المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 589 - بتاريخ: 16 - 10 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٨٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 589

- بتاريخ: 16 - 10 - 1944

ص: -1

‌بين الحقائق والأساطير

للأستاذ عباس محمود العقاد

كتب الأستاذ محمود عزمي مقالاً اقترح فيه أن تطلق كلمة العروبة بفتح العين على الجامعة العربية

قال الأستاذ: (وقد وفقت مع رهط من أصدقائي اللبنانيين وأنا أصطاف معهم إلى تعريب لفكرة التعاون المستند إلى مدرك الأمريكية الشاملة - في نظام جامعة الأمم الأمريكية - بلفظ واحد يدل أبلغ الدلالة على جامعة الأمم العربية التي يصح أن يعبر عنها باللغات الأجنبية بكلمة - وهو لفظ العروبة بفتح العين لا بضمها. وقد وردت في القواميس وفي المدونات على أن من معانيها العرب مجتمعين في مواسمهم، كما ورد أن يوم الجمعة كان يسمى يوم العروبة بالفتح قبل أن يسمى يوم الجمعة)

وتناول هذا المقال (مشاغب) المصور فقال: (. . . ليسمح لنا الأستاذ أن نقفش له ولأصدقائه هذه القفشة. فقد رجعنا إلى أكبر القواميس والى أمهات اللغة فلم نعثر على أن العروبة بالفتح هي العرب مجتمعين في مواسمهم حتى يصح أن تطلق على الجامعة العربية. فقد قال صاحب لسان العرب وصاحب محيط المحيط وغيرهما إن العروبة والعروب بفتح العين هي المرأة اللاعبة الضاحكة، أو المتحببة إلى زوجها أو العاصية أو العاشقة الغاوية، وإن إطلاق العروبة بالفتح على يوم الجمعة كان قبل الإسلام، وأنه يظن أنه دخيل في اللغة، وقال صاحب اللسان: وفي حديث الجمعة أنها كانت تسمى عروبة بالفتح وهو اسم قديم لها، وكأنه ليس بعربي. . . وأشار بعد ذلك إلى أنه تغير بعد ظهور الإسلام وسمى يوم الجمعة. . .)

هذا هو مدار المشاغبة بين الأستاذ عزمي و (مشاغب) المصور الذي أصاب في قفشته اللغوية، وأحسن إذ حال بين الجامعة العربية وإطلاق كلمة العروبة عليها

فمن هي هذه العروبة؟

من هي هذه الحسناء اللعوب المتعجبة الغاوية العصية؟

من هي هذه الفاتنة التي كان يوم الجمعة يسمى باسمها في الجاهلية ولا تزال في خصائصه أثارة من تلك التسمية حتى اليوم؟

ص: 1

أكبر الظن أنها هي (الزهرة) كوكب العشق والهوى واللعب والغواية، ثم كوكب يوم الجمعة الذي نسب إليه هذا اليوم في أرصاد المشارقة منذ آلاف السنين، وقد بطلت نسبته الآن في لغات المشارقة ولم تبطل من لغات الأوربيين الذين اقتبسوا أرصادهم من الشرق قبل ظهور المسيحية بقرون، فلا يزال الفرنسيون يطلقون على يوم الجمعة اسم فندردي أي يوم الزهرة ولا يزال الإنكليز يطلقون عليه اسم فرايدي أي يوم فرايا، وهي مقابلة الزهرة عند أبناء الشمال الأقدمين

والمعروف أن المشارقة فيما بين النهرين - قد سبقوا الأوربيين إلى رصد الكواكب السيارة والثابتة، ومزجوا هذه الأرصاد بالعقائد الخرافية التي اشتمل عليها علم الفلك القديم. فزعموا أن الكواكب مستولية على الأيام والحوادث، مسيطرة على السعود والنحاس، وقالوا إن الشمس مستولية على يوم الأحد، وإن القمر مستول على يوم الاثنين، وإن المريخ مستول على يوم الثلاثاء، وإن عطارد مستول على يوم الأربعاء، وإن المشتري مستول على يوم الخميس، وإن الزهرة مستولية على يوم الجمعة، وإن زحل مستول على يوم السبت، وإن هذه الكواكب تتداول الساعات جميعاً في هذه الأيام

وقد بقيت هذه النسبة في أسماء الأيام الأوربية إلى العصر الحاضر بعد أن بطلت في مصادرها الأولى

فيوم الأحد بالإنكليزية يسمى يوم الشمس بلفظ صريح.

ويوم الاثنين يوم بغير تحريف كبير

ويوم الثلاثاء يسمى يوم اله الحرب وهو تيوا عند أمم الشمال، ونسبته في اللغة الفرنسية أصرح وأظهر لأنهم يدعونه أي يوم مارس، وهو المريخ

ويوم الأربعاء يسمى يوم أووين إله الفنون ونسبته في اللغة الفرنسية كذلك أصرح وأظهر لأنهم يدعونه أي يوم مركيوري، وهو اسم عطارد عند جميع الأوربيين

ويوم الخميس يسمى بالإنكليزية يوم ثور إله الرعد والبرق والصواعق والنيران والصناعات التي تستخدم فيها النار ويشبه في خصائصه المشتري كما يعرفه الشرقيون

ويوم الجمعة منسوب إلى الزهرة كما تقدم، ويوم السبت منسوب إلى زحل، وهو في الإنكليزية أصرح منه في الفرنسية أي يوم (ساتيرن)، ومعناه زحل في تلك اللغة

ص: 2

ولا شك في مرجع الزهرة خاصة إلى الأساطير المشرقية بلفظها ودلالتها

فكلمة فينس كانت تكتب باللغات الأوربية القديمة بنث ثم صحفت الباء إلى الفاء، كما يتفق كثيراً في جميع اللغات، وصحفت الثاء إلى السين فأصبحت فينس كما تنطق اليوم، ومرجعها على ما هو ظاهر إلى كلمة بنت التي تدل في العربية وغيرها من اللغات السامية على الفتاة

وكلمة (أشتار) التي أطلقت من قبل على الزهرة، ثم أطلقت على سائر النجوم مأخوذة من أستار و (عشتروت)، أي الزهرة عند الفينيقيين. ومنها الاسترلاب أو الاصطرلاب مقياس الكواكب والأفلاك

وخصائص الزهرة في أساطير الفلك المشرقية هي بعينها خصائصها التي تثبت لها حتى الآن في أساطير الغربيين، وهي الاستيلاء على العشق والهوى والجمال الغاوي والفتنة الخليعة، وفي رسائل إخوان الصفاء كما في غيرها من كتب الحكمة والفلك:(. . . من ذلك حال السعدين المشتري والزهرة. فإن أحدهما دليل على سعادة أبناء الدنيا وهي الزهرة، وذلك أنها إذا استولت على المواليد دلت لهم على نعيم الدنيا من الأكل والشرب والنكاح والميلاد، ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهو من السعداء فيها)

وقد بقيت للجمعة صلة بالحب والمتعة حتى اليوم بعد نسيان كلمة العروبة التي كانت تطلق عليه في الجاهلية

فمن هنا إذن جاء وصف العشق والهوى ليوم الجمعة في الجاهلية المنسية، ومن هنا انعقدت الجامعة بينه وبين العروبة التي هي المرأة اللعوب المتحببة العاصية الغوية، وكل حسناء لعوب تجمع بين هذه الصفات كما جمعت بينها الزهرة ربة الفتنة والغرام عند الكلدان والفينيقيين قبل اليونان واللاتين

ومن الحسن إذن أن يكون للجامعة العربية كوكب غير الزهرة في مطلعها الجديد أو طالعها الجديد

فإن اجدر الكواكب أن يستولي على الجامعة العربية في هذا الطالع لهو كوكب عطارد الذي تنسب إليه الآداب والفنون في أقوال الشرقيين قبل الغربيين، كما قال ابن الرومي:

ونحن معاشر الشعراء نُنمي

إلى نسب من الكتاب دان

ص: 3

أبونا عند نسبتنا أبوهم

عطارد السماوي المكان

وهذا من الأدلة الكثيرة على أن الخصائص الفلكية التي تزعمها الأساطير الأوربية لأرباب الآداب والفنون من شعر ونثر وغناء وموسيقى قد كانت معروفة على هذه الصفة في الشرق العربي وفي الشرق كله قبل دولة الإسلام والعربية

والرأي الصائب هنا غير بعيد من دلالة الأساطير على هذا المعنى.

فإن الجامعة العربية لا يجمعها شئ كما تجمعها اللغة وآدابها ومنظومها ومنثورها وأفانين الفصاحة والتعبير فيها

فالجامعة العربية قبل كل شئ هي جامعة اللغة العربية واللسان العربي بما أفاض فيه من شعر ونثر وخطابة وبيان

وعطارد السماوي المكان هو صاحب هذه الجامعة دون غيره من كواكب السماء، وبخاصة تلك الزهرة اللعوب!

فلن تنفصم للأمم العربية جامعة ما دامت لها لغة واحدة وأدب مشترك في تلك اللغة. لأن هذا الأدب هو الميراث الذي يربطها بأسرة واحدة، ولا يقع النزاع عليه كما يقع النزاع كثيراً على ميراث المال والحطام، بل هو أبداً مجلبة الوفاق وموزع الحصص بمقدار ما يتناول منها المتناول في غير ضرار ولا شقاق

أما الوحدة العربية من وجهة السياسة فلها ضمان واحد يتقدم على كل ضمان، وهو حرية كل أمة عربية في الحكم وحرية كل أمة عربية في الاختيار، وحرية كل أمة عربية في معاملة الأمم الأخرى

فإذا قامت الوحدة على هذين الأساسين: أساس الأدب وأساس الاستقلال؛ فكل ما وراء ذلك فهو تفصيل يطويه الإجمال، وهو بأية حال مسألة رسوم وأشكال. ولا يبالي العربي في قطر من أقطار العروبة ماذا يكون الرسم، أو ماذا يكون الشكل إذا سلمت له اللغة وآدابها، وسلمت له الحرية وحقوقها

ولكل عربي أن يقول يومئذ في سائر العرب: (أبونا عند نسبتنا أبوهم) إذا كان عطارد هو رمز الأدب والفصاحة والبيان.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌صور من حياة أبي العلاء بين بدى ذكراه الألفية

أبو العلاء المصلوب!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

(يطالع قارئ ديوان (اللزوميات) لأبي العلاء صوراً شتى من

حياة هذا الرجل، حتى ليختلط على القارئ المتعجل تمييز تلك

الشخصية بميزات وسمات تلازمها ولا تفارقها

غير أن حركة صور تلك الحياة في ذهني تكاد تستقر على مقطع واحد من مقاطع نظري إليه، وهو مقطع صورة لرجل مصلوب!)

كأنما الأقدار قد أطالت صلبه ليترجم عن معاني الألم والتشاؤم والسأم والشك والتبرم، وانتقاد شريعة الاجتماع، والانتفاض على شريعة الحياة نفسها. وكأنه كان رسول هذه المعاني في الأدب العربية، جاء لينذر الناس بنذر من عالم الفناء والتعطيل والظلام والآلام. فهو في آفاق هذا العالم رائد خبير، قطع حياته كلها يجوس بعينيه المطموستين في أمواجه الغامرة لم يبزغ عليه فجر نور يزوده بصور باسمة للحياة يتذكرها ويلهو بذكراها في رحلته القاسية الطويلة، إذ حرمته الأقدار بعض أسباب السلوى والنسيان والتلهي، وضاعف هو حرمان نفسه، إذ رفض بقية ما سلبته الحياة. فكتب على نفسه بيده أسباب نقمته الموصولة، وقد أعانه على إدمان آلامه ذاكرة واعية، وحافظة مصورة، وخيال خلاق مثال، بلغ من قدرته أنه كان يرى في كل لفظ من محصول اللغة التي كان فيها إماما قالبا لمعنى من معانيه، ونواة لفكرة من أفكاره، لا يلبث أن يدور حولها دورة يخرج منها معنى يضم إلى أسرة المعاني العلائية المعروفة

وقد نجح في أداء رسالته، فقبس (أقبساً) داجية من عالم التعطيل والظلام ونقلها إلى عالم الحياة والحركة والافتنان والاستسلام، وأتى من وديانه بصور وتهاويل وأشباح تطالع قارئ ديوانه (اللزوميات) فيقبل عليها في ارتياع ووجل وشوق غامض كما يقبل على عالم الضوء بعرائسه وأشباحه البيضاء الآنسة المأنوسة! فيبصر ذلك الجانب الآخر من حياة قانونها المزاوجة بين المسرات والآلام، وينبه السكارى باللذة إلى ما هنالك من السكر

ص: 6

بالألم:

وأوقدتِ لي نار الظلام! فلم أجد

سَناكِ بطرْفي بل سِنانكِ في ضِبْني

وقد أوثقته الأيام على صليبه في محبسه، وسمرت جوارحه بمسامير العجز، وحررت فكره ولسانه وبيانه. والبيان قوة خطرة في مثل هذه الحال، تخلق ما ليس موجوداً، وتبالغ في الموجود حتى تخرجه إلى الإحالة، وتخدع صاحبها قبل غيره، وتضخم تهاويل الحرمان والعجز، حتى تصير كابوساً يأخذ بالأنفاس. . .

ومن عجيب أمر الحياة مع المعري أن أطالت عمره مصلوباً وحيداً إلا من صحبة نفسه التي لقي منها البرح البارح، ولقيت من فكرة الحيران العذاب المضاعف

وقارئ (اللزوميات) يخيل إليه أنه أمام آهات موصولة من ذلك (الفكر) المصلوب الذي أكلت من رأسه وتخطفته طيور الشك والألم والحيرة وإرهاف الحس وعدم الصبر على الفتنة بالناس، وعلى السير معهم على سطح الوجود بدون تعمق وطلب لما لا ينبغي أن يطلب. وكأن ذلك القارئ أمام مريض مزمن يتقلب على فراش شائك. ولم تكن حالات التسليم والهدوء والرجوع إلى معاني سطح الحياة تعتري المعري إلا كما تهدأ الحمى عن مريض برهة مخطوفة، ثم لا تلبث أن تعود في إلحاح ولجاج وإنهاك

وقد قلت في مقال سابق: إن السكر بالألم سكر خطر، أشد خطورة من السكر باللذة؛ لأن في الثاني إقبالاً على الحياة واعترافاً بها، وحب تذوق لفرصتها ألعابرة، وخواطر مسرة ورضا عنها وعن أفانين الإبداع فيها. أما السكر بالألم فيحمل على هذيان فيه رفض للحياة جملة، وتعطيل لحركتها في النفس، وخواطر سخط على صانعها، وانتقاد لنظمه فيها، وانتقاض وثورة وإباق وفرار وحقد دفين وغيط معلن وفضول وتدخل من كائن صغير ضئيل في السياسة العليا للحياة

سكارى اللذة قد يسخرون بشريعة الاجتماع ويحطمونها من فرط وفور القوة وَتَوَفزِ الحس والشعور بما فيها من متاع عبقري تستجيب له نفوسهم، ولا يقفون في استجابتهم له عند الحدود التي دلت تجارب الأحياء الذين كان لهم مثل هذه الاستجابة النهمة على أنها حدود يلزم الوقوف عندها واحتجاز النفس دونها إبقاء على تلك الاستجابة ذاتها، وإدامة لتجددها وطلبا للمزيد منها. ومن السهل رجوع سكارى اللذة إلى أحضان شريعة الاجتماع باستخدام

ص: 7

منطق التجارب في إقناعهم. فكل عيبهم أنهم أطفال جياع شرهون امتدت طفولتهم فاستمروا على حب الحلوى والزينة والمتاع بهما في إسراف، وسخطوا على (صمامات) الأمان و (فرامل) النجاة التي تتمثل في شريعة الاجتماع التي لا يدركون فيها مصالحهم الذاتية قبل مصالح غيرهم

أما سكارى الألم فيحملهم هذيانهم على تحطيم (شريعة الحياة) ذاتها، ولا يعترفون بها، ويقفون من صانعها وجها لوجه وقفة الند للند ثائرين صاخبين ساخطين!

والآن لننتقل بخيالنا لننظر ذلك الشيخ الأعمى المسمر على صليبه يحملق في وجه الظلام السرمدي بعينيه المطموستين، وأمام شفتيه كأس من الحنظل يرشف منها رشفات، ويئن من توقد جمرات الإحساس بالحياة. فينشد معلناً معاني نفسه ويطرحها قضية جريئة ثائرة. . .

فكونُك في هذه الحياة مصيبةٌ

أرى جُرَع الحياة أمَرَّ شئً

فشاهِد صِدْق ذلك إذ تُقاءُ

شربت قهوة هَمٍ كأسها خَلَدي

وفي المفارق مما اطلعتْ زَبَدُ

أرى جزء شهدٍ بين أجزاء علقم

أكُلتها جمرةً حرارتُها

صدت أخا الحرص عن تنعمها

أف لها! جُلُّ ما يفيد بها

من فاز فيها الطعامُ والباءُ

من لي بترك الطعام اجمعَ

إن الأكل ساق الورى إلى الغبن

إلى الأنين استراح خِدنُ ضَنّى

كما استراح السقاةُ بالرجز

ثم تذهب خواطره إلى نوع من ثورة العاجزين الذين يملكون الأفكار الثائرة ولا يملكون الأعمال المحررة التي تحررهم من إسار الحياة العنيف الكريه فينشد:

هذه الحبالة قد ضمت جماعتنا

فهل ينوصُ فتى منها وينفلت

خلصيني من ضنك ما أنا فيه

واطرحيني لمنكر ونكيرِ

إلام اجر قيود الحياة

ولابد من فك هذا الإسار

آه لضعفي! كيف لي هابطاً

في الوأد أو مرتقياً في العقاب

وما فتئت وأيامي تجدد لي

حتى مللت ولم يظهر بها ملل

ربِّ متى أرحل عن هذه الدنيا

فقد أطلت فيها المقامْ

ص: 8

وقد تحمله سكرته على حالة يكون فيها مستغرق الفكر في ذهول الحالم

فيالك من يقظةٍ

كأني بها حالم

والمرء في حال التيقظ هاجع

يرنو إلى الدنيا بمقلة حالم

وقد تحمله يقظته المرهفة على حالة يكاد فيها يعد أنفاسه سأما وحساسية ببطء مرور الزمن كبطء مرور مبهور الأنفاس أو مرور نمالِ صغارٍ على كثيب من رمال.

وأنفقت بالأيام عمري مجزءا

بها اليوم ثم الشهر يتبعه الشهر

يسيراً يسيراً مثل ما أخذ المدَى

على الناس ماشٍ في جوانحه بُهرُ

كذرٍ علا ظهر الكثيب فلم يزل

به السير حتى صار من خلفه الظهر

وهو شديد الشعور بجزئيات الزمن يتلقاها برهة برهة وتشد عليه سلاسلها، وهو واقف في إسارها جامد لا يتحرك

بتُّ أسيراً في يَديْ برهة

تسير بي وقتَي إذ لا أسير

وهو يرصد دورات حياته المحدودة المكررة فلا يجد فيها مذاقاً جديداً للحياة:

أُقضِّي الدهر من فطر وصوم

وآخذُ بُلغةً يوماً بيوم

أعيش بإفطار وصوم ويقظة

ونوم فلا صوماً حمدت ولا فطرا

تداولني صبح ومُسى وحِندسٌ

ومر على اليومُ والغد والأمس

غدا رمضاني ليس عني بمنقض

وكل زماني ليلتي آخر الشهر

وهي حالة يبلغ من إلحاحها على صاحبها أنه يتعجل دورة الفلك ويتطلع إلى الغد قبل مرور اليوم:

أصبحت في يومي أسائل عن غدي

متخبراً عن حاله مُتندَّسا

متى يتقضى الوقت والله قادر

فنسكن في هذا التراب ونهدأ

ويزيد ن وطأة الشعور بهذه الحالة التعسة أن يرى صاحبها خلاص قرنائه ولذاته ومصارع الأقوام حوله، وبقاءه هو فريداً مردوداً إلى أرذل العمر

يمر الحلول بعد الحول عني

وتلك مصارع الأقوام حولي

ثم يفر إلى تخيل يومه هو عندما يحين حينه فيرتاح

كأني بالأُلى حفروا لجاري

وقد أخذوا المحافر وانْتَحوْا لي

ص: 9

ثم يصيبه الإعياء والكلال من كثرة إرساله خواطر الثورة والحيرة والنفرة من الحياة والتشكيك فيها والسخط عليها ومضغ ألفاظ الألم والشؤم والكذب على الحياة، والإيغال في تخيل تلك الصورة الكئيبة التي يرددها دائماً على نفسه ويملأ بها حياته، فيعود إلى الصمت والأخذ عن الزمن الناطق الواعظ الخبير المصر على كلماته الأزلية:

قام للأيام في أذني

واعظ من شأنه الخرسُ

أوجز الدهر بالمقال إلى أن

جعل الصمت غاية الإيجاز

منطقاً ليس بالنثير ولا الشعر ولا في طرائق الرجاز ولقد تبلغ به في بعض الأحيان زلزلة الشك في صدق ما يقول من تلك الخطرات التي يظهر أن كثيرا منها كان وحي اللفظ أو القافية أو الخضوع لحب الأغراب، أن يشعر بصوت الزمن الصامت البليغ يرد عليه دعاويه ويفندها ويبكته

كادت سِنِيَّ إذا نطقت تقيم لي

شخصاً يعارض بالعظات مُبَكِّتا

ويقول:

من بعث اللسان بغير ما

أرضي فحقٌّ أن يُهان ويسكتا

دنياك لو حادثتك ناطقةً

خاطبت منها بليغة لَسِنَهْ

تلك هي الصورة الأصيلة لأبي العلاء، لا يخطر ذكره بالبال، إلا وتتراءى لعارفيه أوضح ما تكون خطوطاً وقسمات. وهي صورة تتصل بمزاجه وشخصيته أكثر مما تتصل بفكره وفلسفته، وهي هالة اسمه وطابع شخصه. وله صور أخرى تتصل بآرائه وثقافته ومذهبه الكلامي

عبد المنعم خلاف

ص: 10

‌2 - ثقافة أبي العلاء

للأستاذ دريني خشبة

لم يكن أحد في عصر المتنبي أكثر إلماماً باللغة العربية من المتنبي، ولم يكن أحد في أيام المعري أكثر إلماماً باللغة العربية وغريب اللغة العربية من المعري، بل لعل الله لم ييسر لأحد ممن أحاط باللغة العربية ووقف على غرائبها ما يسر من ذلك كله لأبي العلاء. . .

وقبل أن نأخذ في هذا الحديث عن ثقافة أبي العلاء أحب أن أرجو القارئ في الرجوع إلى معجم ياقوت ليقرأ معي أسماء ذلك الثبت الطويل من الكتب التي آلفها، أو صنفها، أبو العلاء، وما أورده ياقوت من الأسباب التي دفعت أبا العلاء إلى تأليف تلك الكتب. . . وأحب كذلك أن أرجو القارئ في أن يصبر على قراءة أسماء تلك الكتب الكثيرة الغربية التي نضيق نحن اليوم بها وبموضوعاتها التي لا يدل ظاهرها على طرافة أو عبقرية، عن لم يخيل لنا أنها تدل على حذلقة وتقعر. . . أو تفاصح وتشدق. . . على حد ما عبر ياقوت. . . وأحب أن ألفت نظر القارئ إلى ملاحظة قد تكون سخيفة إلى آخر حدود السخف أولاً، لكنها لن تكون سخيفة آخر الأمر، لأنني سأتخذ منها دليلاً على أن أبا العلاء لم يكن يؤلف هذه الكتب الكثيرة المعقدة، المضطربة، فيما يبدو لنا، التي لا قيمة لها في رأي الكسالى الذين لا صبر لهم على حل الرموز وفك الطلسمات. . . أقول أنني سأتخذ من هذه الملاحظة دليلاً على أن أبا العلاء لم يكن يؤلف من هذه الكتب المعقدة. . لله. . . أو بغير أجر إذا ضقت بهذا التعبير العامي الذي لا يعجبك. . .

إذن ليلق القارئ باله إلى عدد الكراسات التي يتألف منها كل من كتب أبي العلاء. . . وسنضع تحت أيدي القراء ميزاناً سهلاً لحساب هذه الكراسات الكبيرة العدد التي كانت تتألف منها كتبه

1 -

فياقوت يذكر أن كتاب الفصول والغايات كان يتألف من سبعة أجزاء أمليت في مائة كراسة (جـ3: 147) ويذكر الدكتور طه حسين - رجل أبي العلاء - أن الكتاب في أربعة مجلدات ضخمة. . . فإذا أخذنا بقول ياقوت وقع الجزء من أجزاء الكتاب في أربع عشرة كراسة وجزء من الكراسة، وإذا أخذنا بالقول الثاني وقع الجزء في خمس وعشرين كراسة، نستطيع أن نقدرها تقديراً كميا، أو حجميّا، بهذا الجزء الكبير الذي وصلنا من

ص: 11

أجزاء الكتاب، والذي أنفق في ترتيبه وتصحيحه وطبعه، أستاذنا الشيخ زناتي، ما أنفق من كريم الجهد والعمر والمال، ما أنفق. . . وعوضه الله خيراً!. . .

ويقول أبو العلاء: إن المراد بالغايات القوافي، لأن القافية غاية البيت، أي منتهاه، وهو كتاب موضوع على حروف المعجم، ما خلا الألف، لأن فواصله مبنية على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألفاً، ومن المحال أن يجمع بين ألفين. . . إلى آخر ما شرح به القيود التي تقيد بها في تأليف كتابه، والتي لم يبين لنا فيها سبب تأليف الكتاب الحقيقي، وإن كان الدكتور طه قد حدثنا عن ذلك حديثا قيماً في كتابه: مع أبي العلاء في سجنه، فذكر أن الفصول والغايات هو لزوم ما لا يلزم نثراً، مقيداً مثل اللزوميات، أو أشد منه، بقيود أشبه بعبث الأطفال الكبار! ونشهد الله على أنها لم تكن عبث أطفال كبار، ولكنها كانت حلقة في سلسلة الحيل التي كان أبو العلاء يتقي بها شرور زمانه وغطراسات حكامه. . . وندع ذلك الآن

2 -

وألف أبو العلاء كتاباً يوضح فيه غريب الفصول والغايات، وما فيه من اللغز، سماه: الشاذن أو السادر، أو السادن، وهو جزء واحد في عشرين كراسة

3 -

وكتاب إقليد الغايات، أي مفتاح الألغاز، في عشر كراسات

4 -

ثم كتاب الأيك والغصون، وهو كتاب الهمزة والردف: يبنى على إحدى عشرة حالة، الهمزة في حال إفرادها وإضافتها، ومثال ذلك السماء بالرفع والنصب، والخفض والتنوين (بدون أل طبعاً)، وسماؤه مرفوع مضاف، ثم منصوب مضاف ثم مخفوض مضاف، ثم سماؤها وسماءها وسمائها، ثم همزة بعدها هاء ساكنة، مثل عباءه. . . فإذا ضربت ذلك في حروف المعجم الثمانية والعشرين خرج من ذلك ثلاثمائة وثمانية فصول. . . الخ. ويقع الكتاب في اثنين وتسعين جزءاً تستغرق ألفاً ومائتي كراسة! وألف في تفسير غريبه كتاباً من جزء واحد

5 -

ثم كتاب تضمين الآي: بعضه على حروف المعجم وقبل كل منها في الكلمة الأخيرة في كل فاصلة ألف. مثل نساء - كتاب - بنات - غياث - أجاج: وبعضه آخر فواصله على فاعلين أو فاعلون. . . وبعضه غير هذا وذاك. ويقع في أربعمائة كراسة. . . وهو من الكتب التي طلب إلى أبي العلاء تأليفها. . . طلبه منه أحد الأمراء فألفه برسمه في

ص: 12

العظات والحث على تقوى الله!

6 -

ثم كتاب سيف الخطبة. . . لخطب السنة المنبرية والخسوف والكسوف والاستسقاء وعقد النكاح. . . وهو على حروف المعجم كذلك. . . والظريف أن أبا العلاء أهمل الجيم والحاء، وما يجري مجراها: لأن الكلام المقول في الجماعات ينبغي أن يكون سجسجاً سهلاً ومقداره أربعون كراسة

7 -

وكتاب تاج الحرة في عظات النساء، والتزم في فواصله خطاب النساء على حروف المعجم نحو: تشائي وهابي - وعلى تفعلين كتشكرين، أو الكاف، نحو كلامك وصيامك. ويقع في أربعمائة كراسة

8 -

وكتاب سجع الحمائم، على لسان حمائم أربع، في العظات والحث على الزهد، وقد طلب إليه أحد الأمراء تأليفه فأملاه في أربعة أجزاء في ثلاثين كراسة

9 -

وديوان لزوم ما لا يلزم، وقيوده معروفة، جعله في ثلاثة أجزاء، في أربعمائة وعشرين كراسة، وعدد أبياته أحد عشر ألفاً - وقد خاض بعض خصوم أبي العلاء في اللزوميات فرد عليه بكتاب زجر النابح، ثم جعل له ذيلا سماه بحر الزجر - ويقع زجر النابح في أربعين كراسة - وشرح اللزوم في جزء واحد - وكتاب آخر في شرح غريب اللزوميات سماه راحة اللزوم في مائة كراسة، وأظنه في شرح فلسفته ومثله كتاب الراحلة

10 -

وكتاب جامع الأوزن، وفيه أشعار تنتظم ألغازاً استوعب فيه الأوزان الخمسة عشر التي ذكرها الخليل بجميع ضروبها (وهذه عبارة ياقوت) مع ذكر قوافي كل ضرب. . . والمعري هنا مؤرخ للعروض جاهلية وإسلامية وعباسية. والكتاب في ثلاثة أجزاء في ستين كراسة تضم نحو ستة آلاف بيت بعضها لأبي العلاء وبعضها لشعراء غيره

11 -

وكتاب السجع السلطاني في أربعة أجزاء، ألفه لبعض الوزراء الذين أقبلت عليهم الدنيا من غير طريق الأدب (وفيه مخاطبات للجنود والوزراء وغيرهم من الولاة)

12 -

وكتاب سجع الفقيه في ثلاثين كراسة، وكتاب سجع المضطرين ألفه لبعض ذوي الأسفار (يستعين به على أمور دنياه)

13 -

وشرح المعري غريب شعر أبي تمام (ذكرى حبيب) في أربعة أجزاء في ستين كراسة، وقد طلبه منه أحد أصدقائه فعمله؛ وراجع ديوان البحتري لأحد الرؤساء ليثبت ما

ص: 13

جرى فيه من الغلط، فسمى النسخة الجديدة التي صنفها (عبث الوليد) في عشرين كراسة؛ وكلفه عظيم من الرؤساء يلقب بمصطنع الدولة ويدعى كليب بن علي بمراجعة أحد دواوين الحماسة (واسمه الحماسة الرياشية) فألف في ذلك كتابه الرياش المصطنعي فسر فيه ما لم يفسره أبو رياش. وهو أربعون كراسة

14 -

وكتاب الصاهل والشاحج، على لسان فرس وبغل ألفه لأبي شجاع فاتك، الملقب بعزيز الدولة، والى حلب من قبل المصريين

15 -

وكتاب شرف السيف، وقد أورد ياقوت عن هذا الكتاب خبراً هاماً جداً، نقله عمن كان يستملي أبا العلاء من الطلاب، وذلك حيث يقول أنه عمله لرجل من دمشق يدعى نشتكين الدزبري، كان يوجه إلى أبي العلاء السلام ويحفى المسألة عنه؛ فأراد جزاءه على ما فعل. . . فلنذكر ذلك إلى حين

16 -

وكتاب اللامع العزيزي في شرح شعر المتنبي، صنفه للأمير عزيز الدولة - وهو كتاب معجز أحمد كما ذكره الصفدي، في مائة وعشرين كراسة

17 -

ثم عشرات من الكتب في النحو والعروض والألغاز وغرائب اللغة، ثم كتابه ديوان الرسائل، الطوال ودون الطوال، والقصار، وتتجلى في ذلك الكتاب عبقرية أبي العلاء وخياله الخصب وأصالته الأدبية، وحسبك أن تعلم أن رسالة الغفران الخالدة ورسالة الملائكة هما وشل مما في هذه الرسائل. ذلك ولم نشر إلى ديوانه سقط الزند لشهرته، ولا إلى عشرات من كتبه الأخرى

فمن هذا الإحصاء الوجيز الذي وضعناه عن مؤلفات أبي العلاء عامدين ندرك أشياء شتى، ونستنسج أشياء شتى. . . ندرك تعدد ثقافات أبي العلاء واتساع آفاقها، وندرك أنه كان يصنف كثيراً منها - يزيد على الثلاثين كتاباً ضخماً، بطلب خاص من الوزراء والأمراء وأعيان البلاد العربية. . . وندرك أن أبا العلاء كان رجلا موسوعيا في آداب اللغة العربية، ثقة في فقه هذه اللغة، فوق كونه فيلسوفا ملماً بمعتقدات الأديان المختلفة، بل بمعتقدات فرق الأديان المختلفة، كما ندرك أنه كان يغلو غلواً شديداً في تعقيد تلك الكتب ويختط لها خططاً عجيبة مضحكة من الإسراف الشكلي والالتواء الشديد

أما الذي نستنتجه من كتب أبي العلاء ومن تاريخ حياته. فهو أنه كان يكون مع طلبته،

ص: 14

شيئاً أشبه بهذا القسم من الجامعة المصرية الذي نسميه كلية الآداب. . . أو شيئاً أعظم من هذا القسم من الجامعة الأزهرية الذي نسميه كلية اللغة العربية

وليضحك من شاء من القراء على استنتاجنا ذاك الذي نذهب إليه جادين، ونزيد عليه أن أبا العلاء لم يكن يعلم طلبته أولئك طلبة كلية أبي العلاء. . . بالمجان. . . وأنه لم يكن يؤلف كتبه الكثيرة الضخمة هذه لمن يطلبها ولمن لم يطلبها بالمجان أيضاً. لقد جمعت عدد الكراسات التي أملاها أبو العلاء، من المصادر القليلة التي تحت يدي فوجدتها تربى على عشرة آلاف كراسة، وقد أشرت إلى أن كتاب الفصول والغايات الذي بأيدينا كان يقع في عشرين كراسة أو أكثر أو أقل من ذلك بخمس كراسات - وفي هذا الحجم كانت تقع مئات من كتب أبي العلاء. . . ولو قدرنا أن ثمن الكراسة الواحدة كان عشرة قروش مصرية، وهو تقدير متواضع جدا لزمن أبي العلام، لعرفنا أن أبا العلاء قد اشترى ورقاً، أو كاغدا، أو رَقّا، أو ما شئت فسم مادة كراساته، بمائة ألف قرش. هذا غير المداد والأقلام. . . وإذا ذكرنا أن أبا العلاء كان رجلاً فقيراً، بل رجلاً معدما، لا يزيد دخله عن الثلاثين ديناراً من ذلك الوقف المعرف، كان يقتسمها وخادمه، وإذا عرفنا كذلك أن أبا العلاء كان مع هذا الفقر رجلا كريماً لا يبخل على تلاميذه بحسن الوفادة، وإكرام المثوى والمعونة المادية، وأنهم ذكروا صنفا من البطيخ عنده مرة، فأرسل من اشترى لهم منه حملاً كاملاً، أكلوا منه ونعموا، ولم يذق هو منه شيئا. ً. . لو ذكرنا ذلك كله لما ضحك أحد علينا حين نستنتج أن أبا العلاء لم يكن يعلم الطلبة لله، ولم يكن يؤلف كتبه - حين تطلب منه - لله! بل كان الرجل يأخذ على ذلك كله أجوراً تتراوح بين القلة والكثرة، وإن يكن لم ينعم من أجورها بشيء إلا ما ينفقه على ضرورات حياته الضيقة، ثم ينفق الباقي في شراء الورق أو الكاغد أو المداد والأقلام. . . وفي شراء المصادر التي لم يكن له غناء عنها. . . إذ من السذاجة أن نذهب مع الذاهبين إلى أن ذهن أبي العلاء، بالغاً ما بلغ من القوة، كان يختزن كل تلك الغرائب اللغوية دون حاجة إلى مصدر يضبطها له أو يمسكها عليه. وقد أشار الدكتور طه في غير كتاب من كتبه عن أبي العلاء إلى أن الرجل كان يقبل الهدايا من أصدقائه ومحبيه. ولست أدري ماذا منع الدكتور من الجهر بما نذهب إليه الآن من أن أبا العلاء لم يكن يعلم ولم يكن يؤلف، لله، ولا بالهدايا، ولكن باجر كريم معلوم. إذ ما سؤال هذا الدمشقي

ص: 15

عن أبي العلاء، وما إحفاؤه المسألة عنه، وما إرادة أبي العلاء أن يجزيه على ذلك؟ أصحيح أن إحفاء المسألة عن أبي العلاء هو كثرة السؤال عنه؟ كلا. . . فإن لم يكن في الرواية خطأ في النقل فالمقصود هو وفرة ما كان يغمر به الرجل أبا العلاء من الهدايا، كما يظن الدكتور طه، ومن المال الكريم المعلوم كما نظن نحن. . .

ولكن ما شاعرية أبي العلاء واثر ذلك كله فيها؟

إذن ما رأينا أن أبا العلاء كان شاعراً عالما أول أمره بالشعر والعلم، فلما انطوى على نفسه في المعرة سنة 400هـ صار عالما شاعراً. فأبو العلاء في سقط الزند غير أبي العلاء في اللزوميات. أنه في سقط الزند شاعر عالم فيلسوف، لكنه في اللزوميات فيلسوف عالم شاعر. . . ولن تكون له في اللزوميات قطع تزري بعض أبياتها بأكثر ما نعرف من شعر

والذين يقولون عن ثقافة أبي العلاء قد ذهبت بطلاوة شعره، أناس لا يعرفون أبا العلاء حق المعرفة. أنهم حريون أن يسألوا: ماذا اضطر أبا العلاء إلى هذا المركب الخشن في شعره وفي معظم ما ألف من الكتب؟ ولقد أجاب رجل أبي العلاء عن ذلك، فليرجع إليه من شاء.

دريني خشبة

ص: 16

‌على هامش النقد:

3 -

في عالم القصة

الرواية الشعرية بين شوقي، وعزيز أباظة

للأستاذ سيد قطب

عيب من عيوبي، أنني أنفر من الزحمة، واكره الضجيج. وأطبق هذا في عالم الأدب كتطبيقي له في عالم الحياة. فيكفي أن تثور الضجة حول مؤلف أو مؤلف، حتى يصرفني هذا عنه إلى حين، ثم أتناوله في هدوء وانفراد لأرى رأيي فيه. وكذلك أصنع مع كل شخصية في الحياة يتزاحم حولها المتزاحمون، إلا أن يخلو الجو، وتهدأ الضجة، فأقرب من هذه الشخصية لأتملاها، وكأنما لم أسمع من قبل عنها شيئاً!

ويسبق إلى نفسي سوء الظن؛ بكل ضجة وازدحام. ويقع في بعض الأحيان، أن يتبين لي خطئي في إساءة الظن بإحدى الضجات؛ ولكن هذا لا يعصمني في المرة التالية، من تغلب هذا الطبع، أو هذا العيب، الذي أعترف به ولا أخفيه!

كان هذا شأني منذ أكثر من عشر سنوات مع (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم. فآني لأذكر أن ضجة استقباله في عالم الأدب، قد أخرتني نحو عام كامل لا أقرأ الكتاب، ولا أعرف عن صاحبه شيئاً، حتى قرأته، فعلمت خطئي في هذا التأخير

وكذلك كان شأني مع (قيس ولبنى) لعزيز أباظة. لقد كنت أعرف فيمن أثنوا على الرواية وشاعرها من لا أشك في صدق تقديرهم وصدق تعبيرهم ولكني كنت أعرف بجوارهم جماعة أخرى؛ يضجون ويتبارون في الضجيج؛ وأنا على يقين جازم من أنهم إنما يتوجهون بالضجة إلى عزيز بك أباظة المدير!

ولما كنت قد قضيت شطراً من حياتي في احتقار هذا الصنف من الناس؛ وفي كشف العوامل الخفية التي تحفز هذه الطفيليات الواغلة في الأدب. فقد وجدتني - دون وعي - أعزف عن شهود الرواية وهي تمثل على المسرح، وأعزف عن قراءتها بعد أن طبعت في كتاب. وكأنما اختلطت الرواية في وعيي الباطن بما أكرهه من تزاحم المتزاحمين!

وأخيراً أقرأ في مجلة الثقافة للدكتور الفاضل أحمد بك زكي كلمة تحت عنوان: (بين

ص: 17

المقروء والمسموع) يثنى فيه على (قيس ولبنى) ثم يوازن بينها وبين (مجنون ليلى) فيفضل الثانية على الأولى

والدكتور زكي بك من الرجال القلائل الذين أشعر لهم بالود والاحترام في هذا الزمان، والذين أثق بأخلاقهم وتلذ لي قراءتهم في آن. ولكني أعرف (مجنون ليلى) وأعرف مستواها الفني والتعبيري!

قلت في نفسي: إن كلمة هذا الرجل الفاضل في الموازنة بين الروايتين فرصة سانحة لقراءتهما جميعاً

قال الدكتور زكي:

(وجلست إلى (قيس ولبنى) أقرأه ساعتين حتى أتيت على آخره. أفتدري إلام شاقني؟ شاقني إلى صنوه (مجنون ليلى) لشوقي بك. ومددت يدي فجررته من محبسه على رف الكتب. وأخذت أقرأ لشوقي، فما أحسست أني انتقلت بعيداً. كان إحساسي إحساس من انتقل من منشستر إلى لندن. أو من ليون إلى باريس، أو من الإسكندرية إلى القاهرة. الناس هم الناس، واللسان هو اللسان، وأسلوب العيش هو أسلوب العيش، والمدنية هي المدنية، وإنما في ظرف أكبر. فعزيزي يترسم خطوات شوقي، وله من جزالة لفظه ما يعينه على أن يحاكيه فيقاربه، ويقاربه كثيراً. وهذه خير تحية (يتحي) بها شاعر في مصر أو في الشرق كله

(كان إحساسي. إلى أن بلغت إلى قول شوقي على لسان قيس. قيس ليلى. إذ بلغ وهو في سبيله إلى ليلى، جبل التوباد، ملعب صباهما ومرتع شبابهما. قال قيس ليلى:

جبل التوباد حياك الحيا

وسقى الله صبانا ورعى

فيك ناغينا الهوى من مهده

ورضعناه فكنت المرضعا

وحدونا الشمس في مغربها

وبكرنا فسبقنا المطلعا

وعلى سفحك عشنا زمناً

ورعينا غنم الأهل معا

هذه الربوة كانت ملعباً

لشبابنا وكانت مرتعا

كم بنينا في حصاها أربعاً

وانثنينا فمحونا الأربعا

وخططنا في نقا الرمل فلم

تحفظ الريح ولا الرمل وعى

ص: 18

(الله! الله!

لم تزل ليلى بعيني طفلة

لم تزد عن أمس إلا إصبعا

ما لأحجارك صمنا كلما

هاج بي الشوق أبت أن تسمعا

كلما جئتك راجعت الصبا

فأبت أيامه أن ترجعا

قد يهون العمر إلا ساعة

وتهون الأرض إلا موضعا

(الله! الله! مرة أخرى، لهذا البيت الأخير

(بلغت هذه القطعة، فقلت: معيار المقارنة أن أجد مثلها لقيس لبنى. وبحثت فلم أجد

(أم أنا عميت؟ ربما. . .

(أم أني نظرت في الكتابين نظرة القارئ العادي، ومثل هذا الذي طلبت، يحتاج لا إلى بصر قارئ مثلي عابر، وإنما إلى بصيرة أديب مكين؟ ربما أيضاً)

ومع احترامي لهذا التواضع العلمي النبيل فيما كتبه الدكتور العالم الأديب. فأنني أخشى أن تكون عاطفة (تقديس الموتى) - وهي عاطفة إنسانية عامة وعاطفة مصرية خاصة - قد غلبت في نفسه على حاسة الفن، التي ألمحها في كل ما يكتبه!

وإلا فما يمكن أن يقرأ الإنسان هاتين الروايتين في وقت واحد؛ دون أن يحس بالفارق الهائل بين الحياة الحارة والصدق الطبيعي، في (قيس ولبنى)، وبين الموت البارد، والتلفيق المتهافت في (مجنون ليلى) من ناحية رسم الشخصيات وإجراء الحوادث والعرض الفني. ولا بين الطلاقة والقدرة على الأداء في الرواية الأولى، والاضطرار والتهافت في مواضع كثيرة من الرواية الثانية

ويجب أن يلاحظ أنني أتحدث عن (الروايتين) لا عن (الشاعرين) فشوقي الشاعر قد يكون أكبر من عزيز أباظة الشاعر في مجموعهما. ولكن رواية (مجنون ليلى) أصغر بما لا يقاس من رواية (قيس ولبنى). أصغر من جميع الوجوه التي تقاس منها الرواية الشعرية

والقطعة التي اقتبسها الدكتور زكي من (مجنون ليلى) قطعة عذبة النغمة جميلة التصوير، وهناك قطعة أخرى أو قطعتان في الرواية من هذا النوع. ولكن الرواية وحدة كاملة تقاس بمجموعها: برسم الشخصيات، وإجراء الحوادث، وعرض المشاهد، والتعبير القوي عن هذا كله في النهاية. وقياس الروايتين على هذا النحو، لا يدع مجالاً للشك في تقرير الحقيقة

ص: 19

التي أسلفناها

إن معظم الخطأ الذي قد نقع فيه عند الموازنة بين عمل شاعر كشوقي بك، نال في زمانه شهرة عالية؛ وبين عمل لأحد الأدباء المعاصرين. إنما ينشأ من اعتمادنا على ما تحوي ذاكرتنا من طنين سبق؛ واطمئناننا إلى هذه الأوهام المقررة؛ والاستغناء بذلك عن مراجعة الأثر الفني مراجعة جديدة

ولكن الدكتور زكي بك يقول: أنه أعاد قراءة (مجنون ليلى). وهذا هو موضع العجب. فالأمر من الوضوح الحاسم، بحيث لا يقع فيه التباس

إن عمل شوقي بك في (مجنون ليلى) كان عملا مشكورا من الوجهة التاريخية في الأدب. وذلك لفتح هذا المجال، ومحاولة نظم الرواية في اللغة العربية - وإن يكن غيره قد حاول قبله ولم يبلغ ما بلغه - وعند هذا الحد يقف تقدير هذه الروايات التي أخرجها جميعاً، و (مجنون ليلى) في أولها

فإما حين تعرض هذه الروايات للتقدير الفني، فإنها تبدو عملا بدائيا متهافتا من جميع الوجوه

وأول ما يلحق الناقد في (مجنون ليلى) هو البرود والركود. فالمجنون - وهو المثل الأعلى لحرارة العاطفة، وللجد فيها ذلك الجد المتلف - يصبح في يد شوقي طيفا متهافتا كأنه أحد شبان القاهرة المترفين الأطرياء اللطاف! كل حرارة الحب عنده بكاء ودموع وإغماء. وذلك كل نصيبه من الجد في هذه العاطفة المشبوبة. بينما يلمح في (قيس ولبنى) حرارة العاشق، وحركة الإنسان، وفحولة هذه العاطفة في نفسه المحبة المهتاجة

أنك لا تلمح مرة واحدة في (مجنون ليلى) تلك الحرقة اللاعجة، ولا تلك الثورة العاصفة. ولم تكن كل ميزة المجنون هي الحب المتهالك الذائب من الرقة والحنين - كما فهم شوقي وكما يفهم الكثيرون من الظرفاء المترفين الوادعين - إنما كانت هي الثورة المشبوبة والحرقة الموقدة، والاضطرام العنيف

لقد كان يحب، ولم يكن (يتدلع)! وكان هذا الحب يتعمقه ويهيجه ويشقيه، وكان هذا الحب يقيمه ويقعده ويثير اعمق مشاعره، ويهزه في الصميم؛ ولم يكن الإغماء والنواح هو كل حظه من الحب المجنون!

ص: 20

استمع إليه فيما يروى له من شعر، ثم استمع إليه فيما ينطق به شوقي، تجد المسافة شاسعة بين شعور وشعور:

استمع إليه يقول:

فيا رب إذ صيرت ليلى هي المنى

فزِنِّي بعينها كما زنتها ليا

وإلا فبغضها إلىّ وأهلها

فأني بليلى قد لقيت الدواهيا

أو قوله:

كان فؤادي في مخالب طائر

إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا

كأن فجاج الأرض حلقة خاتم

عليّ فما تزداد طولاً ولا عرضا

هذه النغمة الجادة، التي تشعرك (بالهول) في هذا الحب العنيف العميق، لا تسمعها مرة واحدة في (مجنون ليلى). وذلك هو المقياس الأول في صحة رسم شخصية المجنون، وتصوير عاطفته كإنسان يحب حقيقة، لا مترف يتظرف بالتهالك في الحب و (يذوب) حنيناً وإغماء كان (الذوبان) هو وحده دلالة الحب الإنساني العميق!

فإذا شئت هذه النغمة الجادة الصادقة العميقة، فانك واجدها في (قيس ولبنى)

أن شوقي لم يعرف الحب، واغلب الظن أنه لم يعرف (الألم) والألم هو ذلك الزاد الإلهي، الذي يفجر عواطف الفنان؛ وبدونه يصبح الفن بل تصبح الحياة كلها متعة رخية توحي باللطف والرقة، ولكنها لا توحي بالعمق والصدق. وما الحب وما الحياة بدون الألم الصادق العميق؟

أما عرض المواقف والمشاهد، فتبدو فيها السذاجة وقلة الحيلة، في إثارة النظارة بالمشاهد الملفقة. وذلك طبيعي ما دامت الحرارة الإنسانية الطبيعية مفقودة

وإلا ففيم هذا الإغماء الذي لا يفيق منه المجنون حتى يعود إليه خمس مرات! لقد أغمى على (قيس لبنى) مرتين. ولكن ذلك كان لمرض هده ولأزمات نفسية حقيقية تهد الكيان. أما المجنون، فيبدو لنا متهالكا متهافتا منذ أول فصل في الرواية، قبل آية أزمة من الأزمات، قبل أن تمنع منه ليلى وقبل أن يهدر دمه وقبل أن تتزوج سواه فكأنما هو (مستعد سلفا) لهذا (الذوبان) الرقيق لأن هذه هي سمة الحب الوحيدة، كما يتوهمها الرجل الظريف!

ومشهد وادي عبقر وشياطينه وحواره مع شيطانه، وكذلك مشهد الصبية الذين يتحاورون:

ص: 21

فريق مع الجنون وفريق عليه كلاهما حيلة من الحيل الرخيصة، التي تنشئها (قلة الحيلة) للفت النظر، حينما تقل الحرارة الطبيعية الصادقة!

وأعجب شئ هو ذلك الخصام بين رجال قيس ورجال لبنى، وكأنه لا يجري في الصحراء وما بها من رجولة وفتوة، إنما يجري في (صالون) بين بعض المترفين الظرفاء ويا للإخفاق عندما أراد شوقي أن يقلد شكسبير في يوليوس قيصر، فيصور ثورة الجماهير واندفاعها من جانب إلى جانب، متأثرة ببلاغة خطيب!

وموقف (ورد) زوج ليلى ذلك الموقف الطري المريب. الكي يقول لنا: أنه رجل كريم عطوف. لقد صور لنا (عزيز أباظة) ذلك الموقف نفسه أو ما يشبهه يقفه زوج لبنى فلم يمل به إلى هذه الطراوة المخنثة، وهو يصور نبله وكرمه. ذلك أنه صوره (إنسانا) حيا، لا دمية من الدمى، التي عرضها شوقي وسماها أشخاصاً!

وذلك في الحقيقة هو الفارق الأصيل بين الروايتين والمؤلفين وهو يلخص الفوارق كلها، ويختصرها: الصدق والطبيعة، والتلفيق والصنعة في كل موقف، وفي كل شخصية، وفي كل عاطفة أو شعور

ومن العجيب أن تخون شوقي في رواياته الشعرية أقوى خصائصه التي بهرت أهل زمانه، وهي قوة الأداء وضوح التنغيم. ففي (مجنون ليلى) أضطرارات في التعبير لا تجد لها مثالا واحدا في (قيس ولبنى)

ففي بيت واحد كهذا:

لِم إذن يا هند من

قيس ومما قال تَبْرا

يضطر إلى تسكين الميم في (لِمَ) وتسهيل الهمزة في تبرأ. ويطرد هذا التسهيل في مواضع شتى مثل (كيف تجرا) أي تجرأ، و (تهزا بنا) أي تهزأ. . . الخ

وتشاء تصبح (تشا) فقط اضطراراً للقافية في قوله:

وليلى تفيض على من تشاء

رضاها وتحرمه من تشا

و (مُنازل) تصبح (مُنازِ) فقط لضرورة الوزن في قوله:

(أنعم (منازِ) مساء

نعمت سعد مساء)

وليلى تصبح (ليلَ) لنفس السبب في بيت ينطق به ثلاثة:

ص: 22

أوغل الليل فلنقم

بل رويداً

واسمعي (ليلَ)

خل عني دعني

ومظلوم هذا (الترخيم) الذي يسرف شوقي في استعماله كلما نادى واحتاج للحذف خضوعا للضرورات النظمية!

والرُّبى تصبح (الرُّبىِ) لحركة القافية:

عارضنا الحسين في

طريقه ليثرب

هذا سنى جبينه

ملء الوهاد والرًّبى

وشيطان من وادي عبقر ممن يوحون بالشعر للشعراء يهبط ويهبط حتى يضع لا للناهية في موضع لا النافية لضعفه في النظم كقوله. (لا أدر. تلك ضجة)!

وكثير من مثل هذه الاضطرارات التي يعانيها المبتدئون في النظم، والتي تندر في شعر شوقي في غير الروايات، مما يدل على أنه كان يعاني، لا في تلفيق المواقف فحسب، ولكن في تذليل النظم أيضاً

وهذه عيوب تفهم حين ننظر نظرة تاريخية كما قلنا، فنسجل أن شوقي كان يطوع اللغة لفن جديد عليها فكان عمله هو عمل المبتدئ؛ وجهده هو جهد المبتدئ. وهذا كلام مفهوم. فإما حين نقيسه إلى عمل ناضج من الوجهة الفنية ومن الوجهة التعبيرية كالعمل الذي قام به عزيز أباظة في (قيس ولبنى) فإننا نشعر بالفارق العظيم بين العملين من الوجهة الفنية الصحيحة.

سيد قطب

ص: 23

‌الأستاذ سيد قطب

بين تيمور ونجيب محفوظ

للأستاذ سيد صلاح ذهني

نشر الأستاذ الناقد سيد قطب مقالين عن القصة في مجلة الرسالة الغراء تحدث في أولهما عن أدب محمود تيمور، وعرض في الثانية لقصة الأستاذ نجيب محفوظ (كفاح طيبه)، وبقدر ما أثار مقاله الأول دهشتي؛ فإن مقاله الثاني قد خفف من هذه الدهشة أحالها إلى أسف عميق للوقت المضاع الذي صرفته في قراءة المقالين - وكلاهما عن القصة - متوقعا مرجو الفائدة من مقالين لناقد اشهد أني طالما قرأت له في النقد أبحاثا طيبة.

أما الدهشة فقد كان مبعثها حيرة ناقد يفهم في القصة أمام فن الأستاذ تيمور وأمام الطائفة (ولا أقول المدرسة فقد أوقع هذا اللفظ الأستاذ سيد قطب في سلسلة من الأخطاء) التي يمكن أن يوضع بين أفرادها.

أجل. لقد تملكت الحيرة الناقد سيد قطب ودار يطرق بفن محمود تيمور أبواب المذاهب الأدبية باحثا له عن مأوى يركن إليه فما وجد. فآب إلينا بعد رحلته ينادي بحيرته، ويقول أنه حائر بهذا الرجل (محمود تيمور) وبفنه.

دهشت كل الدهشة لأنني، ولست ناقداً، استطعت أن أضع تيموراً في مكانه منذ أقاصيصه الأولى، واستطاع العشرات ممن الكتاب أيضاً أن يضعوه في هذا المكان، فقلت وقالوا عنه أنه واحد من رواد المذهب الواقعي، واختلفت واختلفوا في أمر واحد، هو قدر تيمور بين رواد هذا المذهب. وهنا تشعبت الآراء واختلفت، وأحسب أن كاتبا من الكتاب غير تيمور لابد إذا وضع موضع الدراسة والتقدير أن يعاني نفس الاختلاف بين ناقد وناقد، لأن مذاهب الأدب ومدارسه، ليست كما يتصورها الأستاذ سيد قطب معسكر اعتقال تحكمه قوانين صارمة، وإنما هي في الواقع تسمى مدارس تجوزاً، حقيقة الأمر فيها أنها مجرد أبواب. أبواب مختلفة لمدرسة واحدة، لكل طائفة باب تسلك منه إلى داخلها، ولن تقوم القيامة حين يدخل كاتب من باب غير بابه، ولن يشنق الناقد إن سلك كاتباً في غير طائفته فلابد واجد في أدبه ما يصله بهذه الطائفة أو تلك أو غيرها.

لذلك دهشت ورثيت للأستاذ سيد قطب وهو يدور بتيمور فأتعب الرجل وأضنى نفسه.

ص: 24

ولو علم أنه وهو يطوف بتيمور أقحم ثلاثة غيره في غير أبوابهم فما قامت القيامة ولا أمسك إنسان بتلابيبه لأراح نفسه

ألم يضع توفيق الحكيم صاحب مذهب في القصة، وليس لتوفيق في القصة ناقة ولا جمل، وما كان فيها صاحب مدرسة؟

ألم يهمل توفيق الحكيم نفسه حين تكلم عن الرواية المصرية في مقاله الثاني عن رواية نجيب محفوظ (كفاح طيبة)؟ هنا حيث المجال طيب للمقارنة وسلك الكتاب في طائفتهم واجب. فكلاهما ولى وجهه شطر مصر القديمة، وكلاهما أخرج عملا مصريا يشيد بمجد مصر القديمة؟

ألم يقحم أستاذنا المازني في سلك كتاب القصة، ومع ما أكنه ويكنه الكثيرون للأستاذ المازني من تقدير؛ فما جرؤ واحد منا أن يقول عنه أنه صاحب مذهب في القصة؟

ثم ألم يمسك بيد القصصي البارع يوسف جوهر ليقوده إلى حرم جي دي موباسان حيث كل شئ غريب عليه، ولو أنه أمسك بيده الأخرى تيمور لأنقذ نفسه وصاحبه من الخجل، ولوجد بين يدي موباسان عذراً لزيارته الطارئة. أنه على الأقل كان يدخل بإنسان يعرف المكان؟

ومع ذلك فما حدث كان يسيراً، أربعة أخطاء يسيرة

وضع كاتب رواية بين كتاب القصة القصيرة

ووضع كاتب مقالة ممتاز في عداد القصصيين.

وأقحم يوسف جوهر في مدرسة موباسان دون مؤهلات، ولا حتى طلب التحاق. . .

ورابعة الأخطاء - وليست الأثافي - الوقوف بتيمور أمام الباب الذي يجب أن يدخل منه، باب الواقعية، باب موباسان العظيم. الوقوف ساعات ثم الانصراف بالحيرة والتبلبل، ولا ذنب لتيمور إلا أنه وقع بين ناقد فاضل لا يجيد قراءة اللافتات (اليُفط)!

وبعد!

أيجب أن أقول إن الناقد الفاضل سيد قطب، كما اخطأ في مقاييس النقد قد أخطأ في حق التاريخ - علم التاريخ - فزلت قدمه في مقاله الثاني بدفعة لعينة من تلك العقيدة التي تسيطر عليه من أن النقد لا يكون صحيحا إلا إذا كشف عن نقائض، أو ابتكر نقائض. . .

ص: 25

ذلك ما حدث في المقال الثاني الذي كتبه عن الرواية الرائعة (كفاح طيبه) للأستاذ نجيب محفوظ. فقد سرد ما في القصة من مزايا وما لها من قدر كعمل قومي، ولون من الكتابة بتطلبه الأدب المصري، وأثنى على الكاتب، ثم! ثم تذكر عقيدته في النقد فكشف عن بعض الهنات التي انطوى عليها الكتاب، فذكر من هذه الهنات أربعة أخطاء. أخطاء تاريخية!

الأولى أن المؤلف - نجيب محفوظ - قدر مدة حكم الرعاة (الهكسوس) في مصر بمائتي عام، والراجح (عند الأستاذ سيد قطب) أنها حوالي خمسمائة عام

والثانية أن كلمة (أحمس) أولها للمؤلف أنها مشتقة من الحماسة، وهذا خطأ في رأي سيد قطب، لأن هذا الاشتقاق في اللغة العربية، وأحمس مجرد اسم مصري قديم

والثالثة: أن نجيب محفوظ ذكر اسم (بلاد النوبة)، والواقع أن النوبة هي التسمية الحديثة لهذه البلاد

والرابعة: أن المؤلف ساق خلال الحوار جملة على لسان سكنن رع الملك المصري، يستنكر فيها أن يكون للرعاة من العجلات الحربية أضعاف ما للمصريين منها. ولا يعجب هو بهذا الاستنكار، لأن الهكسوس هم الذين أدخلوا العجلات الحربية إلى مصر

والحق أن المخطئ هو الأستاذ سيد قطب!

ذلك أن ما قاله نجيب محفوظ هو الحقيقة التاريخية الثابتة

فالهكسوس لم يمكثوا في مصر أكثر من مائتي عام، بل أقل من ذلك.

وليعد الأستاذ سيد قطب إلى المرجع العربي الذي يستطيع أن يحصل عليه ويقرأه بسهولة، وهو (المجمل في تاريخ مصر) الجزء الخاص بمصر القديمة من وضع الدكتور عبد المنعم أبو بكر

وبلاد النوبة هي نفسها بلاد النوبة القديمة، كما أن كلمة (نوب) معناها القديم هو الذهب، وكان المصريون يسمونها النوبة، لأنها بلاد الذهب، ويسمعون الإله (حوريس)(حوريس نوب)، أي حوريس الذهبي.

أما بلاد بنت التي يقول عنها فهي الصومال الحالية!

وأحمس اسم بمعناه يدل على الجرأة والإقدام في اللغة المصرية القديمة.

وأما قصة العجلات الحربية فالكلام الذي ورد في الحوار على لسان الملك سكنن رع حقيقة

ص: 26

تاريخية

فهو يقول: (لم تكن العجلات من آلات الحرب لدي الرعاة، فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها؟)

فالعجلات لم تكن من آلات الحرب لدى الرعاة، كانت آلتهم الحربية هي الحصان، وعندما مروا بفلسطين عرفوا العجلات واستخدموها، ونفس اشتقاق كلمة عجلة أو مركبة من الكلمة القديمة (عَجُلْتي) أو (مَركبوتْ) معناها العجلة أو المركبة عند سكان سوريا وفلسطين وهي نفس الكلمة التي أطلقها المصريون إذ ذاك. ولا يعنى ذلك أن المصريين لم يعرفوا العجلات، فقد عرفوها من قبل ورأوها قطعا في رحلاتهم وغزواتهم في عهد الدولة الوسطى والدولة القديمة، لكنهم لم يستعملوها ولم يأخذوا بها. فليس غريبا أن يستنكر الملك أن يكون لدى الهكسوس عدد كبير منها، بينما ليس يديه هو هذا القدر وهو صاحب مصر العليا، ولديه من الأيدي الصانعة أضعاف ما لدى ملك الهكسوس

هذه هي الهنات التي كشفها الأستاذ سيد قطب. إنما هي حقائق تاريخية لا تقبل الجدل. وكل ما كشف عنه الناقد هو حاجته للكثير من الاطلاع والتريث والصبر، الكثير الذي يجنبه حيرة هي أقرب شئ للجهل، ويجنبه أخطاء أن تكررت فقد تدعو الكثيرين من أمثالي ممن اعجبوا به في أبحاثه الماضية لإعادة النظر في كل ما رواه إذ ذاك على أنه حقائق

فإن لم يكن لديه الصبر فليعد إلى نقد الشعر، ولن يضيره شيئاً أن يقال أنه ناقد شعر فحسب

صلاح ذهني

ص: 27

‌حول مقال.

. .

للدكتور سيد نوفل

كتبت مقالا في مجلة (الثقافة) عن الشوامخ سلكت فيه طريق الناقد المعنى بتبيان الحقائق، وعرض المآخذ، في أسلوب علمي يورد الحجة، وينأى عن التجريح

أوردت ملاحظاتي على أبواب الكتاب، وبينت ما يشيع فيه من الاضطراب والاستطراد، وما يرد من أقوال عامة، يقع فيها أكثر الذين يأخذون العلم عن الصحف وحدها، تتناقض حيناً، ولا تثبت للبحث دائماً

وانتهيت إلى (أن هذه الصفحات المائة تتحدث عن الأدب العربي من امرئ القيس إلى مطران، وإن المؤلف كان حريصا على إيراد كل علمه فيها، فران عليها الاضطراب والاستطراد، وأنها لا تعدو الإيراد المقتضب والنظرات العجلى)

ثم لم أغمط المؤلف حقه فقلت: (لكنها في الحق من قبيل التعبير القريب الهين عن إعجاب قارئ بشاعر اطلع على بعض شعره، وطائفة من أقوال الناس فيه. ومن هنا فهي حقيقة بالحمد من مؤلف يعتبر نفسه مؤرخا سياسياً)

لكن الدكتور المؤرخ، هاج وماج على طريقته، ونقم على حظه العاثر، وتبين نفسه في موضعها القلق من هذا العالم الظالم العاتي، وبلغ التشاؤم منه مبلغه، فضاق بالدنيا وبكل ما فيها من معان ومن فيها من ناس. . .

ومن حسن الحظ أن عقل الإنسان، أو بعض بني الإنسان، يجد لصاحبه مخارج من المآزق دائماً، فهدى الدكتور عقله الكبير إلى أن له أسوة، ويا لها من أسوة! فيما أصاب شوقي، وما أصاب البحتري وفكتور هوجو من قبله. . . قد تعرضوا لهجمات النقاد وقد صبروا، وما أجدره أن يصبر، وألا يحمل نفسه ولا أهله مكروها. ولهذا اطمأن واستراح

هذه خلاصة دقيقة لمقال الدكتور الذي صاغ مادته، وأعتذر للقراء من إيراد بعض ألفاظه، من (البقر) و (الحمير) و (النطح) و (الدجل) و (الجهالة) و (الشذوذ) و (الفوضى)، وما إليها من مسارح ندع الدكتور الأديب المؤرخ يجول فيها ويصول، ونمر باللغو كراما

وأبرئ نفسي من مناقشته الحساب في هذا، فنحن لم نتعلم هذا اللون من القول، ولم نصطنعه فيما مارسناه من نقد سنين طويلة. وأختتم حديثي بنقد الكلمة التي اعتبرها المؤلف

ص: 28

بيت القصيد في كتابه، وأوردها حكما بيني وبينه:

لقد جعل أولها قوله: (وليس لأحد من المتقدمين والمتأخرين تحليقاته في أفق الطبيعة الواسع)

سبحانك اللهم وبحمدك! هذا دليل لنا يورده المؤلف ذاته، ومصداق لما أخذناه عليه من الأحكام العامة القاطعة. التي لا يستطيع أحد أن يحمل تبعة الدفاع عنها، ولا يثبت أكثرها في العلم بله الأدب

هل أتاه حديث الشعر الذي سبق امرأ القيس والشعر الذي عاصره في الطبيعة؟!

وهل علم المحاولات التي أعقبته، وحديث النهضات المترامية في الشام والمشرق والأندلس ومصر بعده بقرون؟!

وهل درس حركة (الرومنتسزم الغربية) وسيادة شعر الطبيعة فيها، وقابل بين الخطوط الكبيرة لهذا الشعر الغربي، والخطوط الكبيرة لشعر امرئ القيس، ثم انتهى إلى ما قرر؟!

إن هذا اللون من الأحكام العامة منكر في باب البحث العلمي

ثم يقول: (وله في لمعان البرق واختلاجه في السماء آيات لا هي من الوصف الحسي، ولا هي من الوصف الخيالي، وإنما هي تصوير فقط)

ما معنى هذا؟ لقد طلبت المعونة من الله والناس على حل الغاز هذه العبارة، فلم يجب دعائي، ثم نظرت فتبينت الإحالة على أتمها: الحسي يقابله المعنوي لا الخيالي، فهذا يقابله الحقيقي أو الواقعي. والوصف الحسي تصوير والوصف المعنوي تصوير، وإذاً فلا تقوم هذه المقابلة العجيبة بين الوصفين وبين التصوير، وما نعلم أن تصوير الشيء يخرج عن أن يكون وصفا حسيا أو معنويا له!

ودع عنك الألفاظ البراقة التي استعملها والتي لا تجمل في باب الدرس والتحليل إلا إذا كان من ورائها معان مقررة ودلائل بينة

أما الأبيات التي أوردها، والتي تعتبر أقل شعر امرئ القيس دلالة في باب الطبيعة فهي ناطقة بأنها وصف حسي واقعي اللهم إلا إذا كان البصر بالعين غير حسي، وكان تصوير الحركات والأمكنة غير واقعي وكان الشاعر حريصا على الواقعية حين اكتفى بالتشبيه ولم يستعر

ص: 29

وهذه هي الأبيات:

قال:

أصاح ترى برقاً أريك وميضه

كلمع اليدين في حبي مكلل

وقال:

أعني على برق أراه وميض

يضيء حبيباً في شماريخ بيض

ويهدأ تارات سناه وتارة

ينوء كتعتاب الكسير المهيض

وتخرج منه لامعات كأنها

أكف تلقى الفوز عند المفيض

وبعد، فإن النقد الذي وجهته إلى الكتاب لا يزال قائما لم يتناوله المؤلف بالرد، وإنما دعمه بالتجائه إلى الشتائم وبالقطعة التي أوردها

فهل له أن يأخذ بطريق العلم والعقل؟!

أنا لمنتظرون!

دكتور

سيد نوفل

ص: 30

‌لعنة الحرب

للأستاذ علي الجندي

(في سبتمبر سنة 1944 دخلت الحرب في عامها السادس من

أعوامها المشؤومة؛ وكان أكثر الناس على أن رحاها الطحون

ستقف بعد سقوط باريس في يد القوات المتحالفة، فاستبشرت

النفوس الحزينة، واستعدت لتلقي نعمة السلام! ولكن الدوائر

الأمريكية حذرت من التفاؤل! ثم جاء ديجول فصرح: بأنها

ستستمر أشهراً وأشهراً! ثم أبان تشرشل في خطبته الجامعة

بأن القتال سيتحر في سنة 45! وليث شعري ماذا يبقى من

معالم الحضارة وآثار المدينة بعد هذا العالم؟! فرحماك اللهم

رحماك!)

طال ليلُ السُّرَى وحار الدليلُ

ونجومُ الهدى طواها الأُفولُ

وقف المدلجون: لا دَنت الغا

يةُ منهم ولا تَسَنَّى القُفول

كلَّ عام نُؤمِّل الخير فيه

ويخَيب الرَّجاءُ والتّأميل

ظُلْمَةُ فوق ظلمةٍ تتدجَّى

ليس فيها على الصبّاح دليل

وشقاءٌ ينساب إثْر شقاء

وعذابٌ بمثله موصول

ليت شعري والشر أطبق فكيه (م)

علينا، ألِلنّجاةِ سبيل؟!

كيف ينجو الأنام من شرك الهُلْك

ولم تبق للأنامِ عقول؟!

أشكل الأمر: لا الصباح صباح

نجتليه، ولا الأصيل أصيل

نبئوني: أين السلام؟ فظنِّي

- وهو صدق - أن السلام قتيل

مشت النارُ تأكل الحرث والنَّسلَ (م)

وكلٌّ لها غَداً مأكول

ص: 31

إنْ خبا جانبٌ تسعّرَ منها

جانبٌ حولَه الدماءُ تسيل

رحمتَا للدّيار أمست خراباً

وخراب الديار خطب يَهُول

بُدِّلتْ بالأنيس بوماً يغنِّى

فوقَها، والغِناءُ منه عويل

لا تقولوا: الجهَّالُ خير من العا

لِم - في عصرنا - الغبُّي الجهول

غرّنا العلمُ، فالتمسنا هُداه

فإذا العلمُ كلُّه تضليل

لا تقولوا: الألوانُ فالسُّودُ باتوا

- فوقها - بعضهم لبعض خليل

لا رعي الله في الوجوه بياضاً

خلفه الهمُّ والشقاء الطويل

لا تقولوا: الوحوش أظلم منها

من نراه على البريء يصول

ساكنُ الغابِ أدرَكَ الأمنَ في الغا

ب، وقد غالتِ الأناسِيَّ غُول

غابة الوحش لم تَدُسها العوادي

والقصور التي بنيْتم، طُلول

إن يكن للذئاب أنيابها العُصلُ (م)

فأنيابكم قَناً ونُصول

كل من في الوجود أرقم ليل

قاتل - في سُراه - أو مقتول

سنَّ (قابيل) سُنَّة الفتك للنا

س فلا كان منهمو (قابيل)

سأل الناسُ - ذاهلين حيارى -

ما أفاد المعقول والمنقول؟!

لا (الكتاب الحكيم) يلقَى سميعاً

- حين ندعو به - (ولا الإنجيل)

إن لله حكمة يسكنُ العقلُ (م)

إليها إن خانه التأويلُ

فَسدَ الناس واستطالوا على الله (م)

فأخنى عليهمو (عزريل)

علي الجندي

ص: 32

‌نداء الموت

(إلى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد)

للأستاذ محمد مجذوب

كم تنادى يا موت نفسيَ صيفاً

أنا في الصيف لن أجيب النداَء

كم تنادي، والحسنُ يهتف بالكو

ن فيلهى عن صوتك الأحياء

إذْ يُسِرُّ العشبُ الحِييُّ إلى ألا

ظلال ما شئنَ من حديث وشاء

إذ يحنُّ الصفصاف، والجدول الرقرا

قُ مصغ والريح تغفو رُخاء

إذ يموج اللبلاب فوق تخوم الرو

ض ريَّان نضرةً وسناء

إذ يغيب الوجود في غمرة الطيب

فيهفو حتى الجماد انتشاَء

. . . كم تنادى!. . . أفي عهود الأزا

هير، لك الويل، تنشد الإصغاَء!

عبثاً ترفع النداء فلن يبلغَ

يا موت أذنيَ الصَّماَء!

إن نفسي في شاغل عنك بالصيف

ففي الصيف لن أجيب النداء

غير أني يا موت جِدُّ سميع

دعوة القبر يوم أطوي الرجاء

يوم تعرى هذي الحياة من الحَليَ

ويكسو حطامُها الغبراءُ

يوم تسري الهوج الزعازع في السفح

فيملأ، فحيحُها الأرجاَء

يوم يستروحُ الرعاةُ من الشرق

لهاث الصقيع يغزو الجِواء

يوم لا حاصد هناك سوى النكبا

ءِ تغدو بها الحقولَ عراء

يوم لا حاطب سوى منجل الإعصا

ر يجتاحُ هَوْلُه الأوْداء

يوم لا بزر في التراب سوى الثلج

تغطِّي به السماء الفضاَء

يوم لا رغبة تجلجل في القلب

ولا متعة تذود الشقاء

. . . يومذاك ادعُني تجدني يا مو

ت مجيباً، كما تحبُّ، الدعاَء

(طرطوس - سوريا)

محمد مجذوب

ص: 33

‌البربد الأدبي

حرية الفكر أيضاً

إلى حضرة الفاضل الأستاذ عبد المنعم خلاف المحترم

أرجو من حضرة الأستاذ أن يتذكر - أو أن يعرف إذا كان لم يعرف - أن نسخ كتاب لبعض المؤلفين المعروفين أحرقت في مصر والشام، وأن بعض الكتب صودرت بعد طبعها ونشرها بعد زمن، وبعضها صودرت في المطبعة قبل أن تنشر، وإن الرقابة على المطبوعات غير مقتصرة على الكتابات السياسية فقط، وإن النقاش بين الكتاب في (الرسالة) حول (وحدة الوجود) مفعم بتهمة الكفر والإلحاد. أجل ليس الكفر جريمة ولا سبة، وقد يجاهر بعض الناس بأن دينه ما يحسبه الناس كفراً، ولكن الاتهام بالكفر عندنا أيغار لصدور الذين يحرقون الكتب والذين يلعنون الكتاب المكفرين، أي الذين يتوهم بعض القراء أنهم كافرون

أجل ليس أمام الكتاب الصريحين أو الصرحاء مشنقة ولا سجن، ولكن أمامهم نقمة فريق من الناس، فإذا (الصراع في المجال الفكري متخذ سبيل القوة والإرغام حتى الاضطهاد) لذلك حذرت إخواننا الكتاب من التمادي في بحث (وحدة الوجود)

فمعذرة يا حضرة الأستاذ خلاف وتحية.

نقولا الحداد

عودة دجال (البديع)

وقفت برهة أصغي إلى متطبب دجال يروج على الناس عقاقيره الزائفة من سفوف وسعوط ولعوق وسنون وبرود ولدود ووجور وذرور. . . وهم يصيخون إلى أكاذيبه مصدقين

وكنت أعجب لغفلة القوم عن تزييف دجله، كما أعجب بلباقته وحسن تأتيه في التلبيس عليهم. وقد جعل من أول همه أن يكثر عددهم من حوله: فأقبل يثني علي من يتلبث أمامه يسيراً، ويقذع في سب من تحدثه نفسه بالريال عن موضعه قبل أن يعي بقية مقاله

وتدفقت على خاطري وأنا أسمع كلمته هذه، صرخة (دجال) بديع الزمان في إحدى مقاماته حيث يقول: من كان منكم يحب الصحابة والجماعة، فليعرني سمعه ساعة! ورأيتني

ص: 34

كروايته عيسى بن هشام (قد لزمت أرضي، صيانة لعرضي)

ثم راح دجالنا العصري يتحدث بكلام مؤثر بليغ، لا يعيه إلا قلة حظه من فصاحة العربية. كلام لم أجد له ترجمة موجزة فصيحة احسن من قول (دجال) البديع: حقيق علي إلا أقول غير الحق، ولا أشهد إلا بالصدق

قد جئتكم ببشارة من نبيكم، لكني لا أؤديها حتى يطهر الله هذا المسجد من كل نذل يجحد نبوته! وثبت القوم في أماكنهم وثبت معهم وأنا أغالب ابتسامة التعجب، مردداً قول ابن هشام في مثل هذا المقام: لقد ربطني بالقيود، وشدني بالحبال السود!

ووصف دجالنا ما كان من جهاده في عالم الطب؛ وكيف فتح بأبحاثه موصد أبوابه، ووقع على اثمن كنوزه وانفس أعلاقه، حتى لأرهفت أذني، لأن اسمعه يواصل حديثه فيقول ما قال سلفه: ولا من عليكم فما أعددتها إلا لضرسي، ولا حصلتها إلا لنفسي - والحق أنه عبر عن هذا المعنى بأفصح لهجة عامية أن صح أن توصف عامية بالفصاحة

وبعد أن أوضح خصائص دوائه - ورقم تسجيله بوازرة الصحة! - عرضه على الحاضرين وهو يقول ما ترجمته: فمن استوهبه مني وهبته، ومن رد على ثمن القرطاس أخذته. ثم قال ما هو أقرب شئ إلى قول الأول: ليشتر مني من لا يتقزز موقف العبيد، ولا يأنف من كلمة التوحيد

وأشهد لقد رأيت القوم يجهرون بكلمة التوحيد - غير أنفين - ثم تتبسط أيديهم نحوه بالدراهم الكثر، ثمناً للدواء الذي لا يشفي، وقد يسقم

شهدت كل ذلك ثم انطلقت وحدي في زحمة هذه السوق الناشطة، وأنا أتعجب للنفس الإنسانية كيف تتواتر صورها على مرآة الزمان متشابهة في مكرها وغفلتها، واحتيالها وبلاهتها. وما زلت إلى اليوم أعجب لهذا الدجال - وأمثاله كثيرون - من (فصاحته في وقاحته، وملاحته في استماحته. وربطه الناس بحيلته، وأخذه المال بوسيلته)

ولو أن القارئ الكريم استحضر في ذهنه بعد مطالعة هذه الكلمة، صورة أحد أولئك الدجالين، أو سعي إلى مشاهدته حيث يقوم على رأس شارع أو في صدر سوق - ثم أقبل يراجع مقامتي بديع الزمان: الرابعة السجستانية والعاشرة الأصفهانية. إذن لرأى في وقائعهما التي تخيلها البديع على أساس من الحقيقة، أعظم الشبه بوقائع دجاجلتنا ومُكْدينا

ص: 35

اليوم

فما أشبه الليلة بالبارحة حقا. لولا هذه الزيادات المتلاحقة من المآثم والشرور، تزيد صفحة حياتنا قتاماً وتشويهاً، وتضاعف من عمق إحساسنا بمرارة المعنى الذي ينطوي عليه قول أبي الطيب:

أتى الزمانَ بنُوه في شبيبته

فسرَّهم، وأتيناه على الهرم

(جرجا)

محمود عزت عرفة

مقام الشهود لا وحدة الشهود

صوب الأستاذ أحمد صفوان في العدد 58 من (الرسالة) إطلاق وحدة الشهود على وحدة الوجود، وهذا لا يجوز، فمذهب وحدة الوجود يتلخص في أن الموجود الحقيقي هو الله تعالى، وما عداه من المخلوقات فهو عدم حال كونه موجوداً؛ فالكل محتاج إليه، لأن به قيام كل شيء. وعلى هذا لا يصح إطلاق هذه التسمية عليه

وأما مقام الشهود فهو من مقامات الصوفية، يصل الإنسان إليه بكثرة الذكر حتى يقع الشهود القلبي، فإذا حصل الشهود واستغنى عن الذكر بمشاهدة الذكور، وهذه حالة قلبية روحانية ليس لها علاقة بوحدة الوجود، ولا يصل إليها إلا الكمّل الأطهار

(شطانوف)

محمد منصور خضر

بين أبي العلاء وداعي الدعاة الفاطمي

فهمت مما كتبه الدكتور محمد كامل حسين في العدد 583 من (الرسالة) أن الرسائل التي تبودلت بين أبي العلاء ومناظره داعي الدعاة لم ينشرها غير المستشرق الإنكليزي مارجوليوث مرة سنة 1896 ومرة سنة 1902 بمجلة الجمعية الأسيوية الملكية، ولكن هذه الرسائل نشرت في مصر كذلك (1349هـ - 1930م) على يد الأستاذ محب الدين الخطيب الذي أشار في مقدمته التي قدم بها للرسائل أن المغفور له أحمد تيمور باشا أطلعه

ص: 36

على نسخة خطية منها في خزانته تحت رقم 478أدب، وأنه قد بادر إلى نشرها في مجلته الزهراء، ثم ما لبث أن أفرد لها رسالة خاصة تقع في حوالي 40 صفحة تحت عنوان (بين أبي العلاء العربي وداعي الدعاة الفاطمي)(القاهرة. المطبعة السلفية 1349هـ)

ويؤخذ كذلك من هذه المقدمة أن ما أورده ياقوت في معجم البلدان (وهي التي نشرها مارجلويث) إنما هو مختصر لتلك الرسائل. أما نصها الكامل فموجود في خزانة ليدن

وذهب الأستاذ الخطيب كما ذهب الدكتور محمد كامل حسين إلى أن هذه الرسائل تبودلت في السنة التي توفي فيها المعري أي 449هـ

هذا وللأستاذ الفاضل إعجابنا وتقديرنا لبحثه القيم الطريف

مصطفى كمال عبد العليم

ليسانس في الآداب. جامعة فاروق

الإسكندرية

ص: 37