المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 585 - بتاريخ: 18 - 09 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٨٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 585

- بتاريخ: 18 - 09 - 1944

ص: -1

‌الحروف اللاتينية

للأستاذ عباس محمود العقاد

علم القراء أن صاحب المعالي الأستاذ العلامة عبد العزيز فهمي باشا قد اقترح على مجمع فؤاد الأول للغة العربية اقتباس الحروف اللاتينية وبعض الحروف المشابهة لها لتيسير الكتابة العربية

وقد خالفه كثيرون، وعاود معاليه الكرة للرد على هؤلاء المخالفين، ومنهم كاتب هذه السطور

وكنت قد خالفت رأي معاليه لأن اقتراحه يترك الصعوبة الأصلية قائمة ويعني بالصعوبة المتفرعة عليها، وهي تابعة لها باقية ببقائها

فلا صعوبة عندنا في كتابة حرف من الحروف مضموماً كان أو مفتوحاً أو مكسوراً إذا عرفنا أنه مضموم أو مفتوح أو مكسور، ولا صعوبة كذلك في قراءته مع هذه المعرفة سواء أكان مشكولاً أم غير مشكول

إنما الصعوبة الأصلية أن نعرف ما يضم وما يفتح وما يكسر، ثم نكتبه ونقرأه على صواب

وترجع هذه الصعوبة إلى خواص في بنية اللغة العربية لا وجود لها في اللغات التي تكتب بالحروف اللاتينية، غربية كانت أو شرقية

ومن هذه الخواص الفعل الثلاثي واختلاف أبوابه وارتباط ذلك بالمصادر والمشتقات، ولا وجود لهذا الفعل الثلاثي في غير اللغات السامية، وعلى رأسها لغتنا العربية

ومنها الإعراب، وهو على وجود القليل منه في لغات نادرة، قد اختصت اللغة العربية بأحكام مستفيضة فيه، لا نظير لها في جميع اللغات

ومنها أن حروف الحركة في بعض اللغات الشرقية التي تكتب الآن بالحروف اللاتينية قلما تفيد معنى من المعاني غير إشباع الحركة أو خطفها والإسراع فيها، ولكنها في اللغة العربية تبدل معنى الكلمة أو تبدل قوة المعنى

فقراءة العربية قراءة مضبوطة لا تتأتى بغير تصحيح العلم بهذه القواعد قبل كتابتها وقراءتها، وسبيل ذلك أن نختصر القواعد النحوية والصرفية حتى يحيط أوساط الناس بالقدر الكافي منها لمقاربة الصواب جهد المستطاع

ص: 1

ونقول مقاربة الصواب لأن العصمة من الخطأ لن تتيسر في اللغة العربية ولا في غيرها من اللغات، ولن تتيسر أبدأً في عمل يتناوله جميع من خاصة وعامة

أما الكتابة بالحروف اللاتينية فإن صح أنها تضمن للقارئ أن يقرأ ما أمامه على صورة واحدة فهي لا تمنع الكتاب المختلفين أن يكتبوا الكلمة على صور مختلفة كلها خطأ وخروج على القواعد اللغوية، ومن هنا يشيع التبلبل في الألسنة ويتقرر الخطأ بتسجيله في الكتابة والطباعة بدلاً من تركه محتملاً للقراءة على الوجه الصحيح. ولا شك أن الخطأ في النطق أهون ضرراً من الخطأ المكتوب أو المطبوع، لأن كتابة الخطأ تبقى خطأ النطق وتزيد عليه أنها تسجله وتضلل من عسى أن يهتدي إلى الصواب

فقصارى ما نغنمه بهذا التبديل، أننا ننقل التبعة من القارئ إلى الكاتب ولا نمنع الخطأ ولا نضمن الصحة، وهي فائدة لا يبلغ من شأنها أن تبدل معالم اللغة وتفصل ما بين قديمها وحديثها

وكان من أسباب مخالفتي لاقتراح الأستاذ العلامة - وهي كثيرة - أن طريقته ليست بأيسر من طريقتنا التي نجري عليها الآن في كتابة الكلمات العربية مضبوطة بعلامات الشكل المصطلح عليها، في موضع الحاجة إليها

لأن الطريقة اللاتينية المضاف إليها بعض الحروف العربية تعفينا من علامات الشكل، ولكنها تضطرنا إلى زيادة الحروف حتى تبلغ ضعفها أو أكثر من ضعفها في كلمات كثيرة، وتوجب هذه الكلفة على العارفين وهم غنيون عنها.

ثم هي لا تغنينا بتة عن النقط والشكل، لأنها تعود بنا إلى النقط في حروف، وإلى ما يشبه الشكل في بعض الحروف لتمييز الألف والثاء والذال والشين

على أن الأمم الأصيلة في الكتابة اللاتينية لا تستغني بالرسم عن ضبط السماع

فاللغة الإنجليزية التي أستطيع الإتيان بالشواهد منها حافلة بالكلمات التي يختلف نطقها ورسمها، والتي تنطق على وجه وتكتب على وجوه، كما أنها حافلة بالشواذ في صيغة الماضي والمفعول ومشتقات أخرى

ومن أمثلة الصعوبات في الرسم أنهم ينطقون هذه الكلمات نطقاً واحداً وهي مختلفة في الكتابة والمعنى والاشتقاق، وهي وأنهم يكتبون حروف الحركة أحياناً على نمط واحد

ص: 2

ويخالفون بين النطق بها في درجة المد وفي مخارج الصوت، كما يفعلون على سبيل التمثيل في أو في أو في أو في

ومن حروف الإنجليزية ما يكتب ولا ينطق به مثل الباء في والكاف في ومنها ما يهمل حيناً وينطق حيناً بخلاف حرفه مثل

إلى غير ذلك مما تدل عليه هذه الأمثلة ولا تحصيه، ويكفي أن نرجع إلى المعجمات التي وضعت لأهل اللغة أنفسهم لنعلم أنهم لا يستغنون عن اتباع كل كلمة بما يضبط نطقها ودرجة امتداد الحركات فيها وموقع النبرة في مقاطعها

وقد رأينا أن نكتفي في مناقشة اقتراح اللاتينية بالأقوى والأظهر من الأسباب دون أن نذهب فيها إلى الاستقصاء والاستيعاب، وإلا فالأسباب التي تحول دون رسم العربية بالحروف اللاتينية أكثر من هذا الذي أجملناه بكثير

وتناول معالي المقترح اعتراضنا فقال بعد تلخيصه: (إنه على كل حال اعتراف خارج عن الموضوع. وما أشبهنا، إزاءه، بالباحثين عن طرفي الحلقة المفرغة تقوم الساعة علينا قبل أن نهتدي إلى المطلوب! إن مسألة البحث في أصول اللغة وتيسير قواعد نحوها وصرفها تلك التي يقول المعترضون إنها هي العلاج الشافي لأدواء العربية هي مسألة أخرى قائمة بذاتها، وهي مطروحة فعلاً على المجمع اللغوي يردد مداخلها ومخارجها، ويحاول ما وسعت قدرته تمهيد ما يقبل منها التمهيد)

ثم قال معاليه إن لائحة المجمع تجب اعتراضنا، ورد معاليه عليه لأن:(نصها صريح في أن عليه البحث في تيسير رسم الكتابة العربية، ووزير المعارف عهد إليه بهذه المهمة بقرار منه خاص، وهو مكلف نظامياً بتنفيذ قرارات الوزير)

وعندنا أن رد معاليه على هذا الاعتراض هو أشبه شيء بالدفوع القضائية منه بالدفوع المنطقية

فالحق أن تيسير القواعد اللغوية مسألة غير مسألة الرسم وكتابة الحروف، ولكن اختلافهما لا يمنع العلاقة الوثيقة بينهما ولا يخرجهما عن حكم القضيتين اللتين لا تنظر إحداهما بمعزل عن الأخرى

وكذلك على المجمع بموجب تكوينه أن يبحث في تيسير رسم الكتابة كما عهد إليه

ص: 3

ولكن هذا الوجوب لن يوجب عليه أن يرحب بكل تغيير أو يدين بأن التغيير أسهل من الطريقة التي نحن عليها الآن

فتيسير الرسم العربي واجب لا شك فيه، ورفض الرسم اللاتيني كذلك واجب لا شك فيه للأسباب التي قدمناها، وأولها أنه يبدل معالمنا دون أن يخرجنا من تلك الصعوبة التي تدعونا إلى التبديل

وقد نظر المجمع في عشرات من المقترحات التي تقدم بها أعضاؤه أو تلقاها من الفضلاء المجتهدين في حل هذه المعضلة العسيرة

فإذا قال قائل إن الرسم الحاضر أيسر من جميع هذه المقترحات، لأنه في الواقع أيسر منها. فاللائحة لا تفرض عليه أن يخالف الحقيقة ويقول: بل هي جميعاً أيسر من الرسم الذي نجري عليه.

ولكل لغة صعوباتها التي لا يتساوى الناس في تذليلها ولو زالت صعوبات الرسم والكتابة جمعاء

فلا بد من فارق في اللغة بين المتعلم وغير المتعلم وبين الموهوب وغير الموهوب وبين صاحب السليقة والدخيل عليها

وليست لغتنا العربية بدعاً بين اللغات في هذه الخاصة العامة. . . فمهما نصنع في تيسير رسمها أو قواعدها فلن نسوي بين الناس في كتابتها وقراءتها، ولن نغني الكاتب أو القارئ عن المزيد من الاستيفاء كلما ارتفع درجة أو درجات في مراتب الفهم والشعور والتعبير

ولهذا ينبغي أن نسير كتابتها بتيسير معرفتها وتيسير فهمها مع التسليم طوعاً أو كرهاً بأن هذا التيسير لن يدفع كل عسر، ولن يزيل كل لبس، ولن يعصم من الخطأ كل العصمة، ولن يزال الباب بعده مفتوحا للتفاوت بين قدرة الناس على الصواب واستعدادهم للخطأ من جهل أو سهو أو قصور

وإذا قيل أي العلاجين أدنى إلى تيسير الكتابة؛ فلا شك أن العلم التقريبي بالقواعد التي تقيم النطق خير من الرسم الذي يقرأ على صورة واحدة مع بقاء صور متعددة للكلمة تختلف باختلاف حظوظ الكتاب من القواعد الصرف والنحو والإملاء والهجاء، وهذا إن صح أن الحروف اللاتينية تضمن القراءة على صورة واحدة وهو غير صحيح، لأن جرس

ص: 4

الحروف اللاتينية يخالف جرس الحروف العربية في المخارج والحركات وتوقيت الكلمة في أثناء نطقها، وهو شيء صميم اللغة كالمعنى ورسم الكتابة على السواء

وأسلم ما يقال في هذا الباب إن الطريقة القائمة لا تزال أسهل وأقرب إلى بنية اللغة من كل مقترح علمنا به، ولا مانع من جديد يستدرك ما عز استدراكه إلى الآن.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌حرية الفكر أيضاً.

. .

للأستاذ دريني خشبة

ينصب بعض السادة الكتاب من أنفسهم أبطالا للدفاع عن حرية الفكر، ويعد بعضهم أنفسهم شهداء لهذه الحرية المكبوتة في زعمهم، المضيّق عليها تضييقاً يذهب صديقنا الدكتور زكي مبارك إلى أنه لم يسبق أن حدث مثله في الأمم الإسلامية قط

وندع الآن ما ذهب إليه الصديق الكريم من هذه الدعوى، لنلفت أنظار القراء إلى شيء ظريف جداً يصدر عن أولئك الأبطال الكرام، عن قصد ظريف جداً كذلك

وليس هذا الشيء الظريف الذي نلفت إليه أنظار القراء الآن شيئاً ظريفاً واحداً، ولكنه أشياء ظريفة يأخذ بعضها برقاب بعض. فتكون آخر الأمر موضوع هذا الشيء الظريف

عندما تناولنا موضوع كتاب الأستاذ الرصافي، وقفنا منه إزاء كتاب يتناول ديننا كله، ومعتقداتنا جميعها، فيتأولها تأويلا لا يجوز إلا في عقل مدخول. . . فإلهنا - في زعمه - هو هذا العالم الذي تعرف من العلم الحديث كيف نشأ. . . ونبينا، هو أول مبتدع لهذا الهراء، كما إنه مؤلف القرآن وقائله. ونظرية وحدة الوجود تلك التي ابتدعها محمد هي أرقى ما وصلت إليه الفلسفة الإسلامية، والإيمان بها ينافي الإيمان بما جاء به الرسول الكريم من خلق الله لهذا العالم، والدعوة إلى عبادته ودعائه والإخبات له، وما قال به من نشور وحساب وثواب وعقاب وجنة ونار. . . ثم تساوى الخير والشر والضلال والهدى والتقى والفسوق والأبيض والأسود. . . والسجود بين يدي الله والإكباب على الحليلة. . . أمام الله كما يزعم الرصافي في رده علينا. . . استناداً إلى زعم الجنيد، أنه سبحانه، هو الهادي وهو المضل، وما دام الله كذلك فلا يكون ثمة معنى للحساب والثواب والعقاب والجنة والنار على نحو ما يؤمن بذلك المسلمون كافة. . . ذلك الإيمان الساذج الفطري الذي لا يسيغه عقل. . . لأن العقل لا يسيغ أنباء الغيب ولا يهضمها. . .

ولما كان الرصافي - هداه الله - ينتمي إلى المسلمين، وقد لغا هذا اللغو الذي كان يلغو به من قديم، فقد وقفنا منه وقفتنا التي يحتمها علينا ديننا، لأن دعواه تقلب هذا الدين بجميع عقائده رأساً على عقب. . . وما ظنك بدعوى تنسخ العبادات نسخاً لا يجعل لها ضرورة، لأنها لن تغير مما قضى الله من شيء، ثم ما ظنك بدعوى تجعل الله مأكولا مشروباً

ص: 6

منظوراً مشموماً تدركه الحواس كلها. . . لأنه الوجود كله. . . ثم الرصافي يزعم أن هذا هو حقيقة الإسلام، أما ما يؤمن به السذج البسطاء أمثالنا، فهو ظاهر الإسلام، أورده الرسول الكريم على سبيل التمثيل، ومن باب مخاطبة الناس على قدر عقولهم، ثم أخفى عليهم تلك الحقيقة الخائبة فلم يطلع عليها إلا أبا بكر، حتى جاء فلاسفة الإسلام الأعلام - الحلاج والجنيد وابن عربي والجيلاني والتلسماني وابن سبعين ومن لف لفهم، فوقعوا عليها وكشفوا سرها وجلوها للعالمين

فلما نفينا أن يكون هذا إسلاماً، وإسلاماً جاء به فخر الكائنات محمد بن عبد الله، وأثبتنا للأستاذ الرصافي أن اليونانيين عرفوا وحدة الوجود قبل نبينا بألف سنة أو نحوها أو أكثر منها - وإن زعم هو أننا لم نأت بجديد - تفضل بعض مفكرينا المحبوبين من غير المسلمين بالاشتراك في هذا الموضوع، على أنه موضوع عام يحل لكل إنسان أن يشارك فيه برأي. . . ولم يبالوا في سياق كلامهم أن يعلنوا على صفحات الرسالة أنهم لا يؤمنون إلا بالمادة. . . أما ما وراء الطبيعة فلا شأن لهم به. . . فرحبنا بمشاركتهم، ولما آنسنا أنهم لم يفطنوا إلى أن الموضوع يبحث من وجهة نظر إسلامية خالصة، نبهناهم إلى ذلك بأرق عبارات الذوق الذي دعا إليه الأنبياء يا صديقي الدكتور زكي. . . لكنهم كتبوا ما لمحنا في ثناياه أنهم غاضبون أو شبه غاضبين، فلم يشق علينا أن نعلن لهم أسفنا، ولم نناقش الآراء التي أعلنوها لحرصنا على أن يظل الموضوع محصوراً في أفقه الإسلامي، ولأننا كما أعلنا غير مرة، غير قوامين على حرية الفكر في مصر ولا في غيرها من بلاد الله. . . فليعتقد من يشاء ما يشاء، بشرط ألا يجعل عقيدته دعوة يدعو إليها ويجهر في كتب ينشرها بأنها هي الحق، وأن ما نؤمن به هو الباطل. . . وبشرط ألا يفتري على الله وعلى رسوله إفكاً ينزههما المسلمون عنه. . . فإن فعل ذلك، وكان من انتسابه إلى المسلمين ما نعلم، فماذا ينكر منا أفاضل العلماء الذين لا يؤمنون إلا بالمادة حين نقول لهذا القائل إنه ملحد، وإنه زنديق؟! وقد قال هو إن إلهنا هو هذا الوجود المأكول المشروب المنظور المشموم الذي تدركه الحواس كلها، وإن نبينا هو هذا الرجل الذي ألف القرآن. وزعم - غير قاصد شراً! - أن الله هو قائله وموحيه، لأنه كان أول من عرف سر وحدة الوجود؟! فإن لم نسم هذا الرجل ملحداً زنديقاً. . . فماذا يكون يا ترى؟ أيكون سيد العارفين بالله الذي نؤمن به؟

ص: 7

وهل من حرية الفكر أن يقول ذلك رجل ينتسب إلى المسلمين، فإن رد عليه رجل من المسلمين وسمي قوله هذا إلحاداً وزندقة، صاح حضرات الأفاضل العلماء الأعلام الذين لا يؤمنون إلا بالمادة، وينكرون ما وراءها: لقد خنقت حرية الفكر في مصر وفي الشرق، ثم هتفوا بالعلماء الأحرار في مصر وفي الشرق أن يُقْنُوا وأن يرعووا، وألا يصرحوا بالحق الذي يؤمنون به في هذه البيئة المؤمنة الساذجة المتزمتة، حتى لا يرموا بالإلحاد والزندقة!

هنا واحد من هذه الأشياء الظريفة التي وددت أن ألفت إليها أنظار القراء!

فهؤلاء العلماء الأعلام الذين لا يؤمنون إلا بالمادة يريدون أن يثبتوا في أذهانكم يا قراءنا العوام السذج المؤمنين أمثالنا أنهم على حق فيما يذهبون إليه بشأن هذا الوجود، وأننا على باطل. . . لأن الوجود قديم، ولم يخلقه إله قادر مستقل عنه كما يفهم بسطاء المسلمين والمسيحيين واليهود وأهل كل ملة ممن ليسوا علماء أعلاماً أمثالهم، لأنهم لم يدرسوا فلكاً ولا منطقاً ولا علم طبقات الأرض ولا فيزيقا ولا كيمياء ولا فلسفة، ولا هذا الثبت الطويل من العلوم التي أعشى في دراستها علماء المسلمين الأعلام أبصارهم، ولم تضل مع ذاك بصائرهم

بهذه الطريقة يريد هؤلاء العلماء أن يثبتوا في أذهانكم أنهم على حق، لأنهم ينطقون بلسان العلم الذي لا يضل، أما مناظروهم فينطقون بلسان هذا الحشد الحاشد من الأساطير الدينية، التي هي من أنباء الغيب، فليس لعقل رأي فيها!

أليس ذلك شيئاً ظريفاً جديراً يلفت أنظار القراء إليه؟!

ومما يلحق بهذا الشيء الظريف تصريحهم، ليوهموا القراء كذلك، أننا نظلم الحق، حينما نقحم الدين في الفلسفة. . .

وليفطن قراؤنا العوام السذج إلى المعنى المسموم الذي تحمله هذه العبارة! الحق يظلم إذا أقحم الدين في الفلسفة، لأن الفلسفة وحدها هي التي تعرف الحق وتعرف كيف تصل إليه! أما الدين فلا شأن له بالحق. . . لأن العقل لا يستطيع أن يعلله! ولماذا هذا اللف كله؟ لأن الدين يقول بأن الله هو الذي خلق العالم. . . وهذا قول لسهل هيّن ليّن. . . لم تحسن الفلسفة أن تقول مثله إلى اليوم! لكن الفلسفة مع عجزها أن تقول مثل هذا القول، تزعم أنه قول غير معقول، والمعقول عندها أن يكون العالم قديماً لا خالق له، أو أن يكون الله هو

ص: 8

هذا العالم. . . أو الوجود الكلي المطلق! وتحار الفلسفة بعد ذلك كيف يكون هذا العالم إلهاً. وكيف يكون هذا العالم بعجزه وبجره عاقلاً إن كان عاقلاً يا ترى؟! وكيف تم له هذا الإحكام البديع في كل شيء؟ في الأفلاك والسدم والضوء والحرارة والكهرباء والمغناطيس والغازات. والحياة المعقدة في الحيوان والنبات، وفي الحركة، وفي السكون. والمعقول عند الفلسفة أن يكون كل شيء خاضعاً لقوانين الجبر الصارمة، وإذا كان ذلك كذلك فما معنى أن يرسل الله - الذي هو الوجود الكلي المطلق - رسلاً ويتخذ أنبياء؟ هل تستطيع الرسل تبديل شيء أو تغييره؟ إن أمر الرسل إذن عبث في عبث. والرسل - أضل الله الفلسفة - كذابون أدعياء، أو على الأقل، رجال مخدوعون شُبّه لهم أنهم ينطقون بلسان الله، الذي هو الوجود المطلق الكلي!

هذا هو بعض الهذيان الذي تريد الفلسفة أن تدسه في روع المؤمنين من القراء البسطاء الذين يؤمنون بأن الله خلقهم، فتحاول الفلسفة إيهامهم أن العلم لا يسيغ هذا ولا يهضمه، وإن كان يسيغ الشكوك والوساوس ويهضمها!

أفليس ذلك شيئاً ظريفاً جديراً بلفت أنظار القراء إليه؟!

وشيء ظريف آخر يُستملح (!) لفت الأنظار إليه. . . ذلك أن هؤلاء العلماء الأعلام يلحون على أذهان القراء بتذكيرها دائماً أنهم علماء. فهل يقصدون من وراء ذلك شيئاً، غير أن مناظريهم في موضوع وحدة الوجود هم من الأميين الذين يُحكّمون في موضوع هام كهذا عواطفهم، ولا يحكمون عقولهم، إن كانت لهم عقول! وأن هؤلاء المناظرين قوم متدينون والتدين في هذا العصر شيء عتيق يثير الضحك ويدعو إلى السخرية. وأهل التدين في غالب أمرهم قوم شذاذ الإفهام لم يدرسوا فلسفة ولم ينشدوا علماً. فكيف يا أيها القراء النجب تنخدعون بأقوالهم وتنساقون إلى الأخذ بآرائهم؟ إن خليقاً بكم ألا تصيخوا إلى كاتب يحسب نفسه واعظاً في مسجد أو راعياً في كنيسة، ولا أقصد أن أغمز صديقي الدكتور زكي بإبراد عبارته تلك. . .

أفليس ذلك شيئاً ظريفاً من مناظرينا الأفاضل، أن يقفونا تلقاءهم ذلك الموقف المضحك الذي لن يجوز باطله على أحد!

يتحدثون عن حرية الفكر. فماذا أصابهم من ضروب التضييق يا ترى؟!

ص: 9

لينتظروا. فسنحدثهم عن حرية الفكر وما لقي إخوانهم الذين سبقوهم إلى القول بوحدة الوجود من ضروب الهوان

ما أكثر الأشياء الظريفة التي كان ينبغي أن نلفت إليها أنظار القراء لولا ضيق المقام!

(للحديث بقية)

دريني خشبة

ص: 10

‌على هامش النقد

1 -

في عالم القصة

بنت الشيطان. . . . . . محمود تيمور

للأستاذ سيد قطب

ليست هذه هي المرة الأولى التي أهم فيها بالكتابة عن (تيمور) ثم أوثر التريث، لأراجعه مرة أخرى

إنه ليصعب عليك - وأنت تتحدث عن القصة - أن تغفل عمل تيمور. ولكن يصعب عليك أيضاً أن نقررمكانه، وأنت مستريح الضمير

رجل كالمويلحي - صاحب حديث عيسى بن هشام - لا يجد الناقد مشقة في تعيين مكانه. مكان (القنطرة) التي تعبر عليها القصة العربية من المقامة اللغوية، إلى القصة الفنية

ورجل كتوفيق الحكيم، لا يجد الناقد مشقة في تعيين مكانه. مكان (الفنان)، الذي يجعل القصة والرواية، فصلاً من فصول الأدب العربي، يقف في صف واحد مع بقية فصوله، التي كانت من قبل مقررة، والتي لم يكن الأدب العربي يعترف بغيرها من الفصول. يتفق الجميع على هذا من ناحية المبدأ، ثم يختلفون في تقويم عمله بعد ذلك كما يشاءون

وقد لا يكون الإنسان - في عالم القصة - قنطرة كالمويلحي، ولا مقرراً لفصل جديد في كتاب الأدب العربي كتوفيق الحكيم؛ ثم يكون له بعد ذلك مكانه المعلوم

فالمازني مثلاً قد اشتغل بالقصة الطويلة كإبراهيم الأول وإبراهيم الثاني، وثلاثة رجال وامرأة، وعود على بدء، وبالقصة القصيرة كقصصه الكثيرة في خيوط العنكبوت، وصندوق الدنيا وسواهما. ومكانه في هذه القصص وفي سواهما هو مكان (الأديب) الذي يستفيد مما يقرأ أعظم الفائدة، ويتأثر به فيما يكتب كل التأثر. ولكنه يطبع الجميع بطابع خاص متميز

والمازني - بهذه الصفة - يمكن أن يعد قنطرة لنوع من القصة (الواقعية الشاعرية!) قنطرة لأصحاب المواهب الخالقة، يتأثرون طريقته الجيدة، ويبدعون من ذات أنفسهم بلا اعتماد على أصل يلهمهم

ص: 11

وهناك شبان يحاولون، لم يتقرر لهم بعد مكان، فبينهم وبين تقرير مذاهبهم في عالم القصة خطوات وتجارب وتعديلات

من كتاب القصة القصيرة الأستاذ (يوسف جوهر) - وهو ينسج على منوال جي دي موباسان - في حرارته وشاعريته، ولكن (جسم القصة) عنده ما يزال بعد ضئيلاً، وما يزال مكرراً، وكثيراً ما يحس القارئ بعد نهاية القصة أن حرارتها البراقة قد خدعته، وأنه لم يخرج منها بشيء كبير، لا من ناحية الموضوع، ولا من ناحية اللمسات الفنية في العرض، ولا من ناحية الرصيد الإنساني الذي هو أثمن ما في العمل الفني

ومنهم الأستاذ (صلاح ذهني) - وهو لا يزال يقبس من طرائق مختلفة، وله توفيقاته في أحيان كثيرة. ولكن ينقصه التركز، كما ينقصه روح الإبداع الذي يرفع القصة من الحادثة اليومية إلى المجال الإنساني. وقصصه في حاجة كذلك إلى الحرارة التي تشعرنا أنه يحس بما يكتب، وليس متفرجاً عابراً يصف الحوادث

ومن كتاب القصة الطويلة الأستاذ (باكثير) وقصصه - لها طلاوتها والحياة واضحة فيها - ولكن لا يزال ينقصها تمكن الروح القصصية، التي تنسي القارئ أن هذه قصة وتخيِّل له أنها قطعة من الحياة تقع الآن. وليس مرد هذا إلى نقص الحياة، ولكن إلى نقص الروح القصصية، فهو ما يفتأ بين حين وحين ينبه القارئ إلى أنه يقص عليه، ولا يدعه يستغرق في القصة وينساه!

ومنهم الأستاذ نجيب محفوظ والأستاذ عادل كامل، وكلاهما يخطو الخطوات الأولى؛ ولكنها - فيما يبدو - خطوات ثابتة وثيقة. تكفي لإثبات وجودهما في عالم القصة، وإن لم تثبت لهما بعد مذهباً مقرراً ينسج غيرهما على منواله؛ إلا أن هذا لا ينفي أنهما في الطليعة - على تفاوت بينهما - في طليعة كتاب القصة الشبان بلا جدال

وهكذا نجد لكل من يشتغل بالقصة في مصر مكانه المعلوم في هذا العالم. فأين نضع (تيمور) بين هؤلاء؟

لا هو القنطرة بين طور من أطوار القصة وطور كالمويلحي، ولا هو القنطرة بين التأثر والابتداع - مع وضوح الذاتية الشخصية والطابع المميز - كالمازني. ولا هو الناشئ الذي لم يزل أمامه المجال منفسحاً للتمكن والكمال

ص: 12

وهذا كله من ناحية الشكل. فأما من ناحية المذهب والطريقة، فالحيرة كذلك واقعة

رجل كالمويلحي قصاص واقعي بالمعنى الضيق للواقعية. وهو مع ذلك قد استطاع أن يرسم عدة شخصيات إنسانية للعصر الذي كتب فيه القصة؛ وأن يصور البيئة التي عاشت فيها هذه الشخصيات المحلية: الباشا، والعمدة، والمحامي، والنائب، والمشايخ، وغيرهم من الشخصيات التي رسمها في حديث عيسى ابن هشام. وهم آدميون لا تشك في آدميتهم، وواقعيون - بالمعنى الضيق - لا ترتاب في واقعيتهم؛ مع شيء من السخرية والدعابة، تحسبان لهذا القصاص في عالم الفنون

ورجل كتوفيق الحكيم، قد تقرر مذهبه - إلى اليوم على الأقل - فهو في التمثيلية (الفنان) الخالق الذي يبدع شخوصه من (ذهنه) ليؤدوا له فكرة فلسفية خاصة. وهم - على هذا الوضع - أشخاص صحاح منطقيون مع طبيعتهم، مستقيمون من أول التمثيلية إلى آخرها مع الفكرة التي خلقوا ليؤدوها. كما في أهل الكهف، وشهرزاد، وبيجماليون، وسليمان الحكيم. أما في القصة فهو ينحرف عن هذا المذهب إلى شيء من (الواقعية) الممزوجة بالشاعرية، حتى لتقرب من الرومانتيكية في بعض الأحيان. كما في عودة الروح، وعصفور من الشرق، ويوميات نائب في الأرياف، وزهرة العمر - وإن ظلت هذه الواقعية موسومة بميسم (الفكر) لأن هذه هي السمة الغالبة على طبيعته - ولكن قصصه ورواياته تستمد دائماً من (التنسيق الفني) والإشعاع الشاعري، ما تعوض به الحياة الحقيقية. وما يتيح لها أن تنشئ مدرسة معروفة السمات

ورجل كالمازني يمثل (الأديب) الذي يفيض على شخوص قصصه حركة حية سريعة، في حماسة شاعرية قوية، كما في إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني قصتيه الأساسيتين، أو يفيض عليها الحركة في دعابة ساخرة كما في القصص القصيرة

ومهما قيل من تأثر المازني لبعض كتاب القصة الغربيين، واقتباسه من طرائقهم وموضوعاتهم كذلك. فالذي يبقى له بعد هذا كله ليس بالقليل. إنه يتأثر ويقتبس في اتجاه واحد، وبطريقة واحدة، يبدو فيها طابع خاص، هو دليل الشخصية الفنية. . .

وقد لا يكون المازني خالقاً ولا مبتدعاً لموضوعاته وطرائقه، ولكن هذا لا ينفي أن له طابعه الشخصي في كل ما يكتبه. هذا الطابع هو الحركة السريعة، والانتباه إلى دقائق

ص: 13

الانفعالات النفسية، وإبراز الاستجابات التي يمر عليها الكثيرون غافلين. مع تأثره بكشوف علم النفس الحديث ولا سيما في مجال (التحليل النفسي) هذا التأثر الذي قد يطغي على العمل الفني في بعض الأحيان، كما في (ثلاثة رجال وامرأة)

فما مذهب تيمور تجاه هذه المذاهب أو سواها في القصة؟

يعسر عليك أن تسلكه في الواقعية الضيقة التي يمثلها عيسى ابن هشام. إذ أن فيه قسطاً من الشاعرية والتلوين الفني. ويعسر عليك أن تسلكه في (الواقعية الشاعرية!) التي يمثلها المازني، لأن الحركة في فنه وئيدة، والألوان النفسية باهتة، والشخصية الإنسانية لا تتصرف تصرف الأحياء. ويعسر عليك أن تسلكه في (الفنية الرمزية) التي يمثلها توفيق الحكيم لأن الفكرة الفلسفية والمعاني الرمزية لا تبرزان في أعماله

فتيمور لا هو الذي يرسم شخصيات محلية كالمويلحي، ولا هو الذي يصور نفوساً آدمية كالمازني، ولا هو الذي يخلق شخوصاً فنية كتوفيق الحكيم. ولا هو مع ذلك كله القصصي الناشئ الذي تستطيع أن تدعه إلى التركز والنضوج!

وقد كتب بعضهم يقول: إنه يلتفت إلى (العقل الباطن) في سيرة أبطاله وتصرفاتهم ويستخدم كشوف (التحليل النفسي) كما في قنابل وأبو شوشة والموكب

وكتب بعضهم يقول: إنه يرسم (نماذج بشرية) كما في نداء المجهول وسهاد

وهذا وذلك حق من حيث هو نية وقصد. ولكن ما أثره في العمل الفني. إن قيمة القصة لا تقوم على أساس أن القصاص ينتفع بالمباحث العلمية. فهذا قد يفسدها في بعض الأحيان. ولا على أساس أنه يحاول رسم (نماذج بشرية) فالمهم هو صدق هذه النماذج وحيويتها

وتيمور وفق في بعض الأحيان في هذا الغرض أو ذاك، ولكن هذا التوفيق لم يكن في تلك المواضع التي عينوها

فمن أظهر الالتفاتات إلى (العقل الباطن) السليمة من التكلف والاصطناع والتي لم تؤثر على التنسيق الفني للقصة، التفاتاته في:(زمان الهنا) و (وغانية الحانة) و (انقلاب) في مجموعة (فرعون الصغير). ومن أظهر النماذج البشرية: السائحة الأمريكية في قصة (فرعون الصغير) و (رجل رهيب) في هذه المجموعة أيضاً. ومن الغريب أن تكون هذه المجموعة قد صدرت سنة 1939. بينما المجموعة الأخرى: (بنت الشيطان) وقد صدرت

ص: 14

سنة 1944 تتخلف عنها كثيراً في مميزاتها الفنية

ولكن أي تحليل نفسي. وأية نماذج بشرية؟

لطالما خيل إليّ وأنا أجول بين شخوص تيمور أنني في (متحف الشمع) فتماثيل الشمع هي التي تمثل هذه الشخوص أوضح التمثيل: فلا هي التماثيل الفنية يتصرف فيها الفن كما يشاء ليؤدي فكرة فنية أو ليمثل لمحة نفسية. ولا هي الأجسام الحية التي تجري فيها دماء الحياة، فتتصرف تصرف الأحياء. إنها محاكاة للطبيعة وفيها قسط من الفن في الدقة والتلوين، ولكنها ليست بعد من الأحياء!

وكثيراً ما يعجزك وأنت تتأمل شخوص تيمور وتصرفاتهم وطريقة حديثهم أن تردهم إلى أي جنس من أجناس الآدميين في أي زمان أو مكان. وقد يسير بعضهم في مبدأ الأمر سيرة طبيعية حتى لتكاد تقول: هذا مخلوق حي. ولكن ما تلبث أن يخلف أملك بحركة تكشف لك أن ما أمامك إنما هو تمثال من الشمع، يحركه المؤلف حركة خاصة، لأن توهم - من التحليل النفسي - أن الناس يتحركون هكذا في هذا المجال

ويحاول تيمور أن يرسم نماذج بشرية من خلال شخصيات محلية - وهي محاولة لو أفلحت لأنشأت فناً إنسانياً وقومياً رفيعاً - ولكنه فيما يخيّل إليّ بعيد كل البعد عن الناس وعن البيئة. فالناس - حيث كانوا - لا يتصرفون هذه التصرفات. والناس في مصر، ليسوا كما يتوهمهم المؤلف، لا في طبيعتهم، ولا في أحاديثهم، ولا في خلجاتهم النفسية، ولا في سمة من السمات المحلية الكثيرة التي تبرز طابعهم

إنه لا يخطر لهذه الشخوص مرة واحدة أن تنفعل انفعالاً قوياً، كما يقع للآدميين - وحين تنفعل يبدو التكلف والبعد عن الحقيقة - وهي غالباً (سهتانة) كما يقول العوّام، حتى في فورات الحب ودفعات الانتقام. والحركة العنيفة ليست مطلباً فنياً في ذاته، ولكنها علامة من علامات الحياة تصدر من البنية الحية في ميعادها، فتدل على الحياة الكامنة فيها

و (بنت الشيطان) مجموعة قصص تبدأ بأسطورة تحمل هذا العنوان. وتحوي غيرها سبع قصص أخرى وتلمح في هذه الأسطورة محاولة فلسفية لإبراز فكرة خاصة، على نحو ما يصنع توفيق الحكيم. ولكن المدى متطاول. إن الحركة القومية السريعة، والبراعة الفنية اللبقة كلتاهما خاصتان من خواص العمل الفني عند توفيق، وكلتاهما تتوارى في هذه

ص: 15

المحاولة، فتظل باهتة اللون، وانية الحركة، حتى تنتهي الأقصوصة وفي نفسك منها ظلال خفيفة تنمحي بعد قليل

(بنت الشيطان) طفلة آدمية، اختطفها زعيم الشياطين، لينفذ وصية سلفه العظيم، في أن يصنع شيئاً، يثبت به أن الشيطان قادر على القيام بشيء آخر غير الشر الذي اشتهر به! فهو يحاول أن ينشئها بعيدة عن الشر والألم في قصر مسحور

ولكن أميراً شاباً مغامراً يسمع بخبرها، فيحاول وينجح في الاتصال بها واختطافها ويفتح عينيها على مباهج الحياة الدنيا ويوقظ فيها غرائزها - بعد أن كانت نائمة - فإذا ردها إلى القصر. اشتاقت أن تعود إلى دنيا الشرور الإنسانية، مؤثرة إياها مع ذلك العالم الخير الخالي من الألم والشرور

والفكرة - كما ترى - جيدة وبراقة. ولو تولاها قلم كقلم توفيق الحكيم، لأخرج منها قطعة فنية منسقة. ولو تولاها المازني لأخرج منها قطعة فكاهية ساخرة

ولكنك تقرؤها هنا فتعجبك الفكرة ثم تنقصك الحرارة كما ينقصك التنسيق الذي يقرر الحركة المناسبة في موعدها المناسب، وهناك مواقف بين الشاب والفتاة تتوقع فيها حركة ويرتفع نبضك في انتظارها، ولكنها تمر كما لو كانت في سنة أو لو كنت متفرجاً بغير حماس!

وفي المجموعة سبع قصص أخرى من النوع (الواقعي) خير ما فيها قصة (الترام رقم 2)، وقصة:(الجنتلمان)(وفي الأولى يصور فتاة مشردة تركب الترام بلا أجر؛ فيضيق بها (التذكري) مرة بعد مرة، حتى يزيد ضيقه بها فيدفعها فتسقط، ويكاد يقتلها الترام لولا من يأخذ بيدها في الطريق. وهنا يسمع منها التذكري أنها لم تذق الطعام منذ أمس، بينما ينطلق الترام

منذ ذلك الحين يدب في نفسه عطف على الفتاة، ولكنا نتبين بعد قليل أن هذا العطف ليس خالصاً. لقد تنبهت الغريزة إن هذا التذكري يعيش أعزب منذ أن ماتت زوجه، وتقوم بشئونه خادمة عجوز. فهو منذ اليوم ضيق الصدر بهذه الحياة، وهو مشتاق لأن يعثر على الفتاة. وحين يعثر عليها بعد أيام لا يدفعها من الترام، بل يدس في يدها تذكرة عند صعود المفتش، وحين يقف الترام يشتري لها رغيفاً محشواً بالأدم، ويسألها عن حياتها أسئلة

ص: 16

متقطعة

حتى إذا كان الشوط الأخير نزل يقصد داره، وقدمان تتبعانه. . . إلى الدار! لقد أحست الأنثى بغريزتها ما الذي يعطفه عليها، فسارت على خطاه!

وفي الثانية يرى في مطعم اعتاد أن يرتاده. دمية تمثل (الجنتلمان) يمسك بيده قائمة الطعام، فيتخيل هذا الجنتلمان حياً، ويقابله بالتضايق منه والتبرم به، لما في وقفته من تكلف وما في (نفسه!) من تصنع، فيهجر المطعم من أجله. وأخيراً يفلس المطعم ويباع ليهودي في شارع (جامع البنات) ويمر به، فيراه هناك ذليلاً ممسكا بيده عينة البطاقات. فيستريح لذلة الجنتلمان. ثم يزداد تدهوره، حتى يعثر به في شارع الموسكي غارقاً تحت حمل من الملابس القديمة، فيهز يده فينهار!

وهكذا تجد في القصة الأولى ظلالاً إنسانية، وتحليلاً نفسياً، وفي الثانية انفعالات نفسية وسخرية لطيفة. وكلتاهما تنبع من قلب إنسان، ولكنه إنسان يؤثر اللطف والرقة على الانفعال والحيوية: ضحكته ابتسامة باهتة. وغضبته سحابة طارئة. ووثبته خطوة دانية. وإشارته إيماءة خفيفة. ولكنه إنسان

هذه الظلال الإنسانية التي تبدو في بعض القصص، مع شيء من الشاعرية اللطيفة، وهي وحدها التي تجعل الناقد لا يستطيع أن يغفل فن تيمور وهو يتحدث عن القصة، مهما كان في هذا الفن من فتور

أيها القارئ. لقد حيرتك فيما أحسب بهذه الحكام المتناقضة!

إنها صورة من نفسي تجاه فن تيمور.

سيد قطب

ص: 17

‌على هامش ذكر المعري

(داعي الدعاة) مناظر المعري

للدكتور محمد كامل حسين

- 6 -

رأينا المؤيد عالماً من أكبر علماء عصره، ومؤلفاً يبث آراءه وتعاليمه في بطون الكتب، ومجادلا له خطره يخشاه مناظروه ويرهبه أكبر مفكري عصره وهو أبو العلاء المعري. والآن نتحدث عن أثر المؤيد فيمن جاء بعده بعد أن عرفنا مقدار تأثيره في معاصريه، فقد كان للمؤيد تلاميذ استمعوا إليه وأخذوا عنه، منهم الشاعر الفارس المشهور (ناصري خسرو) الذي وفد إلى مصر بدعوة من المؤيد، ووصف مصر في كتابه المشهور (سفر نامه). فقد تحدث هذا الشاعر عن المؤيد ومجالسه في كثير من قصائده. فمن ذلك ما ترجمته:

(إن الله قد فتح عليك باب الحكمة بما تفتح عنه خاطر الأستاذ المؤيد

كل من يراه يوم مجلسه يرى عقلاً مفكراً

أن الأستاذ جعل يعطي يوماً مشرقاً ببراهين منيرة كالشمس

إني نظرت من زاوية عقله فرأيت الفلك دائراً تحتي

فقد أطلعني على العالمين (الظاهر والباطن)

وجعلهما حاضرين وفي مكان واحد من وجودي.

إني رأيت في مكان واحد مالكا ورضوان، واستقر في صدري الفردوس والنيران

وقال لي إنني تلميذه، وأشار عندئذ إلى رضوان)

إلى غير ذلك من أشعار ناصري خسرو الفارسية التي تحدث فيها عن أستاذه المؤيد والتي يطول بنا الحديث لو تتبعنا أثرها.

من ناحية أخرى يعد المؤيد أستاذ الدعوة الفاطمية في اليمن مع أنه لم يرحل إلى هذه البلاد، بل نقل تلاميذه إلى هذه البلاد آراءه وتعاليمه، وأثبت علماء اليمن هذه الآراء والتعاليم فيما تركوه لنا من كتب، بل أستطيع أن أقول إن علماء الدعوة في اليمن هم أكثر

ص: 18

الناس حديثاً عن المؤيد، واقتباساً من كلامه واستناداً لحججه، وأشدهم اعتقاداً بأن الحق ما قاله المؤيد دون غيره من الدعاة، ويكفي أن نستدل على ذلك بقول إبراهيم بن الحسين الحامدي المتوفى سنة 557هـ في كتابه كنز الولد: وسيدنا المؤيد أقرب الحدود إلينا، وهو لا يأتي إلا بصحيح ما جاء به الحدود وإلغاء ما كان به شبهة أو فساد، لأن الآخر ينسخ ما جاء به الأول بإيضاح الرموز؛ والمؤيد حجة رابع الأشهاد ذو القوة في العلم والتأييد والحكمة والتسديد المنصوص عليه باسم الحججية، كما قال مولاه المستنصر عنه:

يا حجة مشهورة في الورى

وطود علم أعجز المرتقى

شيعتنا قد عدموا رشدهم

في الغرب يا صاح وفي المشرق

فانشر لهم ما شئت من علمنا

وكن لهم كالوالد المشفق

إن كنت في دعوتنا آخرا

فقد تجاوزت مدى السبق

مثلك لا يوجد فيمن مضى

من سائر الناس ولا من بقى

فهذه شهادة من لا ترد شهادته، وأمر من لا يرد أمره، وتفويضه له في نشر ما أحب أن ينشره من العلم بلا حصر ولا قصر، لعلمه بما عنده من الحق)

أما الذي نقل آراء المؤيد إلى اليمن فهو تلميذه لمك بن مالك قاضي قضاة اليمن في عهد الصليحي. ولم أجد في الكتب التي تتحدث عن اليمن شيئاً عن لمك هذا، ولكن الحسن بن توح الهندي صاحب كتاب الأزهار ذكر لنا قصة طويلة، ونلخصها في أن الصليحي صاحب اليمن أرسل قاضي قضاته (لمك بن مالك) على رأس وفد إلى مصر للسماح للصليحي في النهوض إلى العراق لامتلاكها باسم الفاطميين. فلما جاء الوفد إلى مصر نزل لمك في دار المؤيد مدة خمس سنوات وانتهز هذه الفرصة؛ فأخذ عن المؤيد أسرار الدعوة الفاطمية، وكان يدون كل ما يسمعه عن المؤيد إلى أن استوعب كل ما عند المؤيد من علم، وكان المستنصر الفاطمي قد حجز وفد اليمن لأسباب لا نعلمها، ولم يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم إلا بعد أن قتل الصليحي، فعاد لمك إلى اليمن وهناك بخل بعلمه، ولم يسمح إلا بالشيء القليل منه للداعي المكرم بن الصليحي وللملكة الحرة أروى وأحمد بن قاسم وغيرهم من الدعاة، بينما خص لمك ابنه يحيى بن لمك بجميع أسرار الدعوة وكل ما عنده من العلم والحكمة وسلمه كل ما دونه عن المؤيد؛ فهيأ بذلك ابنه يحيى ليكون حجة اليمن

ص: 19

في عهد الخليفة الآمر الفاطمي، وأصبح يحيى أكبر عالم في اليمن يحج إليه أتباع المذهب الفاطمي للأخذ من علومه التي رواها عن أبيه عن المؤيد

وذكر صاحب كتاب الأزهار جماعة من تلاميذ يحيى منهم الداعي الخطاب بن حسن الشاعر المتوفى سنة 533هـ وذؤيب بن موسى المتوفى سنة 547هـ وغيرهما، وهؤلاء الدعاة انتشروا في اليمن يبشرون بما سمعوا عن يحيى بن لمك وأصبح لهم تلاميذ. فذؤيب مثلاً أستاذ الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي، وهذا أستاذ حاتم بن إبراهيم، وهذا أستاذ علي بن حاتم، وهذا أستاذ علي بن محمد بن الوليد. وهكذا نستطيع بسهولة ويسر أن نتتبع علماء الدعوة في اليمن وأن نلمس في هذه المدرسة روح المؤيد وتعاليم المؤيد أخذها دعاة اليمن أحدهم من الآخر. ولو تصفحنا كتب الدعوة في اليمن التي وضعت في القرنين السادس والسابع من الهجرة لا نكاد نجد كتاباً منها يخلو من استشهاد بأقوال المؤيد أو بأشعاره، فصاحب (كنز الولد) ذكر المؤيد في أكثر من ستين موضعاً، واقتبس من المجالس المؤيدية ومناجاته وأشعاره. وصاحب كتاب الأنوار اللطيفة ذكر المؤيد أكثر من أربعين مرة، ونقل صاحب كتاب الأزهار فصولاً بأكملها عن المجالس المؤيدية منها رسائل المؤيد إلى أبي العلاء المعري وهكذا، وكان هؤلاء العلماء يشيرون إلى المؤيد بقولهم:(سيدنا المؤيد) أو (سيدنا) فقط إمعاناً في تعظيمه وتبجيله. وإذن فقد كان المؤيد عظيم الأثر في الدعوة الفاطمية بل لا تزال كتبه إلى الآن من أمهات الكتب التي لا يقربها إلا من بلغ مرتبة عالية من مراتب الدعوة في الهند واليمن (أي بين طائفة البهرة)

هناك ناحية أخرى تتجلى فيها عبقرية المؤيد، تلك هي ناحية الفن الأدبي عند المؤيد، فقد كان المؤيد رجلاً صاحب فن كما كان علماً من أعلام المذهب الفاطمي، وكانت صفته المذهبية تضطره إلى أن يحيط بكل شيء حوله، وإلى أن يلم بالآراء المذهبية وبالتيارات الفلسفية التي ملأت الأقطار الإسلامية في ذلك العصر، فأخذ المؤيد بحظ وافر من نواحي الحياة العقلية المختلفة واضطر إلى أن يجادل مخالفي مذهبه طوراً بالمكاتبة وطوراً بالمناظرة الشفوية فكان ذلك من أقوى الأسباب التي أدت إلى أن يكون المؤيد حريصاً أشد الحرص في أسلوبه وفي لفظه وأن يكون ناقداً مدققاً يفكر ويطيل التفكير وينقد كل لفظ قبل أن يذيعه في الناس فظهر أسلوبه الأدبي أسلوباً رائعاً يبهر السامعين، جمع بين قوة أسلوب

ص: 20

العلماء المفكرين، وروعة أسلوب الكتاب الإنشائيين حتى كأني به قد أتخذ أسلوبه سلاحاً ليفحم به خصومه وليجذب به سامعيه. والمؤيد في الوقت نفسه كان أستاذاً من أساتذة (التأويل) وأساس التأويل يعتمد على قوة الملاحظة وخصوبة الخيال، وعلى قدرة خاصة على التغلغل في الموجودات ليتخذها المؤول دليلاً على أسرار الدين فكان لهذه الناحية أثرها في فن المؤيد إذا اتجهت به في شعره اتجاهاً خاصاً لا نكاد نجده عند أي شاعر آخر من شعراء العربية إلا عند أبي العلاء المعري، فأبو العلاء والمؤيد هما الشاعران اللذان استطاعا أن يصفا في شعرهما اختلاف العقائد الدينية، وأن يتحدثا عن الآراء الفلسفية وعن الحياة والموت وعن دقائق الكائنات العلوية والسفلية

انظر إلى المؤيد مثلاً وهو يتحدث في إحدى أراجيزه عن خلاف الناس في موضوع (الرؤية):

ونقضوا قواعد الشريعة

كل له مقالة شنيعه

من مثبت لرؤية الرحمن

مستشهد بآية القرآن

ومنكر قد جاء ينفي تلكا

ودونها الشرك يرى والكفرا

وقال في نفس الموضوع في أرجوزة أخرى:

فقائل قال تراه العين

وهو لعمري وصمة وشين

من أجل أن رؤية الأبصار

مختصة بالحسم ذي الأقطار

وقائل قد قال لما دققا

جداً وفي أفكاره تعمقا

ما ذاك إلا قول ذي تضليل

نراه لكن رؤية العقول

أمعن حتى ما أتى بشيء

ولم يبق رشداً من غي

فالعقل للمرء أداة كالبصر

ذا باطن فيه وهذا قد ظهر

فإن جعلت نحوه سبيلاً

للعقل لم تجاوز التمثيلا

كلاهما يدرك بالمجانسة

مقالة صحت بلا ممارسه

وليس من جنس العقول الله

يا قوم كي تدركه حاشاه

كما تعالى أن يكون كالصور

مجسماً كيما يلاقيه البصر

فالفرقتان اجتمعا مشبهه

خباطتا عشواء جهل وعمه

ص: 21

ما جاوزت حد صفات البشر

ونعت أرواحهم والصور

ذلك تشبيه فما التوحيد

وذاك تجسيد فما التجريد

فهو هنا يتحدث عن موضوع خاض الناس فيه، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً بسببه، حتى لا نجد كتاباً من كتب الفرق إلا وبه فصل عنه، فلم يترك المؤيد هذه الفرصة دون أن يدلي بدلوه مع غيره من العلماء، بل هو هنا يجادلهم بالنظم، كما جادلهم بالنثر، جادل المعتزلة الذين يرون أن الله سبحانه وتعالى يرى رؤية عقلية ويجادل المشبهة الذين قالوا إننا نرى الله رؤية العين، ولكن المؤيد يرفض الرأيين ولا يقبلهما، كما يدلنا نظمه هذا على عقيدة الفاطميين في هذا الموضوع. وإذن فنحن نستطيع أن نأخذ ديوان المؤيد مرجعاً هاماً لدراسة عقائد المذهب الفاطمي. فقد بث المؤيد شيئاً كثيراً جداً من العقائد الفاطمية في أراجيزه وشعره مدح بها خلفاء مذهبه.

(يتبع)

دكتور

محمد كامل حسين

مدرس بكلية الآداب بالقاهرة

ص: 22

‌القضايا الكبرى في الإسلام

قذف عائشة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 8 -

سأتناول بحث حديث الإفك المشهور من ناحيته القضائية، وسأعني في ذلك بتحقيق أمور فيه لم يتناولها الذين بحثوه من ناحيته التاريخية ليكون بحثاً قضائياً ينسجم والبحوث القضائية التي تدخل في موضوعنا، ويتفق في ذلك مسلكه ومسلكها، ويندرج به في مسائل القضاء لا في مسائل التاريخ

وكان حديث الإفك في السنة الخامسة من الهجرة، وقد جرى بعد انتهاء النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المُصْطَلَق، فلما دنوا من المدينة قافلين من تلك الغزوة أُذِّنَ ليلة بالرحيل، فقامت عائشة رضي الله عنها لقضاء حاجتها حنى جاوزت الجيش، فلما قضت شأنها أقبلت إلى رحلها، فلمست صدرها فإذا عِقْدٌ لها من جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطع، فرجعت تلتمسه في المحل الذي قضت فيه حاجتها، وقد حبسها التماسه حتى أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لها، فاحتملوا هودجها على بعيرها وهم يحسبون أنها فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لقلة أكلهن، لأن السِّمَنَ وكثرة اللحم تنشأ غالباً عن كثرة الأكل

وقد رجعت عائشة بعد أن وجدت عقدها إلى محل الجيش فوجدتهم قد ارتحلوا، فجلست في مكانها الذي كانت فيه، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون إليها، فبينما هي جالسة في مكانها غلبتها عينها فنامت، وكان صفوان بن المُعَطَّل رضي الله عنه من عادته أن يسير وراء الجيش، يفتقد ضائعه، ويرد ما يجده من ذلك إلى صاحبه، وقيل إنه كان ثقيل النوم لا يستيقظ حتى يرتجل الناس، فلما وصل إلى عائشة عرفها لأنه كان رآها قبل الحجاب، فاسترجع أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فاستيقظت عائشة باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها، فأناخ راحلته وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة، ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش وهو نازل للراحلة.

وكان عبد الله بن أُبيِّ بن سَلولٍ رئيس المنافقين نازلا مع جماعته مبتعدين عن الناس، فلما

ص: 23

مرت عليه عائشة وصفوان قال: من هذه؟ قالوا: عائشة وصفوان. فقال: فجر بها ورب الكعبة. وفي رواية: ما برئت منه وما بريء منها. وصار يقول: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت. ثم أشاع ذلك في المدينة بعد دخولهم لها، وقيل إنه كان يُتَحَدَّثُ به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه، أي يستخرجه بالبحث عنه، ولكن الذي ثبت عليه الاشتراك في هذا الإفك أربعة: عبد الله بن أُبَيٍ، ومسْطَحُ بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين وعبيد الله بن جحش أخوها. وبعضهم زاد خامساً هو زيد بن رفاعة. وبعضهم زاد سادساً هو حسان بن ثابت

ولا شك أن هذا لا يعد قذفاً في حق عائشة رضي الله عنها، لأن دعوى الزنا تقرر أمرها قبل حديث الإفك بآية النساء:(واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا امسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً)؛ فلا يثبت الزنا بعد هذه الآية إلا بأربعة من الشهود، ولا يجوز لشخص أن يرمي أحداً بالزنا فيما دون ذلك ولو عاينه معاينة، فكيف بأمر عائشة وقد جرى على أسلوب لا يدل على شيء من الريبة، لأن الذي يقع في الريبة يحاول إخفاؤها، ولا يفعل ما فعل صفوان من الإتيان بعائشة على راحلته، وكان الذي يجب أن يقع لو كان هناك ريبة أن يأتي وحده ويتركها إلى أن يبعثوا في طلبها، أو يقيم قريباً منها إذا خاف أن يتركها وحدها، بحيث لا يراها ولا تراه، ولا يراه أحد من الناس، حتى إذا عثروا عليها سار على عادته في طريق الجيش، وقطع على الناس طريق الكلام في أمرهما

وإذا لم يكن حد القذف قد نزل إلى ذاك الوقت، فإن ما حصل من عبد الله بن أُبَيِّ وإخوانه يستحق التعزير الشديد، لأنه قذف قبيح في حق سيدة شريفة لها منزلتها كزوجة نبي، وكابنة أكبر أصحابه وآثرهم عنده، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم تتوجه نفسه إلى إقامة التعزير عليهم في ذلك القذف، لأنه كان كثيراً ما يغضي عما يحصل من أولئك المنافقين، ويؤثر في ذلك المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، لأن عبد الله ابن أبي كان من رؤساء الخَزْرَج، وكان الإسلام لا يزال غضاً طرياً لم يقتلع من النفوس كل آثار العصبية، وهذا إلى أن من الحكمة في مثل ذلك الإفك أن يقضى عليه بالإغضاء، وأن يترك أصحابه حتى يملوه من أنفسهم ويروا أنه لا قيمة لكلامهم

ص: 24

فلم يهتم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمعرفة أثر ذلك الإفك في نفوس أصحابه، وقد أخذ يستشيرهم في أمره، فقال له عمر رضي الله عنه: من زوجها لك يا رسول الله؟ قال: الله تعالى. فقال عمر: أفتظن أن الله دلّس عليك فيها، سبحانك هذا بهتان عظيم. ثم دعا النبي صلى الله عليه علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد ليستأمرهما في فراقها، فأما أسامة فقال: أهْلَكَ يا رسول الله، ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإنك لتقدر أن تستخلف. وفي رواية أنه قال: قد أحل الله لك فطلقها وأنكح غيرها، وإن تسأل الجارية تصدقك، يعني بُرَيرَةَ رضي الله عنها، لأنها كانت تخدم عائشة وتعرف من أمرها ما لا يعرفه غيرها. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها: أيْ بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً أغمِصُهُ أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم زوجه زينب بنت جحش. فقالت: يا رسول الله، حاشا سمعي وبصري، ما عملت إلا خيراً، والله ما أكلمها وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول

إلا الحق

فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من استشاره كبار أصحابه قام في الناس وخطبهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي

فقام سعد بن معاذ سيد الأوْس وقيل أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك

فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج وقد احتملته الحَمِيَّةُ فقال: كذبت لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. وثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يُخَفَّضُهمْ حتى سكتوا، ولم يفعل شيئاً مع ذلك الرجل الذي آذاه في أهله، درءاً لتلك الفتنة، وإيثاراً للصلح بين الحيين اللذين قام على عاتقهما الإسلام

كل هذا وعائشة لا تعلم شيئاً مما يقال في حقها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن

ص: 25

يؤذيها به، فكل شيء يهون إلا الشرف، وكل شيء يحتمل إلا ما يخدش العِرْض، وكانت قد مرضت عقب وصلها إلى المدينة، فلم يشأ أن يزيدها آلاماً على آلام المرض، ولكنه كان في نفسه شيء من تصرفها الذي مَكَّنَ ذلك الرجل من ذلك الإفك، وكان عليها عند خروجها لالتماس عقدها أن تترك خبراً بذلك في الجيش، حتى ينتظر رجوعها ولا يسير ويتركها وحدها، فرابها من النبي صلى الله عليه وسلم أنها لم تر منه اللطف الذي كانت تراه منه حين تمرض، وإنما كان يدخل عليها وعندها أمها تُمرِّضها فيسلم ثم يقول: كيف تيكم. لا يزيد على ذلك شيئاً، ثم ينصرف ولا يمكث عندها

ولم يزل هذا حاله معها إلى أن خرجت بعد ما نقهت، فخرجت معها أم مسطح بن أثاثة، وهي بنت خالة أبي بكر، وكان أبنها مسطح يتيماً في حجر أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه لأنه كان فقيراً، وقد سارتا حتى وصلتا إلى المنْصَعِ، وهو محل متسع كانت النساء يخرجن بالليل للتبرز فيه، فلما فرغتا من شأنهما وأقبلتا عثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً! قالت: يا هَنْتَاهُ أو لم تسمعي ما قال؟ قالت: وما قال؟ فأخبرتها بقول أهل الإفك

فخرت عائشة مغشياً عليها حين أخبرتها بذلك، وازدادت مرضاً على مرضها، وأخذتها حُمَّى نافضة، ثم رجعت إلى بيتها ومكثت ليلتها حتى أصبحت، لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم، ثم أصبحت تبكي، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقالت له: أتأذن لي أن آتي بيت أبَوَيَّ. وهي تريد بهذا أن تتثبت من ذلك الخبر، فأذن لها في ذلك وأرسل معها غلاماً من الغلمان، وكان قد مضى إذ ذاك بضع وعشرون ليلة على قول أهل الإفك، فقالت لأمها: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به، لا تذكرين لي من ذلك شيئا! فقالت لها أمها: هَوَّني عليك الشأن، فوالله لَقَلّما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كّثَّرْنَ وكَثَّرَ الناس عليها. فقالت عائشة: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا، وعلم به أبي، وعلم به رسول الله. قالت: نعم. فاستعبرت وبكت ومكثت ليلتان لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم، وكانت تبكي وأبواها يبكيان، وأهل الدار يبكون، وبينما هم على ذلك دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم ثم جلس، ولم يكن قد جلس عندها منذ قيل ما قيل، وقد لبث على ذلك شهراً لا يوحي إليه في شأنها

ص: 26

وهنا يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم تشهد حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه. قال بعضهم: دعاها إلى الاعتراف ولم يأمرها بالستر، مع أنه المطلوب ممن أتى ذنباً لم يُطلع عليه

فقالت عائشة لأبويها: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالا: والله لا ندري بماذا نجيبه. فقالت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم، فلئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم إلا قول أبي يوسف عليهما السلام إذ يقول: فصبر جميل والله المستعان. ثم تحولت فاضطجعت على فراشها

ولا شك أن هذا الذي يذكرونه لا يتفق وما سبق من النبي صلى الله عليه وسلم حين جمع الناس فخطبهم، وذكر أنه لا يعلم على أهله إلا خيراً، وأن أهل الإفك ذكروا رجلاً لا يعلم عليه إلا خيراً، فكيف يعود بعد هذا إلى الشك في براءة أهله من ذلك الإفك، وقد استشار كبار أصحابه فبرأوا عائشة منه، وذكروا أنه إثم وبهتان عظيم

ولما بلغ الأمر أشده، ولم يعد من السهل أن تعود عائشة إلى بيتها على هذا الحال، نزل الوحي ببراءتها في الآيات الأولى من سورة النور، ونزل فيها حكم القذف:(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك فإن الله غفور رحيم).

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس وخطبهم وتلا عليهم تلك الآيات، وأمر بجلد أصحاب الإفك، وقد اتفقوا على جلد ثلاثة منهم، وهو مسطح وحمنة بنت جحش وأخوها عبيد الله، واختلفوا في جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت، فقيل إن عبد الله جلد أيضاً، وقيل إنه لم يجلد، لأن الحد كفارة وليس من أهلها لنفاقه، أو لأنه لم تقم عليه البينة بذلك، أو لأنه كان لا يأتي بذلك على أنه من عنده، بل على لسان غيره

وأما حسان فقيل إنه كان من أهل الإفك وإنه جلد فيه، وقيل إنه لم يكن منهم ولم يجلد مثلهم، ومما يدل على أنه لم يكن من أهل الإفك تبرؤه مما نسب إليه في أبيات مدح بها

ص: 27

عائشة رضي الله عنها، ومنها قوله:

مهذبة قد طَيَّبَ الله خيِمها

وطّهَّرَها من كل سوء وباطل

فإن كنتُ قد قلتُ الذي قد زعمتمُ

فلا رفعت سوطي إليَّ أناملي

وكيف وودي ما حييتُ ونصرتي

لآل رسول الله زين المحافلِ

وقد ذكر الزبير بن بكار أنه قيل لعائشة رضي الله عنها وقد قالت في حق حسان رضي الله عنه إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه بلسانه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس هو ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قالت: لم يقل شيئاً، ولكنه القائل:

فإن كان ما قد قيل عَنَّي قلتُهُ

فلا رفعتْ سوطي إليَّ أناملي

عبد المتعال الصعيدي

ص: 28

‌في الأدب الأندلسي الشعبي

ابن قزمان

للأستاذ أحمد مدينة

العربية واللاتينية، هما اللغتان اللتان كانتا سائدتين في إسبانيا الإسلامية، وعنهما تفرعت لغتان عاميتان: اللاتينية الدارجة (الرومنسية أو العجمية) لغة الصبيان والأحداث، وأرباب الصناعات والزوجات الإسبانوليات، والعربية الدارجة، متأثرة بالعجمية والبربرية:

داب نعشق لأليمه نجيمه

من يحبك ويموت فيك

إن قتلت عاد يكون بيك

لو قدر قلبي يخليك

لم يدبّر ذا النُّغيمة

يا مطرنَنِ شِلِباطُ (يا مذهول)

تُن حزين تنِ بناطُ (إنك مكروب)

ترى اليوم وَشْطاطُ (ضائعاً)

لم تذقي فيه غير لقيمة

بهذه اللغة نظم ابن قزمان - أبو نؤاس الأندلسي - أزجاله، فطار صيتها إلى مشارق الأرض ومغاربها، وتأثر بها الشعراء الأوربيون في تأليف الأغاني الشعبية لا سيما شعراء (التروبادور) وعلى رأسهم (الكونت ده بواتيي) البروفنسالي

نشأ الشاعر في قرطبة وتوفي أوائل النصف الثاني من القرن السادس بعد أن تجاوز الثمانين سنة قضاها متنقلاً، بين إشبيلية وجيَّان وبلنسيه

كان طويل القامة أشقر الشعر، أزرق العينين، تزوج، ثم هجر زوجه لما لقيه فيها - وفي بنات جنسها - من المكر والخديعة:

أنا تايب يا لس نقول بزواج

ولا بجلوَ ولا عروس بتاج

لا رياسة غير اللعب بالزجاج

ص: 29

والمبيت برَّ والطعام والشراب

النسا، كما علمك، الهروب منهم غنيمة

لس نرى لوحدَ منهم ما بقيت في الدنيا قيمة

وسوى تكن فعيني الجديدَ والقديمة

والبعيدَ والقريبَ والسمينة والدقيقة

عاصر من القواد يوسف بن تاشفين وابنه علي وحفيده تاشفين، ومن الأدباء ابن بسام صاحب (الذخيرة) ومن الفلاسفة ابن باجه وابن رشد

في أزجال ابن قزمان يتقلص ظل التأثير الشرقي في الأدب الأندلسي، فلا أطلال، ولا دمن ولا صحراء ولا جمال نجد لها ذكراً في ديوانه، بل هو نفسه يستنكر احتذاء الأقدمين ويمعن في تعرية أزجاله من الإعراب، موجهاً لومه لأستاذه أخطل ابن غارة لالتزامه له:

(ولما اتسع في طريق الزجل باعي، وانقادت لغريبه طباعي وصارت الأئمة فيه حولي وأتباعي، وحصلت منه على مقدار لم يحصله معي زجال، وقويت فيه قوة نقلتها الرجال عن الرجال. وصفيته عن العقد التي تشينه، ومهلته، حتى لان ملمسه، ورق خشينه، وعربته من الإعراب. . . وجعلته قريباً بعيداً، وبلدياً غريباً. ولقد كنت أرى الناس يلهجون بالمتقدمين ويعظمون أولئك المتقدمين يجعلونهم في السّماك الأعزل ويرون لهم المرتبة العليا والمقدار الأجزل، وهم لا يعرفون الطريق، ويذرون القبلة ويمشون في التغريب والتشريق، يأتون بمعان باردة وأغراض شاردة، وألفاظ شياطينها غمز ماردة، والإعراب وهو أقبح ما يكون في الزجل، وأثقل من إقبال الأجل. ولم أر أسلس طبعاً وأخصب رَبْعاً - ومن حجوا إليه طافوا به سبعاً - أحق برياسة في ذلك والإمارة، من الشيخ أخطل بن غارة. فإنه نهج الطريق، وطرق، فأحسن التطريق. ولو لم يكن له رحمة الله من قوة التخيل وصحة المعارضة إلا. . . كقوله: أنا من أهل البادية، ومعي دارا خالية، ملأ بدم الدالية. . . وليس اللحن في الكلام المعرب القصيد أو الموضح بأقبح من الإعراب في الزجل. ولو عاش ابن غارة، وأحضرنا وإياه سلطان وضمّنا قصر، حتى يسمع الغرائب والأسمار لحار، ولعلم أن لنا قصب السبق ولواء الغلب

سمى ديوانه (إصابة الأغراض في ذكر الأعراض) وفيه يصف أعياد المسلمين

ص: 30

والمسيحين، ويفرط في ذكر محاسن الغلمان، وامتدح السكارى والمخمورين، ومجالس الشراب، ولا يخفى تبرمه بالصوم:

تركيب الإنسان مذ كان لطيف

وبالصيام قد صرت نحيل ضعيف

رقيق أنا يابس. أصفر نحيف

يحملني البرطال (العصفور) في شان شاله

ولا سخريته بالفقهاء:

اسمع اش قلَّي الفقي: توب، إن ذا فضول أحمق!

كيف نتوب والروض ضاحك والنسيم كالمسك يعبق!؟

فطعن من أجل ذلك في دينه، وكاد يقتل لولا أن لطف به أحد القضاة من أصحابه

وهو إذ ينظم الزجل، لا يعبر فيه دائماً عن إحساسه الشخصي، وإنما يؤلف الكلام لينشده المغني على لسان ملك، أو تاجر أو عبد مسترق أو امرأة. وقد يكون المغني والمستمعون كلاهما من المتسولين والمشعوذين والمحتالين، بل مما لا غنى عنه أن يتألف منهم (الكورس) لترديد (المركز) كلما كف المنشد عن الغناء، وقلما تحتجب - في مثل هذه المحافل الشعبية - العيدان والمزامير والطبول والمصافق وغيرها من آلات الطرب، مع الاستعانة بالرقص في بعض الأحيان.

الديوان

يرجح أن الذي عثر عليه في العراق هو (روسو) قنصل فرنسا في بغداد، ثم بيع للإسكندر الأول قيصر روسيا سنة 1825 فضم إلى المخطوطات الشرقية في المتحف الأسيوي بسان بترسبورج (لنينجراد) وبقي منسياً فيه إلى سنة 1881 حين كتب عنه (البارون ده روزن)، ثم نشره (البارون ده جونزبرج) بالتصوير الشمسي سنة 1896، وضمنه وعدا بإيراد سيرة الشاعر، وترجمة أزجاله ومقارنة لغتها بلهجات الأندلس وشمالي أفريقية، خلال القرن السادس، ولكن الموت أدركه سنة 1910، دون أن يفي بما وعد. ثم جاء بعده المستعرب الإسباني (ريبرا)، فألقى محاضرة عنه طبعت سنة 1912 وفي عام 1933 طبعه (نيكل) في مجلة الأندلس بحروف لاتينية إلى المقدمة، فإنها بالرسم العربي، وعني بذكره بعد ذلك

ص: 31

الأستاذ بلينسيا في كتابه (تاريخ الأدب العربي في أسبانيا) المطبوع سنة 1928

وأخيراً يردد في الدوائر الأدبية أن المسيو لاوي بروفنسال شرع في التأهب لنشره

والديوان المطبوع بالتصوير الشمسي منسوخ بخط شرقي (استكتبه لنفسه الأديب محمد بن أبي بكر القطان بصفد المحروسة استحساناً له وغواية فيه)

أحمد مدينة

ليسانسيه في الآداب من جامعة فاروق الأول

ص: 32

‌بعد عامين.

. .

لصاحب العزة عزيز أباظة بك

(كتب لي أديب جليل الخطر من أدباء الأقطار الشقيقة يقول:

(إنها حية في قلبك لا شك في ذلك. فالرأي عندي أن تبذل لها

غزلك، وتحبس عنها رثاءك))

يا زين عهدُك بي - جُعلت فِداك -

نفسٌ مُندَّبةٌ وطرفٌ باكِ

وجوانح تُطوى على مُستضعف

حيران ذاق اليُتمَ يوم نواكِ

يا زين والدنيا قرارةُ شِقوةٍ

أُترلك مُلِّئتِ النعيمَ هُناكِ

إن كانت استعْدت عليك خطوبها

فلقد بلغتِ من الحياة مُناكِ

خلَّفتِ نفح الورد في أرجائها

ومضيتِ: أكرمُ سيرة ذكراك

وذهبتِ ضاحكةَ النضارة والصِّبا

كالروض سامَرَه الربيعُ البَاكي

عبست لكِ الأيامُ حتى لم تجدْ

هدفاً لعاصف كيدِها إلاّكِ

ألوتْ بأختك بعد أن فَرَست أخاً

فمضت. وأعجلَ بعدها أخواكِ

ثُقلت رزيئتُهم علىَّ وإنما

قد كان أفدح ما حملت أساكِ

يا هجعةَ العين الطويل سهادُها

كم صدَّعت عني الكرى عيناك

يا قبلة الطلِّ الرفيق سرت على

خدِّ الشقيق فرفَّ واستحياك

يا همسةَ الشاكي - وخير سِفارة -

بين الهوى والهجرِ همسةُ شاكي

قلبي وعقلي - قد علمت - كلاهما

خبرَاك فاصطفياك واعتلقاكِ

لم يحل من حضر البلاد وريفها

للنفس. إلا حيثما تلقاكِ

ويروق في عينيّ ما استحسنتهِ

ويهون ما يَزْوَرُّ عنه رضاك

ويهون ضاحي العمر إلا ليلةً

جادت على طول النوى بلقاك

بتنا بها زوجْين نالا مُنية

كانت تُخال عزيزة الإدراك

قالت وقلت فلو أصاخ لنا الدجي

لَرثى لشاكية هناك وشاك

عشنا على سَحْرِ النعيم ونحْره

حتى تورَّدك الردى فطواك

ص: 33

نغدو على ورْدِ الوفاق ونوْرِه

ونبيتُ لم نعتبْ على الأشواك

فإذا رأيتِ الأمرَ لم أرتحْ له

شفَّعتُ عطفك واستعنتُ حِجاكِ

وإذا اعتركنا مرة عَرَض الهوى

فمحي بسحر عصاهُ كلَّ عراكِ

وإذا هفت نفسي لغير كريمة

جرَّدتِ حزمك طبَّةً ونهاك

فكفْفتها في حكمة ولباقة

وبلغت بالمس الرفيقِِ مُناك

وإذا النفوسُ إلى توائمها اهتدت

سعدت. وتلك مراتبُ الأملاك

وإذا أهابت بي العلا شيَّعتني

بصريمة يقْظي وعزمٍ شاك

ودفعتني ثبْتَ الخطي مُستعصماً

بالله مُهتدياً بنور هداك

جنبتني زللَ الصِّبا وعثارَه

ومضي يُهذِّب لي الحياةَ صباك

روَّتْني الدنيا ببعض نعيمِها

فوجدت أكرمه نعيم رضاك

ولقد دخلتُ عليك من وشْيِ الضُّحى

روضاً تنفس فيه طيبُ شذاك

أسعى إلى مثواك مشبوبَ الهوى

وأكاد أومنُ أنني سأراك

وأفضت حتى جئت رفرفَ مضجعٍ

طُهْرٍ كأركانِ البنيَّة زاكِ

وكأنما إنجاب الرَّخامُ عن الثرى

فأهلَّ من خَلَلِ الرِّجام ضياك

فشهِدتُ في حلْيِ العروس وعطرها

نفسي التي ودَّعتُ يوم نواكِ

تلك الصباحة والطلاوة والصبا

أضفى عليهن الجلال كراك

والماء في قسمات وجهِك لامح

صاف وسحرُك ساكبٌ وسناكِ

وحُلاك واحدةُ الطراز. ألمْ تصَغْ

من جوهر الخلق الكريم حُلاكِ

فوضعت خدي حيث خدك ماثل

ومدامعي تَروْى بها خدَّاكِ

وسكبت في أذنيك ألحان الهوى

ولطالما هشَّت لها أذناك

ونهلتُ من عينيك سحراً لم يزل

تحت الترابِ تشعُّه عيناك

وجلوت في فوْديْك بدر دُجُنَّةٍ

وهصرتُ في عطفيك عودِ أراكِ

ويداي في ذهبيِّ شعرك ضلَّتا

وتُنهنه الشوق الجموح يداك

ويمجُّ مثلَ الشُّهد فوك وكالطِّلا

أشتارُ شُهدَك أم أعبُّ طِلاك؟

وأقول في صُعداءِ أنفاس الجوى

رَيَّا السُّلافة تلك أم رَيَّاك

ص: 34

وأقول من سلب الزهورَ رحيقَها

وهفا إليك بصفوها فسقاك

وأقول والأشجان تنهك مهجتي

والقلب يصهره الأُوارُ الذاكي

لو قد سألت بنا! فزوجك مُوحش

وبنوك واجمةٌ وُعشُّك باك

بهواك - والدنيا جناح بعوضة -

عندي إذا قُرنت بطهر هواك

بالضاحك النشوان من عهد الصبا

في المشرق المأنوس من مغناك

وبكل ضمة مُتعة وهناءة

أضفى عليَّ نعيمها حِضناك

وبكلِّ عذبِ اللحن من قُبل الهوى

نضحت بها شفتي المُلَحةُ فاك

قسما فلم تلتذَّ غيركَ أضلعي

يوماً ولم يصرخ دمي لسواك

فامضي كأغنية الربيع ترقرقت

ألوانها في نورِه الضحاكِ

وامضي كنيِّرة السماء كريمة ال

روحات والغدوات والأفلاك

أملاعبَ الصبواب من حرَم الحمى

هوجُ الخطوبِ أذلن عزَّ حِماك

راش الزمانُ سهامَها وأحدَّها

فرماك ثم رماكِ ثم رماكِ

كانت رباك خمائلاً وجداولاً

وشمائلاً. أمن الجنان رباك؟

المسكُ ليُلك سحرُه وعبيرهُ

ورقائق الذهبِ الصقيل ضُحاك

وتظلُّ أرواح العشيِّ عواطلاً

من عَرِفها ما لم تمسَّ شذاك

كيف الغدير السمح. ساق لُجينَه

فسقاك. والوشىَ البهيجَ كساك

هل لم تزل قبلاتُ ضاحِك مائه

تترى على صفصافه المتباكي

أم بُدِّلت أمواهُه وخريرُه

عبراتِ نائحةٍ وزفرةَ شاك

والقصر. كيف مشى الردى في ساحه

مشيَ الوباء العاصفِ الفتاك

قد كان مرتعَ كل ظبيِ لاعبٍ

أَنِسٍ. وخيسةَ كل ليث شاك

درجت طفولتنا على جنباته

ونما هوانا في ثراهُ الزاكي

في كل موضع نبتة من روضه

ذكرى لموقف لوعةٍ وتشاكي

لما التقينا هاج دمعك أدمعي

أبكانيَ الشجنُ الذي أبكاك

أبصرتِني فرداً فعاودك الأسى

لله أيَّ جوًى أثار أساكِ

عزفت عن الشدو الطيور وأجهشت

أيكاتُك العبْري وجفَّ نداك

ص: 35

واغبرَّ مُخضر البساط ونكّست

تيجانها الزهراتُ في الأشواك

ويقول مطلولُ البنفسج للندى

يا شدَّ ما نلقي! ألستَ كذاكِ

أنكرانَ أني لم أزل من بعدها

حيَّا. أنا الميت البطيء هلاكي

أملاعب الصبواتِ قد جرت الرحى

فعفتك. لم ترحم سوى ذكراك

(ع. ا.)

ص: 36

‌البريدُ الأدبي

إلى الأستاذ محمد أحمد الغمراوي

تعجبني مداعباتك الطريفة للدكتور زكي مبارك، ويدهشني حقاً كما يدهش الكثيرين أن يقف الدكتور - وهو الصوال بالمقدام - هذا الوقف السلبي الغريب بازاء نقد أوشك أن يهدم أكبر أثر له طالما اعتز به وفاخر. وما دام قد لاذ بالصمت وآثر عافية غير محمودة، فلا مندوحة لسواه من أن يسد مسده في التعقيب على ما يستحق التعقيب عليه من هذا النقد. وقد وقعت من ذلك على نقطتين في مقالك الرابع عن (فساد الطريقة في كتاب النثر الفني)

الأولى: أنك ذكرت أن سر تفاهة البيت:

كأننا والماء من حولنا

قوم جلوس حولهم ماء

ليس في صدق هذا الكلام ومطابقته للواقع - كما زعم الدكتور في كتابه - وإنما هو في أن المشبه به في الشطر الثاني من البيت هو المشبه عينه الوارد في الشطر الأول مما أبطل التشبيه لعدم المغايرة بين طرفيه، فأصبح البيت من ناحية التشبيه بيتاً كذباً، ولو استبدل بحرف التشبيه حرف التوكيد لصدق البيت وارتفعت قيمته ارتفاعاً يجعله بمنجاة من أن يكون مثلاً مضروباً في السخرية والاستهزاء الخ. . .)

وأقول إن البيت - حتى بعد هذا التعديل المقترح - يظل تافهاً، بل غير صحيح من ناحية اللغة، وذلك لأنه يشترط في الخبر أن يفيد فائدة زائدة على المبتدأ، وفي ذلك يقول ابن مالك:

والخبر الجزء المتم الفائده

كالله بر والأيادي شاهده

ولا معنى للخبر إن لم يكن كذلك. وما ورد فيه الخبر بلفظ المبتدأ لوحظت فيه مع ذلك فائدة زائدة على المبتدأ كما في قول القائل: أنا أبو النجم وشعري شعري. إذ عني بقوله (شعري شعري) أن شعره الحاضر هو من جنس شعره المعهود للمخاطبين من قبل. وعلى تقدير كهذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) في حديث (إنما الأعمال): (وليس في الخبر الوارد في قول القائل: (كأننا والماء. . . الخ.) فائدة زائدة على المبتدأ ولا هو مما يحتمل تقدير شيء من ذلك.

ص: 37

الثانية: ذكرت ما أورده الدكتور زكي في كتاب النثر الفني نقلا عن الباقلاني من تعريف الأخير للسجع بأنه: (ما يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع)، وتقريره أن ما ورد في القرآن على هيئة السجع لا يدخل تحت هذا التعريف، (لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى). وأردفت ذلك بذكر عبارة الباقلاني التي أكد بها احتجاجه لرأيه المتقدم، وهي:

(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ: ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)

ثم زعمت أن هذه العبارة لا تستقيم مع رأي الباقلاني المتقدم، وأنه لا بد أن يكون قد وقع فيها تداخل عند طبع الأصل أو عند النسخ استغلق به المعنى على القارئ مما لم يفطن إليه الدكتور (فدل بذلك على تقصيره في فحص الكلام وتقليبه أو على قصوره في الفهم والتفكير الخ. . .)

والواقع أنه لا تداخل في العبارة ولا استغلاق في معناها الواضح كل الوضوح، فهي تعني أن الكلام الوارد على هيئة السجع على نوعين: أحدهما كلام منتظم في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه. فلا مناص من إيراد اللفظ الوارد على هيئة السجع، لأنه لا بد منه لإفادة هذا المعنى، ولا يمكن أن يحل غيره محله في إفادته، ويصبح المعنى في هذه الحالة مرتبطا بذلك كارتباط معاني غيره من الألفاظ التي لم ترد على هيئة السجع بهذه الألفاظ. فتكون إفادته كإفادتها، أي أنه لا يكون مستجلبا لغرض آخر غير إفادة المعنى. النوع الثاني كلام يكون معناه منتظما بغير اللفظ الوارد فيه على هيئة السجع، فلا يكون هذا المعنى مرتبطا بهذا اللفظ، لأنه يمكن الاستعاضة عنه بلفظ آخر يفيد هذا المعنى أيضاً، وعلى ذلك يكون الإتيان في هذه الحالة بخصوص اللفظ الوارد على هيئة السجع قد قصد به إلى غرض آخر غير إفادة المعنى، ألا وهو تجنيس الكلام. والنوع الثاني هو السجع الحقيقي، والنوع الأول - وهو وحده الوارد في القرآن على ما يرى الباقلاني - ليس بسجع حقيقي وإن جاء على هيئته

ومعنى العبارة على الوجه المتقدم هو المستقيم تماماً مع رأي الباقلاني السابق في تعريف

ص: 38

النوعين. فالأول - وهو ما ورد على هيئة السجع وليس بسجع حقيقي - يتبع اللفظ فيه المعنى، لأنه إنما أتى باللفظ للتعبير عن ذلك المعنى المقصود بعد التثبت من إفادته التامة له. أما الثاني - وهو السجع الحقيقي - فيتبع المعنى فيه اللفظ الذي لم يؤت به بخصوصه لإفادة المعنى وإنما لغرض آخر هو تجنيس الكلام، أفاد المعنى المقصود بتمامه أو لم يفد. ومن ثم استهجن التزام السجع لأنه إنما يكون على حساب المعنى

هذا وتستطيع بعد الإيضاح المتقدم أن تتبين بأدنى تأمل ما في عبارتك التي أوردتها تصحيحاً لعبارة الباقلاني من مناقضة لحقيقة رأيه ومجانبة للصواب

وأعود فأكرر إعجابي بمجهودك الموفق في نقد كتاب النثر الفني.

إبراهيم زكي الدين بدوي

الأستاذ بدار العلوم العليا ببغداد سابقاً

حول (الحب عند المتنبي)

تساءل الأستاذ حسن الأمين: هل أحب المتنبي وهل أحس بلواعج الغرام؟

وأراد في جوابه أن يقول، إنه لم يحب، ولم يحس بلواعج الغرام، واستشهد بشيء من شعر المتنبي. وأريد أن أقول إن حب المتنبي يكاد يكون لغزاً مستعصياً على الحل. ولست الآن بصدد إثباته أو نفيه، غير أني أريد أن أستأذن الأستاذ حسن الأمين في ألا أوافقه في أن ما استشهد به من شعر المتنبي يؤدي إلى النتيجة التي وصل إليها. بل في بعض ما يدل على خلاف رأي الأستاذ. وهاكم البيان

1 -

فهم الأستاذ من قول المتنبي:

تحملوا حملتكم كل ناحية

فكل بين على (اليوم) مؤتمن

فهم أنه (لا التهديد بالرحيل، ولا الوعيد بالهجر استطاع أن يلين قلبه ويميل به إلى الهوى)

وكلمة اليوم في البيت التي وضعتها بين قوسين تدل بوضوح على أن المتنبي كان يحب، وأنه يريد بإصرار وقوة أن يتوب من هذا الحب. فيقول. انتهى عهد الحب واليوم أصبح مؤتمنا على لا يؤثر سقماً ولا هما

2 -

وإن قال المتنبي (محب كنى بالبيض الخ) إلا أن قوله

ص: 39

عدمت فؤاداً لم تبت فيه (فضلة)

لغير الثنايا الغر والحدق النجل

يدل على أنه يريد أن لا يكون قلبه قاصراً على حب النساء، بل يجب أن يكون فيه (فضله) لغير حب النساء. فظاهر من هذا أن المقام الأول هو لحبهن، والفضلة لغيرهن

3 -

قول المتنبي (وما العشق إلا غرة وطماعه) وقوله: (مما أضر بأهل العشق أنهم)، وأمثاله، لا يدل على أنه غير عاشق. بل هو أقرب إلى أن يدل على أنه عاشق برح به العشق وكوى كبده، وذاق حلوه ومره، لكنه رجل غلب عليه العقل وقوة الإرادة، فهو يريد أن يداوي نفسه من عشقه بمثل هذه الأقوال، وكثير ممن جربوا الحب وخابوا فيه أو لم يصلوا إلى نتيجة رجعوا على أنفسهم باللوم وعلى الحب بالتنقيص

4 -

وأما الأبيات التي ادعى فيها العشق؛ فأنا أفرض مع الأستاذ أنها لا تدل على العشق، كما يقول المتنبي نفسه (أكل فصيح قال شعراً متيم؟) إلا أنني لا أستطيع أن أمر بأشعاره المشتملة على العاطفة الصحيحة من مثل قوله:(ما لاح برق أو ترنم طائر) إلى آخر ما ذكره الأستاذ في هذا الصدد. أقول لا أستطيع أن أمر بهذا، دون أن أشعر بأن المتنبي كان محباً صادقاً

5 -

الحب عاطفة إنسانية أصيلة لا يحرمها إلا من مسخ قلبه، ولا يكون المتنبي - وهو من هو - كذلك، فهذا وحده كاف للتدليل على أن المتنبي أحب، وأنه أحس بلواعج الوجد، وتباريح الغرام. والآن آن أن أقول إن اللغز في حب المتنبي، ليس هو الحب نفسه، ولكن من هو الشخص الذي أحبه المتنبي. وقد أجاب عن ذلك الأستاذ محمود محمد شاكر. ببحث فيه مجال للبحث.

(اللد - فلسطين)

داود حمدان

ص: 40