الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 587
- بتاريخ: 02 - 10 - 1944
نقد عسكري
للأستاذ عباس محمود العقاد
نظر الكاتب العسكري الفاضل الملازم الأول سيد أفندي فرج نظرة مجملة في كتابنا (عبقرية خالد) الذي هو أقرب الكتب في (العبقريات) إلى موضوع الكتابة العسكرية، فأثنى عليه وتناول بالملاحظة والنقد مواضع منه متفرقة يرجع معظمها إلى حواشي الموضوع دون صميمه
والثناء يخصنا فلا محل له من التعقيب بيننا وبين قراء الكتاب أو قراء الرسالة. أما الذي نعقب عليه هنا فهو مواضع النقد والملاحظة التي تحتاج إلى جلاء وتفرقة بين وجهة النظر ووجهة النظر في رأي الجندي الأديب
قال حضرته: (يرى الأستاذ العقاد أن الخليفة الصديق كان يضع الخطط التي ينفذها خالد. . . ولكن النصح شيء ووضع الخطط شيء آخر، والمثال قريب. فإننا نرى في الحرب الحاضرة أن الرئيسين روزفلت وتشرشل - وأيضا فوهرر ألمانيا - يرسمون الخطط العامة، أي يحددون الأهداف ويرسمون مع قادتهم ما يحتاجه الموقف من حشود ومعدات، ثم يبدأ دور القائد العام فينظم قواته ويوزع واجباتها ثم يقوم بتحريكها إلى الساحات المعينة. . . وهي أمور لا يعرفها الرؤساء المدنيون الذين لا تتيح لهم ظروفهم دراسة الميدان وأوضاع العدو وفهم ضرورات الموقف الحربي العام)
والذي يبدو لنا أن الناقد الفاضل قد نسي الشيء الجدير بالذكر في هذا المقام، وهو أن الفرق بين أبي بكر الصديق وخالد إبن الوليد ليس كالفرق بين روزفلت وتشرشل وبين إيزنهاور ومنتغمري وويفل وسائر القواد
فخالد بن الوليد لم ينشأ في مدرسة عسكرية غير المدرسة التي نشأ فيها الصديق وسائر الخلفاء عليهم رضوان الله. وما يفهمه الخليفة من مواقع القتال العربية شبيه بما يفهمه القائد الحاضر في الميدان. فهلا غرابة في سبق الخليفة ببعض الخطط على حسب المعلومات التي اجتمعت لديه، وإن كان هذا لا ينفي أن الشاهد يعلم ما ليس يعلمه الغائب، وأن القائد في تنفيذه يضطلع بالمهمة العملية وينفرد بها دون الخليفة صاحب الخطة أو صاحب النصيحة، وهذا الذي رجحناه حين قلنا: (إن خالدا قد تولى التنفيذ في ترتيب
أعماله وتولاه أيضاً في أوائل خططه، ولكنه قد وكل إلى نفسه في الأمور التي يعلمها الشاهد ولا يعلمها الغائب، ومنها موعد المسير وطريقة الهجوم واللقاء)
وإنما حدث هذا في بعض حروب الردة ولم يحدث في حروب خالد جميعها، لأن الخليفة لم يتجاوز النصيحة العامة في حروب العراق والشام
وقال الناقد الأديب: (ذكر الأستاذ العقاد أن تشكيلات جنود العرب للقتال إنما كانت تنظم على النحو الذي تتطلبه أسلحة الخصوم، فقال إنها كانت تحارب مرة بالصفوف ومرة بالكراديس، وهو قول حق، غير أن هناك عوامل أخرى تملي على القوات نوع التشكيل كحالة الأرض والنسبة العددية وأوضاع العدو وخططه، ولنضرب مثلا بحالة الأرض وتأثيرها في التشكيلات، فالأرض المكشوفة التي تتيح الرؤية بسهولة تحتاج إلى تشكيلات مفتوحة أي متباعدة توفيرا للخسائر. أما الأرض الجبلية وذات المسالك المحددة فتناسبها التجمعات. . .)
ونحن نقول: إن تعدد أسباب التشكيلات لا دخل له فيما نحن فيه، وإنما الذي يعنينا هو الذي حدث في الحروب التي أشرنا إليها بين العرب وخصومهم من الفرس والرومان
فالعرب لم يتخذوا نظام الكراديس لاختلاف مواقع الأرض لأنهم حاربوا بالكراديس في وقعة ذي قار وهي بطحاء، وحاربوا بالكراديس في اليمامة وهي جبلية، وحاربوا بالكراديس في اليرموك وهي بين الجبلية والبطحاء، وإنما كانت علة اختيار هذا التشكيل هي ما ذكرناه في الكتاب مستندا إلى الواقع دون سواه. . .
وقال الناقد الأديب: (ليس في الكتاب تصوير للوقائع الحربية، أعني تنقصه المعلومات الخاصة بقوات الفريقين المتحاربين في كل وقعة، وأسلحتها وأوضاعها والظروف المختلفة التي كانت تتحكم في سير القتال، حتى كانت عبقرية خالد الحربية تظهر بأسبابها وتفاصيلها، ولاشك في أن الصعوبات التي نعرفها عن مصادر البحث، وأن الكتاب لا يختص بالناحية الحربية وحدها هي التي حرمتنا تلك الدراسة النافعة)
والعجيب أن هذه الملاحظة كلها تخالف الواقع من الألف إلى الياء. فقد عنينا بإحصاء عدد الجيوش في حروب خالد من مصادر شتى، وأثبتنا التفاوت البعيد بين الروايات المختلفة، ومن ذلك قولنا عن حرب اليمامة (ولا يعلم على التحقيق عدد الجيش الذي معه في
عقربان، ولكنه على التقريب يجاوز الثمانية الآلاف ولا يقل عنها، لأن جيشه بالبزاخة نحو خمسة آلاف، يضاف إليها جيش شرجيل بن حسنة الذي سبقه ولبث في إنتظاره، ولا يقل عن ألفين، ويضاف إليهم الردء الذي أرسله الصديق وراءهم بقيادة سليط بن عمرو ليحمي ساقتهم، وغير هؤلاء من تطوع للحرب مع المسلمين من بني تميم وبني حنيفة، فهم في جملتهم يجاوزون الثمانية الآلاف ولا ينقصون عنها إن نقصوا إلا بقليل)
فنحن لم نكتب بالإحصاء المنصوص عليه بل أضفنا إليه الإحصاء الذي يجمع بالمقابلة والاستقصاء، ثم قلنا: (. . . وبلغ عدد القتلى جميعاً في ذلك اليوم بين ساحة القتال وحديقة الموت عشرات الألوف: أقلهم في تقدير المقدرين عشرة آلف من بني حنيفة وستمائة من المسلمين، وأكثرهم في تقدير المقدرين يرتفعون إلى سبعين ألفا أو ثمانين ألفا حنفيين وألفين مسلمين، وهو رقم لا يدل على نبأ صحيح، ولكنه يدل على هول صحيح سرى في الآفاق من أنباء تلك المعركة
ولقد كنا نضيق ذرعاً بهذا التفاوت البعيد في الروايات وفي وصف الحركات فنتركه جانبا عند الحكم الفصل في الأمور ولا نجعل هذا الحكم الفصل معلقا عليه، وقررنا ذلك فقلنا:(إذا كان كل شيء في المعركة يتوقف أحيانا على كذا وكذا من الخطوات في السبق إلى حومة القتال، وكذا أو كذا من الأشياء في طول الرماح، وكذا أو كذا من التفاوت في سرعة القذيفة هنا أو هناك، وكذا أو كذا من الحركات إلى اليمين أو إلى الشمال والى الأمام أو إلى الوراء؛ فتفصيل أسباب النصر في المعارك القديمة على التخصيص ضرب من المستحيل، لأن إثبات الفوارق بين المعسكرين في الأسلحة والمواعيد والعدد والحركة غير ميسور، وأقصى ما نطمع فيه أن نقنع بالإجمال دون التفصيل)
فنحن قد أثبتنا من التقدير والوصف ما هو صالح للثبات، وتعمدنا اجتناب التقديرات المتفاوتة والأوصاف المتناقضة لأنها لا تصلح للتعويل عليها ولا يحسن بالمؤرخ أن يرجع إليها بغير الإشارة والترجيح كما قلنا (الإجمال دون التفصيل)
وقال الناقد الأديب: (لاحظت أن في الكتاب ميلا إلى اتهام خالد بالقسوة. . . وليس يغرب عن البال أن صفات الشدة والصلابة هي سمات الرجل العسكري الذي لا ترضيه أنصاف التدابير، بل يهمه أن يضرب ضربة واحدة تقصر أجل الحرب وتختصر الآلام، وكثيرا ما
أملت الظروف على عظماء القادة أن يكونوا غلاظ الأكباد، لا لشيء طبيعي في نفوسهم، ولكن لأن أعمالهم تحتم ذلك، فيكون في الشدة الرادعة ما يشبه الدرس للآخرين، وخصوصا في ظروف حاسمة لا تسمح بالتراخي واللين)
والذي لاحظناه من صرامة خالد هو الذي لاحظه عمر إبن الخطاب رضى الله عنه حين قال: (إن سيف خالد لرهقاً) بل هو الذي بدا من براءة النبي عليه السلام إلى الله مما فعل (خالد بن الوليد) بعد حادث بني جذيمة
على أننا نفينا عنه قسوة الضغينة الشائنة وقلنا: (إن هذا الولع كله بالحرب لم يكن ولعا بالشر والسوء، ولا ولعا بالضغينة والبغضاء، فكانت عداواته كلها عداوات جندي مقاتل، ولم تكن عداوات مضطغن آثم. . . وعلى كثرة من قتل خالد في حروبه لم يكن يقتل أحدا قط وهو يشك في صواب قتله وإن أخطأ وجه الصواب. . . أما إذا شك في صوابه فهو يستكثر المساءة إلى رجل فضلاً عن الجحافل والقبائل، ويسبق إلى الرفق رجلا كأبي عبيدة عرف طول حياته بالرفق والرحمة والأناة. . .)
ونحن بعد هذا لا نستغرب الصلابة في أخلاق رجال الحروب، ولكننا لا نغتفر سفك الدماء لغير ضرورة وبغير حساب، فإن الشجاعة صفة إنسانية عالية، وليس مما يوافق الصفات الإنسانية العالية أن تهون حياة الألوف لغير سبب وبغير حجة، وأن يعمل القائد في الميدان كأنه ليس بإنسان، وما علمنا قط أن الرفق في أخلاق المعسكرين كان عائقا بينهم وبين الظفر والنجاح، فإنهم بهذا الرفق يحسنون صيانة الأرواح في جيوشهم ويكسبون ثقة الأمم ويحاربون بالسمعة المشكورة كما يحاربون بالرهبة والسلاح.
وقال ناقد الأديب: (. . . كان ضرورياً أن يذكر فصل خاص بصفات خالد الحربية، وفصل آخر خاص بفنونه الحربية، وفي الأول نستطيع أن نفاضل بين خالد وغيره من عظماء العسكريين في جميع العصور)
والعجب أيضاً في هذه الملاحظة أن الناقد الأديب يتطلب هذا الفصل وهو معقود في الكتاب، ويتطلب المقابلة بين خالد وغيره من العظماء العسكريين، وقد قابلنا بينه وبينهم في موضع المقابلة.
ففي الكتاب فصل عن عبقريته الحربية يستغرق اثنتي عشرة صفحة، وفي هذا الفصل
نقول: (إن المقارنة بينه وبين قواد الطراز الأول في الزمن القديم تقدمه إلى المرتبة الأولى بين أكبر القواد، ومنهم الإسكندر وبلزاريوس اللذان حاربا عدوا كعدوه في ميدان كميدانه. فالإسكندر في وقعة اربل هزم جيشا فارسيا تقدر عدته بمائة ألف من الفرسان والمشاة، وبلزاريوس في وقائع أرمينية هزم جيشا فارسيا تقدر عدته بأربعين ألفا أو قرابة الأربعين، والمقارنة بين خالد بن الوليد وهذين القائدين ترجح كفته على كفتيهما معا في هذا الميدان، لأن الإسكندر كان يقود خمسة وأربعين ألفا، وبلزاريوس كان يقود نيفا وعشرين ألفا، وكلا الجيشين مسلح بأمضى الأسلحة في ذلك الزمان)
أما الفن العسكري عند خالد فلو أننا نقلنا ما ذكرناه عنه في الكتاب لضاق به المقام، وحسبنا أن نشير هنا إلى فقرة واحدة تدل على جملة أوصافه حيث نقول:(. . . إنه لم تعوزه قط صفة من صفات القائد الكبير المفطور على النضال، وهي الشجاعة والنشاط والجلد واليقظة وحضور البديهة وسرعة الملاحظة وقوة التأثير، وأنه كان يضع الخطة في موضعها ساعة الحاجة إليها، فكان يحارب بالصفوف كما كان يحارب بالكراديس، وكان يحارب بالكمين والكمينين كما يحارب أحيانا بغير كمين، وكان يستخدم التورية والمباغتة والسرعة على أنماط تختلف باختلاف الدواعي والأحوال. وقد علم أن تمزيق الجيوش أجدى في الحرب من الحصار والاحتلال، وعلم أن الخبر قوة وسلاح، فكان يستطلع أخبار العدو ولا يتيح له أن يستطلع خبرا من أخباره، وأجدى من ذلك كله إنه كان لا يغفل عن القوة الأدبية يعززها ما استطاع في جيشه ويضعفها ما استطاع في جيش عدوه)
وهذا قليل من كثير مما كتبناه عن عبقرية خالد الحربية مجموعاً في الفصل الخاص بها أو موزعاً في سائر أجزاء الكتاب
فلا نريد أن نقول إن الناقد الأديب قد تجاهله عامدا أو قرأه ولم يفطن إليه، ولكننا نقول أنه قرأ جانباً من الكتاب وفاته جانب آخر أو جوانب أخرى، وهو على ذلك مشكور لحسن قصده والتمهيد لهذا البيان في تصحيح ملاحظاته، وتيسير الحكم للقراء فيما قلنا وما قال
عباس محمود العقاد
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
سمعت منذ شهرين أن سعادة عبد العزيز فهمي باشا الذي اقترح على مجمع اللغة العربية أن تكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية، يطبع كتابا يجيب فيه على المعترضين على رأيه، فقلت لمن أخبرني: جدير بكل ذي رأي أن يدفع عنه حتى يتبين للناس إنه مصيب أو يتبين له هو إنه مخطئ
ثم أرسلت ألي نسخة من الكتاب منذ عشرة أيام فتعجلت النظر فيه آملاً أن أجد جدالاً يمليه الإنصاف، وتحوطه التؤدة والأناة، ويقصد إلى الغاية على طريق مستقيم لا يجور به الهوى، ولا تحيد عنه العصبية، ولا يقطعه الكلام في غير الموضوع على غير وجه
ثم عبرت الكتاب فإذا المؤلف يعدد في القسم الثاني من كتابه ثلاثة وعشرين عنوانا متوالية على العدد، ويحاول بعد كل عنوان أن يذكر اعتراضا ويرده، ولو استقام البحث على هذه الطريقة لاستوعب المؤلف الاعتراضات كلها، وأجاب المعترضين جميعا غير معرج على الأشخاص، ولا هانو عن الجدال في الرأي إلى الاستهزاء بصاحبه والافتراء عليه. ولكن الأستاذ عرض في بعض هذه العنوانات لذكر أشخاص بأوصافهم أو بأسمائهم. وأطال في تجريحهم بأشياء توهمها لا تتصل بموضوع الجدال صلة قريبة أو بعيدة، على حين أوجز في الفصول التي ردّ فيها الاعتراضات غير مبال بالأشخاص. فنم صنعه عن قصده إلى الانتقام من ناس خالفوا رأيه، ودل فعله على أن تجريح هؤلاء ينال من اهتمامه نصيبا أكبر من الاعتراضات التي جادل فيها
وقد قرأت الفصل الخامس عشر الذي تكلم فيه عن كاتب أرسل إليه بالبريد صحيفة فيها مقال يجادله فيه. قرأت هذا الفصل متعجبا مشدوها لا أكاد أصدق أن هذا الهجوم الحاقد والطعن المتدارك خطه قلم الأستاذ الجليل. وحسبت أن الأستاذ ترك الموضوع إلى هذا الطعن والتجريح في أمور لا صلة لها بالموضوع عقابا لرجل يعرف الباشا إنه يستحق ما يرميه به، ويرى ألا يضيع الفرصة للانتقام منه. وحسبت أن الرجل لو لم يكن جديراً بهذا ما رماه به المؤلف. ثم عرفت الرجل المقصود من بعد فإذا هو رجل مجاهد مخلص يعمل دائباً صامتاً لا يماري ولا يفتري. فلبثت حيران لا أدري ما وراء هذا من سر. وللرجل قلم
هو أولى الأقلام وأقدرها على الدفاع، فلست محاولاً الدفاع عنه، ولكني أجعل الطعن فيه والبغي عليه مقياساً لما في كلام المؤلف من تثبت وتورع عن ظلم الناس والعدوان عليهم
وكان العنوان: (الحادي والعشرون) نصيبي من رد سعادة الأستاذ
وأنا أقدم قبل مجادلته فيما أدعي، أني كتبت في هذا الموضوع قبل تسع سنين حينما نشرت في مجلة الرسالة مقالاتي عن النهضة التركية الحديثة. وأني عنيت به منذ غير الترك العثمانيون كتابتهم. وحادثت فيه وجادلت في مصر والبلاد العربية وفي تركيا وأوربا قبل أن يختار الأستاذ عضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية. وقد اخترت موضوع محاضرتي:(الخط العربي. مزاياه وعيوبه) قبل أن ينشر تقرير الأستاذ الذي قدمه إلى المجمع. ونحن نسجل موضوعات المحاضرات العامة أول العام الدراسي ثم نلقيها ولاء في أوقاتها. ولم يكن سعادة الأستاذ يشغلني كثيراً وأنا أكتب محاضرتي وإنما عمدت إلى البحث الصرف غير مبال بالأشخاص لاسيما سعادة الكاتب الذي لم يبتدع هذه البدعة بل تبع فيها دعاة هم أولى بأن يجادلوا فيها
ولكن المؤلف توهم نفسه إماماً في هذه الدعوة، وحسب كل مجادل فيها يعنيه لا يعني غيره، وظن أن كل مخالف عدو، وأن العدو ينبغي أن يحارب، وأن الحرب تبيع كل عدوان
ويعلم الله أني حين قرأت ما كتب الأستاذ عزمت على ألا أجادله يأساً من جدوى الجدال الذي يبتدئ على هذه الطريقة. وقلت كيف أجادل كاتبا حديد الطبع، تحمله الحدة على التسرع، وينسيه التسرع التثبت، ومن نسي التثبت كان حريا أن يسير على غير طريق إلى غير غاية، جديراً أن يقول غير سديد، ويطعن غير مقتصد، ثم أشار علي بعض الإخوان، كما أشار عليه بإجابة المعترضين (بعض المهتمين بهذه المشكلة)
وأبدأ بمجادلة الأستاذ في الخطة التي ارتضاها لنفسه، وأقول غير متردد: إنها خطة جائرة منكرة تكفل لصاحبها ألا يهتدي إلى صواب، ولا يبتعد عن ضلال، خطة تعنى بأصحاب الآراء أكثر مما تعنى بالآراء، ثم لا ينال أصحاب الآراء من هذه العناية إلا الاستهزاء والبغي والافتراء، وسواء على صاحبها أن يقارب الحق أو يباعده، وأن يصف خصمه بصفاته أو بما يناقضها
توهم الأستاذ لي صفتين أحسب أن وصفي بهما لا يكون إلا ميلا مع الهوى، وجورا مع
الغضب، ورجما بالأوهام
عرضت لعيوب الكتابة الأدبية، وبينت من شناعتها ما لا تذكر معه عيوب كتابتنا. ثم قلت إن الكتابة الأوربية محمية بالأساطيل والطائرات والفتنة والهيبة اللتين تأخذاننا من كل جانب. وهي كلمة حق تجمل ما نحن فيه من افتتان بكل ما يأتي من أوربا وازدراء لكل ما عندنا. وما قصدت بهذه الكلمة الأستاذ عبد العزيز باشا ولا جماعة في مصر، ولا المصريين وحدهم، ولا البلاد العربية فحسب. بل أردت بها ما يعم أقطار الشرق كلها من هذه الفتنة. فأثارت هذه الكلمة ثائرة الأستاذ، وقد اعترف هو بهذه الفتنة في نفسه حين قال وهو آخذ بمخنق الكاتب الذي أرسل إليه مقالاً بالبريد. قال هو يعرب عن إكباره وإعجابه بالقوانين التي أخذناها عن أوربا:
(اعلم معلماً أن العقول التي كشفت لك عن عجائب الكهرباء. وهيأت للناس التلغراف واللاسلكي. كما كشفت لك عن معجزات الطيران الذي طبق عليك وعلي وعلى جميع الناس أرجاء السماء - هذه العقول لها أخ من أبويها يشتغل إلى جانبها بمسائل القانون ويسمو في بيئته إلى ما يسمو إليه اخوته الآخرون، ولكنك لا تراه لأن نظرك قصير)
وكان يمكن الأستاذ أن يطرد القياس، فيقول: ولهم كتابة هي ولاشك أفضل من كتابتنا، وهي العلاج الوحيد للغتنا. الخ.
أليس قياس القانون على الطائرات ونحوها هي الفتنة التي ذكرتها فغضب الأستاذ. ولا أدري لماذا ثار الأستاذ فقال عني: (هنا خلع العلم ثوبه وارتدى ثوبا سواه، الوطنية اللفظية، ولحمة أناشيد أرباب الحناجر). ومضى يكرر هذا المعنى إلى أن قال: (بل لعلي واهم فيما أخشاه على الأستاذ من إمكان حمل عباراته على معنى تعمده مسابقة أرباب الحناجر في حلبة الوطنية اللفظية)
وجوابي أن الله يعلم وأصحابي وتلاميذي يعلمون أني لست من أولى الوطنية اللفظية، ولا ممن ينشدون أناشيدها ويكدون حناجرهم فيها، بل كل صلتي بالوطنية العمل الصامت الدائب الذي لا يبغي من الناس جزاء ولا شكورا، وأن اتهام مثلي بهذا جدير بأن يلقي الشك في كل ما يزعم المتهم وينفي الثقة عن كل كلامه
ثم انتقل الأستاذ في غضبه وانطلاقه مع الغضب غير متئد ولا متثبت، فوصفني وصفا
آخر يناقض الوصف الأول في معناه، ويوافقه في إنه باطل مثله. وصفني الأستاذ غير عارف، أو متجاهلاً تجاهل العارف بأني رجل متوفر متزمت. ثم لبث يشرح التزمت ويبين آثاره في خلقة صاحبه وخلقه، وفي الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج؛ فكتب صفحتين في هذا كأن مقصده الأول الكلام في التزمت لا الدفاع عن بدعة الحروف اللاتينية، وأنا أعرض على القارئ مقدمة كلام الأستاذ في التزمت ثم أسأله كيف يسمي هذا الكلام، وما ظنه بمن يرمي به وهو يجادل في الحروف اللاتينية، ويلفظه وهو يجادل رجلاً بعيداً كل البعد عن التزمت، قال الأستاذ:
(والتزمت، أجارك الله، متى أخذ بخناق الرجل نكر خلقه إنه يورث اقعنساساً فيبدو مقعر الظهر، محدب الصدر، منتفخ الأوداج، محتقن الوجه، بارز الحدقتين. في الأوج هامته، وفي الحضيض همته. إن لم يكن كالمعلق بحبل المشنقة، فهو على الأقل ضابط صف معلم بأورطة الأساس، يمشي متشامخا مدلا بكفايته بين أنفار القرعة المستجدين. هكذا يفعل التزمت. ثم هو يخرجه من تصرفاته عن التعابير المألوفة بين الناس. يجعله متى أراد إخراج الكلمة من فيه رطلا خرجت على الرغم منه قنطاراً. وإذا أرسل صوته يمينا التوى فذهب شمالاً، وإذا بصق أمامه على استواء نكص البصاق إلى الوراء، هو يخرجه من فيه، فيرتد لما فيه فيعجبه) الخ
هذا أيها القارئ مقدمة كلامه في التزمت ووراءه كلام طويل تناول الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج، وإن أراد الكاتب أن يضحك باكيا فليقرأ بقية الفصل ويرى كيف تعب المتزمت في كيل الزكاة وخنق دجاج الدار حين جاء يلتقط الحب، ثم طلق امرأته إذ أمرها بإخراج الدجاج الميت فلم تمتثل. وكيف فعل في الصلاة والصوم والحج، ثم ليدلني القارئ على صلة عاقلة أو مجنونة بين هذا وبين الحروف اللاتينية واللغة العربية. . .
وأنا أنشد الأستاذ الله الحق أن يسأل نفسه هادئا إن استطاع: أهذه الأوصاف تنطبق عليّ أو عليه خلقة وخلقا.
ثم أنشده الله الحق: ألا يشعر بشيء من التناقض والتهاتر والتهافت في أن يصف إنسانا في مقال واحد بأنه من أرباب الحناجر وأناشيد الوطنية اللفظية، وبأنه متوقّر متزمت، ثم أنشده الله الحق مرة أخرى: أحسب نفسه صادقا حين وصف بهذه الأوصاف رجلا يعلم الله وكل
من يعرفه من الناس إنه من أبعد خلق الله عنها. إن كان قد غبي على الأستاذ وصف إنسان يعاصره ويعايشه في بلد واحد، وخفي عليه سيرة رجل قريب منه يستطيع أن يعرفه باللقاء والمحادثة، ويستطيع أن يسأل عنه أصحابه وتلاميذه، إن كان قد ذهب عنه هذا كله احتقاراً بالناس أو احتقاراً للحق أو ولوعا بالافتراء، وجموحا مع الهوى؛ فهل يثق عاقل بكلامه في الأمور المعنوية المعيبة، الأمور التاريخية والاجتماعية واللغوية الدقيقة، هل يظن عاقل أن من يجري مع الهوى وطلق الجموح، ويساير الباطل هذه المسايرة يكلف نفسه عناء في بحث موضوع أو وزن دليل، ونقد حجة؟ إني لا أنال من سعادة الأستاذ بمثل أن أدعو القارئ إلى قراءة هذا الفصل المضحك المبكي فهو أبلغ شيء في وصف نفسه ووصف كاتبه
وليت شعري أهذا شيء حديث عرض لسعادة الأستاذ أم كان بهذه الطريقة نفسها يعالج قضايا الناس محامياً ونائباً وقاضياً؟
وبعد؛ فقد قرأت في كتاب فارسي هذه القصة:
ذهب رجل إلى طبيب وشكا إليه أنه يحس في صدره عقداً، قال الطبيب ما صناعتك؟ قال شاعر. قال نظمت شعراً منذ قليل؟ قال نعم. قال أنشدته أحداً؟ قال لا. قال فأنشدنيه؛ فأنشده. فاستعاده مرات. ثم سأله كيف تجدك الآن؟ قال أشعر براحة، قال الطبيب هذا شعر كان معقداً في صدرك
لعل سعادة الأستاذ استراح بعد أن أخلى صدره من كلام تعقد فيه زمناً طويلاً، وقد بعد عهده بمجادلته في المجمع التي ضج منها الأعضاء ولا يزالون يضجون ويشكون، وكان في مجادلة المجمع عوضي عن مجادلات ألفها المؤلف طول عمره. فإن كانت عقد صدره قد انحلت بما لفظه علينا من البغي والافتراء، فليحمد الله الذي شرح صدره
وفي المقال الآتي أناقش الأستاذ في الكلمات القليلة، التي كتبها في الموضوع آسفاً على أنه أخرجني عن البحث كارهاً مشمئزاً ولا ذنب للمكره، وللناس والأقلام محن تكره فيها على ما لا تود، وتكلف ما يشق عليها.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
ثقافة الشاعر وأثرها في شعره
للأستاذ دريني خشبة
ظن بعض إخواننا الشعراء أننا قصدناهم بمقالنا الذي رجونا شعراء الشباب فيه أن يعنوا بثقافتهم الخاصة حتى يستطيعوا أن يحسنوا الاضطلاع بالنهضة التي نطمع أن تتم للشعر العربي الحديث على أيديهم. . . وإخواننا هؤلاء مخطئون، لأنهم الآن في الذروة من ثقافتهم التي أوشكت أن تمهد لهم الزعامة في الشعر المصري الحديث، وإن كانوا في نظرنا مع ذلك لم يؤدوا لهذا الشعر جزءا واحدة من مائة جزء مما نصبو إليه، حتى يكون لنا شعر لا نخجل من المباهاة به وسط أنواع الشعر العالمي
وسخط بعض إخواننا من شعراء الشباب الآخرين، وعدوا الروح التي أملت علينا مقالنا نكوصا عما أخذنا به أنفسنا من الدفاع عن شعراء الشباب، ونسوا أننا لم نك يوما مكابرين حتى نغمض أعيننا عما في كثير من شعرهم من الطراوة والفجاجة والضعف. . . الشعر الذي لا يمكن أن يحدث نهضة طالما أن أصحابه معجبون به. . . يظنون أنه بلغ الدرجة القصوى من الأناقة والتجويد، وأوفى على الغاية من الذوق والحرارة والشاعرية
ورضى فريق ثالث متواضع فاقتنى الكثير من الكتب التي أشرنا إليها وأخذ يستوعب ما فيها، ويصلح به شأنه، وكان في اعترافهم بما لمسناه في بعضهم من قلة الاطلاع على أشعار العرب في مختلف العصور لون من عظمة النفس التي تفتقر إليها نهضتنا الأدبية التي نرجو أن تبلغ أوجها على أيديهم إن شاء الله
غير أن فريقاً رابعاً من أنبه شعرائنا - الشباب والشيوخ - الذين جمعتنا بهم صدفة من أسعد الصدف، لم يوافقنا على ما ندعو إليه من وجوب أن يكون الشاعر مثقفا تلك الثقافة العميقة التي لا تنبغي - فيما ذهبوا إليه - إلا للعلماء والفلاسفة والكتاب. . . وذلك، أن تلك الثقافة العميقة، فيما ذهبوا إليه أيضاً، قد تجني على شاعرية الشاعر فتجعله جاف الأسلوب، نابي العبارة، ملتوي التفكير، معقد الأداء. . . وضربوا لذلك مثلاً. . . أبا الطيب المتنبي، وأبا العلاء المعري. . . فلم يفتني أن أعارضهم بأبي تمام، والبحتري، وابن الرومي. . .!
وهكذا ننتقل فجأة إلى قضية أدبية طريفة. . . ليست أقل قيمة من تلك القضية الشائكة. . .
قضية وحدة الوجود. . . والعياذ بالله!
إن إخواننا هؤلاء يزعمون أنه لا ضرورة مطلقا لأن يتعمق الشاعر في ثقافته، لأن ذلك يؤثر من غير شك في شاعريته، ويجعله يضمن شعره خطرات علمية (باردة!) إذا كانت ثقافته العميقة تلك ثقافة علمية، أو خطرات فلسفية (حائرة!) إذا كان ممن يدمنون النظر في آراء الفلاسفة وتخبطاتهم. . . فإن كانت ثقافته لفظية، من نوع ثقافة العجاج ورؤبة وعقبة وأبي العلاء، ترك هذا في شعره ذلك المرض الأسلوبي المثقل بحوشي الألفاظ وغريب التعابير، مما يصرف القراء عنه؛ ويزهد عشاق الشعر فيه. . . وذكروا حالات غير هذه، وراحوا يضربون لكل حالة منها أمثالا تجعل رأيهم وجيها، وتكسبه قوة خداعة ذات بريق
فهل ما ذهبوا إليه من ذلك كله حق؟ وهل تطبيقاتهم صحيحة؟ لقد ذكروا المتنبي والمعري فيمن ذكروا من الشعراء الذين أتلفت ثقافتهم شاعريتهم. فهل من الحق أن المتنبي والمعري قد أتلفا شعرهما بما كانا يتعمدانه من تضمينه ألوان الثقافات التي كانا يمتازان بها
لقد نشأ المتنبي في بيئة شيعية، وتعلم في إحدى مدارس الشيعيين بالكوفة، وكان لهذا السبب من أوسع الناس إلماما بتاريخ الفرق الإسلامية وأحوالها ومعتقداتها. وذهب بعض مؤرخي الأدب العربي، ومنهم الأستاذ ماسينيون والدكتور طه حسين، إلى أن المتنبي لم يكن شيعيا فحسب، بل كان قرمطياً، وقرمطياً متطرفاً. وأن قرمطيته بدت في ألفاظه وتعبيراته وأفكاره. ويحدثنا الدكتور طه عن ذلك حديثا طليا في كتابه (مع المتنبي). وكما بدا التشييع في شعره، بدا التصوف كذلك، فهو يستعمل طرق الأداء عند المتصوفة، ويأتي في شعره وأخيلته بكثير من أوهامهم ومعتقداتهم، ويمدح أئمتهم مدحاً قد لا يسيغه المسلم الحق إلا موجهاً إلى الله سبحانه. ولم يبال المتنبي أن مدح الأوراجي الصوفي الذي كان له في مأساة الحلاج النصيب الأوفى، وأن يمدحه بإحدى روائعه التي مطلعها:
أمن أزديارَكِ في الدجى الرقباء
…
إذ حيث كنت من الظلام ضياء
ولا يبالي أن يبوح في كثير من قصائده بما لعله كان يؤمن به من الحلول والتناسخ. . . ولست أدري ماذا يقدح ذلك في المتنبي العظيم كشاعر من شعراء الصف الأول بين شعراء العرب؟ ماذا يعيب الشاعر أن يمتلئ ذهنه بلون ما من ألوان الثقافة فيكون له صدى في شعره يصدر عنه عفواً وعن غير عمد؟
قد يكون إخواننا الأعزاء على حق يلاحظون على المتنبي تعمده الإتيان في شعره بالغريب الحوشي من الألفاظ، والغريب الشاذ من الجموع والصفات. . . ولكن ما حيلة المتنبي في عصره الذي كان يزخر بعلماء اللغة وفقهائها وشيوخ النحو والصرف والبلاغة؟ لقد كان أكثر هؤلاء العلماء الأعلام يناصبون المتنبي العداء، وينفسون عليه مرتبته الأدبية التي لم يتمتع بها شاعر من قبل، فكانوا يتعقبون شعره، ويقفون له بالمرصاد، عسى أن يسقطوا له على غلطة، أو أن يعدوا عليه زلة، وكان المتنبي يعرف ذلك منهم، فكان يعبث بهم، ويغلو في هذا العبث، وينصب لهم من عربيته الفصحى فخاخاً تمسك بهم كما تمسك الشراك الثعالب
على أن أحدا من هؤلاء العلماء الأعلام لم يكن أرسخ في علوم العربية كعباً من أبي الطيب. ففي (معاهد التنصيص) - جـ1 ص11 - (أن الشيخ أبا علي الفارسي قال (للمتنبي) يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعْلى؟ فقال المتنبي في الحال: حجلى وظرْبى، قال الشيخ أبو علي، فطالعت في كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً فلم أجد!). وفي خزانة الأدب للبغدادي (جـ1 ص380) أن أبن العميد قرأ على المتنبي كتابا من كتب اللغة
ولعل الذي كان يعيبه هؤلاء العلماء الأعلام على المتنبي لم يكن جميعه، أو لم يكن شيء منه، مما يعاب على سيد شعراء العربية غير مدافع. . فقد كان المتنبي كوفيا، وكان لذلك يخرج في النحو على سنن البصريين وفي الأنصاف (طبع أوربا) تفصيل لكثير مما كان موضع خلاف بين المدرستين بصدد أشعار المتنبي، وقد أجاد الأنباري مؤلف ذلك الكتاب القيم في توضيح ذلك إجادة تامة نافعة تبرئ المتنبي مما أخذه عليه خصومه وما لا يزال خصومه في عصرنا الحديث يأخذونه عليه من مثل ذلك، مما يتوهمونه خطأ
وكما كان للمتنبي خصوم من النحويين وفقهاء اللغة، كذلك كان له خصوم كثيرون من المتكلمين، فكان يداعبهم تارة، ويداعب فقهاء المسلمين تارة أخرى، وقد عنى الدكتور طه بهذه المداعبات في كتابه مع المتنبي عناية كبيرة. . وكانت مداعباته تلك تثير بين أولئك وهؤلاء حربا فكرية طريفة في الزمن الذي كانت تجري فيه. . . فكيف نعدها اليوم من المآخذ التي نحصيها على المتنبي، ونعيب بها شعره؟
وكان المتنبي - لتشيعه - أو لقرمطيته - ولتقلبه في بلاد المسلمين من دون العراق الذي كانت غالبية أهله تفتتن بأساليب المتنبي وتشغف بها، لكثرة ما كان ينتشر فيها من الفرق وأصحاب الفلسفات الغالية، يؤثر استعمال الرمز، ولاسيما إذا كان ينشد في مجلس من السنيين، وهو في ذلك تلميذ للمتصوفة، إلا إنه غدا أستاذهم. وبالأحرى أستاذ شعرائهم. وليس للصوفية رمز، أو إشارة، لم يستخدمهما المتنبي، إلا ما نذر. والذي يدمن قراءة أشعار ابن الفارض يشعر من فوره بتأثر شيخ شعراء المتصوفة بأستاذه المتنبي، ولاسيما في استعمال المذهب الرمزي، وفي كثرة استخدام التصغير. . .
ولست أدري ماذا يعاب من ذلك كله على المتنبي، بوصفه شاعراً كان يعيش في ظروف خاصة، وكان يخضع لمقومات بيئة خاصة
على أن الذي تورط فيه إخواننا مما ذهبوا إلى إنه من عيوب ثقافة المتنبي العميقة التي أتلفت شعره، وخرجت به من جنة الشعر إلى جحيم الفلسفة، تلك الحكمة التي نثرها في قصائده، وكان فيها تلميذاً غير موفق لأرسطو!
وذكروا أن الصاحب بن عباد ألف لفخر الدولة رسالة أحصى فيها للمتنبي ثلاثمائة وسبعين بيتاً تجري مجرى الأمثال؛ فجاء الحاتمي وألف رسالته (الحاتمية) في رد حكم المتنبي إلى أصولها من فلسفة آرسطو. . . والرد على زعم السرقة هنا هين لا يكلف الإنسان عناء، وهي لو صحت لما نهضت برهانا على الذي ذهبوا إليه من تشويهها لشعر المتنبي؛ فمما لا مشاحة فيه أن حكم المتنبي لآلئ غالية يزهي بها شعره، ويتفرد بها، لا بين شعراء العربية فحسب، بل بين شعراء العالم كله. . . وليس معنى ذلك أننا استوعبنا أشعار الأمم كلها. . . ولكننا نقول ذلك بعد أن قرأنا معظم ما ألف عن تاريخ آداب العالم؛ فلم نعثر بشاعر يضارع المتنبي أو ينافسه في ميزته تلك. على أنك تقرأ الحكمة من الحكم التي ينسبونها إلى آرسطوا، والتي لا ندري المصدر الذي استندوا إليه في نسبتها إليه، ثم تقرأ بيت المتنبي الذي يحمل هذه الحكمة. فتشعر من فورك بالبون الشاسع بين أداء المتنبي وأداء آرسطو، وبين تفكير هذا وتفكير ذاك
أي فرق شاسع بين قول آرسطو: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والقص اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها
وقول المتنبي:
لعل عتبك محمود عواقبه
…
فربما صحت الأجسام بالعلل
ومثل ذلك الفرق نلمسه في العشرين والمائة حكمة التي تناولها الحاتمي في رسالته. . .
ذلك ما اتسع له المجال في الدفاع عن المتنبي. . . أما الدفاع عن المعري فموضعه غير هذا الحديث.
دريني خشبة
على هامش النقد
2 -
في عالم القصة
كفاح طيبة. . . . . . لنجيب محفوظ
للأستاذ سيد قطب
أحاول أن أتحفظ في الثناء على هذه القصة، فتغلبني حماسة قاهر لها، وفرح جارف بها!. . . هذا هو الحق، أطالع به القارئ من أول سطر، لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه!!
ولهذه الحماسة قصة لا بأس من إشراك القارئ فيها:
لقد ظللت سنوات وسنوات أقرأ ذلك التاريخ الميت الذي نتعلمه في المدارس عن مصر في جميع عصورها، والذي لا يعلمنا مرة واحدة أن مصر هذه هي الوطن الحي الذي يعاطفنا ونعاطفه، ويحيا في نفوسنا وأخلادنا بحوادثه وأشخاصه
وظللت أستمع إلى تلك الأناشيد الوطنية الجوفاء، التي لا تثير في نفوسنا إلا حماسة سطحية كاذبة، لأنها لا تنبع من صلة حقيقية بين مصر وبيننا؛ وإن هي إلا عبارات صاخبة؛ تخفي ما فيها من تزوير بالصخب والضجيج
ولم أجد - إلا مرة واحدة - كتاباً عن مصر القديمة يبعثها حية في نفوسنا، شاخصة في أذهاننا. ذلك هو كتاب المرحوم (عبد القادر حمزة):(على هامش التاريخ المصري القديم) ففرحت به مثلما أفرح اليوم بقصة كفاح طيبة، ودعوت وزارة المعارف إلى أن تجعله في يد كل تلميذ وطالب، بدل هذه الكتب الميتة التي في أيديهم. ولكن تغيير الكتب في وزارة المعارف أمر عسير، لأن مصنفيها هم مقرروها في أغلب الأحايين
وكنت أرى الطابع القومي واضحا - بجانب الطابع الإنساني - في آداب كل أمة، ولاسيما في الشعر والقصة - بينما أرى الطابع المصري باهتاً متوارياً في أعمالنا الفنية، مع بلوغها درجة عالية تسلك بعضها بين أرقى الآداب العالمية
وكنت أعزو هذا اللون الباهت، إلى أن مصر القديمة لا تعيش في نفوسنا، ولا تحيا في تصوراتنا. إلى أننا منقطعون عن هذا الماضي العظيم لا نعرفه إلا ألفاظا جوفاء، ولا نتمثله
صورا ووشائج حية. إلى أننا نفقد من تاريخنا المجيد حقبة لا تقل عن خمسة آلاف سنة: من الفن والروح والعواطف والانفعالات. إلى أن بيننا وبين الآثار المصرية، والفنون المصرية، والحياة المصرية، والأحداث المصرية، هوة عميقة من الزمن واللغة، ومن الإهمال والنسيان.
وطالبت بأن تنقل إلى اللغة العربية كل قطعة أدبية كشف عنها في مصر العريقة، وإلى أن ترسم باللغة العربية صور الحياة المصرية بكل ما فيها من ظلال، وإلى أن تعقد بين الشيء وبين الآثار المصرية صلة وثيقة في كل أدوار نشأتهم؛ وإلى أن تنفث الحياة في تلك الآثار والتماثيل والتواريخ، بما يصاغ حولها من القصص والأساطير والملاحم والبيانات.
دعوت إلى أن تصبح حياة أحمس وتحتمس ورمسيس ونفرتيتي وأمثالهم في منال كل تلميذ صغير وكل طالب كبير، بل أن تعود أساطير حية للأطفال في المهود، بدل الشاطر حسن وجودر، وحسن البصري، والورد في الأكمام
قلت: إذا كانت مصر القديمة قد احتجبت عنا، لأننا أصبحنا نتحدث اليوم بلغة غير لغتها، فلننقلها هي إلى لغتنا الحديثة، لنضم إلى ثروتنا الفنية المحدودة بألف وخمسمائة عام (فترة الأدب العربي الذي ندرسه) ثروة أعظم منها وأعرق وأخصب في فترة أخرى طويلة تربو على الخمسة آلاف من الأعوام. فإنه من السفه أن نفرط في هذه الأعمار الطوال!
وكنت أعلم أن القصة والملحمة، هما خير الوسائل إلى تحقيق هذه الصلة التي نشدتها طويلا، وكتبت عنها طويلا. فكلتاهما تردان الحياة إلى ذلك الماضي، وتبعثانه في الضمائر من خلال الألفاظ، وتوقظان الوراثات الكامنة في دمائنا من هذا العهد المجيد، وتصلاننا بحياة أجدادنا على أرض هذا الوادي العريق. فتصبح روافد لنفوس كل جيل، حوافز لمشاعر كل فرد
ولا يعود الغابرون في مسارب الزمن جثثاً هامدة مسجاة في الأكفان مطمورة في الرمال. إنما يعودون ذواتاً حية، وشخوصاً قائمة، يشاركوننا هذه الحياة الحاضرة ويدبرون معنا أمرها، ويزودوننا بتجاربهم ونصائحهم، ويفيضون علينا مشاعرهم وعواطفهم - فيحس الفرد منا أنه فرع حديث لشجرة عريقة عميقة الجذور في الزمن شهدت فجر التاريخ، ووعت حديث الأجيال، وصمدت لأقسى عوامل الفناء.
قلت هذا كله في عشرات المقالات، واليوم أتلفت فأجد بين يدي القصة والملحمة، كلتاهما في عمل فني واحد. في (كفاح طيبة). فهي قصة بنسقها وحوادثها، وهي ملحمة - وإن لم تكن شعراً ولا أسطورة! - بما تفيضه من وجدانات ومشاعر، لا يفيضها في الشعر إلا الملحمة!
هي قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد (أحمس) العظيم. قصة الوطنية المصرية في حقيقتها بلا تزيد ولا ادعاء، وبلا برقشة أو تصنع. قصة النفس المصرية الصميمة في كل خطرة وكل حركة وكل انفعال.
أغار الرعاة (الهكسوس) على مصر من الشمال الشرقي وغلبوا عليها بسبب اختراع (العجلات الحربية) التي لم تكن مصر قد أخذت بها في جيشها، وحكموا مصر السفلى ومصر الوسطى. أما مصر العليا وعاصمتها طيبة، فقد ظل حكامها من الأسرة الفرعونية المصرية، يدارون الرعاة ويقدمون إليهم الهدايا احتفاظاً باستقلالهم الداخلي إلى أن يستطيعوا الاستعداد السري لطرد الغزاة.
ثم تبدأ القصة عند (سيكننرع) حاكم طيبة ووريث العرش الشرعي. فلقد لبث يهيئ الجيوش سراً، ويستكثر من العجلات الحربية حتى بلغ جيشه عشرين ألفاً وعجلاته مائتين؛ ووضع على رأسه التاج، ولم يكن يعد نفسه حاكم طيبة بل ملك الجنوب
ويجيئه رسول (أبو فيس) ملك الرعاة الذي يلقب نفسه (فرعون مصر) ويضع على رأسه التاج المزدوج؛ يجيئه ليتحداه فيطلب إليه خلع التاج، فما هو إلا حاكم، وبناء معبد لست إله الشر بجوار معبد أمون في طيبة، وقتل أفراس النهر المقدسة بها. فيأبى الملك أن يدوس الدين والشرف ليقنع بالسلامة. وأنه ليعلم مدى قوة خصمه ويعلم إنه لم يستكمل بعد استعداده. ولكنه يرفض يؤيده الجميع: أمه توتشيري (الأم المقدسة) التي ترعى الجميع، وتشرف بروحها العظيم على كل عدة الجهاد؛ وابنه، وقائده، ورئيس كهنة أمون، ومستشاره أجمعين.
وتقع الحرب، ويقتل الملك البطل، وتستباح طيبة للعدو العنيف؛ فتصعد الأسرة المالكة في النيل إلى (بلاد النوبة) بتدبير قائد الملك القتيل، لتعد العدة هناك للعودة حينما يشاء الإله!
وبعد عشرة أعوام في الاستعداد وبناء العجلات الحربية، يهبط (أحمس) حفيد الملك
(سيكننراع)، وابن الملك (كاموس) إلى أرض مصر في زي التجار، يقدم لحكامها الرعاع الذهب ليحصل على الرجال. الرجال الذين ذاقوا الذل والويل، ولكن نفوسهم ما تزال تغلي بالانتقام من الغزاة، وتفيض بالولاء للأسرة المالكة المشردة
وتتم الحيلة، وتفتح له الحدود فيحصل على الرجال، ويتألف الجيش العتيد، ويهبط أرض الوادي، ويهزم الغزاة، ويطاردهم إلى آخر شبر من الأرض المصرية في هوارتس، وتسترد طيبة عرشها وعرش مصر السفلى، وتعود البلاد حرة من جديد. على يد أحمس بعد استشهاد والده، كما استشهد من قبل جده العظيم. . .
ولكن!
نعم. ولكن. لقد كسب مصر وخسر قلبه! وإنه لكسب ضخم، وإنها لخسارة فادحة
لقد أحب ابنة ملك الرعاة. أحبها منذ الرحلة الأولى، يوم قدم مصر في زي التجار. أحبها وأحبته واختارت يومها عقدا من مجوهراته التي يحملها، وأنقذت حياته حين هم به قائد حربي من الهكسوس كان يريد الاعتداء على حرمة سيدة مصرية - هي أرملة قائد جده - فحماها من الأذى، لأن حميته لم تطلق أن تنتهك حرمة مصرية أمامه، وقد كاد ذلك يفسد عليه خطته العظيمة. . .
أحبها وأحبته، وأخفى كلاهما حبه، ولكنه ظهر في بعض التلميحات. فتعقدت القصة منذ ذلك اليوم. لقد كان أحمس يتهيأ للمهمة الكبرى التي ألقاها الوطن على كاهله، ليطرد الرعاة الغزاة، وينكل بهم كما نكلوا بالمصريين. وهو يحب ابنة عدوه الأكبر، لأن القلب الإنساني يتسع للحب والبغض مجتمعين. وفي كل خطوة يصطدم هذا الحب بهذا البغض، فيدوس قلبه الجريح، ليؤدي واجبه المقدس. وإن كان يضعف بين الحين والحين!
ووقعت الأميرة في الأسر. أسرها (الفلاحون) الذين اتخذ ملك الرعاة من نسائهم وأطفالهم درعاً لحصون طيبة، يتقي بهم سهام قومهم المهاجمين. وفي لحظة رهيبة بعد أن ضحى المصريون بنسائهم وأطفالهم، وأردوهم بسهامهم ليدخلوا طيبة. في لحظة بلغ الألم الإنساني ذروته، جاءوا للملك بهذه الأميرة أسيرة، ونساؤهم وأطفالهم ممزقون بسهامهم على الأسوار. وكان احتفاظهم بها وعدم تمزيقها إربا فوق طاقة الآدميين!
وكان موقفاً من المواقف الكثيرة التي عاناها الملك الشاب بين قلبه وواجبه. لقد استطاع أن
يدوس قلبه في سبيل الغرض الأكبر - تحرير الوطن - أما حين يكون الأمر أمر انتقام جزئي فهنا يغلب الحب، فيحفظ حياة الأميرة!
وفي اللحظة الأخيرة - وقد تمت هزيمة الرعاة - يحاول الملك الشاب أن يستأثر بالأسيرة الآسرة. ولكن وا أسفاه: إن أباها يقومها بثلاثين ألفا من الرهائن المصريين. وإن الملك ليحبها، ولكن ثلاثين ألف رأس ثمن كبير. وأنها لتحبه، ولكنها تعلم أن أباها الصحراوي لن يجيبه إلى يدها، وهو عدوه المبين. لقد ذهبت ليبقى الفرعون الظافر يذكرها في يأس وحنين. ويحس إنه خسر المعركة وهو أعظم المنتصرين
ذلك هيكل القصة. ولكن القصص ليست هيكلها العام. فأين العمل الفني فيها؟
إن العمل الفني هو الذي لا يمكن تلخيصه. وقيمته في هذه القصة لا تقل عن قيمتها القومية. وهذا هو المهم. فقد يحاول الكاتب إثارة العواطف القومية وينجح، ولكنه ينسى السمات الفنية، فيحرم عمله الطابع الذي يسلكه في سجل الفنون
إن كل شخصية من الشخصيات في هذه القصة لهي شخصية إنسانية وشخصية مصرية في آن. وإن كل موقف من مواقفها لهو الموقف الطبيعي الذي ينتظر من الآدميين المصريين. وإن السياق الفني لهو السياق الذي يلحظ الدقة الفنية بجانب الهدف القومي، بلا مغالطة ولا ضجة ولا بريق.
لم يحاول المؤلف أن يقلل من شجاعة الرعاة، ولا مميزاتهم النفسية. ولم يحاول كذلك أن يستر مواطن الضعف المصرية
وهي مواطن ضعف إنسانية - لم يجعل أبطال مصر أشخاصا أسطوريين، ولم يجعل المصريين شعباً من الملائكة ولا من الشياطيين، ولكن بعد تهيئة وتمهيد
لهذا كله تسير الحياة سيرة طبيعية في القصة، وتنبعث المشاهد شاخصة. لشد ما شعرت بالحقد الملتهب على الرعاة وحكامهم وقضاتهم، وهم يجلدون المصريين ويحقرونهم ويدعونهم استهزاء الفلاحين (ويبدو أن هذا اللقب هو الذي يتشدق به دائما أولئك الأجانب المغتصبون في جميع العصور، من الرعاة إلى الرومان إلى العرب إلى الترك إلى الأوربيين. وإن كان هؤلاء الفلاحون أشرف وأعرق من الجميع)، لشد ما شعرت بالقلق واللهفة على مصير الجيش المصري في عدده القليل أمام أعدائه المتفوقين. لشد ما خفق
قلبي وأحمس المتخفي في زي التجار، يلقى الملك، ويصارع القائد، وينتفض للعزة الجريحة، ويمسك نفسه في جهد شديد. لشد ما عطفت عليه وهو يقع في صراع أشد وأعنف من كل صراع حربي، ويجاهد نفسه بين قلبه وواجبه، فيؤدي الواجب على حساب قلبه الجريح
ولم يكن الشعور القومي وحده هو الذي يصل نبضاتي بنبضات أبطال القصة. بل كان الطابع الإنساني الذي يطبعها، والتنسيق الفني الذي يشيع فيها، هما كذلك من بواعث إحساسي بصحة ما يجري في القصة، وكأنه يجري في الواقع المشهود، بكل ما في الواقع من عقد فنية، وعقد نفسية، ينسقها المؤلف في مواضعها بريشة متمكنة، ويد ثابتة، تبدو عليها المرانة، والثقة بمواقع التصوير والتلوين
ولا أحب أن يفهم أحد من هذا أن مؤلف (كفاح طيبة) قد بلغ القمة الفنية. فهذا شيء آخر لم يتهيأ بعد. إنما أنا أنظر إلى المسألة من ناحية خاصة. ناحية تحقيق هدف قومي جدير بعشرات القصص والملاحم. فإذا استطاع فنان أن يحقق هذا الهدف، دون المساس بالطابع الإنساني والطابع الفني، وبلا تزوير في المواقف والعواطف، أو تزوير في وقائع التاريخ، فذلك توفيق يشاد به بكل تأكيد. وفي هذه الحدود أحب أن يعني هذا المقال
وبهذه المناسبة أشير إلى بعض الأخطاء اليسيرة مثل قول الملك (سكيننرع): (لم تكن العجلات من آلات الحرب لدى الرعاة. فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها؟) فالثابت تاريخيا أن (عجلات الحرب) كانت سلاح الرعاة الجديد الذي هاجموا به مصر، فتغلبوا به على شجاعة المصريين، حتى أخذه المصريون عنهم فانتصروا به وبذوهم فيه
ومثل أن يقول عن اسم (أحمس) إنه مشتق من الحماسة. فأحمس اسم مصري قديم لا علاقة له بمعناه في اللغة العربية، ولعله وجد قبل أن يكون لهذه اللغة وجود معروف!
ومثل أن يقول أحمس: (انه آت من بلاد النوبة) فهذا اسم حديث كذلك. وقد كانت في ذلك الحين تسمى بلاد (بُنت) أي الذهب. . .
ومثل أن يقدر مدة حكم الرعاة بمائتي عام. والراجح أنها تصل إلى حوالي خمسمائة عام
وبعض هنات كهذه وتلك. ولكن ماذا؟ إن الفنان ليستطيع أن يخطئ مائة مرة مثل هذا الخطأ، دون أن يؤثر ذلك في عمله الفني الأصيل
قصة (كفاح طيبة) هي قصة الوطنية المصرية، وقصة النفس المصرية، تنبع من صميم قلب مصري، يدرك بالفطرة حقيقة عواطف المصريين - ونحن لا نطمع أن يحس (المتمصرون) حقيقة هذا العواطف، وهم عنها محجوبون
ولقد قرأتها وأنا أقف بين الحين والحين لأقول: نعم هؤلاء هم المصريون. إنني أعرفهم هكذا بكل تأكيد! هؤلاء هم قد يخضعون للضغط السياسي والنهب الاقتصادي، ولكنهم يجنون حين يعتدي عليهم معتد في الأسرة أو الدين. هؤلاء هم يخمدون حتى ليظن بهم الموت، ثم يثورون فيتجاوزون في ثورتهم الحدود، ويجيئون بالمعجزات التي لم تكن تتخيل منهم قبل حين. هؤلاء هم يتفكهون في أقسى ساعات الشدة ويتندرون. هؤلاء هم تفيض نفوسهم بحب الأرض وحب الأهل، فلا يرتحلون عنهما إلا لأمر عظيم، فإذا عادوا إليهما عادوا مشوقين جد مشوقين هؤلاء هم أبدا في انتظار الزعيم، فإذا ما ظهر الزعيم ساروا وراءه إلى الموت راغبين
هؤلاء هم المصريون الخالدون، هؤلاء هم ثقة وعن يقين
لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة؛ ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان؛ ولأقمت لصاحبها - الذي لا أعرفه - حفلة من حفلات التكريم التي لا عداد لها في مصر، للمستحقين وغير المستحقين!
سيد قطب
اللغة القانونية في الأقطار العربية
ووجوب تصفيتها وتوحيدها
للأستاذ عدنان الخطيب
عقد في شهر أغسطس الماضي أول مؤتمر لمحامي البلاد
العربية في مدينة دمشق حاضر فيه علماء حقيقيون من كل
قطر في مواد معينة من القانون، وكان الأستاذ عدنان الخطيب
المحامي ممن حاضروا في مادة (المصطلحات الحقوقية) فنالت
محاضرته إعجاب المؤتمرين ورجال الحكومات، وقد خص
الرسالة بنشر محاضرته قبل نشرها في (كتاب المؤتمر)
المقرر إصداره قريباً.
1 -
اللغة وأهميتها
لا ريب في أن اللغة تعتبر من مقومات الأمم في العصر الحاضر، لا بل إنها أهم تلك المقومات التي تميز الأمم والشعوب بعضها من بعض، وهي الركن الأساسي فيما يعرف (بالوعي القومي) لأنها وسيلة التفاهم والتقارب، ولأنها أهم رابطة تصل الحاضر بالماضي، إذا كان ثمة تاريخ يرغب في الاحتفاظ به، ولهذا ترى كل أمة ذات تاريخ مجيد، تعمل دائما على الاحتفاظ بلغتها، وإن باعدت الأرض أو السياسة بين أبنائها، لأن وحدة اللغة أول دليل على حيوية تلك الأمة ولياقتها للبقاء على وجه الأرض كأمة واحدة محترمة.
2 -
الأمة العربية ولغتها الخالدة
إن الأمة العربية التي حملت إلى العالم في ماضيها اللامع، أخلد رسالة، رسالة الهداية والعلم والنور، أولى الأمم في وصل ما انقطع من تاريخها والعمل على إعادة ذاك المجد الغابر، وإذا كانت لغتها حية خالدة بفضل من الله، فإن تبعة أبنائها في المحافظة على
سلامة لغتهم واستقامة لسانهم تبعة عظيمة توجب على كل عربي أن يقوم بقسط من ذلك يتفق وحدود طاقته ومركزه الاجتماعي.
3 -
مزايا اللغة العربية في الناحية القانونية
إذا كانت لهذا المؤتمر العربي (المؤتمر الأول للمحامين العرب) أهداف قومية كثيرة، فلاشك في أن سلامة اللغة القانونية، والعمل على توحيدها هما في أول تلك الأهداف الجليلة
ويجدر بالمؤتمرين أن يقروا، قبل كل شيء بأن اللغة العربية في أول اللغات الحية صلاحية لأن تكون (لغة قانون محكمة) لأنها تتمتع بمزايا عظيمة، يندر أن تمتع لغة غيرها بمثلها، وأهم هذه المزايا من (الناحية القانونية): السعة والدقة، وهاتان المزيتان لا يشك فيهما مطلع على كتب فقه الشريعة من جهة، وفقه اللغة من جهة أخرى.
4 -
اللغة (القانونية) في البلاد العربية
ظلت اللغة العربية، لغة التشريع والقضاء والفقه، إلى أن دالت دولة العرب، فأخذت اللغات الأعجمية تتسرب إلى الإدارة والسياسة، وما أن قامت دول المحاربين الأعاجم، حتى أصبحت لغتهم لغة الفضاء، بينما ظلت لغة الفقه عربية مستمدة من أم التشريع الإسلامي العربي المبين، فلما أحبت الدولة العثمانية أن تقتدي بأوربة في التشريع والتقنين، أخذت تترجم القوانين الغربية إلى اللغة التركية، لغة الدولة الرسمية ولغة القضاء فيها، فغدا القانون في البلاد العربية قانونا أجنبيا كتب بلغة أجنبية، ويحكم به في الغالب قاض غير عربي، وقد أحدث هذا التيار فقها قانونيا جديدا في البلاد العثمانية أخذ عن أوربا باللغة التركية، وبه انقطعت الصلة بين فقه القانون وفقه الشريعة العربي، إلا من ناحية الأحوال الشخصية وبعض النواحي المدنية الأخرى
ثم أخذ المشتغلون بالقانون من أبناء العرب بنقل القوانين الجديدة إلى اللغة العربية، فلم يوفق بعضهم في ذلك، فتداول الناس القوانين العثمانية بلغة عربية، ولكنها لغة هزيلة، شاعت فيها الركاكة وامتلأت بالتعابير الضعيفة، وأدخلت على العربية ألفاظاً أعجمية كثيرة، ما زالت تعيش إلى يومنا هذا في بعض الأقطار العربية
5 -
أثر الوضع الدولي الحديث في اللغة القانونية
عندما انهار الحكم العثماني أخذت الأقطار العربية وضعاً دولياً جديداً، جعل منها دويلات وإمارات متعددة، يخضع كل منها إلى نفوذ أجنبي معين، وكان مركز كل قطر منها كدولة مستقلة. يختلف باختلاف ظروفه الخاصة، ونوع النفوذ الأجنبي المفروض عليه ومقداره، وبذلك اختلفت لغة (القانون) باختلاف المشرعين في كل قطر، وانعدام الصلة بين الفقهاء والمعربين في مختلف الأقطار؛ فتعددت بينهم المصطلحات الحقوقية، وتباينت الألفاظ الدالة على معان واحدة مما يطعن لغتنا المحبوبة في صميمها، وينافي الفكرة القومية، ويقف عثرة في سبيل تحقيق الآمال المنشودة والرغائب المشتركة
6 -
اللغة العربية لغة دولية في القانون المقارن
في آخر مؤتمر دولي للقانون المقارن عقد في (لاهاي) قبل أن تندلع نيران هذه الحرب دعي الجامع الأزهر للاشتراك به؛ فقام الأزهر بإرسال بعثة من كبار الفقهاء ورجال القانون المصريين أحسنوا تمثيل مصر ومن ورائها العالمان الإسلامي والعربي تمثيلاً جعل المؤتمر الدولي يجمع على اعتماد القرار الآتي:
(يقرر قسم القوانين الشرقية في الوقت الذي يختتم فيه أعماله أن المسائل التي طرحت للبحث في الشريعة الإسلامية كانت من الأهمية بمكان، ويقدر قيمة وفائدة التقارير التي قدمت فيها، والملاحظات التي أبديت بشأنها، كما يقدر أهمية عدد المؤتمرين الذين اشتركوا في المناقشات، وأهمية هذه المناقشات الراجعة إلى صفات الممثلين ومؤهلاتهم، ونظرا لأن اللغة العربية قد استعملت لأول مرة تبادل الآراء.
لهذا يلفت القسم نظر المجمع الدولي للقانون المقارن إلى ضرورة فسح مكان أوسع للشريعة الإسلامية في برامج المؤتمرات القادمة، كما إنه يبدي رغبته في أن يدعى للمؤتمر القادم ممثلون من جميع البلاد التي تهتم بالدراسات الإسلامية، كما يبدي الرغبة أيضاً في أن تستمر اللغة العربية في المؤتمرات القادمة ضمن اللغات المستعملة لمناقشة المسائل المتعلقة بالشريعة الإسلامية)
هذا ما قرره المؤتمر الدولي للقانون المقارن مما يبشر باشتراك الأقطار العربية كلها في
المؤتمرات القادمة التي ستعقد بعد أن تضع الحرب أوزارها، ولاشك في أن اللغة العربية ستكون يومئذ اللغة الرسمية لممثلي تلك الأقطار؛ فهل يليق بهذه اللغة أن يختلف أولئك الممثلون في كثير أو قليل على ألفاظ أو كلمات أو جمل لها دلالات قانونية واحدة؟! قد يكون بعض الاختلاف ناجما عن كثرة المرادفات في العربية، ولكن هذا إذا كان مما يفخر به أحيانا فانه عيب في لغة القانون، وإذا كان استعمال المترادفات في النصوص التشريعية وما يتصل بها غير مستحب ولو لم يؤد إلى شيء من الاضطراب فيها، فكيف إذا أدى إليه؟ لا في مؤتمر دولي يضم كبار علماء القانون المقارن، بل بين أفراد الأسرة الواحدة إذا ما اجتمعوا أو تبادلوا نتاجهم الفكري!؟
إن التباين الموجود في لغتنا القانونية ومصطلحاتنا الحقوقية، نحن أبناء الأسرة الواحدة يجب أن يبدأ بالزوال منذ اليوم، وكلنا أمل بأن لا نرى بعد أمد قريب أي اختلاف يتصل باللغة بين رجال القانون المصريين واللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين والأردنيين والسوريين
7 -
أمثلة التباين والاختلاف
إني لا أود جمع كل التباين الموجود في اللغة التشريعية أو الفقهية أو في تعريب المصطلحات الحقوقية بين مختلف الأقطار الناطقة بالضاد، لأن لهذا مقاماً غير هذا المقام، وسأكتفي تصويرا للواقع الملموس بإيراد الأمثلة البارزة التالية:
1 -
الدستور في مصر وسورية ولبنان هو القانون الأساسي في العراق، والهيئة التشريعية في مصر هي البرلمان المصري، بينما هي في العراق مجلس الأمة العراقي، ومجلس الشيوخ المصري يقابله مجلس الأعيان في العراق
إن هذا التباين في الأسماء لمسميات تكاد تكون واحدة، يبدو لأول وهلة لا قيمة له، والحقيقة أنه إذا ما أضيف إليه الاختلاف العظيم في مسميات أخرى، عجيب بين دول نتكلم بلغة واحدة
2 -
إن القرارات والأوامر الصادرة عن هيئات مختلفة تختلف أسماؤها باختلاف تلك الهيئات أو صفاتها، فإذا استعرضنا أنواع القرارات في البلاد العربية وجدنا أن الاتفاق بين جميع الأقطار لم يقع إلا على لفظة واحدة وهي (القانون) الذي هو عبارة عن القرار
الصادر عن الهيئة التشريعية الدستورية، وأما أنواع القرارات والأوامر الأخرى، فيكاد يكون لكل اسم في قطر مدلول آخر في القطر الآخر:
(ا) فالمرسوم بقانون في مصر هو المرسوم التشريعي في سورية ولبنان وهو المرسوم فقط في العراق
(ب) اللائحة في مصر هي النظام في العراق، والمرسوم في سورية ولبنان
(ج) المرسوم في مصر وسورية ولبنان هو الإرادة الملكية في العراق
(د) الإرادة الملكية في العراق تسمى أحيانا الأمر الملكي في مصر، وهي مرسوم في لبنان، وفي سورية في الواقع، وقرار بحسب النص العربي للدستور
(هـ) القرارات في سورية ولبنان ومصر هي التعليمات في العراق
(و) مشروع القانون في مصر وسورية ولبنان هو اللائحة القانونية في العراق
(ز) نظام المجلس الداخلي في العراق ولبنان وسورية هو اللائحة الداخلية في مصر
(ح) اللوائح في سورية هي مجرد التقارير واسم يطلق على المرافعات المكتوبة
3 -
إذا كانت مهمة رأس الدولة الأعلى في سن التشريع تختلف باختلاف نظم الحكم والدساتير، فإن عمليتي الإصدار والنشر بمفهومهما الفقهي الحديث، تتشابهان كثيراً في النظم السياسية المتقاربة، ومع هذا فإنا نجد سمة نشر القوانين في الأقطار العربية، تختلف اختلافاً واضحاً مبعثه ليس فقط اختلاف نظم الحكم فيها، بل الاختلاف على معاني الألفاظ وترتيبها وهذه من سمات النشر في الأقطار المختلفة
(ا) في مصر
(نحن ملك مصر، قرر مجلس الشيوخ ومجلس النواب القانوني الآتي نصه، وقد صدقنا عليه وأصدرناه)
(ب) في العراق
(بموافقة مجلسي الأعيان والنواب أمرنا بوضع القانون الآتي)
(جـ) في سورية
(أقر المجلس النيابي ونشر رئيس الجمهورية القانون الآتي)
(د) في لبنان
(صدق مجلس النواب وينشر رئيس الجمهورية القانون الآتي نصه)
(البقية في العدد القادم)
عدنان الخطيب
المعدة
كغدة من الغدد ذات الإفراغ الداخلي
للدكتور حيدر السمان
لقد جلت الدراسات التي قام بها العلماء في مستهل القرن الأخير أهمية العدد الصماء وبينت تأثير مفرغاتها الداخلية على تنظيم وظائف الأعضاء وعلى التوازن المتقابل الموجود بينها كما أنهم ذكروا الأمراض التي تنجم عن فرط أو نقص هذه المفرغات والأدوية الغدية الحديثة التي كانت عجيبة بنتائجها.
فقد ظهر أن لهذه الغدد إفراغات داخلية تصب رأسا في الدم تدعى (هرمونات لها تأثير منشط لوظائف حجرات الأعضاء، وقد قسمت هذه الغدد بالنسبة لإفراغاتها هذه إلى قسمين:
القسم الأول: لها إفراغات داخلية فقط مثل: الغدة النخامية ثم الغدة الدرقية ثم غدة المحفظة فوق الكلية (الكظر والقسم الثاني: لها إفراغان داخلي وخارجي، مثل الكبد: والمبيض والخصية البانقراسي ولن أتعرض في بحثي لهذه الغدد لأن أمرها معروف لدى الجميع ولكني ذكرتها بالمناسبة للعلاقة الصميمة التي تربطها بمقالي. إن الاكتشافات الحديثة قد أضافت لهذه الغدد الصماء عضوا آخر لم نكن ندري بأن له هذه الأهمية الغريزية قبل اليوم، فقد ظهر أن للمعدة إفراغاً داخلياً مستقلاً تمام الاستقلال عن إفراغها الخارجي
لقد كانوا يعتقدون إلى عهد قريب أن لا ضير من الاستغناء عن المعدة استغناء تاما. ولذلك فإنهم يشيدون بمنافع عمليات المعدة التي توصلوا بواسطتها لبتر المعدة وتفميم المري مع الاثنى عشري في بعض حوادث سرطانات المعدة لاعتقادهم بأن إفرازات البانقراسي والمعاء الرقيقة وخاصة إفرازات العضو الأخير كافية لسد النقص الناجم عن فقدان المعدة فقدانا تاما أو قسمياً فتؤثر على المواد الغذائية وتجعلها بحالة ملائمة للامتصاص.
ولكن ظهر للعالم خطل هذا الرأي إذ توصل بتحرياته التي قام بها إلى أن المعدة موضعاً لحفظ الأطعمة فقط حتى يمكن لفن الجراحة أن يستأصل قسماً منها أو يزيلها جملة دون أي عارض ما، بل إن لها إفراغاً داخلياً مستقلاً تمام الاستقلال عن عصارتها الخارجية كالبانقراسي.
إن الهرمون المضاد لفقر الدم - أو: هو الإفراغ الداخلي للمعدة الذي يؤثر على خاصة الكبد المولدة للدم فيزيد في عدد الكريات الحمراء ازدياداً كبيراً، فقد وجدوا نقصاً ظاهراً في عصارة المعدة عند من كانوا على عتبة الإصابة بفقر الدم.
لقد بين أن عصارة المعدة عند الأشخاص الاعتياديين تكتسب عقب أكل اللحم قوة فعالة ضد فقر الدم تفوق بفائدتها فائدة تناول (خلاصات الكبد) ففي ناحية الكبد يظهر التأثير الفعال لهذه العصارة الداخلية، وإن أية آفة تصيب المعدة تؤثر تأثيراً سيئاً في الكبد وتكون سبباً إذا طال أمدها للإصابة بفقر الدم، إذ لوحظت حوادث فقر دم خبيثة عقب عمليات بتر المعدة الكاملة أو القسمية وعلى هذا الأساس فقد دخلت المعدة في مداواة فقر الدم
وقد بذلت جهود جبارة لمعرفة ناحية الغشاء المخاطي المعدي الذي يتصف بهذه الخاصة الغريزية إذ أن على هذا التحديد تتوقف نتائج عمليات المعدة، وقد نجحوا في تحديد ذلك المكان وتبين لهم أن الغشاء المخاطي الموجود في جوار البواب له هذه الخاصية الحيوية الهامة
وقد طبقت هذه النظرية في مداواة فقر الدم الناجم عن الأنزفة الدموية الغزيرة وفي مداواة فقر الدم التالي لآفات: السل، الملاريا، التهابات الكلية، التسممات، وفي حالات الضعف العام الناجم عن البؤس والفاقة، حسب طريقة الخاصة وذلك بأن تدخل لمعدة المريض بواسطة أنبوب من المطاط عصارة معدة شخص سليم عقب إطعامه (300) غرام من لحم البقر بساعة واحدة، ولكن بالنظر لصعوبة تطبيق هذه الطريقة في فن الممارسة، فقد استعيض عنها بطرق أخرى أسهل تناولاً، ولكنها أقل تأثيراً، فمنهم من أعطى معدة بعض الحيوانات الغضة، ومنهم من أعطى مسحوقها المجفف بمقدار (30) غراماً مقسمة على ثلاث مرات ممزوجة مع عصير البرتقال أو أي عصير كان قبل الطعام
وقد استحدثت بعض المستحضرات الطبيعية السائلة مثل وكانت نتائجها جيدة جدا
إن هذا الاكتشاف الخطير سيقلب جراحة المعدة رأساً على عقب، وستعود بلا شك عمليات (التفاقم المعدي المعوي - إلى سابق مجدها بعد أن أهملت زمناً ليس باليسير، وأوشك أن يقضي عليها نهائياً بعد تطور عمليات المعدة الأخير، ولكن لابد قبل ذلك من إدخال بعض التحسينات للتخلص من اختلاطات خطيرة وصمت بها كانت تجبر الجراحين على
الاستغناء عنها
يجب أن نفكر في النتائج البعيدة التي تسببها الأدوية المعدية قبل أن نطبقها على المرضى المعودين، فالأدوية المنقصة للإفرازات المعدية التي تعطي في بعض أمراض المعدة تؤثر في فعالية الكبد وتلجم خاصته المولدة للدم، فتكون سبباً للإصابة بالضعف العام وفقر الدم، وبالعكس فإن الأدوية المزيدة للإفرازات المعدية لا تنشط عمل المعدة الهضمي تجاه المواد الغذائية فقط، بل إنها تتعدى ذلك وتؤثر على الكبد فتزيد في خاصته المولدة للدم، فتزداد فعالية الجسم ومقاومته تجاه الجراثيم والأمراض
يجب أن تطلق اليد في استعمال الأدوية المعدية، بل يقتضي استعمالها بدقة وانتباه وبمشورة الأطباء الأخصائيين.
(دمشق)
الدكتور
حيدر السمان
من وحي الدماء!!
1 -
مصرع الجمال!!
(حملت إلينا أنباء المجازر المشئومة: أن الألمان في ميدان
(نورماندي) يستخدمون في قتالهم بعض كتائب من الجنس
اللطيف! وقد نجم عن هذا العمل الوحشي أن ذهب كثير من
هؤلاء البيض الحسان جزر السلاح الأبيض! وهل في الحرب
يا أم ارحميني! فوا حسرتاه! ويا حر قلباه!
رحمتَا للحسان بِتْنَ وقوداً
…
لجحيمٍ، وَقُودهُا الأبرياءُ
كم قُدودٍ، لها اهتزاز العوالي
…
هَصَرتْها المنيّةُ الهوجاء
وعيونٍ، مِن زُرقة البحر أَصْفَى
…
سَلَبتْها سِهامَها الهيجاء
وخدودٍ في صَحْنها الجمرُ والما
…
ءُ، خبا جمرُها، وغاض الماء
وثغور، كانتْ منَاهِل راح
…
حكمتْ في رَحيقها الأقذاء
وشعورٍ كالتِّبر تُؤْدَم بالمسك (م)
…
هي اليوم والحِلاقُ سَواء
وصدور غذَّى ترائبَها الحسن (م)
…
ورَوَّتْ ثِمَارَها النّعْماء
نهلت من أَديمها الأبيض (م)
…
وعَلّتْ منه الرِّماحُ الظلماء
كيف ذَلّ الجمال! وهوله العزةُ (م)
…
- بعد الإله - والكبرياء؟
يا حُماة الوغى، أَما للغواني
…
بينكم - تحت نَقعها - رُحماء
حرَّمت شِرعة البطولة أن تُقتل (م)
…
- في حومة الجلاد - النساء
دونكم ساحة الهوى وأنا الضا
…
من أن تصرع الأسود الظباء
2 - الأرض الدنسة
انظر الأرض عَلَّ فيها بقاعاً
…
لم يُدَنَّسَ أَديمها بالجرائمْ
كلُّ صُقْعٍ بها جحيم تلظّى
…
يصّطلي حرَّها البريء المُسالم
شَقِيَ الناس بالعقول وراحت
…
ناعمات - يفقدهنَّ - البَهائم
بتُ في ريبة: أذاك هواءٌ
…
- ينشق الناس - أم غبار الملاحم
زعماء الشعوب قادوا إلى النا
…
ر شعوبا وراَءهم كالسّوائم
كلُّ إبليس عنه يأخذ (إبليس)(م)
…
فنون الأذى، وهتك المحارم
هذه الأرض للشفاء فلا تقرع (م)
…
- على فائت بها - سِنَّ نادم
علي الجندي
البريد الأدبي
تعقيب ورد
1 -
أوافق الأستاذ الجليل نقولا الحداد على قوله في كلمته المنشورة في العدد 583 تعليقاً على مقالي (مسائل في وحدة الوجود): (إن الأديان السماوية الثلاثة ترفض نظرية (وحدة الوجود) رفضاً باتاً وأنها مجمعة على أن الله والوجود المادي منفصلان، وأن الله خالق الوجود المادي ومسيره).
غير أني لا أوافقه فيما ذهب إليه من أن بيئتنا الفكرية في البلاد العربية ليس فيها محل لحرية الفكرية أو القول أو القلم. فإن ذلك حكم قاس على تلك البيئة التي عرفت أنواع الحريات حتى في القرون الوسطى
وليست مناقشة أهل مذهب ديني أو فكري لأهل مذهب آخر دليلا على أن الحرية غير مكفولة، فإن الصراع والنزال في المجال الفكري لانتصار مذهب على مذهب ليس معناه الحجر على الحريات ما دام هذا الصراع لم يتخذ سبيل القوة والإرغام والاضطهاد من جماعة لجماعة.
ولست بحاجة إلى التدليل على أن كثيرا من الآراء والمذاهب في البلاد العربية وفي مصر خاصة لا يتفق مع المقدسات من العقائد. ومع ذلك يحيا أصحابها ويستطيعون أن يدافعوا عن آرائهم وحججهم ولا تمس أشخاصهم بسوء. (ولا يساقون إلى قضاء الامتحان الديني).
نعم لقد تنسب لبعضهم تهمة المساس بالعقيدة الدينية (ويحمل عليه حملة تكافئه). ولكن ليس يتعدى ذلك إلى غير الاتهام وحملة الكلام. . . وهذا بالطبع جائز لكل مناظر يرى رأياً ويقرر حكما في حدود الأدب، وعلى المناظر الآخر أن يدفع التهمة أو يرتضيها لنفسه إن كان ما صدر منه عن عقيدة راسخة يريد أن يدعو الناس إليها
فإن كان الذين يريدون أن يمسوا العقائد الدينية الموروثة معتقدين مخلصين لآرائهم، ويرون إنها الحق الذي يجب أن يدعي إليه فلماذا لا يحملون في سبيلها الاضطهاد والعذاب الذي لاقاه مؤسسو هذه العقائد والأديان، ويلاقيه كل داع إلى الخير؟
والطبيعة البشرية حتى في المجال العلمي الطبيعي تقاوم كل نظرية حديثة وقصة مقاومة العلماء والأطباء لنظريات إخوانهم المكتشفين لحقائق جديدة قصة معروفة حتى في هذا
العصر. فليس الأخذ والرد والدفع والجذب في المجال الديني والفلسفي فريداً لا نظير له، وإنما طبيعة الناس المقاومة لكل حديث إما حسداً وإما جحوداً وضيق فكر، وإما عن عقيدة واقتناع. والزمن كفيل بمعاونة الحق على الظهور والنمو والغلبة. وبقاء الأصلح قانون طبيعي (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)
فعلى أحرار الفكر الذين يرون آراء حديثة في الحياة أو الاعتقاد أو حياة الاجتماع أن يحملوها حمل آباء الإنسانية الأولين من الأنبياء والحواريين، وان يلاقوا في سبيل تبليغها ما لاقى أولئك من التسفيه والتشريد والتجويع والتقتيل إن كانوا بها مؤمنين، وللإنسانية مخلصين. وعليهم بعد ذلك أن يتحملوا تهم الكفر والإلحاد التي رمي بها الأنبياء. فلقد رمي كل رسول بتهمة الكفر والإلحاد في العقائد الوثنية والتقاليد والأخلاق الهمجية، ومع ذلك فقد سخروا من الاتهام وتحملوا الآلام حتى انتصروا وانتصرت كلماتهم، وصار العالم الراقي كله يدين لتلك الكلمات! وعلى هؤلاء الأحرار بعد كل ما تقدم أن ينتصروا. . . وأن يحملوا الطبيعة الإنسانية على الاستجابة لآرائهم إن استطاعوا وإلا فعليهم أن يعلموا أن الطبيعة الإنسانية لا تأبى مذاهبهم ولا تستعصي على الاستجابة لها إلا لأنها (نشاز) وشذوذ لا يصلح معه أمر حياة الاجتماع، ولا يأنس إليه الطبع الإنساني العام الذي لا يخضع للعقل وحده، وإنما يخضع لمزيج مبهم من العقل والغريزة والعاطفة. . .
وقديماً فشل العقل اليوناني بفلسفاته أن يوجد أمة صغيرة كاليونان، ويقودها نحو الإيمان بالله الواحد، ويترك الوثنيات التي كانت تنضج بها معابدها. . ولكن الطبع الباكي الضارع الحنيفي الفطري المتمثل في إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد والمتعلق بالله الواحد، وبأصول الخير والفضيلة قاد اليونان والرومان ووحدهم. وقاد من بعدهم أمماً عظيمة لا تزال ولن تزال تسيطر على مقدرات الأرض وسياسة الاجتماع
2 -
بدت للأستاذ إبراهيم السعيد عجلان ملحوظتان حول أمرين وردا في المقال السالف الذكر
أولهما: تقريري أن إبراهيم عليه السلام توهم أن الله تعالى يخلق بأدوات ووسائل، مع أن إبراهيم سأل:(كيف تحيي الموتى) ولم يسأل (بأي شيء تحيي الموتى).
والذي قلته بالحرف: لقد توهم إبراهيم أن هناك (كيفية) للإحياء، وأنه هناك أدوات ووسائل
للخلق والتكوين
فأنا لم أحول (كيف) عن معناها حتى ولا لفظها، بل قدمت معناها، ثم ألحقته بلازمه الذي لابد يخطر بالبال عند إجراء (كيفية) التكوين والخلق. فإن أدوات التكوين والخلق في خيال الناس تلحق (بالكيفية) وصورها
ثانيهما: تفسيري الفعل صار من (صُرْهُنَّ) باذبحهن. . .
وهذا في (رأي الأستاذ عجلان ينافي صريح اللغة وسياق الآية والرد على هذا الاعتراض من وجهين:
1 -
في قاموس الفيروزبادي: (صار الشيء يصوره ويصيره: قطعه وفصله) وهذا صريح في معنى الذبح. وأكثر من الذبح وهو التقطيع وتكون (إليك) في الآية ضميمة لتصوير الحال إذ أن الحال في ذبح الطير أن يميل به الذابح ويضمه إلى جانبه ليتمكن من إجراء السكين.
2 -
لو كان معنى (صُرْهن) ضمهن وأملهن فقط لكان تفسيرها بالذبح تفسيراً بلازم والأمانة في هذا الموضع الذي يتعين فيه ذلك التفسير ليتناسب ذلك مع (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا)
عبد المنعم خلاف
رأي الأب مرمجي في وحدة الوجود
رداً على كلمة الدكتور زكي مبارك المنشورة في العدد 582 من (الرسالة) الغراء أقول: كنت قد كتبت إلى العلامة الأب مرمجي الدومينيكي أستوضحه رأيه في وحدة الوجود بعد أن قرأت مقال الأستاذ دريني خشبة الأول حول هذا الموضوع: فأجاب حضرته بما يلي:
(الوحدية مذهب فلسفي معاكس في مختلف وجوهه لمذهب ثنائية أو كثرة الوجود أو فبينما تميز فلسفة (كثرة الوجود) تعدد الأشياء تنكر فلسفة (وحدة الوجود) حقيقة التعدد، وتذهب إلى أن ما يعد كثرة ليس إلا ظواهر للموجود الواحد. إذ تميز فلسفة الكثرة بين الجسد والنفس، وبين المادة والروح، وبين الموضوع والفاعل، والمادة والقوة، فالمذهب الجاحد لمثل هذا التمييز والمحمل لأحد حدي التناقض إلى الآخر، أو الخالط الاثنين في
وحدة عليا، يدعي مذهب الوحدية أو مبدأ وحدة الوجود
(في الفلسفة الغيبية أو الميتافيزيقية، كان قدماء فلاسفة الهنود يذهبون إلى أن التغيير والكثرة والسببية ليست حقيقة، وأن لا حقيقة إلا موجود واحد هو الله، وهذا المبدأ ينكر الموجودات إلا وجود الله والقائلون به هم المثاليون الصوفيون أما قدماء اليونان ففلاسفتهم أنكروا مثل الهنود، وجود الكائنات، وقالوا إن الوجود واحد غير متغير وسرمدي، ولم يصرحوا باتحاد هذا الوجود بالله، ودون الميل إلى الصوفية، فكانوا مثاليين أو تصوريين صرف. ومثل هذا المذهب قالت به الأفلاطونية الجديدة وظهر في فلسفة سبينوزا وفي فلسفة الإطلاق لهيكل وفي فلسفة الغيبية الساعية في جمع المادة والروح في وحدة عالية، فضلا عن الوحدة التصورية المثالية هناك الوحدية المادية المدعية أن لا وجود إلا لحقيقة واحدة وهي المادة سواء أكانت هذه المادة الأولى مجموع ذرات أم سديماً صدر عنه الكون
(الوحدوية) ليست هي (التوحيد) أو الإقرار بوجود إله واحد، وإنكار تعدد الآلهة أو الوثنية، وإنما تطلق على (الوحدة الحلولية) القائلة بأن لا تمييز بين الله والكون، سواء قيل أن الله حال في الكون حلول الجزء في الكل، أو قيل أن لا وجود إلا لله وما الكون إلا ظهور الله أو تجليه، وهذا ما ينافي التوحيد ' أي وجود الله ووجود الخلائق المتميزة عنه. التوحيد لا ينكر أن الله ظاهر بخلائقه، ولكنه ينكر أن لا وجود للخلائق. التوحيد ثنائي أي يقبل بوجود الله ووجود الكائنات متميزة عنه. إن الله متميز عن الكون ومستقل بذاته، والكون متميز عن الله لكنه غير مستقل عنه، التوحيد يقول أن العالم قد خلقه الله من العدم، وهذا أيضاً مذهب فلاسفة اليونان كسقراط وأرسطو وأفلاطون. أما غيرهم من أهل الوحدية فيذهبون إلى أن أصل العالم المادة، وأن هذه المادة القديمة صدرت عنها الموجودات، وهكذا يخلطون بين العلة المادية والعلة الفاعلة السببية)
أما بعد، فهذا ما كتبه عالم له في ميدان الفلسفة باع طويل فما قول الدكتور زكي مبارك بعد ذلك؟
(القدس)
(أ. جـ. جـ)
بين الفلسفة والدين
قلت للأخ العزيز الأستاذ دريني خشبة إني حاضر لمساجلته حول نظرية وحدة الوجود، على أن يكون أساس المساجلة أن نترك التفكير في أن هذه النظرية تجنى على العقيدة الإسلامية، فكيف كان رأيه في هذا الأساس؟
تفضل فقال: (هذا شرط عجيب، ولست أؤثر أن أقول إنه شرط خبيث!) ثم كرر هذه العبارة بعد سطور من مقاله الجميل!
وأقول إن من حقه أن يصف ذلك الأساس بما يريد، ما دام مخلصاً في الوصف، وهو في نظري من أهل الصدق والإخلاص
ولكني لا أقبل أبدا إخضاع الفلسفة للدين، لأن هذا يبعدها عن مراميها، ويصدها عن رياضة الفكر على التحليق في آفاق المجهول من سريرة الوجود
والخير للإسلام وأهله أن لا نزج به في جميع التيارات الفكرية، فهذا المسلك يبلبل الخواطر ولا يعود على العقيدة الإسلامية بأي نفع وإن ضرره لمحقق
وأقول أيضاً إني لا أجعل الإسلام في بالي عند كل فكرة يجول فيها عقلي، لأن هذا تعسف وتكلف، ولأنه صد للفكر عن الخوض في الحدود والفروض وهي المفتاح لمغاليق الثروة العقلية
والأستاذ دريني قال وكرر القول بأنه يريد لنفسه وللناس إيماناً بسيطاً، فأنا أرجوه أن يثبت على إيمانه البسيط، على شرط أن يسمح لرجل مثلي أن يختار الإيمان المعقد إلى أبعد حدود التعقد والاشتباك، وهو الإيمان بوحدة الوجود، وهو إيمان فلسفي لا أريد وصله بالعقيدة الإسلامية، لأني أكره الخلط بين الفلسفة والدين، ولأني أمقت مراءاة الناس
أما بعد؛ فهل تريد أن نتساجل على هذا الأساس الذي طاب لك وصفه بأنه أساس عجيب أو خبيث؟!
وفي انتظار جوابك أقدم إليك تحية الشوق وصادق الثناء
زكي مبارك
كتب جديدة للدكتور مندور
دعامة الإتقان للقيم الأدبية ترتكز على صدق في التعبير وصدق في التصوير، وعلى قدر حظ الأديب منهما يكون حظ آثاره الأدبية من الخلود، والمتأمل في كل ما أنتجه الدكتور الفاضل محمد مندور يلمح في ثناياه روح الصدق في الإحساس والتعبير. فقد كان الدكتور صادقاً حتى في كتابه المترجم، فأكبر اليقين لا أكبر الظن أن الدافع لترجمته كان ما يشعر به في أعماقه من تجاول بين هذه الأفكار المترجمة وبين ما تزخر به وجداناته. وتلك ميزة ملموسة شاهدناها في ترجمته لكتاب (دفاع عن الأدب) ولقد كان دكتورنا المفضال صادقا أيضاً في كتابه (في الميزان الجديد) بل أن كتاباته عن الأدب والشعر المهموس إذا فهمت على حقيقتها نهضت دليلاً قاطعاً على صدق التجاوب بين أحاسيس الدكتور وتعبيره. إن رجلا يحس الهمس ينبض في ألفاف الكلمات ويبلغ من رهافه الحسي أن يقيم (لفتات الحياة) وزناً كبيراً. . إن رجلا هذا شأنه لرجل صادق في كل شيء. وإني لأنتهزها فرصة لأقول إن الذي افهمه من الهمس في الشعر هو صدق التعبير الذي يلمس الفتات ويعنى بالخطير من الأمور، ومن ثم يكون كل صادق هامساً. ومن ثم تكون كل كتابة صادرة عن شعور عميق، وتأثر بالغ همساً أيضاً، وهل كانت دموع أستاذنا الزيات حين بكى ولده إلا الهمس النبيل، وهل كان رثاء الأستاذ العقاد لبيجو غير الهمس، وكم في كتاب الأيام من همس حبيب. إن وفاء الكاتب أو الشاعر لموضوعه وإيمانه وصدقه في تصويره، لا يخرج إلا الهمس. وما كان دفاع صديقنا الدكتور الجليل عن الأدب المهموس إلا الهمس في أبلغ معانيه. وبعد فإن المكتبة العربية لتعتز بهذه الكتب الثلاثة: نماذج بشرية، ومن الحكيم القديم إلى المواطن الحديث. وفي الميزان الجديد
(الإسكندرية)
حسين محمود البشبيشي