأقربين علاقة من الرحم غير علاقة الزواج

وكل أولئك جائز أن يؤدي إلى تقرير هذه الشريعة في الجماعات الأولى، وإن غلب بعضه

ص: 2

على جماعة وغلب غيره على جماعة أخرى.

وقد كان اجتناب الأقربين في الزواج مذهباً معروفاً بين العرب، وإن لم يتفقوا عليه، فكان أناس منهم يعتقدون أن الولد يجيء من القريبة ضاوياً (لكثرة الحياء من الزوجين فتقل شهوتهما، ولكنه يجيء على طبع قومه من الكرم)، وفي ذلك يقول أحدهم:

يا ليته ألقحها صبياً

فحملت فولدت ضاويّا

ويروى عن النبي عليه السلام أنه قال: (اغتربوا ولا تضووا)، حديث لا نقطع بصحته، لأنه عليه السلام قد زوج بنيته من الأقربين، كما ذكر الأديب صاحب الخطاب

أما الرأي الذي يوشك أن يستقر عليه الخبراء بهذه الشؤون فهو أن الزواج بالأقارب لا ضرر فيه من الوجهة البيولوجية إلا في حالة واحدة، وهي أن يغلب على الأسرة كلها استعداد جسدي لبعض الأمراض، كما يتفق أن يغلب على بعض الأسر الاستعداد لأمراض الصدر، أو اختلال الأعصاب أو سوء الهضم، أو ما شاكل ذلك من دواعي الضعف التي تورث وتنتقل إلى الأبناء. فإن الولد إذا ورث الاستعداد للمرض من أبيه وأمه كانت وقايته منه أصعب من وقاية أبويه، وهذه حالة لا شك في ضررها، سواء كان تشابه البنية في أسرة واحدة أو في أسر غريبة. إذ لا يجوز لرجل مستعد لمرض من الأمراض أن يتزوج بامرأة مستعدة لهذا المرض على التخصيص سواء كانت من أهله أو غير أهله

أما في غير هذه الحالة فزواج الأقارب مأمون من الوجهة البيولوجية على قول الأكثرين من الثقات. وقد روي وستر مارك في كلامه عن أحدث الآراء في موضوع الأكسوجامي مشاهدات بعض المعنيين بتجربة التلاقح بين الحيوانات فإذا بالكثيرين منهم يتفقون على أن هذه الحيوانات سلمت من عوارض الهزال المزعوم وأنجبت ذرية من أحسن أنواعها في صفات القوة والنشاط، ولا سيما الحيوانات التي يعنى بانتخابها وإبعاد الضعيف منها لأسباب فردية لا علاقة لها بالبنية الموروثة

ومع هذا أي قول من أمثال هذه الأقوال يمضي بغير خلاف من النقيض إلى النقيض؟

فمن أعجب التناقض في هذا الصدد أن الكاتب بت رفرس - ينفي الضرر من تزاوج الحيوانات القريبة ويجعل شاهده على ذلك خيول السباق، فإذا بزميل له في هذه البحوث وهو سير جيمس بن بوكوت يناقض هذا الرأي ويتخذ خيول السباق نفسها حجة له على

ص: 3

قوله ويهيب بقومه أن يدركوا ذرية الخيول الإنجليزية بدم غريب قبل أن يبلغ بها الضعف مبلغاً لا تجدي فيه المداركة

والقول الفصل في هذا الخلاف غير مستطاع، ولكننا نسيغ بالعقل سبب الضعف الذي ينجم من تزاوج الأقربين وهو اشتراكهم في الاستعداد للأمراض والعوارض الخلقية أو الخلقِية، فإذا انتفى هذا الاشتراك فليس يتضح أمامنا سبب للتحذير من هذا الزواج، وليس فيما شاهدناه من الأمثلة دليل على أن زواج الأقربين أضر بالذرية من زواج الأبعدين

أما زواج المصريين بالأوربيات فلا ضرر من الوجهة الجسدية مع سلامة الزوجين، وفيه إلى جانب هذا مزايا التلقيح بالدم الجديد الذي شوهدت حسناته في كثير من الشعوب والأفراد

ونحن نعتقد أن المسألة هنا ليست مسألة اللحم والدم وصحة الجوارح، ولكنها مسألة (الأعصاب) التي هي خزين الملكات والمواهب الخلقية والعقلية ومناط التفاضل الكبير بين الأقوام والأجناس. فقد تكون المرأة صحيحة الدم واللحم بريئة من عوارض السقم والهزال، ولكنها لا تنفث في أبنائها نشاطاً جديداً ما لم يكن مصدر هذا النشاط ذلك الخزين العصبي الذي تكنزه بعض الأمم بالتجارب النفسية والجسدية في عشرات الألوف من السنين

فهذا الخزين العصبي هو الذي يستفاد من البناء بالأوربيات ولا سيما بنات الشمال

ومن هذه الوجهة لا اعتراض على زواج المصريين بالأوربيات أو من يشابههن في هذه الخصلة، وإنما يأتي الاعتراض على هذا الزواج من الوجهة القومية والوجهة الأخلاقية والوجهة الإنسانية على السواء

فالنساء المصريات اليوم أوفر عدداً من الرجال المصريين، فإذا تركهن أبناء وطنهن ليبنوا بالأجنبيات فعاقبة ذلك عضل مئات الألوف من البنات في سن الزواج، وعاقبة هذا العضل فساد في الأخلاق وبلاء على المجتمع المصري يربيان على كل نفع مرجو من البناء بالأوربيات ولو كن من أفضل النساء

وهكذا يرى الأديب صاحب الخطاب أن شئون الأمم تعالج جملة من جوانب كثيرة ولا يقتصر العلاج فيها على جانب دون جانب. وعندنا أن الأمة التي تكون كل فتاة فيها متزوجة في سنها المعقول أسلم من الأمة التي ينجب فيها عشرة آلاف أو عشرون ألفاً نسلاً

ص: 4

متفوقاً وإلى جوارهم ألوف العوانس يبتذلن أنوثتهن فيسري فسادهن إلى البيوت جميعاً ويغرق ذلك النسل المتفوق في لجته التي لا تدفعها شطوط ولا جسور

فنصيحة الفرد أن الزواج ببنات الأمم المتقدمة زواج صالح مطلوب

ونصيحة الأمة أن ترك بناتها معضولات بلاء غير مأمون. فإن تسنى دفع هذا البلاء وتحصيل النفع من البناء بالأوربيات المتقدمات فقد استطيعت خدمة الفرد والأمة على السواء

ولكنه على هذا احتمال بعيد.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌شعراء الشباب

ووجوب عنايتهم بثقافتهم الخاصة

للأستاذ دريني خشبة

ليس الغرض من هذه الكلمة تعبير شعراء الشباب بفقر ثقافتهم، ولكن الغرض منها هو التعاون العام بين من تعنيهم نهضة الشعر العربي، وبين أولئك الشعراء الذين تعتمد عليهم نهضتنا الأدبية كل الاعتماد في الأخذ بيد الشعر، وتجديده، والاتجاه به إلى الوجهات التي ظل الشعر العربي محروماً منها إلى اليوم

ونحن حينما ندعو إلى وجوب إحداث ثورة - أو نهضة - في الشعر العربي، نؤمن بأن الثورة - أو النهضة - ليست عبثاً يستطيع أن ينهض به أولئك المتأدبون الظرفاء الذين عرفوا بعض موازين الشعر. وقواعد العروض، فكان حسبهم من الشعر كله هذه المعرفة البائسة التي انقلبت في رؤوسهم غروراً ذميماً، وخيلاء لا تعرف التواضع، وأحلاماً تشبه أحلام الصائمين في هذا الزمان بالأطايب والأشربات!

لا يستطيع جاهل أن ينفع جاهل أن ينفع نفسه ولا أن ينفع أمته. . . ولا تستطيع جماعة من الجهلاء أن تضطلع بعمل يحتاج القيام به إلى علم وبصيرة وطول تجربة. . . وقد طالبنا شعراء الشباب بإحداث نهضة في الشعر العربي تشمله كله شكلاً وموضوعاً. . . فما راعنا إلا أن يظن أولئك المتأدبون الظرفاء أننا ندعوهم لهذا العمل، ونعتمد عليهم في القيام به. . . فأمطرونا بمئات كثيرة من هذياناتهم التي دعوها شعراً. . . ومع إعجابنا الشديد بعدد كبير مما وصلنا من المنظومات الشائقة من مصر ومن جميع الأقطار العربية إلا أننا لم نستطع منافقة أصحاب الكثرة الغالبة من المنظومات الأخرى التي تضطرنا إلى مصارحة إخواننا الظرفاء هؤلاء بوجوب النصح لهم بالانصراف عن قرض الشعر، ومعاطاة صناعتهم البائرة تلك، التي سوف تجر عليهم عقابيل من الحسرات لا قبل لهم بها. . . وليس في تعبيرنا بذلك الأسلوب قسوة على أحد. . . فالمسألة جد لا لعب. . . إنا مفتقرون إلى شعر جديد يشحذ من همة الأمم العربية، وترى فيه تلك الأمم آمالها ومطامحها، وترى فيه أدباً جديداً حياً سائغاً لا نقلد به العباسيين، ولا نمشي به في آثار الأمويين أو الأندلسيين. . . نريد شعراً تتجلى فيه شخصيتنا قوية مستقلة لها طريقتها

ص: 6

الخاصة من الأداء والتفكير. . . لا شعراً مقلداً رثاً تكرثه روح الماضي، وتجثم على صدره قيود الغابرين. . . ونحن حينما هتفنا بشعراء الشباب ليتغنوا آمالنا الجديدة، ولينشدوا لنا أنشودة العالم العربي الحديث، لم نكن نزعم أن هؤلاء الشعراء مبرءون من العيوب، ولكنا كنا نزعم أنهم أقدر على التجديد من الشعراء الشيوخ الإجلاء، الذين نحبهم ونحترمهم. وإن خامرنا الشك في قدرتهم على التجديد، لأنهم عاشوا معظم حياتهم في هذا القديم الذي لم يعرفوا غيره

غير أن الشعراء الشباب - أو أغلبية الشعراء الشباب - المشهورين وغير المشهورين فقراء في ثقافتهم إلى درجة محزنة. . . والشاعر الفقير في ثقافته لا يستطيع أن ينهض بثورة في الشعر وإن حاولها، وأرق في سبيلها عينيه، لأنه مفتقر إلى الأدوات الأولى التي تمكنه من إتقان عمله، وتمهد له سبيله إلى قلوب قرائه. . .

ولسنا ندري إن كان كلامنا هذا سوف يغضب أحداً من هؤلاء الشعراء ما دمنا صادقين فيه، صادقين في إزجاء النصح لكل شاعر يود أن تكون له منزلة سامية في مستقبل هذا الشعر الذي ندعو إلى تجديده وإصلاحه

وشعر الشباب في الأقطار العربية فئتان. فئة تجهل اللغات الأجنبية، وفئة تعرف واحدة أو أكثر من واحدة من تلك اللغات. . . فالفئة التي تجهل اللغات الأجنبية لم تطلع على نماذج الشعر الأجنبي في لغاته الأصلية. وأكبر الظن أنها لا تدري ما الملحمة ولا الدرامة المنظومة ولا ما الشعر المرسل. . . وليس في ذلك ضير قط على شعراء هذه الفئة، وإن كنا نؤثر لهم تعلم إحدى هذه اللغات وإتقانها إلى الدرجة التي تساعدهم على مطالعة أشعارها لما للمحاكاة من أثر بالغ في تجديد شعرنا الذي نصبو إليه، فإن لم يتيسر لهم تعلم إحدى اللغات الأجنبية، فلا أقل من استيعاب كل ما يترجم من ملاحم تلك اللغات ومن دراماتها، ثم تطالب العبقرية العربية بتذكر أن تلك الملاحم وهذه الدرامات كانت شعراً في لغاتها الأصلية، فليس ما يمنع أن ننظم مثلها أو أرقى منها أو ما يدانيها بالشعر العربي. . . وإن لم يرقنا الشعر المرسل الذي دعونا إليه، ولا نزال نؤثره على غيره للملاحم وللدرامة المنظومة، فلنختر لنظم الملحمة أو الدرامة الطريقة العروضية التي تروقنا. إذ لا ينبغي أن يحول الشكل دون الغرض

ص: 7

أما الفئة التي تعرف اللغات الأجنبية وتتقنها إلى الدرجة التي تقرأ بها الشعر الأجنبي قراءة مفهومة سائغة، فهي الفئة التي أخرجت لمصر وللشرق العربي أحسن شعرائها، ولسنا نريد أن نثير فتنة بين الفئتين بهذا التفضيل الذي لا يماري في حقيقته أحد، بل نحن - على العكس من ذلك - نريد أن نتهم أغلبية الفئتين بأنها أغلبية فقيرة الثقافة، قليلة الاطلاع، لا تحفل بأن تجاري تيارات الفكر العالمي، ولا بمواكبتها تلك المواكبة التي تنعكس في أشعارنا - أما موافقة وإما معارضة وإما ابتداعاً

إن المكتبة العربية لتحفل بطائفة قيمة من كتب النقد التي تتجلى عبقريات أسلافنا من النقاد العرب، والتي تطلعنا على موازين أدبية لا يقل كثير منها عما يروج اليوم من أساليب النقد الحديث في أوربا. . . فهل اطلع شعراؤنا الشباب - أو أغلبية شعرائنا الشباب - على هذه الكتب، وهل حاولوا الانتفاع بما أورده أصحابها فيها من كرائم اللفتات الأدبية التي تكون للقرائح الفجة، والأذواق الشاردة، كما تكون النار للذهب؟

هل قرأ شعراؤنا الشباب - أو أغلبية شعرائنا الشباب - كتاب العمدة لأبن رشيق، أو كتاب نقد الشعر ونقد النثر لقدامة؟ إنهم لا شك يسمعون عن كتاب الصناعتين للعسكري، فهل فكروا في قراءته والانتفاع بما فيه، أو بما في كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري، أو كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه؟! ثم كتب البيان والتبيين والكامل ومعاهد التنصيص وغيرها وغيرها من ذخائرنا التي لا تحضرنا الآن أسماؤها والتي لا داعي لحشد أسمائها. . .

إن هذه الكتب وغيرها ثروة ثمينة في المكتبة العربية القديمة لا غنى عنها لشاعر يحترم نفسه. . . شاعر يحس من نفسه بنواحي الضعف فلا يمنعه استعلاء أو غرور عن معالجتها بالإكباب على كتب القدامى من أبطال النقد الأدبي العربي، ثم بما تصل إليه يده من كتب النقد الحديث المؤلفة أو المترجمة، وهي كتب والحمد لله قد أنفق فيها مؤلفوها ومترجموها جهوداً محمودة مشكورة، يجب أن تقابل من طائفة الأدباء عامة، والشعراء بوجه خاص بحسن القراءة والمذاكرة، حتى يكتب الكتاب، وينظم الشعراء على هدى مما تلفتهم إليه تلك الكتب من عيوب الكتابة ومآخذ النظم، وحتى يستطيعوا أن يفهموا روح القوة - أو روح النهضة - التي نطلب إليهم الاضطلاع بأعبائها في الأدب العربي عامة، وفي الشعر

ص: 8

العربي خاصة

ولدينا من كتب النقد الحديث طائفة صالحة جداً من إنتاج أشبال الجامعة ورجالها الصناديد، ومن إنتاج كرام كتابنا الذين مهدوا لنا طريق نهضتنا، وحملوا المشاعل الأولى بين أيدي أدبنا الغض المفتقر إلى الإصلاح والتجديد. . . فهل قرأ شعراؤنا الشباب، أو معظم شعرائنا الشباب، شيئاً من تلك الكتب، وهل انتفعوا بها في تنظيم إنتاجهم الأدبي؟

إن الشاعر الذي يكتفي بمواهبه في توجيه منظوماته هو شاعر تعس، لا يرجى منه خير كثير. . . والشاعر الذي يبخل على نفسه بشراء عشرة كتب في النقد القديم والحديث هو شاعر فقير في تفكيره، مريض في إنتاجه، غاط في نومه الممتلئ بأحلام النوكي والضعفاء. . . تلك الأحلام المريضة التي لن يصيب منها الأدب العربي، ولن يصيب منها الشعر العربي إلا ما أصاب من الزخارف الباطلة التي سماها أصحابها شعراً، وما هي من الشعر في شيء، لأنها عبث يغثي النفوس، ويكرب الأخيلة، ويزهد الإنسان في إنشاد الشعر

وليس تقصير شعرائنا الشباب، أو معظم شعرائنا الشباب في مطالعة كتب النقد هو كل ما نأخذه عليهم، بل يحزننا أن نقرر أن أكثرهم لا يقرءون من الشعر العربي إلا قدراً ضئيلاً لا يُقوّم ألسنة، ولا يكسب ثروة، ولا يربي ملكة، ولا يطبع ذوقاً، ولا يمد القريحة بما تفتقر إليه ساعة النظم من شتى التعابير وفنون الأساليب. . . يبدو ذلك كله في استبعاد طائفة بعينها من التعابير، وطائفة بعينها من المعاني، وطائفة بعينها من الأخيلة لقرائح الكثرة الساحقة من شعراء الشباب. . . وذلك دليل جلي على فقرهم الثقافي، وندرة اضطلاعهم على الشعر العربي الزاخر بأكبر ثروة لفظية يمتلكها شعر أمة من الأمم. . . شعر عاش منذ أكثر من ألفي سنة، ولا يزال يعيش، وسوف يعيش؛ وإن كنا نطلب له عيشاً جديداً وحياة ثائرة مختلفة الأغراض متغايرة المقاصد عما اعتاد الشعر القديم - وكل الشعر العربي أو معظمه، في رأينا قديم

وقد تشترك الفئتان، الذين يعرفون اللغات الأجنبية والذين لا يعرفونها، في ذلك العيب الواضح. . . أي عدم الاطلاع الطويل العميق على كتب النقد، قديمها وحديثها. . . وعلى دواوين الشعر العربي قديمها وحديثها كذلك. إلا أن تقصير شعرائنا، أو معظم شعرائنا، الذين يجيدون لغة أجنبية، في الاضطلاع على شعر تلك اللغة، واستيعاب ما نقل إليها من

ص: 9

أشعار اللغات الأخرى، قديمها وحديثها، هو تقصير لا تبرره أسباب وجيهة، اللهم إلا الغفلة والكسل وتراخي الهمة. . .

ولست أدري كيف يطيق شاعر يجيد اللغة الإنجليزية مثلاً ألا يستوعب درامات شيكسبير وبن جونسون ومارلو، وألا يقرأ منظومات برونتج وشلي وبيرون وتنيسون وسكوت الطويلة الرائعة التي هي بلا شك خير ما نظم البشر وأحسن ما تغنت به الإنسانية. . . ولست أدري كيف يطيق شاعر يجيد اللغة الإنكليزية مثلاً ألا يقرأ ما ترجم إلى هذه اللغة من ملاحم الأقدمين كالإلياذة والأوديسة والإلياذة والكوميديا الإلهية مثلاً وهي تلك الملاحم الخالدة في عالم الشعر، والتي لا ندعو دعوتنا إلا ليكون لنا مجد شعري يشبه مجدها أو يدنو منه. . . ولست أدري كيف يطيق من يجيد اللغة الإنكليزية مثلاً ألا يقرأ كتب النقد الرائعة التي كتبها هازلت أو أرنولد، ومدلتون ولامبورن، وريتشارد، وسبنجارا، ومن إليهم من أساطين النقد الحديث

وبعد. . . فهذا كلام لا نريد به تعبير أحد من شعراء الشباب الذين نعقد عليهم آمالنا في النهوض بالشعر العربي الحديث، ولكنه كلام تريد به حفز همم شعرائنا الذين يرحبون بالنقد ويتشوَّفون إلى الكمال.

دريني خشبة

ص: 10

‌على هامش ذكرى المعري

(داعي الدعاة) مناظرة المعري

للدكتور محمد كامل حسين

- 5 -

من الآثار الأدبية التي تركها المؤيد في الدين (داعي الدعاة) رسائله إلى أبي العلاء المعري. وهي الرسائل التي نبهت الجيل الحديث للبحث عن هذا الداعية، بعد أن ظل مجهولاً زهاء عشرة قرون، ويرجع الفضل في نشر هذه الرسائل إلى المرحوم الأستاذ مارجوليوث المستشرق الإنجليزي، الذي نقل هذه الرسائل عن كتاب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي، ونشرها لأول مرة بمجلة الجمعية الأسيوية الملكية سنة 1896، ثم أعاد نشرها مرة أخرى بمجلة الجمعية الأسيوية سنة 1902، وقدم لها بمقدمة صغيرة ادعى فيها أن هذه المناظرة كانت سنة 438 هـ ولكني أخالفه في تحديد هذه السنة، وأذهب إلى أن هذه المناظرة إنما كانت سنة 449 هـ، وعندي ما يؤيد ما ذهبت إليه، فقد نقل ياقوت الحموي أنه (لما كانت المناظرة بين أبي العلاء، وبين داعي الدعاة، في ذبح الحيوان، أمر داعي الدعاة بأن يؤتى بأبي العلاء إلى حلب). وفي الرسالة الثالثة والأخيرة من رسائل داعي الدعاة، تصريح بأنه كان في الشام أثناء هذه المناظرة. وهناك نص آخر ورد في (المجالس المؤيدية) على لسان الخليفة المستنصر الفاطمي (حتى توجه من وجهناه من داعينا للقاء التركمانية فأنعقد بينه (أي بين الداعي) وبينه (أي بين المعري) من المناظرة مكاتبة لا مشافهة. فهذه النصوص تثبت أن هذه المناظرة جرت أثناء خروج المؤيد في الدين لحرب طغرلبك، وأن المؤيد كان بالشام وفي حلب، وقد ذكرت في مقالاتي السابقة أن المؤيد في الدين خرج من مصر للقاء التركمانية سنة 448هـ وكان بحلب سنة 449هـ، وتكاد تجمع المصادر على أن رسالة داعي الدعاة الأخيرة وصلت معرة النعمان بعد وفاة أبي العلاء بأيام قليلة، ونحن نعلم أن المعري توفي سنة 449هـ وهناك بعض نصوص أخرى تؤيدان هذه المناظرة التي كانت بين الأدبيين العالمين. حدثت سنة 449هـ. وسبب هذه المناظرة كما حدثنا المؤيد في مجالسه أنه جرى ذكر أبي العلاء المعري في مجلس

ص: 11

الناظر بحلب، فهجا الحاضرون أبا العلاء وأغروا الناظر بدمه، وادعوا أن الغيرة على الدين تبيح قتله، ولكن المؤيد في الدين اقترح على الحاضرين أن يجرد لأبي العلاء من يحاجه ويناظره حتى ينكشف عواره وينحط قدره بين معاصريه، ويتخذ الناظر من هذه المناظرة ذريعة للقضاء على هذا الزنديق الخارج عن الدين، ثم نشط المؤيد لمناظرته تلك المناظرة التي كانت من أسباب خلود المتناظرين

ويخيل إليّ أن المؤيد في الدين لم يسرف في الحكم على أبي العلاء إسراف معاصريه، ولم ير في عقيدة أبي العلاء ما كان يراه غيره، فقد رمى المعري بالإلحاد والتعطيل والخروج على دين الجماعة بل لا تزال عقيدة أبي العلاء إلى يومنا هذا موضع نقاش بين الأدباء والعلماء. أما رأي المؤيد داعي الدعاة في أبي العلاء فقد وضحه في مجالسه بقوله: قد انتهى إليكم خبر الضرير الذي نبغ بمعرة النعمان وما كان يعزى إليه من الكفر والطغيان على كون الرجل متقشفاً، وعن كثير من المآكل التي أحل الله له متعتها. فهذا النص إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن المؤيد لم يقبل كلام الناس في أبي العلاء، ولم يذهب مذهبهم في اتهام دينه، بل هذا النص دفاع عن تحريم المعري للحوم تعففاً منه وتقشفاً

ويخيل إليَّ أيضاً أن غرض المؤيد من هذه المناظرة أن يعرف حقيقة مذهب أبي العلاء، وأن يستوضح أسرار فلسفته وأسرار عقيدته فقد يكون أبو العلاء من الذين يتخذون التقية والستر حجاباً لهم، ويوهمون الناس بغير ما يبطنون ولذلك بدأ المؤيد رسالته الأولى بشيء من الظرف والإعجاب بأبي العلاء، ثم نراه في الرسالة الثانية يسخر بأبي العلاء ويتهكم به، وفي الرسالة الثالثة يصرح بأنه لم يجد عند أبي العلاء ما كان يأمله

أما جواب المعري؛ فيظهر منه أن أبا العلاء قد سمع بأمر المؤيد في الدين داعي الدعاة من قبل، وكان يعرف مقدرته وحجته فبالغ في تعظيمه وتفخيمه، إما خشية على نفسه من سطوة المؤيد وإما تأدباً معه في المناظرة لمركز المؤيد في الدعوة الفاطمية والدولة الفاطمية

ومهما يكن من شيء، فالمؤيد في هذه المناظرة ضيق الخناق على أبي العلاء، وكان أبو العلاء يتلمس الطرق للهرب من خصمه فأخذ يحاوره ويحاول الفرار من موضوع المناقشة وداعي الدعاة من ناحيته يجذبه نحو موضوع المناظرة؛ فسؤال داعي الدعاة كان عن الأسباب التي أدت بأبي العلاء إلى تحريم أكل اللحوم والألبان. فكان جواب أبي العلاء في

ص: 12

موضوع إرادة الله في الخير والشر، ثم البراءة من أشعار قالها بعض الملحدين. أما سؤال الداعي فلم يجب عليه جواباً شافياً. ولو طالت حياة أبي العلاء لظفر الدب العربي بثروة أدبية فلسفية لها قيمتها

أما ما قيل من أن المؤيد داعي الدعاة أمر بأن يحمل إليه المعري بحلب ليخيره بين الإسلام والموت، وأن المعري خاف على نفسه، فشرب السم؛ فهذا ما لم يقبله أحد من القدماء ولا المحدثين

والآن نتساءل هل كان المعري بدين بمذهب الفاطميين؟ فقد جاء في كتاب (الفلك الدوار في سماء الأئمة الأطهار) أن المعري كان أحد دعاة الحاكم بأمر الله الفاطمي وابنه الظاهر)!

ولا أدري من أين استقى مؤلف هذا الكتاب هذا الخبر إذ لم يقع بين يدي من كتب الدعاة ما يؤيد هذا الزعم، بل لم أجد داعية من دعاة المذهب الفاطمي يشير إلى أن أبا العلاء كان من زمرتهم ولو صح هذا الخبر لوجدت الدعاة على عادتهم يطنطنون بذكر كل نابغة يظهر بينهم، حتى لو فرض أن أبا العلاء اتخذ التقية لنفسه وستر حقيقة مذهبه ومرتبته في الدعوة لما خفي ذلك عن كبير دعاة المذهب وهو المؤيد في الدين، ولما احتاج الداعي الأكبر إلى مناظرة المعري لكشف ستره ومعرفة حقيقة مذهبه، لأن الداعي الأكبر عنده سجل الدعاة، وهو أعرف الناس بهم

حقيقة نجد في لزوميات أبي العلاء بعض العقائد الفاطمية، ولكن هذه الآراء التي ذكرها المعري لا تقوم دليلاً على اعتناقه المعري لهذا المذهب. فقد كانت التيارات الفكرية في عصر المعري تتحدث بهذه الآراء، وكان المعري في وسط يخضع للنفوذ الفاطمي سياسياً ودينياً، وشب المعري وقد امتلأ فكره بعقائد الفاطميين وآرائهم، وحوى منها الشيء الكثير؛ فلما نضج واستطاع أن يميز بين المذاهب المختلفة والآراء المتباينة تخلى عن كثير من عقائده وآرائه السابقة التي كانت تسود بيئته وعصره، وكون لنفسه مذهباً حراً لا يتقيد برأي ولا يتعصب لمذهب دون مذهب. فأغضب معاصريه سواء أكانوا على مذهب الفاطميين أم من جمهور أهل السنة، واتهم في دينه شأنه في ذلك شأن كل المصلحين وزعماء الفكر الحر في جميع أنحاء لعالم

فالمعري لم يكن من دعاة المذهب الفاطمي، بل لم يكن ممن اعتنق هذا المذهب، بل كان

ص: 13

أشد الناس حرية للفكر ومن أكبر زعماء المسلمين والعرب دعوة إلى حرية الفكر

(يتبع)

دكتور

محمد كامل حسين

مدرس بكلية الآداب بالقاهرة

ص: 14

‌على هامش النقد

بقية في المعاني والظلال

للأستاذ سيد قطب

قلت في الكلمة الماضية: إن طريقة التصوير والتظليل هي الطريقة التي وردت فيها فرائد الشعر العربي التي تهيأت للشعراء على ممر الأجيال

وقلت: إن طريقة التصوير والتخييل هي قاعدة التعبير في القرآن الكريم، وأنه تفرد بطريقة التصوير - في هذا المستوى - بين الشعر الجاهلي قبله، والشعر الإسلامي بعده

وقلت: إن التعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلاً، يخاطب الحس والوجدان، ويطبع في النفس صورة من صنع الخيال، وأن هذه الطريقة أقرب إلى طبيعة الفنون من الطريقة الأخرى التي تعنى بإبراز المعاني في الأساليب الذهنية التجريدية

فلعله يكون من كمال البحث في هذا الموضوع أن نعرض نماذج أخرى من الشرق والغرب ومن القديم والحديث، غير القرآن الكريم - في مستواه الرفيع - وغير الشعر العربي في الجاهلية والإسلام

جاء في (العهد القديم) - التوراة - كلام عن لسان (الجامعة بن داود) قال:

(باطل الأباطيل. الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟ دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد. والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب، وتدور إلى الشمال. تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار، إلى هناك تذهب راجعة. كل الكلام يقصر، لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل، العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع. ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يصنع، فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال عنه: انظر هذا جديد، فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذِكرٌ للأولين. والآخرون أيضاً الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين يكونون بعدهم.

(أنا الجامعة. كنت ملكاً على إسرائيل في أورشليم. ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السموات. هو عناء رديء جعله الله لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت

ص: 15

كل الأعمال التي عملت تحت الشمس، فإذا الكل باطل وقبض الريح. الأعوج لا يمكن أن يقوّم، والنقص لا يمكن أن يجبر. أنا ناجيت قلبي قائلاً: هأنا قد عظُمتُ وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على أورشليم، وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة، ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة، ولمعرفة الحماقة والجهل. فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح. لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علماً، يزيد حزناً.

هذا كلام قديم، وترجمته ترجمة رديئة من حيث الأسلوب العربي. ولكن هذا لا يفقده طابعه الفني العالي.

هنا إنسان يغمره السأم والملال، ويطويه اليأس والقنوط ولكنه لا يقول: إنه ملول سأمان، ولا أنه يائس قانط، إنما يرسم لك صور الحياة والأشياء في نفسه، ويدعك ترى نفسه في هذه الصور والأشياء:

الكل باطل. وحركة الحياة مكرورة معادة، لا شيء جديد تتفتح له النفس، ويتطلع له القلب، الأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. والريح كذلك. تذهب دائرة وإلى مداراتها ترجع. والأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. . . فالطبيعة هنا - من خلال هذه النفس - يغشيها السأم والملال والتكرار العقيم.

ثم ماذا؟

ثم هذا هو الإنسان. تقصر كلماته عن التعبير عما في نفسه، والعين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع، فهو عبث كله ما يحاول من الكلام والنظر والسمع، وسائر ما تهم به الجوارح والوجدانات. على أنه ليس هناك جديد تحت الشمس، كل ما يكون فقد كان. ويزيد عبث المحاولة لأي شيء في هذه الدنيا أن ليس ذكر للأولين، وأن ليس ذكر للذين سيكونون، فالكل ينسى ويطوى في تيه النسيان. . .!

الكل باطل، والمحاولة عبث، فالأعوج لا يقوَّم، والنقص لا يُجبر. والحكمة عبث كذلك، فهي مصدر الغم، والذي يزيد علماً، يزيد حزناً

لا شيء إذن يستحق النظر. لا شيء يستحق المحاولة. وما على المرء إلا أن ينتظر في سأم وملل وضيق، حتى تنتهي هذه الأيام المكتوبة عليه، ثم يجرفه التيار فيمضي كأن لم

ص: 16

يكن، ويطوى في زوايا الإهمال كالآخرين!

هنا صورة نفس، تلقي ظلها على الحياة والأشياء، فتطبعها بطابعها؛ يراها الرائي فتؤثر في حسه، وتنطبع في نفسه، لأنها نفس إنسان، لا تركيبة ذهن. وهنا تشترك طريقة الإحساس مع طريقة التعبير، في التصوير والتظليل، وفي إبراز نفس إنسانية من وراء الألفاظ، ومن بين السطور، على الطريقة التي فصلناها في كلمات سابقات

في ظل هذه الصورة نقرأ قطعة لتوماس هاردي الشاعر الإنكليزي الحديث: (ترجمة الأستاذ العقاد في ساعات بين الكتب)

(إذ طلع الفجر، ونظرت إلى الطبيعة المصبحة، جدولاً وحقلاً وقطيعاً وشجراً موحشاً، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص إليَّ. وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه، فبردت حرارتها، ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس بسؤال كان مسموعاً، ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاء: عجباً! عجباً لا انقضاء له أبد الزمان. ما بالنا نحن نقوم في هذا المكان؟ أتراها حماقة جليلة قادرة على التكوين ولكنها غير قادرة على القصد والترسيم. خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافاً لما تجيء به الصروف؟ أم تراها آلة لا تفقه ما نحن فيه من الألم والشعور؟ أم ترانا بقية من حياة إلهية قديمة تموت، فقد ذهب منها البصر والضمير؟ أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول، ونحن في جيشها (فرقة الفداء) والغلبة المقدورة للخير على الشر مقصدها الأخير؟

(كذلك يسألني من حولي ولست أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام والآلام كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى جانب أفراح الحياة)

ونحن نكتفي هنا بتعليق الأستاذ العقاد على هذه القطعة، ففيه أقصى ما نبلغ أن نقول:

(إننا نضرب المثل الأعلى للبلاغة الشعرية بهذه القطعة التي تلوح له (يعني القارئ الذي تهمه المعاني لا الصور النفسية) هزيلة ضامرة لا تساوي بيتاً من ابن نباتة، ولا شطرة من صفي الدين! لأننا نعلم أن الشاعر أراد أن يمثل بها (حالة نفسية) تحيك بنفسه، فمثلّها لنا أحسن تمثيل. أراد أن يصور لنا ملالة النفس العارفة بأسرار الحياة ونواميس الوجود، فصورها في سكون لا ادعاء فيه، وإيجاز لا خلل فيه، وبساطة يخطها الجاهل فيحسبها من غثاثة الفضول. فهو رجل نظر في عبث العواطف وعبث الحوادث وعبث النواميس،

ص: 17

فتولاه الضجر، ونفرت نفسه، ثم ثابت إلى السكينة والتسليم - فيم يحزن الحزين، ويفرح الفرحان، وفيم ينخدع الناس لهذه الآمال الكاذبة، ثم لا يزالون ينخدعون بها، وهم يعلمون أنهم مخدوعون؟ في لا شيء!. . . الخ)

وهذا نموذج من التصوير والتظليل، الذي تتراءى من خلاله (حالة نفسية) تشترك في رسمها طريقة الإحساس، وطريقة التعبير

ونرجع إلى (العهد القديم) فنختار مقطوعة من (نشيد الإنشاد) المشهور:

تقول (شولميت) بطلة هذا النشيد:

(كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي، أدخلني إلى بيت الخمر وعَلَمَهُ فوقي محبة. اسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة حباً. شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني. أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول: ألا توقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء

(صوت حبيبي. هو ذا آت طافراً على الجبال، قافزاً على التلال. حبيبي هو شبيه بالظبي أو بغفر الأيائل. هو ذا واقف وراء حائطنا، يتطلع من الكوى، يوصوص من الشبابيك. أجاب حبيبي وقال لي قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي. لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرَّ وزال. الزهور ظهرت في الأرض. بلغ أوان القضب. وصوتُ اليمامةُ سُمع في أرضنا. التينة أخرجت فجها، وقُعال الكروم رائحتها. قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل، أريني وجهك، أسمعيني صوتك. لأن صوتك لطيف ووجهك جميل

(خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة للكروم، لأن كرومنا قد أقعلت

(حبيبي لي، وأنا له. الراعي بين السوسن إلى أن يفيح النهار، وتنهزم الظلال، أرجع وأشبِهْ يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة

ويقول حبيبها الراعي في مقطوعة أخرى من النشيد:

(ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات. قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد. قلت: إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها، وتكون ثدياك كعناقيد الكرم، ورائحة أنفك كالتفاح، وحنكك كأجود الخمر، السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين!

ص: 18

(أنا لحبيبي وإليَّ اشتياقه. تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل. ولنبت في القرى. لِنبكرن إلى الكروم، لننظر: هل أزهر الكرم؟ هل تفتح العقال؟ هل نوَّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي. اللقاح يفوح رائحة، وعند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي)

فهنا صورة للحب الفطري، كأنما هو قطعة من حب الطبيعة، يتفتح حين تتفتح، ويفوح حين تفوح، الحبيب فتى يقفز من فوق التلال المشعبة كالأيّل، والحبيبة كالنخلة وثدياها كالعناقيد. وهما يبرزان للطبيعة ويتواريان فيها كأنهما من كرومها الفائحة المتفتحة، أو ظبائها وأيائلها الطافرة. أو يمامها في محاجيء الصخر وستر المعاقل. ثم:

(لننظر هل أزهر الكرم؟ هل تفتح العقال؟ هل نوَّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي؟ اللقاح يفوح رائحة. وعند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبتي)

وهذا منتهى الإحساس بحيوية الطبيعة، والاستجابة، كما تستجيب الطبيعة، وفي إبانها المناسب وأوانها المعلوم. وكل هذا من خلال الصورة والظلال التي يرسمها التعبير للطبيعة وللنفس الإنسانية على السواء. وهي أعلى في آفاق الفن من كل دعاء بالغزل على طريقة المعاني الذهنية التي تكاد تكون الوسيلة الوحيدة للتعبير في شعر العذريين وغير العذريين، فيما عدا الفلتات التي لا تكون القاعدة، وإنما تكون الاستثناء القليل

وفي ظل هذه المقطوعات القديمة نتملى قطعة الشاعرة الإنجليزية المعاصرة المرموز لها (لورانس هوب) التي نقلناها في مقالة سابقة تحت عنوان (في غير هذه الليلة) وقد جاء فيها:

لا. حين تشتهي استجابة الحب الكبرى

أقبل علي والصباح يرتع في الأنوار

والبلابل من حولنا مشوقة تصدح بالغناء

بين الورود من حمر وبيض

وبقيتها في (عرائس وشياطين) وفي عدد الرسالة (579) وقد قلنا في التعليق عليها هناك:

هذه شاعرة وامرأة، يبدو في مقطوعاتها طريقة إحساسها بفرح الطبيعة وحزنها، وتتبين الوشائج الحية بينها وبين هذه الأم الكبيرة

عنينا باستعراض قطعة هاردي في ظل قطعة (الجامعة) وقطعة (لورنس هوب)، في ظل

ص: 19

قطعة (شولميت) لغرض خاص، هو بيان مدى تأثر الشعر الأوربي وانتفاعه بكتابهم المقدس، وهو تأثر واضح في هذه القطع جميعاً. في طريقة الإحساس وفي طريقة التعبير على السواء.

ونحن نجد القرآن بين أيدينا، وهو يتبع في التعبير طريقة التصوير الحي، الذي يزيد مساحة المعنى النفسية، ويحيله صورة حية، حتى في الأغراض الدينية البحتة

بين أيدينا هذا الكتاب المقدس يتحدث بأبرع طريقة فنية في الأداء، فلا ننتفع بها، ونرجع إلى اقتباس طرق تعبيرنا إلى الشعر العربي ولا سيما في العصر العباسي، حينما تأثر الشعر بالفلسفة والمنطق، وبرزت فيه المعاني الذهنية بروزاً واضحاً؛ ولولا أصالة الطبع في بضعة شعراء في هذا الوقت، لقضت الطريقة الذهنية في الأداء على الطابع الفني تمام القضاء

إنني أدعو إلى تملي طريقة القرآن في التصوير والتظليل فهي أعلى طريقة فنية للأداء. وإذا كانت وجهة القرآن الدينية، قد جعلت هذه الطريقة خاصة بأغراض الدعوة الإسلامية. فإن نقلها إلى عالم الأدب خليق بأن يرفع هذا الأدب إلى آفاق رفيعة، لم تصل إليها حتى الآن. فهلموا إلى ذلك النبع الأصيل. نبع القرآن.

سيد قطب

ص: 20

‌كتاب المصايد والمطارد

لكشاجم المتوفي سنة 360هـ

للأستاذ سعيد الديوه جي

كنت في صيف السنة المنصرمة قد عثرت على مخطوط قديم في المدرسة الحسينية في الموصل، وتحققت بعد ذلك أن هذا المخطوط هو كتاب (المصايد والمطارد) لكشاجم الشاعر. وفي 14 أغسطس 1943 أطلعني أحد الأفاضل في بغداد على مقال للدكتور الجليل إسرائيل ولفنسون (أبي ذؤيب) نشره في مجلة المجمع العلمي العربي عن كتاب (المصايد والمطارد) وقد كتب الدكتور الجليل بأنه يود أن يتعرف على نسخة غير نسخته فكتبت هذه الكلمة تلبية لطلبه.

بين مخطوطات المدرسة الحسينية في الموصل مخطوط قديم ذكره الدكتور الفاضل داود الجلبي في كتابه مخطوطات الموصل ص 122 تحت الرقم (26) باسم (بازنامة) حجم الكتاب 23 16 سم وعدد صفحاته (190) صفحة في الصفحة الواحدة (17) سطراً. وهو مكتوب على ورق سميك، ويظهر من قواعد كتابته وورقه والحبر الذي كتب به أن الكتاب يرجع إلى القرن السادس الهجري أو ما يقارب ذلك، كما يظهر أن المخطوط قد تمزق على ممر السنين وأعيد تجليده مرة ثانية فأصلح غلافه وزيد في كل من أوله وآخره ثلاث أوراق بيضاء خالية من الكتابة، وهذه الأوراق الستة تختلف عن ورق الكتاب الأصلي فهي: أقل سمكاً وأنصع بياضاً. أما الورق الأصلي فقد أكتسب سمرة تدل على قدمه وخاصة حول الأسطر الكتابية فإن السمرة تزداد. وإن المجلد قد أخطأ في ترتيب أوراق الكتاب، فوضع الورقة 90 منه بعد الورقة 93 اتضح لي هذا من سياق البحث. والنسخة التي بين أيدينا كثيرة الغلط والتحريف فيظهر أن الناسخ كان يجهل قواعد اللغة العربية، فكان يمسخ بعض الكلمات بدلاً من أن ينسخها. ونجد قسما من الكلمات خالية من الإعجام، وأعتقد أن بعض هذا كان من إهمال الناسخ، وأن البعض الآخر كان من تأثير الرطوبة في المخطوط.

الصفحة الأولى من الكتاب كلها نقوش لازوردية ومذهبة، ولكن الرطوبة وطول الأمد وعبث الأيدي أثرت في هذه النقوش فأزالت القسم الكبير منها وشوهت الباقي. في القسم

ص: 21

الأعلى من هذه الصفحة دائرة كبيرة ظهر لي في وسطها كتابة باللون الذهبي تأملتها طويلاً؛ فعلمت أنها أسم الكتاب (المصايد والمطارد). أما وسط الصفحة فأعتقد أنها خالية من الكتابة وهي مجرد نقوش. أما أسفل الصفحة ففيها كتابة يظهر أنها كانت مكتوبة باللون الذهبي وسط نقوش لازوردية، ولكن طمست معالم الكتابة، ولم يبق إلا آثار بعض الحروف فصعب قراءتها. ولا نجد على المخطوط ذكراً للمؤلف. فمن يا ترى مؤلف هذا المخطوط؟ ذكر ابن النديم أن (أبا دلف القاسم بن عيسى والفتح ابن خاقان وابن المعتز ومحمد بن عبد الله بن البازيار وأبا الفتح محمود ابن الحسين بن شاهن المعروف بكشاجم) ألفوا في الجوارح والصيد. ومؤلف المخطوط الذي بين أيدينا يستشهد بأبيات لابن المعتز وبأخرى لأبي فراس الحمداني المتوفى سنة 357هـ. ونحن نعلم أن أبا دلف توفى سنة 256هـ. والفتح بن خاقان توفى سنة 247هـ. وابن المعتز توفى سنة 296هـ. فيكون المؤلف قد عاش بعد هؤلاء الثلاثة. أما كشاجم وابن البازيار فإنهما كانا معاصرين لأبي فراس، وكانا من شعراء الدولة الحمدانية في حلب وعاشا في ظلالها، وتوفى كشاجم سنة 350 أو سنة 360هـ. وتوفى ابن البازيار سنة 352هـ. ولكن لدينا من الأدلة ما نؤيد أن المخطوط هو لكشاجم وهي:

1 -

اتفق الذين ترجموا لكشاجم أنه كان متضلعاً من علوم عديدة، وكان كاتباً شاعراً وله كتاب (المصايد والمطارد) وذكر صاحب كشف الظنون (جـ 2: ص276) كتاب (المصايد والمطارد) لأبي الفتح محمود بن الحسين المعروف بكشاجم المتوفى سنة 350هـ. كما ذكر جرجي زيدان في كتابه تاريخ أدبيات اللغة العربية (جـ2: ص251) في ترجمة كشاجم وينسب إليه كتاب البزاة في علم الصيد، منه نسخة خطية في مكتبة غوطا. مما لا شك فيه الآن أن لكشاجم كتاباً اسمه (المصايد والمطارد)

2 -

وقد ذكر صاحب هذا المخطوط في باب فضل لحم الصيد ما يأتي:

وأهديت إلى بعض إخواني صيداً وكتبت إليه في عقب علة كان فيها بهذه الأبيات:

أزال الله شكواك

وأهدى لك أقواقا

خرجنا أمس للصيد

وكنا فيه سُباقا

فسمينا وأرسلنا

على أسهل إطلاقا

ص: 22

فتاح الله بالرزق

وكان الله رزاقا

فحصلنا من الدرا

ج ما الرحل به ضاقا

فأطمعت وأهديت إل

ى المطبخ أو ساقا

وخير اللحم ما أفل

قه الجارح إقلاقا

وذو العادة للصيد

إذا أبصره تاقا

فيعدوه بما كان

إليه الدهر مشتاقا

فكل منه ش

فاك الله مشوياً وأمراقا

فهذا الحفظ للصحة

لا تدبير إسحاقا

فرجعت إلى ديوانه المطبوع في بيروت، فوجدت هذه الأبيات في صفحة 129، 130 منه

3 -

وذكر مؤلف هذا المخطوط في باب معرفة (أصناف البزاة) قال محمود مؤلف هذا الكتاب في ذلك شعراً:

حسبي من البزاة والزرارق

سدق (كذا) يصيد صيد الباشق

مؤدب مهذب الخلائق

أصْيدُ من معشوقة لعاشق

يسبق في السرعة كل سابق

ليس له عن صيده من عائق

ربيته وكنت غير الواثق

من طبعه بكرم الخلائق

إن الفرازين

من البيادق

ونحن نعلم أن اسم كشاجم هو محمود، وهذه الأبيات من نظمه ومذكورة في ديوانه (ص133) فلم يبق شك في أن هذا المخطوط هو لكشاجم

المخطوط الذي بين أيدينا مشوش التبويب. فالناسخ قد سلك في تبويبه طريقة غريبة جداً فإنه بعد المقدمة يشمل على مائة باب وباب واحد (84) منها ذكر معها لفظ باب. فمثلاً (باب ذكر الصيد، باب فضائل الصيد، الخ. . .) وبعضها يذكر (لفظ باب) فقط و (17) لم يذكر معها لفظ باب، وإنما كتب العنوان مجرداً من الباب مثلاً (معرفة أصناف البزاة) أما بعد الصفحة (116) فإنه قسم الكتاب إلى أبواب رئيسية يشمل كل باب منها أبواباً فرعية، فأول هذه الأبواب الرئيسية هو (باب علامات الجص وأدويته) ويشتمل هذا الباب على ثمانية أبواب فرعية، ثم يليه (باب الأكلة) ويشتمل على بابين فرعيين، ثم يلي هذا أدوية

ص: 23

النفس ويشمل على ستة أبواب فرعية الخ. . . وهذه الفرعية بعضها له علاقة بالباب الرئيسي وبعضها ليس له علاقة به. ويختم كل باب من الأبواب الرئيسية بقوله مثلاً عند نهاية باب الجص (انقضت أبواب الجص وأدويتها، بحمد الله وعونه يتلوها إن شاء الله أبواب الأكلة المتولدة في جوف الجارح من الجص وغيره وبالله التوفيق)

وفي الباب الأخير الرئيسي الذي ينتهي به المخطوط تكلم المؤلف عن علاجات مختلفة لأمراض الجوارح، ثم تكلم عن الكلب وصيده وخصائصه وإمارات الفراهية فيه وأحكامه وأدويته، وانتقل بعد هذا إلى أدوية الفهود وذكر عنها مقتضباً وهو أدوية الفهود: اعلم أن جرب الفهود يعتريها من بولها فينبغي أن يفرش الرمل تحتها حتى بصفو شعرها ولا يصيبها شيء من بولها إلا يشربه الرمل، ويبدل الرمل من تحته كل قليل فإذا جرب فاسحق له الكبريت الأصفر ورتبه بالزيت، واطل بدنه من الجرب فإنه يبرأ منه بإذن الله تعالى والله أعلم

ولهذا فإني أشك أن يكون هذا الكتاب كاملاً إذ ليس من المعقول أن يتكلم المؤلف عن الفهد في هذه الأسطر المعدودة بينما نجده تكلم عن بقية حيوانات الصيد وجوارحه في أبواب متعددة يستوفي البحث، ومما يزيد في شكي هذا أن الناسخ لم يختم الباب الأخير بالجملة التي يختم بها الأبواب الرئيسية التي بعد ص 116

وفي الكتاب صورتان للباز مرسومتان بالمداد الأحمر، وهما خاليتان من كل زخرف، الأولى رسمت تحت عنوان (باب شرح البزاة وصفتها) والثانية مرسومة بين أسطر (باب علامة صحة الجارح). أهـ

(الموصل)

سعيد الديوه جي

ص: 24

‌4 - فساد الطريقة

في كتاب النثر الفني

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

سوء الفهم أيضاً

ليس الغريب أن يخطئ صاحب الكتاب ذلك الخطأ الشنيع في فهم الواضح من آيات القرآن الكريم كآية سورة هود التي حللنا فهمه إياها في كلمتنا السالفة، فإن خطأه ذلك إن هو إلا نتيجة لرأيه في القرآن، ومصداقاً لقوله تعالى:(وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) لكن الغريب أن يخطئ في فهم نصوص ذكرها من كلام الناس نذكر لك الآن منه صنوفاً

أراد صاحب الكتاب أن يبين أن صحة المعنى لا تكفي لبلاغة الكلام؛ فزعم أنه (لا يوجد أصدق من قول من قال:

كأننا والماء من حولنا

قوم جلوس حولهم ماء

وتساءل: ولكن من الذي يقيم وزناً لصدق هذا الكلام؟ إن هذا الصدق هو التفاهة بعينها)

والتفاهة ليست في صدق البيت ولكن في الفهم الذي لا يدرك أن سر تفاهته هو في الخلف الذي بين شطريه. ذلك أن البيت في صميمه بيت تشبيه، والتشبيه يتطلب مشبهاً به مغايراً للمشبه، والقارئ يتوقع هذه المغايرة إذا قرأ الشطر الأول؛ فإذا وجد الشطر الثاني قد كذب هذا التوقع بجعله المشبه به عين المشبه بطل التشبيه عنده، وهزئ بالقائل الذي لا يعرف ما هو التشبيه، وبالبيت الذي يكذب شطر منه شطراً

فالبيت من ناحية التشبيه بيت كاذب: يعد القارئ في شطره الأول بشيء يخلفه إياه في شطره الثاني. وهذا الخلف والتضاد بين شطري البيت هو سر تفاهته. فلو حذفت منه حرف التشبيه ووضعت مكانه حرف التوكيد لزال من البيت الخلف الذي هو نوع من الكذب، ولحل محله الصدق، ولارتفعت قيمة البيت ارتفاعاً يجعله بمنجاة من أن يكون مثلاً مضروباً في السخرية والاستهزاء، لكن صاحب الكتاب غبى عليه أن التفاهة التي يحسها في البيت راجعة إلى هذا النوع من الكذب فيه، وتصور أن البيت قد بلغ من الصدق الغاية، فدل بذلك على أنه في الحقيقة لم يفهم البيت

ص: 25

ونص آخر وقف صاحب الكتاب عنده موقف العاجز عن الفهم. قول للباقلاني في كتابه إعجاز القرآن يحتج به لما يراه من أن ما جاء في القرآن على هيئة السجع ليس بسجع (لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى) وهذا كلام للباقلاني واضح، يحدد السجع في رأيه كما يعرفه في كلام المستكثرين منه، ويرى سجع القرآن يمتاز منه بمخالفة هذا الحد والفصل الذي ذكر؛ فلم يجعله من قبيله، وافقته على ذلك أو خالفته. وقد أراد الباقلاني أن يؤكد احتجاجه لرأيه ذلك فقال كما روي صاحب الكتاب، وهذا هو محل الاستشهاد:

(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)

نقل صاحب الكتاب هذا الكلام، ودل في الهامش على موضعه من كتاب الباقلاني، ومضى يلخص الفكرة فيه من غير أن يلحظ أن الكلام في الأصل، وكما نقله غير مستقيم مع رأي الباقلاني لتداخل وقع فيه عند طبع الأصل أو عند النسخ استغلق به المعنى على القارئ، من غير أن يدرك ذلك صاحب الكتاب فيزيل منه التداخل قبل التعليق عليه أو تلخيص الفكرة فيه. والتأمل يبين أن وجه الكلام هو كما يأتي بعد نقل كلمة واحدة مكان كلمة، وجملة واحدة مكان جملة:

(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون اللفظ منتظماً دون المعنى. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره)

وقد تكون الفقرة الأخيرة كما يأتي إذا كان التبادل وقع بين فعلي الشرطيتين لا بين جوابيهما:

(ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى

ص: 26

بالسجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)

فهذان وجهان للكلام لا بد أن يكون واحد منهما هو ما كتب الباقلاني في كتابه، إذ لا يتضح معناه بغير ذلك. لكن صاحب الكتاب لم يفطن إلى ما في الكلام الذي نقله من تداخل، ولم يحاول أن يناقش حجة الباقلاني التي استغلقت عليه بذلك التداخل، وقصر تلخيصه للفكرة على المعنى المتضح من كلام الباقلاني الذي نقلناه أولا، موهماً أنه قد لخص المعنى في الكلام كله؛ فدل بذلك على تقصيره في فحص الكلام وتقليبه؛ أو على قصوره في الفهم والتفكير

والآن ننتقل إلى مثل ثالث يتعلق لا بسجع القرآن، ولكن بالسجع في القرن الثالث

ذلك أن صاحب الكتاب نقل في صفحة 84 من الجزء الأول من كتابه نصاً من الجزء الأول من كتاب ضحى الإسلام هو: (ونحن نعلم أن هذا العصر - عصر الجاحظ - لم يتكلف فيه سجع، ولم تؤلف فيه كتب مسجوعة كلها؛ وإن تكلف فيه سجع ففقرة أو فقرتان. فأما كتاب كله سجع فهذا ما لا نعرفه في هذا العصر)

وواضح أن الإنكار الذي في هذا النص منصب في صميمه على أن يكون في عصر الجاحظ كتاب كله سجع، لكن صاحب النثر الفني غفل عن هذا أو تغافل عنه في المناسبات الثلاث التي أشار فيها إلى رأي الأستاذ أحمد أمين

ففي المناسبة الأولى وهي التي دعته إلى ذكر ذلك النص لتخطئته استشهد على إمكان وجود كتاب مسجوع لرجل من كتاب القرن الثالث بحرص (ابن داود على وضع عناوين الفصول مسجوعة في كتاب الزهرة) وواضح أن القرن الثالث يمتد بعد عصر الجاحظ بنحو نصف قرن، فلو وجد فيه كتاب مسجوع لما استلزم أن يكون حتماً في عصر الجاحظ. كذلك من الواضح أن عناوين فصول كتاب ليست هي نفس الكتاب، فوجود العناوين كلها مسجوعة ليس معناه أن الكتاب نفسه مسجوع كله. لكن ذلك هو مبلغ فهم صاحب النثر الفني للنص الذي أورده لصاحب ضحى الإسلام ومبلغ تفنيده إياه

وفي المناسبة الثانية يشير صاحب الكتاب إلى رأي الأستاذ أحمد أمين بقوله من صفحة 86: (لا ينبغي أن نستبعد - كما استبعد الأستاذ أحمد أمين - أن توجد مؤلفات مسجوعة في القرن الثالث؛ فان عصرنا الحاضر ينكر السجع على المؤلفين أشد الإنكار ويراه ضرباً

ص: 27

من التكلف الممقوت، ومع هذا وجدت في عصرنا مؤلفات مسجوعة، مثل:(صهاريج اللؤلؤ) و (حديث عيسى بن هشام) وأبواب من (ليالي سطيح). وقد وقع صاحب هذا الكلام في نفس الخطأ الذي وقع فيه آنفاً، إذ جعل القرن الثالث هو وعصر الجاحظ سواء، ونسب بذلك إلى أحمد أمين قولاً لم يقله في النص الذي رواه له، وإن كان أكبر الظن أن القرن الثالث لم يشهد بالفعل كتاباً مسجوعاً كله، إن لم يكن هناك على عكس ذلك إلا أدلة صاحب الكتاب. ألا ترى أنه لا يفرق بين عصرنا هذا الذي يستنكر فيه التزام السجع والعصر الذي عاش فيه البكري والمويلحي؟ أفكان السجع يستنكر التزامه قبل نصف قرن حين كتب ذانك ابان، كما يستنكر ذلك الآن حتى يجعل صاحب النثر الفني السطرين واحداً، ويستدل بوجود الكتابين على وجود الضدين في هذا العصر؟ أم كان التزام السجع مستحسناً كل الاستحسان حين كتب ذانك الكتابان فلا يكون لصاحب النثر الفني فيهما إذن دليل أو برهان؟

ويقول صاحب الكتاب في مناسبة ثالثة في صفحة 96: (والقرن الثالث يسميه صديقنا الأستاذ أحمد أمين (عصر الجاحظ) وينفي عنه السجع، مع أن الجاحظ يسجع ولا يخرج من السجع إلا إلى الازدواج). أقرأت هذا ووعيته، وأدركت الفرق بين ما ينسبه صاحب النثر الفني إلى صاحب ضحى الإسلام هنا، وبين النص الذي يرويه له هناك؟ صديقه الأستاذ أحمد أمين يسمي القرن الثالث عصر الجاحظ، وصديقه الأستاذ أحمد أمين ينفي عن القرن الثالث السجع! وهكذا يصح في فهم صاحب الكتاب أن يمتد عصر الجاحظ إلى سنة 300هـ، لأن الجاحظ مات سنة 255هـ.، وأن ينفي مؤرخ السجع عن القرن الثالث لأنه نفى وجود كتاب كله سجع في ذلك القرن، أو في النصف الأول من ذلك القرن!

فقد رأيت الآن ثلاثة أوجه لفهم دكتورنا البحاثة لنص واحد لمؤلف معاصر، ورأيت كيف يحوره ويدوره حتى صيره إلى ما رأيت وما ترى. والأمر إليك الآن في تسمية هذا النوع من التفكير بحثاً أو تسميته عبثاً، وفي تسمية هذه النوع من التصوير تصريفاً أو تحريفاً، ومن النقل مسخاً أو نسخاً، ثم في تسميته هذا كله عجزاً عن الفهم أو اقتداراً عليه، وصلاحاً في الطريقة أو فساداً؛ فإن الأمر جل عن التلاحي، أو قل كما تشاء أن تقول

محمد أحمد الغمراوي

ص: 28

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

599 -

قم فجئني لقده بمثال

في (قلائد العفيان): ساير أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الوزير الأستاذ أبا بكر بن القبطرنة وهو غلام يحار مجتليه، ويغار غصن البان من تثنيه، وقد وضع يمناه في شماله وتضوع عرف آماله، والناس ينظرون هلال شوال؛ فقال:

يا هلال، استنر بوجهك عني

إن مولاك قابض بشمالي

هبك تحكي سناه خدا بخد

قم فجئني لقده بمثال

600 -

ما ليس عندي من إحدى المصيبات

قال الربيع بن سليمان: قصد الشافعي رجل يطلب منه شيئاً فأعطاه ما أمكنه ثم أنشأ يقول:

يا لهف نفسي على مال أفرقه

على المقلين من أهل المروءات

إن اعتذاري إلى من جاء يسألني

ما ليس عندي من إحدى المصيبات

601 -

الحمرة التي تعلو وجهها من الحياء

الظرائف واللطائف للمقدسي: قيل لبنت أرسطاطاليس: ما أحسن ما في المرأة؟

قالت: الحمرة التي تعلو وجهها من الحياء

602 -

وضربت للحدثان والحرب

في (الكامل): كانت رُكب الناس قديماً من الخشب فكان الرجل يُضرب رِكابُه فينقطع؛ فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد، فأمر المُهَلَّب فضربت الركب من الحديد، وهو أول من أمر بطبعها، ففي ذلك يقول عمران بن عصام:

ضربوا الدراهم في إمارتهم

وضربتَ للحدَثان والحرب

603 -

ما أعجب هذه القصة!

(وفيات الأعيان): كان ابو بكر محمد بن السري المعروف بابن السرّاج أحد الأئمة المشاهير المجمع على فضله ونبله وجلالة قدره في النحو والأدب. وكان يهوى جارية

ص: 30

فجفته، واتفق وصول الإمام المكتفي (العباسي) في تلك الأيام من الرقة. فاجتمع الناس لرؤيته، فلما رآه أبو بكر استحسنه، وأنشد أصحابه هذه الأبيات:

ميّزت بين جمالها وفَعالها

فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي

حلفت لنا ألاَّ تخونَ عهودنا

فكأنما حلفت لنا ألاّ تفي

والله لا كلمتُها ولو أنها

كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي

ثم إن أبا عبد الله محمد بن إسماعيل بن زنجي الكاتب انشدها أبا العباس بن الفرات وقال: هي لابن المعتز، وأنشدها أبو العباس القاسم بن عبيد الله الوزير. فاجتمع الوزير بالمكتفي وأنشده إياها، وقال للمكتفي هي لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فأمر له بألف دينار فوصلت إليه؛ فقال ابن زنجي: ما أعجب هذه القصة! يعمل أبو بكر بن السراج أبياتاً تكون سبباً لوصول الرزق إلى عبيد الله بن طاهر

ص: 31

‌مشهد من الفصل الأول من:

قصر الهودج

للأستاذ علي أحمد باكثير

(كان الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله مغرماً بحب البدويات

فسمع بجمال فتاة من بادية الصعيد فأرسل إلى أبيها يخطبها

فرد الرسول، فذهب بنفسه متنكراً كأنه رسول آخر من

الخليفة. وطلب من أبيها أن ينفرد بسلمى ليقنعها بقبول الخليفة

فوافق أبوها (الشيخ عمار بن سعد). فلما خلا بها اجتهد بكل

وسيلة أن يجعلها تعدل عن حب ابن عمها (ابن مياح) وتقبل

يد الخليفة الفاطمي ولكن سلمى أصرت على الاعتذار بحب

أبن عمها، وإيثار حياة البادية على حياة القصور. وعندئذ غير

الرسول مهجته وقال لها:

الرسول (الخليفة نفسه):

عِشْتِ يا سلمى طليقَهْ

لستِ للمُدْنِ صديقهْ

لا تحبِّين مغاني

ها ولا الدُّورَ الأنيقة

سلمى (يبدو في وجهها السرور):

لطف الله بحالكْ

قد فهِمتَ الآن قصدي

الرسول:

كيف لا أفهم ذلك

والذي عندكِ عندي؟

أنا من رأيكِ يا سل

مى ومَيْلي مثلُ مَيْلِكْ

آهِ لو تسمح لي الأي

ام يا سلمى بِنَيْلِك!

ص: 32

أنتِ لي لستِ لغيري=وأنا لست لغيركِ=إن لي قلباً كقلبِكْ!

سلمى (مدهوشة): عجباً! هل أنت مجنون؟

الرسول:

نعم يا نور عيني

أنا مجنونٌ بحبّك!

قَسَماً بالدُّرِّ في ثَغْرِ

ك والوردِ بخدِّكْ

إنني عبدُك يا سل_مى حنانيكِ بعبْدِكْ!

سلمى:

حَسْبك اخْرس! قطع الله لسانك!

الرسول:

يا حياتي حفِظَ الله زمانَكْ!

أتسبّين لساناً يتغنَّى بعبيرِكْ=وجمالِكْ. وشُعاعِكْ؟

سلمى:

بل لساناً كاذباً خنت به عهد أميرك

باحتيالِك وخداعِك!

الرسول:

الأمير انْسِيه لا تُجرِيه يا سلمى ببالِك=أو خيالِك

أنا خير منه يا سلمى وأولى بجمالِك

ودلالِك!

سلمى:

آه لو يسمع ما قُلْتَ الملِك=لمحاك السيف من هذا الوجود!

الرسول:

كيف يمحو السيف صبًّا هام بكْ

حُبُّكِ الخالد أولاهُ الخلود؟

سلمى:

سيف مولانا الخليفة

سيعافيكَ غداً من جنونِكْ!

الرسول:

ليس بي للقتل خِيفَه

فلقد ذُقْتُ الرّدَى من عيونك!

(يزحف نحوها ويقترب منها)

ص: 33

العيون السود هذِي

ما لها كُفْوٌ سواي

والجبين الْحُرُّ هذا

ما له غير هواي!

فَمُك الحلوُ العِقيقيُّ الجميلْ=ما براه اللهُ إلا لفمي!

(تلطمه سلمى بكفها على وجهه)

لطمةٌ منكِ شفاء للعليل

فأعيديها. . . بروحي ودمي!

(وهنا استغاثت سلمى بأبيها فأراد الوثوب بالرسول فكشف له انه الخليفة فأرتاع الشيخ عمار)

عمار (معتذراً):

ما الذي ضرك لو أخبرتنا

فاحترمناك أمير المؤمنين؟

الخليفة:

شِئتُ أن أشهد سلمى وأراها

دون أن تعرف سلمى من أنا

علني أُدرِك من سلمى رِضاها

فإِذا فُزْتُ به نلتُ المنى!

غير أني خاب فيها أملي

ولقِيت الهجر منها والصدود

وأشقائي! كل هذي الأرض لي

غير سلمى لن أفُزْ منها بجود!

سلمى:

لستُ يا مولاي إلا أمتَكْ

كيف تعصي أمة سيدها؟

إنما كانت تُرجّى رحمتَك

أنتَ مولاها فهَبْها يدها!

الخليفة: أنا يا سلمى الذي يرجو رِضاك!

سلمى: أنا يا مولاي من ترجو نَداكْ!

الخليفة: أنت يا سلمى التي لا ترحمين!

سلمى: إنما الرحمة حق المالكين!

الخليفة: أنا مِلْكٌ لِغرامِك!

سلمى: أنا مِلْكٌ لِحسامِكْ!

الخليفة: اعلمي غرامي بكِ أمضى من حسامي

لِمَ لا تَغْدين يا مالكتي مِلْك غرامي؟

ص: 34

سلمى: لَسْتُ أهلاً لك يا مولاي!

الخليفة: أنا أهلٌ لكِ يا دنيايْ!

سلمى: أنت أهلٌ لي وأملٌ لِسواي!

علي أحمد باكثير

ص: 35

‌البريد الأدبي

عودة إلى وحدة الوجود

رأيت في العدد 581 من مجلة الرسالة الغراء عودة إلى موضوع (وحدة الوجود) بقلم العالم الأستاذ عبد المنعم خلاف. فوددت لو يسمح لي الأستاذ البليغ صاحب الرسالة وحضرات الكتاب فيها وقرائها قول كلمة أخرى في هذا الموضوع الذي هو من الأهمية بمكان عظيم الشأن

(وحدة الوجود) بالمعنى الذي فهمناه من سياق المناقشات فيها في هذه المجلة هي أن الله متحد في الكون المادي بحيث يكون والكون شيئاً واحداً، وهي بالحقيقة قضية فلسفية مختلفة النظريات باختلاف الفلاسفة الذين بحثوا فيها. وليس هنا محل الكلام فيها

الأديان السماوية الثلاثة ترفض هذه النظرية الفلسفية رفضاً باتاً. وهي مجمعة على أن الله والوجود المادي شيئان مختلفان. ولكل منهما ذاتية قائمة بذاتها منفصلة عن الأخرى، وأن الله الواجب الوجود الذاتي خالق الوجود المادي ومسيّره

هذه النظرية عقيدة دينية مقررة في تعاليم كل من الأديان الثلاثة لا تقبل النقض ولا التنقيح ولا التعديل،

وقد أصبحت تقليداً متحجراً منذ عهد موسى إلى اليوم

لا تمكن زعزعته ولا تليينه بوجه من الوجوه. وإذا رام شخص أو جماعة أو طائفة تعديل هذه العقيدة في مجمع أو في مؤتمر عدَّ أهل الأديان الثلاثة هذا التعديل بدعة وزندقة وكفراً

على أن للفلاسفة من عهد لوسيبيوس وديموقراطس ولوقريطس (قبل المسيح) إلى عهد سقراط وأفلاطون وأريسطو ومن تلاهم بعد المسيح إلى اليوم نظريات مختلفة متباينة في علاقة الله بالوجود المادي بعضها تنزهه عن المادة وبعضها تدمجه فيها. وبين النظريتين درجات متفاوتة ووجوه مختلفة. ولهم في نظرياتهم تعاليل بعضها منطقي معقول كثيراً وقليلاً، وبعضها سخيف لا يقبله عقل ولا يطابق منطقاً

فمن رام أن يبحث في (وحدة الوجود) أو ثنائيته فيما يخرج عن عقيدة الأديان الثلاثة فليعلم أنه يتعرض لتهمة الكفر والإلحاد، ولا يسلم من لسع الألسنة الحداد. لأنه ليس في بيئتنا الفكرية في البلاد العربية محل لحرية الفكر أو القول أو القلم. فأي بحث فلسفي أو علمي

ص: 36

يحتمل أن يساق إلى قضاء الامتحان الديني، وتنسب له تهمة المساس بالعقيدة الدينية، ويُحمَل عليه حملة تكافئه. وحينئذ على الباحث أن يدافع عن بحثه لتبرئته من تهمة الكفر والإلحاد، وإلا لسعته الألسنة الحداد.

يستحيل على من يتصدى للمسائل العلمية أو الفلسفية عن الوجود فيما وراء الطبيعة أن يستطيع التوفيق بين فلسفته والعقائد الدينية الراسخة إذا كان بين الفريقين تناقض أو تضاد، ويستحيل أن يسكت عليه الدينيون إلا إذا قاد النظرية الفلسفية أو العلمية إلى الطاعة العمياء للعقيدة الدينية. وحينئذ يكون قد فكر بالفلسفة والعلم

فحذار أيها العلماء من التفلسف بوحدة الوجود، لأن الموضوع وعر خطر.

نقولا الحداد

حول وحدة الوجود

عنت لي ملاحظة يسيرة على نقطة هامة في مقال الأستاذ خلاف المنشور بالعدد 581 من الرسالة الغراء، وهي:

هل توهم الخليل أن هناك أدوات للخلق والتكوين؟

قال الأستاذ ذلك، ولذلك سال (أي الخليل) ربه سؤاله؛ فمن أين للأستاذ الفاضل هذا الفهم، والسؤال بكيف عن الحال، ولو كان كما أراد الأستاذ خلاف أن يفهم لكان السؤال هكذا بأي شيء تحيي الموتى؟ فيؤتى بأي التي هي صالحة لاستعمالها في أنواع المستفهم عنه، على أن الأستاذ الفاضل فسر صرهن بـ (اذبحهن)، وهذا ينافي صريح اللغة وسياق الآية الكريمة، إذ بعد أن يسرد الكشاف القراءات التي وردت في تلك اللفظة الجليلة وكلها يدور حول الضم والجمع ينشد قول الشاعر:

ولكن أطراف الرياح تصورها

وقول الشاعر:

وفرع يصير الجيد وحف كأنه

على الليث قنوان الكروم الدوالح

وبدهي أنه لا معنى أصلاً لأذبحهن إليك، ولكن الضم إليه ليتأملها ويعرف أشكالها وحلاها، هذا من حيث اللغة والمنطق. والأستاذ هو من هو فيهما

وأما من حيث الأخبار الصحيحة الواردة في هذا المقام - والأستاذ الديّن الحصيف - فهو

ص: 37

ما رواه البخاري في صحيحه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى؟. . . الخ) وبعد أن علق الشراح بآرائهم على هذا الحديث الشريف اخترت (هذا الذي ترون أنه شك أنا أولى به لأنه ليس بشك إنما هو طلب لمزيد البيان وتقوية لليقين بالمشاهدة بعد العلم). حكى بعض علماء العربية أن أفعل ربما جاء لنفى المعنى عن الشيئين نحو قوله سبحانه: (أهم خير أم قوم تبع)، أي لا خير في الفريقين، وجواب الخليل عليه السلام، ولكن ليطمئن قلبي، يؤيد ذلك، هذا والأستاذ ثنائي وإعجابي

(شبرا بابل)

إبراهيم السعيد عجلان

من غير تعليق:

في عدد الثقافة الأخير قرأت كلمة للأستاذ (ح. ج) تحت عنوان: (سعد وسعوده) جاء فيها: (نريد أن نتكلم عن سعد - الإنسان العادي - لا عن سعد الزعيم المتفرد، ولا عن سعد الخطيب المصقع، ولا عن سعد الخصم الجبار، فإن قصر الحديث في هذه الناحية وحدها من نواحيه المتعددة خليق أن يضرب بينه وبين الناس حجاباً يحول دون انتفاعهم بقدرته، والنسج على منواله في الحياة

وإني لأذكر أن كاتباً من كتابنا النابهين كتب عن شخصية سعد فقال ما معناه: إن الإنسان لينظر إلى سعد فيحس أنه على مقربة من رجل ممتاز في جسمه كما هو ممتاز في عقله. وإن طلعته لتذكر الناظر إليه بطلعة الأسد. وإنه ليس بين الوجوه الآدمية ما هو أشبه في قسماته ومهابته من سعد زغلول

(أذكر أني قرأت هذا الوصف في كتاب كنت أرجو أن ألتمس فيه لنفسي عوناً على الوصول إلى شيء من أسباب العظمة التي سلكت سعداً في سجل العظماء؛ فإن الإنسان ليقرأ سير العظماء ويبتغي أن يقع فيها على سرهم، لعله أن يصيب حظاً مثل حظهم. ولكنني قمت إلى المرآة بعد قراءة هذا الوصف أتفحص قسمات وجهي. فلم أر فيها شيئاً يشبه الأسد من قريب ولا من بعيد. ورأيتني فرد كغيري من الآدميين الكثيرين، فارتددت

ص: 38

وفي نفسي شيء من خيبة الأمل على أن الطبيعة سلبتني أول مقومات العظمة التي حبت بها زعيمها الخالد!

(وأنا اليوم لا أريد أن أدفع اليأس في قلب قارئ جديد بالتحدث عن عظمة سعد، ولذلك اخترت أن أتحدث عنه لا بوصف كونه أمة في فرد ولا بوصف كونه الجبار العنيد، ولا على أنه الشجاع الأعزل الذي وقف في وجه الدولة المسلحة

(ولكني أريد أن أكتب عنه باعتباره إنساناً له نواحي ضعفه أحياناً، وله من الصفات الكثيرة ما يشاركه فيه كل إنسان آخر)

ثم تحدث الأستاذ (ح. ج) عن رقة شعور سعد التي جعلته لا يطيق باكياً أمامه ولا يستقبل أم المصريين في جبل طارق على المرسى خوف أن تجيش نفسه. وعن اضطلاعه بالمهام الكبار وهو مريض بجملة أمراض. وعن إثارة الأزمات لحيويته ونفي المرض عنه. ومن فكاهته مع الأزهريين الذين طلبوا إرسالهم في بعثات إلى أوربا. وعن مداعبته لزملاء المنفى في مالطة المتأثرين لما يصيب زوجاتهم من قلق عليهم بأن يخبروهن أنهم تزوجوا غيرهن فيبطل القلق!

والذي يقرأ هذا الكلام بما فيه من تهكم على حكاية وجه الأسد (يخيل إليه أن الكتاب الذي يشير إليه الأستاذ (ح. ج) قد سار كله على النسق الذي عرض الأستاذ به، وأنه أغفل من سعد تلك الجوانب الإنسانية التي فطن إليها كاتب المقال

ولما كنت أذكر ذلك الكتاب الذي يعنيه فقد عدت إليه فوجدت أن (كاتباً من كتابنا النابهين) هذا. هو الذي يقول في كتابه بتطويل وتفصيل نجمله في اختصار شديد:

(إن الذي يحسب سعداً مكافحاً مناضلاً فقط يخطئ في فهمه، وأنه: (لم يكن أصلح منه للعطف والصداقة وحسن المودة والأنس بالناس والارتياح إلى المعاشرة. وقد حفظ قلبه الكبير ما أودعته الفطرة من ذخيرة العطف الزاخر إلى آخر أيام الحياة. فإذا تأثرت نفسه بحالة مفرحة أو محزنة؛ فكثيراً ما تغرورق عيناه أو تنهملان بالدمع الغزير. وكان في مجالسه الخاصة من أقدر الناس على مؤانسة الجلساء بالحديث الشائق والفكاهة الحاضرة والحدب المطبوع، ثم يذكر بالذات حكاية أنه لم يكن يطيق باكياً، وأنه لم يستقبل أم المصريين في جبل طارق، وفكاهته مع الأزهريين ودعابته لزملاء مالطة في هذا

ص: 39

الموضع. ويذكر في موضع آخر استجاشة الأزمات لحيويته واضطلاعه بالأعباء مع مرضه. . . وهو كل ما ذكره الأستاذ (ح. ج) ثم يزيد جوانب إنسانية أخرى له في بيته ومع أصدقائه وخصومه، ويكشف عن هذه الجوانب في سعد بكل تفصيل

هذا الكتاب هو كتاب (سعد زغلول. سيرة وتحية)، وهذا (الكاتب من كتابنا النابهين) هو الأستاذ العقاد. . .

أما الأستاذ (ح. ج) فمن رجال القضاء العادلين!

سيد قطب

تصويب

ورد البيت الآتي:

وساقين إن يستمكنا منك يتركا

بجلدك يا غيلان مثل (المآثم)

في الكلمة التي وجهها الأستاذ الشرباصي إلى الأستاذ (الجليل) في العدد (581) من الرسالة. والصواب أن تكون (المآثم) المياسم جمع ميسم، وهو المكواة. وبها ننم روعة التشبيه الذي يهدف إليه الشاعر؛ فما يريد سوى تشييد أثر الساقين بأثر الميسم في الجلد.

حسين محمود البشبيشي

مجلة الأنصار

أصدرت مجلة (الأنصار) العربية الإسلامية في غرة شهر رمضان عدداً من أعدادها الممتازة خصصته للكتابة المستفيضة والدراسة التحليلية لموضوع (القصص والأساطير في الشرق). وقد طالعنا هذا العدد فوجدناه حافلاً بالأبحاث العربية الصادقة عن نشأة الأساطير الشرقية. وقد لفت نظرنا بحث واف طريفاً عن كتاب الشرق القصصي (ألف ليلة وليلة)

ص: 40