المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 586 - بتاريخ: 25 - 09 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٨٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 586

- بتاريخ: 25 - 09 - 1944

ص: -1

‌مكافحة الشكلية

للدكتور محمد مندور

لا عجب أن نرى مشكلة التعليم من بين المشاكل الكبرى التي تشغل الرأي العام، لا في بلادنا فحسب، بل في جميع بلاد العالم، والحرب القائمة عمادها الأول مبادئ العلم ومكتشفات العقول، وهي حرب ميكانيكية قبل كل شيء.

ولقد انتهى الأمر ببلادنا إلى الفطنة لوجوب مكافحة الأمية الأبجدية، وهذا خير نحمد الله من أجله، ولكننا نطمع إلى ما هو أبعد من ذلك. فنود لو كافحنا الأمية العقلية، وما نظن مفكرا يزعم أنك قد أصلحت نفسا أو هذبت خلقا أو سددت إدراكا إذا لقنت الفرد مبادئ القراءة والكتابة، فتلك وسائل لا خير فيها إذا عربت عن غايتها، وغايتها بلا ريب هي محو الأمية العقلية، ومن هنا كانت راحة النفس عندما رأينا الحكومة تقيم مكافحتها للأمية على أساسين: تعليم الأبجدية وما يلحق بها، ثم نشر الثقافة الشعبية بإلقاء الدروس المبسطة في مبادئ العمران والحياة المدنية.

وليس من شك في أن مكافحة الأمية العقلية التي هي هدفنا القومي لن نستطيعها إلا إذا أعددنا لمكافحتها طوائف من المثقفين ثقافة جامعية صحيحة، ولقد اتفق لكاتب هذه السطور أن لاحظ على تلك الثقافة الجامعية اتجاها نحو الشكلية قد لا يكون منه مفر في بلاد أخذت تفتح أعينها على العلوم الغربية، فتود لو تلتهمها متعجلة، ثم تنثرها عن يمين وشمال فجة قبل أن تتمثلها تمثل الهضم، وتلك آفة من الآفات الكبيرة التي لابد من محاربتها أعنف الحرب، لأنها خليقة بأن تنشر في نفوس الشباب غرورا كثيفا يحجبها عن الحقائق العميقة. وأخطر ما تكون تلك الآفة في العلوم المعنوية، ونعني بها العلوم التي تتناول الإنسان وظواهره البشرية كفرد وكعضو في هيئة اجتماعية. وسر الخطورة في هذا المجال يأتينا أيضاً عن الغرب، وإن يكن الغرب نفسه قد أخذ يتخلص من تلك الآفة التي مكنت لها اتجاهات العلوم المادية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.

ذلك أن العلوم المادية في تلك الفترة كانت قد خطت خطوات كبيرة نحو اكتشاف كثير من القوانين العامة التي تسيطر على المادة فتمكن الإنسان من استخدامها حتى شاع في كل العقول أن العلم إن لم يكن اكتشاف قوانين فهو ليس بشيء؛ ونظر الباحثون في الإنسان

ص: 1

فإذا بهم لا يكادون يتبينون لظواهره قوانين، فتطلع طموحهم الساذج إلى أن يصلوا في معارفهم إلى ما وصل إليه علماء المادة، فقالوا إن الإنسان ما هو إلا ظاهرة من الظواهر العامة، وهو لابد خاضع في حياته الفردية وفي حياته الاجتماعية إلى قوانين لا مفر من سلطانها، ومن هنا اتجهت الأبحاث النفسية والاجتماعية تلك الوجهة الشكلية التي نكتب اليوم عن وجوب مكافحتها إذا أردنا أن نقيم مجد هذا الوطن على إرادة أبنائه، إرادة يجب أن ينتهي كل تعليم صحيح إلى تأييد حريتها التامة وقدرتها على كل شيء

ومكافحة الشكلية ليست بالأمر الهين، فقد اتفق لي أن لاحظت التجربة في نفسي حيث لم أستطع أن أفطن إلى ما أدعو إليه اليوم إلا بعد سنين من إقامتي بأوربا. ولعلي أفدت تلك التجربة من كلمات قاسية سمعتها من شيخ فرنسي أضعاف ما أفدت من أساتذتي ومطالعاتي. وليسمح لي القارئ بأن أقص تلك الذكرى الشخصية، فقد يفيد منها مثلما أفدت.

في أول عهد بباريس كنت أتناول الغداء على مائدة سيدة عجوز مع نفر من الشبان والشيوخ الفرنسيين وبعض الأجانب. وكان من بين الفرنسيين رجل جاوز الخمسين يعمل وكيلا للمحافظة؛ وأكبر ظني إنه ينحدر من أسرة كبيرة من الأسر المحافظة؛ وكان رجلا جافا في جسمه وروحه، أنيقا في لفظه وملبسه. ولقد علمت إنه قد ابتلى الحياة وابتلته بهمومها الثقال فتحملها في بطولة، ولقد خرج من نشأته وملابسات حياته بفلسفة قوية تقوم على مبادئ الخلق الصارمة، كما تقوم على الاعتداد بكرامة الإنسان وقدرته على توجيه الحياة وإخضاعها لإرادته. مع هذا الرجل تعلق حديثي أحد الأيام، ورأيته يبسط مبادئ فلسفته التي ذكرتها في حرارة المؤمن فدهشت، وأخبرته بأن مبادئ الأخلاق التي يتحدث عنها إن هي إلا ظواهر اجتماعية تملى على الأفراد دون أن يكون لهم دخل في بنائها، أو فضل في الإيمان بها، كما أخبرته أن إرادة الإنسان الحرة التي يعتز بها، ليست إلا وهما لأن الفرد لا يملك لنفسه شيئا، وإنما هو مسير بغرائز وقوى دفينة، وما إن سمع مني الرجل هذا الهراء، حتى انتفض كالأسد، واستند بمرفقه الأيسر على المائدة ليلتفت إلي محدقا في غضب، غضب الاستعلاء، وسألني من أي بلد أتيت يا بني؟ قلت من مصر. قال وماذا يصنع أبوك بمصر؟ قلت يزرع الأرض. قال إني أوصيك مخلصا أن تعود إلى بلدك لتحرث الأرض مع أبيك، هذا أجدى عليك وعلى وطنك مما تتعلمه أو تظن أنك تتعلمه هنا

ص: 2

من هراء، فتماسكت موهوما وقلت، ولكن هذه يا سيدي هي الآراء التي سمعتها من أساتذة السربون في علم الاجتماع وعلم النفس؛ فأجابني: ومن أنبأك أن هؤلاء الأساتذة يفهمون شيئا عن حقائق الإنسان؟ أتظن أن حقائقنا البشرية من اليسر بحيث تصاغ نظريات أو يكشف عنها التفكير المجرد؟ ثم من قال إن التفكير الفرنسي يمثله ذلك النفر من اليهود الذين يزعمون أنهم قد اكتشفوا قوانين الإنسان، عندما زعم كبيرهم دركايم ومن خلفه ليفي بريل وموسى وفوكونيه، ومن تبعهم أن الإنسان حكمه حكم المادة، وأن هناك ما يسميه هؤلاء الحمقى وعيا اجتماعيا تتمخض عنه الحياة العامة كما يتمخض الناتج الكيماوي عن مزيج من العناصر، أحذر يا بني أن تؤمن بما يقولون فليس صحيحا أن الرجل المهذب لا يستطيع أن يصل إلى قيادة شخصية يهتدي بها إلى مواضع الخير والشر والبطولة والخسة بنفسه، كما تهتدي الطيور إلى أوكارها. وليس صحيحا أن قواعد الأخلاق ليست إلا ظواهر اجتماعية لا نستطيع في علاجها شيئا، وكل ما يجب عمله هو أن نرصدها، كما يفعلون لنستخرج منها قوانين عامة. هذا يا بني وهم، بل خداع مبطلين، ثم اذكر أننا في مجال المعرفة بالإنسان، ليس لنا إلا هدف واحد هو أن تصبح خيرا مما نحن. فبالله، هب أن هذا الهراء حق، فأي فائدة ستجني منه الإنسانية؟ أنا أفهم أن نكشف عن قوانين المادة، لنسيطر عليها ونسخرها في مرافق حياتنا، ولكن الإنسان ما شأنه بالقوانين؟ ومن قال إن الإنسان مادة فحسب، وهب أنه كان مادة، وأن الروح لم يكن لها وجود، وأنها تفنى بفناء المادة كما تنعدم النغمات بتحطم الناي، أليس من الخير، بل من الواجب على الإنسانية أن ترفض علما كهذا لن ينتهي إلا بتحطيم حياتنا وشل إرادتنا وتقويض دعائم الهيئة الاجتماعية التي نحيا بينها؟

هذا هو الدرس القاسي، الدرس الصارم النافع الذي تلقيته عن الشيخ في مستهل حياتي، رويته اليوم راجيا أن تتدبره شبيبتنا الناهضة. ولقد تذكرته إذ قرأت في إحدى صحف المساء مقالا لشاب أكبر الظن إنه حديث التخرج من قسم الفلسفة بالجامعة، ولقد رأيت شابنا المسكين يتحدث عن (مكافحة الأميين في ضوء علم الاجتماع) فيزعم أن هذه المكافحة ستجري ضد قوانين علم الاجتماع المزعومة، وأنها لذلك لن تنجح لأن عقلية الفلاح ليست عقلية حضارة وعلم، وإنما تصبح كذلك بعد أن تنتشر الصناعة في مصر،

ص: 3

وذلك لما رواه عن دركايم وتلاميذه من أن لكل شعب عقلية تتكيف بتاريخه ونوع نشاطه الاقتصادي وما إلى ذلك مما ينتهي بخلق ما سماه طالبنا نقلا عن هؤلاء العلماء (بالعقل الجمعي)، وهذا هو موضع الداء، فطلابنا يرددون اصطلاحات علمية لا يحسنون فهم مدلولاتها فهم الناقد المستنير، وتبلغ بهم القحة أن يكتبوا للصحف فيما لا يفهمون غير واعين بما قد يكون في هرائهم من تثبيط لهمم أفراد الشعب الذين لم يصيبوا من العلم الزائف مثلما أصابوا. وهأنا ألقي عليه درسا مثل الذي سمعت في أول حياتي:

لا يا بني ليس هناك عقل جماعي كما زعمت أو زعم لك دركايم، وإنما هناك عقل فردي، هناك إرادة حرة، إرادة يجب أن تستيقظ في قلوب أمثالك فتهدم الصخر. لا يا بني ليس هناك جبر تمليه قوانين مزعومة، وإنما هناك نشاط حر، نشاط لا يعرف اليأس. وكم أحزنني من شاب مثلك أن يقول بقيام قوانين تقف دون إرادة هذه الأمة، التي أنت أحد أفرادها، فتردها عن أهدافها القومية. أقلع عن اليأس وبشر بالأمل، وإذا سمعت من حولك من يرمي هذه الأمة بالسوء فرد قوله، وآمن بأنه مهما بلغ بنا الفساد فنحن لابد مقوموه، وأن حافزنا الأول إلى هذا التقويم سيكون العلم الصحيح الذي يؤمن بأن النشاط الإنساني حر، وأن إرادتنا لابد آتية على كافة الصعاب كما أتى مصطفى كمال على صعاب تركيا وستالين على صعاب روسيا، دون أن يقف أمامهما عقل جمعي أو قوانين اجتماعية.

محمد مندور

ص: 4

‌بقية الحديث عن حرية الفكر

للأستاذ دريني خشبة

لم أشك مطلقا في أن الدكتور زكي مبارك كان يمزح حينما شكا من التضييق على حرية الفكر في زمننا هذا. وفي أن تباكيه على حرية الفكر في العصر الذهبي للتصوف الإسلامي كان دعابة ظريفة من دعاباته التي لا تنفد. . . وذلك أن الدكتور زكي رجل قوي الذاكرة. ولا يمكن أن يكون قد نسي ما نقله في كتابه العظيم الخالد عن التصوف، عن كتاب اليواقيت للشعراني، حيث قول:(ج1 ص193)

(ولا يخفى ما قاساه الإمام أبو حنيفة مع الخلفاء، وما قاساه الإمام مالك واستخفاؤه خمساً وعشرين سنة لا يخرج لجمعة ولا جماعة، وكذلك ما قاساه الإمام الشافعي من أهل العراق، وأهل مصر وكذلك ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل من الضرب والحبس، وما قاساه البخاري، حين أخرجوه من بخارى إلى خرتنك

(وقد نفى أبو زيد البسطامي سبع مرات من بسطام بواسطة جماعة من علمائها؛ وشيعوا ذا النون المصري من مصر إلى بغداد مقيداً مغلولاً. وسافر معه جماعة من أهل مصر يشهدون عليه بالزندقة. ورموا سمنون المحب بالعظائم، ورشوا امرأة من البغايا فادعت عليه إنه يأتيها هو وأصحابه، واختفى بسبب ذلك سنة. وأخرجوا سهل بن عبد الله التستري من بلده إلى البصرة ونسبوه إلى قبائح وكفروه مع إمامته وجلاله، ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم، وأفتى العلماء بكفره بألفاظ وجدوها في كتبه، وشهدوا على الجنيد بكفره مراراً حين كان يتكلم في التوحيد على رؤوس الأشهاد. فصار يقرره في عقر بيته إلى أن مات

(وأخرجوا محمد بن الفضل البلخي من بَلْخ لكون مذهبه كان مذهب أهل الحديث من إجراء آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها بلا تأويل والإيمان بها على علم الله فيها، ولما أرادوا إخراجه قال: لا أخرج إلا أن جعلتم في عنقي حبلا ومررتم بي في أسواق البلد، وقلتم هذا مبتدع نريد أن نخرجه من بلدنا، ففعلوا ذلك وأخرجوه، فالتفت إليهم وقال: يا أهل بلخ، نزع الله من قلوبكم معرفته! الخ. . .

(وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع كثرة مجاهدته وتمام علمه وحاله، وضربوه

ص: 5

ضرباً مبرحاً، وطافوا به على جمل، فأقام ببغداد إلى أن مات!

(وشهدوا على الشبلي بالكفر مراراً مع تمام علمه وكثرة مجاهداته، وأدخله أصحابه البيمارستان ليرجع الناس عنه مدة طويلة!

(وأخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي مع فضله واستقامته في طريقته من المغرب إلى مصر، وشهدوا عليه بالزندقة عند سلطان مصر، فأمر بسلخه منكوساً، فصار يقرأ القرآن وهم يسلخونه بتدبر وخشوع، حتى قطع قلوب الناس، وكادوا يفتتنون به!!

ورموا الشيخ أبا مدين بالزندقة وأخرجوه من بجاية إلى تلمسان

وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي من مصر وشهدوا عليه بالزندقة

ورموا عز الدين بن عبد السلام بالكفر، وعقدوا له مجلساً في كلمة قالها في عقيدته وحرشوا السلطان عليه

ورموا تاج الدين السبكي بالكفر وشهدوا عليه إنه يقول بإباحة الخمر والفاحشة، وأنه يلبس في الليل الغيار والزنار وأتوا به مغلولاً مقيداً من الشام إلى مصر. . . الخ. . . الخ)

وبعد. . . فتلك صفحة عجيبة من تاريخ الاضطهاد الفكري نقلها صديقنا الدكتور زكي بقلمه عن كتاب اليواقيت. . . وهو كما قدمنا رجل ألمعي أريب قوي الذاكرة. . . فلا يمكن أبدا أن يكون صادقاً حينما ينعى حرية الفكر في مصر اليوم، ويتباكى على حرية الفكر في العصور الذهبية للتصوف الإسلامي. ولكن الممكن أن يكون مداعباً كدأبه. . . وإلا فماذا حدث في مصر الحديثة لرجال التصوف المنبثين في كل حدب وكل صوب. أو ماذا حدث للذين يعلنون اليوم جهرة أنهم يؤمنون بنظرية وحدة الوجود التي خرجوا منها بأن الله هو هذا العالم - أو هذا الوجود المطلق الكلي - وأن محمداً هو مبتدع تلك النظرية، كما أنه مؤلف القرآن، وأن كل ما جاء به، صلوات الله عليه من أنباء الغيب لا يمكن أن ينهض له العقل. فلا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا ميزان ولا صراط. . . وأنه لا داعي لأن يدعو الإنسان ربه ولا أن يصلي له. . . لأن دعاءه وصلاته لن يغيرا من قوانين الأقدار شيئا. . . وأن المتضادات أمام الله سواء، لأنه هو الهادي وهو المضل، وعليه، يكون الفجور كالتقى، والشر كالخير، والسجود بين يديه مثل إكباب المرء على حليلته. . . إلى آخر هذا الهذيان الذي اجترأ بعض فلاسفة زماننا أن يرددوه مؤمنين به،

ص: 6

ومع ذلك فهم يسرحون ويمرحون، لم يعرض لهم أحد بشر، ولم يأخذهم أولو الأمر بذنوبهم، فلم يقيدوهم بالأغلال، ولم يحملوهم على الجمال ولم يسلطوا عليهم البغايا، ولم يسلخوا جلودهم أحياء ولم يرسلوا بهم إلى مستشفيات المجاذيب، ولم يسلطوا عليهم الصبية يرجمونهم بالحجارة. . .

لم يصنعوا بهم شيئاً من هذا، مع أنهم غلوا أضعاف ما غلا أسلافهم. . . ألا ترى يا أخي أنهم اجترأوا فقالوا إن القرآن هو كلام ألفه محمد؟! ألا ترى أنهم أنكروا ما جاء به محمد جملة؟! وهم قد صنعوا ذلك وأثبتوه في كتب طبعت في العراق وأرسلت إلى مصر فدخلتها دون أن يعترضها معترض، كما دخلت جميع الأقطار الإسلامية دون أن يقف في سبيلها شيء. . . ولماذا يقف في سبيلها شيء ما دامت أقلام المسلمين في أيديهم، وما دامت عقولهم في صدورهم - ورؤوسهم - يا دكتور زكي؟! ليقل الزنادقة ما شاءوا، ولينشروا من كتبهم ما أرادوا، آمنين مطمئنين، ما دام هذا الزمان الذي كانت الدولة تسلخ فيه جلودهم وهم على قيد الحياة قد مضى. . . لقد أبصرت الدولة اليوم، ولقد أبصرت الأمة الإسلامية، فهي لم تعد تلجأ مع الزنادقة إلى تلك الوسائل الهمجية من التمثيل والتعذيب، وما نهى عنه الإسلام الصحيح الصادق من ضروب المثلة. . . لكنها تلجأ إلى وسائل أحزم وأوسع مدى في حرية الفكر. . . إنها تلجأ إلى يقظة الضمير الإسلامي في أقلام أبنائها فتزيف الأفكار الفجة، والآراء السقيمة، فلا يكون زيغ، ولا يكون إضلال، ولا يكون إيمان أعمى بنظرية وحدة الوجود بتخريجاتها المضحكة التي انتهى إليها هذا الأستاذ الجليل، الشيخ معروف الرصافي

على أن الذي يغيظني منك يا صديقي الطلعة المفضال هو اشتدادك في البكاء على حرية الفكر، وهذه كتبك القيمة كلها تحمل من الجراءة ومن الأفكار الحرة، بل الأفكار الطليقة السائبة التي لا تحفل بشيء، ما تحمل، وهي تنتشر مع ذاك بين المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية انتشاراً عظيماً، دون أن ينقم منها أحد شيئا، إلا ما استدركه عليها مناظرك الفاضل من ملاحظات يوافقه الناس على بعضها ولا يوافقونه على بعضها الآخر. . . وما أريد أن أدخل بينكما الآن. . . ولكني أردت أن أنفذ من ذلك إلى الاعتذار إليك مما قلته الآن عن بعض أفكارك، والتعبير عنها بأنها طليقة سائبة لا تحفل بشيء. . .

ص: 7

هل تذكر يا أخي أن الحلاج مات كافرا - ولو من وجهة النظر الإسلامية - لأنه يزعم للناس إنه الله؟ وهل تذكر أنك كنت الكاتب المسلم الوحيد الذي دافع عن الحلاج، بالرغم من قوله هذا، وأنك لم تكن تبالي بإتباع اسمه كلما ذكرته بهذه العبارة الغالية: رضى الله عنه!

لشد ما تضحكني منك روحك الحلوة المفتونة بالدعاية وخبيث المزاح!

الحلاج رضى الله عنه! أي والله يا دكتور زكي، إنك تحسن استغلال حرية الفكر في مصر، وتحسن استغلال سعة صدور المسلمين!

على انك نسيت، بالرغم من قوة ذاكرتك أنك، وأنت تشكو من التضييق على حرية الفكر في مصر. كنت أول كاتب جريء استطاع أن يدافع عن شيء يعتبر الدفاع عنه شيئاً مضحكاً جدا. . . بل شيئاً مثيرا لعواطف المسلمين. . . جالباً لسخط الله والناس. . . فهل تذكر عم دافعت؟! أنا أذكرك إن كنت قد نسيت. . . لقد دافعت في كتابك القيم - التصوف الإسلامي - عن المعاصي. . . أي والله يا أخي. لقد دافعت عن المعاصي دفاعاً مضحكاً حاراً في أكثر من خمس صفحات كتابك المجيد الذي لا يخلو من تلك (البُقع) المسلية. . . لقد فعلت فعلتك الظريفة هذه بمناسبة ما يقوله الجيلاني عن تساوي العاصي والمطيع أمام الحق. . . أي أمام الله! ولكن لا مندوحة عن تسجيل قطعة من دفاعك ذاك فاسمع:

(. . . وكيف يكون فهمنا لعظمة الله إذا حرمنا الشقاء بالعواطف والشهوات والأهواء؟ كيف كنا نعيش لو خلت دنيانا من اللهو والفتون؟ كيف كانت تطيب دنيانا لو لم نطع الله بالعصيان؟! كيف يكون العقل لو خلا من التمرد والثورة والاعتساف؟ إن أجمل أثر أدبي تركه الأولون هو (سفر أيوب) وإنما كان كذلك لأن ناظمه وقف ربه أمام ساحة الجزاء!

إن أقوى الأغاني والأناشيد هي أنفاس الملتاعين من الذين قارعوا فتن الوجود!

إن أعاظم الرجال هم الذين نقعوا أرواحهم في بحار الشهوات!

إن أقوى القلوب هي القلوب التي واجهت سرائر الليل!

إن أعظم النفوس هي النفوس التي عاقرت كؤوس الغل والحقد والحب والهيام!

إن أعظم العقول هي العقول التي اصطرعت في ميادين الشك واليقين!

حدثوني عن رجل واحد بين العظماء شهد تاريخه بأنه احترم العرف والقوانين والتقاليد! إن

ص: 8

الرجل العظيم هو الحوت الذي يسير كما يشاء، ومن سواه من الصغار هم صغار الأسماك التي تساير التيار لتقع في شباك الصيادين!

. . . والشر ينفع كل النفع، فهو الذي يحولنا من ناس إلى حكماء، وينقلنا من مراتع الحملان إلى مرابض الأسود!

وماذا غنمنا من سيادة الشرائع (!!) والقوانين؟!. . غنمنا العدل! وهو كذلك! ولكن أي عدل؟ إنه العدل الأعرج الذي سمح للضعفاء والمهازيل بأن يكونوا من قادة الشعوب!) الخ

فهل رأيت يا أخي كيف كنت أجرأ مخلوق على وجه الأرض، أوتي من حرية الفكر أن يدافع عن المعاصي والشهوات هذا الدفاع الحماسي المتأجج، دون أن يناله شر، ودون أن يفتك الناس به، ودون أن يطارده القانون!

ولكن لابد من اقتباس الفقرة التالية أو الفقرات التاليات التي تدل على أنك تبلغ أحيانا تلك المرتبة من مراتب (ما وراء الشجاعة):

(وبفضل تقدم الضعفاء، وتخلف الأقوياء، صار الشرقيون من المستعبدين! وهل كان للشرق قوة إلا يوم صح لأنبيائه وزعمائه أن يروا لأنفسهم مزايا ليست لسائر الناس؟ وهل استطاع النبي محمد أن يستبيح من الزوجات ما لا يستبيح لأفراد أمته، إلا وهو يرى إنه أقوى الرجال!)

فهل رأيت يا صديقي كيف سولت لك جراءتك أن تقول هذا الكلام العجيب عن محمد بن عبد الله الذي جعلته شهوانيا أنانيا يؤثر نفسه بما لا يسمح للمؤمنين، لأنه رجل قوي العضلات؟ وأنت تعلم إنه عاشر السيدة خديجة عليها رضوان الله منذ أن كان فتى حتى توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات، أي بعد ما نيف على الخمسين أو شارفها، لم ينظر إلى امرأة غيرها قط، ولا اشتهى أن يتزوج قط حتى توفيت. فإذا قبضها الله إليه وحدثت هذه الزيجات الكثيرة بعد ذلك. جئت أنت لتقول في جرأتك المعهودة إنها زيجات كان سببها قوة عضلات محمد التي جعلته أنانيا يؤثر نفسه بما لا يسمح به للمؤمنين!

هاأنت ذا قد قلت ذلك كله ودافعت عن الحلاج ما دافعت مع علمك بكفره لزعمه إنه الله. . . فماذا حدث لك! ماذا نالك من المطاردة والنفي والحمل على الجمال والسلخ مما نال المتصوفة في العصور الغابرة؟! ماذا تريدون أن تقولوا غير ما قلتم؟ أفتونا في حرية الرأي

ص: 9

هذه كيف تكون بعد هذا كله؟ إن الجامعة التي هي جزء مقدس من الدولة التي دينها الرسمي هو الإسلام قد منحتكم إجازة الدكتوراه على الرسالة القيمة التي تقدمتم بها إليها بالرغم مما بها من هذه البقع الكبيرة، وقد منحتكم تلك الإجازة مع مرتبة الشرف تقديسا لحرية الرأي، فأي حرية تريدون بعد هذا؟ أتريدون الشيء الذي يأتي في الترتيب بعد الحرية؟!

أخي الدكتور زكي. . . أرجو ألا يغضبك هذا الحق. . . وأرجو أن يعجبك ما أكتب عن الرصافي، لأني أكتب لغرض أسمى أنت تعرفه.

دريني خشبه

ص: 10

‌القرآن في الإذاعة العالمية

اقتراح عملي جديد

للأستاذ حامد مصطفى

في هذا الميدان العظيم من دعاية صاخبة بين الأمم والجماعات، دعاية تثور وتصخب وتقوى وتشتد حتى تشمل العالم جميعه، وتأخذ بمجامع القلوب، وتفتن الألباب - في هذا العالم المائج المضطرب بالفتنة والحروب. يقف الشرق الإسلامي هادئا متثاقلا كأنه حاشية من جرم المريخ لا وسط من هذه الأرض. هدوء غريب كأنه مركز الإعصار الفارغ من حوله الحركة والهياج والدوران. إن العالم اليوم يقف على منقطع من جادة الحياة، ولابد لكل أمة أن تسير فتجتاز هذا المنقطع، وإن لم تفعل أنت بها الطريق وتعرضت للفناء. وفي هذه الفترة القصيرة من تاريخ البشرية لا تكاد تجد أمة لم تأخذ من الحياة الجديدة بنصيب، أو لم تنتفع من هذه الظروف القائمة الانتفاع الذي لم تحلم بمثله من قبل. والدعاية التي خلقتها عوامل الحرب الناشبة من أهم ما أفاد الأمم وأتاح لها التعريف بنفسها، والتقدم بما تملك من مواهب وثروة، وما تعاني من متاعب ومصاعب، وسوف لا تنتهي هذه الحرب حتى تهتدي كل أمة إلى مكانتها من العالم وقيمتها في الوجود، وتجد أحسن الحلول لمشكلاتها في السياسة والاجتماع والاقتصاد

إننا نريد من هذا الخلوص إلى موضوع جدير بالعناية والبحث، له من العناصر والظروف الحاضرة ما يوجب الالتفات إليه والاهتمام له. أعني بذلك القرآن من حيث هو كتاب عالمي يكون أساساً للدعاية إلى مبادئ الإسلام، وعرضه على العالم عرضاً يوائم أساليب العصر الحديث. فالإسلام بوصفه ديناً عالمياً، له من قواعده وأخلاقه ما يجعله سهل الفهم والقبول بين الجماعات البشرية في كل زمان ومكان. وذلك ما يسهل إعلانه والدعوة إليه. إن أحوال العصر الحاضرة تتطلب مجاراة العالم والدخول معه لا في ميدان الحرب، ولكن في ميدان السياسة والاجتماع. وإذ كان العالم اليوم يبحث عن أجدى الحلول لمعضلة الإنسانية الحاضرة. فإن الإسلام ليجد من نفسه الكفاية لعرض أنفس المبادئ التي يعتقد أن فيها ما يساعد على شرح الأزمات الإنسانية وعلاجها علاجاً يضمن لها السلامة والشفاء. ولقد جرب العالم نظريات شتى بعضها خاب وبعضها نجح نجاحاً ضعيفاً، ولكن الإسلام

ص: 11

يبقى نظرية اجتماعية ثابتة، عرفتها الإنسانية قروناً، وعمل بها البشر أحقاباً طوالاً حتى ثبتت عقيدة وعملاً ومنهاجاً في الحياة، وظهر صلاحها ومواتاتها لحاجات الناس في معاشهم ومعادهم. وحري بالعالم اليوم أن يتعرف بالإسلام، ينشد منه خططاً جديدة إلى جانب ما ينشد من خطط ونظريات. وحري بالمسلمين أن يكونوا هم العاملين على تحقيق هذا القصد. وأن يسلكوا إليه هذه السبيل الممهدة التي عبدتها الحرب القائمة فجعلت منها ميداناً لكل غرض نبيل ورأي جليل. أعني بذلك الإذاعة العالمية التي تتمتع منها العربية والمسلمون بحظ لا يقل شأناً عن حظوظ كثير من الأمم الأخرى

إن على المسلمين اليوم أن يتقدموا إلى الإنسانية بمبادئ الإسلام وعقيدته، وما فيه من قواعد اجتماعية تكفل سلامة الأمم وضمان الحقوق وهناءة المعاش. فالعالم اليوم أحوج ما يكون إلى بسط نظرية الإسلام في تنظيم الكون. وكل تقصير في هذا يقع على عاتق المسلمين، ويعذر من نتائجه سائر الناس. وفي العالم اليوم من يتحرى الوسائل الشافية والعلاجات الناجعة من أي مصدر أتت، ومن أي الوسائل وردت، لا يتعصب لرأي دون رأي، ولا لنظرية دون أخرى. إذ ليس المقام تبشير بدين وإنما هو تعريف لعلاج مجرب، وقواعد مطبقة تعرض كما يعرض سائر النظريات والآراء على ألسنة الخطباء، وأقلام الكتاب في المؤتمرات وفي الصحافة وفي التأليف

والوسيلة الجامعة للتعريف بمبادئ الإسلام، القرآن نفسه، يعرض بأوسع اللغات الحاضرة، أسيرها ذكراً وأعلاها مقاماً. ولا تنافس الإنكليزية في هذا الميدان لغة ثانية. ولا نعني بعرض القرآن باللغة الإنكليزية ترجمته بها الترجمة الحرفية، إذ أن هذه معضلة يظهر أنها لم تذلل بعد. وهي إلى جانب ذلك لا دخل لها في بحثنا هذا. إننا نعني أن يؤدي القرآن بمعناه أداءً مطابقاً بحيث يفهم منه باللغة الأجنبية ما يفهم منه بنصه العربي. وذلك يقتضي اجتماع لجنة من علماء أكفاء ومترجمين مسلمين حاذقين. يجتمعون على معنى القرآن آية بعد آية، وكلما أتموا يسيراً منه فاقروه واتفقوا عليه وجه به إلى الإذاعات التي تذيع القرآن اليوم من غير انتظار إلى الفراغ من الشروع كله. حتى إذا ما تم العمل سهلاً مألوفاً بما قرئ وسمع وتردد بين الناس، وكان له انطباع عام في أذهان العالم يساعد على بسط عناصره وشرح مجمله، فتتولد بذلك النظرية التي يريد الإسلام عرضها على الناس.

ص: 12

ومصر وحدها هي الجديرة بهذا العمل الجليل وإليها نتقدم به. من هذه الطريقة يتعرف العالم بالإسلام، ويجد فيه من دون ما عنت، ولا إرهاق الوجوه التي قد تعجبه في علاج الأزمات. والعالم اليوم لا يجد حرجاً في السماع لكل قول والتعرض لكل رأي، يقرأ ذلك في الكتب أو ينصت له في الإذاعات أو يعرض على أنظاره في المشاهد

إن العالم اليوم ليعرف القرآن من طريق الإذاعة، ولكنه لا ينجذب إليه ولا يأبه به، لأنه إنما يطرق الأسماع بنصه العربي. وليست العربية لغة شائعة ولا هي ضرورة من ضرورات الثقافة العالمية. وكل ما يراد من إذاعة القرآن اليوم إنما هو غرض دعاويَّ بحت يقصد منه التحبب إلى المسلمين واجتذابهم بالنغمة الناعمة الساحرة. والعالم الإسلامي لا يجتني أية فائدة من هذه الطريقة التي يذاع بها القرآن، كلا ولا العالم يستفيد شيئاً من القرآن بهذه الإذاعة. وإذا نحن استمررنا على الرضاء بهذه الحصة الفارغة من الإذاعة العالمية فستنقضي الحرب، وتستغني الإذاعات الأجنبية عن القرآن. وبذلك تضيع أمكن فرصة اغتنمتها البشرية لاجتناء أكبر الفوائد وأحسن النتائج، ونضيع على العالم غروضاً قد يستفيد منها ما يؤدي إلى أفضل مما يصل إليه وهو على جهل بهذه العروض

إن في الإسلام يقيناً لعلاجاً لأزمات الإنسانية الحائرة، وإن فيه لأسساً قويمة في الحياة؛ في الدولة والتشريع. وفي الاجتماع والمعاش، وإن فيه لصلة روحية تسمو بالإنسان عن طغيان الشهوات والميول الفاسدة، وتفترض بين الأفراد وحدة عالمية لا غنى عنها لبعض دون بعض، وفي القرآن الشيء الكثير مما يهتدي الباحث المجد. فلنتقدم بالإسلام بين هذه الفروض والأسس التي تقترح لإعادة بناء العالم، والإذاعة العالمية زعيم بإبلاغ القرآن إلى كل قلب بعد أن شغلت به كل أذن. والى مصر نتوجه بهذا الرأي.

(بغداد)

حامد مصطفى

مدرس بكلية الحقوق

ص: 13

‌ذكرى عيد

للأستاذ منصور جاب الله

تجرّمت سنون وسنون عهدت فيها قومي إذا ما أظلهم العيد، فزعوا إلى قبور تملأ الرحب، ويتيه دون حصرها البصر، فطووا هنالك الساعات الطوال يبكون آباءهم وآباء آبائهم، فإذا جنهم الليل ثووا إلى دارهم، وكأنما العيد في أنفسهم أشجان وأوصاب وآلام.

وإذ أنا طفيل لا أميز درجت على محاكاة هذه العادة، حتى أمسيت معيدا لها وتعلقت مني بالطبع، فما دلف عيد إلا وجدتني أهرع إلى المقابر أخط بين شعابها، وما أحسب أن هذه الأجداث كان لها يومئذ وحي في قلبي أو صدى في نفسي

لقد كانت النفس كابية بليدة، والطفل مادي بطبيعته لا يأخذه إلا ما تعلق بالحس ورمز إلى الفم، وكان من لطف الله بي أن جعل طفولتي ماتعة يانعة، وكفل لي في ريق الصبا الهناءة والمسرة، ومن لطفه أن خلى لي والدي وأخوتي، فلم أفجع في أصل من أصولي، ولم أرزأ في فرد من حاشيتي إلا من توفى في المهد، وسمك ستار النسيان بيني وبينه، وتراخى دون ذلك حبل الزمان

وإذ تتصل النفس بهذا، ويمد لها في أسباب المرح، وأغدو في صحبة من لذاتي متهللين مفاريح، لا يكون علي من حرج إذا زعمت أني كنت أرى قبور السابقين من أهلي وعشيرتي بعين لا ترى في الحياة إلا كل سار بهيج، وأنها كانت مني بمنزلة الأرجوحة ومقام الألعوبة، ألهو بألوانها وتزويقاتها كما ألهو بأحماض الحياة الأخرى

ولا احسبني بكيت مرة ولا اعتبرت ولا استعبرت إذ أطالع رقيم قبر تدلى صاحبه إليه لعهد قريب

لقد رأيتني من الموت بمنجاة، فما فكرت فيه، ولا استكنهته، ولا عرفت شيئا عن برزخ الموتى، ولو أني جواب في مدينة الأموات!

بيد أن شيطاني لقد ذهب في غلوائه بعيدا، فحدثني بالخلود حين أجول في مدينة الأموات أرقب صخور مقابرهم تنهشها يد الزمان، وتأتي على حجارتها وطلائها عاديات البلى، فتهدها هداً وتمهدها أجداثاً لقوم آخرين

لكنما كان يتغشاني في بعض الحين خشوع لا يستعلن لي كنهه ولا يستبين أمره، فأوقن في

ص: 14

نفسي بأني لا محالة مائت فمنتقل إلى غير هذه الدار، وأني ملاق حسابيه، ولا يتداخلني الشك في ثواء الجنة!

ولعل مرجع هذا إلى العقيدة، وإلى الأوالي من التلقينات الدينية، ورد كل منزع في نفس الإنسان إلى أصله ليس في العلم بكثير

وأيفعت وطر شاربي، وعراني ما يعرو الشباب عادة من اجتراء العقل ومحاولته بسط نفوذه على سائر مشاعر الإنسان ما تعلق منها بالحس، وما تعلق بالروح والمعنى، فأقلعت عن زيارة المقابر في يوم العيد، وعدلت بهذا الدافع عن جهته، وصرفته إلى ما حسبت إنه خير من مشاهدة قبور الموتى المكتئبة الباهتة، ولم تكن في ديدني لتعدو صورة من صور الحياة تغاير ما يقع عليه الحس من ألوان الصور. غير أن الكآبة رانت على قلبي فرأيتني أنزع إلى الاعتكاف في الدار طوال أيام العيد، وكأنما كنت أستحس في ذلك معنى العيد!

وطال عهد الهجر بيني وبين مدينة الأموات وأهلها الثاوين

ثم اكتاد لي الدهر مصطنعاً مع القدر مؤامرته، فأوقع بي الضربة على غرة مني، وتسلل الموت إلى أبي في موهن الليل إذ الناس رقود كأنه خشي أن يختلسه مني على أعين من الناس!

عرفت إذ ذاك معنى الموت، وفهمت إنه لحياة بداية، ولحياة نهاية، وأدركت إنه لابد مخترمي على وجه الأيام، وإن وصلت بالعمر أحقاب وأجيال وأعوام، وما اخضل عود إلا ليختضر، وما طال عمر إلا ليقتصر!

كذلك قضى الله بقضائه الحق، وخرجت يوم العيد أسعى أول ما أسعى إلى جدث والدي أترحم عليه وأقرؤه السلام، وإذ أقف منه على مقربة إذا بالدمع ينبجس ويطفر، وإذا بالصدر يشهق ويزفر، وهذه الأحشاء تغلي وتفور، وهذه الأرض ترتج بين يدي وتمور، والفؤاد مني يتواثب ويصطرع، والكبد تكاد تنشعب وتنصدع. ويا له من يوم عصيب!

ما أقسى العيد على القلب الوجيع!

يا لله لقد تغير المعنى الذي كنت أحس يوم كنت أرى المقابر إلى معنى آخر لا يتعلق به الوصف حين شهدت مقبرة أبي! وفقهت مغزى غير ما عرفت من حكمة زيارة القبور، إنها تعني رسالة الموت إلى الحياة، أو خطبة الأموات في الأحياء واستمداد معنى الحياة من

ص: 15

الفناء

وعظتني يا أبي حياً وميتاً، ولقد والله كنت في موتك أبلغ مقالة من منطق الحياة والأحياء، ومن يأس الموت بعثت في قلبي حي الرجاء، فهمت منك في موتك ما كنت أسمعه منك في حياتك، واستوحيت من صمتك ما كنت أعرفه في كلامك، وفقهت من همودك ما ألهمتني حركتك.

كنت في الممات بليغاً مبيناً أن كاد ليقذف في روعي أني أسمع مقال خطيب، أو قصيد شاعر طويل النفس قوي الجنان

وكنت أعيب على من يبني القبور، هذه النصب يقيمونها كالأوثان، فترد الذهن إلى ما كان الأقدمون يسوون لعبادة غير الله، حتى إذا مات أبي رأيت غير ما كنت أرى بعين القلب والعاطفة، لا بعين العقل والتفكير

أقاموا له بين الأجداث قبراً فكأنما هو تذكار لقلبي وأثر لوجداني، وإذا أنا أحس لهذا الحجر القائم حقيقة تقول إنه قائم في قلبي تضمه أضالعي، وكأنه موسيقى الوجدان، أو سطر الحياة في لوحة الزمان.

لقد صار لي بين المقابر بنية، وفي أرض الأجداث سهم، وثوى أبي إلى ربه راضياً، فهو في الأموات ميت، ولكنه في نفسي حي تزجي إليه تحيتي في يوم العيد

(الرمل)

منصور جاب الله

ص: 16

‌هنريك إبسن

الروائي النرويجي

للأستاذ وديع فلسطين

يجد الباحث السيكولوجي في حياة هنريك إبسن أديب نروج الأول، مادة لا تنضب، ومعيناً لا يجف من الدراسات النفسية والانفعالات القوية التي قلما تتوفر في حياة رجل سواه.

ولد هنريك، أظهر شخصية في الأدب المسرحي الحديث، عام 1828 في ميناء سكين الصغير على الساحل الجنوبي لنروج، وهو ميناء وهبته الطبيعة جمالاً، أضفى على جباله زهواً وشموخاً دونه زهو جبال لبنان وشموخها

وفي كنف والده، التاجر الثري، قضى هنريك سني عمره الأولى متمتعاً بصيت أسرة من أعرق الأسر وأشرفها. ولكن الدهر قلب، والحال لا تدوم، والنعمة ليست مقيمة. فما أن بلغ الثامنة من عمره حتى مني أبوه بضياع ثروته كلها في عملية تجارية خاسرة، واضطرت الأسرة إلى الانزواء في مزرعة صغيرة على مشارف القرية. وازدادت أحوال الأسرة سوءاً على سوء، وتتابعت عليها الملمات من كل حدب وصوب، فلجأ إبسن إلى معاقرة الخمر يدفن همومه بين كؤوسها، وينسى محنه بين قرع أقداحها. وإزاء الفاقة القاتلة والحاجة الملحة، وإزاء هجرة الأصدقاء وتنكر الدهر، انكمش هنريك الصبي المرهف الحس إلى داره، وعشق الوحدة، وانطوى على ذاته يبثها همومه ويمعن في دراستها وفحصها. فأخذ يحاول تنمية الرسم والتصوير فيه. ولكن الفقر حال دون تقدمها. فهجر الرسم إلى دراسة الطب. وفي الخامسة عشرة من عمره عمل في صيدلية بمدينة جرمستاد. فكان يعاون صاحبها في مد سكان المدينة الثمانمائة بما يحتاجون إليه من مختلف الأدوية ومتنوع العقاقير، وظل خمس سنوات في تلك المدينة يجرع الحياة بالكد والكدح والعناء، ويقضي أيامه تحت رحى الفقر الساحق والعوز المضني، فنمت فيه روح الثورة الفكرية، وترعرعت بين جنبيه روح الانقلاب على العرف والرغبة في التحرر من قيوده

وكان إبسن خلال هذه السنوات الخمس يدرب نفسه على مراس أنواع الكتابة المختلفة، وخرج من ذلك عام 1849 بمسرحيته الأولى (كاتالين) وهي مسرحية شعرية ثورية طبعت بعدئذ على نفقة صديق له

ص: 17

ثم قصد (إبسن) كريستيانا بمدينة أسلو، للالتحاق بإحدى الجامعت، وهنالك تعرف بعدد من الشبان الأوغاد ومن بينهم (بجورنسن) ? الذي بادله صداقة بصداقة ولازمه إلى نهاية عمره، غير أن صداقتهما كانت تتعرض بين الحين والحين إلى الخصام الوقتي والجفاء القصير الأمد

وبما لصديقه أول بل لاعب الكمان الأشهر من نفوذ، عين هنريك إبسن عام 1850 في المسرح الصغير بمدينة برجن، وكان يقوم بدور شاعر المسرح وراويته، ثم عمل في لجنة مطالعة المسرحيات، وفي لجنة كتابتها، ثم عمل مديرا للمسرح، فأصاب من كل هذا اختباراً مهد له سبيل الظهور، وإلماماً بدقائق المسرح وتفصيلاته مكنه من تصميم المناظر في روائع أدبه، كمهندس بارع ومفتن قل من يجاريه أو يدانيه. . .

وفي عام 1858، تزوج إبسن من الآنسة سوزانة تورسن وهي فتاة من برجن ذات شخصية قوية وعقل راجح؛ فكرست حياتها لمساعدة زوجها على تحقيق أمانيه، وتوسيع مدى نشاطه. فكانت له نعم الزوج، ونعم الرفيق. . .

وإذ كانت حرب دانماركة مع بروسيا مشتعلة الأوار عام 1862 غادر هنريك إبسن نروج إلى روما مزوداً بإعانة حكومية قدرها أربعمائة من الجنيهات. وفي تلك الحاضرة الخالدة كعبة الإمبراطورية الرومانية الزائلة، ازدهرت في إبسن ملكة الشعر وتأصلت، وتغير أفق خياله متخذاً لوناً جديداً وأسلوباً جديداً. فكانت أول ثمرة نضجت له في هذا المهجر مسرحيته الشعرية التي امتدحت حال ظهورها، واستقبلت من الجمهور بنهم عجيب. فأخذ إبسن يصعد درجات الشهرة الظافرة والنجاح الأكيد بخطوات حثيثة وقدم لا تلين، إذ سرعان ما أخرج للعالم مسرحيته الشعرية الخيالية التي تعد أجود ما كتب وأفضل قطعة أدبية أخرجها للوجود. وقد اقتبس إبسن مناظر هذه الرواية من مسقط رأسه (سكين) فعرض جماله ونوه بسحره. وجسم هضابه ووديانه

وفي عام 1868، كانت الحوادث تنذر بسوء، وتهدد سلامة إيطاليا. فانتقل كاتب نروج الأول إلى مدينة درسدن التي جعلها مقراً وملاذاً لسنوات طوال، شهدت مولد طائفة من الروايات الاجتماعية، ورأت كيف يشيد إبسن مجده ويوطد مركزه الأدبي الذي انفرد به في عصره

ص: 18

والفقر الذي كان يلازم هنريك ملازمة الظل، ويطارده مطاردة الصائد للظبي، خر أمام الشهرة صريعاً مقهوراً، وأقلع عن تتبعه راجعاً عن تعقبه

وفي عام 1891، عاد كاتبنا إلى بلاده بعد سبع وعشرين سنة من النفي الاختياري، واستقر في كريستيانا ما بقي له من العمر. وكانت أمواج الحياة قد سكنت، ولججها قد عاودها السكون. فأخلد إبسن إلى شيخوخة هادئة مطمئنة، وقل ظهوره في المجتمعات إلا في مناسبات تمثيل رواياته، أو حفلات تكريمه، ومات عام 1906 وهو في الثامنة والسبعين

ذلكم هو إبسن، أديب نروج الممتاز. ولسوف تذكره الأجيال القادمة كشاعر ومفتن استطاع أن يخلق أشخاصا أحياء، وأن يكسو أفكاره المسرحية برداء من الجمال لا تبليه الأيام. لقد كان إبسن بحق البناّء الرئيسي للدراما الحديثة.

وديع فلسطين

بجريدة الأهرام - القاهرة

ص: 19

‌وجهة نظر.

. .

للأستاذ محمود عزت عرفة

عندما استويت على مقعدي في مرسم المدرسة وعرفت المهمة التي كلفنا بها أستاذنا، أدركت في لحظة أني مغبون مغبون.

كان أمامي نموذج مجسم للفيل علي أن أرسمه كما يتراءى لي وأنا في مجلسي دون ما تصرف ولا تغيير. ولم أكن أشهد لهذا النموذج خرطوماً ولا رأساً ولا قائمتين أماميتين، دعك مما يتصل بكل هذا من صدر وعنق وأذن وعين وناب. . . حتى جفرتا الفيل على انبعاجهما لم تكونا من عيني بمرأى.

وعجبت كيف يكون منظر فيلي بدون هذه الأشياء جميعا. إنه لن يكون أكثر من خطين غليظين بينهما خط قصير دقيق. والتمعت إذ ذاك في ذهني صورة المقصلة التي ينصبها الجزارون في أسواق القرى. لقد كان كل ما ينقصني هو تغيير الموضع لتحسين وجهة النظر؛ ولا أعني بهذا تغيير موضع الفيل، إذ كان أقل عبث به كفيلاً بأن يضع زملائي جميعاً في صفوف المغبونين بعد أن فرغوا من خططهم، وأوغلوا على الورق في تخطيطاتهم.

وبدا لي أن انتقل إلى موضع زميل غائب، فوضح لي منه ما فيه الكفاية مما كان محتجباً عني، ثم بدأت أرسم

تلك تجربة مرت بي في عهد الطلب كما يمر أمثالها بالكثيرين؛ والواقع أن وجهة النظر شيء له قيمته الكبرى في الحياة، وإن التأنق في اختيار هذه الوجهة وانتقاء أحسن أوضاعها لخطوة أساسية ينبغي ألا نغفلها، إذ عليها يتوقف ما نأتيه من الخطأ والصواب جميعاً

وكما يختلف الجسم باختلاف النظرة إليه جمالاً وقبحاً، وضوحاً وإبهاماً، ضخامة وضؤولة؛ كذلك يختلف الرأي باختلاف عمل العقل فيه، وهو يقاس في مبلغ سلامته أو ضعفه، وبلوغه أو عجزه، واستقامته أو عوجه، على مقدار معالجة التفكير لعناصره واستيعابه لجميع جزئيات صوره. وإن الخطأ في التقدير الحسي لأمر من السهل إصلاحه بالرجوع إلى التجارب الحسية السابقة والنظر في المكتنز من نتائجها؛ فمعرفتي بأوضاع الفيل

ص: 20

المختلفة هي التي هدتني إلى موضع النقص عند أول نظرة ألقيتها إليه من وراء، وبالتالي هدتني إلى إصلاح هذا النقص بتغيير الذي كنت أتخذه من نموذجه. أما الخطأ في التقدير الذهني فأمر يتعذر إصلاحه إلى حد كبير بالإضافة إلى سابقه، لأن الفكرة الواحدة ليست إلا حلقة مفردة من سلسلة طويلة متصلة من الأفكار. وليس الخطأ الأخير في تقدير أمر ما إلا نتيجة أخطاء متكررة سبقت، أو هو شعبة حديثة من الغلط لأصل عميق غائر الجذور من أغلاط متعددة متباينة، والحنظل لا ينبت إلا الحنظل. . .

وإن مراجعة الفكرة الأخيرة لمما يقتضي مراجعة الأسباب التي أنتجتها؛ وهذه الأسباب ليست إلا خلاصة المبادئ والقوانين العقلية التي ارتضاها الإنسان لنفسه واعتنقها، لا جملة واحدة، ولكن مبدأ مبدأ؛ وكل مبدأ منها كان الأساس لما تلاه والنتيجة المحتومة لما سبقه. أو هي - على الأقل - الخلاصة المصطفاة لوحدة تامة مستقلة من هذه المبادئ والقوانين. . .

لذلك يبدو من المعتذر أن يصلح الإنسان خطأ نفسه بنفسه، إلا أن يكون من غير المتعذر على ناسج الثوب أن يستل الخيط الذي أخطأ في تقدير وضعه، دون أن يخل بأوضاع ما جاوره من الخيوط أو يشوه من ترتيبها. وإنما يهون الأمر علينا كثيرا أن نستعين على إصلاح نتائجنا المغلوطة بوسائل غيرنا الصحيحة. ويكون ذلك بالرغبة الشديدة في الاقتناع، والتهيؤ التام لقبول وجهات النظر وإن اختلفت، ثم التجرد الكامل لها بالفهم والإحاطة والتقدير والتمحيص؛ حتى ينبثق خلالها نور الحق، وتنضرح شوائب الريبة فيها عن محض اليقين. . .

والمثل الجلي لاختلاف الحواس في التقدير - تبعا لقصور الفحص أو قلة التعمق فيه - تبسطه لنا هذه القصة التي ساقها الغزالي في إحيائه عن جماعة من العميان ذهبوا ليتعرفوا كنه الفيل وقد أقدمه الملك إلى بلدهم. . . فلمسوه بأيديهم جميعاً في مواضع من بدنه مختلفات، ثم انصرفوا وقالوا قد عرفناه! ولما استوضحهم إخوانهم حقيقته قال الأول، وكان قد لمس رجله: الفيل كأسطوانة من أساطين المسجد، خشنة الظاهر وفيها بعض اللين. . . وقال الثاني وكان قد عثر بنابه: لعمري إن الفيل لم يبلغ قدر الأسطوانة وإنما هو كعمود صغير، ثم إنه ناعم الملمس غير خشن، وصلب لا لين فيه. وتكلم الثالث فقال: بل هو مثل جلد عريض غليظ خلا من شبه الأسطوانة ومن النعومة والصلابة جميعاً. فخالف زميليه

ص: 21

فيما قالاه؟ ولا غرو فقد كان يصف - وحده أذن الفيل

ولو تأملنا قليلا لوجدنا الجميع هنا صادقين في وصف ما عرفوا، ولكنهم مقصرون عن الإحاطة بالحقيقة مبلغ تقصيرهم في وسائل التعرف إليها؛ ولو أنهم عاودوا اللمس المستوعب لأعضاء الفيل، لتسنى لهم إذا أن يعرفوا أقصى ما تهيئه لهم وسائلهم المحدودة من اللمس، وهكذا الشأن في كل حاسة يستخدمها الإنسان في التعرف إلى ما يحيط به من حقائق الأشياء. . .

. . . ونعود إلى النظريات العقلية فنقول إن إصرار الإنسان على الخطأ في فكرة ما، ليس معناه العناد أو المكابرة دائما؛ وإنما قد يصدر ذلك - وهو الأكثر - عن إيمان بالرأي عميق وثقة بصحة التفكير ثابتة. ولا يلام الإنسان على هذا الإصرار إلا بقدر ما يصده ذلك عن قبول النقاش أو يحول بينه وبين فحص أراء الغير بالعقل المجرد.

ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن كل فكرة خاطئة لا تخلو من ناحية صواب - ولو ضئيلة - يستمسك بها صاحبها؛ وهي التعليل الحق لهذا الإصرار الذي نشاهده منه، ما دمنا على ثقة من عقله ومن خلقه جميعاً. وفي الواقع إن الخير المحض أو الشر المحض شيئان منعدمان في هذا الوجود؛ وكذلك الصواب والخطأ. . . لا يخلو أحدهما من شائبة ولو يسيرة تلحقه من الآخر. ولقد يتفق أكثر الأدباء على أن المعري كان من أزهد الناس في الحياة، وأعزفهم عن طلب الشهرة والتماس الجاه والنبالة فيها، ثم يأتي من يخالفهم في ذلك ويقول: بل الذي عندي أن الرجل كان من أكلف الناس بالجاه، وأبعدهم همة في طلب المجد والتماس نباهة الشأن. . . أليس هو الشاعر الذي يقول:

ذَرِ الدنيا إذا لم تحظَ منها

وكن فيها كثيرا أو قليلا

واصبحْ واحدَ الرجلين: إما

مليكاً في المعاشر أو أبيلا

ولو جَرَت النباهةُ من طريق الْ

خمولِ إلىَّ لاخترتُ الخمولا

فها هو ذا قد ترك دنيا الناس لأنه فقد الحظوة فيها، ولكنه ملك دنيا أعظم من الجاه العريض والشهرة المدوية. . . دنيا لم يمتلكها من الناس إلا القليل. ولقد عجز عن أن يكون ملكاً نابه الذكر، فكان أبيلا - أو راهباً - أنبه من سائر الملوك ذكراً، وأخلد منهم على الأيام اسماً. . .

ص: 22

إنه اتخذ من الخمول سبيلاً إلى النباهة كما قال، فأين وجه الزهادة في كل هذا؟

تلك حجج تتقارع ولكل منها سنده من دليل وعماده من برهان؛ ولكن التسليم بضرورة التفاهم وتبادل الإقناع والاقتناع أهم من كل هذا، وأعظم جدوى في تعرف الحقائق على اختلافها

ولنعرض هنا نموذجاً طريفاً نرى فيه كيف تلتبس الحقائق الواضحة على بعض العقول الحصيفة، حتى يكشف النقاش عن جوهرها؛ فلا يبقى ثمة إلا التسليم والاقتناع، متى خلصت النية وكان الحق هو الهدف المقصود والغاية المبتغاة

قالوا: حضر الوجيه النحوي بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله. فجرى حديث المعري فذمه الخازن، وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيه فغسلته. فقال له الوجيه: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب (نقض القرآن) فقال له: أخطأت في غسله! فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه؛ واستشاط أبن هبة الله وقال له: مثلك ينهى عن مثل هذا؟! قال: نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيراً منه أو دونه. فإن كان مثله أو خيراً منه - وحاش لله أن يكون ذلك - فلا يجب أن يفرط في مثله. وإن كان دونه وذلك ما لاشك فيه، فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه. فاستحسن الجماعة قوله، ووافقه أبن هبة الله على الحق وسكت

هذه وجهة نظر سديدة أبداها الوجيه، وقد صحبها اعتراف بالحق أعظم منها سداداً، وأجمل في النفوس موقعاً. لكن أين من يراجع اليوم نفسه مثل هذه المراجعة، ويقيس رأيه برأي غيره في مثل هذه الدقة؛ ثم يقتنع شاكراً إن أخطأ، ويقنع متلطفاً إن أصاب. وهو في كل ذلك يأبى على نفسه اللجاج، ويأنف لها من المكابرة، ويتكره أن يكون كمن أنشد فيه الجاحظ قول الشاعر:

وأخلفُ من بول البعير فانه

إذا قيل للإقبال أقبلَ، أدبرا!

خلافاً علينا من فَيالةِ رأيه

كما قيل قبل اليوم: خالف فتُذكرا

(جرجا)

محمود عزت عرفة

ص: 23

‌العباس بن الأحنف

للأستاذ محمود المعروف

في العصر الذي ماج بالعلماء، وزخر بالفلاسفة والشعراء والكتاب، حيث العلم في أزهى أيامه، وحيث (بغداد) قبلة الشرق، فاتحة أبوابها، يؤمها خلق كثير من مختلف بقاع الدنيا، وظل الخلافة ممدود، وتاج بني العباس معقود على جبين (الرشيد) في هذا العصر المشرق؛ لمع نجم شاعرنا، وتألق في سماء الشعر؛ فكان موضع إعجاب معاصريه، وفي مقدمة الشعراء الذين أنجبهم ذلك العصر

قمعت الفتن السياسية، فهدأ جو السياسة والإدارة، وولى الناس وجوههم شطر الملاهي، وانغمسوا في الترف والأنس. ففي (بغداد) الحانات والقيان، وجميع أسباب الملذات والمغريات. ففي مثل هذه البيئة، التي إن لم تكن فاسدة، فإن فيها مجالا لفساد الأخلاق، عاش العباس بن الأحنف، وقدمه (أبو الفرج) في (أغانيه) شاعراً مطبوعاً له مذهب حسن، وديباجة مشرقة، ولشعره رونق ولمعانيه عذوبة ولطف؛ وهذا الوصف قد يغلب على أكثر الشعراء، فهو لم يزدنا علماً بهذا التعريف الذي عرف به الكثيرين من الشعراء

عاش شاعرنا بين قوم يتنافسون في المديح طمعاً بالمال والجاه، ويضرمون نار الفتنة بين العدنانية والقحطانية بفخرهم وهجوهم. ولكنه لم يجاوز الغزل إلى ضرب آخر من ضروب الشعر، وميزته تكاد أن تكون معدومة في ذلك العصر. وأن الباحث ليعجب كيف لم يتأثر هذا الشاعر بما كان حوله من ملذات الحياة وزينتها. وكيف أنه لم ينتم إلى حزب سياسي، أو يشايع أميراً، أو يتملق إلى رجل خطير شأن معاصريه من الشعراء. وفي الحين الذي نرى فيه أن غيره (كأبي نؤاس) و (الخليع) و (صريع الغواني) وغيرهم قد ألقوا بقلوبهم وعواطفهم في نيران الشهوات والملذات، وأسرفوا في المدح والهجاء طمعاً بتأمين رغباتهم وسد احتياجهم. نرى (أبن الأحنف) ينصرف عن كل ذلك إلى الغزل النبيل في حب فتاة واحدة لم ينقلب عليها قلبه، ولم تلتفت عينه إلى واحدة غيرها. فهو في حبه كشعراء (بني عذرة) من حيث الثبات على حب واحد

وقنع من العمر بقصيدة يودعها ما عنده من الآلام، وأبيات من الشعر يشكو فيها ما يلقاه من سهد، ويشرح فيها ما يدور في خلده من خواطر يثيرها الحزن وتبعثها الأشواق

ص: 25

ردد في جميع شعره اسم (فوز) وكنى أحيانا بـ (ظلوم) ويستدل من هذا إنه لم يتصنع الحب كعمر بن أبي ربيعة الذي يموج ديوانه بأسماء عشرات الملاح، قد وزع عواطفه عليهن فاعترى أكثرها خمول وفتور. والثبات في الحب أضمن لخلود الشاعر في فراديس الوجدان من التنقل هنا وهناك، فتفنى مشاعره، وتذوب إحساساته، فإن أبدع فإلى أجل معلوم

شغلت (فوز) شاعرنا فلم يندفع في ذلك التيار الجارف الذي اندفع فيه أولئك الشعراء و (فوز) كانت أمنيته الوحيدة في حياته، وشغله الشاغل عن كل ما يحيط به من صور العبث والمجون، فلنستمع إليه يقول:

يقولون لي واصل سواها لعلها

تغار وإلا كان في ذاك ما يسلى

ووالله ما في القلب مثقال ذرة

لأخرى سواها إن قلبي لفي شغل

إننا حين نقرأ شعر غيره من معاصريه لا نكاد نخرج من ضجيج سمار إلا ونأتي إلى عزف وقيان، وما نكاد نخرج من خان غص برائديه إلا وجدنا أنفسنا في لجب عصابة تطرق أبواب خمارة بعد هجمة من الليل، وقد فرغت أوانيها من الخمر والشراب

ونقرأ شعره فنجد أنفسنا في جو هادئ من الحب والظرف والجمال. في جو يختلف عن ذلك الجو اختلافاً كبيراً، وفي عالم كله لوعة صادقة وإحساس مرهف، وفي دنيا مترامية الأطراف من الأماني والأحلام. قلنا إنه انصرف عن جميع نواحي الشعر إلى ناحية الغزل، وقلما نجد بين الشعراء في مختلف العصور - والعصر العباسي خاصة - رجلا مثله انصرف عن أمور دنياه بتصوير عواطفه بأبدع الألوان، وتفصيل ما انطوت عليه نفسه الرفيعة في شعر سلس بليغ يستهوي القلوب، ويأخذ بمجامع الألباب، وآثاره تكاد أن تنطق بأنه أحرز سبق المتقدمين والمتأخرين في هذا المضمار. وقد شهد له بذلك أكثر المؤرخين والمفكرين، ومنهم الجاحظ. وقد قال:(لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاماً وخاطراً ما قدر أن يكثر في مذهب واحد من الشعر لا يجاوزه، لأنه لا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعراً لزم فنا واحدا لزومه فأحسن وأجاد. . .)

وقدمه (المبرد) في كتاب (الروضة) على نظرائه، وأطنب في وصفه، ومما قاله: (كان العباس من الظرفاء ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلاً ولم يكن فاجراً، وكان ظاهر النعمة

ص: 26

شديد التظرف وذلك بين في شعره، وكان حلواً مقبولاً غزير الفكر واسع الكلام)

وهاهو ذا يستأذن أحبابه بالزيارة فيقول:

أتأذنون لصبّ في زيارتكم

فعندكم شهوات السمع والبصر

لا يضمر السوء إن طال الجلوس به

عفّ الضمير ولكن فاسق النظر

ويسترسل العباس في ظرفه بعد أن يشيع حبه وشغفه بفوز، وقد مرت به (سائلة) فقال:

ألم تر أن سائلة أتتني

فقالت وهي في طلس بوالي

ألا صدق عليَّ بحق (فوز)

فقلت لها خذي روحي ومالي

وتكتب إليه (فتاة) أن يصلها فيقول:

فقلت لها إليك هواك عني

فأني عن هواك لذو انشغال

ومالي توبة إن خنت فوزا

ولم تكن الخيانة من خصالي

إذا ذكر النساء بكل حال

فهنّ لها الفدا في كل حال

وكان بينه وبينها مواعيد ورسائل ولقاء، وقد كانت تحدث بينهما بغضاء أحب إلى النفس من الصفاء، وقد شرح كل ذلك في شعره، فديوانه مرآة تنعكس عليها نفسيته الرفيعة، وأحاسيسه المرهفة فيما يقع بينهما من حوادث ومغامرات، فهو شاعر محزون في حالتي الرضا والجفاء. فلنستمع إلى قوله:

أبكي إذا سخطت حتى إذا رضيت

بكيت عند الرضا خوفاً من الغضب

أنوب من سخطها خوفا إذا سخطت

فإن سخطتُ تمادت ثم لم تتب

وهو الذي يقول:

سأهجر إلفي وهجراننا

إذا ما التقينا صدود الخدود

كلانا محبّ ولكننا

ندافع عن حبنا بالصدود

وابن الأحنف كلف بتسجيل حوادثه في شعره، وإني لأحسب ديوان شعره خير تاريخ له يستمد منه الباحث حياته التي كان يحياها، فمن ذلك ما كان يعترض حبه من مقاومة أهله وأهل (فوز) وفي ذلك يقول:

إلى الله أشكو أن فوزا بخيلة

تعذبني بالوعد منها وبالمطل

وأني أرى أهلي جميعاً وأهلها

يسرُّهم لو بأن حبلك من حبلي

ص: 27

فيا رب لا تشمت بنا حاسداً لنا

نراقبه من أهل فوز ولا أهلي

وأما حوادثه مع بعض النسوة اللاتي كن يضايقنه وما لهن غرض غير تعذيبه فكثيرة جدا وظريفة إلى حد بعيد، وربما بلغ به الوجد في بعض الأحايين أن يستعدي عليها أهلها، وما عرفنا شاعراً صنع قبله ذلك ولا قال:

أيا أهل فوز ألا تسمعون ألا

تنظرون إلى ما لقينا؟!

ألا تعجبون لفوز التي؟!

تميل وتصغي إلى الكاشحينا

قد عجب الناس من أمرنا

وأنساهم قصص الأولينا

وصرنا حديثا لمن بعدنا

يحدث عنه القرون القرونا

وقوله هذا يذكرني ببعض أبيات لشاعر شاب جنّ في هواه فأسموه (مجنون بهية) أذكر منها:

شكتني بالأمس إلى أمها

ما أعظم الخطب وما أسهله!

يا أمها لا تسمعي قولها

فحبها للقلب قد زلزله

كوني شفيعي في الهوى عندها

فأنت لي سيدة مفضله

ولعل هذا الشاب المسكين - وقد قرأت شعره كله - قد ارتبط بما ارتبط به شاعرنا من حوادث وآلام، فإني قد رأيت في شعره صوراً من صور العباس بن الأحنف، ولو كنت ممن يؤمنون بتناسخ الأرواح لم أشك في أن روح إبن الأحنف قد حلت في هذا الشاب المسكين. أقول هذا لأضرب مثلا على أن الكثيرين من الذين صدقوا في هواهم قد اتصلوا اتصالاً مباشراً بروح شاعرنا الظريفة

دون هذا الشاعر حوادثه في شعره إلى جانب تصوير عواطفه فأصبح ديوانه مجموعة فريدة من أخبار ظريفة محببة إلى النفس وعواطف صادقة لم تشبها شائبة من التكلف والصنعة، فأي لوعة أصدق من هذه اللوعة؟!

أتذهب نفسي لم أقل منك نائلاً

ولم أتعلل منك يوماً بموعد؟!

فإن جاء مني بعض ما تكرهينه

فعن خطأ والله لا عن تعمّد

وقوله:

صرت كأني ذبالة نصبت

تضيء للناس وهي تحترق

ص: 28

وأكثر في شعره شكواه من تأخير كتب (فوز) والرد على رسائله، وله في ذلك مذهب لطيف يفيض رقة وجمالا:

أيا من لا يجيب إذا كتبنا

ولا هو يبتدينا بالكتاب

أما في حق حرمتنا لديكم

وحق إخائنا رد الجواب؟!

وقوله في قصيدة ثانية:

وكنت إذا كتبت إليك أشكو

ظلمت وقلت ليس له جواب!

فعشت أقوت نفسي بالأماني

أقول لكل جامحة غياب

وأن الود ليس بكاد يبقى

إذا كثر التجني والعتاب

خفضت لمن يلوذ بكم جناحي

وتلقوني كأنكم غضاب

وللمؤرخين وسائر أئمة الأدب العربي القديم آراء حسنة في هذا الشاعر المجيد، فقد سئل (الأصمعي) عن أحسن ما يحفظ للمحدثين فقال. قول العباس بن الأحنف:

لو كنت عاتبة لسكن روعتي

أملي رضاك وزرت غير مراقب

لكن مللت فلم تكن لي حيلة

صد الملول خلاف صد العاتب

وكان (الواثق) يتمثل بقوله:

عدل من الله أبكاني وأضحكا

فالحمد لله عدل كل ما صنعا

وقال (احمد بن إبراهيم) رأيت (سلمة بن عاصم) ومعه شعر العباس وقلت: مثلك - أعزك الله - يحمل هذا فقال ألا أحمل شعر الذي يقول:

أسأت إذ أحسنت ظني بكم

والحزم سوء الظن بالناس

يقلقني الشوق فآتيكم

والقلب مملوء من اليأس

وقال (الواثق) ذات يوم لجلسائه: أريد أن أصنع شعرا معناه أن الإنسان كائن من كان لا يستطيع الاحتراس من عدوه فهل تعرفون؟ فأنشدوه ضروبا من الشعر فقال: ما جئتم بشيء مثل قول العباس:

قلبي إلى ما ضرني داعي

يكثر أسقامي وأوجاعي

كيف احتراسي من عدوي إذا

كان عدوي بين أضلاعي

وقال (ابن المعتز): لو قيل لي ما أحسن شيء تعرفه لقلت قول العباس إذ يقول:

ص: 29

قد سحّب الناس أذيال الظنون بنا

وقسم الناس فينا قولهم فرقا

فكاذب قد رمي بالحب غيركم

وصادق ليس يدري إنه صدقا

وكان (الرشيد) يعجب بشعره ويستأنس لحديثه، وصادف مرة أن خرج إلى (خراسان) فأمر بخروج العباس في موكب الخلافة، وطال مقامه في خراسان وشخص منها إلى (أرمينيا) والعباس معه، فهزه الشوق إلى (بغداد) وطن صبواته، فاعترض أمير المؤمنين وأنشده:

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

ما أقدر الله أن يدني - على شحط - سكان (دجلة) من سكان (جيحانا)؟!

ليت الذي نتمنى عند خلوتنا

إذا خلا خلوة يوماً تمنانا؟

فأذن له (الرشيد) بالرجوع

ومات العباس بن الأحنف، وإبراهيم الموصلي، والكسائي في يوم واحد. فرفع ذلك إلى الرشيد فأذن للمأمون أن يصلي عليهم بالناس فبدأ بالصلاة على العباس ولما انتهت مراسيم الدفن تقدم من المأمون أحد رجال حاشيته واستخبره عن سبب ذلك. فقال المأمون:

كيف لا أبدأ بالصلاة عليه وهو الذي يقول:

سمّاك لي قوم وقالوا إنها

لهي التي تشقى بها وتكابد

فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم

إني ليعجبني المحب الجاحد

وكانت وفاته سنة (192هـ) وكان له من العمر (60) سنة ودفن في بغداد.

(بغداد)

محمود المعروف

ص: 30

‌الشوامخ.

. .

للدكتور محمد صبري

كان المرحوم شوقي يقول: (إن الذين لم يصلوا أعداء للذين وصلوا). والأولون كثيرون في مصر وفي كل بلاد الله. في كل زمان ومكان، وكان البحتري ينافسه عند الخلفاء طائفة من الشعراء المهرجين الذين كانوا يأخذون الجوائز رغما من حقارة شعرهم، وكان البحتري يضج من هذه الحال ويكثر التبرم والشكوى، وهو القائل:

على نحت القوافي من مقاطعها

وما علي لهم أن تفهم البقر

وكان بعض النقاد الفرنسيين يزعم أن فكتور هيجو ليس شاعراً وأنه ينهق نهيق الحمار، على أن هذا وذاك لم يمنع العبقريات في كل جيل من الثبات والاستقرار كالطود الذي لا يعبأ بطنين الذباب وترهات الأغبياء والدجالين وأنصارهم وصنائعهم

على أن الذي يراقب الحالة من كثب في مصر منذ ثلاثين عاما يجد أن الحركة الأدبية قد دبت إليها في العهد الأخير عين الفوضى التي اجتاحت الميدان السياسي فأصبح كثيرون من أنصاف المتعلمين والمتأدبين يشرفون على الصحف ويزنون الكتاب وكتاباتهم بموازينهم، ويفسحون صدورهم للتهريج ومحاربة الأدب العالي الذي يجهلونه. والذي زاد في طغيان تلك الفئة إقبال الجمهور على ما يكتبون. وسواد الجماهير في كل أمة ميال إلى هذا النوع من الأدب الرخيص

فيجب على أدبائنا أن يعالجوا هذه الحال التي أصبحت كالسيل تجرف الحدود وتقلب المقاييس والأوضاع، وهذا الواجب يقع أولاً على عاتق مجلاتنا الكبرى، فمن نكد الدنيا أن تجاري بعض هذه المجلات التيار العام فتفقد اتزانها وتزور عن أهدافها

أقول ذلك بمناسبة مقال نشرته مجلة (الثقافة) لدكتور تخرج حديثا في كلية الآداب وأراد أن يظهر ذكاءه الخارق وأدبه في مقال عن (الشوامخ). فكان كناطح صخرة، وإني لا يضيرني أن يكتب هذا وذاك فالقافلة تسير، وليس من العسير على أي إنسان أن يتهكم ويقول إن الكتاب الفلاني لا يساوي شيئاً، ولكن العسير أن يرزقكم الله قدرة على الفهم ولا ذنب لي إذا لم تفهموا

وإذا كان جل فحول القدماء لم يفهموا امرأ القيس، وقد سجلنا آراءهم تسجيلا كما سجلنا

ص: 31

آراء بعض كتاب العصر، فهل ينتظر من ذلك النفر أن يفهموا ما يكتب عن امرئ القيس، ذلك الغواص المنقب في حدود الطبيعة عن أبدع الصور والمعاني

خير لأولئك أن يثبتوا أولاً أن لهم ذوقا أدبيا أو إدراكا أدبيا قبل أن يتعرضوا لنقد الكتب التي لم تكتب لأمثالهم فلسنا من تجار الأدب الرخيص، ورحم الله الزمن الذي كان يقف فيه كل عند حده، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه

وإني لأسمح لنفسي وأستسمح (الرسالة) في نشر قطعة من كتابي ليقرأها من لم يقرأ الشوامخ، ويحكموا عن بينة:

(وليس لأحد من المتقدمين والمتأخرين تحليقاته في أفق الطبيعة الواسع، وتلك النظرات المترامية بين حباب الماء وكواكب الظلماء. وله في لمعان البرق واختلاجه في السماء آيات لا هي من الوصف الحسي، ولا هي من الوصف الخيالي، وإنما هي تصوير فقط، هي وحي شاعر ملهم عاش وجرب وتأمل في الوجوه فرأى بواسع فطنته وقوة ملاحظته ذلك السبب الدقيق الذي يصل بين اختلاجات النفس البشرية في أبعد أغوارها، وبين كل حركة وسكنة ترتسم على وجوه الرجال وأيديهم. . . ثم أنشأ بين هذه الاختلاجات واختلاجات الطبيعة خيطا من الخيال وصل بينهما وجعل منهما وحدة كبرى، قال:

أصاح ترى برقاً أريك وميضه

كلمع اليدين في حبي مكلل

وقال:

أعني على براق أراه وميض

يضيء حبياً في شماريخ بيض

ويهدأ تارات سناه وتارة

ينوء كتعتاب الكسير المهيض

وتخرج منه لامعات كأنها

أكف تلقى الفوز عند المفيض

لمح الشاعر بحسه المرهف في وميض البرق وتبوجه لمعان أكف المقامر الفائز أو الذي يتناول الظفر بين المقامرين. فوفق بين الحقيقة والخيال، وأبدع أيما إبداع في جمعه بين الكون والإنسانية التي تعيش تحت سقفه، الإنسانية التي تلهو وتجد، وتضحك وتبكي، وتقامر وتغامر. . ،. فإذا اتصلت الأرض بالسماء: الأولى بحركات أيدي لاعبيها، والثانية بلوامع بروقها، وظهرت تلك الصلة الدقيقة بينهما في شعر، كان ذلك الشعر ترجمان الحياة، لأنه يلقى من أعلى عليين شعاعاً على أغوارها).

ص: 32

هذا مثل من الكتابة (الهينة) التي كتبناها، وقد أراد هذا الكاتب أن يتظرف فقال أننا قرأنا (بعض) شعر أمرئ القيس فإذا كانت كتابته ثمرة من تعليم الجامعة وأساتذتها. فقل على الدنيا السلام. . .

محمد صبري

ص: 33

‌يا قارئ الكف!

للدكتور عزيز فهمي

يا قارئ الكف ماذا أضمر القدرُ؟

ولا عليك إذا لم يَصْدُقِ الخَبرُ

وما اهتمامك باسمي؟ هَبْه عنترةً

وهبة زيداً. . . وَجَدِّي عَمْرو أَو عُمَرُ

عليك بالكَفِّ فاقرأ بين أسْطُرها

ماذا يَدُلُّ عليه الخَطُّ والأثَرُ

أطالُع اليمن أن الخطَّ مُتَّصِل

وآيةُ النَّحْس أن الحدّ مُنْبَتِرُ

وما الشِياتُ على جَنْبَيْ ثمانَيةٍ

تبدو كَوَشْمٍ وتخفى حولهَا غُرِرُ؟

خبِّرْ عن الفألِ لا تَجفَلْ فسانِحةٌ

عندي كَبارِحَةٍ والشّر يُنْتَظَر

هل أنْسَأ اللهُ في عمري إلى أجلٍ

يُلِحُّ فيه عليَّ الهَمُّ والكْبَرُ؟

وهل أبَلَّغُ آمالي؟ وأبعدُها

عندي كأقْربها ناء ومُحْتَضَرُ

هبني ظفرت بآمالي على ظمأ

إذا ارتَوَيْتُ فماذا يعقب الظّفَرُ؟

وهل أوَسَّدُ حَزْنا وحضيً

في جَوْفِ هاوِيَةٍ أغْوارُها حَجَرُ

أم هَوْجَلا قَذَفا تنبو براكبها

لا البيدُ عَبْدَها يوماً ولا الحَضَرُ

قفراء جرداء لم تكلأ حشائشها

إلا السواقي ولم يعلق بها مَطَرُ

أم تُقدَح النارُ من حولي فَتْطعَمُنِي

حَيّاً وأشْوى بها أيّانَ تَسْتَعِرُ

أم أنّ في مَسْبَحِ الحيتان مُنْقَلَبي

يومَ الرحيلِ إذا نادانيَ السفَرُ؟

قل ما بدا لَكَ واهْرِفْ غيرَ مُبْتَدِعٍ

فالرجْمُ بالغيب - لو تدري - هو الهذَرُ

اللّحْدُ كاللَّحْدِ والأكفانُ واحدةٌ

ولا خيارَ لميْتٍ حينَ يَدَّثِرُ

والمالُ كالعُدْم لولا أنه أمَلٌ

إنَّ الغَنِيَّ إلى الأموال مُفْتَقِرُ

والسَّعْدُ حالٌ على الإنسان طارئةٌ

(وعند صفو الليالي يحدث الكدر)

لولا التشابهُ في الأقدار ما صَدَقَتْ

عَرّافَةُ الحَيّ، من تُوفَى لها النذُرُ

عزيز فهمي

ص: 34

‌القصص

أين المدفع؟!. . .

للقصصي التركي خالد ضيا

كانت المدافع والبنادق تنطلق وتقذفهم باللهب من كل جهة بين دوي متواصل. وانطلقت من بين الجبال التي قبالتهم قذيفة وطارت في الفضاء تخترقه بسرعة البرق، ثم هوت على الأرض فكان لسقوطها القوي السريع دوي شديد هز الآفاق هزاً عنيفا. ثم قذيفة أخرى فثالثة فرابعة. . . قذائف لا حصر لها ولا آخر تمر من فوق الرؤوس وتتساقط حولهم. تلك السلسة التي لا تنقطع من نذر الموت والهلاك

لم يكن هؤلاء إلا فصيلة من الجند معها مدفع واحد تصعد به في سفح جبل شاهق شديد الانحدار، مخيف المنظر. كانت هذه الفصيلة تقتفي أثر ضباطها وسط ركام متراكب من الضباب، مسترشدة ببريق ظبات السيوف في أيدي الضباط السائرين في المقدمة

كانوا يتسلقون الجبل القائم أمامهم، بكل ما وسعهم من جهد وبلاء. مستعينين على ذلك بأيديهم وأظفارهم بل وأسنانهم - إذا لم تكفهم في التسلق أرجلهم. كانوا - وهم يصعدون في الجبل صخرة صخرة - يؤملون في فتح الطريق إلى الظفر، إلى النصر المبين. استجمعوا كل قواهم، وشدوا الحبال على أعضادهم، وكونوا من أجسامهم المتراصة المتماسكة كتلة واحدة وتقدموا إلى الأمام صاعدين في سفح الجبل القائم أمامهم كأنه سد محكم البناء

كان عثمان في المقدمة. فتلفت حواليه. ورأى هذا المنظر العجيب، ثم شخص ببصره إلى قمة الجبل الذي كانوا لا يزالون يتسلقونه. . . آه. لو وصلنا إلى هذه القمة!. . . لو استطعنا وضع هذا المدفع هنالك!. . .

كان هذا المدفع هو كل شيء لهؤلاء الجنود. كان الأمل الذي تحيا عليه نفوسهم، والجنة التي تحفظ أرواحهم. صرخ عثمان في رجاله:(أسرعوا!. . .) صوتت الحبال على أعضاد الجند، وخطا المدفع خطوة خفيفة إلى الأمام، كأنه العروس ليلة زفافها تمشي الهوينا من الخفر والحياء

كان عثمان في المقدمة. يتبع كل خطوة يخطوها إلى الأمام بصيحة من أعماق قلبه قائلا:

ص: 35

(أسرعوا!. . .). والآن كانوا يصعدون إلى قمة الجبل وهم يجرون المدفع، منبطحين على الأرض، ملتصقين بالحجارة، يحفرون التراب بأيديهم وأظافرهم، يزحفون تارة ويقعون أخرى، يتأرجحون في الهواء. قد تقطعت ملابسهم، وتشققت أيديهم، وتقرحت أعضادهم، وتخلعت أظافرهم. ولكنهم سائرون إلى الأمام دائما، لو استطاعوا أن يخطوا عدة خطوات أخرى إلى الأمام لبلغوا قمة الجبل، ولوضعوا المدفع هنالك، وربما كان هذا المدفع إذ ذاك قائد هذه الفرقة الصغيرة من الجند إلى الفوز والظفر!

كان عثمان في المقدمة، وكان يستطيع الآن أن يشرف على المناظر التي أمامه تماما من مكانه المرتفع. هذه الجبال التي قبالته، وجميع تلك الحصون والمعاقل التي للأعداء. كانت هذه الحصون الصخرية التي تقذفه بالنار واللهب ترى قريبة منه جدا، وكان يخيل لعثمان إنه لو مد يديه لاستطاع أن يقبض على هذه الحصون وتلك المعاقل بيديه القويتين ويضعها إلى صدره القوي المتين، فيسحقها سحقا ويذروها في الهواء. كان العدو قد بصر بهم وجعلهم هدفه، وصوب نحوهم أفواه مدافعه وأخذ يمطرهم وابلا من الصواعق والنيران، ليقضي القضاء الأخير على هذه الشرذمة من الجند الباسل. نظر عثمان إلى أصحابه وتأمل منظرهم فرأى منظرا عجباً. رآهم وقد رفعوا رؤوسهم جميعا إليه كأنهم يحيونه التحية العسكرية. كانت عيونهم متجهة إلى السماء شاخصة كأنها تقول:(إلى الأمام!). ومرة أخرى قال: (أسرعوا!)، وخطا المدفع خطوة أخرى. آه. لو خطوا عدة خطوات أخرى مثل هذه الخطوة لبلغوا قمة الجبل. . .

وعلى حين غرة سقطت بينهم إلى جانب المدفع قطعة كبيرة من السحاب، وبعد لحظة انفجرت هذه السحابة وخرج منها بريق خاطف للأبصار، ومضت فترة لم يستطع عثمان أن يتبين شيئا مما حوله، ثم رأى خلال الظلام المخيم عددا من الجند الساقطين على الأرض. في هذه اللحظة أدرك الحقيقة المرة. وعلم أن العدو - بعد أن نجح في إصابتهم ومعرفة موقعهم - لا يلبث أن يدك هذا الموقع دكاً

كان الموقف حرجاً والوقت ضيقاً لا يسمح بإضاعة دقيقة واحدة؛ فصرخ في أصحابه - وهو يلقي على إخوانه المجدلين على الأرض نظرة كلها حزن وألم ورثاء - قائلا: (أسرعوا!)

ص: 36

انبطحوا على الأرض وجروا المدفع. ولكن يد عثمان استرخت وشعر فوق عضده بشيء بارد. فالتفت بسرعة وحل الحبل عن عضده المجروح وتمنطق به، ثم صرخ في أصحابه يشجعهم ويستحثهم وبذلوا كل ما كان في طاقتهم أن يبذلوه. وتعلقوا بالأرض وتشبثوا بها. إلا أن عثمان في هذه المرة سقط على الأرض وصك أذنيه صوت يقول:(انقطع الحبل!. . .)

فهب واقفا. ورأى وهو لا يصدق عينيه المدفع يتدحرج على سفح الجبل بعد أن أفلت من الحبال التي كانت تمسكه

كان ذهاب هذا المدفع من أيديهم معناه انقضاء كل شيء بالنسبة إليهم ونذير القضاء عليهم قضاء أخيراً

في هذه اللحظة الحرجة ألقى عثمان نفسه على المدفع الذي كان يتدحرج على الصخور وينحدر إلى أسفل الوادي. وتعلق به ولكنه لم يستطع أن يصده ويحول بينه وبين الانحدار فقد كان المدفع ثقيلاً، وكان ثقل المدفع يدفع بجسمه الضعيف أمامه ويجره إلى الوادي العميق المخيف الذي تحته جراً عنيفاً قوياً. فهو تارة فوق المدفع، وتارة تحته، وفي الحالتين ينحدر إلى أسفل الوادي مضطرباً بين الصخور. يجره المدفع إلى حيث الهلاك والدمار. كان عثمان فاقد الوعي، لا يرى شيئا، ولا يعرف شيئا. إلا إنه وهو ينحدر إلى أسفل الوادي بشكل قوي لا مجال لمقاومته - كان يفكر في شيء واحد: ألا يترك المدفع يفلت من بين يديه. . . كان شاخص البصر يحدق تارة في هذه الغيوم التي تكونت من دخان البارود وتلبدت حتى حجبت وجه السماء عن العيون. وتارة أخرى في منظر هذا الوادي العميق المخيف المحفوف بالأهوال. ومرت فترة وهو كذلك، ثم لم ير شيئاً ولم يسمع شيئاً. فقد سكت كل شيء وانمحى من لوح تفكيره. فلم يعد يشعر بتلك الجبال المشتعلة ناراً ولا يفرق العدو التي كانت تمطره وأصحابه وابلاً من الرصاص. لا شيء. لم يكن يشعر بشيء مما حوله أبداً

أراد أن يتحرك. أراد أن ينفض عن جسمه ونفسه ما استولى عليهما من الاضمحلال والانحلال. أراد أن يمزق هذا الكابوس الجاثم فوق صدره ليتخلص من هذا الضيق. ولكنه لم يستطع الحركة. كان يحس بضيق أنفاسه. ويشعر بأن غمامة سوداء قاتمة تخنقه وتحبس

ص: 37

أنفاسه في صدره. أراد يصرخ فلم يتمكن أيضاً

شعر بالوحدة والعدم يستوليان عليه، وأحس كأن نفسه تذوب بين جنبيه. وتفنى وسط هذا العدم اللانهائي الشامل.

ولما أدركه أصحابه وجدوه في شعب ضيق من شعاب الوادي محصورا بين صخرتين قابضا بكلتا يديه على شيء أمامه. فحاولوا فتح يديه. ولكنهما لم تفتحا

وأخيراً استطاع أن يفتح عينيه، فنادوه:(عثمان إنك جريح) فأراد بصره في أصحابه. وكأنه لا يفهم شيئا مما حوله، ثم نطق - وهو شاخص البصر إلى قمة ذلك الجبل الذي حاول تسلقه فقال:(أين المدفع؟)

لم يملك أصحابه حينئذ أنفسهم فتحدرت من عيونهم قطرات الدمع السخينة

إن المدفع كان بين يدي عثمان، وكان لا يزال يقبض عليه بكلتا يديه!

ترجمة

برهان الدين الداغستاني

ص: 38