الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 584
- بتاريخ: 11 - 09 - 1944
التوازن الاجتماعي
للدكتور محمد مندور
هذه أيضاً مشكلة كبيرة لا بد لرجال السياسة والاجتماع من مواجهتها في حزم، وليس من شك في أن عدم العناية بها بعد الحروب الكبيرة والثورات القومية الماضية، قد كان دائماً من الأسباب القوية التي مهدت لحروب وثورات لاحقة، ونحن لا نعرف سياسة أحمق من تلك التي تتناول الأمم طبقات وطوائف دون نظر دقيق إلى ما يجب أن يقوم بين تلك الطبقات والطوائف من توازن يكفل سلامة الأمة وضمان وحدتها.
والطبقات الاجتماعية لم تتكون في التاريخ عفواً، بل قامت دائماً على المقاييس العميقة المتغلغلة في عقلية الشعوب. ففي العصور القديمة عندما نرى أفلاطون يقسم جمهوريته إلى ثلاث طبقات: حكماء يرأسون المدينة، وجند يذودون عنها، وعمال يوفرون لها وسائل الحياة المادية، لا نستطيع أن نسلم في يسر بأنه إنما أخذ هذا التقسيم عن قياسه للهيئة الاجتماعية وطبقاتها بالفرد وملكاته. ولا بد لنا من أن نذهب إلى أبعد مما زعم لنستطيع فهم الأساس الذي أقام عليه هذا التقسيم. نعم إن الحكماء ينزلون من الأمة منزلة الرأس بملكاته العاقلة، والجند منزلة القلب بقوته الغضبية، والعمال منزلة المعدة بنشاطها المادي؛ ولكن، أليس من البين أن هذا التقسيم تنعكس فيه المقاييس العامة للإغريق في ذلك الحين؟ فالعمال، في هيئة اجتماعية كانت تجمع على أن العمل من اختصاص العبيد، لم يكن مفر من أن ينزلوا المنزلة الثالثة. والجند، في بلاد استهدفت لجحافل القرس وردت بشجاعتها عدوانهم بعد أن هددها فناء محقق، كان من الطبيعي أن ينزلوا منزلة تسمو على منزلة العمال وتتمتع باحترام المجموع. وأما رياسة الحكماء للمدينة فذلك حلم رآه أفلاطون، وكان هو أول من تنكر له، إذ لم يلبث أن ترك السياسة بالرغم من وجاهة محتدة وقرب اتصاله بالقادة في ذلك الحين، وهو بعد حلم لا تزال الإنسانية ترتجيه.
وهكذا نستطيع أن نستشف عقلية الشعوب من أسس تقسيمها للهيئة الاجتماعية، وهي عقلية دامغة تسيطر حتى على كبار المفكرين أمثال إفلاطون، مما نظن دائماً أنهم فوق بيئاتهم أو نابين عنها.
وفي القرون الوسطى نعثر على نفس الحقيقة. فعندما يحدثنا التاريخ أن الطبقات الاجتماعية
قد انتهت خلال تلك القرون الطويلة إلى التبلور في ثلاثة: نبلاء ورجال كنيسة وطبقة ثالثة، لن نجد مشقة في العثور على أساس هذا التقسيم، فقد كانت تلك الأزمان أزمان العهد الإقطاعي حيث يسيطر كل أمير على مقاطعة تتبعه أراضيها، وما تحمل من بشر يعملون بها؛ وهكذا تكونت طائفة النبلاء، نبلاء الدم والوراثة. والى جانب هذه الطبقة كان من الطبيعي أن تنهض طبقة رجال الدين في عصور سيطرت فيها المسيحية على عقلية الشعب، وساقته إلى ما نعرف من زهد وتصوف، بل وحروب صليبية. وأما العمال والزراع فقد اطرد حمق البشر على إنزالهم دائماً مؤخر السلم
وأخيراً جاءت الثورة الفرنسية الكبرى، وانتفضت الإنسانية متطلعة إلى فجر جديد. ولقد حطمت تلك الثورة نظام الطبقات الذي تمخضت عنه، كما رأينا، القرون الوسطى؛ ولكن الإنسانية لسوء حظها لم تهتد، برغم ما أراقت تلك الثورة المجيدة من دماء، إلى أساس سليم تقيم عليه تقسيمها الاجتماعي. وفي استطاعتنا أن نفهم سر المأساة إذا ذكرنا أن تلك الثورة قد قامت بالمدن، وأن عصبها كان طائفة الحضريين الذين يُعرفون بالبرجوازية، أي (سكان المدن)، بل سكان باريس بنوع خاص، فهم منبت تلك الثورة وبؤرتها المقدسة. وقيام الحضريين بها لم يكن حدثاُ طارئا في التاريخ. فمنذ قرون كانت المدن العامل الفعال في مناهضة النظم الإقطاعية، وتحطيم سلطة الأمراء، وتمكين الملوك من توحيد الممالك. ولهذا كان من الطبيعي أن تنشأ في مدينة كباريس تلك الثورة العاتية التي أتت على ذلك النظام البائد.
وبنظرنا في المبادئ التي قامت عليها التقسيمات الاجتماعية في العصور القديمة والقرون الوسطى، نستطيع أن نحصي الأسس التي كانت تمكن من الوجاهة الاجتماعية، فهي الحكمة والشجاعة ووراثة الدم والزعامة الروحية. وجاءت الثورة فحطمت كل تلك الأسس، وإن لم تمحها محواً تلماً من عقلية الشعوب، حيث لا تزال تعمل إلى اليوم على تفاوت في النسب؛ وننظر فيما أقام هؤلاء الحضريون على أنقاضها من أسس جديدة، فلا نكاد نتبين غير أساس واحد هو المال، وهذا هو سر المأساة التي أشرنا إليها فيما سبق.
حلول المال محل غيره من المقاييس ظاهرة واضحة التفسير، فالثورة الفرنسية هي وأشباهها من ثورات القرن التاسع عشر قد قامت كما قلنا في المدن على يد الحضريين،
وهؤلاء جمهرتهم العظمى من الصناع والتجار؛ وهم بتقويضهم لطبقتي النبلاء ورجال الكنيسة قد استطاعوا أن يحلوا محلهما في الصدارة الاجتماعية. وهكذا انتهت الإنسانية إلى التقسيم الكبير المعروف: حضريون (برجوازية) وعمال، وأصبح المال الأساس العام لتوزيع الهيئة الاجتماعية
قد يقول قائل إن هذا الأساس الجديد خير من بعض الأسس القديمة، فهو يمكن الهيئة الاجتماعية من مرونة لم تكن تملكها عندما كان النبل مثلاً ظاهرة وراثية لا حيلة للبشر فيها. وهذا قول كان من الممكن قبوله لو لم يسد في تاريخ الإنسانية خلال القرن التاسع عشر ذلك الاختلال العجيب الذي لم يكن مفر من أن ينجم عن ظهور ظاهرتين كبيرتين في ذلك القرن، ونعني بهما الحركة الصناعية الكبيرة من جهة، والأخذ بمبادئ الاقتصاد الحر من جهة أخرى. والثورة الفرنسية السابقة على هاتين الظاهرتين لم تعالج طبعاً هذا الاختلال، بل ولا مهدت لعلاجه، ولهذا لحقتها بفرنسا نفسها ثورتان أخريان هما ثورتا سنة 1830، سنة 1848
نمو الصناعة وما تبعه من نمو التجارة أيضاً ساعد على تكوين طبقات عاتية من الرأسماليين؛ وروج علماء الاقتصاد لنظرية: (دع الفرد يعمل، دع التجارة تمر)، وقالوا بترك النشاط الاقتصادي حراً، فمكنوا بذلك أصحاب العمل من دماء العمال وهكذا بعدت الشقة بين طبقتي الأمة مما أثار ما نعرف من حركات ثورية واضطرابات اجتماعية
واتخاذ المال أساساً للتقسيم الاجتماعي مصدر لخطر كبير يتهدد الهيئة الاجتماعية في كيانها. ويزداد هذا الخطر وضوحاً في أثناء الحروب الكبيرة. ومظهر هذا الخطر هو الانحلال الخلقي. لمن شاء أن يصدع آذاني بقوله إن من الناس العصاميين القادرين على جمع الثروات الطائلة بمهارتهم وحسن فهمهم لحاجات الناس وملاقاة تلك الحاجات، فذلك ما لن أقبله. وعندما أنظر حولي فلا أرى إلا صعاليك ليس في عقولهم فكر ولا في قلوبهم ضمير ينثرون المال كل صوب في قحة تنفر منها النفس، لا أستطيع إلا أن أحكم بأنهم لا يملكون من مواهب غير الدجل والنصب والاحتيال
ويزيد في تلك الظاهرة خطورة قيام الحروب الكبيرة، كما قلت، فعندئذ ترى النصابين يستغلون مواطنيهم أقبح استغلال، وترى الأوضاع الاجتماعية وقد انقلبت رأساً على عقب
حتى يختل توازن الأمة الاجتماعي أعمق اختلال، ويكثر محدثو النعمة، وتلك طائفة تجمع الإنسانية الرشيدة على احتقارها ورد عدوانها
والآن، وقد استعرضنا المبادئ، التي وزعت الإنسانية على أساسها طبقاتها الاجتماعية، وانتهينا إلى أن الأساس العام القائم اليوم هو المال، ووضحنا ما في هذا الأساس من أخطار يجب أن نبحث عن الوسيلة التي نتعهد بها ذلك التوازن ونرد إليه ما يجب أن يلازمه من سلامة، وباستطاعتك أن تنقلب أوجه النظر كما تريد، فلن تجد غير وسيلة واحدة هي تدخل الدولة والأخذ بمبادئ الاقتصاد الموجَّهه
مبدأ الاقتصاد الموجَّه يقوم على تدخل الدولة في الإنتاج، وذلك عن طريق التشريع وهو ألزم ما يكون في أعقاب الحروب الكبيرة، وأنت عندما تثقل بالضرائب من أثرى بغير وجه مشروع لا تظلمه؛ بل تنتصف للأمة منه، لأنك عند النظر الأخلاقي الصحيح لا تستطيع أن تسميه إلا مختلساً، وأنت عندما تنتصف للعامل من صاحب رأس المال، وللمستهلك من المنتج وللمريض من الصحيح وللجاهل من المتعلم، لا تعتدي على أحد، وإنما ترغم المقصر على أداء واجبه عندما تنعدم قيادة الضمير، ونحن في أمة تصرخ الآلام في صدور أبنائها؛ لقد حان الحين، لكي تحزم الهيئة الاجتماعية أمرها، وتشد من عزم حكامها ليقيموا توازنها الاجتماعي على أساس ترضاه إنسانيتها الجريحة.
محمد مندور
وحدة الوجود
وهل هي من الإسلام في شيء
للأستاذ دريني خشبة
قرأت كلمة صديقي الدكتور زكي فراعني انه لم يقرأ كتاب (رسائل التعليقات) بعد، أو أنه قرأه كما قرأته أنا. . . على حد تعبير الأستاذ الرصافي،. . . أي تلك القراءة السريعة المتقطعة، التي تبعد بالقارئ عن معاني المؤلف، وتشط به عن أغراضه. . . وآية ذلك ما أراده الدكتور من مساجلتي حول نظرية (وحدة الوجود). . . وأن يكون أساس المساجلة: أن تترك التفكير في أن هذه النظرية تجني على العقيدة الإسلامية. . . وهذا شرط عجيب. . . ولست أوثر أن أقول إنه شرط خبيث!! ما دام أن الصديق الأعز قد ذكر (أن الذوق هو خير ما دعا إليه الأنبياء!)
ولست أدري كيف يدعوني أخي المبارك إلى مساجلته على هذا الأساس العجيب - ولا أقول الخبيث! - وهو يذكر أنني قلت في كلماتي التي كتبتها عن رسائل التعليقات، إنني ما كتبت تلك الكلمات، ولا وددت أن أكتبها، إلا لأن الأستاذ الرصافي قد ادعى في رسائله أن نظرية وحدة الوجود هي نظرية إسلامية، بل إنها من ابتداع الرسول الكريم، فخر الكائنات، محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه - أي رسول الله عليه صلوات الله - لم يذكر منها لأصحابه شيئاً، إلا ما لمح به منها لخليله الصديق - عليه رضوان الله -. . . ثم ما ذهب إليه الأستاذ الرصافي بعد ذلك من التخريجات المضحكة التي تعتبر هدماً شاملاً للإسلام، وتزييفاً واسعاً شاسعاً لما يؤمن به المسلمون ويعرفون أنه الحق من ربهم
فلقد أنكر الرصافي أن يكون القرآن كلام الله. . . وردد عبارة (يقول محمد في القرآن) غير مرة في كتابه المذكور. . . وهو يقحم هذا الإنكار في نظرية وحدة الوجود فيعلله بادعائه أن الرسول الكريم كان يفنى في الله - أو في الوجود الكلي - فناء كاملاً، ولذا جاز له أن يقول هذا القرآن، ويزعم أنه يقول الذي يقوله الله، ويفعل الشيء ويؤمن بأن الله هو الذي يفعل. . . وأذكر أنه يستدل على هذا الإفك - ولن ندعوه إلا إفكا - بالآية الكريمة: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى! وهي من الآيات التي طلب إلينا تفسيرها بما ينافي ما قذف به وسواسه في روعه. ناسياً أن الآية قد أنزلت في مناسبة خاصة واردة في مكانها
من جميع التفاسير
فهل افترينا على الرصافي في ذلك من شيء يا دكتور زكي؟ وهل تتفق وجهة نظرك في هذه المسألة بالذات ووجهة نظر هذا الرجل الذي رمانا بما رمانا به من تلفيق وتشويه لأقواله؟
أنت عندي أشجع كاتب في مصر. بل في الشرق العربي، وقد تبلغ شجاعتك هذا الحد الذي ذكره آرسطو في كتابه عن الأخلاق، ولا أذكر الآن ماذا سماه. . . ولن أنسى لك أبداً أنك كنت صاحب الفضل الأول في التعريف بالغزالي بمؤلفك القيم في أخلاقه، ذلك المؤلف الذي خضت به جحيم حرية الفكر غير هياب ولا وجل، وأنك كنت في كل كتبك بعد الغزالي شجاعاً كدأبك منذ أخذت نفسك بالتأليف والتصنيف، بالرغم مما في تأليفك وتصنيفك من تلك (البُقع) التي استطاع هذا الكاتب الفاضل أن يغزوهما من ناحيتها
فهل يكفيك هذا الحد في تذكيرك بشجاعتك الأدبية، فتعلن رأيك صريحاً خالصاً فيما ذهب إليه الرصافي من نسبة القرآن إلى محمد، معتذراً له بذلك الاعتذار السخيف!!
أعوذ بالله - وأستغفره - من أن يكون كلامي هذا استدراجا لك أن تقول ما لا تعتقد. . . فأنت عندي أعظم من هذا وأعلى. . . وأعوذ بالله وأستغفره من أن أكون قد قصدت بثنائي عليك (بَلْفَك!) حتى تقف في هذا الصراع الفكري إلى جانبي. . . فأنا أعظم من هذا وأعلى (ولا مؤاخذة!)
أما يأسك من حرية الرأي، لأن كل كاتب يحاول أن يكون واعظاً في مسجد، أو راعياً في كنيسة، كأن الفكر الحر من القيود لم يبق له مكان في الوجود. . . فهو كلام لا نقبله من زكي مبارك في هذا المجال. . . لأن الأستاذ الغمراوي قال في كتابك العظيم الخالد - النثر الفني - ما قال، ووجه إليك بسببه ما وجه من تهم مثيرة موبقة. ومع ذلك، فأنت لا تزال بخير يا صديقي. . . تمشي في مصر الجديدة حراً مطلقاً، كما تمشي حراً مطلقاً في أحياء الأزهر وسيدنا الحسين والصنادقية وجاردن ستي، لم يجر وراءك المسلمون ليحاسبوك بالطوب والحجارة على ما اتهمك به مناظرك الفاضل، ولم يأخذ بتلابيبك الأزهريون لآرائك في إعجاز القرآن، ولم يُحدث المسلمون في مصر ضجة ليضطروا البرلمان إلى مطالبة الحكومة بجمع كتابك وإحراقه في ميدان الأوبرا أو ميدان السيدة زينب مثلاً!
فخلِّ إذن قضية حرية الفكر التي عملت لها ألف حساب في كلمتي الأولى عن رسائل التعليقات، حيث أذكر أنني قلت:(. . . وقبل أن نعرض آراء الرصافي نعلن أننا نقدس حرية الفكر ما لم ترم إلى شر، وما لم تبلبل أفكارنا، وتعصف بمعتقداتنا، وتهدم المعايير الأخلاقية الكريمة التي زودنا بها ديننا الذي هو أعز علينا وأكرم من فلاسفة العالم أجمعين). . . والتي أذكر أنني قلت بصدد مصادرة حكومة العراق الشقيق لكتاب الرصافي القديم إن أسلوب مصادرة الكتب أسلوب رث، وسلاح لا يجمل استعماله في هذا العصر الذي يأخذ بمبدأ حرية الفكر. . .
ولست أدري ماذا يراد من حرية الفكر أن تكون بعد الذي كانته في أيامنا هذه من سعة صدر وفسحة مجال؟! أكان ينبغي أن نصمت فلا نكتب كلمة عن كتاب ينكر فيه صاحبه كل الموجودات - إلا الوجود الكلي المطلق الذي يسميه إلهه -؟ أكان ينبغي أن نصمت حينما يقول لنا الرصافي في كتاب ينشره في العالم العربي الإسلامي، وإن محمداً هو مبتدع نظرية وحدة الوجود، وأنه مؤلف القرآن، وأن الأدعية لا داعي لها - ومن الأدعية الصلاة - لأنها لن تغير من القضاء - وهو القوانين الأزلية التي لا تتغير، شيئاً، وأن كل ما يقع في الوجود فهو حق، وأن الباطل هو المحال، ولذلك تساوت المتضادات. فالهدى كالضلال، والتقوى كالفسوق، والخير كالشر. . إلى آخر هذا الهذر الذي يدعى الرصافي أنه تساو أمام الله لا أمام الناس. يريد بذلك استدراك ما أخافك - يا صديقي الدكتور زكي مبارك - من مغبّة ذلك المعتقد على الشرائع والقوانين والأخلاق. ويريد أن يطمئنك، فلا يهلع قلبك، ولا تجزع نفسك. فيقدم بين يديك هذا الدفع المتهافت الذي لا أدري كيف استقام في رأس الأستاذ الرصافي حتى يطلب له أن يستقيم في رؤوس الناس
ما استواء المتضادات أمام الله؟! أموافق أنت على هذا الهوس يا صديقي الأعز؟! أحقاً أن الذي يصيبنا من شر هو من عند الله وليس من عند أنفسنا؟ ما هذا الجبر المطلق يا دكتور زكي؟ والى أين يؤدي بنا هذا المعتقد الباطل لو أخذنا به؟! ثم ما هذا الحلول الفاسد الذي يجعل الله في كل شيء. . . بل كل شيء؟!
ثم يعود الرجل بعد هذا فيثبت أن الإنسان مكلف، لأنه عاقل؟! ثم يربط التكليف بثواب وعقاب، ليسا من جنس الثواب والعقاب اللذين جاءنا بهما ديننا الحنيف. . . ولست أدري
أين يكون مناط التكليف مع هذا الجبر المطلق؟! وعقاب الإنسان في رأي الرصافي هو ما يلقاه من تبكيت أمام ضميره. . . أما النار ودركاتها فتخويف فحسب، وردت آياته من باب التمثيل. . وأما الثواب في رأيه، فهو الاتحاد بالوجود الكلي بعد الموت. أي العودة إلى التراب. . . هنا تتم سعادة المرء! وما جاءت آيات الترغيب في جنة الخلد الموصوفة في القرآن إلا من باب التمثيل كذلك. . .
فما شاء الله على هذا الثواب وذاك العقاب! وليهنأ بعد اليوم الذين لا ضمائر لهم فتعاقبهم بالتبكيت على ما يقرفون من أوزار
وما شاء الله على هذا الكفر بالبعث الذي هو أساس متين من أسس العقيدة الإسلامية، ثم ما شاء الله على هذا التناسخ - أو عودة الكائنات بأمثالها لا بأعيانها - الذي يؤمن به الأستاذ الرصافي!
ماذا أبقى الرصافي من الإسلام فلم يبدله ولم يؤوله؟!
لقد تناوله الله - جل وعلا - فقال: إنه هذا العالم الحادث الذي درسناه في الفلك فعرفنا أنه نشأ من هيولي أخضعها الله لقوانينه الخالدة التي انتهت بها إلى هذا النظام المتقن البديع الذي لا يمسكه غير الله بما أبدع له من قوانين!
وقد تناول الرسول فجعله يؤلف القرآن ويموّه على الناس ويخترع وحدة الوجود ويخفى أمرها على الناس، ويدعوهم إلى عبادة كل الموجودات، وقد نهاهم عن عبادة الشمس والقمر والنجوم والأصنام والأشجار!
وتناول المعتقدات الإسلامية فأنكر البعث والحساب والعقاب والثواب والجنة والنار والميزان والصراط وجميع السمعيات لأنها من أنباء الغيب، والعقل لا يؤمن بأنباء الغيب
وتناول العبادات الإسلامية فأنكر الأدعية - ومنها الصلاة - لأنها لا تقدم ولا تؤخر في قضاء الله الذي لا يتبدل ولا يصح له أن يتبدل. فهو كالذين قالوا: يد الله مغلولة! غلت أيديهم!
ونعى على المسلمين في تعليقه على أقوال مستشرقه الإيطالي الجاهل - في آخر الكتاب الذي بيدك - تمسكهم بحرفية القرآن والتعاليم الإسلامية، ونسب تأخرهم وانحطاطهم إلى ذلك التمسك
فأين هو ذلك الحجر على حرية الرأي الذي تشكو منه يا صديقي الدكتور، وقد استطاع الأستاذ الرصافي أن يقول ذلك كله وأن ينشره على المسلمين في كتاب. . . فلم يصبه أذى. . . ولم تصبه إلا كلمات من أضعف مخلوق مسلم يتهمه الرصافي بأنه يكتب لغرض. . . وأن يداً خفية تحركه للرد على تلك التخرصات! وأنه نسى آداب المناظرة في الرد عليه!
فهل من حرية الرأي أن يقول الرصافي ذلك كله، فإذا رد عليه مسلم ضعيف مثل أخيك الذي أنت من أعرف الناس به، كانت حرية الرأي مهددة، وكانت في عصرنا الحديث شراً منها في العصور التي عاش فيها الجنيد والحلاج والتلسماني وابن عربي وابن سبعين والقونوي ومن إليهم من مشعبذي التصوف؟
إن ديننا يا صديقي الدكتور هو أول الأديان التي تحض على حرية الفكر ومحاربة الجمود. . . وهل صنع رسولنا الكريم، فخر الكائنات، محمد بن عبد الله شيئاً غير هذا؟!
افتح أية صفحة من كتاب الله تجد فيها حضاً على حرية الفكر، ومحاربة للجمود الذهني، والاستعباد الروحي. . . وقد فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما في البحث عن ذات الله من تهلكة، فأوصانا بالإمساك عن الخوض فيها، والتفكير ما شئنا في المخلوقات جميعاً، في الأرض والسموات وفي أنفسنا. فما الذي يغرينا بنبذ وصاة رسول الله؟!
لقد أحسنت حينما قلت: إن نظرية وحدة الوجود هي نظرية فلسفية، وأنك قد سكت حينما رأيت معاركنا تتجه وجهة دينية فمن الذي وجهها هذه الوجهة؟ أنا؟ أم الرصافي الذي جعلها من اختراع الرسول الكريم، وذهب يتأول لها الإسلام والقرآن جميعاً؟!
والعجيب أن يزعم الرصافي أنني ادعيت عليه ما لم يقل حينما نسبت إليه معظم هذه الآراء. وهي كلها آراؤه ساقها في معرض الاستشهاد على ما ذهب إليه بعد إذ جهر في أول الكتاب بأنه يؤمن بنظرية وحدة الوجود بكل ما علق عليها وخرجّ منها وأبرز من أسرارها. فلن ينفعه ادعاؤه بأنه إنما كان يستعرض آراء المتصوفة. ولن ينفعه إنكاره أنه متصوف بعد جهره بأنه يؤمن بالنظرية كما عرضها إيماناً لا يرقى إليه الشك
وبعد. . . فهل رأيت أن شرطك في استبعاد العنصر الديني من المساجلة التي أرحب بها، وأعانقك من أجلها عناقاً لا يدري نتيجته بين ذراعي إلا الله. . . هو شرط عجيب. . . ولا
أقول: خبيث؟!
من منا الذي سيقهر صاحبه الوفي على المشي فوق الأشواك يا دكتور زكي؟
دريني خشبة
السيد رشيد رضا
بمناسبة الذكرى التاسعة لوفاته
للأستاذ محمود أبو رية
مما يبعث السرور إلى النفس أن نرى من الناس وفاءً للمصلحين واحتفاء بذكرى العاملين، ذلك بأن هذا الوفاء الذي هو أسنى خلال الإنسانية، إنما يدل ولا جرم، على أن العقول والأفكار، قد استعدت لقبول آراء هؤلاء المصلحين وتعاليمهم، وأن النفوس قد استعدت للأخذ بها واتباع ما تدعوا إليه. . .
وإن مما يغتبط له المرء حقاً أن لا تمر الذكرى التاسعة والثلاثون لوفاة الأستاذ الإمام محمد عبده هذا العام كما مرت من قبل في سكون ونسيان، بل رأينا الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. قد هبت كلها للإشادة بها والإفاضة في بيان فضل صاحبها
ومما زاد في اغتباطنا أن سمعنا لأول مرة في حياتنا صوت الأزهر ينبعث في هذه الذكرى الكريمة بعد أن ظل صامتاً طوال أربعين عاماً، واضعاً أصابعه في آذانه، حتى لا يسمع له نصحاً ولا يتبع له رأياً، مما يجعلنا نستبشر بأن هذه البيئة التي تنكرت لمصلحها العظيم في حياته، وازورت عنه بعد وفاته، قد أخذت تدنو من تعاليمه لتدرسها وتنتفع بها، وأن من كان فيها من الشيوخ الجامدين والخرافيين، ومن على شاكلتهم في غيرها من الحشويين والمعوقين، أولئك الذين تخلفوا عن قافلة الحياة بأفكارهم السقيمة وآرائهم العقيمة، وكانوا عقبة في سبيل كل إصلاح قد قضى عليهم ولم يبق لهم ولا لآرائهم بين الناس أثر.
لم يجد الأستاذ الإمام في حياته من التنكر له والمكر به والإعراض عنه مثل ما وجد في الأزهر، ذلك بأنه ما كاد يظهر بما يريد من خير لهذا المعهد الكبير، حتى هب منه في وجهه فئتان تعارضانه وتصدان عن سبيله: الفقهاء الجامدون، والشيوخ الخرافيون وقد درسوا في رؤوسهم تعويذتين لتحفظانهم من (عين) الإصلاح
أولاهما: هذا أمر لم تجربه العادة!
والأخرى: الجمهور على غير ذلك!
أما الفقهاء؛ فإنهم قد أبوا إلا أن يظلوا على ما وجدوا عليه شيوخهم، فلا يدرسون إلا كتبهم، ولا يتبعون إلا أقوالهم، حتى لقد بلغ الأمر بأحد كبارهم أن يجأر في مجلس إدارة الأزهر
الذي يجمع أمثاله بهذه الكلمة الأثيمة! (لا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث، والواجب أن يؤخذ بكلام الفقهاء، ومن ترك كلام فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف فهو زنديق)!
ومن إمعانهم في هذا الجمود أن الأستاذ الإمام كان قد رغب إلى الشيخ الإنبابي، وكان شيخاً للأزهر أن يقرر تدريس مقدمة ابن خلدون بعد أن تبين له فضلها؛ فقال له الشيخ: هذا أمر لم تجربه العادة!
ولما طالب رضي الله عنه بإدخال علمي الحساب والهندسة في الأزهر عارض شيوخه في ذلك، وكانت حجتهم التي (تعوذوا) بها (أن الجمهور على أن هذين العلمين يفسدان العقل ويضيعان الاستعداد لفهم علوم الدين وينبغي عدم تدريسهما)!
ولقد كان لدرس الأدب في الأزهر ثورة عنيفة ندع الحديث عنها لصاحب (الرسالة) فهو أحق به منا إذ كان من الذين شهدوا هذه الثورة، ومسهم قرح منها!
وأما الخرافيون. فبحسبك أن تعرف أن كبار شيوخ الأزهر كانوا يحتفلون في كل عام بمولد الإمام الشافعي، وكان لهم فيه عادة اسمها (الكنسة) ذلك أنهم كانوا جميعاً يتولون كنس ضريح دفينة الشافعي، ثم يقسمون هذه (الكناسة) بينهم ليتبركوا بها! ثم ينقلون العمامة الوهمية الموضوعة فوق القبر من رأس شيخ إلى رأس شيخ آخر ليقتبسوا من أسرارها
ولعل قراء (الرسالة) لم ينسوا تلك القصيدة التي رفعها أحد المفتين إلى السيد البدوي يشكو فيها شيخ الأزهر ويطلب من (غوث الورى) أن ينتقم له منه!
وقد ظلت الحرب بين الأزهر وإمامه مستعرة طول حياته. وقد مات رضى الله عنه وهو لا يخشى على الدين أحداً غير شيوخ الأزهر. وفي مرض موته قال أبياتاً جاء فيها
ولست أبالي أن يقال محمد
…
أبَلَّ أم اكتظت عليه المآتم
ولكنه دين أردت صلاحه
…
أحاذر أن تقضي عليه العمائم
هذا ما كان عليه الأزهر من قبل؛ فإذا ارتفعت منه اليوم أصوات تشيد بذكرى الأستاذ الإمام، وتستعلي بفضله بين الأنام، فتلك آية كبرى على أن البيئة الأزهرية قد أصبحت على غير ما كانت فيه بالأمس، وأنها قد خرجت إلى النور بعد أن كانت من قبل في الرمس.
وعلى أننا قد اغتبطنا بهذا المظهر الجديد الذي بدا في الأزهر فإنا قد لاحظنا أن كل الذين
احتفوا بذكرى الأستاذ الإمام أهملوا ذكر العلامة المحقق السيد رشيد رضا رحمه الله، أكبر تلاميذ الإمام في حياته، وحامل رسالته وناشر علمه بعد وفاته، وما كان يصح لهم، وقد دفعهم الحق والوفاء إلى الاحتفاء بذكرى الأستاذ الإمام أن يدعوا إلى العناية بذكرى العلامة الجليل ولا أن ينكروا فضله
وإنا أداء لحق هذا الرجل العظيم الذي لقي من عدم وفاء المسلمين له ما لقي، والذي لم يجد أحداً يعنى بتراثه أو يحمل رسالته بعد مماته، ننتهز فرصة انقضاء العام التاسع على وفاته لننشر عنه هذه الكلمة القصيرة، ولعلنا نكون قد أدينا بها هذا الفرض الكفائي الذي يلزم المسلمين جميعاً
على أننا لا نحاول اليوم أن نتحدث عن علمه الواسع وفضله الشامل، ولا نفيض في بيان جهاده حوالي أربعين سنة في سبيل دينه، قائماً وحده بهذا الجهاد لا يفتر ولا بغى، لا تؤيده حكومة ولا يسنده منصب، لأن ذلك يحتاج إلى كتاب برأسه.
وإنا نجتزئ بلمحات تدل على صلته بالأستاذ الإمام ومكانه منه، ونشير إلى بعض ما عمل لتأييد دعوة الحكيمين جمال الدين ومحمد عبده، ونشرها بين أرجاء الأرض. ولكي لا يرمينا أحد بالغلو في القول أو الإسراف في الحديث؛ فقد آثرنا أن نرجع في ذلك إلى قول الأستاذ الإمام نفسه في تلميذه، فنتناول منه قبساً ونروح إلى ما كتب بعض المستشرقين عن دعوة الإمام فننقل عنه ذرواً
فمن قول الأستاذ الإمام لبعض أصحابه، وكانوا يريدون منه أن يُقصي عنه السيد رشيد:(إن الله بعث لي بهذا الشاب ليكون مدداً لحياتي ومزيداً في عمري، إن في نفسي أموراً كثيرة أريد أن أقولها أو أكتبها للأمة، وقد ابتليت بما شغلني عنها، وهو يقوم ببيانها كما أعتقد وأريد. . . وقد رأيت في سفري من آثار عمله وتأثير مناره ما لم أكن أظن ولا أحسب، فهو قد أنشأ لي أحزاباً وأوجد لي تلاميذ وأصحاباً. . . الخ.)، وقال للمغفور له الشيخ محمد شاكر عندما أبلغه إرادة الخديو عباس في أن يبعده عنه:(كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار عني وهو ترجمان أفكاري)، وكذلك قال لبطرس غالي باشا
وقال الدكتور تشارلز آدمس في كتابه الإسلام والتجديد: (كان السيد رشيد أكبر تلاميذ الإمام في حياته، ومؤرخ سيرته بعد وفاته، وهو الذي نشر كتبه وفسر تعاليمه، وكان من أشد
الناس أخذاً وسيراً على سنتها)
وقال: وإن كتاباته لتنم على أنه أخذ بحظ عظيم في العلوم الإسلامية المعروفة ونجد في نشره لمصنفات أستاذه، وفيما كتبه عليها من الحواشي والتعليقات ما يدل على تمكنه من المواضيع التي يتناولها، وأعظم ما تبدو كفايته في علوم الحديث، وكان لا بد من أن يبرز رشيد في هذا الميدان، وذلك لأن الحركة التي أنشأها الشيخ محمد عبده علقت أهمية كبرى على السنة الصحيحة وحدها لتكون مصدراً أساسياً من مصادر الإسلام في صورته الجديدة)
ثم تحدث عن إنشاء مجلة المنار فقال: (وكانت غاية رشيد من إنشاء المنار مواصلة السير على نهج العروة الوثقى. وكان الغرض الذي رمى إليه المنار هو في الجملة عين ما عملت له صحيفة العروة الوثقى، فقد كان من الأغراض التي تضمنتها غايتهما الكبرى نشر الإصلاحات الاجتماعية والدينية والاقتصادية، وإقامة الحجة على أن الإسلام باعتباره نظاماً دينياً لا يتنافر مع الظروف الحاضرة، وأن الشريعة أداة عملية صالحة للحكم، وكان من أغراضهما أيضاً السعي في القضاء على الخرافات والاعتقادات الدخيلة في الإسلام، ومحاربة التعاليم الضالة والتفاسير الباطلة لعقائده. . . وما دخل على العقائد من بدع الاعتقاد في الأولياء، وما تأتيه طرق الصوفية من بدع وضلالات الخ.
وقال الأستاذ جب وهو يتحدث عن دعوة الأستاذ الإمام في كتاب وجهة الإسلام: (. . . ثم واصل تلاميذه ما بدأ من عمل، وهم وإن لم يبلغوا مبلغ شخصيته الباسلة، فقد حملوا مبادئه بكتاباتهم وجهودهم الشخصية إلى جميع أجزاء العالم وأثروا تأثيراً كبيراً، ولا سيما عن طريق مجلتهم المنار)
وقال برج الأستاذ بجامعة ليدن في كتاب وجهة الإسلام: (وكانت مجلة (المنار) في مصر أول مصباح أرسل شعاعاً من هذا التفكير الجديد على جمهور عظيم من المسلمين، ولم يشرق (منار) القاهرة على المصريين وحدهم، ولكنه أشرق على العرب في بلادهم وفي خارجها، وعلى مسلمي أرخبيل الملايو الذين درسوا في الجامعة الأزهرية أو في مكة وعلى الأندنوسي المنعزل. وقال (وحركة التجديد هذه التي انبعثت من (المنار) وذاعت في مجلات الملايو أثناء العشرين سنة الأخيرة أحدثت حركة عظيمة في أراضي - بادنج الواطئة - وحركة أقل منها في الأراضي المرتفعة الخ)
وعاد الأستاذ جب فقال: (فمجلة (المنار) بنزعتها الإصلاحية ذائعة في العالم الإسلامي كله، وتلعب دوراً هاماً في إصلاح الأفكار الدينية كما بينه الأستاذ (برج) حين وصف تأثيرها في أندونسيا)
هذه فذلكة صغيرة من تاريخ العلامة الحجة السيد رشيد رضا ننشرها على الناس إثباتاً واعترافاً بفضله رحمه الله ورحم أستاذه.
(المنصورة)
محمود أبو رية
بحث نفسي علمي
2 -
الأحلام
للأستاذ عبد العزيز جادو
يرى بعض علماء النفس أن الأحلام عند الأطفال الصغار غالباً ما تكون منطقية معقولة. لأنه إن لم يكن الطفل شقياً بين أهله وفي بيئته، فإنه لا يملك وقتاً يبني فيه هيكلاً مركباً من الكبت. ومع أن أحلامهم ترمز إلى رغبات عقيمة غير مجدية، إلا أن هذه الرغبات نادراً ما تكون غير مقبولة للعقل الواعي عند الطفل الصغير، فتظهر واضحة غير مستترة. ولكن على قدر ما يكون المراهقون قلقين، تكون رغباتهم العقيمة غير مقبولة للعقل الواعي، ولذلك فهي تظهر في شكل يغاير الحقيقة
وهناك ثلاثة أنواع للأحلام:
1 -
أحلام منطقية متَّسقة كأحلام الأطفال. مثال ذلك: والد يرفض أن يأخذ طفله إلى السينما، فيذهب الطفل في حلمه إلى سينما يتخيلها إدراكه العقلي
2 -
أحلام تبدو مترابطة ولا يمكنها أن تتناسب مع حياة الحقيقة. مثال ذلك: شخص يحلم بأنه يسير بقرب منزله فيرى أن أخاه يكاد يهاجمه أسد
3 -
أحلام تبدو مفككة، غير منسجمة، سخيفة، مشوشة
والنوعان الأخيران يعتبران نموذجاً من أحلام المراهقين
وأحلامنا ولو أنها تبدو غير معقولة وغير مفهومة، إلا أنها تبدو - دائماً - تعبيراً مستتراً لأساليبنا العقلية الكائنة. والأحلام يمكنها أن تحول إلى هذه الصورة، الفكر التي في الوجود. ولكي تفعل هذا فهي تنتفع بالطرق التي يمكن أن تبدو للعقل الواعي مضحكة. وهي مع ذلك تتجاهل المتناقضات الواضحة، وتأتي بفكر مختلفة بوساطة التداعي السطحي
ومصدر الحيرة الظاهرة منها ناتجة عن رقابة العقل الواعي. ومع أن كفايتها العملية تُعزى قلة أهميتها إلى الحقيقة بأننا نكون في سبات، فنمسي غير قادرين على استعمال المراقبة الشعورية، فهي لا تزال تحاول أن تمنع اللاشعور من أن يكون شعوراً
والعقل الواعي يمكن أن يُمهد للأوضاع ولبعض الصور التي تظهر في أحلامنا. فإذا انشغلنا يوماً بمواعيد كثيرة مع أناس، يمكننا أن ندهش إذا أخذت أحلامنا شكلاً مماثلاً. على
أن عقلنا الباطن ربما يكون مسئولاً عن التعرف بأناس لم نكن قابلناهم فعلاً في ذلك اليوم، ونشاط حلمنا قد يبدو باطلاً نظراً إلى أننا لا يمكن أن نتحقق أو أن نذكر بتيقظ ما كنا نظنه يأتي في أحلامنا
يستيقظ كثير من الناس في الصباح بهذا التأثير الذي يرجع سببه إلى الرقابة على العقل الواعي. وبعض أجزاء الحلم كثيراً ما يُنسى في حين أن بعضها الآخر يكون محرفاً ومشوهاً في الذاكرة الواعية، ولذا يظل اللاشعور مكبوحاً، وإذا لم يكن هناك سبب ثابت لوجوب امتلاكنا نوعاً من الحلم الذي نكون مندفعين فيه بدون قصد من مكان إلى مكان، يحتمل أن يرجع السبب في ذلك إلى بعض مسائل شخصية نكون قد حاولنا دفعها في أعماق الصورة
وفي ساعات يقظتنا نحاول أن ننسى هذه المسألة في عمل ولهو مستديمين. وحلمنا جهد يحمى النوم لكيلا نستيقظ أو نقلق. والناس الذين يحاولون أن يتجنبوا حكماً خطيراً، أو الذين لا يمكنهم الوصول إلى حكم، عندهم في الغالب هذا النوع من الحلم
والأحلام التي نحاول فيها أن نهرب من بعض الأخطار والتي تكون الحركة فيها صعبة كأن نكون دائسين في وحل لزج أو متعلقين بأغصان أشجار، لها أهمية مماثلة. وهناك بعض المسائل الخطيرة التي نحاول أن ننساها أن نتحاشاها، ولكنها برغم جهودنا تتشكل في صورة غير مقبولة. وأحسن تصرف لنا هو أن نكشف المسألة ونسوِّيها. وحين يقف مثل هذا النوع من الأحلام تكراره عند حده، علينا أن نحاول فهم القليل عن معنى رموزها. ويجب علينا أن نحلل شعورنا واستجاباتنا وعلاقاتها بالأشباح التي تظهر على الدوام في أحلامنا. والأمانة التامة من ألزم اللزوميات، حتى ولو كانت مما لا تسر
ولنأت هنا بمثال للطريقة التي تساعد على الفهم الذاتي:
(فلان) كهل عَزبَ ثرثار، يعيش مع أخته العجوز الأرملة. إنه ينزعج من كل شيء وعلى الأخص صحة أخته. وقد اشتكى من أحلام مزعجة. ففي أوضاع غامضة مختلفة، رأى أخته ممدة ميتة وإما على وشك الموت. ويرى نفسه إما محاولاً إعادتها إلى الحياة وإما مندفعاً للتفتيش عن أشياء. وإنه يقول:(أردت أن أسرع ولكنني لم أستطع، كنت أوقع الأشياء دائماً وأخلط بين قطع الأثاث. وفي كل أحلامي (ا) موجوداً، وكانت توجد أيضاً
ممرضة ولكنها كانت تتمثل في صور شتى. ففي بعض الأحيان كانت ابنة عمي السيدة (ب)، وكانت في بعض الأحايين الآنسة (ج) وأحياناً (د). ولم أكن أفهم سبب وجود (ا) هناك. إنه كان معي في الجامعة ولكني لم أكن أحبه كثيراً. وكنت لم أره زهاء العشرين عاماً. وكنت دائماً في حالة مزعجة أستنجد بهم أن يعملوا شيئاً. وفي معظم أحلامي، كان (ا) يخلع ساعة أختي الذهبية من رسغها. وكنت أطلب منه أن يعطينيها إذ كان لي الحق في أن أقرر لمن يجب أن تكون، وكان هو يتمسك يخطفها من يدي. فيبدأ الجميع في جذبها في اتجاهات مختلفة. وفي تلك اللحظة، كانت أختي تنتصب واقفة وتنظر إليّ)
وكان (فلان) يستيقظ من نومه دائماً عند هذه النقطة يائساً، قانطاً يتملكه الشعور بأنه يجب أن يذهب إلى غرفة أخته ليتحقق من أنها بخير
ولو أن هذا يبدو حلماً مزعجاً نموذجياً. فقد كانت هناك بواعث شديدة لا شعورية موجودة فيه. ففي الجامعة كان فلان حيياً خجولاً، ولقد أراد أن يكوِّن لنفسه أصدقاء من بعض النساء ويخص منهن فتاة وكتب قصيدة أهداها إليها، ولكنها وقعت صدفة في يد (ا)، وعرض فلان بعض الوعود، كما يفعل الشعراء، ولم يكن شعره رديئاً ومع ذلك فقد صار أكثر خجلاً وأكثر حساسية
(ا) مثال كريه جداً، حاول أن يهدم إدراك فلان المثالي للنساء، واتجاهه العف نحوهن بترديد حكايات ماجنة
وكانت الآنسة (ج) جارة أعجب بها فلان. وباستثناء أخته كانت ب المرأة الوحيدة التي عرفها معرفة حقيقية، ولقد قال لها ذات مرة أنه يحب (ج) حباً شديداً
(د) كانت نجماً سينمائياً تخصصت في الأدوار التي تمثل المرأة العاقلة الحكيمة
ولقد أراد فلان أن يتزوج، ولكنه كبت هذه الرغبة ووجد حلاً غير مرضي بمعيشته مع أخته التي كان سيصير مركزها إذا تزوج مشكلة صعبة. وكانت في الحقيقة، تتكدر إذا بين لها رغبته في التعرف إلى نساء أخريات. وكانت أحلامه بموتها إيضاحاً لرغبته اللاشعورية التي تحتم موتها حالاً، وبهذا يحل مشكلته هذه. وكان هذا غير مقبول لدى عقله الواعي وضميره اللذين عوضا على الرغبة باهتمام مضطرب قلق لصحة أخته. . .
إنه كان يميل إلى ج كثيراً، ولأن السيدة ب شجعته صارت المرأتان مشتركتين في
(اللاشعورية). ورغبته الخائبة للإرضاء الطبيعي البحت كان محققاً بـ د التي أصبحت على هذا النمط مشتركة مع كل من المرأتين، وكان (ا) متبلبلاً في شعوره الشخصي بالضعة، بقدر ما كان قلقاً، وساعة أخته الذهبية كانت هدية منه، وتعبر عن العاطفة التي أراد أن يعطيها لامرأة أخرى. فكانت أحلامه لذلك انعكاساً مستتراً لفشله الشخصي
وبعد. فإن باختبار القارئ لأحلامه بإخلاص، كما فعلنا في هذا المقال، ربما يكون قادراً على شرح ما يبدو له منها غامضاً وفي الوقت ذاته يدرس عن نفسه الشيء الكثير
هل أحلامك إلهامية؟ لقد قال الدكتور الفريد أدلر إنها في بعض الدرجات ربما تكون كذلك. ليس لأي سبب خفي، ولكن لأنها ربما تدل على محاولات تجريبية عند حل المشكلة التي تتأتى
وقال أيضاً إن شخصاً ربما يركن إلى التنعم بأحلام السعادة والنجاح. غير أن هذا لا يتفق الآن للرجل الجريء الذي لا تبعد حقيقته عن خياله، فتكون أحلامه أقل تعبيراً عما يمتجنه وجدانه.
(الإسكندرية)
عبد العزيز جادو
حول فلسفة نيتشه
رسالة نبي الوثنية!
للأستاذ زكريا إبراهيم
اعتقد نيتشه في نفسه أن عليه رسالة لا بد أن يبلغها للإنسانية، فلم يكن له بد من أن ينتقي لنفسه نبياً يتكلم على لسانه. وقد وضع نيتشه رسالته هذه على لسان نبيه زرادشت، فجاءت وحياً ليس له نظير في عالم الفلسفة. والواقع أن كتاب (هكذا قال زرادشت) هو طُرفة فنية رائعة لا نجد لها مثيلاً في الأدب الألماني الحديث، بل لعلها تكون أروع ما عرفه النثر الأدبي في ألمانيا كلها. ولكن الذي يعنينا من أمر هذا الكتاب هو أن نعرف السبب الذي من أجله اختار نيتشه (زرادشت) لكي يكون المعبر عن آرائه. وقد تكفل نيتشه نفسه بالجواب عن هذه المسألة فقال:(إن أحداً من الناس لم يسائلني - وكان الظن بهم أن يسألوا - عن المعنى الذي أقصده حينما أُجري اسم (زرادشت) على لساني، أنا (اللاأخلاقي) الأول؛ فإن ما كان يميز هذا الفيلسوف من غيره، هو على وجه التحقيق، تعارضه المطلق مع اللاأخلاقي. والواقع أن زرادشت كان أول من وجد في الصراع بين الخير والشر، المحور الأساسي الذي تدور حوله كل الأشياء، فهو أول من حول الأخلاق إلى مجال الميتافيزيقا، وجعل منها قوة أو علة أو غاية في ذاتها. ولكن هذا عينه هو السبب في اختياري له: فإن زرادشت هو الذي استحدث ذلك الخطأ الجسيم الذي هو (الأخلاق) وإذن فإن من الواجب أن يكون هو أيضاً أول من يفطن إلى ذلك الخطأ؛ لا لأن اختباره للمسألة كان أطول وأعظم من اختبار غيره من المفكرين (فإن التاريخ مُفعم بالأدلة التجريبية والبراهين العملية التي تنقض النظرية المزعومة عن وجود نظام أخلاقي للأشياء بل لأن زرادشت كان أكثر أمانة وتوخياً للصدق من غيره من المفكرين.)
ولكن ما هو هذا الوحي الذي نزل على زرادشت من سماء إلهه نيتشه؟ لقد جاء هذا النبي الجديد بديانة معارضة للمسيحية، مناهضة للأخلاق؛ وهذه الديانة مُودَعة في تضاعيف شعر فني ساحر يرن في السمع كما ترن الآيات القصار. فلم يَصُغْ نيتشه إذن أفكاره في ألفاظ وعبارات، بل صاغها في لمع ولمحات. وهذه الأفكار كثيراً ما يَعذُب وقعها في السمع، بغض النظر عن المعاني التي تنطوي عليها، فهي أفكار لا تنحصر قيمتها في ذاتها، بل في
صورتها الشعرية الرائعة التي تنساب سحرها في النفس خفياً لا تكاد تلحق به المعاني! وليس من شك في أن هذه الصورة الشعرية ذات الموسيقى العذبة، كان من شأنها أن تصرف النظر عن التأمل في المعنى الذي تخبئه الألفاظ، ومن هنا فإن أقوال زرادشت كثيراً ما تتخطى الأسماع إلى القلوب، فتعمل في النفس بما لا تعمله الأفكار والمعاني. وهل يمكن للفلسفة أن تؤثر في النفس كما يؤثر الشعر؟
وليس أسلوب نيتشه وحده هو المجازى الرمزي، بل إن فكره أيضاً رمزي كذلك. فلسنا نجد لدى زرادشت تحديدات دقيقة أو براهين ثابتة، بل نجد خليطاً من الآراء والأقوال، يمكن أن نجد فيها لكل شيء جواباً بالسلب وجواباً بالإيجاب، ويمكن أن نجد فيها أيضاً مجالاً للاختيار بين عشرة أو أكثر من التأويلات المختلفة. وهذا كله من شأنه أن يجعل المؤلف في منجى من الاعتراضات التي يمكن أن يوجهها إليه الناقدون، لأن الناقد لن يجد لديه شيئاً ثابتاً يمكن أن يأخذه عليه -. ومثل هذا الأسلوب في الكتابة، أليس هو قبيل التخلي عن الفلسفة الحقيقية، على حساب هوًى ميتافيزيقي خاص، أو نزعة توكيدية شخصية استحالت إلى إيمان ثابت أو عقيدة راسخة؟ إذن فما أصدق نيتشه نفسه إذ يقول على لسان نبيه زرادشت:(تسألونني لماذا؟ أنا لست ممن يُسألون حين يعملون لماذا؟). وهل كان نيتشه فيلسوفاً يأخذ بالعقل ويخضع للمنطق، حتى يقدّم حجة على ما يقول، أو برهاناً على ما يدعي؟. . . إن زرادشت نبي ملهم، فليس له إلا أن يملي على الناس أحكامه، وليس على هؤلاء الناس إلا أن يرهفوا له السمع!
أما الرسالة الجديدة التي جاء بها هذا النبي الملهم، فهي في جوهرها ردّ فعل عنيف ضدّ الأخلاق المسيحية المغالية، والمذاهب العاطفية المتطرّفة، مما نجده في العصر الحديث لدى أصحاب (ديانة الألم الإنساني) وقد استعان نيتشه في سبيل القضاء على هذه الأخلاق، بكثير من آثار ذلك النقد الألماني العنيف للديانات والفلسفات. ولكن هذا النقد قد اتخذ عنده صورة التجديفات العنيفة واللعنات المتواصلة، فجاءت حملته على الديانات ضرباً من الإنكار الهائج الذي تشيع فيه صورة الجنون. بيد أن هذا الإنكار تعقبه تأكيدات مفعمة بالحماسة والحمية، بقدر ما هي خالية من كل برهنة أو إثبات. وهذه التأكيدات نفسها قد لقيت نجاحاً كبيراً، لهذا السبب عينه وهو انعدام البراهين منها: فإن انعدام البرهنة كان من
شأنه أن يخلع على تلك التوكيدات الإنكارية (إن صح هذا التعبير) قوة ووجاهة؛ ومن ثَمَّ فقد سيطرت على الناس وأثرت في عقولهم تأثيراً كبيراً. فهؤلاء الذين يؤخذون بسحر العبارة وموسيقية اللفظ، قد وجدوا في عبارات نيتشه التوكيدية الحاسمة، لذة كبرى لا عهد لهم بها في كتب الفلاسفة. وهؤلاء الذين يولعون بالغريب الشاذ، ويعشقون النادر غير المألوف، قد وجدوا في كتب نيتشه ما لا حصر له من الغرائب التي تستثير الإعجاب وتبعث على الدهشة. ولكن هذا وحده لم يكن السبب الوحيد في إقبال كثير من الناس على قراءة كتب نيتشة (التي أخذت تنتشر ويعاد طبعها) بل إن ثمة سبباً آخر أعمق من ذلك، وهو أن نيتشه قد نادى بمذهب فردي أرستقراطي، أراد به أن يهدم كل أخلاق وكل دين. فالروح الإنكارية التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن، قد وجدت في نيتشه تعبيراً قوياً عن الحاجة التي تشعر بها. وهل كانت رسالة زرادشت في الحقيقة، إلا دعوة صريحة مؤدّاها (العودة إلى الوثنية الأرستقراطية): وهل كان نيتشة إلا (بكال الوثنية) كما قال هافلوك إليس بحقّ؟
زكريا إبراهيم
مستقبل رومانيا
للأستاذ علي إسماعيل بك
(لماذا دخلت رومانيا الحرب)؟
ذلك هو السؤال الذي ردده طوال السنوات الأخيرة كل فرد من أفراد الديمقراطيات (فلماذا)؟
لقد دخلت ألمانيا الحرب لمطامع أغراها بها النازيون لا أقل من أن نذكر منها سيادة العالم بما سموه النظام الجديد
ودخلت بريطانيا وأمريكا الحرب دفاعاً عن حرية العالم. ودخلت روسيا الحرب دفاعاً عن نفسها. ودخلت إيطاليا الحرب للوهم الذي علق ونما في نفوس الفاشستيين لإحياء الإمبراطورية الرومانية المنقرضة. ودخلت بلغاريا الحرب لحلم دار في خلد الطامحين من ساستها بإعادة الإمبراطورية البلغارية في البلقان على يد حليفتها البطاشة
أما رومانيا، ذلك البلد الغني، المرح، الذي خرج من الحرب العظمى بأقصى ما يمكن أن ينال المنتصر من أسلاب وبأكثر مما كانت تحلم به من أراض غنية ومناطق تزخر بالمناجم وتغص بالصناعات فما بالها تدخل حرباً لا ناقة لها فيها ولا جمل؟
ذلك هو السؤال الذي يحار العقل في الإجابة عنه إجابة منطقية واضحة.
فلنرجع بالقارئ أولاً إلى حالة رومانيا قبل الحرب العظمى نجد أنها ما كانت إلا ولاية من ولايات البلقان الشرقية ترزح تحت أثقال الماضي العثماني وتتذمر من نفوذ عنصريين كبيرين يهددان كيانها على الدوام، وهما العنصر السلافي من الشرق والعنصر الجرماني من الغرب. فكان لها إذن أن تدخل الحرب العالمية، إذ كان لسيف ديموقليس حَدّان مسلولان على رأسها، ولا سبيل إلى التخلص من كابوسه إلا بإلقاء نفسها في أحضان الحلفاء. . .
وكان ذلك هو الطريق الذي اختارت رومانيا لنفسها. فحاربت في صف الديمقراطيات الغربية، وجلست معهم على موائد الصلح في سان جرمان، وخرجت من تلك الموائد ظافرة غانمة غنماً ما كانت لتحلم به. فقد سلخ الحلفاء من روسيا إقليم بسارابيا الغني الخصب في الشرق وقدموه إليها قرباناً، كما قدموا إليها أقاليم الدبروجا في الجنوب، وقد كان من ممتلكات بلغاريا وترانسلفانيا وبوكوفينا، وقد كانتا من ممتلكات الإمبراطورية النمساوية
الهنجارية النحلة
تحققت إذن كل رغبات رومانيا الصغيرة بعد الحرب العظمى، وأصبحت بعد ذلك (رومانيا الكبرى) وجلست على عرشها إحدى الملكات التي يسجل لهن التاريخ أجل المواقف. فقد كان لنفوذ الملكة ماري ابنة دوق ادنبرة ابن الملكة فكتوريا العظيمة أشرف الأثر لا على الفرع الكاثوليكي لأسرة هوهنزلرن - سيجمارينجن وحسب، بل على الشعب الروماني أجمع. فقد أخذ ينطبع بالطابع الديمقراطي الذي كانت تتحلى به تلك الملكة الإنجليزية العظيمة، وبدأت تدب في مرافقها روح المدنية الغربية. فأخذت ترفل رومانيا في مطارف السعادة والرخاء. مملكة هذه حالها، ما الذي حدا بها إلى أن تصنع اليوم ضد ما كانت تقبله بالأمس.
عاشت (رومانيا الكبرى) العشرين سنة الأخيرة عيش الفأر الذي لبس جلد الهر ظناً منه بأن في لبس الجلد السلامة والنجاة. وكان الرومانيون يعلمون على بكرة أبيهم علم اليقين بأن الهر الجرماني إنما يتحفز لأنشاب أظفاره فيهم كي يسلخ منهم ترانسيلفانيا وبوكوفينا كما يتحفز لهم الهر الروسي كي يسلخ بسارابيا والهر البلغاري كي يسلخ الدوبروجا. ماذا يصنعون إذن؟ إذا طلبوا معاونة الحلفاء، تلقوا إجابة أفلاطونية لا تقترن بأساطيل ولا تعزز بجيوش. وإذا طلبوا معاونة الروس، فلا أقل من أن تطغى على الأراضي الرومانية أنظمة روسيا الاجتماعية وهو ما لم تكن رومانيا ولا الديمقراطيات لتقبله بأي حال. موقف مربك بلا ريب
لا مناص إذن من إلقاء نفسها في أحضان الهر الجرماني، ولو على غير رغبة منها (فلنحالف الألمان عسى أن يكافئونا على حلفنا) ذلك هو ما كان يدور في خلد الرومانيين، ولكن ما هي تلك المكافأة التي كانت تنتظرها رومانيا؟ إذن فاستمع: وعدت ألمانيا النازية بحل المشكلات المعلقة بين رومانيا وجاراتها بما يرضى الضمير الجرماني بشرط دخول رومانيا الحرب في صفها ضد حلفائها بالأمس فتضع بذلك مناطق الزيت والحبوب تحت تصرف الألمان!
تمخض الوعد عن اجتماع في فينا بين هتلر وساسة رومانيا وهنجاريا، وكانت النتيجة أن نُزعَت ترانسلفانيا من التاج الروماني وقُدِّمت قرباناً إلى نسور هنجاريا! تلك مأساة الثقة
بوعد الهر الجرماني
دخلت رومانيا الحرب ووضعت جميع مواردها ومرافقها تحت تصرف الألمان، فما كان من هؤلاء إلا عاملوها معاملة السيد لتابعه، وبدلاً من أن يكافئوها بالاحتفاظ بالولايات كما كان مشروطاً كافأوها بسلخ ترانسلفانيا وبوكوفينا سلخاً لا شفقة فيه ولا شفاعة
ولما أن دار الفلك دورته وأنشبت روسيا أظفارها في قلب الهر الجرماني منتزعة بسارابيا من قبضتها بحد السيف ثاب الرومانيون إلى رشدهم وشعروا - ولكن بعد فوات الوقت - أن لا سلامة الآن لهم إلا بالخضوع والإذعان لمطالب روسيا المشروعة
وقد أذيع اليوم أن بين هذه المطالب - ولا أقل من أن يكون الأمر كذلك - أن تنقلب رومانيا إلى صف الحلفاء وأن تكون حكومة ديموقراطية تحمل السيف في وجه ألمانيا التي لم تجر عليها مخالفتها سوى الخراب والدمار على أنه من الواضح أن الحلفاء سوف يبرون بوعدهم على استرداد ما انتزع الألمان في اجتماع فينا فيضعون بذلك الحق في نصابه ويعيدون إلى قيصر ما لقيصر
علي إسماعيل
صفحات مطوية من المصري
الشهاب المنصوري
للأستاذ السيد أحمد خليل
ذلك شاعر آخر من الشعراء المغمورين الذين نشأوا في مصر، وتأثروا بما يجري على أرضها من أحداث، تظهر في أعمالهم الشعرية التي خلفوها خصائص هذه البيئة ومزاياها. ذلك هو الشاعر المعروف بالشهاب المنصوري
ترجمته
يعرف هذا الشاعر بالشهاب المنصوري، وبابن الهائم والمترجمون له يستعملون هاتين الشهرتين. فأما نسبه كاملاً، فهو أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الدائم بن رشيد الدين بن عبد الدائم بن خليفة المعروف بالشهاب المنصوري.
ولد سنة 798هـ ببلدة المنصورة، ونشأ بها، فحفظ القرآن وجوده، وتلقى بعض المبادئ في الفقه والحديث والتفسير والأدب، ثم رحل إلى القاهرة، فعرض كتاب التنبيه على الجمال الأقفهسي المالكي، ثم حفظ الملحة وقد رحل في شبابه مع والده إلى دمشق، ثم عاد إلى القاهرة وعاود البحث في التنبيه على الشرف عيسى الأقفهسي الشافعي، وعرض ألفية ابن مالك على الشمس الجندي وأخذ عنه أشياء من تصانيفه في النحو كالزبدة والفطرة، ولما فرغ من قراءته عليه قال:
ثناؤك شمس الدين قد فاح نشره
…
لأنك لم تبرح فتى طيب الأصل
أفاض علينا بحر علمك قطرة
…
بها زال عن ألبابنا ظمأ الجهل
وأخذ النحو أيضاً عن البدر حسن القدسي شيخ الشيخونية، وسمع الحديث عن الرشيدي وتنزل في حنابلة الصوفية بالشيخونية وعانى الأدب وطارح الشعراء، وصار بأخرة أوحد شعراء القاهرة حتى كان العز قاضى الحنابلة يقدمه على الكثيرين، وقد حج وامتدح النبي بعدة قصائد، وخمّس البردة ومدح غير واحد من الأعيان، وكان صديقاً للسخاوي، صاحب الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، وقد ترجم له ترجمة ضافية، ويقول الشهاب المنصوري يهنئه بمولود له:
ليهنك شمس الدين فرعك مشبه
…
سجاياك والقطر الشهي من الطخا
وذلك من وجود الإله وفضله
…
ففرعك من وجود وأصلك من سخا
ويتفق صاحب شذرات الذهب مع السخاوي في أنه توفي يوم الاثنين سادس جمادى الثانية سنة 887هـ
أخلاقه
يقول السخاوي إنه كان ظريفاً كيسا متواضعاً متقللا قانعاً، ويبدو فيما رأيناه من شعر الشهاب أنه كان ظريف اللسان خفيف الروح يتمثل فيه الخلق المصري الهادئ الوديع مع اليقظة التامة لما يجري حوله من أحداث لا بد أن يشارك فيها جاداً أو مازحاً
شعره
فأما شعره فيصفه صاحب شذرات الذهب بأنه جميعه في غاية الحسن وينقل من ديوان له تلك الأبيات:
شجاك بربع العامرية معهد
…
به أنكرت عيناك ما كنت تعهد
ترحل عنه أهله بأهِلة
…
بأحداجها غيد من العين خرد
كواكب أتراب حسان كأنها
…
برود بأغصان النقي تتأود
كما يقول السخاوي إنه أضحى مشاراً إليه بالشعر في الآفاق، ويحدثنا عن ديوانه أيضاً ويصفه بالكبر، وأنه انتخبه في مجلد وسط قبل أن يموت. والمتتبع لحياة هذا الشاعر يرى أنه قد شارك في جميع ألوان الحياة المصرية في عصره، وأن أداته في ذلك كله كانت الشعر، فهو يهنئ السلاطين بالملك بالشعر ويمدح ويذم ويداعب ويتحسر بالشعر أيضاً، وسننقل في ذلك بعض الحوادث مقرونة بشعره
لما عين مثقال الحبشي الساقي في مشيخة الحرم الشريف، وكان مثقال هذا عشير الناس كثير الانهماك على شرب الراح، فمقته السلطان قايتباي وألبسه مشيخة الحرم الشريف لعله يتوب قال فيه الشهاب المنصوري:
يمم ندا كف مثقال فراحته
…
فيها لمن أمه جود وإفضال
واعجب له فرعاه الله من رجل
…
فيه قناطير خير وهو مثقال
وقال في شاهين غزالي الظاهري الرومي، وكان بارع الجمال افتتن به كثير من النساء والرجال، وافر العقل غزير الأدب منهمكا في ملاذ نفسه وشهواتها
قد صاغك الله من لطف ومن كرم
…
وزاد حسنك بالإحسان تزيينا
فاخفض جناح الرضا واصطد طيور دعا
…
من جو إخلاصنا إن كنت شاهينا
ويلاحظ أنه مولع بالتورية في شعره، فهو يستعمل الشاهين بمعنى الصقر، ومثقال بمعنى المقدار وهما علمان. وذلك أسلوب من أساليب الشعر في ذلك العصر
كما يصف طاعوناً تفشى خطره في الناس فيقول:
يا نعم عيشة مصر
…
وبئس ما قد دهاها
لما فشا الطعن فيها
…
حاكي السهام وباها
وهو يحارب الأمراء في جشعهم ليحملهم على أن يخرجوا الغلال التي احتكروها فيقول في الأمير يشبك الدوادار لما فعل ذلك:
وظالم منه أتانا الغلا
…
يا ويله في الحشر من ربه
فادعوا وقولوا ربنا اطمس على
…
أمواله واشدد على قلبه
وهو يتعصب للعلماء فينصر ابن الفارض على البقاعي، كما يرثي العلماء الذين عاصرهم رثاء مفجعاً يدل على ما يكنه لهم في نفسه من احترام وتقدير، فقد كان في مصر في ذلك الوقت سبعة من الشعراء العلماء يحملون اسم الشهاب فماتوا جميعاً وبقي شاعرنا فرثاهم بقصيدة طويلة ذكر طرفاً منها ابن إياس في كتابه بدائع الزهور ومنها:
خلت سماء المعاني من سنا الشهب
…
فالآن أظلم أفق الشعر والأدب
تقطب العيش وجهاً بعد رحلة من
…
تجاذبوا بالمعاني مركز القطب
فكاهاته
كان شاعرنا يميل إلى الفكاهة العذبة ويحتال لها في شعره بأنواع من البديع كالجناس ونحوه، ويتبين ذلك في الأبيات التالية التي داعب بها صديقه الشاعر عبد الرحمن بن حسن المعروف بكلب العجم وكان يميل إلى الغلمان:
في ملاح لك شتى
…
صيف القلوب وشتا
كم ليال مع مليح
…
يا محب الدين بتا
خده بستان حسن
…
حبذا البستان بستا
أنت بالصبيان صب
…
لو رأيت البنت بنتا
وقد عرض له في أواخر حياته فالج ألزمه الفراش فانقطع في داره عن الحركة، ولكنه لا ينسى حظه من المداعبة الجميلة إذ يقول في مرضه:
آه يا درهمي ويا ديناري
…
ضعت بين الطبيب والعطار
كنت أنسى في وحدتي وشفائي
…
من سقامي وصحتي في انكساري
قد حماني الطبيب عن شهواتي
…
فاحم يا رب قلبه بالنار
طال شوقي إلى الفواكه والبطيخ
…
والجبن واللِّبَا والخيار
أما حديثنا عن ديوانه فسيكون في مقال آخر إن شاء الله.
(جامعة فاروق بالإسكندرية)
السيد احمد خليل
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
604 -
تحت كل لم؟ أسد ملحم
ابن الراوندي: ما التصدي للحراب والقضاب ومبارزة الأبطال بأصعب من التصدي للجواب لمن أمّك بالسؤال.
وتحت كل لِم؟ أسد مُلمّ
605 -
إذا استعفى بغمزة حاجبيه
قال أبو نؤاس:
ولست بقائل لنديم صدق
…
وقد أخذ الشراب بمقلتيه
تناولها وإلا لم أذقها
…
فيأخذها وقد ثقلت عليه
ولكن أدير الكأس عنه
…
إذا استعفى بغمزة حاجبيه
606 -
أسهل من تلك الخطوة
رفع رجل من الأزد إلى المهلب سيفا له فقال: يا عم، كيف ترى سيفي هذا؟
فقال: إنه لجيد لولا أنه قصير
قال: أطوله يا عم بخطوتي
فقال: والله - يا بن أخي - إن المشي إلى الصين أو إلى أذربيجان على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة. . .
607 -
ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوي الجدود
سُمع من امرأة من الأعراب ترقص ابناً لها فتقول رزقك الله جَداً يخدمك عليه ذوو العقول، ولا رزقك عقلا تخدم به ذوي الجدود
608 -
فكيف بالظالم؟
في الكشاف للزمخشري:
صلى الموقف خلف الإمام فقرأ: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار). فغشى عليه،
فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم؟!
609 -
فقد طابت منادمة المنايا
القاضي عبد الوهاب:
متى تصل العطاش إلى ارتواء
…
إذا استقت البحار من الركايا؟!
ومن يثني الأصاغر عن مراد
…
وقد جلس الأكابر في الزوايا؟!
وإن ترفع الوضعاء يوماً
…
على الرفعاء من إحدى البلايا!
إذا استوت الأسافل والأعالي
…
فقد طابت منادمة المنايا!
أوائل الناجحين
للشاعر الأستاذ محمد الأسمر
(للبيت العلوي الكريم مآثر محمودة في تشجيع العلوم والفنون،
من لدن محمد علي الكبير إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا
الملك فاروق الأول، وإن في تكريم جلالة الفاروق لأوائل
المتخرجين كل عام لمأثرة كبيرة من هذه المآثر المحمودة
المعروفة عن البيت العلوي
وقد كان المغفور له جلالة الملك فؤاد الأول يمنح أوائل الناجحين في عالمية الأزهر بعض المنح، وكان الأزهريون يحتفلون بتوزيع هذه الجوائز على الأوائل منهم، والقصيدة الآتية أنشدها الشاعر في بعض هذه الحفلات.)
للسابقينَ الأولينَ تحيتي
…
شعراً كزهر الروض لما نوَّرا
بَلغَ المُجَلِّى، والمُصَلَّى غايةً
…
لهما، وأبطأ عاجزٌ وتأخَّرا
يتنافس المتنافسون فسائرٌ
…
خَبَباً، وآخرُ سائرٌ متعثرا
صَرْحُ الحياة ثوى الضعافُ بسفحه
…
والأقوياءُ على الذوائبِ والذُّرى
قُلْ للأوائل قد بلغتمْ شأوكْم
…
وحمدتُم لَّما بدا الصبحُ السُّرى
لم تأخذوا من لهو أيام الصبا
…
إلا مُباحاً نلتموهُ مُقَتَّرا
لستمْ كمن تخذ المقاهيَ دارَهُ
…
يلهو ويُنفق مُسرفاً ومبذرا
زمنُ الدراسة للدراسة وحدها
…
ما كان متسعاً لشيء آخَرا
خير الجليس به، وخير مسامر
…
فيه يراعٌ أو كتابٌ سُطِّرا
والطالب السبَّاق في طلب العلا
…
أبداً تراهُ مُنقباً ومُحِبِّرا
ما إن يُرى في الليل خارجَ دارهِ
…
وتراه ينهض للدروس مُبكِّرا
يأيها الغُرُّ الأوائلُ حسبُكم
…
عطفُ المليك فما أجلَّ وأكبرا
ونصيحةً لكم الغداة نسوقُها
…
لتُبينَ ما رُبمَا اختفى وتسترا
لا تحسبوا سَبْقَ الدراسة وحدهُ
…
يُغنى فيرخى ذيله من شَّمرا
سَبْقُ الدراسة ليس إلا سلّماً
…
هو أول الغاياتِ ليس الآخِرا
لا يَقْعُدَنَّ المرءُ بعد نجاحه
…
ثملاً ولا يخطرْ به متبخترا
كم أخرِ في الدرس ثابَر بعدهُ
…
فسما وظلَّ الأولون على الثرى!
فخذوا بأسباب الحياة وواصلوا
…
خطواتكم تجنوا الشهيّ المثمرا
الأزهر المعمور يرعى روضَه
…
ملكٌ به رفَّ النجاحُ وأزهرا
ما زال يسقيهِ الرعايةَ عذبةً
…
حتى بدا نضر الجوانب أخضرا
وإذا الملوك الصالحون تعقدوا
…
غرساً أتى بالصالحات وأثمرا!
يسعى إليه المسلمون جميعهم
…
مثل الحجيج سعى إلى أم القرى
وردوا به الوِرْد الشهيّ مذاقه
…
وجنوا به المُتَعَهَّد المتَخيَّرا
جمع القديم مع الْجديد كليهما
…
أحببْ به مُتَبَدِّياً، متحضِّرا
عَلُم الزعامِة في يديه وحدهُ
…
ما كان أحراهُ بذاك وأجدرا
حَمَل اللواء إلى الأمام فما مشى
…
يوماً به في الحادثات القهقري
وردتْ مناهِلَهُ البرَّية كلها
…
عسلاً مُصفّى لا أجاجاً أكدرا
يمضي على سَنَن الهدى مستنصراً
…
بالله، محميَّ الجناب مُظَفّرا
بنت الشريعةُ من قديم حصنها
…
فيه، وشيَّدت الفصاحةُ منبرا
وتفضَّل الله العلُّى وزادهُ
…
فضلاً، فأيدهُ المليكُ وأزّرا
يأيها الملكُ الرشيدُ تدفَّقتْ
…
منك الأيادي فهي تجري كوثرا
تُعطي الجزيلَ من العطاء مشجعاً
…
من لم يَعُقْهُ عن السُّرى حُبُّ الكرى
تبني العقولَ وأنتَ أقدرُ من بني
…
وأجلُّ من ساس الأمور، ودبَّرا
إن كان كسرى شادَ إيواناً له
…
حَجَراً، فأنت تشيدُ أعجب ما يُرى
تبني المعارفَ والفنونَ وهذه
…
أبقى على الدنيا وأروعُ منظرا
محمد الأسمر
البريد الأدبي
الثقافة والعقاد
في عيد ذكرى من ذكريات سعد الماضية، أصدرت مجلة الثقافة عدداً خاصاً في الزعيم سعد زغلول من أقلام كتابها البارزين
وكتب أحد هؤلاء الكتاب، حكاية زيارة اللورد جورج لويد للمنيا، واستقباله في الأقاليم استقبال أصحاب العروش، وحملة الصحف على اللورد من جراء هذه الزيارات، واشتراك مجلس النواب على اختلاف الأحزاب في هذه الحملة، وحنق اللورد وخلقه أزمة استحضر من جرائها الأسطول إلى الإسكندرية ليزيل ما أصاب هيبته من تلك الحملات التي ظن أن الموعز بها والمحرض عليها هو الزعيم سعد زغلول
ويقول كاتب الثقافة إن المغفور له سعد زغلول قال: إن اللورد جورج يتهمنا بأننا كنا الموعزين بحملة الصحافة وحملة النواب على زياراته للأقاليم، أما أنا فأقول:
(إنها تهمة لا أدفعها وشرف لا أدعيه)
أورد كاتب الثقافة الخبر على هذا النحو كأنه من أخباره الخاصة أو من متداول الحديث بين كتاب الثقافة
بعثت آنذاك بكلمة إلى رئيس تحرير الثقافة، أضع الأمر في موضعه الصحيح، وأدل القراء على المصدر الذي استقى منه الكاتب روايته وهو كتاب (سعد زغلول) لمؤلفه الأستاذ عباس العقاد، ولم يشأ صاحب امتياز المجلة نشر كلمتي قطعاً لما قد يعقب نشرها من أخذ ورد
سألت عن كاتب تلك الكلمة، فعرفت أنه لا يقل مكانة عن الكاتب (ح. ج)، ولعله يزامله في التحقيق والعدالة
عندما قرأت مقال الثقافة (سعد وسعود) بقلم (ح. ج) وتعليق الأستاذ سيد قطب عليه تذكرت الماضي وقلت في نفسي (هذه ثقافيات عرفناها في الجامعيين في إنكار الفضل على ذويه)
وبهذه المناسبة أنقل خلاصة حكاية أوردها الأستاذ العقاد في كتابه (سعد زغلول) أهمسها في آذان كتاب الثقافة وحواشيهم ليت يتدبرها الكاتب اللبق (ح. ج)
قال العقاد وقد سأله الزعيم عن رأيه في خطبة العرش، وكان حاضراً كل من فتح الله
بركات باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا والأستاذ عبد القادر حمزة
أدلى الأستاذ العقاد برأيه، وقام النقاش بين الرجلين ودام نصف ساعة. فقال زغلول باشا للعقاد
(لماذا تحاسبني أنا في هذا، ولست أنا المسئول عنه)
فأجاب العقاد (لأن دولتك وكيل الأمة والمسئول عن عمل الآخرين)
(فضحك - رحمة الله - طويلاً، ثم قال: لو حاسبني كل فرد من الأمة حسابك يا فلان لعجزت عن أعباء هذه الوكالة)
(قلت وفي نفسي غضب أغالبه: يا باشا، ليس كل فرد في الأمة عباس العقاد)
(فتبسم مؤمناً وقال: ليس كل فرد عباس العقاد. . . صدقت)
حبيب الزخلاوي
1 -
وحدة الشهود
تعليقاً على ما دونه الأستاذ البشبيشي في عدد الرسالة 578 أقول: أول من قال بوحدة الوجود في الإسلام هو جهم بن صفوان الذي قتل في آخر عهد الأمويين، وقد تأثر في بدعه ونحله الباطلة بالسمنيين (سمنات) لاختلاطه بهم، وكم فتح هذا الرأي من أبواب للإباحة والزندقة لشرار الخلق
وأما قول الصوفية الأطهار بوحدة الوجود فلم يكن ناشئاً من نظر أو بحث، بل هي عندهم حالة خيالية تطرأ للسالك من شدة إقباله على الله إلى أن يغيب عن الكون فينطق بما يوهم وحدة الوجود، وتسمية هذه الحال (وحدة الشهود) هو الصواب. ومن الصوفية أتقياء أبرار يراعون أدق أوامر الشرع في جميع شؤونهم، كما أن بينهم زنادقة إباحيين. قال العلامة يوسف البحري فيما علقه على (المجموع في المشهود والمسموع): إن الواجب له عز الوجوب والعظمة والكبرياء، فهو منزه عن اللواحق المادية والتعطيلات الإلحادية، وإن الممكن له ذل الإمكان وحقارة الاحتياج إليه محقور مقهور محتاج إليه تعالى في وجوده وبقائه وجميع أطواره، فلا ينقلب الواجب ممكناً ولا الممكن واجباً، بل الواجب خالق قادر عني، والممكن مخلوق عاجز محتاج فلا يكون أحدهما عين الآخر، وهذا بديهي وبه نزلت
الكتب السماوية وجاء به الأنبياء. . . انتهى.
وبحث وحدة الوجود بحث خطر متشعب، والموفق من وقاه الله شره. وممن توسع في رد ذلك القاضي عضد الدين في المواقف
2 -
في اللغة أيضا
نقلت في عدد (الرسالة) 576 ذرواً من قول الأستاذ النشاشيبي في لفظة (تلاشي) وأورد اليوم بعض كلامه أيضاً:
بنت العربية (الملاشاة والتلاشي) من (لاشيء) في القرن الثالث فقالت: لا شيء يلاشي ملاشاة، وتلاشي يتلاشى تلاشيا. وفي إرشاد الأريب (التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به) وراوي الجملة هو المنشئ العبقري أبو حيان التوحيدي (الذي ربما كان أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق)، وكما يقول العرباني (متز)، وفي العمدة لابن رشيق (وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى)، وجاءت اللفظة في شعر الصنوبري
فالتلاشي مولدة كيسة، وقد تقبلها من تلوت أقوالهم، وسمينا أسماءهم بقبول حسن. ثم طلع علينا الخفاجي في آخر الزمان يقول في شفاء الغليل (التلاشي بمعنى الاضمحلال عامية، لا أصل لها في اللغة). عامية يا شيخ (قدك اتئب، أربيت في الغلواء) خف الله، احترم أولئك الأئمة، قل مولدة، قل محدثه، لقد ظلمتها حين ذممتها واستأصلت أصلها. والنسب مشهور، والناجلان معروفان، وهي (لا) و (شيء)، وقد نشأت في العراق ورحب بها المهيللون والمبسملون والمحمدلون، والأدباء والعلماء والباحثون
وسقط مما نقلته في العدد 576 من كلام الأستاذ بعد أن ذكر قول ابن أبي الحديد: قلت: مقالة ابن أبي الحديد متلاشية، والحق مع القطب الراوندي صاحب شرح نهج البلاغة ومعتقد الشيعة. . .
أحمد صفوان
إلى ميدان الجهاد
مضت شهور وأنا معتصم بالصمت فلا أكتب حرفاً في مدافعة أخصامي، أو مناصرة
أصحابي، وقد طال الصمت ثم طال حتى أشمت الأعداء، وأحزن الأصدقاء
وأنا راجع إلى ميدان الجهاد ومعي سلاحي، فليلقني من توهم أنني ألقيت سيفي وطويت لوائي
كل شيء يجوز، إلا أن أخذل وطني، وهذا الوطن هو اليوم موئل الحرية الفكرية في الشرق
إن خصومي دفعوني إلى ما لم أكن أحب أن أندفع إليه، فما عندي نية لخصومة روحية أو عقلية لأني أبغض الشهرة التي يجلبها التظاهر بحرية الرأي
قراء الرسالة يذكرون أنها نشرت عشرات من الملاحظات على التصوف، وهم أيضاً يذكرون أني سكت عن التعقيب على تلك الملاحظات، فما سبب ذلك السكوت؟
السبب يرجع إلى إيماني بأن التصوف عُقدة نفسية لا تفسرها كلمة وجيزة في صحيفة أسبوعية
ولكنني اليوم أراني مقهوراً على شرح نظرية وحدة الوجود، بعد أن طال فيها الكلام على صفحات الرسالة الغراء بدون إيضاح
وقراء الرسالة يذكرون أن بعض الناس وصفني بالحمق والغباوة والجهل، بسبب آرائي التي دونتها عن إعجاز القرآن في كتاب النثر الفني
وسأشرح تلك الآراء شرحاً ينفي عني وصف التهمة بالحمق والغباوة والجهل، فأنا بفضل الله أعقل وأذكى وأعلم من جميع المتطاولين على مقامي
وإذا كان فلان الفلاني أعلن فرحه بأن الرقابة لن تسمح بنشر دفاعي عن آرائي، فليعرف ذلك الفلان أن دفاعي سيكون أوضح من فلق الصباح، وأنه لن يتعرض لمقاومة الرقابة بأي حال
كنت أنتظر أن ينتصر خصومي عليّ بقوة المنطق لا بقوة الحكومة، فلن أنسى كيف خاصموني في يوم نقدت خطبة العرش في إحدى حكومات الانقلاب
أما بعد فهذا نذيرٌ من النذر الأولى
زكي مبارك
لقد عاذ بمعاذ
في أهرام 20 أغسطس سنة 1944 نبأ الجمل الذي أهرب من المجزر، ولجأ إلى قصر عابدين، فأمر جلالة الملك فاروق بشرائه وعدم ذبحه. وقد ذكرنا ذلك بما جاء في كتاب (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين الهيثمي) إن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام جالساً ذات يوم إذ جاء جمل يخبب حتى ضرب بجرانه بين يديه، فقال ويحك: أنظر لمن هذا الجمل، إن له لشأناً. فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه فقال: ما شأن جملك هذا؟ قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال: لا تفعل، بِعْنيه، قال: بل هو لك يا رسول الله، قال: فوسمه بميسم الصدقة ثم بعث به.
(ابن المقفع)
داء يستعصي على العلاج
في الميدان الأدبي جريمة خبيثة تستعصي على الضبط، فهي كالداء الذي لا يعرف له دواء؛ هذه الجريمة هي أن يعمد بعض الجاهلين المجهولين إلى اختلاق كلمات أدبية أو اختلاسها، وينسبونها إلى أناس برآء لم يعلموا بها ولم يشتركوا فيها، ثم يرسلونها إلى الصحف والمجلات كي تنشر فتحدث كثيراً من المواقف الحرجة، وتترك من ورائها آثاراً سيئة حينا وتجلّ أحياناً!.
وهذه الجريمة تتكرر يوما بعد يوم؛ فمنذ عشر سنوات أرسل بعض هؤلاء الجهلاء قصيدة في ديوان للأستاذ حسن جاد حسن إلى الأهرام بعد أن وقع عليها باسم الأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر، ومنذ سنوات طبع أحدهم قصة نسبها إلى الأستاذ توفيق الحكيم، وفي العام الماضي بعث أحدهم إلى (الثقافة) بقصيدة للمرحوم أبي القاسم الشابي بعد أن وقع عليها باسمي، ومنذ شهور اختلق أحدهم قصيدة متداعية ونسبها في بعض الصحف إلى الأستاذ عبد الجواد رمضان. . . وهاهي ذي الجريمة تتكرر اليوم فيرسل بعضهم إلى (الرسالة) كلمة مزوَّرة بعد أن ينسبها إلى الأستاذ عبد الحميد ناصف. ولا ندري ما يأتي به المستقبل!
فليت شعري! كيف يستطاع القضاء على هذه الجريمة؟ إن رئيس التحرير لا حيلة له في
ذلك، فهو لم يعط علم الغيب، والأحقاد الدفينة والخصومات الحقيرة تدفع هؤلاء بين الحين والحين إلى اقتراف تلك الجريمة الشنعاء، فمن لي بمن يطب لهؤلاء؟. . . رحم الله شوقي إذ يقول:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
…
فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا!
أحمد الشرباصي
خريج كلية اللغة العربية
استدراك
قال الدكتور عبد الوهاب عزام في عدد الرسالة 576 (وقد أثبت صاحب كشف الظنون نحو سبعين تاريخاً للمدن)
أقول: وقد سرد العلامة السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) زهاء 330 (ثلاثين وثلاثمائة) تأريخ للمدن، منها أكثر من 40 في مكة، وأكثر من 20 لمصر، ومثلها أو قريب منها لليمن، وعشرة ونيف لدمشق، ونحوها لكل من بغداد والأندلس والمدينة النبوية، ولو قيس رقي الأمم بوفرة المصنفات ما قارب الأمة المحمدية أمة.
أحمد صفوان