المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 588 - بتاريخ: 09 - 10 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٨٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 588

- بتاريخ: 09 - 10 - 1944

ص: -1

‌أمية المتعلمين

للدكتور محمد مندور

نحن في حاجة إلى أن نكافح ببلادنا ثلاثة أنواع من الأمية: الأمية الأبجدية والأمية العقلية وأمية المتعلمين. ولابد إذا أريد لهذا البلد الصلاح من أن نكافح الأنواع الثلاثة معا، وساقا بساق في شبه ثورة اجتماعية تجند لها جميع القوى قسراً

فأما الأمية الأبجدية فتلك في الحقيقة أهونها، لأن تعليم فك الخط ليس بالأمر العسير، وإن تكن هناك ظاهرة تستحق النظر. فلقد اتفق لكاتب هذه السطور أن رأى صبية التعليم الإلزامي يطالعون دون أن يخطر ببالهم أن المطالعة إنما تكون لفهم ما نطالع أو محاولة ذلك الفهم. وأنا بعد لا أدري سر هذه الغفلة، وإن كنت أميل إلى التفاؤل، إذ يخيل إلي أن محو الأمية الأبجدية عند الأطفال كسب حقيقي، فهم إذا كانوا عاجزين عن أن يستفيدوا بما تعلموا من مبادئ القراءة والكتابة فلا أظن ذلك مانعا لهم عند الكبر وتفتح النفس من أن يهتدوا إلى أن القراءة إنما جعلت للفهم والإلمام بما نقرأ. وأكبر الظن أن هذه الظاهرة لن تحدث عند تعليم الكبار الذي تعتزمه اليوم حكومتنا، فالشخص الكبير لابد من أن يتحرك تفكيره بما يقرأ، وبخاصة إذا اختير له من القراءات ما يثير اهتمامه الشخصي، ويلابس ظروف حياته فيشعره بفائدة ما يقرأ. وسوف يزداد شغفا إلى إجادة القراءة بفضل ما يلقن من مبادئ الثقافة الشعبية التي تشق الحجب عن بصيرته، فيحس بآفاق جديدة تنتشر بها حياته، حتى لكأنك تفك عنه أغلالاً، سيدرك عندئذ أنها كانت توثقه على غير وعي منه، وإذا به يسعى إلى أن يتمكن من الوسيلة التي حررته. ومن هنا تظهر الصلة المتينة القائمة بين مكافحة الأمية الأبجدية والأمية العقلية، وتأثير إحداهما في إنجاح الأخرى

والأمية العقلية محوها لا ريب أشق وأبعد مدى من محو الأمية ألأبجدية، وإن خيل إلينا عكس ذلك، فقد يقول قائل: إن باستطاعتك أن تجمع الأميين وتخاطبهم بلغتهم العامية عما تريد أن يعلموا وإذا بك تبدد الجهل من عقولهم، وهذا قول لا يصح إلا في ظاهره. فقديما قال مفكرو الإغريق:(إن تثقيف الأطفال - والأميون في هذا حكمهم حكم الأطفال - لا يستطيعه غير الفلاسفة) والسبب في ذلك بين، فالمعلم لابد له من خيال قوي ليستطيع أن يخرج عن نفسه ليحاذي عقلية من يخاطب، ثم إنه ليس أشق من تبسيط المعرفة، وذلك

ص: 1

لاستهداف المبسط في أغلب الحال لأحد أمرين: الغموض أو الثرثرة. ومن هنا ترى أن كتب التبسيط العلمية الجيدة لا يكتبها عادة في أوربا غير كبار العلماء الذين هضموا المادة حتى أصبح حديثهم عنها أشبه ما يكون بذكريات حياتهم الخاصة

وأيا يكون الأمر فهذان النوعان من الأمية باستطاعة حكومة حازمة أن تكافحهما أنجح الكفاح، ولكن ثمة النوع الثالث وهو أمية المتعلمين فذلك ما يحير اللب، حتى لأحسب أن تلك الأمية من أدوائنا العميقة التي اجتمعت لتأصيلها أسباب عاتية لا ندري كيف السبيل إلى علاجها

ولأمية المتعلمين ثلاثة مظاهر: الانتهاء من التعليم الدراسي بفائدة ضئيلة، وعدم تنمية كل صاحب فن لمعلوماته الفنية بعد التخرج، وأخيرا ضعف الثقافة العامة عند معظم المتعلمين، بل وإهمالها أحيانا إهمالاً تاماً

الخروج من التعليم بفائدة ضئيلة له ما يشابهه في حياتنا العضوية؛ فنحن جميعا لا نتمثل من الغذاء كل ما فيه من عناصر القوة، حتى لترى من الناس الضعيف برغم ما في شهيته من نهم، ومنهم القوي على ما به من اقتصاد في الغذاء. والقدرة على تمثل المعرفة للطبع فيها دخل كبير، ولكنه ليس كل شيء؛ فمناهج الدراسة وقدرة الأساتذة تفعل في ذلك الأعاجيب. وليس من شك في أن الثمرة الحقيقية لكل تعليم صحيح هي ما يخلف في النفس من رواسب تمتزج بملكاتنا، حتى تصبح جزءا منها، وأما المعلومات التي نحملها كودائع نسلمها لأوراق الامتحانات إسلاماً لا رجعة فيه؛ فذلك ما لا يمكن أن يسدد إدراكا أو يهذب ذوقا أو يرهف إحساسا. والمتعلم لن يصل إلى ما يجب من تمثل المعرفة إلا إذا أوتي من الخيال ما يستطيع معه أن يتصور في كل حين مواقف الحياة التي من الممكن أن يستخدم فيها كل نوع من المعرفة التي يتلقاها، وبفضل هذا الخيال يمد الصلات بين العلم والحياة. ونحن لا نملك هذه القدرة على نسبة سواء في مراحل حياتنا المختلفة، ولا أدل على ذلك من أن تعود بعد أن يستوي إدراكنا إلى أبسط كتب الدراسة نقرأها من جديد فنجد أننا كنا واهمين عندما اعتقدنا ونحن صغار أننا قد انتزعنا كل ما بها وفهمناه على وجهه. بل أن الكتب التي نقرأها مرة واحدة ونحن كبار نستطيع أن نعود إليها أو إلى الجيد منها فنعثر فيها دائما على جديد لم نفطن إليه أو غامض لم نحسن فهمه، وكل ذلك فضلا عما نستوحيه

ص: 2

من تلك الكتب. ومن الثابت أن الكتاب وسيلة للتفكير الأصيل قدر ما هو مستودع للمعرفة، ويا ويل قارئ سلبي لا يقف من الكتب إلا موقف المتلقي. ولقد اتفق لكاتب هذا المقال أن لاحظ غير مرة فروقا شاسعة بين المتعلم المصري والمتعلم الأوربي. فشبابنا المتعلمون أغلبهم لا نحس في حديثهم بمعارفهم إيمانا بما يقولون، أو على الأصح يرددون حتى ليتضح أن كل ما يذكرون ليس إلا رهائن في نفوسهم لا يعرفون سراً لاحتفاظهم بها، ولا يرون لها صلة بالحياة أو فائدة من إثرائها بله إخضاعها وتوجيهها. ولقد يكون أحدهم واسع الذاكرة ولكنك مع ذلك لا تعدم أن تحس بضيق إدراكه، حتى لكأنه حبيس فيما يردد مستعبد له؛ وكل تلك مظاهر لأمية أخطر من أمية العوام. والغربي على العكس من ذلك إيجابي في تفكيره، معارفه حية لأنها وقود لتفكيره، ومن هنا تتسع حيلته في الحياة وتشتد ثقته بنفسه، فلا يرهب مجازفة ولا يقعده عجز عن البدء في كبار الأمور يخطط سبلها ويوفر لها أسباب النجاح. عجيب أن يتخرج متعلمنا عالة على الحياة ويتخرج متعلمهم عنصراً فعالاً في خلق تلك الحياة

وذوو المهن منا قل من يتابع منهم سير المعرفة في مهنته، وذلك لأنهم لا يلبثون بمزاولة العمل أن ينزلوا إلى الآلية التي لا تستطيع تجديدا، حتى في فأصيل المهنة. والسر في ذلك، هو أنهم لا يقدرون - لكسل أو إعياء - قيمة المعرفة النظرية في مهنتهم قدرها الحق، ونحن الآن في عالم تعقدت فيه وسائل العمل والإنتاج، وأصبحت تستند إلى أسس نظرية لن تتقدم مهنة بدونها؛ ونحن لا نلقى التبعة كلها على متعلمينا فمنهم المرهق المهموم بتبعات الحياة المادية كالمدرس، ولكن إلى جانب هؤلاء كم ترى من موظفي الدواوين الذين طغى الكسل على حياتهم فتسكعوا كالدواب، وكم ترى من أطباء ومحامين لم يترك لهم جشع الحياة فراغا، يطالعون فيه جديدا أو يجيدون فهم قديم، تلقاهم فتدهش لآفاقهم المحصورة ومعارفهم الضامرة لا في ثقافتهم المهنية فحسب، بل وفي ثقافتهم الإنسانية العامة، تلك التي لابد أن تستند إليها معارفهم الفنية إذا أريد لها أن تنمي قدرتهم على تكييف النفوس والحكم على مواقف الحياة حكما صحيحا؛ وهذه أيضاً أمية لا تجد لها مثيلا في الغرب حيث يؤمن كل ذي مهنة أن توقفه عن القراءة مميت لمهنته مجفف لنفسه، وأنه لن يستطيع المنافسة في ميدان الحياة ما لم يتابع مكتشفات المهنة وثقافتها النظرية متابعة حارة

ص: 3

مستمرة

ونصل إلى ضعف الثقافة العامة؛ وهذا الضعف كما رأينا شديد الصلة بالتعليم وبالثقافة المهنية على السواء. ونقصد بالثقافة العامة كافة أنواع المعرفة الأدبية والتاريخية والفلسفية التي لا تتصل بمهنة ولا تؤدي إلى استغلال مادي مباشر. وفي هذه الظاهرة ترى ببلادنا ما يفزع حتى لتحسب أننا في أرض لم تتسرب إليها بعد معاني الحضارة الحقيقية. ففي أوربا مثلا من المستحيل أن تلقى موظفا أو طبيبا أو مهندسا أو محاميا يجهل مؤلفات كبار المفكرين من الأدباء والفلاسفة والمؤرخين. وأما في مصر فمن المستحيل أن تلقى من بين من ذكرنا من يعرف تلك المؤلفات في غير النادر الذي لا حكم له. ومن أشنع ما يهولك أن ترى سادتنا لا يستحون من جهلهم، بل يظهرون من عدم الاكتراث، إن لم يكن الاحتقار الكاذب لتلك الثقافة الحرة، ما يحزن. ومن عجيب الأمر أنهم لا يحلمون بما سيجدون في تلك الثقافة من عون على مزاولة مهنهم مزاولة صحيحة، وهم يكادون يجهلون أنهم يعيشون في وسط اجتماعي وأنهم يعملون في صلب الحياة. وليس من شك في أن أحدهم لن يفهم وسطه الاجتماعي أو ينفذ إلى نفوس من يحيطون به أو يستطيع علاج مشاكل الحياة ما لم يتسع أفقه وتشحذ ملكاته الإنسانية بالثقافة الواسعة الحرة، ولكم من مرة لقينا بأوربا طبيبا أو محاميا يحدثك أن نجاح مهنته لا يتوقف على معلوماته الفنية فحسب، بل لابد له من أن ينهض على فهم صحيح لنفسية المريض أو الخصم أو القاضي، وسبيلهم إلى ذلك الفهم هو مواصلة القراءة في ميادين البحث الإنساني. ثم هب أن الثقافة العامة لن تجدي في الحياة العملية، أليست هي المنبع الأول لمتع الحياة، أليست هي دليل التحضر وارتفاع الإنسان عن مستوى الحيوان الأعجم؟ ألا فلنذكر قول المفكر الفرنسي العميق جورج ديهامل: (المكاتب العامة لا تكفي حاجات الناس، ولذا يمتلك كل منهم - مهما كان فقيراً ومهما ضعف استقراره - مكتبة صغيرة هي كنزه التي يعتز به. فكل إنسان يشعر بالحاجة إلى أن يجد في متناوله وتحت بصره وسائل حياته، وهو يقتنيها لا لأن الكتاب هو أخص زينات المنزل، ولا لأنه ينشر في الأماكن التي يحليها عبيراً أليفاً نافذاً من الروحية، بل لأنه يجد فيها ما يركن إليه في ساعة ضلال أو انحلال أو شك أو فراغ نفسي. ولتتصور ماذا تكون حياتك في بيت مريح، ولكنه خال من الكتب، إنك لن تلبث حينئذ أن تحس بالنفرة وضيق

ص: 4

الصدر)

محمد مندور

ص: 5

‌ثقافة أبي العلاء

للأستاذ دريني خشبة

لم يحيي أحد من الشعراء حياة صدق صريح لا مواربة فيه ولا خداع كما حيي أبو العلاء. . . ولم تكن حياة أحد قصيدة من الشعر المكلوم المكتوم الحزين الباكي الناقم كما كانت حياة أبي العلاء. . . ولم يعبس أحد للحياة تلك العبوسة الطويلة المظلمة التي غبرت ثمانين عاماً، كما عبس هذا التنوخي أحمد بن عبد الله ابن سليمان، آكل البُلْسُن والبَلَس؛ ولم يثقف شاعر نفسه بكل ما استطاع أن يثقفها به مما وصلت إليه يده وقدرته كما فعل المعري؛ ولم يأخذ أحد نفسه بما أخذها به أبو العلاء من شدة وجد وصرامة، فقد عاش طول حياته منطويا على نفسه، عزوفا عن الناس، نباتيا لا يذوق اللحم، صواماً لا يفطر إلا في العيدين كما يحدثنا الأستاذ متز، مستعلياً عما فطرنا الله عليه من حياة وتناسل، حابساً نفسه في مائة سجن من شذوذه الذي يصادفك في كل شيء. . . في شعره وفي نثره وفي أخباره وفي ثقافاته وفي اختلاف الناس فيه. . . والسجن المؤبد في العرف الحديث هو ما زاد على العشرين عاما، إلا أننا لم نسمع عن سجن مؤبد زاد على الخمسين إلا في حياة أبي العلاء، وكان مع ذلك سجنا اختيارياً حبس الشاعر فيه نفسه عن طواعية. . . فلم يضق به. . . ولم يزور عنه، ولم يشك منه لمخلوق، بل كان له وفياً، وبه حفياً.

أراني في الثلاثة من سجوني

فلا تسأل عن الخبر النبيث

لفقدي ناظري، ولزوم بيتي

وكون النفس في الجسم الخبيث

وإذا قال لنا المعري إن سجونه كانت ثلاثة فهو يقول هذا تجوزا، لأنه دعا نفسه رهين المحبسين، وهو في الحقيقة رهين مائة محبس أو تزيد. . . فالمعري لا يلقاك إلا في سجن، ولا يحدثك إلا في سجن، ولا يسخر بك ويستهزئ منك إلا في سجن، لأن كل عادة من عاداته سجن، وكل طبع من طباعه سجن. وهو يفتن في ابتكار السجون التي كان مأخوذا بحبس نفسه فيها. فأنت تقرأه في الفصول والغايات فلا تفهمه، ولا تعرف ماذا يريد أن يقول، لأنه يختبئ منك وراء جدران سجنه الغليظة السميكة التي بالغ أشد المبالغة في غلظها وجعلها سميكة، لأنه تعمد ذلك، وسعى أليه. . . إنه لا يريد أن تفهمه في سهولة ويسر كما تفهم سائر الناس. . . لأنه ليس كسائر الناس. . . وأنت كذلك تقرأه في لزومياته

ص: 6

فيخيل لك الغرور أنك تفهمه، مع أنك لا تفهم مما يقول شيئا. . . إنه يختبئ منك ويستخفي وراء سجن يشبه هذا الجحيم الذي صوره في رسالة غفرانه. . . سجن كله دركات مثل دركات جهنم، من فكرة في صدر البيت، تنفيها فكرة في العجز، ومن رأى في البيت الأول يضربه رأي في البيت الثاني، ومن عقيدة في هذه القصيدة تلطمها عقيدة أخرى في التي تليها. . . كل ذلك في ألفاظ خبيثة يخيل إليك أنها حوشيه، ألفاظ تكاد تصرفك عن قراءة هذا الذي سماه أبو العلاء شعرا، وما هو في نظرك بشعر. . . بل هو في نظرك كلام لا ينتمي إلى اللغة العربية التي عرفها الناس لغة راقصة ضاحكة طروبا. . . لا لغة عبوسا متجهمة تجهم تلك الثاكل التي وقفت بشاطئ اليم تبكي بنيها الذين ابتلعتهم لجته، ولما يلفظهم عبابه!!

ثم أنت تقرأه في رسائله الكثيرة المطبوعة التي نفحني عمي - شفاه الله وأطال بقاءه - بنسخة منها منذ أكثر من ربع قرن فلم أعن بقراءتها إلا حينما سمعت الناس يلغطون بذكر أبي العلاء، ويملأون الدنيا ضجيجا فرحين بعيده الألفي. فلا تكاد تفهم سطرا مما يقول، ولا تكاد تعرف فحوى رسالة واحدة من تلك الرسائل الكثيرة التي كان يرد بها على مناظريه، فيلجمهم، ويخرسهم أبد الدهر. . .

فما هذا كله الذي جشم أبو العلاء نفسه من وعورة الألفاظ والتراكيب؟ وما تصيده ذاك كله لشوارد الكلمات وأوابدها، إن صح أن تكون في الكلمات أوابد! يجب أن نتلمس العلل والأسباب لتلك القيود التي قيد بها أبو العلاء قراءه. . . ولم يتقيد هو منها بشيء كما يتوهم الكثيرون. . .

إذن، فقد نشأ أبو العلاء بمعرة النعمان في أسرة من الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء والقضاة وسراة الناس. . . جدوده قضاة وعلماء، وأعمامه قضاة وعلماء وشعراء، وأبوه قاض شاعر رقيق الديباجة اسمه أبو محمد عبد الله؛ وقد أعطانا ياقوت الحموي في معجمه (ج3 ص109 - دار المأمون) نموذجا من شعره في رثاء أبيه، جد أبي العلاء، حيث يقول:

إن كان أصبح من أهواهُ مطرحاً

بباب حمص فما حزني بمطرح

لو بأن أيسر ما أخفيه من جزع

لمات أكثر أعدائي من الفرح

ص: 7

ثم أخوه قاض عالم، وفقيه شاعر، ولي القضاء بعد أبيه، واسمه أبو المجد، وكان أكبر من أبي العلاء سنا، وقد أثبت لنا الحموي نموذجا رائعا من شعره في الزهد، يبين لنا إحدى وشائج النسب في الأدب بين الأخوين الشقيقين، إذ يقول:

كرم المهيمن منتهى أملي

لا نيتي أجر ولا عملي

يا مفضلا جلت فواضله

عن بُغيتي حتى انقضى أجلي

كم قد أفضت علي من نعم

كم قد سترت علي من زلل

إن لم يكن لي ما ألوذ به

يوم الحساب فإن عفوك لي

فهذا شعر جيد نجد له أصداء كثيرة في اللزوميات، ولا عجب أن يكون للأخ الأديب أثر في أخيه الأديب. ولأبي العلاء أخ شقيق آخر، كان يكثر من أشعار الغزل، اسمه أبو الهيثم، ومن شعره في الشمعة:

وذات لون كلوني في تغيره

وأدمع كدموعي في تحدرها

سهرت ليلي وبانت لي مسهرة

كأن ناظرها في قلب مسهرها

ثم يعد لنا ياقوت أسماء كثيرة لامعة من أسرة أبي العلاء كانت تشتهر بالفقه والعلم والأدب والشعر. . . لكنه يحصيها كلها من أسرة أبيه، ولا يذكر لنا اسما واحدا من أسرة والدته، فيستدرك ذلك الميمني في كتابه (أبو العلاء وما إليه) فيسرد لنا أسماء كثيرين من أخوال أبي العلاء الذين مدحهم وذكر أياديهم عليه في كثير من شعره الوارد في ديوانه (سقط الزند) مما يدل على حفظه لجميلهم وشكرانه لهم بعد وفاة أبيه وهو في الرابعة عشرة من عمره. . . ويصيب التاريخ خرس شديد في هذه المرحلة الحزينة من مراحل سني أبي العلاء، فهو لم يحدثنا بشيء عن صلة أبي العلاء بأخوته أو عمومته أو بني عمومته بعد تلك الكارثة التي كانت أشد وبالا عليه من العمى الذي أصابه في الرابعة من عمره. . . وهو لم يذكر لنا إذا ما كان أحد من أخواته كان لا يزال حيا يرزق بعد وفاة هذا الوالد البار الذي كان يولي أبا العلاء من عطفه وبره وعلمه بما ينسيه فقدان بصره. . . أو ماذا كانت العلة في ترك أبي العلاء وشأنه ينفق عليه أخواله في رحلته إلى حلب، والى إنطاكية، والى اللاذقية وطرابلس، طلباً للعلم، واكتساباً للأدب، وتفقهاً في اللغة، على العلماء والأدباء وفي دور الكتب؟ حتى رحلته إلى بغداد كانت على نفقة أخواله، كما يحدثنا بذلك الميمني،

ص: 8

وكما يشير إليه الدكتور طه حسين في (ذكرى أبي العلاء). . . ولكن أحداً لا يحدثنا عن علة اتصال المعري بأخواله هذا الاتصال الحبيب العجيب، ثم انصرافه عن أخوته وعمومته. . . وليس معقولاً أن تكون المحبة الطبيعية بين بني البطون وحدها سبب ذلك، وما يكون من عداوة بين بني الظهور. . لن يكون هذا سببا كافيا ولا معقولا أبداً. . . إن والد أبي العلاء لم يترك له ثروة تذكر. . . وكان كل دخله ثلاثين ديناراً يغلها له أحد الأوقاف من أسرته لأبيه، كان يدفع منها نصفها لقارئه كل عام. فأين كان أخواه؟! وأين كان هذا الثبت الطويل من أسماء القضاة والعلماء والفقها الذين أحصى ياقوت منهم طرفا ولم يحص أطرافا؟! هنا يصمت التاريخ. . . ولابد أن يكون لصمته سر فظيع في نشأة أبي العلاء الأولى، ولابد أن يكون لهذا السر أثره الفظيع كذلك في ثورة أبي العلاء وتبرمه بالدنيا وتجهمه للحياة وضيقه بالناس، وتسفيهه لمعتقداتهم التي لم ينتفع بها أهله من أبيه في علاقاتهم بهذا الفتى الأعمى المحروم من العون، المتقلب في البلاد، الضارب بين قرى الشام، المعجب بأساتذته من رهبان ذلك الدير باللاذقية يدرس عليهم الإنجيل والتوراة، والفلسفة، كما درس على أبيه الرؤوف الرحيم البار القرآن واللغة والتفسير والفقه والعروض، وكما درس طرفا لا يعتد به من الحديث على هذا الرجل المدعو يحيى بن مسعر الذي لم يستطع أن يشعر قلب أبي العلاء حلاوة الإيمان، فأسلمه بجهله إلى الشك والحيرة

ترى! هل يستطيع أحد أن يكشف لنا عن ذلك السر؟

(للحديث بقية)

دريني خشبة

ص: 9

‌حول فلسفة نيتشه

ثورة على القطيع

للأستاذ زكريا إبراهيم

لم يقتصر نيتشه على مناهضة أصحاب النزعة العاطفية المغالية، بل لقد حاول أيضاً أن يناهض أصحاب النزعة العقلية المتطرفة؛ فحمل على (العلماء) الذين يؤمنون بالعلوم الوضعية ويرون فيها شفاء ومقنعا للفكر الإنساني، وحمل أيضاً على (الفلاسفة) الذين يؤمنون بالعقل ويعتبرونه المعيار الوحيد للحقيقة. وبين هؤلاء الذين لا يصدرون في تفكيرهم إلا عن (العقل)، وأولئك الذين لا يصدرون إلا عن (القلب)، وقف نيتشه موقف أستاذه شوبنهور، فجعل الصدارة للإرادة، وقدم القوة على الفكر والعاطفة، فالإرادة عند نيتشه هي جوهر الوجود، وكل ما في الوجود إنما هو تعبير عن هذه الإرادة

غير أن الإرادة قد تفهم إما بالمعنى الفردي أو المعنى الجمعي؛ وهذا المعنى الأخير هو ذلك الذي يحرص عليه الديمقراطيون والاشتراكيون، فيخضعون الفرد للجماعة. ولكن نيتشه يتمرد على (غريزة القطيع)، ويعلن سيادة الفرد المطلقة في نظام الطبيعة، على نحو ما أعلن رجال عصر النهضة

وقد انقسم عصرنا الحاضر كله إلى طائفتين: طائفة الاشتراكيين، وطائفة الفرديين؛ وهاتان الطائفتان قد تشكلت كل منهما في نهاية الأمر بصورة (إنسانية). أما النزعة الرومانتيكية فإنها في الواقع قد اتجهت إلى عبادة الشخصية، وإن كانت قد قدست على وجه الخصوص تلك التي لا تخضع إلا لقانونها فقط، أعني تلك التي لا تتقيد إلا بالشرعة التي استنتها قوتها الخاصة، متمثلة في الهوى المنطلق، أو الإرادة التي لا ضابط لها. وقد ترتب على هذه النزعة، أن ظهرت الفردية المتطرفة التي أفضت في النهاية إلى ظهور المذاهب (الفوضوية). ووجدت في الوقت نفسه نزعة رومانتيكية اشتراكية وديمقراطية، على يد بيير ليروه، وفيكتور هيجو، وجورج صاند، وميشيليه؛ وهذه أشاعت في المجتمع مبادئ السعادة، والحرية الشاملة، والإخاء، والمساواة. إلى آخر تلك المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية. أما نيتشه فقد رأى في كل هذه النزعات انحرافاً وانحلالاً، ولذلك فقد عاد إلى النزعة الفردية البدائية، ونصب (الأنا) أو الذات، ضد المجتمع بأسره. وبدلا من تلك

ص: 10

الديمقراطية التي تتهدد بالمساواة بين الجميع ومحو كل الاختلافات والفروق، أو تلك الاشتراكية الشعبية التي تفنى الفرد لحساب المجتمع، نجد نيتشه يدعو إلى أرستقراطية جديدة يعارض بها كل تلك المذاهب الديمقراطية والاشتراكية والفوضوية، ويعتبرها سبيل الخلاص الوحيد، فيستبدل بالرجل المتوسط المساوي لغيره من الناس، الرجل الكامل أو (الإنسان الأعلى)

والرجل المتوسط الذي يحمل عليه نيتشه هو ذلك الإنسان الوضيع الذي ينساق مع القطيع، على طريقة خراف بانورج أما ذلك الذي ينطوي على نفسه، ويفزع إلى الوحدة لكي يعيش كالنجم الغارق في السكون، فهو في نظر نيتشه الرجل القوي المبدع:(إن الأحداث العظيمة لا تنشأ إلا بعيدا عن الجماهير والأمجاد، فكل من ابتدعوا القيم الجديدة قد انتبذوا لأنفسهم مكانا قصيا، على منأى من العامة، وبعيدا عن الأمجاد) والرجل الممتاز إنما هو ذلك الذي يهرع إلى الوحدة، وينفرد بنفسه، لكي يحيا كتلك (الدوحة التي تشرف على البحر في سكون، وتصغي إلى هديره في صمت)!

لقد يصرخ به القطيع قائلا: (إن من فتش فقد ضل، وما الوحدة إلا خطيئة)، ولكنه يمضي غير آبه بصوت القطيع الذي يهيب به، لأنه يعلم أن صوته نداء العبودية يستصرخه أن يبقى، وصوت الوحدة نداء الحرية يستصرخه أن ينطلق! اجل، إن الرجل الممتاز لم يخلق لكي يسير وراء القطيع، بل لكي يكون ثورة على القطيع، ونارا حامية تصلى بها الجماهير! فليس على الرجل الممتاز أن يخضع لحكم العامة، بل عليه أن يخضع لحكم نفسه فحسب. وليس من واجب الرجل المبدع أن يأخذ بما يمليه عليه قانون السواد الأعظم، بل إن من واجبه أن يتخذ من إرادته قانونا له، فيشرع لنفسه الخير والشر. وليس ينبغي للرجل القوي أن يمد يده متسرعا لمصافحة من يلتقي به في طريقه، بل ينبغي له إذا التقى بتلك الحشرات التي يتحلب ريقها بالسم، أن يسارع إلى وحدته، حتى لا تمتد إليه السموم الخبيثة التي تنفثها حشرات المجتمع!

فالرجل الممتاز إذن هو ذلك المتوحد الذي يعتزل الناس لكي يعيش بعيدا عن المجتمع، منطويا على نفسه؛ وأما الرجل الضعيف فهو ذلك الذي يشعر بحاجته إلى الاجتماع بالناس، والانضمام إلى القطيع. ولذلك يقول نيتشه: إن الأقوياء ينزعون إلى الانفصال والتفرد،

ص: 11

على حين ينزع الضعفاء إلى الاتحاد والتجمع. والرجل الممتاز - كما يقول زرادشت - هو ذلك الذي ينفر من المجتمع، ويأنف من الجماعة، ويحلق بجناحيه فوق السحاب، فترمقه أعين الحاسدين، وترشقه نظرات الحاقدين. وليس بدعا أن يثور الناس على مثل هذا الرجل، فإن من دأب العامة أن تتمرد على كل رجل مبدع يعزف بنفسه عن غمار الناس:(إنك لتعلو عليهم وتسمو فوقهم، ولكنك كلما ازددت علواً، ازددت صغاراً في أعينهم الحاسدة. أما ذلك الذي يحلق بجناحيه فوقهم، فليس أبغض إليهم منه)!

ولكن، أليس الإنسان حيوانا اجتماعيا يميل إلى التجمع بفطرته، وينفر من العزلة بطبيعته؟ ألم يقل أرسطو إن حياة العزلة لا تتهيأ إلا لإله أو حيوان؟ إذن فكيف يزعم نيتشه أن (الرجل القوي) هو (الرجل المتوحد)؟ وكيف يذهب إلى أن الضعفاء هم الذين ينزعون إلى الاتحاد والتجمع؟. يجيب نيتشه على هذا فيقول: إن الإنسان حيوان مفترس متوحد، فالأقوياء الذين هم سادة النوع البشري يميلون بالضرورة إلى العزلة والتفرد، وينفرون من كل نظام يضطرهم إلى الاتحاد والتجمع، وبعبارة أخرى فإن الحياة الاجتماعية في نظر نيتشه معارضة للطبيعة، لأن الإنسان حيوان غير اجتماعي بفطرته. وإذا كان الأقوياء قد يكونون مجتمعا في بعض الأحيان، فإن ذلك يرجع إلى رغبتهم في القيام بحركة عدوان مشترك، يرضون بها إرادة السيطرة التي توجد لديهم جميعا. ولكن شعورهم الفردي في معظم الأحيان، ينفر من تلك الحركة المشتركة، ويتأذى من ذلك العمل الجمعي. أما الضعفاء فإنهم يرتبون أنفسهم في طبقات متلاصقة، إرضاء للحاجة التي يشعرون بها نحو هذا التجمع، وبذلك تلقى غريزتهم لذتها القصوى الكاملة

ولكن، هل من الحق أن التجمع دليل الصعف؟ أليس التاريخ الطبيعي شاهدا على فساد هذا القول؟. . . إن الواقع أن الحيوانات التي توجد لديها (غريزة القطيع) قد استطاعت أن تخرج من معركة تنازع البقاء ظافرة منتصرة بينما خرجت الحيوانات المتوحشة مغلوبة منكسرة. وهاهي ذي الحيوانات القوية تعيش جماعات، فتكون القردة لنفسها أسراً، على الرغم من أنها لا تقل في ذكائها عن النمورة والفهود. وهاهو ذا التاريخ يظهرنا على أن الإنسان القديم لم يكن يعيش وحده، بل كان يعيش في مجتمع. فليس من الصحيح إذن أن قوة الكائن الحي هي التي تولد فيه الميل إلى الوحدة والتفرد، بل الصحيح أن الكائنات

ص: 12

القوية تجنح إلى الاتحاد والتجمع، وتنفر من الانفصال والتفرد. وهل كانت الفيلة حيوانات ضعيفة، لأنها تحب الاجتماع؟ أو هل كان رجال (ما قبل التاريخ) ضعفاء، لأنهم كانوا يميلون إلى التجمع، كما سبق لنا القول؟. . . إن سيد الكون الذي دان له كل شيء في الطبيعة، والذي قهر سائر الأجناس الحيوانية ولا يزال يقهرها، إنما هو (الإنسان) الذي يعتبر الحيوان الأول بين طائفة الحيوانات القطيعية؛ فهل علينا من حرج إذا قلنا إن الإنسان حيوان اجتماعي بفطرته؟

لقد أراد نيتشه أن يتمرد على المجتمع، لكي يقتصر على عبادة الذات وتقديسه، ولكن هل نسى نيتشه أن ما يسميه (ذاته) إنما هو في جانب كبير منه، تراث اجتماعي تعاقبت على تكوينه الأجيال؟ فماذا عسى أن يكون نيتشه، وماذا عسى أن تكون ذاته، إذا جردناه من كل ما وضعه فيه الآخرون، وإذا استبعدنا من نفسه كل ما أودعه فيها المجتمع؟ إن نيتشه حين يتوهم أنه يتأمل ذاته، فهو في الواقع إنما يتأمل العالم كله؛ وهو حينما يظن أن في إمكانه أن ينفرد بنفسه ويعتزل الناس، لا يزال بالرغم من ذلك محتفظا في أعماق نفسه بكل أصداء القرون الخالية. ففي أبعد أغوار نفسه - مهما تنكر للماضي - ترن أصداء الأجيال الغابرة. وهل يستطيع الفرد أن يفكر إلا إذا استعان بأفكار السابقين، واستند إلى أعمال المتقدمين؟ إذن فمن الجهالة والعقوق، أن يتنكر الإنسان للجنس البشري كله، وأن يكفر بكل شيء، اللهم إلا فرديته وما يجيء معها من أثرة وعجب وحمق وغرور! ولو أن نيتشه تدبر الأمر في جو حر لا تفسده نزعة أرستقراطية متطرفة، لما تردد في أن يقول مع جويو (أنا لست ملكاً لنفسي؛ لأن كل موجود ليس بشيء من غير الكل. فالموجود بمفرده لا شيء!)

زكريا إبراهيم

ص: 13

‌اللغة القانونية في الأقطار العربية

ووجوب تصنيفها وتوحيدها

للأستاذ عدنان الخطيب

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

4 -

إن النظام القضائي مختلف اختلافا بينا في الأقطار العربية، ولكنا نجد فوق هذا اختلافا في السماء والمصطلحات، فالمحكمة العليا هي محكمة النقض والإبرام في مصر وهي محكمة التمييز العليا في سورية، وفي العراق هي محكمة تمييز العراق، والمستشار في المحاكم المصرية هو العضو في محاكم سورية والعراق، إلى ما هنالك من أسماء كالقاضي والحاكم والمدعي العام أو العمومي والنائب أو المحامي العام أو الأفوكاتو العمومي ووكيل النيابة ومعاون النائب الخ. . .

5 -

لنتجاوز كل هذا إلى القوانين الرئيسية فنجد أننا لم نتفق على اسم قانون واحد منها:

(ا) فقانون العقوبات في مصر والعراق، ولبنان أخيرا، ما زال قانون الجزاء في سورية

(ب) وقانون أصول المحاكمات الحقوقية في سورية والعراق هو قانون المرافعات المدنية في مصر وقانون أصول المحاكمات المدنية في لبنان

(جـ) قانون تحقيق الجنايات في مصر هو قانون الأصول الجزائية في العراق، وأصول المرافعات الجزائية في فلسطين، وأصول المحاكمات الجزائية في سورية

(د) القانون المدني في مصر هو قانون العقود والموجبات في لبنان بينما ما زالت مجلة الأحكام العدلية في سورية والعراق تقوم مقامه

(هـ) قوانين الملكية العقارية والتسجيل العقاري في مصر وسورية ولبنان ما زالت قوانين الطابو والأراضي في العراق.

8 -

كيف يمكن توحيد المصطلحات القانونية

لابد لتوحيد المصطلحات القانونية من هيئة علمية عليا تمثل جميع الأقطار العربية، تقر المصطلحات والمعربات اللازمة للكلمات الأعجمية، ثم تتخذ الوسائل اللازمة لنشرها وتعميمها والاعتماد عليها في تشريع كل قطر من الأقطار

ص: 14

يقوم اليوم في مصر مجمع لغوي كريم، وبالرغم من إنه يضم بعض كبار رجال القانون. فإن تمثيله للأقطار العربية، من الناحية القانونية مفقود، مما يدعونا للتأكيد بعدم إمكان الاعتماد عليه كهيئة عربية عليا لإقرار المصطلحات القانونية، لقد قدم إلى هذا المجمع في دورة ماضية أحد كبار رجال القانون في مصر رسالة تتضمن مصطلحات القانون لإقرارها كتعريب رسمي للمصطلحات الفرنسية، وبالرغم من أن هذه الرسالة جاءت محكمة في أغلب المصطلحات الواردة فيها، بليغة في بعض مبتكراتها، فإن فيها مجالا للبحث والمناقشة، وليسمح لي المؤتمرون الكرام بإبداء بعض الملاحظات على هذا المشروع ليتأكدوا من صحة قولي، وسيكون لي أجر واحد إن لم أصب فيها وأحظ باجرين

1 -

لاشك أن من المرغوب فيه الإقلال ما أمكن من استعمال أكثر من لفظة واحدة للدلالة على لفظة أعجمية واحدة. ولو كان في العربية مترادفات كثيرة لها، ولكن هذا لا يعني أن نكتفي باستعمال لفظة عربية واحدة لكلمتين أعجميتين مختلفتين إذا أمكن تعريب كل واحدة منهما بلفظة مستقلة، فكلمتا ومثلا عربهما صاحب المشروع بكلمة (مذهب) دون تفريق، واستعمال كلمة عربية أخرى (كمدرسة) أو (طريقة)، ولماذا نعرب عبارة ' بـ (مذهب الوقوف عند النص)، ولا نعربها (بمدرسة الوقوف عند النص) إذا لم نستسغ أن نقول (أهل النصوص مثلا)

ب - يضع المشروع لفظة (لوائح) المستعملة في مصر ترجمة لكلمة الفرنسية، بينما قد يكون من المستحسن أن نعربها بلفظة (الأنظمة) المستعملة في العراق

ج - ويعرب صاحب المشروع - بـ (مرسوم بقانون)، بينما قد يحسن تبني الاصطلاح السوري (مرسوم تشريعي)

د - لم يرد واضع المشروع أن يفرق لنا بين كلمتي وفعرب كلتاهما بلفظة (قانون).

هـ - كما إنه ترجم كلمة بـ (الالتزام) ثم لم يأتنا بكلمة عربية غيرها مقابل لفظة

ووردت في المشروع جملة (وقف الدعوى الجنائية للمدنية) تعريبا لجملة وأرى أن الاصطلاح المعروف في سورية (الجنائي يعقل المدني) يفوقها جرسا وجمالا

ز - وقد ترجمت عبارة بـ (القانون التجاري) بينما جاءت ترجمة بـ (قانون التجارة البحري)، ولست أدري لماذا عدل عن الصفقة إلى الإضافة؟ ولماذا وصف القانون بالبحرية

ص: 15

دون التجارة نفسها؟

ح - وأخيرا نجد كلمة عربت بـ (متعهد النقل) ومن الممكن الاكتفاء بكلمة (الناقل)

ولكن أنى لمثل هذه الملاحظات أن تقلل من فخر صاحب المشروع بابتكاراته الخالدة والتي منها:

عقد الإذعان تعريب '

عقد المساومة مقابل -

عقد التمهين مقابل '

هذا إلى جانب كثير من التعاريب الموفقة في إيجازها بالنسبة لما يقابلها مثل:

الخلف العام مقابل

والتسامح بدلا عن

9 -

تصفية اللغة القانونية من الكلمات الدخيلة والأجنبية

ليس توحيد المصطلحات كل ما يتعلق باللغة من الأمور التي يجب أن نعمل لها، فهناك كلمات وألفاظ دخلت على لغتنا القانونية بعامل النفوذ أو التشريع الأجنبي، وهناك مشرعون وقضاة لا ينفكون عن إلحاق كلمات أجنبية بالكلمات العربية تعيينا لها وتحديدا

فإذا كانت الكلمات الدخيلة انتشرت بين العامة؛ فهذا لا يعني أن المشرع يجب أن ينزل إلى مستواهم بدل أن يرشدهم ويصحح لغتهم، وإلا لوجب أن يصوغ أوامره أيضاً باللغة العلمية، وإذا كانت الألفاظ العربية غير متفق عليها، فيجب أن يبدأ الاتفاق عليها من هذا اليوم أيضاً. وإذا كان في البلاد العربية تشريع لغته الأصلية غير اللغة العربية؛ فيجب أن لا نسمع بقانون، ولا نرى بعد اليوم قانونا، يطبق في بلد عربي وضع بلغة غير لغة أبناء البلاد الأباة

أي عذر يمكن أن ينتحل للعراق رمز العروبة الخفاق؟ إذا تناول أحدنا قانونه التجاري الذي صدر في مثل هذا الشهر من العام المنصرم، فوجد فيه هذه الطعنات المؤلمة (البورصات) و (السيف) و (القومسيون) و (البوليصة) و (الآفال) و (الكمبيال) و (الجك) و (الكومبيو) و (بوردورو)، و (ليكيداسيون) و (كونه سمان) و (ماركة) و (فاكتور) و (ناولون) و (السيقورطة) و (أكسيون) و (أوبليكاسيون) و (دوكروار) و (ره سي بي سه) و (واران) و

ص: 16

(بروتست) و (الونج) و (ره تريت)

لا بل إن المشرع العراقي استعمل في قانونه فعل (التجبير) ومشتقاته فبلغت (135) طعنة في ظهر (التطهير) العربية

وفي مصر رأس البلاد العربية، قضت ظروف القرن الماضي باستعمال كلمات دخيلة في التشريع؛ فسمي المجلس البلدي لمدينة الإسكندرية مثلا بـ (القومسيون)، ولكن المشرع المصري ما زال يستعمل (القومسيون) بدلا عن (المجلس) حتى السنوات الأخيرة وهو ما زال يفسر قوائم الأسعار بـ (كتالوجات) وهو الذي استعمل لفظي (مصرف ومصارف) في تشريع يبحث عن تسليف الزراع لم ينشأ لهم إلا (بنكا) ولا يفتأ في لوائحه بترديد (البنك) و (البنكير)، والمياومين (جوبر) وعمليات (الأربيتراج) والربور - والمحاسبين المحلفين أو القانونيين والبطاقات (الفيشات) ومقدار التخفيض والمطالبات الناشئة عن الغش والتلف الداخلي والخلط

ونحن إذا رأينا الضرورة تقضي باستعمال كلمة دخيلة أو أجنبية في تشريع ما فلنكتف باستعمالها مرة واحدة في كل تشريع، وأي داع يبرر استعمال (البرود كاستنج) كلما وردت جملة (جهاز الاستقبال)، ولماذا تكرر لفظة (دروباك) تسع مرات مثلا في قرار يبحث عن رد الرسوم، أو كلمة (كنتراتات) سبعة عشر مرة تفسيرا لكلمة عقود

هذا في التشريع أما في القضاء فيكفي أن نتصفح أية مجموعة من قرارات المحاكم المصرية لنجد أن كلمة (الخطأ) كثيرا ما تذكر وتعقبها بأحرف لاتينية كلمة وكلمة (غلط في الواقع) وبجانبها وكلمة (غلط في القانون) قبل

وجملة (الخطأ في تطبيق التعريف)، مفسرة بجملة وكلمتي (الرضاء التحليلي) تلحق بهما لفظة

وجملة (إرادة التعبير الخارجي) متبعة بمعناها الفرنسي

هذا في مصر والعراق، أما في سورية قلب العروبة النابض فلا نستطيع أن نحكم على المشرع الوطني الآن، لأنه لم يخرج لنا بعد قوانين مهمة في هذا العهد الجديد، ولكن الغيارى على اللغة العربية النقية تألموا من أن مشروعاً بتعديل مرسوم اشتراعي قديم وضعه مخضرمون في وزارة المالية السورية مر على مجلسنا النيابي في دورته الأخيرة،

ص: 17

وخرج قانونا يحوي هذه الألفاظ (بوليصة) و (بوالص) و (مانيفيستو) و (كمبيالات) و (بريم) و (كونكورداتوا) و (جيرو) و (كتلوغات)

بينما لبنان العربي الأشم أخذ يضرب لنا أمثالا رائعة. ففي قانونه التجاري الأخير تجد المشرع حرص كل الحرص على عدم تشويه النسخة العربية منه بالألفاظ الأعجمية؛ فقد استعمل دفتر (صور الرسائل) بدلا عن دفتر (الكوبيا) ودفتر (الجرد والموازنة) بدلا عن دفتر (البلانشو) و (طابع المصنع) بدلا عن (الماركة) وهو لم يستعمل كلمات (كولكتيف)، و (قومانديت) و (أنونيم) توضيحاً (للتضامن) و (التوصية) و (المغفلة) إلا نادرا، وهو قد استعمل لفظة (التعاون) بدلا من (الكوبراتيف) لا، بل إنه أتانا بمصطلحات عربية جديدة؛ فقد استعمل (المؤونة) بدلا عن (مقابل الوفاء) و (الصك المشطوب) عوضا عن (الصك المسطر)(والمشاهد العامة) بدلا عن (السينما والمسارح) واكتفى (بالتظهير) عن (التجيير) و (بالاحتيجاج) عن (البروتستو)، و (نوكيل التفليسة) عن (السنديك) ولم يستعمل أبدا لفظة (كونكورداتو) لإيضاح معنى لفظة (الصلح أو المصالحة).

10 -

مقترحات

إذا كان للحرب القائمة من فضل؛ فلاشك أن إليها يعود فضل هذه الروح العربية التي عمت جميع الأقطار، وجعلت (الوعي القومي) يتنفس بين أيدي أطبائه الأشاوس، وما هذا المؤتمر إلا ثمرة من ثماره الطيبة، فعلينا أن نتضافر لما فيه مصلحة الآمال المشتركة والرغبات الموحدة، ومما يسهل مهمة توحيد المصطلحات الحقوقية وإحلال اللغة العربية محلها اللائق الأخذ بالمقترحات التالية:

1 -

إقرار تأليف معجم قانوني وانتخاب لجنة تدرس السبل المؤدية إلى ذلك

2 -

تبادل المؤلفات القانونية بشكل واسع

3 -

فتح فصول خاصة في المجلات القانونية لبحث المصطلحات الجديدة ومناقشتها

4 -

السعي لدى الحكومات لإيجاد مكتب عربي للمشاورات القانونية مهمته تقريب التشريع ما أمكن والعمل على توحيده إن أمكن

5 -

العمل على توحيد مناهج الدراسة القانونية في البلاد العربية وإيجاد رابطة متينة بين كليات الحقوق العربية

ص: 18

6 -

توصية الحكومات بالاعتناء بلغة التشريع والعمل على استبعاد الكلمات البالية أو الدخيلة، ولنا فيما عملته سورية في إقرار لفظة (التنفيذ) بدلا عن (الإجراء)، وفيما قامت به مصر من إبدال كلمة (العدل) بكلمة الحقانية أسوة حسنة وأمل كبير في الوصول إلى أهدافنا القومية وآمالنا المنشودة كاملة غير منقوصة والله الموفق.

(دمشق)

عدنان الخطيب

ص: 19

‌بمناسبة حفلات ذكرى المعري

كتاب الإنصاف والتحري

في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري

لابن العديم الحلبي المتوفى سنة 660هـ.

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

ذكر صاحب (فوات الوفيات) في ترجمة ابن العديم: أنه ألف كتابا في الدفاع عن أبي العلاء المعري سماه (كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري)

وذكر هذا الكتاب أيضاً صلاح الدين بن أيبك الصفدي في كتاب (نكت الهميان في نكت العميان) أثناء ترجمة أبي العلاء المعري، ونقل عنه جملة صالحة، تلخص رأي ابن العديم في المعري، وكذلك فعل السيوطي في (بغية الوعاة). وذكر اسم الكتاب، ونقل عنه خلاصة رأي ابن العديم في المعري، وعده في صف المدافعين عنه.

ابن العديم مؤلف هذا الكتاب هو كمال الدين أبو القاسم عمر بن القاضي أبي الحسن أحمد بن العديم، مؤرخ حلب، ومحدثها، وفقيهها، وأديبها. ألف تاريخ حلب - بغية الطلب - في نحو أربعين مجلدا. وهو الذي يقول فيه ياقوت الحموي:

(. . . إن الله عز وجل عني بخلقته، فأحسن خلقه وخلقه، وعقله وذهنه وذكاءه، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور، فقرأ الأدب وأتقنه، ثم درس الفقه فأحسنه، ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول فعرف علله ورجاله، وتأويله وفروعه وأصوله، وهو مع ذلك قلق البنان بما تحوي اليدان، وهو كاسمه كمال في كل فضيلة، لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزاً، ولا تعاطي أمرا إلا جاء فيه مبرزاً، مشهور ذلك عنه، لا يخالف فيه صديق، ولا يستطيع دفاعه عدو). ولد في حلب سنة 588 ونشأ بها، ثم رحل إلى بغداد ومصر أكثر من مرة واحدة، ولما جاء التتار إلى حلب سنة 658 جفل إلى مصر مع من جفل، ثم رجع إلى حلب بعد خروج التتار منها، فوجدها على حال سيئة من الخراب والدمار، فرجع إلى القاهرة، وأقام بها إلى أن توفى بها سنة 660 من الهجرة ودفن

ص: 20

بسفح المقطم.

يعد كتاب ابن العديم في إنصاف شيخ المعزة من الكتب النادرة الوجود، بل ربما كان من تلك التي ذهبت بها الأيام، فلا عين لها ولا أثر، غير ما حفظته كتب التاريخ والتراجم من أسماء ومقتطفات

لم يعثر إلى الآن - فيما أعلم - على نسخة كاملة من هذا الكتاب القيم النفيس، وكل الذي عثر عليه منه - من نحو عشرين سنة - نسخة ناقصة من آخرها، ومن قبل آخر الموجود منها، ولا يعلم مقدار النقص في كلا الموضعين. فقد ذكر الأستاذ الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبي في تاريخه (أعلام النبلاء) بتاريخ حلب الشهباء (ج4 ص77): إنه عثر على كتاب (الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري). عثر عليه مخطوطا في خزانة كتب سعادة مرعي باشا الملاح، وأنه نسخ من هذا المخطوط نسختين، أهديت إحداهما للمجمع العلمي العربي في دمشق، واحتفظ بالأخرى لنفسه، وبعد أن نص الأستاذ الطباخ على موضع النقص في هذه النسخة التي عثر عليها قال: إنه يدمج الموجود من هذا الكتاب ضمن كتاب أعلام النبلاء. لعل ذلك يدعو بعض ذوي الهمم للبحث والتنقيب عن نسخة تامة منه

وقد نشر الأستاذ الطباخ الموجود من كتاب إنصاف المعري لابن العديم في الجزء الرابع من أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء (ص78 - 154) من نحو عشرين سنة

وإني أنشر اليوم - بمناسبة حفلات ذكرى العيد الألفي لمولد المعري التي تقام الآن في دمشق - على صفحات الرسالة الغراء مقدمة كتاب الإنصاف على أن ألخص فصوله وأبوابه الموجودة في فرصة أخرى. أنشر هذه المقدمة راجيا - كما رجا الأستاذ الطباخ من قبل - أن يكون في هذا النشر الحافز لهمم محبي البحث للتنقيب عن نسخة كاملة من هذا الكتاب النفيس. حتى إذا أمكن الحصول عليه ونشر، كان في ذلك أبلغ تكريم لذكرى المعري بمناسبة عيد مولده الألفي

وإلى القارئ الآن مقدمة كتاب الإنصاف نقلا عن النسخة التي نشرها الأستاذ الطباخ:

(. . . وبعد فإني وقفت على جملة مصنفات عالم معرة النعمان أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان، فوجدتها مشحونة بالفصاحة والبيان، مودعة فنونا من الفوائد الحسان،

ص: 21

محتوية على أنواع الآداب، مشتملة من علوم العرب على الخالص واللباب، لا يجد الطامح فيها سقطة، ولا يدرك الكاشح فيها غلطة، ولما كانت مختصة بهذه الأوصاف، مميزة على غيرها عند أهل الإنصاف، قصده جماعة لم يعوا وعيه، وحسدوه إذ لم ينالوا سعيه، فتتبعوا كتبه على وجه الانتقاد، ووجدوها خالية من الزيغ والفساد، فحين علموا سلامتها من العيب والشين، سلكوا فيها معه مسلك الكذب والمين، ورموه بالإلحاد والتعطيل، والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصد له، فجعلوا محاسنه عيوباً، وحسناته ذنوباً، وعقله حمقاً، وزهده فسقاً، ورشقوه بأليم السهام، وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرفوا كلمه عن مواضعه، وأوقعوه في غير مواقعه، ولو نظر الطاعن كلامه بعين الرضا، وأغمد سيف الحسد من عليه انتضا، لأوسع له صدراً وشرح، واستحسن ما ذم ومدح، لكن جرى الزمن على عاداته في مطالبته أهل الفضل بتراته، وقصدهم بإساءاته، فسلط عليهم أبناءه، وجعلهم أعداءه، فقصدوه بالطعن والإساءة. واللبيب مقصود، والأديب عن بلوغ الغرض مصدود، وكل ذي نعمة محسود، ومن سلك في الفصاحة مسلكه، وأدرك من أنواع العلوم ما أدركه، وقصد في كتبه الغريب وأودعها كل معنى غريب، كان للطاعن سبيل إلى عكس معانيها، وقلبها وتحريفها عن وجودها المقصودة وسبلها، ألا ترى إلى كتاب الله العزيز المحتوي على المنع والتجويز الذي لا يقبل التبديل في شيء من صحفه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كيف أحلى جماعة من أرباب باطل الأقاويل، تأويله على غير وجوه التأويل، فصرفوا تأويله إلى ما أرادوا، فما أحسنوا في ذلك ولا أجادوا، حتى أن جماعة من الكفار، وأرباب الزلل والعثار، تمسكوا منه بآيات، جعلوها دليلا على ما ذهبوا إليه من الضلالات، فما ظنك بكلام رجل من البشر، ليس بمعصوم إن زل أو عثر، وقد تعمق في فصيح الكلام، وأتى من اللغات بما لا يتيسر لغيره ولا يرام، وأودعها في كلامه أحسن إبداع، وأبرزها في النظم البديع والأسجاع، إذا قصده بعض الحساد، فحمل كلامه على غير المراد، وقد وضع أبو العلاء كتاباً وسمه (بزجر النابح) أبطل فيه طعن المزري عليه والقادح، وبين فيه عذره الصحيح، وإيمانه الصريح، ووجه كلامه الفصيح، ثم أتبع ذلك بكتاب وسمه (ببحر الزجر) بين فيه مواضع طعنوا بها عليه بيان الفجر، فلم يمنعهم زجره، ولا اتضح لهم عذره، بل

ص: 22

تحقق عندهم كفره، واجترءوا على ذلك وداموا، وعنفوا من انتصر له ولاموا، وقعدوا في أمره وقاموا، فلم يرعوا له حرمة، ولا أكرموا علمه، ولا راقبوا إلا ولا ذمة، حتى حكوا كفره بالأسانيد، وشددوا في ذلك غاية التشديد، وكفره من جاء بعدهم بالتقليد

فابتدرت دونه مناضلا، وانتصبت عنه مجادلا، وانتدبت لمحاسنه ناقلا، وذكرت في هذا الكتاب:

نسبه ومولده، وتحصيله للعلم وطلبه، ودينه الصحيح ومذهبه، وورعه الشديد وزهده، واجتهاده القوي وجده، وطعن القادح فيه ورده، ودفع الظلم عنه وصده.

وسميته (كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري)

وبالله التوفيق والعصمة، وإليه المرجع في كل وصمة، وهو حسبي ونعم الوكيل).

حرصت على نقل هذه المقدمة الطويلة المسجوعة بنصها ليستطيع القارئ تكوين فكرة عامة عن هذا الكتاب النفيس ويعرف روح مؤلفه فيه، وأرجو أن أستطيع تلخيص فصوله التي عثر عليها في فرصة قريبة

برهان الدين الداغستاني

ص: 23

‌قبر أبي العلاء المعري

للأستاذ صبحي الياسيني

كان يوم الجمعة في الثالث من ربيع الأول عام 449 للهجرة، حين حضرت أبي العلاء الوفاة، وانطفأت تلك الجذوة المتقدة يوما مشهودا عند أهل المعرة، إذ وفد إليها غير الفضلاء والعلماء والخلق الكثير، أربعة وثمانون شاعرا، وقفوا حين مواراته الرمس يرثون عبقريته الفذة وعلمه المضيع

واليوم وقد انقضي ألف عام على مولده يعيد التاريخ نفسه فيقف مثل هذا العدد وأكثر منه من الشعراء والأدباء جاءوا من أقاصي البلاد على قبره ليستعيدوا ذكرى صاحب هذه الشعلة المتقدة التي مرت عليها القرون فما زادتها إلا وميضا واستعاراً.

والمعروف أن جثة المعري نقلت إلى ساحة لإحدى دور أهله ودفن بها، وهي واقعة في الطرف الغربي من المعرة، وقد كانت هذه الدار في عهده على ما يظهر من انقطاع آثار البناء ووجود القبور الأثرية بتاليها من الجهة الغربية، واقعة في أقصى البلدة باتجاه الغرب، وكانت قبور أهله وبني عشيرته وتلامذته قبل إنشاء الضريح الحالي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم، إلا إنه كما حجب اسمه أسماءهم وفضله فضلهم في حياته، كالشمس إذا ظهرت غاب كل كوكب؛ فكذلك حجب قبره قبورهم، واضطر المهندسون الذين قاموا بتشييد الضريح إلى إزالة القبور الواقعة بجوار قبره، وحفظت حجارتها وشواهدها في حديقة خلفية لضريح أبي العلاء.

يروي التاريخ أن أبا العلاء أوصى أن يكتب على قبره البيت التالي:

هذا جناه أبي عليّ

وما جنيت على أحد

وهذا البيت ليس له وجود على قبره ذي الكتابة الكوفية المشجرة، ولا يوجد على شاهد الضريح سوى الكلمات التالية:(هذا قبر أبي العلاء بن عبد الله بن سليمان). وقد محا الزمان كلمات: (هذا قبر أبي)، وكتب على ظهر الشاهد: رحمة الله عليه. وقد وجد بجوار ضريحه حجر مستطيل الشكل بقياس 50 30 مسطر عليه هذان البيتان بخط ثلث حديث:

قد كان صاحب هذا القبر جوهرة

نفيسة صاغها الرحمن من نطف

عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها

فردَّها غيرة منه إلى الصدف

ص: 24

وقد علمت من ثقة في المعرة أن هذا الحجر حديث، جدد عام 1903 بذيل آخر مكتوب بالخط الكوفي أتى عليه الزمان فجدده أهل الفضل.

وقد كان ضريح المعري في وضعه السابق على غير الاتجاه الصحيح؛ فكان منحرفا انحرافا قليلا نحو الشمال الغربي، وذلك على ما يظهر بسبب الزلازل أو انخفاض الأرض فعدل الآن إلى الاتجاه الصحيح.

أما الضريح القديم فقد كان حالة قبيحة من الإهمال ذكرها مؤرخو المعري حتى قام في عام 1903 المرحوم نورس باشا الحراكي، وهو رئيس للمعرة في ذلك العهد، وبني عند قبره غرفة يعلوها قبة وبجوارها مصلى جعل منه مدرسة للأولاد كان يقوم بالتدريس فيها شيخ أعمى دائما كلما مات واحد قام آخر.

ولما فتح قبره منذ خمس سنوات لم ير فيه من آثاره إلا بقية ضئيلة كالرماد من فتات عظامه، وقد صب الآن فوقها الأسمنت لتكون قاعدة قوية تحت حجارة القبر الثقيلة

وقد كان في النية نحت حجارة جديدة لقبره لتقوم مقام الحجارة الأثرية القديمة وتتناسب مع شكل البناء الجديد، إلا إنه صرف النظر أخيرا عن هذا العمل بعد القيام به، وكان ذلك الأوفق والأنسب.

وكان أمر بناء الضريح تكتنفه الصعوبات لعوامل شتى منها تبدل الحكومات المتعاقبة على البلاد السورية فكأن رغبة أبي العلاء التي أبداها في ترك قبره وعدم الاحتفاظ به إذ يقول:

لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي

ريب المنون فلا فضيلة للجسد

أو يقول:

إن التوابيت أجداث مكررة

فجنب القوم سجناً في التوابيت

تحققت بقوة خفية لا يمكن التغلب عليها

إلا إنه تقرر في موازنة الحكومة السورية لعام 1931 مبلغ من المال كاف لبناء الضريح ولم ينفذ المشروع، كما إنه تقرر ذلك أيضاً في موازنات الأعوام التالية - 1932 - 1933 - 1937 - 1938، وأضافوا على ذلك في عام 1932 مشروعا جديدا هو طبع طوابع بريدية موشحة باسم أبي العلاء يعود ريعها لإنشاء الضريح فنفقت الطوابع والقبر على ما هو عليه

ص: 25

وكانوا في كل عام يرصدون مبلغا لإنشاء الضريح، ولا ينفذ العمل، حتى جاء عام 1939، إذ خصص 15000 ليرة سورية في موازنة الحكومة السورية (فصل 7 مادة 1 فقرة 4) وتقرر البدء بالعمل، وكان ذلك يوم الأحد في 18 تشرين الثاني 939 عيدا أهليا عند سكان المعرة الذين احتفلوا بنفس الوقت احتفالا شائقا بإنشاء شركة كهربائية أهلية مساهمة، وشركة مياه إذ أنارت الكهرباء بلدتهم لأول مرة، وجرت المياه النقية إلى قسم من دورهم

وكان المظنون أن الأمور أخيراً سوف تسير سيراً حسناً لولا أن اندلاع الحرب جعل مواد البناء من أسمنت وحديد مرتفعة الثمن ارتفاعا فاحشا. كذلك صارت اليد العاملة تطلب أجورا فاحشة، فاستنكف الملتزم عن البناء، وقامت الحكومة بعد أخذ ورد بنقل الالتزام إلى رجل آخر مع وضع اعتمادات مالية إضافية تتصاعد حسب ارتفاع الأسعار، وقد انتهى العمل في أوائل هذا العام

والضريح في وضعه الحالي عبارة عن فسحة دار مزروعة بالرياحين يدخل إليها من أروقة محيطة بها من الغرب والشمال، وفي صدر هذه الدار قبر أبي العلاء موضوع تحت إيوان جميل، وخلف القبر مسجد يدخل إليه من بابين على طرفي القبر، ومكتبة على جانب المسجد للغرب، وخلف المسجد حديقة صغيرة محفوظ بها الحجارة الأثرية التي وجدت حول القبر

وقد سبق أن قامت بلدية معرة النعمان بشق وتخطيط شارع كبير من شرقي البلدة إلى غربها بحيث جعلته يمر مباشرة أمام ضريحه، وقد عبدته وجعلت الأرصفة على جانبيه حتى صار من الشوارع اللائقة بمدينة كبيرة، واسمه شارع أبي العلاء، كما خصصت البلدية قطعة أرض مناسبة في مدخل البلدة لإقامة نصب تذكاري فيها لأبي العلاء

وقام أهالي المعرة بنصيب طريف من هذا التمجيد، فأسموا فندق أبي العلاء ومطعم أبي العلاء، وهم يملئون القلل بالماء ليلة الجمعة ويضعونها طوال تلك الليلة بجوار قبره ليشربها في اليوم التالي من بلد ذهنه من صبيان المدارس اعتقاداً منهم أن الذهن يصفو من بلادته بهذا الماء، وهم يقسمون بالمعري كما يقسمون بمقام النبي يوشع الموجود عندهم ويتعصبون له، ولا شاعر عندهم أو فيلسوف سباق للمعري في شاعريته أو حكمته، وهم أول من يسوق لك الدليل على ذلك من أشعاره وآثاره

ص: 26

إن بلدة معرة النعمان اعترافاً منها بفضل أبي العلاء المعري عليها تدعو جميع الأدباء والفضلاء لزيارة قبره في المعرة يوم 27 أيلول 1944 احتفاء منها بمرور ألف عام انقضت على مولده.

صبحي الياسيني

قائمقام معرة النعمان

ص: 27

‌حلم الفجر.

. .

للأستاذ سيد قطب

عجبا! أنتِ ما تزالينَ حُلْمي

ومِثالي وفِكرتي ونَشيدي

ما تزالين في خياليَ رَمْزاً

لرِجاءٍ منّور من بعيدِ

ما تزالين حافزاً لجُهُودي

ما تزالين غايةً لوُجودي

أتحاشاكِ بالجفاءِ وباليأ

س فأرتد ساخراً من جهودي!

أتحاشاكِ كالجحيم وكالسُّ

م ولكن إليك يُفضي شرودي

عجبا! تركدُ الحياةُ فأنسا

كِ قليلاً في غَمرتي ورُكودي

فإذا دبّتِ الحياةُ تراءي

تِ كطيف مستيقظ من هُجود

وتراءتْ ترُّف حولكِ أطيا

فٌ لما كان بيننا من عهودِ

كلُّ ما لامستْ يداكِ وما م

سَّ هوانا من قّيم وزهيدِ

أتملأه بالخيالِ وبالح

سّ كذكرى من عالم موعودِ

عجبا! بعد كلِّ ما كان مِنّا

من صراع دام وجهد جهيدِ

أتمنَّاكِ في المنام وفي الصَّحْ

وتمِّني العقيم وجهَ الوليدِ

وإذا سرْتُ في الزحام فعيني

لخيال مستشرف من بعيد!

لهفةٌ تملأ الحنايا حنيناً

لرِجاءٍ مجسَّم مفقود!

أنتِ حُلم الحياة في صحوة الفج

ر فأنَّى لحلمنا من مُعيدِ

(حلوان)

سيد قطب

ص: 28

‌القريب البعيد

للأستاذ حسين سرحان

ظَلْت ألقاك ليلتْين وأخرى

فمضتٌ ليلة، ومرَّت ليال

والثواني كأنهن شهور

والليالي تُربى على الأحوال

وقف الدهر وقفة الطّود قدَّامي (م)

وأمسيتِ قاب قوس حيالي

أي قرب؟ لكنه أبعد البعد (م)

وأنأى من النجوم العوالي

لو تقرَّبت باليدين محياك (م)

لأقربت منك غير مبال

والزمان الرَّجيم أضحكُ من قر

د على فرط خيبتي وضلالي

يتحدَّى صبابتي وعُرامي

ويماريُ عزيمتي واحتمالي

وتلظيت من صدىً وزلال الماء (م)

عندي وخالص الجريال

ضاق ذرعي بما أجن وضاقت

عن أمانيَّ حيلة المحتال

ونيابي رحب المكان وأمللت (م)

(الأفازير) أيّما إملال

موفضاً ناظراً إلى غير شيء

سالياً، لا، فلست عنك بسال

وخلا البال ما عداك فما يخط

ر لي كائن سواك ببال

ومضى القلب لا يُنيب إلى وا

ل ولا يستجيب للعذال

خير ما قيل فيك ما ضاء فيه (م)

اسمك ضوءاً كدرة اللآل

وسوى ذاك فرية وهراء

لا أبالي بها على أي حال

حُبَّ بالوعد صادقاً وبه مطلا (م)

وباثنْيهما ولست أغالي

وبما تخطرين فيه من الوشي (م)

وما تملئينه من مجال

وبعين تراك أو أذن تسمع (م)

نجواك في أرق مقال

بالأديم الذي عليه تسيرين (م)

فيعلو بروحك المتعالي

بالهواء الذي يعود أريجاً (م)

حين تولينه أقل احتفال

وإذا عدت تسأل الروح البارحَ السا (م)

نح عنها فما غَناء السؤال

حُلُمٌ ماتني طليحَ هواه (م)

عالقا منه في الكرى بالمحال

فإذا ما ألمَّ بعد ارتحال (م)

أو أجدَّ الوصال بعد تَقال

ص: 29

فهو شيء لا تستطيع الليالي (م)

والمنى أن تصوغه في مثال

(مكة)

حسين سرحان

ص: 30

‌البريد الأدبي

بيان إلى صحف الأقطار الشقيقة

بلغني من أحدهم بطريق المصادفة أن بعض صحف الأقطار الشقيقة تنسب ألي رأياً خاصا في الوحدة العربية، كما تشير إلى تهم قيل إنها صدرت مني ضد بعض الأدباء في تلك البلاد. ولم تقع في يدي حتى الآن صحيفة من تلك الصحف أطالع فيها تفصيل هذه الأخبار الغريبة. ولكني أكتفي هنا بأن أرجو من صحف البلاد الشقيقة أن تضن قليلا بحسن ظنها في صحة الأقاويل والإشاعات التي تنسب إلينا، وألا تلقي بالا إلى غير ما ينشر موقعا عليه بأسمائنا من مقالات أو تصريحات، فإن بدعة (أحاديث المجالس) المتفشية الآن في الصحافة الحديثة لم يبق فاصلا بين الجد والهزل، ولم تجعل حدا بين الحقيقة والخيال. وقد يأتي اليوم الذي أحاسب فيه أيضاً على تلك (النكات) والدعابات التي يضعونها على لساني تحت الصور الكاريكاتورية في المجلات الأسبوعية، أو ما يرد من حين إلى حين في صيغة (قال لنا الأستاذ فلان. . .) كل هذا يجب أن يؤخذ مأخذا خفيفاً، وأن يقرأ مع الابتسام، لا أن يجعل أساساً لحقائق يدور حولها الكلام. . . وكنت أود أن يفطن الناس إلى ذلك منذ زمن، فلا يجعلوا مثلي مسؤولا إلا عما يحرر بقلمه أو ما ينشر بإذنه، ولقد بحثت في ذاكرتي فلم أجدني نشرت أكثر من مقالين أدبيين منذ عام، ولم أسمح بأكثر من حديثين جديدين، ولم تكن الوحدة العربية موضوع بحث أو سؤال، ولا كان الأدباء محل نظر أو جدال. خصوصا وان اطلاعي على الصحف أو الكتب، ومعلوماتي عن كتابها ومؤلفيها من أبناء البلاد الشقيقة هي للأسف من الضآلة بحيث لا تبيح لي الكلام فيها. ولابد لي من وقت أعالج فيه هذا النقص، وأتوفر على الإحاطة بالإنتاج الحديث وأصحابه قبل إبداء الرأي أو توجيه الاتهام أو إزجاء الثناء. وأملي أن يوفقني الله إلى القيام بهذا الواجب في القريب. فإن أقل ما ينتظر منا هو أن نكشف للعيون عن ثمرات القرائح الناضجة في حدائق جيراننا. تلك غايتنا. فإذا عجزنا عن إدراكها سكتنا على مضض. أما أن نتكلم بشر فهذا ما لا يكون منا أبدا. وأخيرا أكون شاكراً لو تفضلت كل جريدة عربية في كل قطر عربي بنشر هذا البيان، إقرارا للحق في نصابه والسلام. . .

توفيق الحكيم

ص: 31

حرية الفكر أيضاً

تفضل حضرة الأستاذ العلامة دريني خشبة في مقاله الأخير في الرسالة (حرية الفكر أيضاً)؛ فألمع إلى كلمتي الأخيرة في العدد الأسبق. ثم وضع لنا قانون حرية الفكر (والقول). وزبدة قانونه: (فليعتقد من يشاء ما يشاء بشرط ألا يجعل عقيدته دعوة يدعو إليها ويجهر بها الخ.) فعجبنا كيف تكون الحرية حرية متى قيدت بشرط أو شروط

ولأنني أعلم، وقد ازددت علما مما لاحظته في سياق النقاش في وحدة الوجود في الرسالة، إنه لا يجوز البحث في هذا الموضوع الذي اتفقت على بطلانه تعاليم الأديان الثلاثة. ولذلك حذرت سادتنا الكتاب من التوغل في موضوع قد بت فيه منذ مئات بل آلاف من السنين لئلا ينسب إليهم الإلحاد، وإنما رغبت أن يتجنبوا تهمة الإلحاد لأني أشفقت عليهم من غضب الجمهور الذي قد يثور على الملحدين. وكدت أنا أقع في نفسي ما حذرت منه إذ أصبحت في عرف أستاذنا العلامة دريني ملحداً أو زنديقاً لأني أعتقد بالمادة

لا باس أن ينعت المؤمن بالمادة ملحداً أو زنديقاً. ولكن ما قول أستاذنا فيما إذا اختلفت عقائد المؤمنين بالله؟

إن أصحاب الأديان الثلاثة يعتقدون أن الله خالق هذا الوجود ومدبره. ولكن لكل طائفة عقيدة بالله تختلف عن عقيدة غيرها. (فالله) الإسرائيليين يوصف بأنه (يهوه رب الجنود) أي إنه قائد حربي ينصر شعبه على أعدائهم. و (الله) النصارى ذو ثلاثة أقانيم في واحد. و (الله) المسلمين واحد أحد لا شريك له

وقد نضيف إليهم (الله) سقراط وتلاميذه الذين يعتقدون أن الله موجود مع الكون مستقل عنه ومدبره ولكنه لم يخلقه.

وهناك عقائد مختلفة بالله في الشرق الأسيوي وجزر الباسفيك القصوى. فمن هم الزنادقة؟ وفي نظر من هم زنادقة؟ وهل يحرم على أولئك المنسوبة لهم الزندقة أن يقولوا عقيدتهم. إذا أين حرية الفكر؟ وهي بيت القصيد في كلمتي الماضية وفي هذه أيضاً

أود أن يعلم حضرة الأستاذ جيدا أني لست أناقش في عقيدة معينة من العقائد الدينية. ولا أدافع عن عقيدة خاصة حتى ولا عن حرية الفكر. فما دامت الحرية غير مقيدة بسلاسل ولا

ص: 32

هي معتقلة في السجن؛ فلا أغضب ولا أكون شبه غاضب. ولذلك أرجو من حضرة الأخ العزيز الأستاذ دريني خشبة أن يسحب من مقاله (غاضبون أو شبه غاضبين) لأنه في الأبحاث العلمية لا محل للغضب عند من يعقلون، وإذا كنت أتطفل في مساجلته؛ فلأني أستلذ بحثه فأستزيده منه، وله تحيتي.

نقولا الحداد

تعريف الوحدة

الوحدة العربية، كلمة جذابة تطوي أطيب المعاني المستحبة عند كل الناس من جميع الطبقات، وقد أقترب كثيرا من الحقيقة إذا قلت إن تعريفها يختلف عند السوريين والعراقيين والحجازيين واليمانيين والفلسطينيين والمصريين

لا عجب في اختلاف معاني الوحدة العربية ولا غرابة في ذلك ما دام القائمون بها لم يضعوا لها بعد تعريفا يظهر الغاية ويزيل البلبلة والتضارب في التفسير ويحد من اجتهاد المجتهدين في إفراغ تعريفها في أحسن الألوان وأزهى المظاهر

وليس ثمة من دليل على البلبلة والتضارب اقطع من الدليل الذي أقامه الأستاذ أسعد داغر في صحيفة الأهرام، وما أدراك ما هي صلة الأستاذ بجميع القائمين بالوحدة والعاملين لها، قال في سياق مناظرة حول هذا الموضوع (أعرف أن الوحدة التي ينشدها العرب الآن هي وحدة الروح والفكر والمصلحة والخطة، والعمل على تحقيق آمال الأمة واستعادة مجدها الغابر لمصلحتها ومصلحة كل قطر من أقطارها، وكل فرد من أبنائها. ومصلحة الحضارة والعمران والسلام العام. على أساس الرضا والتعاون بين جميع البلاد العربية)

هذا الكلام وقد نقلته بنصه في تعرف الوحدة لا يروي ظمأ المتعطشين إلى الوقوف على الحقيقة من رجال السياسة والاقتصاد، ولا يحد من أخيلة المتخيلين الذين قد يضر الوحدة خيالهم ولا ينفع؛ فهل للأساتذة الأفاضل أمثال عبد الرحمن عزام وخليل ثابت ومحمود عزمي وعبد الوهاب عزام، وبقية المشتغلين بقضية الوحدة أن يضعوا لها تعريفا محدود القصد والغاية بعيدا عن التعابير الشعرية والأساليب الخيالية.

حبيب الزحلاوي

ص: 33

إلى الدكتور زكي مبارك

مرحبا بك يا أخي مساجلاً وصديقاً وأستاذاً حر التفكير (معقد الإيمان)

خذ في الموضوع إذن، ورجائي أن تذكر ما قلته في كلمتك الأولى من أنك تؤمن بنظرية وحدة الوجود كما تناولتها في كتابك القيم؛ فلا تنس هذا. . . ولا تنس أنك قد أيدتها في صفحات، ثم عدت فنقضتها في صفحات أخرى، فهل كنت مؤمنا بهذه النظرية في الصفحات الأولى، وغير مؤمن بها في الصفحات الأخيرة؟ ولن يفوتني أن أسألك يا أخي عما يخيفك من دخولي الإسلام في موضوعنا؟ أفي الإسلام نقط واهية يخشى عليه منها بصدد هذه النظرية الصادقة في نظرك؟ وعلى كل فخذ في الموضوع، واشرح لنا هذه النظرية كما تؤمن بها ونحن في انتظار ما تقول؛ وتقبل تحيات صديقك الذي يقدرك، وسوف يظل إلى الأبد يقدرك

دريني

بقية عن تيمور

كتبت في العدد الأسبق عن (تيمور) وواضح أن التقدير الفني - لا للتسجيل التاريخي - هو الذي كنت أتجه إليه؛ وهو الذي يتسع له مقال في صحيفة لا فصل في كتاب

ولما لم يكن من غرضي - في هذه الفصول النقدية التي أكتبها هضم حق أحد ولا منح أحد أكثر مما يستحق، لسبب من الأسباب الكثيرة التي تعصف بمن يحاولون النقد في هذا البلد العجيب. فقد رأيت أن أنشر هذه (البقية) التي كنت أبقي تفضيلها لكتاب هو بين يدي الآن

فأحب أن أسجل لتيمور إنه واضع الحجر الأول في محاولة (الأقصوصة) في مصر بعد أخيه المرحوم (محمد تيمور). وهذه الحقيقة التاريخية لا شأن لها بتقويم عمله من الوجهة الفنية. ولعل حديثي الماضي عن تيمور في صدد كتاب الرواية والقصة والأقصوصة مجتمعين، هو الذي أخفى مكانه التاريخي والفني بينهم. . .

فأما حين نفرد (الأقصوصة) فإننا نجد تيمور هو واضع الأساس. ولعلنا لا ننتظر ممن يخط الحروف الأولى أن يبلغ القمة، وحسبه أن يمهد الطريق

هذا الحق التاريخي. لا يمنعني مانع من كبرياء أو عناد، أن أعود فأقرره لتيمور، لأثبت له

ص: 34

- من وجهة نظري - ما له وما عليه. ولعل هذه الكلمة تكشف الحقيقة للكثيرين، ممن قرأوا كلمتي الماضية، فتأولوها تأويلا غير مضبوط.

سيد قطب

منع النساء من لبس العمائم الكبيرة

إتماماً لما كتبه الأستاذ النشاشيبي في (نقل الأديب) من (عدد الرسالة 578) من خبر النساء في إنطاكية وأنهن يتعممن كالرجال، وأن الرجال يلبسون السراقوجات، أنقل ما سيأتي من كلام ابن الجزري المؤرخ. وقد عودنا الأستاذ أن يشرح لنا غريب الألفاظ الذي يرد في كلامه، ولكنه لم يذكر لنا معنى (سرغوج). وهي شارة توضع على مقدمة القلنسوة، فيها شعر مفتول بعدد معين. تكون رمزاً لرتبة عسكرية عند المغول والأتراك حتى العثمانيين كما جاء في قاموس شمس الدين سامي وغيره:

قال المؤرخ محمد بن إبراهيم الجزري في تاريخه الكبير (حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه): وفي يوم الخميس لعشرين من رمضان سنة 690 رسم نائب السلطنة بدمشق - الأمير علم الدين سنجر الشجاعي - أن لا ترجع امرأة تلبس عمامة كبيرة، ومن خالف المرسوم غلظت عقوبتها. فامتنع النساء من ذلك على كره منهن. وكان في المرسوم أيضاً أن لا يكتب على المناديل البسملة ولا شيء من القرآن المجيد

وروى في كتابه المذكور عن الشيخ عماد الدين يونس بن علي بن قرسق الدمشقي، وكان والده متولي دمشق وشاد دواوينها، إنه قال: استتوب والدي بعض اللصوص ممن كان يخطف العمائم، قال ويبقى في خدمته بالباب، قال فقلت له مرة: أشتهي تحكي لي أعجب ما جرى لك فقال: اتفق أنني خرجت ليلة فوقفت في مظلمة فما استقر بي الوقوف إلا وخطفت عمامتي، قال فمشيت إلى بيتي وكان لي تخفيفة فتعممت بها ورحت إلى مكان آخر فما لحقت أقف إلا وقد خطفت، قال فعدت إلى البيت وأخذت مقنعة امرأتي فتعممت بها، والمرأة تخاصم وتحلف إن راحت مقنعتها تعرف الوالي، فأخذتها ورحت إلى مكان آخر فخطفت المقنعة، فقلت والله لا رحت إلى البيت إلا بشيء وخفت من المرأة، وكان وسطي مشدوداً بمنديل فتركته على رأسي وقلت في نفسي قد دخل الليل وما بقي إلا سقاية جيرون

ص: 35

فجيت ودخلتها ووقفت أنتظر من يعبر، وإذا بإنسان قد دخل وعلى رأسه عمامة كبيرة إلى غاية، فقلت في نفسي هذه أخطفها، ثم إني تركته حتى عرفت إنه قد تمكن من القعود، وفتحت عليه الباب، وخطفت العمامة وجريت جرية واحدة إلى بيتي، وافتقدتها فإذا هي العمامة والتخفيفة ومقنعة المرأة التي خطفت مني تلك الليلة لا تزيد خيطا، وراحت ليلتي بلا فائدة لا ربحت ولا خسرت.

ص: 36