المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 59 - بتاريخ: 20 - 08 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٥٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 59

- بتاريخ: 20 - 08 - 1934

ص: -1

‌صراع بين ثقافتين

فتنة الثقافة الأجنبية

ظاهرة في تفكيرنا وأدبنا تحمل على جد الأسف، هي أن الشؤون والنواحي القومية ما تزال مهملة منسية، في حين أن الشؤون والنواحي الأجنبية تلقى بيننا دائماً كثيراً من العناية والاهتمام.

وتلك ظاهرة قديمة في تاريخنا الحديث، ترجع إلى سبب معروف، هو سيادة النزعة الأجنبية في برامج التعليم التي تفرض على مصر منذ نصف قرن، والتي يلحظ فيها دائماً إقصاء عناصر الثقافة القومية أو إضعافها حتى لا تكون عاملاً في تغذية الشعور القومي وإذكائه؛ وإذكاء الشعور القومي شر ما يخشى المستعمر من أمة مغلوبة تطمح إلىاسترداد حريتها

وقد رجونا خيراً يوم قيل لنا إن برامج التعليم سوف تحرر من أصفادها القديمة ويعنى فيها بكل ما يرفع شأن الثقافة القومية، وتتخذ فيها لغة البلاد وتاريخها ومسائلها وشئونها مكانها اللائق؛ ولكن سرعان ما خاب هذا الأمل، وإن كانت اللغة العربية قد استردت في العهد الأخير شيئاً من حقها المسلوب؛ وما زالت النزعة الأجنبية تبث اليوم في برامجنا وثقافتنا كما كانت تبث بالأمس، ولم تتغير الغاية وإن تغيرت الوسائل.

ومازالت هده النزعة الأجنبية تتجلى في تفكيرنا وأدبنا بشكل واضح. ففي بضعة الأعوام الأخيرة مثلاً صدرت بالعربية كتب عن الدكتور مازاريك رئيس جمهورية تشيكوسلوفاكيا، والسنيور موسوليني، والغازي مصطفى كمال، وجيته شاعر ألمانيا الأكبر، وأخيراً عن الهر أدولف هتلر؛ وصدر بالعربية أيضاً كتابان عن باريس وكتاب عن لندن. فهذه كلها كتب عربية أخرجتها أقلام مصرية في موضوعات أجنبية في بضعة أعوام فقط. هذا إلى ما تنشره صحفنا ومجلاتنا من فصول ومباحث لا نهاية لها عن الموضوعات والشخصيات، وما يغرق فيه بعض أدبائنا الناشئين من الكتابة عن الكتاب الغربيين والأدب الغربي مما يسمونه بميسم الطرافة والتجديد.

وهذا حسن في ذاته لو أن مثل هذه العناية بالموضوعات الأجنبية يبذل لتناول الموضوعات الأجنبية والمسائل القومية. ولكن ماذا أخرجنا من الكتب والرسائل عن عظمائنا؟ وماذا

ص: 1

نشرت أو تنشر عنهم صحفنا ومجلاتنا؟ لقد أصدرنا كتباً عن مازاريك وموسوليني ومصطفى كمال وجيته وهتلر، ولكن لم نصدر في تلك الفترة كتاباً واحداً عن أحد عظمائنا الذين يحفل بهم تاريخنا الحديث مثل عرابي، والبارودي، ومحمد عبده، وعلي مبارك، وقاسم أمين، وصبري، وسعد زغلول، وحافظ، وشوقي، وغيرهم ممن يغمطون إلى اليوم حقهم من الناحية الأدبية، ولا يفكر أحد من كتابنا في أن يعني بدراستهم وترجمتهم بما يجب من إفاضة وتحقيق.

نعم إن الأدب لا وطن له، والتفكير تراث الإنسانية كلها، والقلم حر له أن يجول أنى شاء؛ ولكن هذه الفتنة الغربية التي تأخذ علينا سبل التفكير في تراثنا القومي جديرة بكثير من التأمل والاهتمام؛ ففي الأمم الحرة التي يزدهر تفكيرها وأدبها في ظل الاستقلال والحرية، تأخذ جميع ألوان التفكير والأدب، قومية كانت أو خارجية مكانها من النهضة الأدبية العامة. ومع ذلك فإن التراث القومي يحتفظ دائماً بالمقام الأول، ويعتبر دائماً أقوى وأنفس غذاء للشعور القومي. فإذا كانت هذه الأمم التي يحتفظ فيها الشعور القومي بكل قوته واضطرامه تقدر دائماً فعل التراث والذكريات القومية في تغذية هذا الشعور وتكوينه، فأولى بالأمم المغلوبة التي يعمل فيها الغالب الأجنبي على محاربة الشعور القومي وإضعافه أن تجعل تراثها وذكرياتها نصب عينها دائماً، وأن تتخذها عدة وذخراً لتغذية هذا الشعور وإذكائه. ولما كان التفكير والأدب خير أداة لتحقيق هذه الغاية، فإن الواجب

الوطني يقضي على كتابنا أن يرعوا هذه الناحية وأن يجعلوا لها أوفر نصيب من عنايتهم، وأن يؤثروها دائماً بدرسهم

واهتمامهم.

إن الآداب القومية التي نضجت وازدهرت في كل النواحي والفنون لا غبار عليها إذا عنيت بالنواحي والشؤون الأجنبية ما شاءت وما وسعت، فهي بذلك تكسب دائماً ثروات جديدة، ولكن حيثما كانت الآداب القومية فقيرة كآدابنا، وحيثما كان التاريخ القومي منسياً مغموطاً، وحيثما كانت برامج التعليم والتربية عرضة لأهواء المستعمر ينفث فيها من وحيه الخطر، ويعمل دائماً على محاربة عناصرها القومية، يجب على قادة الفكر أن يتداركوا هذا النقص بأقلامهم وتفكيرهم، وأن يقاوموا هذا الخطر، فيقدموا دائماً إلى الشباب الذي يحرم

ص: 2

في معاهد الدرس من الإلمام الشامل بعناصر الثقافة القومية، كل ما يقوم الشعور الوطني ويصقله ويغذيه؛ ويجب على الأدباء الناشئين أن يفكروا طويلاً في اختيار الطريق المنشود قبل أن يحملهم تيار هذه الفتنة الأجنبية المضللة من عالم الآداب القومية إلى فوضى موضوعات وشئون لسنا في كبير حاجة إليها.

يجب علينا قبل أن نقرأ عن مازاريك وموسوليني وهتلر، وقبل أن نشيد بذكرهم في كتب خاصة، أن نقرأ عن أبطالنا وعظمائنا الذين يغمرهم النسيان والجحود، وأن ندرسهم ونكتب عنهم؛ فذلك دليل الأدب القوي المستنير، وذلك دليل الوطنية الرفيعة، والشعور القومي الحي.

(ع)

ص: 3

‌عرش الورد

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

كانت جَلوة العروس كأنها تصنيف من حلم، توافت عليه أخيلة السعادة فأبدعت إبداعها فيه، حتى إذا اتسق وتم، نقلته السعادة إلى الحياة في يوم من أيامها الفردة التي لا يتفق منها في العمر الطويل إلا العدد القليل، لتحقق للحي وجود حياته بسحرها وجمالها، وتعطيه فيما ينسى ما لا ينسى.

خرج الحلم السعيد من تحت النوم إلى اليقظة، وبرز من الخيال إلى العين، وتمثل قصيدة بارعة جعلت كل ما في المكان يحيا حياة الشعر؛ فالأنوار نساء، والنساء أنوار، والأزهار أنوار ونساء، والموسيقى بين ذلك تتم من كل شيء معناه، والمكان وما فيه، وزن في وزن، ونغم في نغم، وسحر في سحر.

ورأيت كأنما سحرت قطعة من سماء الليل، فيها دارة القمر، وفيها نثرة من النجوم الزهر، فنزلت فحلت في الدار، يتوضحن وتأتلقن من الجمال والشعاع، وفي حسن كل منهن مادة فجر طالع، فكن نساء الجلوة وعروسها.

ورأيت كأنما سحر الربيع، فاجتمع في عرش أخضر، قد رصع بالورد الأحمر، وأقيم في صدر البهو ليكون منصة للعروس، وقد نسقت الأزهار في سمائه وحواشيه على نظمين: منهما مفصل ترى فيه بين الزهرتين من اللون الواحد زهرة تخالف لونهما؛ ومنهما مكرس بعضه فوق بعض، من لون متشابه أو متقارب، فبدا كأنه عش طائر من طيور الجنة أبدع في نسجه وترصيعه بأشجار سقي الكوثر أغصانها.

وقامت في أرض العرش تحت أقدام العروسين ربوتان من أفانين الزهر المختلفة ألوانه، يحملها خمل من ناعم النسيج الأخضر على غصونه اللدن تتهافت من رقتها ونعومتها.

وعقد فوق هذا العرش تاج كبير من الورد النادر كأنما نزع عن مفرق ملك الزمن الربيعي، وتنظر إليه يسطع في النور بجماله الساحر سطوعاً يخيل إليك أن أشعة من الشمس التي ربت هذا الورد لا تزال عالقة به، تراه يزدهي جلالاً كأنما أدرك أنه في موضعه رمز مملكة إنسانية جديدة تألفت من عروسين كريمين. ولاح لي مراراً أن هذا التاج يضحك ويستحي ويتدلل، كأنما عرف أنه وحده بين هذه الوجوه الحسان يمثل وجه الورد.

ص: 4

ونص على العرش كرسيان يتوهج لون الذهب فوقهما، ويكسوهما طراز أخضر تلمع نضارته بشراً، حتى لتحسب أنه هو أيضاً قد نالته من هذه القلوب الفرحة لمسة من فرحها الحي.

وتدلت على العرش قلائد المصابيح كأنها لؤلؤ تخلق في السماء لا في البحر، فجاء من النور لا من الدر؛ وجاء نوراً من خاصته أنه متى استضاء في جو العروس أضاء الجو والقلوب جميعاً.

وأتى العروسان إلى عرش الورد، فجلسا جلسة كوكبين حدودهما النور والصفاء؛ وأقبلت العذارى يتخطرن في الحرير الأبيض كأنه من نور الصبح، ثم وقفن حافات حول العرش، حاملات في أيديهن طاقات من الزنبق، تراها عطرة بيضاء ناضرة حييّة، كأنها عذارى مع عذارى، وكأنما يحملن في أيديهن من هذا الزنبق الغض معاني قلوبهن الطاهرة؛ هذه القلوب التي كانت مع المصابيح مصابيح أخرى فيها نورها الضاحك.

وأقتعدت درج العرش تحت ربوتي الزهر ودون أقدام العروسين - طفلة صغيرة كالزهرة البيضاء تحمل طفولتها، فكانت من العرش كله كالماسة المدلاة من واسطة العقد وجعلت بوجهها للزهر كله تماماً وجمالاً، حتى ليظهر من دونها كأنه غضبان منزو لا يريد أن يرى.

وكان ينبعث من عينيها فيما حولها تيار من أحلام الطفولة جعل المكان بمن فيه كأن له روح طفل بغتته مسرة جديدة.

وكانت جالسة جلسة شعر تمثل الحياة الهنيئة المبتكرة لساعتها ليس لها ماضٍ في دنيانا.

ولو أن مبدعاً أفتتن في صنع تمثال للنية الطاهرة، وجيء به في مكانها، وأخذت هي في مكانه لتشابها وتشاكل الأمر.

وكان وجودها على العرش دعوة للملائكة أن تحضر الزفاف وتباركه.

وكانت بصغرها الظريف الجميل تعطي لكل شيء تماماً، فيرى أكبر مما هو، وأكثر مما هو في حقيقته. كانت النقطة التي أستعلنت في مركز الدائرة، ظهورها على صغرها هو ظهور الأحكام والوزن والانسجام في المحيط كله.

لا يكون السرور دائماً إلا جديداً على النفس، ولا سرور للنفس إلا من جديد على حالة من

ص: 5

أحوالها؛ فلو لم يكن في كل دينار قوة جديدة غير التي في مثله لما سر بالمال أحد، ولا كان له الخطر الذي هو له؛ ولو لم يكن لكل طعام جوع يورده جديداً على المعدة لما هنأ ولا مرأ؛ ولو لم يكن الليل بعد نهار، والنهار بعد ليل، والفصول كلها نقيضاً على نقيضه، وشيئاً مختلفاً على شيء مختلف - لما كان في السماء والأرض جمال، ولا منظر جمال، ولا إحساس بهما؛ والطبيعة التي لا تفلح في جعلك معها طفلاً تكون جديداً على نفسك - لن تفلح في جعلك مسروراً بها، لتكون هي جديدة عليك.

وعرش الورد كان جديداً عند نفسي على نفسي، وفي عاطفتي على عاطفتي، ومن أيامي على أيامي؛ نزل صباح يومه في قلبي بروح الشمس، وجاء مساء ليلته لقلبي بروح القمر؛ وكنت عنده كالسماء أتلألأ بأفكار كما تتلألأ بنجومها؛ وقد جعلني أمتد بسروري في هذه الطبيعة كلها، إذ قدرت على أن أعيش يوماً في نفسي؛ ورأيت وأنا في نفسي أن الفرح هو سر الطبيعة كلها، وأن كل ما خلق الله جمال في جمال، فأنه تعالى نور السموات والأرض، وما يجيء الظلام مع نوره، ولا يجيء الشر مع أفراح الطبيعة إلا من محاولة الفكر الإنساني خلق أوهامه في الحياة، وإخراجه النفس من طبائعها، حتى أصبح الإنسان كأنما يعيش بنفس يحاول أن يصنعها صناعة، فلا يصنع إلا أن يزيغ بالنفس التي فطرها الله.

يا عجباً! ينفر الإنسان من كلمات الاستعباد، والضعة، والذلة، والبؤس، والهم، وأمثالها، وينكرها ويردها، وهو مع ذلك لا يبحث لنفسه في الحياة إلا عن معانيها.

إن يوماً كيوم عرش الورد لا يكون من أربع وعشرين ساعة، بل من أربعة وعشرين فرحاً، لأنه من الأيام التي تجعل الوقت يتقدم في القلب لا في الزمن، ويكون بالعواطف لا بالساعات، ويتواتر على النفس بجديدها لا بقديمها.

كان الشباب في موكب نصره، وكانت الحياة في ساعة صلح مع القلوب، حتى اللغة نفسها لم تكن تلقي كلماتها إلا ممتلئة بالطرب والضحك والسعادة، آتية من هذه المعاني دون غيرها، مصورة على الوجوه إحساسها ونوازعها؛ وكل ذلك سحر عرش الورد؛ تلك الحديقة الساحرة المسحورة التي كانت النسمات تأتي من الجو ترفرف حولها متحيرة كأنما تتساءل: أهذه حديقة خلقت بطيور إنسانية؛ أم هي شجرة ورد هبطت من الجنة بمن يتفيأن ظلها ويتنسمن شذاها من الحور؛ أم ذاك منبع وردي عطري نوراني لحياة هذه الملكة

ص: 6

الجالسة على العرش؟

يا نسمات الليل الصافية صفاء الخير، أسأل الله أن تنبع هذه الحياة المقبلة في جمالها وأثرها وبركتها من مثل الورد المبهج، والعطر المنعش، والضوء المحي؛ فإن هذه العروس المعتلية عرش الورد:

هي ابنتي.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 7

‌شخصية نسوية أندلسية

1 -

صبح أو صبيحة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

حظية خليفة، أم خليفة؛ سيدة مطلقة الرأي، تولي وتعزل الوزراء والقادة؛ وتدير شئون السلام والحرب، حسناء يغنم جمالها ملكاً، ويأسر خليفة، ويسيطر على قصر وحكومة؛ صاحبة السلطان المطلق في دولة من أعظم دول الإسلام؛ نصرانية نافارية مع ذلك؛ تلك هي صبح أو صبيحة أو (اورور) قرينة الحكم المستنصر بالله الأموي خليفة الأندلس، وأم ولده هشام المؤيد بالله يقدم إلينا التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة لنساء أجنبيات من الرقيق أو الأسرى، سطعن في قصور الخلفاء والسلاطين، وتمتعن بالسلطان والنفوذ؛ ولكنه لا يقدم إلينا كثيراً من لمواطن التي تستأثر فيها أجنبية نصرانية بالسلطان والحكم المطلق في دولة إسلامية قوية، وتسهر على مصاير هذه الدولة بذكاء وعزم، وتقودها لخير الإسلام والخلافة. والواقع أننا لا نستطيع أن نجد لذلك مثلاً أسطع من مثل صبح أو (اورور)، تلك الفرنجية الحسناء التي لبثت زهاء عشرين عاماً تسيطر بسحرها ونفوذها على خلافة قرطبة، وتقوم بتدبير شئونها في السلام والحرب مع أعظم رجالات الأندلس. ولم تك صبح سوى إحدى كواكب هذا الثبت الحافل من النساء الفرنجيات اللائي يقدمهن إلينا تاريخ الأندلس منذ الفتح، واللائي يتركن أثرهن في سير الحوادث أحياناً. ونستطيع ان نذكر منهن (ايلونا) القوطية أرملة ردوريك (لذريق) ملك القوط عند الفتح، وهي التي يسميها العرب (بأم عاصم)، فقد تزوجها عبد العزيز بن موسى بن نصير أول حاكم للأندلس بعد الفتح، وكان نفوذها ووحيها السيء من الأسباب التي أدت إلى مقتل عبد العزيز بن موسى (سنة 95 هـ)؛ ومنهن لامبيجيا الفرنجية الحسناء ابنة اودو أمير اكوتين، تزوجها عثمان بن أبي نسعة الذي تسميه الرواية الفرنجية (منوزا) أو (مونز)، وكان حاكماً للولايات الشمالية (البرنيه)، وتحالف مع أبيها الدوق اودو، وأخذ يدبر الخروج على حكومة الأندلس والاستقلال بولايته؛ ولكن عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس يومئذ وقف على مشروعه وأرسل لقتاله جيشا قوياً لبث يطارده في الجبال حتى أخذ وقتل وأسرت زوجته الأميرة الحسناء لامبيجيا وأرسلت إلى بلاط دمشق (سنة 113 هـ)؛

ص: 8

ومنهن ماريا الأسبانية النصرانية زوج الأمير محمد بن محمد ووالدة عبد الرحمن الناصر أعظم خلفاء الإسلام في الأندلس ويسميها العرب (مزنة)؛ ومنهن أخيراً (ثريا) النصرانية زوج السلطان أبي الحسن النصري ملك غرناطة، وهي فتاة أسبانية وأبنة قائد شهير، أخذت أسيرة في بعض المعارك التي وقعت بين المسلمين والنصارى وألحقت وصيفة بقصر الحمراء، فأحبها السلطان أبو الحسن وتزوجها؛ وكان لنفوذها ودسائسها أثر كبير في إضرام نار الحرب الأهلية في غرناطة وفي سير الحوادث التي أدت إلى ذهاب دولة الإسلام في الأندلس.

ظهرت صبح في بلاط قرطبة في أوائل عهد الحكم المستنصر بالله (350 - 366هـ)(961 - 976م). ولسنا نعرف كثيراً عن نشأتها وحياتها الأولى؛ وكل ما تقدمه إلينا الرواية الإسلامية في ذلك هو أن (صبحاً) كانت جارية بشكنسية أي نافارية؛ ولا تذكر الرواية إن كانت قد استرقت بالأسر في بعض المواقع بين المسلمين والنصارى، أم كانت رقيقا بالملك والتداول؛ ولكنها تصفها بالجارية والحظية. وصبح أو صبيحة ترجمة لكلمة (اورورا) ومعناها الفجر أو الصبح الباكر، وهو الاسم النصراني الذي كانت تحمله صبح فيما يظهر. وكانت صبح فتاة رائعة الحسن والخلال فشغف بها الحكم، وأغدق عليها حبه وعطفه وسماها بجعفر، ولم تلبث أن استأثرت لديه بكل نفوذ ورأى. وكان الحكم حينما تولى الملك بعد وفاة أبيه عبد الرحمن الناصر قد بلغ السابعة والأربعين من عمره، ولم يكن رزق ولد بعد؛ وكان يتوق إلى ولد يرث الملك من بعده؛ فحققت أمنيته على يد صبح، ورزق منها بولد سماه عبد الرحمن سنة 352هـ (962م) وفرح بمولده أيما فرح، وسمت لديه مكانة صبح؛ ثم ولدت له بعد ذلك بثلاثة أعوام ولدا آخر سماه هشاماً (سنة 354هـ)، ولكن الحكم رزئ بعدئذ بقليل بوفاة ولده عبد الرحمن فاشتد حزنه عليه، وعقد كل آماله على ولده هشام؛ ولبثت صبح تستأثر في البلاد والحكومة بكل نفوذ وسلطان. بيد أنها كانت وافرة الذكاء والحزم، بارعة في تدبير الشؤون، مخلصة لسيدها تعاونه في تدبير مهام الحكم بذكاء وبصيرة، وتسهر معه على سلامة الدولة والعرش. ولم تك صبح يومئذ جارية أو حظية فقط، بل كانت ملكة حقيقية. ولا تشير الرواية الإسلامية إلى أنها غدت زوجة حرة للحكم المستنصر بعد أن كانت جارية وحظية؛ ولكن هنالك ما يدل على أن صبحا كانت

ص: 9

تتمتع في البلاط والحكومة بمركز الملكة الشرعية، فالرواية الإسلامية تنعتها بالسيدة صبح أم المؤيد، وتصفها التواريخ الأفرنجية (بالسلطانة صبح). بيد أن هنالك ما يقطع مع ذلك بأنها بقيت من الوجهة الشرعية جارية و (أم ولد) فقط. وتصفها الرواية الإسلامية بعد موت الحكم بأنها (أم ولد)، وهو في الشريعة وصف الجارية التي حملت من سيدها وأصبحت أماً لولده.

وعلى أي حال فقد كانت صبح تحتل مكان الملكة الشرعية، وتتمتع في البلاط والحكومة بنفوذ لا حد له؛ وكان الحكم يثق بإخلاصها وحزمها ويستمع لرأيها في معظم الشؤون؛ وكانت كلمتها هي العليا في تعيين الوزراء ورجال البطانة. وكان كبير الوزراء، الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي يجتهد في خدمتها وإرضائها، ويستأثر لديها ولدى الحكم بنفوذ كبير. واستمرت الحال حيناً على ذلك حتى دخلت في الميدان شخصية جديدة قدر لها أن تضطلع فيما بعد بأعظم قسط في توجيه مصاير الأندلس. تلك هي شخصية فتى مغمور يدعى محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري؛ أصله من الجزيرة الخضراء من قرية طرش، ووفد على قرطبة حدثاً ودرس في معاهدها درساً مستفيضاً، وبرع في الآداب والشريعة. وكان طموحاً مضطرم النفس والعزم، رفيع المواهب والخلال، وكان في نحو السابعة والعشرين من عمره حينما أراد الحكم أن يعين مشرفاً لإدارة أملاك ولده عبد الرحمن، ورشحه الحاجب المصحفي في من رشح لتولي هذا المنصب. وأعجبت صبح بذكائه وحسن روائه وظرف شمائله فاخترته دون غيره، وعين بمرتب قدره خمسة عشر ديناراً في الشهر، وذلك في أوائل سنة 356هـ (967م). ولما توفي عبد الرحمن عين مشرفاً لأملاك أخيه هشام. وتقدم بسرعة في وظائف الدولة فأضيف إليه النظر إلى الخزانة العامة، ثم عين للنظر على خطة المواريث، فقاضياً لكورة إشبيلية، ثم عينه الحكم مديراً للشرطة، وفي أواخر أيامه عينه ناظراً على الحشم (ناظراً للخاص).

ويرجع الفضل في تقدم محمد بن أبي عامر بتلك السرعة إلى مواهبه وكفاياته الباهرة، ولكنه يرجع بالأخص إلى عطف صبح عليه وحمايتها له. وقد انتهى هذا العطف غير بعيد إلى النتيجة الطبيعية. كانت صبح امرأة حسناء لا تزال في زهرة شبابها، ولا يزال قلبها يضطرم حباً وجوى، وكان سيدها الحكم قد أشرف على الستين وهدمه الإعياء والمرض؛

ص: 10

أما ابن أبي عامر فقد كان فتى في نضرة الشباب، وسيم المحيى، حسن القد والتكوين، ساحر الخلال، وكان يفتن من جهة أخرى في خدمة صبح وإرضائها ولا ينفك يغمرها بنفيس الهدايا والتحف، حتى لقد أهداها ذات مرة قصراً صغيراً من الفضة بديع الصنع والزخرف لم ير مثله من قبل بين تحف القصر وذخائره، وشهده أهل قرطبة حين حمله من دار ابن أبي عامر إلى القصر، فكان منظراً يخلب الألباب ولبثوا يتحدثون بشأنه حيناً. فكانت هذه العناية تقع من قلب صبح أحسن موقع وتزيدها عطفاً على ابن أبي عامر وشغفاً به. وكان الحكم يشهد هذا السحر الذي ينفثه ابن أبي عامر إلى حظيته وإلى نساء قصره جميعاً ويعجب له؛ ويروى أنه قال يوماً لبعض ثقاته: (ما الذي استلطف به هذا الفتى حرمنا حتى ملك قلوبهن مع اجتماع زخرف الدنيا عندهن، حتى صرن لا يصفن إلا

هداياه، ولا يرضين إلا ما أتاه؛ إنه لساحر عليم أو خادم لبيب. وإني خائف على ما بيده)، ولم تلبث علائق صبح ابن أبي عامر أن ذاعت وغدت حديث أهل قرطبة؛ ولم يك ريب في أنها استحالت غير بعيد إلى علائق غرامية. وربما ارتاب الحكم في طبيعة هذه العلائق، وثاب له رأي في نكبة ابن أبي عامر؛ وسعى لديه بعض خصومه واتهموه بأنه يبدد الأموال العامة التي عين للنظر عليها في شراء التحف والأنفاق على أصدقائه؛ فأمره الحكم أن يقدم حساب الخزانة العامة ليتحقق من سلامتها؛ وكان بالخزانة عجز لجأ ابن أبي عامر في تداركه وسده إلى صديقه الوزير ابن جدير فأغاثه؛ وتقدم إلى الحكم سليم العهدة برئ الذمة؛ فزالت شكوكه، وتوطدت ثقته فيه، واستمر ابن أبي عامر متمتعاً بنفوذه، ينتدب لعظيم المهام والشئون؛ وهو خلال ذلك كله يحرص على عطف صبح ويستزيد منه، ويصانع الحاجب جعفر ويجتهد في إرضائه وكسب ثقته، ويخلق حوله حزباً من الصحب والأنصار بسحر خلاله، ووافر بذله ومروءته وبارع وسائله وأساليبه.

وكانت أعظم أمنية للحكم في آخر أيامه أن يضمن البيعة من بعد وفاته لولده أبي الوليد هشام، وهو يومئذ غلام في نحو العاشرة من عمره؛ وكانت أمه صبح تشاطره هذه الأمنية؛ وكان أشد ما يخشاه الحكم أن ينتزع الملك من بعده أخوه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر؛ فرأى تفادياً من ذلك أن يعلن بيعة ولده أثناء حياته ويضع رجال الدولة والأمة أمام الأمر الواقع. نفذ هذا المشروع في جمادي الآخر سنة 365هـ (فبراير سنة 976 م) وعقدت

ص: 11

البيعة لهشام في حفل جامع بالقصر، وأعلن الحكم أنه يقلد ولده الخلافة من بعده، وأخذت البيعة من الحاضرين ودعي له في الخطبة على المنابر ونقش أسمه في السكة، وأنفذت الكتب إلى النواحي لأخذها من الأكابر والأعيان، وتولى تنظيم البيعة والشهادة محمد بن أبي عامر، وهو يومئذ مدير الشرطة وناظر المواريث، وميسور الكاتب مولى صبح، واطمأن الحكم بذلك على مصير ملكه ومستقبل ولده نوعاً. ولكنه لم يعش بعد ذلك سوى بضعة أشهر؛ وكان المرض يشتد عليه منذ حين، ثم أصابه الشلل، وتوفي في الثالث من صفر سنة 366 (أول أكتوبر سنة 976م).

ولما توفي الحكم المستنصر بالله كانت مقاليد السلطة مجتمعة في أيدي ثلاثة: هم صبح أم هشام، والحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ومحمد بن أبي عامر، وكان قد أضيف إليه النظر على الحشم (نظر الخاص). ولم يكن يعترض على بيعة هشام سوى صقالبة القصر، وكانوا زهاء ألف، ولهم نفوذ عظيم؛ وكان رأيهم أن تؤخذ البيعة للمغيرة بن الناصر أخي الحكم؛ ولكن الحاجب جعفر وقف على مشروعهم في الحال، واستدعى القواد والجند الذين يثق بإخلاصهم تحوطا للطوارى، واتفقت الكلمة على توليت هشام، وقتل المغيرة؛ ولم تمض ثلاثة أيام على وفاة الحكم حتى بويع ولده هشام ولقب المؤيد بالله، وتولى الحاجب جعفر ابن أبي عامر تنظيم البيعة، وتولى ابن أبي عامر في نفس الوقت تدبير مقتل المغيرة بن الناصر، فنفذ إليه الجند ليلة البيعة وقتلوه؛ ومنحت السيدة صبح الوصاية على ولدها، وكان في نحو الثانية عشرة من عمره؛ وتم بذلك مشروع الحكم المستنصر، ومشروع الثلاثة ذوي السلطان من بعده. وكان طبيعياً أن تحرص صبح على تولية ولدها لتحكم باسمه؛ وكان طبيعياً أن يؤازر ابن أبي عامر صاحبته والمحسنة إليه ليستمر بواسطتها محتفظاً بنفوذه، وليستطيع أن يحقق على يدها ومن طريق تغلبها على ولدها ما يضطرم به من الأطماع الخفية، أما الحاجب جعفر فكان له مثل ذلك الباعث في تولية هشام، إذ كان يخشى أن يتولى الملك رجل قوي كالمغيرة فيفقد نفوذه وسلطانه. وهكذا جمعت البواعث والغايات المشتركة بين الثلاثة، ولكن هذا التحالف الذي أملته الضرورة المؤقتة لم يكن طبيعياً، ولا سيما بين الحاجب جعفر ومنافسه القوي محمد بن أبي عامر، وكانت العلائق بين صبح ابن أبي عامر تزداد كل يوم تمكناً ووثوقاً، وكان ابن أبي عامر يرى عندئذ في

ص: 12

صبح ملاذ حمايته ورعايته لدى الحكم، وكان وجود الحكم يحد يومئذ كثيراً من أطماعه ومشاريعه، ولكنه مذ توفي الحكم، وأضحت جميع السلطة الشرعية مجتمعة في يد صبح بوصايتها على أبنها هشام، أخذ يتأهب للعمل في طريق آخر، ويرى في خليلته صبح أداة صالحة هينة يستطيع أن يخضعها لإرادته، ويسخرها لمعاونته، وكانت صبح من جانبها تغدق كل عطفها وثقتها على هذا الرجل الذي سحرها بخلاله وقوة نفسه وباهر كفاياته، وتضع كل آمالها فيه لحماية العرش الذي يشغله ولدها الفتي. فلم تمض بضعة أيام على تولية هشام، حتى رفع ابن أبي عامر من خطة الشرطة إلى رتبة الوزارة، في نفس الوقت الذي أقر فيه هشام حاجب أبيه جعفر المصحفي حاجباً له، وهكذا أشرك ابن أبي عامر في تولي السلطة المباشرة مع المصحفي، ولم يعترض أحد من رجال القصر أو الحكومة على ذلك الاختيار سوى الحاجب جعفر، فقد كان يرى في هذا التعيين انتقاصاً لسلطته ونكراناً لجميله، بعد أن حمل أعباء السلطة كلها دهراً، وكان يرى في ابن أبي عامر بالأخص منافساً يخشى بأسه، ويرتاب في أطماعه ونياته ومن ذلك اليوم أضطرم بين الرجلين صراع عنيف صامت لم يك ثمة شك في نتيجته.

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 13

‌الحرمان

للأستاذ علي الطنطاوي

كتب الأديب المكي الغيور السيد أحمد علي، في الرسالة السابعة والخمسين: (يظهر الأسف الزائد إذ لم تقع عينه - وهو يراجع

الفهرس للسنة الأولى، ويتتبع أعداد الثانية، على أسم كاتب حجازي، يكون قد اشترك مع إخوانه وزملائه المعاصرين في الأدب، على صفحات هذه الصحيفة الغراء. . . ويؤمل من مديرها المفضال الأستاذ الزيات، إذا أراد، أن يشيد بذكر أبناء الرافدين والنهرين، ألا ينسى الحرمين، كذلك)

فأحببنا أن نلحق بكلمته هذه الكلمة:

ألم يشد أستاذنا الزيات بذكر الحرمين يا سيد أحمد علي؟ فما هو إذن عدد الهجرة الممتاز، وما هي تلك المقالات الإسلامية العربية؟

أما إن الرسالة إذا نظرت إلى أمر، فإنما تنظر إليه نظرة سامية فيها حكمة وفيها جلال، ولا يعنيها من (الحرمين) أخبار دائرة الصحة، ورسوم الحج، ولكن يعنيها حياة محمد (ص) وظهور الإسلام، وعظمة الفتوح، وجلال حكومة الراشدين؛ ولا يهمها من (النيربين) تنظيم الميزانية، ومناقشات المجلس البلدي، ولكن يهمها تاريخ بني أمية، وسعة الفتوح، وعز العروبة؛ ولا تحفل من (الرافدين) بقرارات الغرفة التجارية، وأخبار الجند، ولكن تحفل بحضارة الإسلام، ومجد المنصور والمأمون، ونهضة العلوم والفنون.

وتحفل بعد هذا كله، بالصورة المشرقة الوضاءة، صورة هذا الماضي الجليل، حين تظهر في صفحة الأمل الجميل، ذلك لأنها (تصور مظاهر العبقرية للأمة العربية) ولأنها ليست جريدة يومية أخبارية.

فهل تراها بعد. لم تشد بذكر الحرمين؟

وهل نسي أستاذنا الزيات الحرمين يا سيد أحمد علي؟ وهل يستطيع مسلم واحد على وجه الأرض أن ينسى الحرمين، وهو يستقبل الحرم خمس مرات كل يوم؟

يستقبله إذا سمع المؤذن يشق سكون الليل، بهذا النداء العلوي الجليل:(حي على الفلاح، لا إله إلا الله) فينهض من فراشه، يستأنف الحياة والليل يولي ساكناً خاشعاً، والنهار يقبل

ص: 14

مشرقاً زاهياً، والأطيار تتلو بلغة الطير سورة الحمد والشكر، فيتوضأ، ويحس في نفسه السمو والجلال - ذلك السمو الذي حالت الحضارة الغربية. . . بيننا وبينه، فقطعنا مذ لبسناها أجمل مراحل الحياة نياماً، وغفلنا عن داعي السماء، حين ينبعث في تلك الساعة هاتفاً بالنفوس المؤمنة الطاهرة: ألا من مستغفر فاغفر له؟ ألا من داع فأستجيب له؟ ألا من سائل فأعطيه؟

يتوضأ، ثم يستقبل (الحرم) وينسى كل شيء إلا (الحرم)، ثم يخشى أن يشغله الحرم عن الصلاة، والصلاة انقطاع الدنيا الفانية، واتصال بجلال الله الباقي، فيرفع يديه ويقول: الله أكبر، ويدخل في الصلاة فينسى كل شيء، إلا الله الذي يقوم بين يديه.

ويستقبله إذا زال النهار، وقامت الدنيا على قدم وساق، تدعو أبناءها وعبادها، إلى ما أعدت لهم من اللهو واللعب، فاستبقوا إليه، واقتتلوا عليه. . . معرضاً عن نداء الدنيا، مجيباً داعي الله، فيقوم بين يدي رب العالمين، مولياً وجهه شطر المسجد الحرام، تاركاً وراء ظهره الدنيا وما فيها!

ويستقبله إذا أخذت نفسه حظها من طعامها وشرابها وراحتها وقنعت من الدنيا بما نالت منها - وما الدنيا إلا ما يملأ بطناً، ويكسو جسماً، ويريح نفساً. . . يستقبله حامداً شاكراً.

(الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، (يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم) إياك نعبد وإياك نستعين (لا نعبد غيرك، ولا نخشى سواك، ولا نرجو النفع إلا منك، ولا نخاف الضر ممن دونك. أنت الضار وأنت النافع، وأنت المعطي، وأنت المانع؛ لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا يجير عليك من نبي ولا ولي، ولا يشفع عندك إلا بأذنك ملك ولا رسول)

ويستقبله إذا أطفئ المصباح الأعظم، وغطى الليل بسواده الفاحم على بهاء الدنيا وجمال الأصيل، فلا تشغله الرياض والجنان، ولا الورود والثمار، عن واد غير ذي زرع، عند بيت الله المحرم.

ويستقبله إذا عم الظلام ونام الكون، وأقبل على الفراش يسلم روحه إلى خالقها. لا يدري أتعود أم تبقى في عالم الخلود، فيكون (الحرم) آخر ما يقبل عليه ويذكره من هذه الدنيا.

فهل ينسى مسلم (الحرمين). أو هل ينساهما أستاذنا الزيات وهو الذي يذكر الناس؟!

ص: 15

أولم تر يا سيد أحمد علي كاتباً حجازياً في الرسالة؟ أين أنت يا سيدي؟ وأي شيء يكون كتاب الرسالة إذا لم يكونوا مسلمين عرباً حجازيين؟ أهم روم؟ أهم يونان؟ أهم فينيقيون؟ أهم فرس؟

أليس أهل مصر وأهل العراق وأهل الشام من أبناء الحجاز اللذين خرجوا من الجزيرة تحت راية محمد، ففتحوا العالم واستقروا فيه؟ أليس عمرو وجيشه من أهل الحجاز؟ أليس سعد وجنده من أهل الحجاز؟ أليس أبو عبيدة وخالد وأصحابهما من أهل الحجاز؟ أليس بنو أمية حجازيين؟ أليس بنو العباس حجازيين؟

كأني بك تريد أن تقول: هاك كتاب الرسالة السابعة والخمسين: إن مختار الوكيل مصري، وطوقان فلسطيني، وعباسي أردني، وفتاة الفرات عراقية، وباكثير حضرمي. ولكن لا. ليس في قاموسنا مصري ولا شامي! ولكن فيه مسلم، وفيه عربي.

وأي مسلم لا يرى الحجاز وطنه الأول من جهة النسب ومن جهة الدين؟

وأي عربي (كائناً ما كان دينه) لا يرى الجزيرة محتده وأصله، ومحمداً سيد العرب فخره؟

وهل ينسى مكة مسلم يتلو قول الله:

(لتنذر أم القرى وما حولها)

(والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين)

(لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد)

(وليطوفوا بالبيت العتيق)

(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس)

(رب أجعل هذا البلد آمناً وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام)

(ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم)

ويتلو قول رسول الله (ص) حين فارق مكة مهاجراً:

(إني لأعلم أنك أحب البلاد إليّ، وأنك أحب أرض الله إلى الله، ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت)

ومن ينسى مكة وفيها تاريخ أشرف أمة. وهي أشرف مدينة: لم تدن مذ خلقها الله لملك أجنبي عنها، ولم يؤد أهلها أتاوة لأحد، كانت تحج إليها ملوك حمير وكندة ولخم وغسان،

ص: 16

فيدينون للحمس من قريش، ويرون تعظيمهم والإقتداء بآثارهم فرضاً مفروضاً، وشرفاً لهم عظيماً، وكان أهلها آمنين، يغزون الناس ولا يغزون، ويسبون ولا يسبون:

أبوا دين الملوك فهم لقاح

إذا هيجوا إلى حرب أجابوا

وكان أهلها في جاهليتهم حلفاء متآلفين، ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم عليه السلام، ولم يكونوا كالأعراب الأجلاف، ولا كمن لا يوقره دين، ولا يزينه أدب، وكانوا يختنون أولادهم، ويحجون البيت، ويقيمون المناسك،

وكانوا يتزوجون أي القبائل شاءوا، ولا شرط عليهم في ذلك، ولا يزوجون أحداً حتى يشرطوا عليه بان يكون متحمساً لدينهم، يرون أنه لا يحل لهم ولا يجوز لشرفهم حتى يدين لهم

وكان العرب منذ الجاهلية يحجون البيت، ويعتمرون ويطوفون. فإذا أرادوا الانصراف أخذ رجل منهم حجراً من حجارة الحرم، يتذكرها به ويجله. . .

هذا ولك الحق يا سيدي الأديب، في أن تأسف إذ لم تر لواحد من سكان بلدك بحثاً أو مقالة في الرسالة، ولكنما هم الملومون يا سيدي لا الرسالة. وما أحسب الرسالة تنشأ (لتسجل ظواهر التجديد في الأدب العربي، وتكون ديوان العرب المشترك) ثم تسد بابها في وجه قوم هم خلاصة العرب، وبنو خلاصتها، فانشروا فيها يا سيدي، ونقرأ لكم، ونستفد منكم، ونشكركم. وعليك يا سيدي الأخ الأديب السلام ورحمة الله.

دمشق

علي الطنطاوي

ص: 17

‌قرطبة

نبذة تاريخية عنها

كانت قرطبة تعد من المدن العالمية المهمة، وكانت أعظم مدن الأندلس جميعاً، سواء بأبنيتها الجميلة الفخمة، أم بدور كتبها الكثيرة الواسعة، أم بحدائقها وبساتينها البديعة. وقد أتخذها عبد الرحمن الداخل عاصمة له، وشيد فيها القصور والحدائق والأبنية والمساجد، ولا سيما الجامع المعروف (بجامع قرطبة) وظلت عاصمة للأندلس حتى زمن عبد الرحمن الناصر، ثامن ملوك بني أمية هناك، إذ أنشأ على مقربة منها مدينة الزهراء المشهورة، وجعلها عاصمة له بدلاً منها، وفي عهد الحكم المستنصر ازدهرت البلاد ازدهاراً عظيماً، وكثرت دور الكتب والمدارس، وانتشرت العلوم والآداب بين طبقات الأمة، وكان لقرطبة النصيب الأوفر من عنايته، حتى لقد عين أخاه الأمير عبد العزيز مديراً لإحدى مكاتب (دور كتب) تلك المدينة العظيمة، ثم جاء هشام الثاني، فعجز عن إدارة المملكة، وتدخل أرباب المصالح والمطامع في أمورها، وكانت النتيجة انفصال الأقاليم واستقلالها، ومن جملتها (قرطبة) إذ استقلت سنة 421هـ - 1029م، واستولى عليها (أبو الحزم بن محمد بن جهور)، وأسس الدولة الجهورية فيها (422هـ - 1030م)، ولما مات (435هـ - 1043م) تولى الأمر بعده أبنه (أبو الوليد محمد بن جهور)، ثم توفى وخلفه ابنه عبد الملك بن محمد، فكرهته الرعية لسوء معاملته لهم، ثم خلعوه، وأخرجوه من قرطبة (461هـ) متحدين مع جيش محمد بن عباد. وبسقوطه انقرضت دولة بني جهور، ومنذ ذلك الوقت بدأت قرطبة في التأخر، وفي سنة 1236م استولى عليها الإفرنج، وطردوا أهلها، واتخذوها حصناً على حدود مملكتهم، وهي الآن من المدن الصغيرة، ويبلغ عدد نفوسها (80000) نسمة. . .

معيشة أهلها وصنائعهم

أما في تلك العصور الزاهرة فكان عدد نفوسها يربو على المليون، وكلهم يعيشون في خفض من العيش ورفاهية وسعادة، ومما ساعدهم على تلك الرفاهية إتقانهم لفنون وصنائع كثيرة، وزيادة نسبة المتعلمين والمثقفين بينهم، كما كان الحال في باقي المدن الأندلسية المتوسطة والكبيرة، فاشتهرت غرناطة بجودة حريرها وطليطلة بتفننها في صنع الأسلحة،

ص: 18

وقونقة بجوخها الأخضر والأزرق، وقرطبة بصناعة السروج ودباغة الجلود الخ. . وكان في قرطبة مصانع كثيرة مختلفة، تصدر أنواع السلع الأخرى إلى المدن الأندلسية، وإلى خارج البلاد أيضاً. .

العلم والأدب

نقل صاحب نفح الطيب عن ابن سعيد (مؤلف الحلة المذهبة في مملكة قرطبة): (أن عرب قرطبة كانوا يتفاخرون بثلاث: بأصالة

البيت، وبالجندية، وبالعلم. قال: وهي أكثر بلاد الأندلس كتباً، وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة، حتى أن الرئيس منهم الذي لا تكون له معرفة، يحتفل أن تكون في بيته خزانة كتب، ويحتفظ فيها، ليس إلا لأن يقول: عندي خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس عند غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به. . .)

وكان فيها مكاتب كثيرة كبيرة، تحوي أثمن الكتب وأجلها وأفضلها، ولهذا فاق القرطبيون غيرهم من أهل الأندلس والأقطار الأخرى، بكثرة علمائهم وأدبائهم، وبشدة إقبالهم على التعليم والتثقف، وعلى حبهم للعلماء والأدباء، واحترامهم لهم، ولصناعة العلم والأدب.

وكان للحكم الثاني في قرطبة مكتبة، فيها ستمائة ألف كتاب لها أربعة وأربعون فهرساً، في كل فهرس 20 ورقة لأسماء الدواوين فقط!!. ويقول جستاف لوبون - بهذه المناسبة - إن شارل الحكيم الذي تولي أمر فرنسا بعد خلافة الحكم بأربعمائة سنة (1364م) بذل جهده في أن يجمع أكبر عدد ممكن من الكتب للمكتبة الأهلية بباريس - حين أسسها - ولكنه لم يستطع أن يجمع أكثر من تسعمائة مجلد ثلثها دينية!. . .

وكانت الكتب تردها من بغداد ودمشق وخراسان والأستانة، وكان فيها 80 مدرسة جامعة، يقصدها طلاب العلم الراقي والأدب الرفيع من أنحاء العالم المختلفة، ومنهم البابا سلفستر الثاني، وكان قد ذهب إلى أشبيلية فدرس فيها زمناً، ثم إلى قرطبة، وذلك قبل أن يصبح بابا (999م)، وكان يسمى قبلاً الراهب جربرت، وممن تخرجوا في جامعات قرطبة، بطرس فنرابل وقسيس كولوني، وكذلك (شانجة) ملك ليون، وغيرهم كثيرون من الأوربيين الذين نذهب اليوم إلى جامعاتهم التي حلت محل الجامعات العربية، والله يغير

ص: 19

ولا يتغير، والله على كل شيء قدير!. . .

وكان في قرطبة علماء وأدباء وفضلاء كثيرون، نذكر منهم (أبو بكر يحيى سعدون الأزدي القرطبي) الملقب (بصائن الدين) وهو أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن والحديث والنحو واللغة الخ. . ولد بقرطبة (486هـ) ومات بالموصل (567هـ). وأبو الوليد عبد الله بن محمد يوسف المعروف (بابن الفرضي) وكان فقيهاً عالماً من مؤلفاته (تاريخ علماء الأندلس) و (حسن في المختلف والمؤتلف) و (في أخبار شعراء الأندلس)، وقد ولد سنة 351هـ. وقتله البربر يوم فتح قرطبة سنة 403هـ ابن زيدون ولد سنة 394هـ. ومات بأشبيلية سنة 463هـ.

وأحمد بن محمد بن البر، من موالي بني أمية، له كتاب في الفقهاء بقرطبة، ومات في السجن ليلتين بقيتا من رمضان. ومنهم (أحمد بن محمد بن موسى) له مؤلفات كثيرة في أخبار الأندلس، توفي في 12 رجب سنة 344هـ. وولد في (10) ذي الحجة سنة 274.

و (خالد بن سعيد القرطبي) أحد أئمة الأندلس، مات فجأة في سنة 352هـ في الستين من عمره، وحسن بن الوليد بن نصر وابن الدباغ الأزدي، وغيرهم. وغيرهم. . .

خطط قرطبة

تقع قرطبة على الشاطئ الغربي من نهر الوادي الكبير، وبينها وبين البحر خمسة أيام، وذكر ياقوت الحموي في معجمه أنها كانت (أعظم مدينة في الأندلس، وليس لها في المغرب شبيه في كثرة الأهل وسعة الرقعة، ويقال إنها كأحد جانبي بغداد، وان لم تكن كذلك فهي قريبة منها، وهي حصينة بسور من حجارة، ولها بابان مشرعان في نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة - والرصافة مساكن أعالي البلد متصلة بأسفله من ربضها وأبنيتها، مشتبكة محيطة من شرقيها وشماليها وغربيها وجنوبيها، فهو إلى واديها، وعليه الرصيف المعروف بالأسواق والبيوع ومساكن العامة يربضها. . .)

وكان طول قرطبة أربعة وعشرين ميلاً، وعرضها ستة أميال (وكان عدد اربضها 21ربضاً، في كل ربض من المساجد والأسواق ما يقوم بأهله، ولا يحتاجون إلى غيره، وكان بخارج قرطبة ثلاث آلاف قرية في كل واحدة منها منبر وفقيه.)

وكان فيها (200000) بيت و (600) مسجد و (50) مستشفى و (900) حمام سوقي،

ص: 20

فضلاً عن الثمانين مدرسة التي ذكرنا، وكان فيها قنطرة طولها 800 ذراع وارتفاعها 60 ذراعاً وعرضها 20 ذراعاً، وفيها ثماني عشرة حنية، وتسعة عشر برجاً.

وقد تنافس الخلفاء والأمويون في تعمير هذه المدينة وتزينها وتجميلها، فبنى عبد الرحمن الداخل (القصر الكبير) وجعله مقراً له، وشيد المنصور بن أبي عامر قصر الزهراء سنة 360 على نهر الوادي الكبير، وأنتقل إليه سنة (370هـ) وبنى باقي الملوك والوزراء والعظماء قصوراً كثيرة نذكر منها (الحائر)، الروضة، المعشوق، المبارك، التاج، السرور الخ. .

ولكن أعظم بنايات قرطبة، بل الأندلس كلها، المسجد الجامع، الذي شيده عبد الرحمن الداخل، وكان في الأصل كنيسة فأعجبه موقعها فأخذها من النصارى مقابل أموال وأراض كثيرة.

جامع قرطبة

والواقع أن هذا المسجد آية من آيات الفن العربي، ودليل قاطع على علو كعب العرب في النقش والبناء، وبرهان ساطع على سمو الذوق العربي، والمقدرة الفنية العربية. ولم يكن يضاهيه من المساجد والقصور في ذلك العصر سوى الجامع الأموي بدمشق، وليس من السهل وصف عظمة جامع قرطبة وتصويره للقارئ وصفاً وتصويراً صادقين، بل ليس من السهل على القارئ أن يدرك عظمته إذا ما نظر إلى عدة صور فوتوغرافية عنه، ومع ذلك فنحن باذلون جهدنا في أن نعطيك فكرة عامة عنه:

فطول المسجد 600 قدم وعرضه 250 قدماً وارتفاعه 20 متراً، وفي عرضه الأيمن 38 صحناً، والأيسر 29 صحناً، وفيه 1293 عموداً من الرخام، تيجانها منقوشة بمختلف النقوش الرائعة. (وفيه من جهة الجنوب 19 باباً مبطنة بصفائح من النحاس المتوج (نحاس المدافع)، وأوسطها مرصع بصفائح من الذهب، وبأعلاه ثلاث كرات ذهبية فوقها رمانة من العسجد)

أما الباب العمومي - وهو باب المنارة - فهو من النحاس أيضاً، عرضه 8 م وارتفاعه 20 م، وفي الزاوية القبلية من لمسجد تقوم منارته العظيمة، وهي مربعة الشكل، وطول كل ضلع منها 12 م وارتفاعها 13 م، وتتحلى بتفاحات فضية وذهبية، محيط كل منها نصف

ص: 21

متر أو أكثر بقليل. ويقول صاحب (رحلة في الأندلس): أنها خمس طبقات في كل طبقة عدد كبير من الأجراس.

وكانت قبة المسجد مشيدة على 365 عموداً من المرمر، والمحراب والمقصورة من أجمل ما في المسجد، ففي تلك المقصورة كان الخلفاء يصلون (وهي بناء مرتفع مربع مزين بنقوش جصية بديعة جداً، وعليها كتابات قرآنية وأحاديث نبوية) وأما المحراب ففسيح واسع، ويتكون سقفه من قطعة رخامية واحدة وفيه كتابات كوفية قرآنية، وكان فيه المصحف العثماني الشريف، وقد نقله عبد المؤمن بن علي إلى مراكش عند استيلاء الموحدين على الأندلس سنة 552 هـ.

وفي المسجد (4700) قنديل من الذهب الإبريز، واحد منها في المحراب، وكان يصرف عليها سنويا (24000) رطل زيتاً و (120) رطلاً من العنبر والعود القاقلي. . .

قال الأستاذ سديو: (وكانت هذه المدينة تصبح مضيئة، وحاراتها مطيبة، بما يلقى فيها من الزهور، مع استعمال الألحان المطربة في المتنزهات والميادين العامة. .)

هذا بعض من كل، وقليل من كثير، عن حالة قرطبة في تلك العصور التي بلغت العظمة العربية فيها الحد الأقصى من الرفعة والسمو، والتي خلد فيها أبطال العرب أسماءهم في أنصع صفحات التاريخ، ورفعوا أمتهم إلى المكانة اللائقة بها.

البصرة

عبد الكريم وعبد الصمد الناصري

ص: 22

‌شلفون بعد نصف عام!.

. .

بقلم منير الجم الطرابلسي

رحم الله هذا الموسيقي الراحل، فقد عاش طريداً شريداً، غريباً في وطنه، منبوذاً من أهله ومن الناس، ومازال مع الخطوب في صراع حتى فجئته كارثة دهماء أجهزت على حياته المنكودة، فكان ضحية غالية على مذبح الفن لم يدر أحد من أمرها شيئاً!

عاش في دنياه مجهولاً، وجاهد في سبيل الفن مغبوناً، ولقي حتفه باليأس والبؤس، ثم لجأ إلى بارئه يشكو مكر الإنسان، وختل

الصديق، وجور الدهر!

وقعت الواقعة، ونزلت النازلة، وأنهار صرح (كوكب الشرق) في بيروت، فكانت نكبة نكباء، وجبت لهولها الأفئدة، وهلعت القلوب، والناس حول الضحايا في مأتم يبكون، هذا يرثي لأباه، وذاك يبكي أخاه، وآخر يذرف الدمع على صديقه مدراراً. إلا

هذه الضحية المجللة بروعة الفن، كانت في عزلة عن اهتمام الجمع، فأنهم جهلوها أو تجاهلوها، ونسوا ماضيها وحاضرها، وما أسرع الناس في نسيان الماضي، وجحد الفضل، ونكران الجميل!

ولكن لم تخل الأرض من أخبار بررة قاموا بواجب التأبين في محفل الوليد، وشاركتهم بعض صحف حرة في نشر الترجمة، وتعديد المناقب والمزايا، فكانت تعزية للراحل الكريم في الأولى والآخرة؛ ثم أسدل الستار على ذكراه، فلم يفطن إليه محفل أو ناد، حتى ولا تلاميذه، وما ذلك إلا لأنه كان بائساً معدماً، أبي النفس، عالي الهمة، كارهاً للشهرة والظهور، شانه في ذلك شأن عظماء الفن، يصهرون نفوسهم الزكية في مثلهم العليا، ثم يتلاشون في سكون وهدوء!

كان موسيقياً نابغاً فياض العواطف والشعور، وكان أديباً كبيراً مملوء بنفس سامية تأبى أن تذل، جاهد في مصر زمناً ينشر علينا من أريج (روضة بلابله) الغناء ما يسر النفس، وينعش القلب، حيث المبتكر الساحر، والجديد السائغ في الموسيقى والأدب؛ ثم ناهضه الحساد فرحل إلى دمشق عله يخفف اللوعة فيها والأسى، فكان نصيبه الصد والفشل والإخفاق! فلما ضاقت الأرض عليه بما رحبت سعى إلى عاصمة لبنان، وكأنه كان على

ص: 23

موعد من منيته، فداهمته أشنع ميتة يموتها إنسان، فلا حول ولا قوة إلا بالله!

مات ولما يتمم جهاده الشريف، ولم يجن ثمار أدبه وفنه، وأبى حظه العاثر أن يكون موفقاً في حبه وإخلاصه، بل في حياته ومماته، فقد كان يعلم ذلك كل العلم، ويتأكده كل التأكيد، فألف قطعته الخالدة (الألم) رمزاً لذاته، وشعاراً لبؤسه، وعزفها على مسمعنا يوم كنا لديه في عاصمة الأمويين، فسحرنا بأنغامها الشجية، وغمرنا في ذهول من الحزن عميق، نرثي لحاله ونتألم، ولا غرو فحياته سلسلة آلام مبرحة، ختمت بفاجعة مروعة، قضت على آماله الجسام، وذهبت بنبوغه الرائع.

أما ورثاء نوابغ الفن علينا واجب، وذكر الفقيد البائس أوجب، فقد أديته قسطي على قدر المستطاع، كما أرجو أن يذكره كل مخلص غيور، ففي ذمة الله والتاريخ فقيدنا الكريم، وفناننا المجهول!

حماه

منير الجم الطرابلسي

ص: 24

‌العامل الاقتصادي في الأدب

للآنسة فكرية زكي دبلوم في التربية والآداب

أريد أن أعالج موضوع الأدب من الوجهة الاقتصادية، لأن كثيراً من الأدباء يمنعهم الحياء من التبسيط في شرح ذلك، مع أن هذا الموضوع جدير بالبحث والنظر، لأن هناك صلة تصل المؤلف بالقراء، فالمؤلف لا يكتب إلا لقرائه، سواء في الجيل الحاضر أو في الأجيال الآتية، ولم يخلق بعد المؤلف الذي يكتب لنفسه. وإذا رجعنا بالبصر قليلاً وجدنا أن كثيراً من أمهات الكتب القديمة التي ننعم بها لم يكتبها مؤلفوها إلا تحت رعاية عظيم أو تشجيع كبير، مما لا نتبسط في شرحه وبيانه، غير أن هذه الكتب لم تكن فتحاً في الأدب.

فالأدب الصحيح الذي يصور الحياة في صورها الصادقة لا يولد في كنف عظيم أو رعاية كبير، لأنه إذ ذاك لا يصدر عن نفس حرة طليقة من قيود المادة، لذلك لم تولد أمهات الكتب في الأدب الحديث إلا مع وجود القراء، وإذا أردت دليلاً على ذلك فإن لويس الرابع عشر أغدق المال على رجال العلوم والفنون إغداقاً ليس له نظير ولا ضريب، ثم لم ينبغ في عصره كاتب ولا فنان، لأن يد الإحسان كانت تعقل أفواههم، فلا يقولون إلا ما يرضيه، ولا يعملون إلا ما يحسن لديه ويجمل في ناظريه، ولم أجد كاتباً فصل ذلك في وضوح وجلاء إلا (بكل) كتابه الممتع تاريخ الحضارة في إنجلترا.

والكاتب مهما قنع بالقليل يجب أن يعيش قبل كل شيء، فإذا كانت رعاية الكبراء تحول دون الإنتاج البكر في الأدب، بله عدمها

الآن، فليس هناك وسيلة للأدب والأديب غير القراء. ولذلك نتساءل: هل يوجد الآن بيننا جيل القراء الذين يقبلون على قراءة

الكتب القيمة فيساهموا في أحياء الأدب؟. أم نحن نعيش في عصر لم يخلق فيه القراء بعد؟ ولا يمكننا أن نعلل ذلك بفقر القراء، أو غلاء الكتب، لأن ثمن أكبر كتاب لأشهر مؤلف لا يتجاوز ثمن تذكرة من تذاكر دور السينما.

وإذا قال مكابر بأننا تعيش في ذلك العصر فأننا نطالبه بالدليل على ذلك، أين هي الكتب التي طبعت مراراً؟ لا أعلم كتاباً طبع للمرة العاشرة، بله الثالثة أو الرابعة، وتكرار الطبع دليل على رواج الكتب وانتشار الأدب. إذن ففي أي عصر نعيش؟ أنعيش في ذلك العصر

ص: 25

الذي باع فيه ملتون روايته الخالدة (الفردوس المفقود) بعشرة جنيهات؟ أم في العصر الذي كان يعيش فيه جنسون موحد اللغة الإنجليزية فلا يجد قوت يومه؟ أستغفر الله بل نحن نعيش في عصر الانتقال، في عصر تتكون فيه أجيال القراء، (فالرسالة) تطالعك كل أسبوع، والجرائد اليومية تطالعك كل صباح، وهي تؤدي عملاً نافعاً لا يفطن إليه كثير منا، فهي تخلق جيل القراء المقبل الذي سيساهم في رواج الأدب، ومتى وجد هذا الجيل فلا شك في تطور الأدب تطوراً آخر غير ما نراه الآن.

وإني أرى بعين المستقبل أديباً كبيراً يقول لنا كما قال ماكولي عن أدباء عصره: (إنهم ينعمون بالثراء ومباهج الحياة، بينما أشباههم ونظراؤهم من سبعين عاماً كانوا يتضورون جوعاً.) غير أني أدعو الله أن تكون هذه الفترة في تاريخ أدبنا أقل من سبعين سنة، فأنها وإن كانت قليلة في أعمار الأمم طويلة في حياة الأفراد.

فكرية زكي

ص: 26

‌إبراهيم بك مرزوق وشعره

بقلم صلاح الدين الوداعي

قرأت في العدد السابع والخمسين من الرسالة ما كتبه الأستاذ محمود خيرت عن الشاعر المصري إبراهيم بك مرزوق تعقيباً

على كلمة المغفور له أحمد باشا تيمور التي لم يلم فيها بنواحي حياته الأدبية إلماماً وافياً، فوجدته في مستهل كلمته يقول انه كان يود لو أن بين يديه ديوان هذا الشاعر ليسد الفراغ الذي تركه تيمور باشا، ويسرني أن أحمل هذا الواجب الأدبي عنه، فقد أتيح لي أن أقرأ نسخة مخطوطة من هذا الديوان، سأنقل هنا شيئاً منها يعطينا صورة لحياة هذا الشاعر ومقدرته الأدبية.

أسلوبه في الشعر:

أما غزله فهو من الملاحة بمكان، قال رحمه الله:

أشجتكَ شمس ملاحةٍ

في غيهب الليل استنارتْ

أم بدر حسنٍ طالع

من حسنه الأقمار غارت

نَظرت له عين المها

فتعجبتْ منها وحارت

مَن منصفي من أعين

في حكمها في القلب جارت

يا جنة نيرانها

في قلب عاشقها استعارت

ما ضرها لما نأت

لو أنها زارت

يا شمس حسن بالحجا

ب السندسي عني توارت

غصن القوام عليه ك

ل قلوب أهل العشق طارت

ودوائر الأحزان من

أطواقها بالصب دارت

وركائب الأشواق بال

قلب الأسير إليك سارت

وقال أيضاً من قصيدة:

ما احتيالي قد صير الصد عاده

ليته حين أسقم الصب عاده

ما احتيالي وكل من هام وجداً

سلب الحب لبه ورشاده

بين كأس الهوى وكأس الحميا

قدرٌ غالبٌ له وإراده

ص: 27

فهو في حالتيه حيران ألقى

بيد الذل والهوان قياده

ومن قصائده أيضاً هذه الخمرية البديعة:

هيا اسقياني ثلاثاً واشربا قدحاً

يا ساقيّ فزند اللهو قد قدحا

وأحييا دولة القصف التي دثرت

وخليا الزهد للوعاظ والنصحا

وبادرا فرص اللذات واجتنبا

من لام في رشف كاسات الطلا ولحا

فقد خلعت عذارى غير معتذر

ورحت أرفل في برد الصبا مرحا

وقلت للرشد مالي فيك من أرب

فارحل وقمت بثوب الغيّ متّشحا

وفيها يقول بالتورية:

فعاطياني وعين النجم شاهدة

شمساً يقصّر عن أوصافها الفصحا

لو أن عائبها قد ذاق لذتها

ما كان عاب لها كأساً ولا (قدحًا)

وعلى ذكر التورية هنا أقول إنه كان ولوعاً بها مجيداً لها، فمن ذلك قوله في الرثاء:

يا راحلاً فيه ذقنا

ما كانا منه احترزنا

كم قد حوينا هموما

لما رحلت (وحزنا)

ومن محاسن اقتباساته قوله:

ومليح له سلاسل شعر

وقلوب الورى بهن أسارى

كلما جال طرفه ترك النا

س سكارى وما هُم بسكارى

وقوله أيضاً:

قد كنت سليماً لا تدري

ماَ حلو الوصل من الهجر

فأطعت النفس وشهوتها=إن الإنسان لفي خسر

وللشاعر في التخميس والتشطير مقدرة عظمى تشهد له بالتمكن في النظم مع سمو الخيال، واتساق المعنى، وقد نظم في ذلك مقطوعات كثيرة لفحول الشعراء فخمس أغلب القصائد والمقاطيع المتداولة على ألسنة أهل الأدب للمتنبي، والكمال ابن النبيه، وتقي الدين السروجي، والمعري وغيرهم، وكلها في غاية الطرافة والحكمة، ولولا طولها وكثرتها لأوردت هنا طرفً منها لإثبات كفاية هذا الشاعر النادر، وأنا لذلك أكتفي بذكر تشطيره للبيتين المنسوبين إلى إبليس - على سبيل المثال - قال:

ص: 28

(وحمراء قبل المزج صفراء بعده)

كوجنة خود راعها لثم سارق

إذا صبّها في عسجدي مخضب

(بدت بين ثوبي نرجس وشقائق)

(حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا)

على نهبها الألحاظ من كل وامق

وصاغ حباب الماء في حال صبه

(عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق)

وعلى قلة الوصف والتشبيه في شعره بلغ حد الإجادة والإبداع، فمن ذلك وصفه لمنشية النزهة بإسكندرية:

بإسكندرية للصفا منشية

غراء واضحة البها غناء

سطعت شموس الحسن في أرجائها

وبدوره فلها سنىً وسناء

حيث ألتفتّ رأيت أبهى روضة

(سال النظار بها وقام الماء)

وقال في (فسقية) يتصاعد منها الماء

لله بل للحسن ماءٌ أحكمت

فسقية تصعيده فتقطَّرا

فجرى لجيناً أو مذاب الدر أو

سيّار بّللور سما فتقنطرا

ومن قصائده في الفخر والحماسة هذه القصيدة:

قامت تساجلني العلا جدودي

حتى تحقق فيّ رأي جدودي

واستنجدت فينا شمائل ماجد

واستنجزت شيم الوفاء عهودي

وتغبّ في ذم الخمود مليحة

لتشب ناري غير وشك خمود

وبمسمع مني تقول لمن دنت

منها أهذي حالة المجدود

أيُردّ عما يبتغيه وعزمُه

ماض وطالعه بسعد سعود

أولم يكن من لم تغر طلابه

يوماً عليه لفضله والجود

أو ليس من بهر الكواكب رفعةً

بعلوّ صائب رأيه المعهود - الخ

وفي الديوان غير ذلك من المدائح والتهاني والمراثي والتعازي وباقي الفنون الأدبية من القصائد الشيء الكثير، وكلها مليئة بالمحاسن والغرر - ولا سبيل إلى استقصائها هنا لكثرتها وتشعب أغراضها.

أسلوبه في النثر

وقد عثرت للشاعر على هذه الرسالة الفريدة، المسماة (برحلة الكرامة) التي كتبها إلى سعادة

ص: 29

خيري باشا مهردار، واقتصرت

على بعض فقرات منها خشية الإطالة، وهي التي ضمنت وصف رحلته إلى الخرطوم، قال رحمه الله:

(أهدى إلى نسيم الصبا، الحاملة لرياض الربا، ووفود النسيم، المتحملة بالتكريم والتعظيم، ورسل الأصائل، المتضوعة بنشر الخمائل، وما يزري بنور الرياض، وتغازل المقل المراض، أرق من الدموع، في الربوع، وألعب من الراح، بالعقول والأرواح، وأشهى من الأمان، في الزمان، ووفاء الأخوان، وألذ من عناق أهل الاشتياق، بعد الفراق، وأعذب من الرحيق، على الريق، وأحلى من الإقبال، ببلوغ الآمال، وأحب من الأتحاف، بالأسعاف، وأهنأ من الورود، على حياض الوعود، وأشفى من الوصال، وأوفى من طيف الخيال. . . ولكني حيث تنقلت في البلاد، وهمت في كل واد، من أقطار السودان، القاصي منها والدان، واعتسفت طرقها، وشسوعة أسواقها، حيثما ذكره الأستاذ في الوقائع، وجنيته من ثمرها اليانع، التزمت أن أذكر بوجه الاختصار، ما يتذكر به ألو الأبصار، وعسى أن تنفق عنده بضاعتي المزجاة، وأفوز ببركة دعائه بطريق النجاة، فأقول معتمداً على الله، وما توفيقي إلا بالله. . . (قد اقتعدنا غوارب الأقتاد، وجبنا الصخور والأوتاد مسئدين في المهامة والقفار، مستندين إلى أعواد الأكوار، مصطحبين ما يفت في عضد الإصطبار، ويقلب قلب القرار على النار، إلى أن وصلنا إلى بندر الخرطوم، فكانت المحفوفة بالقذى، المحروسة بالأذى، لأنها القرية الظالم أهلها، المستحيل مثلها، بسبب هوائها الوخيم، ووبائها المستديم، فكنت تراها أقذر من بيت الدجاج، وأهون من تبالة على الحجاج، لما بها من الحشرات، المجهولة الأسماء والصفات، التي ليس منها خلاص، ولا للجروح قصاص، لتواردها من الست الجهات، إلى شن الغارات، ويكاد المقيم بها وقت القيظ، يتميز من الغيظ، ويستغيث بالسعير، في أوقات الزمهرير، فهي بين رياح متخالفة، وزعازع متوالفة، وظلل من الضباب، كأول يوم الحساب.)

بلاد لاسمين من رعاها

ولا حسن بأهليها اليسار

إذا لبس الدروع ليوم بؤس

فأحسن ما لبست لها الفرار

قلت مما اتفق لي نظمه في بلاد السودان وأهلها من جملة أبيات هذا البيت:

ص: 30

قوم تخيلتهم جاناً لرؤيتهم

وقلت أن خديوينا سليمان

فلو مكثت غير بعيد، واجتلبت خيل المعتصم والوليد، واستعديت بذي القرنين، واستنجدت من وراء الصدفين. ونشرت أبا مسلم الخراساني، وخرجت في رايات السفياني، وبعثت بالرياح السوافي، ورميت بثالثة الأثافي، ورصدت الكواكب، وميزت بين المغلوب والغالب، وزحفت في جنود صفين، وقاتلت إلى يوم الدين، لما كنت ظفرت على حشراتها بالفتوح، ولو عمرت عمر نوح، فأنا كنا في مصادمة الأمطار، ومزاحمة الأقدار. . . . .)

وبعد، فهذه صورة من أسلوب الشاعر المجيد إبراهيم بك مرزوق المصري في الشعر والنثر، أعرضها على قراء الرسالة علها تجد من أدبائنا من يولي أمثال هذا الشاعر المجيد، ما يستحق من ذكر وتخليد

القاهرة

صلاح الدين الوداعي

ص: 31

‌الحركة الفكرية لشباب العرب

خبا بريق الثقافة العربية بعد أن بلغت أوجها في القرون الوسطى عقب غارة التتار على البلاد العربية.

وقد قال جوستاف لوبون: (إن الكلام على الشعب العربي وتاريخه وتألقه وعظمة مدنيته لهو كلام عن شعب كان أكثر من أضاف إلى ميراث المدنية وزاد في ثروة الإنسانية العامة

والمدنية العربية آخر هدية قدمها الشرق إلى الغرب وأكبر مدنيات الشرق أهمية، لأنها نتاج كثير منها، وقد تركت في محيط العلم آثاراً لا تمحى)

حتى إذاكان القرن الثامن عشر وهو عهد تقسيم الإمبراطورية العربية التي طبقت كل البلاد العربية وآسيا الصغرى والعجم والهندستان ومصر وشمال أفريقية وكل أسبانيا تقريباً، عانت الثقافة العربية عهداً طويلاً من الجمود بله القهقري.

فقد غلت سيادة الأجانب ملكات الذكاء التي أوتيها العرب، وقتلت حبهم الشديد للمعرفة، وأضعفت قوتهم المبدعة، حتى إذا كان عام 1906 قامت نخبة تسعى إلى إحياء الفكرة العربية وتجديد ثقافتها القديمة. فكانت هذه الحركة الذهنية، هي على أشد ما تكون من المضاء في سوريا، القبس الأول الذي سطع منه عهد الإحياء العربي الجديد، مما كان له دوي في باقي البلاد العربية وصدى عميق في نفوس الشعب الراسف في الجهالة والجمود.

ولقد واجهت هذه اليقظة الذهنية الحركة السياسية التي يقوم بها فتيان الأتراك من أجل (تتريك) كل العناصر غير التركية في إمبراطوريتهم، فكان من أثر هذه السياسة انبثاق وطنية الشبيبة العربية، وبذلك نشأت وطنيتان متعارضتان: العربية والتركية، يقود كلاً منهما شباب الشعبين المثقفون، فنجم عن هذا التعارض بينهما حركة عنيفة أدت إلى تكوين جمعيات تطالب ببعض الحقوق والإصلاح وعلى رأسها شباب الضباط والطلبة الذين تلقوا علومهم في القسطنطينية مما جعل الجامعات مركزاً لوحدة الشباب وألفته.

وصارت وعود الإصلاح التي وعدها الترك لتحسين حال العرب ومن بينها إدخال اللغة العربية في مدارس الأقاليم هباء، فلم يتورع الأتراك عن استعمال كل وسيلة للضغط ومقاومة هذه الكتلة العربية المفكرة مما ألجأ معظمها إلى النزوح إلى مصر التي غدت مثابة للثقافة العربية.

ولقد كان من جراء هذا الخطر الأجنبي توثيق عرى الاتحاد بين شباب العرب الذين

ص: 32

استشهد منهم طائفة كبيرة على مشانق الأتراك في سبيل المسألة العربية ومثلهم الأعلى

ولم يكن لدى هذه الشبيبة إلى حين قيام الحرب العالمية إلا بعض المدارس الحكومية تلقن العلوم باللغة التركية وغير المدارس الأولية الخاصة لتتلقى فيها لغتها وآدابها. وأما العلوم العالية فلم يكن هناك سبيل إليها إلا القسطنطينية أو أوربا أو الأزهر

ولما كانت الدراسة العالية غير ميسورة إذن إلا للموسرين، والحكومة التركية لا تكترث لمصير الشباب العربي أضطر هؤلاء بمواردهم الخاصة إلى الخروج من هوة الجهل التي ألقوا فيها عمداً حتى يسلس قيادهم ويسهل إخضاعهم، إذ كانت سياسة الأتراك نحو العرب تركهم ضلالاً في ظلام الجهل

وفي خلال سني الحرب العصيبة قاد الشباب العربي حركة العصيان ضد المستعمر وانحازوا إلى الحلفاء الذين وعدوهم باستقلال البلاد بعد النصر، فهجر شباب الضباط والطلبة كلياتهم واستبدلوا بأقلامهم وكتبهم البنادق لإنقاذ ثقافتهم ونصرة حقهم بالمهج والدماء

ولشد ما كانت دهشة العرب بعد الحرب! أملوا من الحلفاء استقلال بلادهم بالوعود المأخوذة فإذا بهم يقسمونها إلى سوريا وفلسطين والعراق، لتكون تحت انتداب إنجلترا وفرنسا، دون أن يكون لرغبات العرب ومصالحهم حساب، وإذا بالعرب يقاسون بعد الحرب كما قاسوا قبلها عنت الحكم الأجنبي وظلمه، وكان لهذا التقسيم السياسي أوخم العواقب في تكوين العقلية العربية للجيل العربي بعد الحرب، فإن الطرق التعليمية المختلطة التي تمارس في هذه البلاد ترمي إلى تطورات متنافرة وعقليات متعارضة لتكسر من حدة الثقافة العربية والوحدة الوطنية مما عانت منه البلاد كثيراً ولاسيما سوريا

ثم كان من توزيع التعليم بين مدارس الحكومة الرسمية والمدارس الأجنبية الخاصة، كمدارس الفرير، والفرنسيسكان والجزويت، والاتحاد الإسرائيلي، والمدارس الأمريكية، وجميعها لا تخضع لأية رقابة، ومن تباين الطرق التعليمية المختلفة فيها، والتنافس القوي الأعمى بينها، شر النتائج مما لم يكن يقع غبنه وغرمه إلا على الشباب العربي وحده، فأفسدت الاتجاهات المختلفة والأهواء المتباينة والمؤثرات المتعددة روح الشباب، وباعدت بين بعضهم وبعض فأصبحوا كأنهم غرباء لا يجمع بينهم تفاهم ولا تناسق، فتردوا بذلك في عذاب أدبي مروع، وفوضى فكرية فظيعة، وجهلوا أو لم يعرفوا إلا لماماً أدبهم الوطني

ص: 33

وتاريخ أسلافهم الباهر

وإن الشبيبة التي لا تتغذى ثقافتها الوطنية بالإعجاب بالماضي والزهو بالأسلاف، لا يمكن أن تتعاون وتعمل في سبيل رفعة الوطن فلقد لاحظنا أن طلبة مدارس الإرساليات مثلاً وجلهم من المسيحيين قد خلوا تماماً من الوطنية وحل مكانها التعصب الديني، وهذه حالة نفسية تساعدهم على قبول الاستعمار الأجنبي وتباعد بينهم وبين إخوانهم المسلمين.

على أن من الحوادث السعيدة والجديرة بالذكر أن نخبة من مفكري المسيحيين قد ألقوا منذ سنين نير الرق الأدبي، وبرئوا من الريبة التي خامرت النفوس ومدوا يد المودة إلى إخوانهم المسلمين.

أما تنظيم المدارس الحكومية فقد تم وفقاً للنظام الإنجليزي في فلسطين والعراق، والنظام الفرنسي في سوريا، دون أن يتفق مع حاجات البلاد.

وقد أنشأت هذه الحالة مسألة غاية في الدقة والخطورة، وهي مسألة توحيد التعليم القائم على الثقافة الوطنية، وتحقيق هذه السياسة التعليمية هو الوسيلة الوحيدة السريعة لإنضاج ذكاء الشباب العربي وتحقيق الوحدة مهما كان وسطها أو دينها. فتوحيد التعليم ينتج وحدة الفهم والتفكير والإرادة، وهي العوامل الثلاثة الأساسية اللازمة لتخلق في الشباب قوة التعاون على توحيد الجهود وإنهاض البلاد مادياً وأدبياً.

ولقد اشتدت الضرورة إلى وحدة التعليم بازدياد عدد الشباب المتعطش للدراسة، فإن عدد المقبلين على التعليم ازداد عقب الحرب كثيراً من الذكور والإناث على السواء. ومع ذلك فإن المدارس الرسمية أضيق من أن تسع الطلاب، مع أنه ليس للبلاد العربية مصروفات حربية، وميزانيتها تسمح بفتح مدارس جديدة وعلى الأخص في القرى كما تسمح بتحسين المدارس الحالية على وجه السرعة، وفي نظرنا أن هذا الواجب هو من أول الواجبات الملقاة على عاتق الحلفاء. فلماذا أهمل؟

ومن جهة أخرى، فإن المتعلمين يعانون الآن أزمة شديدة في جميع البلاد العربية لما يصادفونها من العقبات في المهن الحرة، إذ لا يجدون بعد سنين طويلة من الدراسة الطويلة الشاقة في أوربا أو في الوطن ما يحتاجونه من عوامل الكمال بعد أن سدت في وجوههم كل طرق الحياة أو ألقيت فيها العراقيل، دون أن تفكر أية حكومة في معونتهم وتمهيد

ص: 34

الطريق لإنماء معارفهم وجني ثمار عملهم، بل أنهم أبعدوا عمداً عن وظائف الدولة وجميع الأعمال المتصلة بها تقريباً إذ يشغلها طبعاً رجال الانتداب، فرنسيون وإنجليز، وكل ذنبهم أنهم تنكروا لنظام الانتداب ففرت منهم معظم وظائف الإدارة في بلادهم، وحرموا من مورد عدل مشروع.

وهاكم مثلاً لتوضيح ما تقدم: إن بمجلس النواب كثيرين أميين، على حين أن البلاد تزخر بالمتعلمين الذين لا يبغون إلا أن يخدموا بلادهم بمعارفهم، وتفسير هذا الأمر أن حكومة الانتداب ترغب في توطيد مركزها بسهولة.

أما الوظائف القليلة التي شغلوها بعد لأي فلا تتناسب مع مستوى تعليمهم، والحاجة هي التي أرغمتهم على قبول وظائف أبعدتهم تماماً عما تخصصوا له، ولطالما خضعوا لرؤساء من رجال الانتداب لا يحملون أية درجة جامعية

وكذلك كانوا في ميادين الحياة الأخرى، تميز الأجانب عليهم وارتفعوا على أكتافهم بفضل سلطات الاحتلال

ولا ينبغي أن ننسى أن بالبلاد العربية أراضي شاسعة ما تزال بكراً كان يمكن أن تقوم بها مشروعات زراعية وصناعية فتشغل كل هذه الطبقة العاطلة

ولقد كان لهذه الأزمة الفكرية أثر نفسي سيئ في الشباب فألقوا نفوسهم دون وعي في أكثر الدراسات قدرة على تأمين مكسب متواضع سريع مما أدى إلى وقف النضوج الذهني وقتل الطموح

وأحس الجميع بهذه الأدوار المادية والفوضى الذهنية المنتشرة فإذا أضفنا إلى هذه الحالة المعنوية ما يعانيه الشباب من الإذلال والامتهان المستمرين فهمنا بجلاء سبب جنوحه عن غرضه الأصلي بالنسبة له ولبلاده واندفاعه بحرارة وحماسة نحو السياسة لكفاح الاستعمار الأجنبي الذي سبب كل هذه الأدواء، وهو لم يكن قد أدرك إلا بعد سنين طويلة أن حاله تزداد سوءاً، وأن بلاده تشرف على الهلاك، وأن الضرر لابد أن يقتلع من أساسه لكنه إزاء الصعوبات الحاضرة والانقلابات الاجتماعية المتوالية ظل مغلولاً محروماً من كل وسائل الكفاح فالحاضر يفلت منه إذ لا يعاونه نظام البلاد الاقتصادي والسياسي، والمستقبل لا يمثل له إلا نذيراً من الإبهام والقلق المخيف

ص: 35

ولطالما شل المستعمرون المتعاقبون على البلاد الحركة الفكرية فيها فقاست منهم الأمرين

واليوم قد نهضت هذه الحركة برغم كل القيود، وأحس الشباب الذي يقاسي شر هذه الأدواء هذه الحاجة وترسم ذلك المثل، فهبت ريح من الوطنية الحارة تقوض كل الحواجز الزائفة التي وضعتها القوى الأجنبية، وتدعم أواصر هذا الشباب الذي وحد بينه التاريخ والعادات واللغة

وإن هذه الوطنية لتتغلغل اليوم بقوة في الطبقات الدنيا من هذا الشعب الذي قوته ذكريات ضحايا الحكم التركي ونظام الانتداب ودفعته لإنقاذ ثقافته وحريته

وقد بدت في هذه الأيام نفسية عجيبة في روح هذا الشعب، هي التعطش لتعليم الأبناء حتى يصبحوا قادرين على نيل الاستقلال وتتجه الحركة الفكرية بالشباب العربي نحو إحياء مجد أورشليم وبغداد القديم من الوجهة الذهنية والسياسية، وستستعين في ثقافتها بكل العوامل الضرورية لارتقائها روحياً وسياسياً.

(آسيا الفتاة)

أ. الجابري

ص: 36

‌فصول مدرسية في الأدب الدرامي

الرواية المسرحية في التاريخ والفن

بقلم أحمد حسن الزيات

صفات العمل

من صفات العمل الأساسية الوحدة، والسرعة، وتوجيه الأثر إلى الذهن

فوحدة العمل هي اتحاد الأجزاء المختلفة التي يتركب منها العمل الروائي على إيجاد حادث واحد أو منعه. ولا يتحقق ذلك إلا بحصر الاهتمام كله في بطل الرواية، وجعل هذا البطل في خطر واحد لا يختلف من ابتداء التمثيل إلى انتهائه. لأن الخطر إذا زال انتهى العمل، والبطل إذا وقع في خطر غير الأول ابتدأ بوقوعه في عمل آخر. على أن العمل قد يكون مركباً متشعباً تملؤه التغيرات وتعوقه المفاجآت ولا يؤثر شيء من ذلك في وحدته. إذ يكفي أن تكون هذه التفصيلات وتلك الاعتراضات مسوقة إلى غرض واحد، موصلة إلى نتيجة واحدة. وقد يتسامحون أحياناً في تطبيق شرط الوحدة، فيكتفون في تحققه بأن يتحد الخلق الفعال في الرواية، فيجيزون أن تتنوع المواقف وتتعدد الحوادث ما دامت تدور كلها حول خلق واحد تحلله وتفصله

الوحدات الثلاث

ولقد كان القدماء من أشياع المذهب الأتباعي في فرنسا أثناء القرن السبع عشر يشترطون في العمل غير هذه الوحدةوحدتين أخريين: هما وحدة المكان، ووحدة الزمان، ويسمون ذلك قانون الوحدات الثلاث، وظلوا يطبقونه في غير لين ولا هوادة حتى ظهر المذهب الأبتداعي في صدر القرن التاسع عشر فهاجم هذا القانون فيما هاجم من قوانين القدماء. وكان من أثر هذا النضال العنيف بين أنصار المذهبين أن تجوز الأدباء في تطبيقه، وأغضوا النظر قليلا عن تحقيقه، فذهب ما يشينه من تكلف وتعسف، وبقي ما يزينه من دقة وتحديد. فماذا كانوا يريدون بوحدتي المكان والزمان؟ كانوا يريدون بوحدة المكان أن يفرض وقوع العمل كله في مكان واحد لا يتعداه، فإذا وقع في مدينة أو معسكر أو طابق بيت ظل ذلك المنظر واحداً في كل فصل من فصول الرواية من بدأ التمثيل وختامه. وإن

ص: 37

اقتضى الحال أن يعمل أحد الأشخاص عملاً يحتاج إلى نقلة أو رحلة عمله خارج المسرح ثم نبأ به المشاهدين في وقته المناسب. وكانوا يريدون بوحدة الزمان ألا يستغرق العمل الروائي أكثر من أربعة وعشرين أو ست وثلاثين ساعة. وكان أرسططاليس يحتم ألا يتجاوز هذا الزمن دورة الشمس. وعلتهم في اشتراط هذه الوحدات الثلاث مجاراة السلف من الإغريق في سلوك هذه الطريقة، والمحافظة على الإمكانية بمقاربة الحقيقة؛ فإن الذوق السليم يقتضي أن ما يمثل في ثلاث ساعات أو أربع يكون قد حدث حقيقة أو فرضا في زمن يسير ومكان واحد. ولكن المحدثين يقولون لماذا تستطيع المخيلة أن تتصور الحادث لذي أتت عليه القرون حاضراً، ولا تستطيع أن تتعقب الحادث من مكان إلى آخر؟ وإذا قبلت مخيلاتنا أن يمثل لها في ساعة أو ساعتين ما لا يحصل إلا في يوم وليلة، فكيف ترفض أن يمتد العمل إلى ما وراء ذلك؟

الواقع أن الكتاب يتوسعون في هذه القاعدة حتى القدماء منهم ما داموا محتفظين بالإمكانية ووحدة الجاذبية. وقد أصبح اليوم تغيير المكان وتطويل الزمان من الأمور الميسورة على المسرح الحديث، فعالجوا الأول بإرخاء الستار هنيهة ريثما ينتقل الممثلون إلى مكان آخر - والستار ميزة لم تكن لمسرح القدماء من قبل - وعالجوا الثاني بتقسيم الرواية إلى فصول يفرضون مرور الزمن الذي يريدونه في الفترات القصيرة التي تتخللها. على أن هذا الزمن وإن يكن غير محدود لا ينبغي أن يطول حتى يخرج عن حدود الإمكان، فلا يجوز مثلاً أن يكون البطل صغيراً في الفصل الأول ثم يدركه المشيب في الفصل الأخير.

أما السرعة فيجب أن يكون العمل في الرواية أسرع منه في الملحمة، لأن الملحمة مسرحها الطبيعة، ومرماها ذهن القارئ، فهي تحتمل من التطويل والتفصيل والاستطراد والوصف ما لا تحتمله الرواية لضيق مسرحها وقرب مداها. فهي لابد أن تبدأ في عنفوان العمل وعلى مقربة من الحل، لأن طبيعتها من قوة الحركة وشدة الاندفاع، وما تحدثه في نفس المشاهد من شدة القلق وقوة الانجذاب، تأبى الإسراف في خلق الظروف وابتكار الوسائل، فلا تسيغها إلا بقدر الحاجة الملزمة. فالرواية ولا سيما المأساة، سيل يقطع السدود ويقتحم الحواجز، ولكن الملحمة نهر فياض ينحدر هادئاً طليقاً إلى مصبه، فيطول مجراه بكثرة منعطفاته وتعدد محانيه. وإذا امتازت الملحمة بالتنوع والغزارة والفخامة، امتازت المأساة

ص: 38

بالسرعة والتأثير والحرارة.

بقيت الصفة الثالثة وهي توجيه الأثر إلى الذهن لا إلى الحواس، لأن المسرح إذا غلب التأثير في الجسم على التأثير في الفكر كان أقرب إلى الملعب وهو مظهر العجائب البدنية من الحيوان المروض والإنسان الممرن، وكان جزاءه أن يفقد سلطانه ومكانه في قليل من الزمن. وعلة ذلك أن التأثير المادي محدود متشابه، فلا يلبث الناس أن ترى أعينهم مداه وتتعود آذانهم صداه، ويدركوا أن ما قرع أسماعهم أول مرة من أصوات الألم المروعة، وأنات الاحتضار الموجعة، إنما هو صوت واحد متكرر الأثر، ويؤول الأمر بالمشاهدين والمؤلفين حتماً إلى أن يفقدوا التأثر منه والتأثير به لتشابه موضوعاته وتكرر مؤثراته. من أجل ذلك لا ترى على المسرح تفاصيل الحوادث المرعبة كالقتل مثلاً، بل يفرض حدوثها في ظاهره ثم تلقى إلى المشاهد على لسان شخص من أشخاص الرواية. ومسرح الإغريق نموذج المسارح في هذه السبيل. أما المسرح الروماني فقد دعاه غلظ الطبع وجفاء الشعور إلى أن يسمع النظارة أنين مصارعي الثيران وهم في سياق الموت، ويريهم دماء الضحايا وأشلاء القتلى مبعثرة على أرضه، فتأخر الفن الروائي عند الرومان من جراء ذلك كثيراً.

يتبع

(الزيات)

ص: 39

‌في الأدب العربي

كثير عزة

مدى التطور في شعره، خلقه وخلقه، شيعي وشاعر الأمويين،

عشقه

بقلم عبد الحليم عباسي

يعجبك في الأدب العربي القديم ظاهرة جديرة بالبحث العميق، وهي شيوع هذا الأدب الغنائي، فالشعر الجاهلي الذي وصل إلينا لا يتعدى هذا النوع في الأعم، فهو غنائي في لفظه، وفي موضوعه، بينا تجده في الأمم ذوات الأدب لم يسم إلى هذا الضرب إلا بعد قيام الدولة وازدهار النهضة. . . فالشعر اليوناني لم يصل إلى هذه المرتبة إلا بعد أن اشتد أمرهم وعظم سلطانهم، فأخذوا يقيمون المستعمرات على شواطئ البحرين، وكذلك الشأن في الأمم الأخرى، فهو عند الرومان مثلاً لم تقع عليه قرائح الشعراء إلا بعد قيام الدولة ببضعة قرون، وهو في الأمم الأوربية الحاضرة كذلك قد ساوق النهضات وقيام الدول. ويجيء على الضد من ذلك في الأدب العربي، فقد نهض وما برح العرب يهيمون في أوديتهم القاحلة، لا يلم شعثهم بأس الدولة، ولا يحكم أمرهم شرف الملك؛ ولعل البحث في علة هذا يعود إلى ضرورة البحث في خصائص الخيالين: الآري والسامي، وإلى تفهم المزاج العربي الأصيل، مما نرجئه إلى وقت يكون أكثر ملاءمة من هذا الوقت الذي نخصصه للبحث عن كثير، وحسبنا هنا نشير إلى ذلك، وأن نشير إلى أن من هذا الشعر الغنائي ما يتصل بكل نفس، ويخلد على وجه الدهر، وهو الشعر الذي ينبعث من نفس الشاعر، لا يبتغي من ورائه غرضاً، وإنما يقوله إرضاء لرغبة الجمال والفن في نفسه، ومنه الغزل والحنين، وهو شائع في الأدب العربي شيوعاً كبيراً، استطاع معه أن يلون خيالهم، وأساليب تفكيرهم، وأن يجعل الرقة في الحديث والحوار، والبكاء على الدمن من أظهر صفات العرب. . ومن هؤلاء الشعراء الذين زادوا في ذخيرة الأدب الوجداني كثير بن أبي جمعة.

مدى التطور في شعره

ص: 40

كانت الحقبة التي أعقبت عاصفة الفتح الإسلامي المجتاحة، والتي دوخت بلاد فارس، وأدخلت في حوزة المسلمين كثيراً من الأيالات الرومية، حقبة فيها شيء من الهدوء والاستقرار على الأقل - في الأطراف النائية عن مقر الملك الأموي، وكان من ذلك، ومن هذا الرخاء الذي اخذ يمتد بما هيأ له الفتح الإسلامي من فيء يفيض عن الحاجة، أضف إلى هدا ما اقتضته سياسة الملك من ضرورة مشايعة الشعر والأخذ بناصره أن نهض الشعر، وأزدهر سلطانه، وقامت له مدارس كثيرة من أشهرها هذه المدرسة التي لم يقتصر التطور على تغيير أسلوبها اللفظي، وإنما تناول مع القالب الشعري الفكرة، وكثير أقرب إلى هذه المدرسة منه إلى أية مدرسة أخرى. . .

وقد غايرت هذه المدرسة الأنماط الشعرية المتواضع عليها من القديم، فقد أنشأت القصائد يقصد بها النسيب فحسب، ويقصد بها موضوعات غير هذه المعروفة قديماً من الهجو والمدح والاستجداء.

وكثير وأن يكن من هذه المدرسة إلا أن العوامل والمؤثرات التي أثرت في نفوس أصحابها لم تكن عميقة الأثر في نفسه، فقد مدح وهجا، وكل ذلك بلفظ شيق سمح صقلته الحضارة الإسلامية التي بدأت تتفتح، وباعدت بينه وبين وعورة الأسلوب الجاهلي، وليس لذلك من تعليل غير أن النفسية العربية لم تتطور بعد التطور كله، ولم يحن لهذا التمازج الهين مع الثقافات والأمم الذي أخذ يظهر، أن يبدو عنيفاً. . كما أن كثيراً لم يك له هذا الحسب الباذخ والغناء الفاضح، الذي للعرجي وابن أبي ربيعة، فالزمن يقسره على المدح ويضطره إلى الهجاء، ليأخذ الجوائز والهبات، ويستفيد من موالاة هذه العصبيات التي أراد القابضون على مقاليد الأمر انبعاثها حية، ليطرد لهم الملك. . بعد أن جاهد الإسلام في إخفائها زمناً طويلاً. . .

ولكنه إذ يمدح يجانب بعض الشيء هذا المثل الذي يحتذيه شعراء العرب، وهو النمط الجاهلي. . فهو يضيف إلى رقته شيئاً من هذه الصور الوضاءة، التي بعثتها عيشة الهدوء والاستقرار.

إذا ما أراد الغزو لم تثن همه

حصان عليها عقد در يزينها

نهته فلما لم تر النهي نافعاً

بكت فبكى مما شجاها قطينها

ص: 41

وهو يجيد بصفة خاصة مدح الملوك إجادة منقطعة النظير، حازت إعجاب معاصريه حتى كانوا يرون من أبرز صفاته القدرة على ذلك. فلا غرو بعد هذا إن كان أثراً عند ملوك بني أمية يعلمون أبناءهم شعره:

خلقه وخلقه

عن الوقاصي قالت: رأيت كثيراً فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فقد كذب، وقد تشاجر هو والشاعر الحزين، فقام كثير وحمل على الحزين ولكزه، فحمله الحزين في يده مثل الكرة، ورمى به الأرض. . وهو إلى ذلك دميم أحمر، أما أخلاقه فكان شديد التيه والكبر، كثير العجب بنفسه، تقع من ذلك على نوادر مضحكة. فمن ذلك أن بعضاً من فتيان قريش كانوا يتحدثون على مسمع منه، بأن كثيراً من تيهه لا يلتفت إلى ورائه، ثم يتبعونه بمن يسحب رداءه فلا يلتفت أبداً، وقد عرف عنه أنه أحمق وفيه غفلة، ولسنا نشك في ذلك، ولكننا نشك في عامة هذه الروايات التي تقص علينا نوادر حمقه، والتي توصله من الغفلة والانتكاس في العقل حداً يصعب تصوره، في مثل من هو مثله في قوة شاعريته. . فمن ذلك أنه قال لعمته مرة: أتدرين من أنا؟ فقالت: نعم، أنت فلان بن فلان، فقال: لا، وإنما أنا يونس بن متي!. . . وقال لأصحابه وهو في مأدبة الموت: سترونني بعد أربعين ليلة طالعاً على فرس عتيق من شعاب هذا الوادي. . وقد كان له إلى ذلك آراء في الرجعة والتناسخ، وهذه من العوامل التي جنت عليه في عامة هذه الروايات، فما عرف الناس منه هذا حتى راحوا يختلقون ويضيفون إليه شتى الروايات التي تؤيد مزاعمهم انتقاما من تيهه وكبره، ثم يتعاقب الزمن، فتصبح هذه المزاعم حقائق ثابتة يتناولها الكتاب دون ما نظر ولا تمحيص، وليس لدينا ما يقوي هذا الشك في صدق هذه الروايات، غير ما نلمحه في سيرة كثير من أنه كان محاطاً بزمرة حبب إليها التندر والفكاهة، ومن أولى بهما من هذا القزم الذاهب بنفسه. . من ذلك أن أبا هاشم عبد الله محمد بن علي وضع عليه من يأتيه بأخباره، فكان يلقاه فيحدثه بما كان منه في خلال يومه، وكثير يعجب من هذا، حتى جاءه يوماً بكلام جرى بينه وبين آخر، وقال له: لقد جرى منك اليوم كيت وكيت. . . فقال كثير: أشهد أنك رسول الله. . .

فمن هنا نرى مبلغ ولوع الناس بالعبث به حتى كانوا يرصدون له بمن كان يأتيهم بأنبائه،

ص: 42

لا يسقط منها حرفاً. .

وزاد في الطين بلة أنه كان دعي النسب إلى قريش، وأكثر الرواة يلحقونه بخزاعة، ولكنه يأبى إلا أن يكون من كنانة قريش، ويأبى إلا أن يدل بهذا النسب المختلق على القرشيين أنفسهم، وإذا عوتب في ذلك وأعوزته الحجة قال: لديع النسب في قريش خير من صريحه في غيرها من القبائل. ومن هنا ندرك مبلغ ما انطوت عليه نفسه من حماقة، وما ركب فيه من تبجح وإدعاء.

على أننا إذا شككنا في كثرة هذه الروايات التي تمثل حمقه وغفلته، فلا نشك في انه كان دميماً إلى حد البشاعة، وكان تيهاً بنفسه، وهذا ما يكفي لصد لناس عنه واستثقالهم لظله.

شيعي وشاعر الدولة

من المعروف عن كثير أنه كان متشيعاً مغالياً في التشيع، وكان ملوك بني أمية يعلمون ذلك، ولكنهم يحسنون مع هذا وفادته، بل يذهبون إلى أبعد من هذا في إكرامه، فينعتونه بشاعر الدولة، وتعلل الروايات الإسلامية هذا بلطف مدخل كثير وجلاله في أعين الخلفاء، وهي قولة ليس فيها سداد منطق ولا عمق بحث. . فأين لطف المدخل عند هذا البغيض الروح؟ وأين هذا الجلال عند من لا يزيد طوله على ثلاثة أشبار ومن هو دعي النسب في قريش؟. . ولا سيما إذا علمنا بأن صدر الدولة الأموية لم يكن يتسع للشيعة، فكم أخذتهم بأساليب العنف والقوة، وكم صرعت من جلة الناس، وما حوادث زياد بن سمية وتنقيبه عنهم تحت كل حجر ببعيدة المدى، بل هذا الحجاج في العراق، يقتفي آثارهم ويأخذهم هبراً بالسيف وبعجاً بالرماح.

إذن فلا بد من أن يكون في الأمر شيء غير هذا الجلال المزعوم، ولطف المدخل الموهوم، مكن لكثير من أن يحتمله الأمويون، وأن يستحلفه الخلفاء بمجالسهم بعلي؛ إذا ما أرادوا أن يصدقهم بخبر دون أن يروا في ذلك غضاضة.

ولنبحث بإيجاز في طبيعة هذا التشيع الذي كان يعتنقه كثير فلعل فيه العلة، وما نخال إلا ذلك. . .

نشأت الشيعية فكرة بسيطة، تتلخص في أن علياً وأحفاده أحق بالخلافة من كل من عداهم، ثم أخذت تتطور هذه الفكرة حتى اصبح الشيعيون في هذه لفترة التي نكتب عنها فرقاً

ص: 43

متباينة لا يستهان بها. . .

وأشهر هذه الفرق فرقتا الزيدية والأمامية، ومن هذه الأخيرة تتشعب فرق متعددة يختلفون في أشخاص الأئمة، منها هذه التي تنتظر خروج محمد بن الحنفية. وقد كان من أتباعها شاعرنا كثير، فهو يمدح هذا الأمام وينعت أحفاد علي بالأنبياء الصغار، وليس في طبيعة هذا التشيع ما يضير الأمويين إذ هو لا يتعرض للقضية الكبرى وهي قضية الملك والخلافة، وأن أحفاد علي أحق به من آل مروان، فقد ألهته هذه الأمور أو ألهى بها نفسه - لا ندري - عن القضية الأساسية الكبرى كما أسلفنا.

اقر الله عيني إذ دعاني

أمين الله يلطفُ بالسؤال

وأثنى في هواي عليّ خيراً

ويسأل عن بني وكيف حالي

هو المهدي خبرناه حق

أخو الأحبار في الحقب الخوالي

وسبط لا تراه العين حتى

يقود الخيل يقدمها اللواء

تَغَيَّب لا يرى عنهم زماناً

برضوى عنده عسل وماء

فهل ترى في هذا النوع من التشيع ضيراً على الأمويين؟ بل نزعم أكثر من هذا وهو أن الأمويون ما كانوا ليروا حرجاً في أن يشيع هذا النوع، ليمدوا أسباب الخلف بين فرق الشيعة من جهة، وليلهوهم من جهة ثانية، وما عليهم أن قعدت بهم هممهم، ينتظرون هذا الذي يقود الخيل يقدمها اللواء.

فلا جرم أن لم يأبهوا لتشيع كثير، وما عليهم وهو يجيد مدح الملوك، وقد تغلغل حب القرشيين في صميمه، يحب من والاهم، ويعادي من عاداهم، أن اتخذوه شاعرهم يقدمونه ويروون شعره، وهو بعد الشاعر البعيد الصيت، المستفيض الشهرة.

عشقه

يشك بعض الرواة، في أن كثير كان صادق العشق لعزة، ويدللون على ذلك بروايات نرى فيها اثر الاختلاف والتكلف، فمن ذلك أن كثير تبع مرة بثينة وقال لها متغزلاً:

رمتني على عمد بثينة بعدما

تولى شبابي وارجحن شبابها

فالتفت فرأى وراءه عزة فاستدرك وقال:

ولكنما ترمين نفساً مريضة

لعزة منها صفوها ولبابها

ص: 44

وهكذا دواليك من هذه المزاعم التي يلحظ فيها الإنسان أثر الصنعة، ولا نعرف من أين غلب على الرواة هذا الظن، لعلهم ظنوه قلد جميلاً في غزله، دون أن يعرف قلبه هذا الحب المبرح. . والذي نعتقده ونحن ندرس شعره الذي تركه في عزة، فنرى اللوعة وبرح الهوى ووقدة العاطفة، أنه أحب عزة حباً قوياً جارفاً كما يقولون، وكان من أثر هذا الحب أن زفر بهذا الشعر الذي يحمل نجيع القلب، وذوب العاطفة؛ وهاك ما قاله فيها لما أخرجت إلى مصر، ولك أن تحكم:

وقال خليلي مالها إذ لقيتها

غداة السنا فيها عليك وجوم

فقلت له إن المودة بيننا

على غير فحش والصفا قديم

وإني وإن أعرضت عنها تجلداً

على العهد فيما بيننا لمقيم

وإن زماناً فرق الدهر بيننا

وبينكم في صرفه لمشوم

ولكن أنى لهذا الحب أن يدوم وقد فترت دواعيه. فمن الرواة من يشك في أن كثير رأى عزة واجتمع بها، والذي صح عندنا أنه رآها، ولكن في مرات معدودة، وأنها لم تكن تبادله الحب قوياً كحب بثينة لجميل بن معمر، فمن هنا مال لغيرها وقصد القصائد في أم الحويرث، وأخرى أسمها ظلامة، والمرء إذ يطالع شعره في هاتين، يراه بارد العاطفة ركيك الصنعة.

تقطع من ظلامة الوصل أجمع

أخيراً على أن لم يك الوصل ينفع

وقس هذا بهذين البيتين يقولهما في عزة:

واجمع هجراناً لأسماء إن دنت

بها الدار لا من زهده في وصالها

فإن شطحت يوماً بكيت وإن دنت

تذللت واستكثرتها باعتزالها

وأخيراً فشعره في عزة هو الذي زاد في ذخيرة الأدب الوجداني، ومحال أن يكون مجرد صياغة وصناعة.

عمان

عبد الحليم عباسي

ص: 45

‌من طرائف الشعر

إلى شبان المسلمين

للشاعر الحاج محمد الهراوي

قل للشباب المسلمين تحيةً

من سلم ثبت إيمانه

ويزيده في الله حُسنَ عقيدة

ما جَّره الإلحادُ من خسرانه

الغربُ مجلبة الخسار جميعهِ

والشرقُ مفتتنٌ به عن شَانه

متودَدٌ، والغربُ لم يأبه له

لا في مودته ولا شناَنه

ماذا من الغربيِّ في إحسانه

والشر غلاَّ بٌ على إحسانه

ما زال يرمي الشرقَ من نيرانه

حتى تردَّى في لظَى نيرانه

في كل يوم معقدٌ لِلجَانه

والمشكلاتُ تئزُّ تحت لجانه

لو أخلص الغربيُّ في نيَّاته

ما ثَارت النيرانُ من بركانه

ما باله، والعدل من ألحانه

تبكي العدالةُ في صدَى ألحانه

لو يحفظُ الشرقيُّ طابعَ قومه

لم يطوِهِ الغربيُّ في سلطانه

أو كان يزهدُ في الحياةِ لعزِّه

ما هان بعد العزِّ في أوطانه

أو كان متبعاً لآي كتابه

لَمضَي، وهذا الدهرُ طوعَ بنانه

لكن سَبَتْهُ حضارةُ غربيةٌ

ألقى إلى مضمارِها بعنانه

أين الغزاةُ الفاتحون وأين ما

فتحت سيوفُ الله من بُلدانه

أين السراةُ الخيِّرون وأين ما

شادوا لدينِ اللِه من بُنيانه

أين البيوتُ العامراتُ بأهلها

سل كلَّ بيتٍ دالَ من سكانه

والأزهرُ المعمورُ أين مكانُه؟

سل عنه: أين، وأنت فوقَ مكانه

فرِحوا وهم يبنون كلياته

فليفرحوا بالطوب تحت دهانه

من يوم أن نقلوه عن جُدرانه

قد طار سر الله عن جدرانه

فأسأل عن الأحياءِ من علمائه

والفتيةِ الأطهار من شبانه

المتَّقينَ اللَه حقَّ تقُاتِه

الحافظِين لدينِهم وكياَنه

العالِميِن بشرعة وكتَابِه

العامِلين بروحه وبَيَانه

ص: 46

خرجوا وحتى الزي لم يبقوا لَه

ظِلاَّ لجبته ولا قفطانه

مولاي يا ملكَ البلادِ وذخرَها

وملاذَ هذا الدينِ عند هوانه

مصرٌ بأزهرها القديمِ كما بدا

بالطابع الموروث منذ زمانه

فأعِدْ إليه عهدَه وأستَبْقِهِ

تدفعْ به الإلحادَ في عُدوانه

أدعو شبابَ الشرق من أجناسه

وعلى اختلاف الشرق في أديانه

أدعو لجامعةٍ تضمُّ شَتاتَهُ

من صينِهِ الأقصى إلى تطوانه

إن لم يكن في الدين جامعة له

كبرى، ففي آلامه ولسانِهِ

ما بالُنا والغربُ غربٌ دائماً

في ظِلَّهِ نمضي وتحت ضمانه

فخذوا سبيل الدين فَهْوَ كفيلكم

ليردَّ سيلَ الغرب عن طُغيانه

والدين للدّنيا وللأخرى معاً

وسعادة الدارَيْنِ في قرآنِهِ

ص: 47

‌أهذه الأرض؟

للأستاذ فخري أبو السعود

مَنْ غَازَلَ الرَّوْضَ حتى اْفتَرَّ جَذلاناً

وكان منقبضاً بالأمس غضبانا؟

ونضَّرَ الزرعَ فاخضرتْ لفائفه

وأنبث في الأرض آكاماً ووديانا

وأخرج الزهر من أقصى منَاَبِتِهِ

فرصَّعَ العُشْبَ أشكالاً وألوانا

وصاح بالريح حتى قرَّ ثائرُها

إلاَّ نسيماً بِعَرْفِ الزَّهر مَلآنا

وكفكفَ الغيثَ فانجابتْ عوارضُه

وكان لا يَأْتَلي هَطْلاً وتهتانا

وقَشَّعَ السُّحْبَ عن أُفْقِ السَّما فَبَدَا

طَلْقاً وَأطلعَ وجهَ الشمس ضَحْياَنا

وَرَدَّ غائلَ بَرْدٍ كاد يُهلكنا

عاتٍ وأَرسلَ دفئاً منه أَحيانا

أَهذه الأَرضُ ما زالت كما عُهِدَتْ

أَمْ بَدَّلَتْها جنودٌ من سليمانا؟

قد ظلَّ ملتحفاً بالدَّجْنِ محتجباً

حُسْنُ الطبيعة طولَ العامِ وسنانا

حتى انجلى فبدا من طول لهفتنا

إليه آخَذَ بالألباب عُريانا

وللطبيعة حُسْنٌ حيثما سفرتْ

في الشرق والغرب ساَب أينما بانا

ليست أَقَلَّ بأَرْض الثلج فِتْنَتُهُ

منها بِوَادٍ يغذِّي النَّخْلَ والبانا

وَدِدْتُ لَّما تمَشَّي في الجزيرة لو

يُتاح لي حماها الخُلْدُ أزمانا

عَلِّي أَعُبُّ مَلِياً مِن منَاَهِلهِ

ويفتدي القلبُ من رَيَّاهُ رَيَّانا

ذَرَعْتُها من جنوب الأرض مبتغياً

شمالها ممعنًا في السير إِمعانا

والشمس ترمي شُواظاً من أَشعتها

آناً وَيَفْتَرُ عنِّي وَقْدُها آنا

مُقَلْقَلَ الشخص تعلو بي غَوَارِبُها

حيناً وتهبط بي الأغوارُ أحيانا

تبدو على الأفق الآطامُ مائلةً

خلف المزارع أسراباً وأُحْدَانا

وَقَدْ عَلَتْ بينها الأبراجُ راسيةً

طَوَتْ بموضعها دهراً وحِدْثانا

إذا هَبَطْتُ قراها أو مدَائنَها

رأيت خيراً وإثراَء وعمرانا

ماجت بمن دَرَ جُوافيها ومن ركبوا

كالنمل تَعْمُرُ أَلْوَاذاً وكثبانا

وإن أَوَيْتُ لأَحضان الطبيعة لمْ

أُلَاقِ أَحْنى على الأبناء أَحضانا

أَهْدَتْ إِليَّ وفوداً من نسائمها

تترى وظلاَّ من الأغصان فينانا

ص: 48

قدأَ مَّنَ العدلُ قُطَّاناً وَسَابِلةً

بها وظَلَّلَ أَجوازاً وبلدانا

وَفاََء للحق شعبٌ في منَاَكِبِها

عَلى الإباءِ لوَجْهِ الحقّ قد دانا

فخري أبو السعود

ص: 49

‌زفرة

للأستاذ محمد خورشيد

ذِكّرُوني كيفَ أبتَسِمُ

قد طوى عهدَ الهَنا الألمُ

وشؤوني باتَ زاخرها

بدَمِ ابنِ الجنبِ يلَتطِمُ

وربيعي للخريفِ حَبَا

وشَبابي اغتاله الهرَمُ

أشتكي همي فيشمت بي

زمنٌ أنوارُه ظُلَمُ

أنا في ليلِ الشقا همدت

جذوتي وأجتاحني السَّحَمُ

لم يَشأ ليلي السُّرَى فغَفا

وطلبتُ الفجرَ أَعتصِمُ

فذوى في مهده أملي

حين زلَّت بالُمنى القَدَمُ

فحياتي - والأسى قدرٌ -

صفحاتٌ كلُّهُنَّ دَمُ

حسبوني بينَ مَن وُجِدُوا

ووجودي - لو دَرَوا - عَدَمُ

زفرةٌ كالجمرِ لاذِعةٌ

سَلَّها من صدريَ القلمُ

القدس

محمد خورشيد

أستاذ الأدب العربي بالرشيدية الثانوية

ص: 50

‌خبيئة نفسي

للأديب سيد قطب

خبيئةَ نفسي، قد غفا الكونُ فأسفُرِي

وكوني سميري، بعد إذ نامَ سُمَّرِي

سها الدهرُ والأقدارُ رنَّقَها الكرى

وهوَّم في جوفِ الدُجَى روحُ خيرِِّ

يُطيف على العانين بالعطفِ والرضا

ويغمرُ بالإغفاءِ رأسَ المفكرِ

وينتظم الدنيا هدوءاً كأنها

عوالمُ في وادي المنى لم تُصوَّرِ

فلا صوتَ إلا خفقةٌ من جوانحٍ

كما خفقتْ للضوءِ عينُ المصوِّر

ولمَ يبقَ من هذي الحياةِ وأهلهِا

سوى طيفِها السَّاري بوادي التذكرِ

خبيئة نفسي من عهود سحيقةٍ

ومن جوف آباد مضت قبل مولدي!

أمسّكِ في أغوار نفسي ولا أرى

محيَّاكِ إلا كالخيال المشرد

علمتُكِ حتى أنتِ مِنّيَ بُضْعةُ

جهلتك حتى أنت في غير مشهدِ!

ويا لطالما أخلفتِ لي كلَّ موعدٍ

ويا لطالما ألقاكِ في غير موعدِ!

عجبتُ فكمْ مِنْ نفرةٍ تنفرينِها

على فرطِ ما تبديه من توددِ!

حديثُكِ من نفسي قريبٌ وإنما

إخالُكِ في وادٍ من التِّيهِ سرمدِ

خبيئةَ نفسي، ما ترى أنت؟ إنني

أريدك في جوٍّ من الضوءِ مَعلَمِ

أعنصرُكِ الأيمانِ والطهرُ أصلُه

وإلا إلى الكفرانِ والرجسِ مُنْتَمِ

وفي أيِّ وادٍ أنت تسرينَ خلسةً

ومن أي عهدٍ في الجهالات منهمِ

وكم فيكِ من نصرٍوكم من هزيمةٍ

تجاورتا في حشدكِ المتزَحِّمِ

وكم فيكِ من يأسٍ وكم فيكِ مأمل

وكم مِنْ تردٍّ أو وثوبِ تقحُّمِ

وكم فيك من حبٍّ وكم فيكِ بغضةٌ

ومن رشدِ إلهامٍ إلى خبطِ مظلمِ

خبيئةَ نفسي في ثناياكِ معرضٌ

لما لقيتهُ الأرضُ في الجولانِ

وفيك من الآباد سرٌّ وروعةٌ

وفيكِ صراعات بكل زمانِ

وفيك التقى الإنسان من عهد خلقِهِ

وفيكِ التقى الروحيُّ والحيواني

وإنكِ طلُّسْمُ الحياة جميعها

وصورتها الصغرى بكل مكان

أبيني إذن عن ذلك العالم الذي

تضمَّنتِهِ من صورةٍ ومعانِ

ص: 51

أبيني أطالعْ في ثناياكِ ما مضى

وما هو آتٍ من رؤى وأمانِ

سيد قطب

ص: 52

‌2 - بين الشك والأيمان

بيرون

للأستاذ خليل هنداوي

تسمع قلبه يخفق، وتصغي إلى ضميره يهتف، فتعرف أن الشك قد فتح في قلبه الذي يريد ألا يحس شيئاً جراحات لم تفقده الحياة ولا يرجى له منه شفاء. (وباطلاً ترتسم الابتسامات على شفتيه، وباطلاً يتحرى الطرب عن سبيل ينفذ منه إليه في الليالي التي يثور فيها قلقه)، ويشبه نفسه بذلك الإكليل الغض ظاهره، الذاوي باطنه، وإزاء هذا الشقاء قد نراه ينتفض كالجبار فيقول بلهجة صارمة (ليقل عني من رآني حاني الجبين ومن أورثه قلق نفسي ضعفاً)

إن الشاعر لا يعاند في احتمال الشقاء، ولكنه يريد أن يقابله وهو قوي لا ذليل مستكين، يريد أن يصبر عليه كما يصبر الرجل عند البلاء، يريد أن يموت كالسراج الذي لا ينطفئ حتى يشيع ما حوله بشعلة ساطعة يختم بها حياته، ولكن هذه الانتفاضات المؤقتة سرعان من تتلاشى ليبدو وراءها (بيرون) نفسه.

يقول هارولد (إن آلامنا العاصفة تترك وراءها أثراً بعد ذهابها: قليل من شيء يسقط على ذلك القلب فيهزه إلى الأبد وقد يكون هذا الشيء نغمة شائعة، أو رنة موسيقية، أو ذكرى ليلة من ليالي الصيف، أو ربيع بهي، أو زهرة أو ريح، أو البحر الذي يفتح على حين فجأة جراحاتنا)

وراء هذه الخاطرات يكمن بيرون الذي يصف نفسه ونفوس كثيرين مثله، فهو سئم من الماضي القاتم، وهو شاك من الحاضر الظالم، ويائس ناقم من الغد القادم. تقرا في أسارير وجهه المتجعد هذه الآيات التي كانت كل همه في الحياة.

وروح بيرون هل ارتاحت إلى شقائها أو غلب عليها أمل في غد هو أزهى من الحاضر؟ وإنما يهمها من ذلك الغد أن تجتمع فيه إلى أحبابها وأصدقائها.

(وما عسى يحول إليه هؤلاء الأحباب المختفون؟ وهل نراهم بعد أن تواروا في الثرى؟ ألا يبقى منهم شيء غير الأسماء المنسية؟)

وقف بيرون على قبر صديق له مات في مقتبل عمره وقال: (هل يمكنني أن أومن أنك

ص: 53

أمسيت لا شيء وأنت حي مقيم في ذاكرتي. أجل! إنني أعلم بأننا سنجتمع معاً. وهذا الوهم سيملأ فراغ قلبي)

وهكذا نجده لا يذكر المستقبل إلا مصحوباً بوهم أو بحلم، ولكنه وهم خلقته له الحاجة، فهو لو لم يرغب في لقاء من مات من أترابه لما خلق هذا الوهم.

وبيرون هو الذي يهتف: (أصدقائي يتهاوون على الثرى من كل جنس، وأنا سأرسو على الأرض كشجرة منفردة قبل أن يغشاه ذبول. يستطيع الرجال الآخرون أن يلوذوا بأهليهم وأنا لا ملجأ لي إلا عواطفي التي لا تريني في حاضري وفي غدي إلا الرضا الأناني ببقائي حياً بعدهم، إنني لشقي!)

وقد يبلغ به اليأس مبلغاً أشد وأقوى فيقول (أيها الإنسان! ترفع عينيك إلى السماء وأنت لاصق بالأرض، ألا يكفيك أن تعرف من أنت؟ وهل كان الوجود منحة ثمينة تنعم بها مرة ثانية بعد هذه؟ وترغب في التوجه إلى مكان لا أدريه، جل ما تطلبه أن تستعجل الفرار من هذه الأرض، والفناء في السماء)

وفي حالة يأس كتب بيرون هذه الفقرة (الموت! وا أسفاه! ذهاب دائماً! فإلى أين يذهبون! وإلى أين يذهبون؟ أسأحول إلى العدم الذي كنت فيه قبل حياتي وشقائي الحي؟)

وهذه الفقرة الثانية (الحياة تحلق بين عالمين: كالنجمة المعلقة في حاشية الأفق يكتنفها عالماً الظلمة والنور. إن أوقيانوس الزمن الخالد يمشي ويجرف معه (حبباً خفيفاً). الحبب القديم يتلاشى والحبب الحديث يتألف منفصلاً من زبد العصور. وخلال ذلك ترى بقايا هذه الممالك تجرفها أمواجه الهاربة)

ولكن هذه الثورة النفسية يتخللها شيء من الهدوء. أو قل هدوء الخضوع للقدر المجهول الذي يعمل دون أن يرى. فيخلق الشاعر من هذا الرضا شيئاً يبعثه على الرجاء فيناجي الموت قائلاً: (أيها الموت القاسي، قد ملكت مني كل ما تستطيع أن تأخذه: سلبتني أمي، ثم صديقي، والآن نزعت مني أسمى من صديق، ولكنني أنحني بوقار أمام الله) وإذا بهذا الوقار ينمو في نفس الشاعر ويوقظ فيه الأيمان القديم ويحني فيه حنيناً إلى السماء، فيأسف على القيود التي تحول بينه وبين الصعود إلى السماء التي تدعوه إليها بنظراتها الخلابة، وإذا بشعره تبدو على ديباجته مسحة روحانية صوفية.

ص: 54

قال الكونت (غامبا): لأول مرة فتحت حديثاً دينياً مع الشاعر بيرون في نزهة لنا قضيناها على ظهور الجياد بين غابات الصنوبر، فكانت تلك العزلة باعثة على التأملات. فقال: والنهار مشرق الصفاء (كيف يشك الإنسان في وجود الله على الأرض إذا رفع عينيه إلى السماء وخفضهما على الأرض، ثم أنحدر بهما إلى نفسه، أفي استطاعتنا أن نشك في أن هنالك شيئاً هو أسمى وأبقى من التراب الذي نشأنا منه؟.) وهو الذي كتب قبيل وفاته: (يخيل إلي إن الإنسان إذا تأمل في أعمال الروح لا يستطيع أن يجد شكاً في خلودها، إنني شئت أن أشك، ولكن التأمل أبدى لي خطئي. أما هل حالتنا الثانية تشبه حالتنا الحاضرة؟ فهذا سؤال آخر. أما أن الروح هي خالدة، فهذا شان ثابت عندي ثبات فناء الجسد.) ولكن بيرون الذي يؤمن بالحياة الثانية نراه لا يؤمن بها على المثل الذي جاءت به الكتب الإلهية، فهو يجعل من الجنة مستقراً للجميع، ولا يود أن يحشر في النار أحداً. ويقول في هذا الموضوع:(إن كل بعث جسدي هو غريب منكر لا يقبل به العقل إلا إذا كان المراد منه إنزال العقاب. ولكن كل عقاب غايته الانتقام من المذنب لا تهذيبه فهو عقاب سيء غير أدبي. والأهواء الإنسانية هي التي بدلت - كما يتبادر إلى الظن - المذاهب الإلهية. والخلاصة إنه سر عظيم.) وتراه يطلب إلى الدين أن يحقق ما أبت الفلسفة أن تميط عنه اللثام: (ما هي الحقيقة؟ ومن هو الذي يملك دليلها؟ الفلسفة؟ كلا: لأنها تنفي كثيراً من الأشياء! الدين؟ بلى. ولكن أي دين؟ أما قد حان للإله أن يحيي إيماننا فيرسل إلينا نبياً جديداً.)

وهكذا تتوزع بيرون نوازع مختلفة، منها ما يدنيه إلى الجحود بعد أن تجهد نفسه في التنقيب والتفكر، فلا تصل إلى شيء. ومنها ما يصرفه إلى الإيمان بعد أن تكل عزيمته، ويأخذ منه الإعياء كل مأخذ. فآيته منها الآية الشاكة الجاحدة، ومنها الآية المؤمنة الزاهدة، هو كالعصفور الذي يود أن يحلق فيحلق في الأجواء حتى يبلغ الاوج الذي يستطيع، ثم يهبط ويرضى بهبوطه لأن ارتفاعه لم يغنه شيئاً.

وكيف انتهى بيرون؟ وهو الذي كان يرجو الموت فلا يلقاه. ويكرهه أشد الكراهية إذا تمثل في الانتحار، أراد موتاً شريفاً في ساحة الأبطال، فيمم أرض اليونان حيث دعاه داعي تحرير الإنسان من الإنسان، فوجد نفسه يحيط بها القلق ويغلب عليها الاضطراب. وهناك

ص: 55

وهو في السادسة والثلاثين من عمره نظم مقطوعة ودع بها الشباب والحياة، وهو في أزهى ريعان الشباب والحياة، فلم يتمن إلا قبر الجندي البطل. فناجى نفسه قائلاً:(إذا فقدت من الحياة أعذب شيء، فمن أجبرك على احتمال هذه الأعباء الثقيلة؟ هي هنالك ساحة الشرف، فأذهبي واختاري مضجعاً عظيماً، اذهبي وتخيري موطناً يهدأ فيه رمادك ثم استريحي) وفي اليوم الموعود طار النبأ بأن (الرجل العظيم قد مات)

وقد أفرد النقادة الفرنسي (تين) في كتابه (تاريخ الأدب الإنجليزي) صفحات مختارة، تناول فيها الشاعر (بيرون) ووصف بحذق ودراية (مرض العصر) الذي فشا بين الأدباء، فأسقط كواكبهم، وصرع عظمائهم.

يقول تين: (وهكذا عاش ومات هذا الرجل العظيم التعس، فكان فريسة سمينة لم يعلق بمثلها مرض العصر، ومن حولها يتساقط الآخرون ضحايا. . . . . البعض انطفأ غارقاً في الذهول والنشوة، والبعض قتله السرور والغناء. أما هؤلاء فقد آل أمرهم إلى الجنون والانتحار، وأولئك غلب على أمرهم العجز والداء. وكلهم عاشوا ناقمين حانقين متألمين، وأشدهم عزماً من استطاع أن يحتمل جرحه حتى صار كهلاً، وأكثرهم هناء من تألم كما يتألم الغير، يحرص على جراحه وهي بريئة. قد ملأ أنينهم العصر كله ونحن وقوف حيلهم نصغي إلى قلوبنا التي تردد هتافهم همسا، ونحن كئيبون مثلهم، تسيطر علينا الثورة، فالديمقراطية قد فتحت مطامعنا دون أن ترويها، والفلسفة أضرمت رغائبنا دون أن ترضيها. فرجل الشعب يشكو وضاعته. والشاك من شكه!

وإنما هذا الرجل - كالرجل الشاك مصاب بسويداء حلت في قلبه قبل أوانها. . . . فتراه يستسلم بعواطفه للشعراء الذين يقولون باستحالة السعادة، وفساد بناء المجتمع وسقوط الإنسان

لا رجاء في شفاء هذا الداء. لأنه داء لا تقوى على محوه عوامل السرور ولا الدين ولا أي شيء. . . وطويلاً سيشعر الناس بأن عواطفهم ترتعش لأنين شعرائهم العظماء. وطويلاً سينقمون على قدر يفتح لأهوائهم فضاء بدون حدود، ولن يقدر لهم الشفاء حتى يحطموها. . . أن ذريتنا مصابة كالسابقين بهذا المرض نفسه. . إننا ذاهبون إلى الحقيقة لا إلى السكون، كل ما نستطيع أن نعالجه في هذه اللحظة هو عقلنا. . . إذ ليس لنا ما نؤخذ به

ص: 56

عواطفنا، إن لنا الحق بأن نتفهم آمال غيرنا التي ليس لنا مثلها، وأن نهيئ لمن يأتي بعدنا سعادة لن نتمتع نحن بها، وستكون لهم أرواح صافية المعدن عند ما ينشئون في محيط صافي المعدن.

ولكن أين يكمن مورد هذا الصفاء؟ إن مورده العلم وحده، فإن في استخدام العلم وفي أدراك الأشياء، فناً وأدباً وسياسة وشريعة جديدة، وإنما واجبنا اليوم أن نتحرى هذه الأشياء)

(بيروت)

خليل هنداوي

ص: 57

‌العلوم

فكرة النظام الشمسي عند العرب

بقلم فرح رفيدي

امتدت الممالك العربية في أيام الدولة العباسية، والكنيسة حينئذ في أول عهد نفوذها، وما قويت شوكة الخلافة في بغداد، حتى هدأت الزوابع السياسية التي كانت شديدة في أيام بني أمية، وانصرف هم الخلفاء إلى نقل العلوم اليونانية والزيادة عليها. وأقول كما قلت في أمر الكنيسة، إن العرب تلقنوا هذه العلوم، وخصوصاً علمي الهيئة والنجوم من اليونان، لكنهم شرحوها شرحاً أقرب للحقيقة مما شرحته الكنيسة. والسبب في ذلك واضح، لأن الكنيسة كان غرضها الأكبر من تفسير العلوم اليونانية المحافظة على مقامها وتعاليمها لدى الشعب، فأبقت العلوم لديها مختلطة بالدين أو جزءا منه. لكن العرب لم يختلط عندهم العلم بالدين اختلاطه عند الكنيسة، فكان ما نقلوه وزادوا عليه هو لأسباب علمية بحتة، وأيضا لم يكن عندهم هيئة خاصة كمحكمة التفتيش تحاسب الفرد على اعتقاده ودينه.

لكنا إذا سلمنا بكل هذا، فلماذا لم يحدث الانقلاب العلمي في أيام العرب؟ أي لماذا لم يتوصل العرب إلى حل رمز هذا الكون الجليل بطريقة تبين اعوجاج النظام اليوناني؟ نذكر لذلك سببين:

لما ابتدأ العالم العربي في نقل العلوم كان ذلك فقط في أيام المأمون في أوائل القرن التاسع للميلاد، أي في بداية العصر العباسي الثاني، ونعلم إنه قبل القضاء على الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر للميلاد قامت دول شتى في كل أنحاء البلاد فعمت الفوضى وكثرت القلاقل والحروب، فلم يستتب السلام في أيام بني العباس إلا مدة قصيرة جداً. أي أن الوقت لم يكن كافياً للعرب ليقوموا بانقلاب أو تجديد في العلوم اليونانية، فإذا قابلنا مثلاً المدى الذي تطورت فيه حضارة اليونان بالمدة التي قام فيها العرب بنهضتهم العلمية وجدنا الفرق كبيراً. فلو اقتصرنا ببدء حضارة اليونان من عصر تاليس وبيتاغوراس فقط في القرن السادس قبل الميلاد، إلى عهد بطليموس وبوكليد في القرن الثاني بعد الميلاد لوجدنا المدة تقرب من الثمانية قرون. أما عند العرب، فيمكن أن يقال إن ترجمة العلوم اليونانية ابتدأت فقط من العصر العباسي الثاني، أي في ابتداء القرن الثالث للهجرة، وبقيت حتى أواخر

ص: 58

القرن الخامس للهجرة وهي مدة لا تزيد على الثلاثة قرون. فإذا كان اليونان بعظمة نبوغهم، وباعتبار أن قسماً كبيراً من مدنيتهم مرتكز على المدنية المصرية القديمة، لم ينتجوا ما أنتجوه في أقل من ثمانية قرون، فكيف يقدر العرب أو غيرهم، أن يستوعبوا ما أبدعه اليونان من تعاليم طبيعية وفلسفية وغيرها في مدة لا تتجاوز ثلاثة قرون؟ خصوصاً والعرب كانوا حينئذ أمة جديدة على الحضارة، لم تتعود ما أعتاده اليونان قبلا.

زد على ذلك أنه لو لم يعتن العرب بعلوم اللغة والدين والتوسع فيهما توسعاً زائداً، في عهد بني أمية وما بعده وصرفوا اهتمامهم الكافي لبعض العلوم اليونانية، لكان العرب عندئذ أولى بأن يقوموا بحركة علمية جديدة.

لم يكن علماء العرب في ذلك الوقت راضين عن النظام اليوناني أو محبذين له. فإنه عندما بدأ العرب ترجمة العلوم اليونانية، ورأوا فكرة اليونان في المجموعة الشمسية، وما هي عليه من التعقيد والتناقض وعدم تلاؤم أجزائها ببعضها داخلهم الشك في صحتها وارتابوا في كثير من أقسامها. وجعل هذا الشك منهم عيوناً دقيقة الملاحظة، حريصة في التنقيب، لا تدع شيئاً مهما كان حقيراً دون بحث أو تفسير. ولم يتركوا سبباً إلا فحصوه وشرحوه ووازنوه مع غيره من الأسباب، وقابلوه مع ما تأتى لها من نتائج أرصادها، فأنقصوا من النظام اليوناني أشياء، وزادوا عليه أشياء، واعتمدوا في كل شروحهم وتعليلاتهم على ما يستسيغه العقل ويقبله المنطق محاولين بذلك اتباع طريق غير طريق بطليموس وشرح نظام جديد ربما تصوروه ولكن لم يدون.

قام حينئذ من العرب ابن رشد وابن طفيل وتلميذه البتروغي في القرن الخامس للهجرة، وانتقدوا كتاب الماجسطي حتى أنهم لعدم اكتفائهم بتفسير النظام البطليموسي أتوا بأفكار مبتكرة في حركات الكواكب السيارة، وألفوا نظاماً جديداً يقال له خلاف النظام اليوناني، فأنكروا وجود الدوائر الصغيرة وبذلك عللوا حركة الكواكب من الغرب إلى الشرق وبالعكس تعليلاً مخالفاً لكتاب الماجسطي، ومنهم من اعتقد أن الكواكب لم تبعد مسافة واحدة ثابتة عن دائرة البروج بل هي في أبعد مختلفة، إذ هذا هو السبب في اختلاف شدة الضوء المنبعث منها.

ومن المشهورين في تطور النظام الشمسي من العرب الخوارزمي سنة220 هـ. وهو

ص: 59

صاحب الأرصاد المختلفة والمرتبة بنظام خاص يقال له الزيج

والفرغاني سنة 225هـ. وله قياسات في أبعاد وأقطار الكواكب الخمسة، وكتابه (كتاب في الحركات السماوية وعلم جوامع النجوم) ترجمه أكثر من واحد إلى اللغة اللاتينية.

وثابت بن قرة (سنة 235هـ) ويعد اكبر المشتغلين في العلوم الهندسية من العرب، أصلح ترجمة إسحق بن حنين لكتاب أقليدس، ووضع عدة شروح عن النظام اليوناني، محاولاً فيها كلها ابتكار نظريات جديدة، وشروح سهلة لدرس النظام البطليموسي، وله أرصاد مختلفة في قياس بعد الشمس وتحديد السنة الشمسية، وقد أضاف فلكاً تاسعاً إلى النظام القديم وراء فلك النجوم الثوابت، وكان أول من وصف الكرات المتراكزة من العرب.

البتاني سنة 270هـ. وهو الذي اشتهر بدقة أرصاده من أيام هبارخس إلى كوبرنيكس، حتى فاق الخوارزمي بدقة ملاحظاته في الكواكب السيارة. وكان من منتقدي بطليموس وقد وجد ميل دائرة البروج عن دائرة خط الاستواء 35َ 23ْ وهو رقم مطابق لقيمة الميل الحديث، وعمل ملاحظات دقيقة عن القمر واختلاف حركاته، وعن أوقات الخسوف والكسوف. وهذا ما قاله عنه ابن خلكان. (له الأعمال العجيبة، والأرصاد المتقنة، وأول من أبتدأ بالرصد سنة 264هـ، وله من التصانيف: الزيج، وكتاب معرفة مطالع البروج، وشرح أربع مقالات بطليموس، وأصلح قيمة مبادرة الاعتدالين، وقيمة ميل دائرة البروج على دائرة خط الاستواء).

الزدكلي سنة 460هـ. اشتهر بصنع أدوات الرصد وخصوصاً الأداة المسماة بالصفيحة وهي لقياس أبعاد وأقطار الكواكب السيارة. كتب شرحاً ترجم على أيام الملك الفونسو ملك وقد أخذ عنه وعن البتاني كوبرنيكس في تعليل نظريته الجديدة

ولعل أشهر التجارب العملية التي قام بها العرب أيام المأمون

هو قياس الدرجة من خط نصف النهار، بواسطة ثلاثة أخوة

يقال لهم بنو موسى، وبطريقة غير التي عمل بها اليونان

الأقدمون ذهبوا إلى موضع في سهل سنجار في العراق، فذهب

بعضهم شمالاً والبعض جنوباً حتى رأوا في الشمال النجمة

ص: 60

القطبية ترتفع درجة وفي الجنوب تهبط درجة. ثم قاسوا

المسافتين ووجدوا الوسط بينهما، ولكنهم أتخذوا الرقم الأكبر

منهما وهو 32 56 ميلاً

وغير هؤلاء الذين ذكرناهم، قام أناس كثيرون من العرب أتوا بأبحاث جليلة مختلفة في شكل النظام الشمسي، وتعليقات شديدة النقد على النظام اليوناني لا يسعنا ذكرها الآن.

قد يبدو النظام اليوناني للبعض بسيطاً بالصورة التي شرحناها، ولكنه في الحقيقة معقد وغاية في الصعوبة، وفيه كثير من المتناقضات لعدم ثبوته على أساس راسخ، والذي زاد في المسألة تعقيداً هو نظرهم للظواهر كما ترى لا كما يستسهلها العقل البشري.

فتعقد النظام اليوناني وتناقضه، من كثرة ما زيد عليه من الكرات والدوائر الصغيرة، ولد الشك في قلوب الكثيرين من العرب. وهذا الشك هو الذي حرضهم على البحث والتدقيق في ملاحظاتهم، وعلى التأمل في نتائج أرصاداتهم في الكون، وربما يمكن أن تكون أسباب التناقض وعلل النقائص ومسببات الحركات الشاذة والمختلفة التي لاحظوها ولاحظها اليونان من قبلهم. لكن هذا الشك الذي نرى في كثير من شروحهم ومؤلفاتهم لم يتخذ طريقاً محسوساً معيناً يمكن معه أن نسميه انقلاباً علمياً كالذي قام به كوبرنيكس وكبلر وغاليلو فيما بعد.

ومع أن العرب لم يتوصلوا إلى اكتشاف جديد في ميزة هذا الكون العجيب، وتعليل ظاهراته تعليلاً صحيحاً، فإن دقة ملاحظاتهم وحسن ترتيب نتائج أبحاثهم، جعلتهم يفوقون الإغريق ويبذونهم في أشياء كثيرة. فقد مهدت السبيل لاكتشافات مقبلة، وجعلت فكرة النظام اليوناني سهلة التغيير قابلة للانقلاب إلى الفكرة الصحيحة، حتى لم يكن بينهم وبينها إلا مسافة قصيرة جداً بدليل أن كوبرنيكس مبتدع الفكرة الجديدة لم يتوصل إلى ما توصل إليه إلا بعد مراجعة كتب العرب، وقد عاش بعد ما انطفأ نور العلم في الشرق بمدة غير طويلة

فرح رفيدي

ص: 61

‌القصص

رجل. . . وامرأة

بقلم محمد سعيد العريان

- 1 -

جلس شوكت أفندي كاظم في حجرة الانتظار في مدرسة. . . يجيل طرفه في قطع الأثاث المبعثرة، وينقل النظر بين السقف والأرض والحيطان. لم يتغير شيء فيها عما رآه لآخر مرة منذ سنوات أربع؛ هذا النضد الصغير في زاوية الحجرة كأنه قطعة من أرض المكان فلم يتزحزح عن موضعه؛ وهذه الأريكة الكبيرة طالما تمدد عليها ولوى ذراعيه تحت رأسه وسبح في أحلام اليقظان؛ وهذه الصور على الحيطان تطل منها الوجوه الصغيرة، في أساريرها مرح الطفولة، وفي عينيها بريق الأمل - إنها في موضعها حيث صففها بيديه قبل سنين، ولكنها زادت أخرى، لاشك أنها صور الفرق التي أتمت دراستها بالمدرسة منذ نقل منها. . . ودفعه حنين وشوق فنهض يتأمل صور تلاميذه الذين عاش بينهم شطرا من حياته في منزلة الأب الثاني، ثم فارقهم وفارقوه منذ سنين بعيدة فوجاً بعد فوج إلى حيث لا يدري من فجاج الحياة. ما أسرع ما تمر السنون! أيهم الآن يذكره كما يذكرهم؟ لعل منهم صاحب المنصب الرفيع والجاه العريض وهو ما يزال حيث تركوه في منصبه وجاهه!. . . ووقف لدى صورة من عديد الصور المعلقة، ولم ينتقل عنها ولم يخفض بصره؛ لقد طافت برأسه ذكريات من الماضي، ذكريات حية ما يزال قلبه بدمها ينزف. وحدق في الصورة طويلاً تحديق العانس في المرآة تنعى الشباب وتتهم الزمن. . . منذ ثمان سنوات حين دعي ليجلس بين تلاميذه في هذه الصورة كان شخصاً آخر غير الشخص الذي يعيش اليوم، لقد كان يومئذ يعيش في واد من الأحلام: أحلام الشباب والمرأة والحب. أين هو اليوم مما كان؟ أما الشباب فقد أنهكته أحداث الزمن، وأما الحب فقد دفنه هناك ولفه في أكفان اليأس، وأما هي. . .

ودخل الضابط يحيه بصوت غليظ، في يده عصا ومن وراءه غلام. وأندفع عادل شوكت إلى أبيه حين رآه باسطاً ذراعيه، فلم يخشى عصا الضابط ولا صوته البغيض؛ وضم

ص: 62

الرجل ولده إلى صدره ومال عليه يقبله في ظمأ وشوق؛ وطأطأ الولد رأسه يعبث بأزرار معطف أبيه ويداعب سلسلته؛ وسبح أبوه في ذكريات ينشرها ويطويها:

لقد كان يحبها أعنف الحب وأرقه، ولم يكن يتمنى غير أن يظفر بها زوجاً يصفيها الحب ويخلص لها الوداد؛ وقد ظفر بها ونالها، فأين هو اليوم من سعادة الحياة؟! لقد أفلتها فلم يبق بين يديه من تلك المنى الساحرة غير لمحة ضئيلة يراها في عيني هذا الغلام.

وعاد إلى الماضي يسترجع ساعاته ولياليه، ويحصي على الزمن سيئاته وأياديه: لقد عرفها فتاة في إحدى الحدائق العامة مع أخيها الصغير فعطفه عليها دل متواضع وكبرياء تبتسم، وأحبها منذ ذلك اليوم وراح يعيش في وهم الأماني. . . واستطاع أن يلفتها إليه وأن يجعلها تهتم بأمره؛ ومدت إليه خيط الرجاء فتعلق، ومضت الأيام تقرب بينهما وتدني نفساً إلى نفس حتى أشعرتهما أنها كل شيء في حياته، وأنه كل شيء في حياتها. وشاركته سعادة الأمل، وأخذ يعد العدة للأمر العظيم يوم تكون زوجه، وأخذت تسابق الأيام فمنحته من ودها على غفلة الأهل أشياء في إباء الراغب ورغبة المتأبي؛ ولم تكن أيام الوصال على وتيرة؛ فيوماً دلال، ويوماً عتاب، ويوماً يتنبه الرقيب من حيث يريد وتريد. . . وهكذا راح الزمن يذكي في صدريهما لواعج الشوق، ويضرم لهيب الوجد - أربع سنين متوالية بين لهفة وشوق وأمل؛ ثم زفت إليه. لقد شعر يومئذ أن الدهر أتم عليه نعمته وأسبغ عارفته، ولكنه أعطاها مقادته من اليوم الأول، ولم يتلقها إلا بتقديس وعبادة، وظل بعدها في العبادة والتقديس!. وإنها لتحب السيطرة والسلطان، بعض ما في دمها من طباع الشركس؛ وإن فيه لطراوة وليناً من ضعف العاشق الذليل؛ فأخذت تملي عليه أرادتها وهو كالكرة في يد الصبي. ولم تجد فيه رجل أحلامها الذي قدرت أن يكون، فراحت تنتقص من سلطانه وهي تتمنى أن يعاصيها ويتمرد على إرادتها فتشعر به زوجاً له مثل سيطرة الرجال. وكانت كلما راحت تستثير فيه نخوة الرجل استخذى لها وتلاشت إرادته؛ لقد كان يجيد الغزل وحديث الحب، ولكنه لم يكن يعرف كيف يملي أرادته، ويلوح للحب بالبغض؛ وكان يعرف كيف ينزل عند رغبتها حين تريد، ولا يستطيع أن يكون رجلا حين يريد. . .

- 2 -

ورأت كل حاجاتها لديه مقضية؛ ووجدت نفسها الآمرة الناهية في هذه المملكة الصغيرة،

ص: 63

حتى الرجل الذي كانت تخشى سلطانه وتهواه كان أطوع لها من بنانها. وراحت تبالغ في مطالبها، لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية. وحين جاء الصيف رغبت أن يسافرا إلى الإسكندرية فلم يجد في نفسه قوة على العصيان وهو يعلم أن أكلاف الاصطياف هناك فوق ما يتحمل مرتبه الضئيل. . وقضيا في المصيف شهرين استمتعت فيهما زوجة بكل ما اشتهت من حرية وانطلاق، وكان لهما في نفسه لذع ومرارة. وأخذ الحب الذي كانت تحسه لزوجها من قبل يتلاشى رويداً رويداً؛ لأنها بدأت تعنى بأشياء أخرى؛ وصار همها من دنياها ثوباً جديداً تختال به على صوحباتها، أو ليلة ساهرة فيها متاع القلب والنظر، أو سفرة إلى هنا أو هناك تجتلي من مشاهدها أنساً وبهجة. ولم يكن يضن عليها بشيء. . ونسيت تدبير البيت وشئون الزوج؛ فكانت تقضي نهارها زائرة أو طائفة بالبيوت التجارية والحدائق ودور اللهو، وأخذت تنفلت من قيود المرأة المتزوجة قليلاً قليلاً، حتى اطمأنت إلى حريتها كاملة في الغدو والرواح، وفي السهر أيضاً؛ وتاقت لأن تبسط إرادتها إلى ما وراء جدران البيت مؤمنة بجمالها وسلطانها على القلوب!. . وألف شوكت أن يعود إلى البيت في النهار وأول الليل فلا يجد هناك غير الخادم تخلع عنه ملابسه وتهيئ له الطعام، ولم يكن ليسوءه ذلك كثيراً، فحسبه من الزوج الحبيبة أن تكون سعيدة هانئة، وأن يستيقظ في الصباح على نغمات من صوتها الندي الرقيق، وأن يمسي ووجهها آخر ما يراه من الدنيا اليقظة. ولكن الكرة ما زالت تتدحرج ويخاف أن تبعد عن منال يمينه. .!

وعاد ليلة متعباً مكدوداً يلتمس الراحة في البيت، ودق الباب فلم يجب أحد، وعاود الدق فلم يسمع غير الصدى يرن ثم يتلاشى في مثل ضحكة ساخرة من فم امرأة. . . ترى أين ذهبت الخادم، وأين زوجة الآن؟ لقد تعودت الغياب عن البيت كأنما لا يعنيها منه إلا أن تأكل وتنام! أليس له عليها مثل حق الأزواج؛ فما لها لا تدرك عليها واجباً ولا تعترف له بحق؟. . وأخذ يذرع الطريق غادياً رائحاً ويداه خلفه ورأسه إلى الأرض، يمد بصره بين حين وحين يرقب الطريق. . ورأى زوجه مقبلة في سرب من رفيقاتها تهتز أعطافهن في فتنة مغرية، ويجاهرن بالحديث عابثات ضاحكات. ورأته زوجه فقالت:(أنت هنا؟) ولم تزد، وسبقته تفتح الباب وأنصرف صواحبها. ولما اطمأن بهما المكان قال لها:

- (لقد ضايقني الانتظار يا إلهام، أين الخادم؟). قالت:

ص: 64

- (الخادم؟ لقد سافرت لترى أباها. ألم أنبئك؟)

قال وقد رسم الاستياء خطين على جبينه:

- (وهلا قدرت أن أعود مبكراً فتكوني في انتظاري ولا تتركيني بالباب؟!)

ومالت عليه فطوقته بذراعها ويدها تعبث بشعره وعيناها تبرقان، وقالت تداعبه في لين وتكسر:(ليتك لا تغضب يا شوكت، أنا احبك!) ثم كانت قبلة نسى معها الغضب والعتاب. . .

وتتابعت أيامها من بعد بين غضب ورضى، وأدركت إلهام أن زوجها يحاول أن يعود رجلاً وأن يبسط عليها سلطانه، ولكن بعد أن عرفت من أين تناله وكيف تسلبه أرادته. . . ومر عام، وصار شوكت أباً. هذا ولده عادل.

ودق الجرس في فناء المدرسة، فأنفلت الغلام من بين يدي أبيه كما فرت سعادته من قبل. .!

أين هي الآن؟ أنه مازال يحبها أعنف الحب وأرقه، ولكنه قد فارقها إلى الأبد! وآلمته الذكرى، فأخرج علبة من جيبه فأشعل دخينة، واعتمد بذراعه على حافة المقعد، وأسند برأسه إلى راحته، وزفر زفرة، وتلوت ثعابين الدخان صاعدة، وراح يتابع الذكرى الأليمة:

لقد كافأته زوجه على حبه ووفاءه وطاعته - بالسخر والتمرد والعصيان! ليته استطاع أن يكون معها أصلب قناة وأغلب إرادة، فلعله كان أحب إليها صلباً غلاباً صاحب إرادة وعنفوان. . .!

إنه كان يحبها حباً بعيد الأمل، ليس له حدود تحصره في دائرة الممكن، ولا حرية تطلقه وراء المستحيل؛ فلما ظفر بها ظل الطريق إلى السعادة، وراح يلتمس قلبها فهوى على قدميها. .!

وحين أراد أن يهيئ لها سعادة الرضى في جواره لم يعرف كيف يجعل إرادته تسبق إرادتها فيما تشتهي فيمنحها ما تشاء قبل أن تدعوه إليه آمرة مطاعة. . .!

ولو إن الحجاب بينهما فيما بين الخطبة والزفاف لم يكن في حراسة التقاليد، لتفاهم قلباهما على الود الكريم، ووضع الأساس لحيات الغد على غير جرف هار من الوهم والخيال. . .!

ص: 65

لم يكن يومئذ يدري أن المرأة تعشق الرجل المتسلط الذي يغلبها ويفوقها، بقدر ما تحتقر الرجل الذي يترامى على قدميها في ضعف وهوان، ولو كان ضعف المحب وهوان العاشق. . .!

لقد عاشرته خمس سنين كانت معه في البيت كضيف على ميعاد، وكان حظ صواحبها منها أكثر من حظه! وربما قضى الساعات في البيت وحيداً، وهي هناك تنتقل زائرة من بيت إلى بيت، فلم تكن تعرف دارها إلا يوماً واحداً في الأسبوع، هو يوم الاستقبال. . . ولقد كان في البيت مرة وسمع بأذنيه أي الشئون يتحدث فيها النساء: حديث الأزواج، وشح الأزواج، وغفلة الأزواج، ثم الأزياء والملاهي ولا شيء غير ذلك!. . بل لعله رأى بعينيه ماذا يصنعن يوم الاستقبال. لقد نقم على كثيرات من صاحبات زوجه، وعاب عليهن سوء الأدب وقلة الاحتشام، ولكنه لم يجرؤ حتى فيما بينه وبين نفسه أن يسيء الظن بأخلاق زوجه، ولم يجرؤ أن يحدثها عما رأى وسمع؛ خشية أن تلومه على استراق الحديث والنظر. .!. . آه لو كان يدري يومئذ أنها واحدة من هؤلاء حين تكون بعيدة عنه، فلعله كان حينئذ يستطيع أن يردها إلى الصواب!

- 3 -

وطالت غفلته عن حديث الناس بسلوك زوجه، حتى حين مرض بالإسكندرية صيف عام واشتدت به العلة، وأمره الطبيب أن يعود إلى بلده، فأبت زوجه أن تعود قبل أن ينصرم الصيف، وتركته يخلفها وحدها هناك على الشاطئ في حراسة الشيطان، تداعب أمواجاً في البحر وأمواجاً في البر، لقد كان لها يومئذ رغبات نسيت في سبيلها وفاء الزوجة وبر الأم، فلم تعد إلا بعد شهر!

لم تهنأ إلهام بالحياة في بلد زوجها على ما فيه من جمال وفتنة، وحالت بعد عودتها امرأة أخرى؛ فلم تعد تهتم باسترضاء زوجها، تمحو غضبه بابتسامة الخداع وبهرج الكلم، ومزقت القناع عن وجه عابس، وكشفت صدرها عن ألم وضيق بحياتها في كنف الزوج الحبيب، وراح شوكت يستميلها فلا تزداد إلا نفوراً، ويتحبب إليها فلا تبدي غير البغض والكبرياء. . . وآلمه ما تغير من أخلاقها، وراح يحاسب نفسه على ما قد يكون أساء به إليها، ويحصي ما قصر في حقها وما اقترف، فلا يبدو له إلا صفحات كلها حب ووفاء

ص: 66

وتضحية. وأخفق فيما سعى إليه ولكنه لم ييأس.

وترامت إليه الأخبار بما يتحدث الناس من شأنها؛ وكان آخر من عرف. . . يا للهول! وأفاق من وهم الحب. لقد مد لها أسباب الغواية وتركها تتدحرج حتى استقرت في أعماق الهاوية وجذبته معها!

واستعاد رجولته، ولكن بعد أن فقد من يأتمر بأمره، وفارقها في صمت، عيوفاً أبياً، ولكنه خلف قلبه هناك. . . تحت وسادتها وبين الحشايا!

وكان له ما أراد، ونقل من البلد الذي دفن فيه الشباب والحب والأمل، ينشد العزاء والسلوان بعيداً بعيداً؛ وقد أقسم ألا يكون له من بعدها زوج.

وهاهو ذا يعود بعد سنوات ليأخذ ولده يعيش في حضانته، بعيداً عن عار الخطيئة - عن المرأة التي كرهت أن يكون ولدها معها فيعلن للأصدقاء بوجوده أنها أم. . .!

وصلصل الجرس وما يزال شوكت غريقاً يجاهد موجات الذكرى الأليمة في يأس؛ يأس المحب الوفي جوزي بحبه ووفائه غدراً وخيانة!

وحياه زميله الأستاذ مختار وهو يصيح: (أهلاً، شوكت، متى حضرت؟)

وهز يده بقوة، وربت على كتفه بحنان ثم أردف:

- (إن صديقنا (أحمد) لموفق، فقد كان يذكرك اليوم ويتمنى أن تحضر زفافه، وقد حضرت.)

قال شوكت: (زفافه؟ وماذا تراني أصنع له في زفافه؟)

ودهش مختار أن يتحدث شوكت كذلك وأجابه: (لا أحسبك نسيت ما كان بينكما من ود؛ أفليس من حقه عليك أن تهنئه أن ظفر بالفتاة التي يهواها، وأنك لتعرف أين كان أمله!)

وابتسم شوكت في ألم، وقطب جبينه، واسترجع كل ماضيه الأليم في لمحة، وقال لصديقه ساخراً:(وهل تراه ظفر بشيء يستحق التهنئة، أم تراني أعزيه. . .!)

وتولى عن صاحبه وهو ممسك بيد ولده، والأرض تجاذبه إلى الخلف - إلى حيث يرى المرأة التي أحبها فخانته. ولكنه عرف كيف يكون رجلاً، وكيف يقمع في صدره ذلك الحب الذليل الذي نزل به إلى الهوان والعار. ومضى في طريقه إلى البلد الثاني وكأن ما كان يدوس بقدميه قلبه الدامي فيحس وخزاً أليما فوق ما تخزه الذكرى وتؤلمه.

ص: 67

ومضت الأيام تسدل بينه وبين الماضي حجاب النسيان، وهو يغالب هواه ويصارع نفسه، حتى برأ من دائه. وأخذت ذكريات الماضي تتضاءل في رأسه حتى أوشكت أن تتلاشى، وانقشعت عن عينيه غشاوة العاطفة التي كانت تغلبه على عقله وتزين له أن يبيع بالحب كرامة الرجل.

وانقضت سنوات ثلاث، ثم رأى نفسه وجها لوجه أمام المرأة التي كان يحبها أرق الحب فعاد يبغضها أعنف البغض، ويبغض من أجلها النساء جميعاً. لقد أخفقت فيما سعت إليه، فلم تظفر بالسعادة التي انطلقت وراء أوهامها وحطمت في سبيلها عش الزوجية، وحالت الثمرة التي كانت تشتهي حلاوتها مرة كريهة المذاق حين عرفت منزلتها الحقيقية من نفوس المعجبين بها والمزدلفين إليها من الرجال، لقد انفضوا عنها جميعاً بعد أن ملوها، وراح كل منهم يلتمس لحظات سعيدة في غرام جديد أبي، يذوق فيه سعادة الظفر بالمغيب المجهول. . وتنكرت لها الحياة فعادت إلى الماضي تستلهمه، فإذا هي ما تزال تحب شوكت. . . وذكرت في النهاية الرجل الذي كان يحبها، والذي كان يبيع من أجلها كل شيء، فجاءت تسعى إليه معترفة تائبة. هيهات! لقد أضلها السراب طويلاً، فلما همت أن تعود إلى المناخ كان الركب قد تحرك، فلم تدرك غير الغبار يقذي عينيها وتتكاءدها عقبات الطريق!

وأغلق الرجل دونها بابه، ووقفت بينه وبينها الذكريات المؤلمة عن ماضيها وماضيه. لم تؤثر فيه دموع الندم، ولم يعطفه عليها ما ناشدته الحب القديم، فقد علمته من قبل كيف يكون بليد العاطفة، فبقى معها بليد العاطفة، وعلمته ألا يؤمن بالحب، فأثبت لها أنه لا يؤمن بالحب، وعلمته ألا يثق بوعود امرأة، فأكد لها أنه أبداً لن يثق بوعود امرأة.

وحين عادت المسكينة امرأة ذات قلب. . . . عاد المسكين رجلاً بلا قلب!.

محمد سعيد العريان

ص: 68

‌3 - سافو

لأوجييه اميل

ترجمة الأستاذ محمود خيرت

كاوودال - (ينادي) هي. هي

لابودري - يا صاحب المطعم

الجميع - أنت يا رجل

(يظهر صاحب المطعم)

كاوودال - أسرع فلقد قتلنا الظمأ

صاحب المطعم - أهلاً اهلاً بأسيادي (وكأنه يعرف كاوودال)

سيدي كاوودال. . . ما أطيب هذه الفرصة تفضلوا.

فأجلسوا عند هذه البراميل أو تحت هذه الشجرة الظليلة

كاوودال - نبيذك الطيب أولاً!

لابودري - الأبيض؟

كاوودال - أصبت

صاحب المطعم - كما تشاؤون. والطعام!

كاوودال - عند المساء متى عدنا، ولكن ماذا عندك منه

صاحب المطعم - كل ما تشتهون

كاوودال - شواء مثلاً؟

صاحب المطعم - نعم. وفرختان!

لابودري - حسناً

صاحب المطعم - وضلع

كاوودال - لا بأس

صاحب المطعم - ثم. . .

الجميع - هذا يكفي

كاوودال - (منشداً) ولكن أيها الشيطان

ص: 69

لابودري - إذا أهملت في الألوان

آخر - والمزات

ثان - والسلطات

ثالث - وحذار أن تنسى كذا البصطرمة

رابع - معها وإلا فالجزاء

صاحب المطعم - (الصرمة)

(ضحك عام)

صاحب المطعم - (منادياً) نبيذ أبيض حالاً (ينظف الموائد ويرتب المقاعد حيث يجلسون، وعندئذ يظهر الخدم حاملين قناني الشراب والكؤوس)

كاوودال - ليحيى النبيذ=ليحيى الشراب

الجميع - ليحيى النبيذ=ليحيى الشراب

كاوودال - شراب النبيذ=شراب لذيذ

يرد الشاب=لصرعى الخضاب

الجميع - ليحيى النبيذ=ليحيى الشراب

كاوودال - ألا فأشربوا=ولا تحسبوا

لهم حساب=فهذا الصواب

الجميع - ليحيى النبيذ=ليحيى الشراب

صاحب المطعم - ليحيى الصنم

الجميع - لتحيى الصرم

(ضحك عام)

(يظهر حنا)

كاوودال - (وقد لمحه) حنا؟

حنا - (يقترب ويحيي بقبعته) نعم أنا

كاوودال - ما أجمل هذه الصدفة

لابودري - كيف أنت يا حنا. أنت مقيم هنا

ص: 70

حنا - بل هناك (مشيراً) لأني أميل للغابات أتفيء ظلها وأملئ عيني منها. نعم أن الحياة

بالقرب منها خير من حياة المدن حيث السكون والنسيم العليل

كاوودال - وهل لازلت مع سافو؟

حنا - سافو؟ من هي سافو

لابودري - فني. نموذج المصنع

حنا - (مفكراً) إذا هي سافو (متردداً ثم يتكلم) لا. إنني تركتها.

كاوودال - تركتها؟ إنها فتاة حسناء. ولكنها مع ذلك. . .

حنا - ولكنها ماذا؟

كاوودال -. . . لا شيء

حنا - لاشيء؟ ولكنك قلت إنها. . .

كاوودال - فتاة لا وفاء لها. نعم إنها تحفة من تحف الحسن. ولكن حبها مشوب بالآلام. على أن من يقع في شركها يصعب عليه أن يسلوها.

لابودري - لقد صدقك كاوودال يا حنا

كاوودال - ومع ذلك فدليلي قصتها مع ذلك الحفار الفنان

لابودري - فرومان

كاوودال - بعينه. فلقد دفعته إلى تزوير زج بسببه في السجن. على أني لا أزال أذكر يوم أخذوه إليه وهي تودعه بأطراف أناملها وتقول له تشجع يا بيبي فعما قريب تخرج ونعود إلى سيرة حبنا

حنا - (لنفسه وهو مفكك) أنها تناديني بمثل هذا أيضاً

كاوودال - ما لك يا صديقي؟

حنا - الحقيقة أني كذبتكم. فأنا من سنة أتلوث بصحبة هذه الفاجرة. ولقد استسلمت لمكذوب حبها، ومعسول كذبها حتى أبحتها قلبي ومشاعري لأني كنت أجهل أمرها ولكني الآن أقسم لكم أن كل ما بينها وبيني قد أنقطع وانتهى

(تظهر فني من بعد)

آه. . .

ص: 71

كاوودال - (يلمحها) سافو

سافو - (وحنا يفر منها) حنا

حنا - دعيني (ثم يختفي)

سافو - (في نفسها) نمو عنده علي (لهم بحدة) الآن وقد فر بسعيكم فلن أخشاكم أيها الأنذال

كاوودال - (يسكن ثورتها) هوني عليك يا سافو. اسمعي

لابودري - عودي إلى رشدك ولا تحتدي

فني - لقد أكلكم الحسد على حبه الذي أسعدني وغير سبيل حياتي فصورتموني له في أشنع صور الرذيلة حتى ألتوى وفر مني. إنكم غلاظ قساة (للابودري) وأنت أيها المنافق طالما أسهرت جفني وأجريت دمعي. ولا زال صدرك طافحاً بالحقد على صفوي فحطمت قلبي الذي أصلحه هذا الفتى، وهكذا لم أخطئ في حسباني إذ علمتم فوشيتم فأنتقمتم. فأنا الآن إذا كنت أتعلق بأذيال الحياة فلكي ألعنكم واستنزل غضب الأقدار عليكم.

الجميع - (بغضب) سافو (يتجاذبونها كأنهم يحاولون جرها معهم)

فني - دعوني فما عادت تطيب بعد ذلك نفسي للحب. لقد أصبحت أمقتكم جميعاً أيها الاخساء

(تهجم علي لابودري فيضحك ويضحكون)

(يتبع)

محمود خيرت

ص: 72

‌سيوة

تجارة سيوة

يجاور مسطاح البلح الكبير مقام سيدي سليمان، وهو عبارة عن بناء بسيط يحتوي على مقبرة، إلا أن له مكاناً محترماً في قلوب سكان سيوة، ويحيط بهذا المقام بعض قبور أخرى يقال أنها للمقربين إليه من أتباعه، ويعلو المقام سعف نخيل معلقة في نهايته قطع من أقمشة مختلفة الألوان؛ ويلاصق هذا المقام مسجد جلالة الملك فؤاد الأول، وبدأ في بناء هذا المسجد في عهد الخديو السابق عباس باشا، حتى وصل ارتفاعه أربعة أمتار، غير أن العمل وقف فيه لقلة المال وكثرة التكاليف، ثم تم بناؤه في عهد صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول في سنتي1928و1929، وأصبح مسجداً يضارع مساجد القاهرة الكبيرة في كبر حجمه وروعة بناءه. ولقد تحريت عن السبب الذي حدا بالخديو السابق أن يفكر في بناء مسجد كبير كهذا في واحة منعزلة مثل سيوة على الرغم من صعوبة المواصلات وقلة وسائل العمل في الوقت السابق، فروى لي أنه كان يقصد ببنائه أن يكون جامعة إسلامية في الصحراء الغربية، يؤمها السنوسيون وغيرهم لتكون لهم بمثابة الأزهر في وادي النيل، وأنه كان يتصور أن مثل هذه الجامعة تمكن له في قلوب السنوسيين فيفيدوه في الصحراء وقت الحاجة. وعدا هذا المسجد الكبير توجد مساجد أخرى مقامة على نظام المنازل السيوية من الملح والطين، والسقوف من خشب النخيل، ولها مآذن غريبة الشكل، أشبه بمداخن المعامل، وسمك حائطها من أسفل حوالي مترين، ثم يقل سمكها تدريجياً كلما أرتفع بناؤها حتى يصل في النهاية إلى ثلث متر تقريباً

وكان أئمة هذه المساجد يدرسون في الوقت الماضي القرآن للصبيان على طريقة عتيقة غير مألوفة، وهي أن يحفظوهم القرآن من غير أن يعرفوا القراءة والكتابة، ولكن مصلحة الحدود أنشأت مدرسة أولية بسيوة تتبع في تدريسها منهاج وزارة المعارف العمومية، ويؤمها أولاد السكان؛ غير أن الإقبال عليها غير كثير برغم كل تسهيل يقدم للأولاد، وتتساهل المدرسة فلا تطلب من الطلبة إلا أن يلبسوا جلباباً نظيفاً وطاقية نظيفة، على أن معظم الأطفال يحضرون حفاة من غير أحذية، ومع كل ذلك فالرجل يفضل أن يشغل ابنه في الحقل أو الحديقة على أن يعلمه أبسط المبادئ من القراءة والكتابة والحساب، ووصل

ص: 73

الأمر بعناية الحكومة بهؤلاء الناس أن أرسلت أثنين منهم للجامع الأزهر ليتلقوا فيه العلوم الدينية على أحسن الأساتذة، غير أنهما بعد بضع سنين كرها الإقامة في القاهرة ودفعهما الحنين إلى سيوة فعادا إليها ولم يحصلا من العلم إلا قليلا

تتكون السوق في سيوة من بضعة حوانيت متجاورة تبيع كل ما يحتاجه السكان من مختلف الأصناف، وأثمان جميع الحوانيت واحدة، ولذا فلا يهم الشاري أن يشتري من هذا أو من ذاك ما دام الثمن واحداً، وإذا دخلت حانوتاً من هذه الحوانيت خيل إليك لأول وهلة إنك في مخزن بضائع إذ ترى فيه عدة رفوف من خشب قديم وميزان وبعض الأكياس (والمقاطف) فيها دقيق وعدس وفول وسكر، وفي ركن من أركان الحانوت بضعة أثواب من البفتة، ومعلق بسقف الحانوت بضعة مناديل للرجال وللنساء ذات ألوان متنافرة غريبة. وترى في ركن ثان من الحانوت بضع صفائح بها زيت الزيتون وأبسطة من الصوف تنسجها نساء العرب بأيديهن ويبعنها للتجار. ويربح بعض التجار كثيراً من حوانيتهم وبخاصة من بيع البلح وزيت الزيتون، على أن النقود المتداولة في سيوة هي النقود المصرية بجميع أنواعها، ولم أر بها عملة أخرى كما هو الحال في السلوم، إذ إنني رأيت فيها العملة التركية القديمة وبعض النقود الإيطالية متداولة في أيدي التجار والأهالي، وقد أعتاد الأهالي أن يرهنوا حدائقهم وحقولهم لبعض التجار نظير أرباح باهظة، حتى أن بعض التجار يتمادى في الجشع فيطلب من المدين أن يسدد دينه بلحاً وزيتوناً، ولكنه ينص في شروط الرهن على أن يكون سعر البلح والزيتون نصف سعره المعتاد في السوق، وبذلك يكون التاجر قد ضاعف مبلغه الذي أقرضه للمدين زيادة على الأرباح التي ينالها عن مبلغه الذي دفعه للمدين، وفي ظروف كثيرة يقبل المدين كل تلك الشروط الباهظة لحاجته للمال. وقل أن يرى المرء امرأة أمام حانوت من حوانيت البلد، والعادة أن تمر زوجة التاجر أو أمه ببضاعتها على المنازل ليشتري أصحابها ما يشاءون، وما تشتريه النساء عادة. يكون الكحل والحناء وبعض حلي من الفضة: كالدمالج، والأقراط الكبيرة الحجم التي تتدلى أطرافها من الأذن حتى تصل كتفي المرأة أو الفتاة. ثم إنهن لا يلبسن العقود الملونة من حبات متلاصقة كما هو الحال في المدن. بل إنهن يلبسن أطواقاً من الفضة حول أعناقهن بأن يدخلن رؤوسهن فيها. ولذا فهي تباع كثيراً لدى التجار، وأيضاً فإنهن يشترين أحذية

ص: 74

من جلد أحمر رقيق، وملاءات يلتففن بها وقت خروجهن، وهي من قماش قطني ذات خطوط زرقاء تجاورها خطوط رمادية، وهذه الملاءات يحضرها لسيوة أحد التجار المصريين، إذ أن لعمه مصنعاً خاصاً ببلده بمديرية الجيزة، ويشترين أيضاً بعض الأصباغ الخضراء والحمراء والزرقاء، لصبغ سعف النخيل الذي يصنعن منه (مراجين) وسلات وغيرها

وكثيراً ما تبيع زوجات التجار الأحجية والتعاويذ الفضية التي عليها آيات من القرآن الكريم. وقد لاحظت أن النساء لا يحاولن أن يغيرن ملبسهن بأحسن منه، وكلهن في ذلك سواء. وليس في السوق سوى قصابين يبيعان عادة لحم الجمال للأهالي والعرب، ولكنهما مكلفان ببيع لحم الضأن ثلاثة أيام في الأسبوع هي الأحد والثلاثاء والجمعة، وهذا طبعاً ليتمكن الموظفون الحكوميون من أكل لحم الضان. ولذلك لا يذبح القصاب إلا كبشاً واحداً يكفي الموظفين، لأنهم يشترون في الأيام الثلاثة اللحم الذي يكفيهم كل أسبوع.

وأهم ما يشتريه الأهالي من التجار الشاي والسكر فهما عماد الحياة والعمل لدى السيويين والعرب، ولا يمكن أن يستغني عنهما منزل قط، ولاحظت أن إقبال السيويين على شرب القهوة قليل جداً بل يمكن القول بأنه معدوم، وحدث أن أحتاج خادمي بناً لعمل قهوة فبحث في حوانيت الواحة كلها فلم يجد.

يحيك السيويات ملابسهن وملابس أزواجهن وأولادهن بإتقان ودقة، وبعضهن يطرزن ملابسهن بخيوط حريرية مختلفة الألوان، غير أنه يخالف ما ألفناه في القاهرة، وبعض السيويات يغزلن الصوف وينسجنه ويصنعن منه جبباً للرجال يلبسونها وقت الشتاء القارس، وهذه الجبب وأن كانت رديئة المنظر إلا أنها تساعد الرجال على تحمل برودة الشتاء على كل حال.

على أن للسيويين والسيويات طباعاً نراها نحن شاذة لا تتمشى مع ما ألفناه من عادات وأخلاق، وسنأتي على سرد تلك العادات تباعاً إن شاء الله.

كابتن

ص: 75

‌الكتب

كلمة إلى الشبان الطلبة على ذكر كتاب

مرشد المتعلم

ترجمة الأستاذ محمد أحمد الغمراوي

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

كثيراً ما هممت أن اكتب في أمر من أمور التعليم إلى الرسالة الغراء، عالماً أن صدرها الرحب يتسع لذلك البحث لما فيه من مساس بناحية حيوية من نشاطنا، غير أني كنت كلما هممت بذلك قعدت بي معان صدتني عن عزيمتي. فأنني معلم بي ما بصاحب الفن من حب لفنه وانصراف بقلبه إليه. غير أن التعليم مرتزقي، وسبيل الأرزاق غير حبيب، فما يكاد الرجل ينصرف من مضطرب عيشه حتى يود أن يتناسى ما اعتراه في ذلك المضطرب، فتراه يقبل على كل حديث غير حديث فنه، ويحب الخوض فيما يبعد به عن ذكر صناعته. ومع ذلك قد رأيتني أقرأ كتاباً أهداه إلي صديق كريم قد ترجمه عن الإنجليزية إلى العربية، وهو الأستاذ محمد أحمد الغمراوي، فبدأت قراءته لأنه كتاب صديق، ثم رأيتني أسير في قراءته مقبلاً عليه لما فيه، واضمحلت صورة الصديق شيئاً فشيئاً من ثنايا السطور حتى صرت بعد لا أجدها، وصرت أعاود الكتاب لنفسه، وأطلب صحبته وحديثه لما أجده فيه من فائدة ولذة ونشاط.

ذلك الكتاب سفر قيم. أقل ما أصفه به للشبان أن قراءته ضرورة لازمة لهم إذا شاءوا أن يخرجوا من دراستهم على أكبر قسط من الفائدة من وراء جهدهم وعملهم. وإذا كنت أخاطب الشبان بذلك فأني أفعل ذلك لعلمي بأنهم أحوج الناس إلى قراءة مثله، ولكن ليس معنى هذا أن من هم من طبقة أعلى من الشبان سناً قد بعدوا عن أن يجدوا في قراءته فائدة، أو استغنوا عن أن ينتفعوا بما فيه من بحوث طريفة فأني أقول غير مجامل ولا مبالغ أنني قد خرجت من قراءة ذلك الكتاب وقد علمت كثيراً مما كنت أجهل، واستوضحت كثيراً مما كان غامضاً مبهماً عندي، وغيرت كثيراً مما كنت متجهاً إليه، قانعاً به. وفضل ذلك الكتاب لمن يقرؤه من الكبار أنه يوحي إليهم معاني جديدة بما يأتي به، مما قد يكون معلوماً

ص: 76

لهم، فيرى القارئ المعاني تهم في نفسه وهو يقرأ كأنما تلك القراءة تثيرها وتوقدها.

قلت أن الطالب الشاب لا غنى له عن قراءة ذلك الكتاب، وذلك لأنني أعرف أن الطالب الشاب في حياته اليومية يسير سيراً غير مهتد. فلا هو يجد من يهديه ولا هو إذا وجد من يهديه بآخذ عنه نظاماً تاماً شاملاً يستطيع أن يهتدي به في كل جهوده وأعماله على اختلافها. فالطالب يقرأ، ولكنه وهو يفعل ذلك يتجه إلى حيث تدفعه المصادفة أو المثل، وقد يكون موفقاً في طريقته كما أنه قد لا يكون موفقاً، ولكنه على أي حال لا يكون في اتجاهه مرتكناً على أساس قوي علمي. ولا أظن أن بين المعلمين أو أساتذة الجامعة من يجد فرصة في وقت درسه يستطيع أن يرشد الطالب فيها إلى خير الطرق التي يسلكها في دراسته، فإن الوقت مخصص كله لمادة الدروس بطبيعة الحال. ولقد كان من أشد الأمور إيلاماً لنفسي أن أرى في بعض الأحيان بعض تلاميذي وهم ينكبون على دراستهم انكباباً غير موفق إذ يتبعون في ذلك طريقة تجعلهم كمن يحاول السباحة في وجه التيار، فلا هو موفر جهده، ولا هو سالك سبيله. وكنت إذ أرى ذلك أحاول جهدي أن أرشد بمقدار علمي، ولكني كنت لا أستطيع أن أبسط المعنى بسطاً تاماً يستقر في النفس استقرارا متمكناً، ويحيط بالمصاعب من جميع أطرافها. فكنت أتمنى لو أتيح لهؤلاء المساكين كتاب يستطيعون أن يجدوا فيه الهداية.

وما كنت أجد تلك الطلبة حتى أتحف الصديق الغمراوي قراء العربية بكتابه.

يبدأ ذلك الكتاب بمقدمة ككل كتاب في مثل موضوعه، يهيأ فيها المؤلف عقل الطالب إلى أن يدخل على عمله بذهن مفتوح وعقل فاحص يقظ، وهذا هو الفصل الأول وعنوانه (تولى المرء أمر نفسه) ثم يلقي عليه في الفصل الثاني خطة العمل ويسميها (خطة الغزو) يبين له كيف يقسم وقته للمذاكرة والدراسة، وما مقدار الوقت الذي يجب عليه أن يجعله لتلك المذاكرة، وطريقة تقسيم ذلك الوقت على مختلف المواد، وأي المواد يبدأ بمذاكرتها، وأيها يؤجله في ترتيب المذاكرة، ثم يبين للطالب أي الطرق أصلح في توزيع لوقت على الدروس: هل الإصلاح أن يجعل لكل مادة قسطاً صغيراً كل يوم، أو أن يجعل قسطاً أطول من ذلك بين حين وحين، وهو في كل ذلك يستضيء بنور التجارب العلمية الثابتة.

وأسلوبه في ذلك البيان أسلوب حي بديع، فهو يقول مثلاً، (ومن الخطر الكبير في استعمال

ص: 77

جدول المذاكرة الجمود. أن من الصعب أن نفرغ من عملنا في كل مادة في اللحظة التي يحل فيها وقت مادة أخرى، وقد يخطر لنا تخلصاً من هذه الصعوبة أن نفرد كل ليلة في نهاية المذاكرة حصة صغيرة، قل خمس عشرة أو عشرين دقيقة نجعلها كزمن احتياطي ننهي فيه أي شيء صغير قد نكون اضطررنا إلى إغفاله في أية حصة عادية من حصص المذاكرة، لكن هذه الخطة محفوفة بالمخاطر.) وهكذا يسير بالطالب حتى يستقر معه على خير الخطط وأوثقها.

ومن خير ما جاء في هذا الفصل ما كتبه على التعب وماهيته في المذاكرة، وطرق التغلب عليه أو تقليل ضرره.

وفي الفصل الثالث بحث طريف في (تصريف الذاكرة) وطرق الحفظ، ويليه في الفصل الرابع بحث آخر في مثل طرافته في (طبيعة الدراسة والتفكير) والفصل الخامس بيان (طريقة المذاكرة) وهو بحث عملي لا يستغني عنه الطالب، وقد أفاض فيه المؤلف إفاضة أحاطت بالموضوع من أطرافه

وأجد نفسي ضنيناً بأن أترك باباً من أبواب الكتاب لا أكتب عنه كلمة، بل أجد نفسي ميالاً إلى أن انقل إلى القارئ منه نموذجاً لعله يعرف أي قول فيه وبأي أسلوب، غير أني أعود إلى نفسي فأذكر أنني إنما أنوه بكتاب رأيت فائدته، على صفحات مجلة قد لا تتسع لكل ما أريد ذكره من ذلك. ولكن لابد أن أنوه بالفصل الثامن الذي يعالج فيه المؤلف (الإصغاء وأخذ المذكرات) فإن هذا الفصل يسد حاجة ماسة عند طلبة المدارس ولا سيما طلبة الجامعة والمدارس العليا

وقد أضاف المعرب فصلاً بعد الفصل العاشر ألحقه بالفصل السابع وجعل موضوعه (كتب المراجعة في اللغة العربية). والحق أن هذا الفصل بحث عميق في تراثنا اللغوي والعلمي، وفق فيه المعرب كل التوفيق، وأصاب في أضافته كل الإصابة، وقد تناول فيه أمهات المراجع العربية بالوصف والتحليل فكان فصله دليلاً يرجع إليه من شاء المراجعة في تلك الأمهات ليهتدي إلى أيها شاء.

فأزف إلى الأستاذ المعرب إعجابي الذي لا حد له بذلك الكتاب وأرجو أن ينتفع به أبناؤنا في جهادهم العلمي، وأوصي من يطلع على كلمتي هذه من الأخوان أن يصفوه لمن حولهم

ص: 78

من الأبناء، ففيه خير عون لهم ونعم الهادي.

محمد فريد أبو حديد

جولة في ربوع الشرق الأدنى

للدكتور عبد الوهاب عزام

سمعت بسياحات الأستاذ محمد ثابت، فأعجبت به واغتبطت، أن كان من المصريين سياح يجوب الآفاق إلى أقصى الأرض ليرى ويصف، ويقص على أمته من أنباء الأمم الأخرى. ولم يتح لي أن اطلع على ما كتبه هذا الرحالة المصري إلا الأسبوع الماضي، إذ اطلعت على كتابه (جولة في ربوع الشرق الأدنى) وقرأت ما كتبه عن العراق وإيران، فإذا الرحالة الهمام يعوزه العلم والتثبت في مواضع كثيرة، وأنا أربأ به أن يكون كبعض سائحي الأمريكان؛ يقدم واحدهم إلى القاهرة فيرى في ساعات قليلة الأهرام والأزهر والقلعة ومسجد السلطان حسن، وخان الخليلي، ويرى في الشوارع أناساً لا يعرف وجوههم ولا يفهم لغتهم، ولا يفقه عاداتهم ثم ينقلب إلى أهله فيكتب أو يحدث عما يضطرب في رأسه من خوفو باني الأزهر، وجوهر الصقلي مشيد الأهرام، والسلطان حسن مؤسس القاهرة وهلم جرا!! ثم يتحدث عن أخلاق المصريين وتأثير تاريخهم وجوهم في هذه الأخلاق

إنما يراد بالرحلات المشاهدة، والعلم عن عيان، وبحث بعض الأمور في مواطنها وإفادة علم جديد، أو إبطال وهم قديم، أو التثبت من رواية شائعة. وأما أن يطوف الإنسان بالبلاد مسرعاً كراكب القطار يخيل إليه أن الأرض والجبال والشجر سائرة وأن السيارة التي تجري إلى جانبه واقفة فذلك قلب الحقائق أو تشويهها، وتلك سبيل علمها شر، وجهلها شر.

وأحسب رحالتنا أعتمد في بعض ما كتب على كتاب من الأدلة الأوربية، وبهذا يفسر كثير من الغلط والتحريف في الأسماء، وتاريخ الحادثات الإسلامية بالتاريخ الميلادي، ونحن معشر المسلمين، يكذب علينا كتاب أوربا ويفترون على ديننا وتاريخنا وأخلاقنا، ويسيئون بنا الظن إساءة تقلب حسناتنا سيئات. فينبغي للسائح المسلم ألا يشركهم في ضلالاتهم، فيكتب كل ما يسمع غير متثبت، ولكن الرحالة المصري المسلم لم يتوق الغلط والغلوا مع نية حسنة وقصد سليم. وأصل البلية أن الأمم الإسلامية قد تقطعت بينها الأسباب، وجهل

ص: 79

بعضها بعضاً إلا ما يقرءون في كتب الأوربيين، فصار المصري إذا رحل إلى العراق وإيران وتحدث عن أخلاق أهليها ومذاهبهم، فإنما يقص عن بلاد مجهولة لم يعرف ماضيها ولا حاضرها، على قرب ما بين الأمم الإسلامية وكثرة ما بينها من أواصر، وسهولة تفهم أحوالها ودرس تاريخها.

وفيما يلي نماذج من الأغلاط التي وقع فيها المؤلف:

من الغلط في بديهيات التاريخ الإسلامي قوله أن الحسن بن علي رضي الله عنه فر من العراق وقتل، وإن الحسين قتلته جنود معاوية، وقوله إن بلاد الفرس فتحها المسلمون في ستين عاماً، وجعله معاوية بن أبي سفيان فر من خالد بن الوليد في قيادة الفتوح أيام عمر، وقوله عن خلافة عثمان بن عفان (ثم جاء عثمان وقتل عاجلاً) كأنه لم يل الخلافة إحدى عشرة سنة، وقوله في أثناء الكلام عن الحجاج:(وكان زياد في البصرة) كأن زياداً والحجاج وليا العراق في وقت واحد، وبين موت زياد وولاية الحجاج زهاء عشرين سنة، وقوله أن خالد بن الوليد صلى في جامع همذان، وقوله إن الفرس رأوا في العباسيين أعداءهم فحاربوهم بالتشيع، وهذه كما يرى القارئ أغلاط كنا نربأ بالأستاذ أن يقع فيها.

ومن التحريفات كتابته مدينة هيرات بالياء. ونصر الدين شاه بدل ناصر الدين بالألف. وجبل الفند، ودمافند. وكرفان سراي بالفاء بدل الواو في الكلمات الثلاث. وقصر جولستان بالواو بعد الجيم. وهذا تحريف النقل من الكتابة الإفرنجية وأشنع من هذا أنه قال عن الإيرانيين اللذين سافروا معه إلى مشهد إنهم كانوا يصيحون بين الحين والحين:(لا هم سل إلى مهمد آلي مهماد) فهل عرف الرحالة المدقق أن هذه الكلمة التي سمعها هي (اللهم صل على محمد وآل محمد) فإن كان قد عرفها فلماذا لم يفسرها بالكتابة الصحيحة، وإن كان لم يعرفها فلماذا لم يسأل عنها؟ وأفضع من هذا كله قوله عن إخواننا شيعة إيران أنهم يفضلون مشهداً على مكة. وكيف يعقل أن أمة مسلمة شديدة الغيرة على دينها تعتقد أن الحج إلى مكة فرض وقاعدة من قواعد الإسلام - كيف يعقل أن هذه الأمة ترى زيارة مشهد أفضل من الحج إلى مكة؟ ربما بالغ عامة الإيرانيين في تعظيم مشهد وغيرها من المزارات الشريفة كما يبالغ عامة المصريين في تعظيم مسجد سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي، ولكن عمل العامة لا تفسر به عقائد الأمة. وهذه كتب الشيعة بين أيدينا

ص: 80

تنطق بخلاف ما زعم الكاتب، ولست أنسى غضب إخواننا شيعة العراق من قول بعض أساتذتنا: إن الشيعة الأمامية يتبرءون من الشيخين، ولست أنسى عتب أحد علمائهم في بغداد، ولا عتب السيد الحجة محمد الحسين آل كاشف الغطاء حينما شرفنا بزيارته في النجف فقال: لماذا تكتبون عنا ولا تقرءون كتبنا. لقد كان عتاب الأخ للأخ يود ألا يكون بينهما من الغلط ما يكدر صفو الأخوة الإسلامية، وقد اعتذرنا للسيد يومئذ واعترفنا بتقصيرنا في الاطلاع على كتب أئمة الشيعة. وأنا اعتذر هنا مرة أخرى عن الرحالة محمد ثابت واثقاً بحسن نيته، وإن كان حسن النية لا يعد عذراً كافياً لمن لم يتحر الحق في كلامه.

وفي الكتاب أغلاط أخرى، أرجو أن يتوقى أمثالها في رحلاته المقبلة.

وإنني لراج أن يتم التعارف بين الأمم الإسلامية، حتى لا يكتب بعضها عن بعض إلا عن علم وروية، وتثبت وإنصاف، والله ولي التوفيق.

عبد الوهاب عزام

التجديد في الأدب الإنجليزي الحديث

تأليف الأستاذ سلامة موسى

للأستاذ سلامة موسى في خدمة الأدب العربي المعاصر همة تذكر فتشكر، فهو ما ينفك يتحف جمهور المثقفين بأبحاثه الطريفة على صفحات مجلته الغراء وغيرها من الصحف ومن آثاره الأدبية الأخيرة كتابه هذا عن التجديد في الأدب الإنجليزي ويقع في نحو مائة صفحة من القطع الكبير. شرح الأستاذ الحركة الفكرية في العصر الفيكتوري، ثم تكلم عن بعض المذاهب الأدبية في ذلك العصر، وذكر بعض الأجانب وأثرهم في الأدب الإنجليزي. كذلك ذكر اثنين غيرهما وجارى ماكس نورداو في تسميتهما المنحطين وهما: والتر باتر وأوسكار وايلد، ولخص مذهبهما في أنه ينحصر في الدعوة إلى الجمال بلا اعتبار للأخلاق أو العرف،

ثم ترجم الأستاذ لبعض أعلام الأدب الإنجليزي مثل كبلنج وهو في رأيه شاعر الاستعمار، وبرناردشو ودارون وولز وجالزورثي وغيرهما، ولقد تعرض لمذاهبهم وفلسفتهم في دقة

ص: 81

ومهارة. ولقد يبدو موضوع الكتاب غريباً عند من لم يكن له إلمام بالأدب الإنجليزي، والحقيقة أنه نافع لكل مثقف فهو يدرس حركة فكرية، والحركات الفكرية وثيقة الصلة بالحياة، ومن ثم فأنت تقرأ في هذا الكتاب ملخص الحياة الاجتماعية في إنجلترا منذ عام 1830، بيد أن الأستاذ المؤلف يغالي في بعض آراءه مغالاة تنتهي بأحكام لا يمكننا أن نمر عليها دون أن نعارض الأستاذ فيها، وخصوصاً لصدورها من أديب نابه كالأستاذ سلامة موسى. فهو ينعت العصر الفيكتوري ما بين 1830 و1900م بأنه عصر خمول في الأخلاق والأدب، مع انه من أرقى عصور الأدب الإنجليزي وأحفلها بالحركات والاتجاهات الأدبية الجديدة، بلغت فيه المدرسة الرومانتيكية غاية نموها وتطورها، وتعددت فيه مذاهب الكتاب وأتسع الأدب في نواح عديدة كالقصة والشعر والتاريخ وأدب المقالات وغيرها. يتجلى ذلك في شعر الشعراء اللذين افتتحوا هذا العهد ولم تمهلهم المنية كشلي وبيرون وفي شعر غيرهم ممن عاشوا بعدهم كورد ثورث وتنسن، كما يتجلى في قصص سكوت العديدة وقصص شارلز دكينز العظيم وثكري ومن ذهب مذهبهم أو خالفهم من القصصيين، كما يتجلى في كتابات ماكولي وكارلي ورسكن وغير هؤلاء وهؤلاء ممن ارتفعوا بآدابهم إلى درجات المجد، وما التجديد الذي يشير الأستاذ إلى ظهوره في عام 1900 إلا ثمرة من ثمار العصر الفكتوري الناهض، وأنك لتلمس أسبابه في حركات ذلك العصر وترى هذه الأسباب واضحة في كتاب الأستاذ نفسه مما يتفق مع وصفه هذا العصر بالجمود. لذلك لا أستطيع أن أشايع الأستاذ في قوله إن الأدب الإنجليزي قد أتجه طول مدة القرن التاسع عشر نحو الصياغة اللفظية دون التفكير و (الاقتحام)، هذا مع احترامي لآراء الأستاذ الفاضل ومزيد إعجابي بطريقته في عرض آرائه وثقافته الواسعة، فهو كما يتجلى وفي كتابه هذا وفي سواه من مؤلفاته العديدة يعتبر بحق مثالاً للأديب العصري المثقف

محمود الخفيف

ص: 82