المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 590 - بتاريخ: 23 - 10 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٩٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 590

- بتاريخ: 23 - 10 - 1944

ص: -1

‌التفكير المذهبي

للدكتور محمد مندور

هناك نوعان من التفكير المذهبي: تفكير تفسيري، وآخر إنشائي. فالمؤرخ الذي يحاول تفسير التاريخ وتطوره وفقاً لفكرة موحدة جامعة، يفكر تفكيراً مذهبياً، فيقول مثلاً: إن تغير وسائل الإنتاج وحلول الآلة محل الأيدي قد غير من توزيع الطبقات الاجتماعية ونقل عقلية الشعوب، وهذا هو التفكير التفسيري. والسياسي الذي يقول بوجوب فصل السلطات الثلاث تنفيذية وتشريعية وقضائية وتحديد علاقاتها بحيث لا تبغي سلطة على أخرى، ويرى في ذلك ضماناً لصلاح الحكم، يفكر تفكيراً إنشائياً ويدعو إلى المذهب الذي يؤمن به

ولقد كنت دائماً شديد الحذر من التفكير المذهبي في مجال التفسير لما لاحظته من أن المذهب عندئذ لا يمكن أن يفلت من الضيق والتحكم. فالمؤرخ في مثلنا السابق لابد متعسف في عرضه، والناظر الحر التفكير لا يمكن أن ينكر أن تغير وسائل الإنتاج لم يكن بحال العامل الوحيد في تطور الإنسانية؛ فثمة النشاط العقلي وتوليد الأفكار وإرادة البشر ونزوعهم إلى المثل وظهور كبار القادة، وما إلى ذلك مما يعمل في التاريخ قدر ما تعمل وسائل الإنتاج أن لم يفقها.

وأنا على العكس من ذلك شديد الحماسة للتفكير المذهبي في مجال الإنشاء والدعوة، ولقد زادني إيماناً بهذا النوع من التفكير ما ألاحظ اليوم من تشتت الأخلاق السياسية والاجتماعية بمصر، وأخشى أن يكون بالشرق كله تشتتاً يملأ النفس حزناً، حتى ليصبح بالقلب أمل أننا قد نستطيع علاج هذا المرض النفسي المدمر إذا حاولنا جمع النفوس حول الأفكار المذهبية

وأنا بعد لا أجهل ما في المذاهب الإنشائية بالنسبة لبلادنا من مشقات وأخطار، فنحن بعد لازلنا بظاهر الحضارة نقرع أبوابها، وجانب كبير من حياتنا لا يزال محاكاة لحياة الغرب. وما يستطيع عاقل أن يقول أننا قد وصلنا من النضوج إلى حد الأصالة. وموضع الخطر هو أن نحسب مذاهب الغرب كما هي صالحة لبلادنا مضمونة النجاح فيها. ثم إن كل تفكير إنشائي لابد مصطدم بالكثير من حقائق الواقع عندما تستجيب له النفوس فتأخذ في تطبيقه. وهنا تظهر الصعوبات، إذ ترى النفوس متعصبة لما تؤمن به، وشهوة الفكر لا تقل عنفاً عن شهوة الحس، ويأتي الواقع فيستعصي، وإذا بالتنافر في العمل وتبلبل الحياة العامة.

ص: 1

هذه لا ريب صعوبات حقيقية، ولكنني مع ذلك لا أتردد في الدعوة إلى التفكير المذهبي في حياتنا العامة، ومن البين أن البلاد قد أخذت تتهيأ له في كافة نواحي نشاطها سياسية واجتماعية وثقافية. وكل ما تحتاج إليه لتخطو الخطوة الأخيرة هو التوجيه القوي من رجال، وبالأصح شباب ناضج على خلق وكفاية. وأكبر ظني أننا عما قريب سنمل سخائم الأشخاص وتخبط الشهوات وتحلل الأخلاق؛ فترتفع قلوبنا إلى مستوى التفكير المذهبي الذي ندعو إليه

وليس من شك في أن خير المذاهب الإنشائية ما نستمده من رغبات النفوس، فالسياسي الحكيم هو من يتحسس اتجاه مواطنيه، والشعب بغريزة الحياة يلتمس دائماً مخرجا من محنه؛ فما علينا إلا أن نبصره بذلك المخرج جامعين آماله حول فكرة موحدة نستمد منها مبادئ العمل. ولابد لنا من أن نروضه على ما ندعو إليه حتى يستقر بوعيه أن الخير لابد آت مما ارتضاه من نظام، ولنضرب لذلك مثلاً بنظام الحكم في بلادنا: ملك دستوري نرى فيه رمز الوطن وعزته ونضعه جميعاً موضع التقديس، حريصين على أن تظل ذاته بعيدة كل البعد عما نقتتل حوله من مبادئ الحكم ووسائله؛ وحياة نيابية وضعنا أسسها وفقاً لخير الدساتير. وتلك فكرة لاشك أن الأمة مجمعة عليها اليوم. ولكنك لو أنعمت النظر لوجدت أن هذا الإجماع لم يتغلغل بعد في إيمان الشعب ولا استقرت فوائده بنفوسهم ولا أدل على ذلك من انعدام ثقة الأمة بالانتخابات ونتائجها. ولعل في موقف أغلبية الناخبين - وبخاصة المثقفين منهم - من تلك الانتخابات أكبر دليل على صحة ما نقول. فما لقيت أحداً من مستنيري العقلاء إلا أخبرني أنه لم يشترك في الانتخابات طول حياته مرة واحدة، بل ولا يعلم أهو مقيد بجداولها أم لا، وتلك حالة تستحق النظر لأننا نخشى أن تدل على أن النظم قد سبقت إيمان الشعب وعقليته. ومن هنا أما يكون من الواجب أن نأخذ الأفراد بالقسر فنرغمهم على استعمال هذا الحق بل النهوض بهذا الواجب، فنجعل التصويت إجبارياً كما جعلته إسبانياً عندما كانت حديثة العهد بالنظم النيابية، وإلا فما فائدة نظام لا يتمتع بثقة ولا يتعلق بإيمان، ثم ما عمل القادة أن لم يروضوا الأفراد على ما فيه خيرهم؟

وأنت لابد ملاحظ نفس الظاهرة في الحياة الاجتماعية؛ ومشكلتنا الكبرى اليوم هي توازن الطبقات الاجتماعية، ولا يستطيع أحدنا أن ينكر أن بالأمة قاطبة نزوعاً إلى عدالة أتم

ص: 2

ومساواة أحكم مما نحن فيه الآن. ولكنك تنظر فترى التبلبل في وسائل ما يحقق هذا النزوع، وقد أتلفت الشهوات حقائق الأشياء. فالخصومات السياسية وبالأصح الخصومات الشخصية قد أوشكت أن تعمي عن الأمة الحقائق. ونحن في الواقع أمام ثلاث مشاكل لكل منها حلها الواضح: مشكلة الاستغلال السياسي، ومشكلة أثرياء الحرب، ثم مشكلة الظلم الاجتماعي المزمنة المتأصلة، وتلك الأخيرة هي التي يجب أن يجتمع حولها تفكيرنا المذهبي، وأما الظاهرتان الأخريان فعارضتان، ومن حق أمة تحترم نفسها أن تحسمهما بالعمل العادل لا بالتلطيخ المزري. فإذا كان هناك استغلال سياسي قد حدث فأمامنا قضاة ومستشارون لا زالت الأمة تأمل فيهم الخير ومن حقها عليهم أن يقولوا في هذا الاستغلال رأيهم فإما براءة وأما إدانة، وفي كلتا الحالتين ستبرأ كرامة هذه الأمة البائسة. ومن الواجب أن نذكر الجميع بأن الاستغلال السياسي لا يمكن أن يكون السبب الوحيد في إثراء البعض وافتقار الآخرين فنحن الآن في حرب عالمية طاحنة قد غيرت من كافة وسائل الإنتاج والتجارة، وفي جميع أنحاء العالم وفي جميع أطوار التاريخ قد صحبت الحروب دائماً أكبر الاضطرابات الاجتماعية، فآلاف من الصناع والتجار بل والعمال قد أثروا دون أن تكون لهم بهذا العظيم أو ذاك صلة قرابة أو نسب، ونحن بعيدون عن أن ندعو إلى الرفق بهؤلاء المثرين الذين امتصوا دماء الشعب، ولكننا ندعو إلى إجراءات عامة تتناول الجميع كما يفعلون بالبلاد المتحضرة بدلاً من أن نقف عند شخص أو أشخاص بذاتهم متخذين منهم هدفاً لصغائر أحقادنا. إن من حق هذه الأمة أن يحاسب جميع أثرياء الحرب عن ثرواتهم وأن يرد ما اكتسب منها بغير وجه مشروع إلى خزانة الدولة. ولا يرهبنا في شيء أن ننادي بفرض ضريبة مستغرقة على رؤوس الأموال التي جمعت أثناء هذه الحرب، وأما ما سمعناه من فرض ضريبة على الأرباح الاستثنائية فتلك في الحق مهزلة. الواجب هو أن ترد رؤوس الأموال ذاتها لا أرباحها الخارقة، ترد من الجميع، لا من هذا الوجيه أو ذاك فحسب، وذلك أكرم على هذه الأمة وأعدل في النظر الإنساني السليم مما نغرق فيه اليوم من مهاترات. وهاتان المشكلتان بعد عارضتان كما قلنا، وما ينبغي أن تصرفانا عن المشكلة الكبرى، مشكلة العدالة الاجتماعية بين الطبقات. فهذه هي الفكرة المذهبية التي لابد للأمة من التعلق بها، وسبيل علاجها أيضاً هو التشريع وإصلاح نظامنا المالي والأخذ فيه

ص: 3

بنظام التصاعد، ومما يحزننا ألا تقتصر محنتنا الحاضرة على إتلاف سياستنا القومية، فتصرفنا عن الجهاد في سبيل استقلال الوطن وتحريره تحريراً صحيحاً إلى محاربة بعضنا بعضاً بكافة السبل، حتى أصبحنا جميعاً كفيران في مصيدة حارسها لا يجهله أحد، وكل من ثارت نخوته سنة 1919 يعرف اليوم في حزن أننا جميعاً على ضلال. نقول إن محنتنا الحاضرة لا تقتصر على هذا التلف القومي المحزن، بل تمتد أيضاً إلى حياتنا الاجتماعية فتصرفنا عن التفكير في مشكلتنا العميقة، مشكلة العدالة الاجتماعية إلى مشكلتي الاستغلال والإثراء العارضتين، وبذلك تنحرف أيضاً بتفكيرنا المذهبي عن هدفه الحقيقي

والأمر في حياتنا الثقافية مثله كمثل حياتنا السياسية والاجتماعية سواء بسواء، فمن الناس وهم كثير من لا يزال يزج بالنعرات القومية والدينية في مجال الثقافة ليتلف علينا حياتنا عن جهل، فتسمع مقابلات عجيبة بين روحية الشرق ومادية الغرب، كان الغرب لا روح فيه والشرق لا مادة به. والمشكلة الحقيقية ليست مشكلة ثقافة الشرق وثقافة الغرب، وإنما هي مشكلة الثقافة أو الجهل، وهذه أيضاً فكرة مذهبية يجب أن يستقر عندها ضمير الأمة حتى تستقيم لنا الحياة. هنالك ثقافة إنسانية موحدة نشأت في الشرق، ثم انتقلت إلى الغرب الذي احتضنها دون أن يستنكف من صدورها عن غيره. ثم نأتي اليوم نحن الحمقى فنجادل جدلاً عقيماً في وجوب استردادها منه أو رفضها. ومن عجب أن ترانا جميعاً آخذين في هذا الاسترداد بالفعل، ومع ذلك نجادل في هل نحن على حق أو باطل، إن كنا على باطل فلنتخل إذن عن جميع مظاهر الحياة المادية التي تحوطنا من جميع النواحي، فكلها غربية، بل لنتخل عن مدارسنا وجامعاتنا ومناهج بحثنا، ولنرجع إلى (الكتاب) والحفظ عن ظهر قلب، ولنستمر في (العنقلة) ومناقشة الألفاظ كما عهدها الأزهر القديم وفي هذا المجال أيضاً تعمل أمراض النفوس وعقدها ومركباتها المختلفة أسوأ العمل، فالجاهلون بلغات الغرب يرون أنفسهم محرومين من وسائل التحصيل وإذا بالعجز يرتدي في نفوسهم أزهى الأثواب، فيناهضون ثقافة الغرب زاعمين أنها مخالفة لروحنا مدمرة لأصالتنا، وهم مع ذلك لا يتعففون عن أن يأخذوا بما يصل إليهم من فتاتها

لقد حان الحين لأن يستقيم تفكيرنا على أساس مذهبي يرتفع بقلوبنا عن حزازات الأشخاص ومهاترات الشوارع. لقد حان الحين لأن يلقى النفر المثقف منا ثقافة حقيقية

ص: 4

بنفسه إلى المعركة، فبئس مواطن يستحوز على قلبه اليأس. بئس مواطن يغطي يأسه بتعال حقير. الوطن ملك لنا جميعاً كما كان ملكاً لآبائنا وكما سيكون ملكاً لأبنائنا، ومصائره اليوم معلقة في الخارج وفي الداخل وأهول ما نخشاه أن ننصرف عن أهدافنا الحقيقية إلى صغائر الأمور

محمد مندور

ص: 5

‌فوضى الأدب في مصر

للدكتور محمد صبري

تكلمت في مقال سابق عن التبعة التي تقع على عاتق مجلاتنا الأدبية الكبرى، من جراء تيسير نشر مقالات (لكتاب) معروفين بالفهم السقيم والغباوة. وقد خشي قوم أن نرمي إلى الحد من حرية النقد، والواقع أنه لا نقد في مصر

قد نقرأ في الصحف من آونة لأخرى مقالاً قيماً مفعماً بالرزانة والاعتدال، وسطاً بين الإفراط والتفريط، ولكن الشاذ لا يمكن اتخاذه قاعدة في الحكم على الأشياء. وقل أن تجد كاتباً في نقده الكتب يدرسها ويحللها كما يفعل كتاب الغرب. وأكثر ما نرى الإفراط في المدح تارة، وفي الذم طوراً. ومن الغريب أن كتابة أولئك النقاد لا يمكن (مناقشتها) لأنها لا تستند إلى منطق من الذوق أو الفهم، وإنما تستند إلى شهوة تدفع صاحبها إلى الكتابة إرضاء لغاية شخصية أو إرواء لغلة حسد أو حقد تأكل صدره

وخير لأولئك النفر أن يريحوا أنفسهم قليلاً فانهم لن يبلغوا الجبال طولاً، ولن يخرقوا السماء أو الأرض بقلمهم، ولن يقف الفلك الدوار من جراء ما يكتبون

وفي مصر (كتاب) كثيرون يتوهمون أنهم في مقدورهم أن يأخذوا الشهرة غلاباً، وأن يسخروا التاريخ لتسجيل ما تكتبه عنهم الصحف، أو ما يكتبونه هم عن أنفسهم في الصحف، وما ينتحلونه من صفات، كأن يدعوا أنهم من (كبار) الكتاب. وإني لأذكر بهذه المناسبة أن ممثلاً أعلن عن نفسه مرة أنه (الممثل العالمي) وأعلن عن شوقي في الوقت نفسه أنه (شاعر النيل). ولما كان العالم يسع النيل والسين والطونة والرين ومئات الأنهار والبلاد أخذت شخصية شاعرنا تتضاءل شيئاً فشيئاً، بينما وقف الممثل كالمارد الضخم يطأ بإحدى رجليه المشرق وبالأخرى المغرب. . .

وقد وقع كثيرون من رجال السياسة في عين الخطأ الذي وقع فيه بعض رجال الأدب، فأصبحوا يعتقدون أن الدعاية هي كل شيء، وأنها (تصنع) التاريخ كأنما كان التاريخ عبداً (نلقنه) ونأمره بكتابة ما نريد فيطيع. . . ناسين أن التاريخ هو أمس واليوم وغداً، وإن الفلك يدور، وأنه في دورته يغربل الحوادث والرجال، ويضع الأمور في نصابها، وأن حياة الأمم مكونة من أجيال فإذا ظلم جيل أنصف جيل، وأن الناس متباينون في طبائعهم

ص: 6

ومذاهبهم، وأن هذا التباين نعمة لا نقمة لأنه يكفل نظام البقاء ويمنع الاستبداد بالحياة والشهرة واحتكارهما واغتصاب العظمة وما إليها

ولاشك أن الذوق الأدبي قد ارتفع مستواه في مصر، ولكن مصر يعوزها ذلك الجمهور المستنير الذي يزين بلاد الغرب، وبعبارة أدق وأبين أن أكبر نقص يعتور حياتنا الاجتماعية هو عدم وجود نخبة وافية من رجال العلم والأدب والسياسة وهو ما يسمى هذا فيما يتعلق بالقمة، أما فيما يتعلق بالقاعدة فيلاحظ عدم وجود طبقة متوسطة. وكل حياة سياسية أو أدبية لا تستند إلى هذه النخبة وإلى تلك الطبقة، فهي حياة مختلة التوازن

فعدم وجود النخبة الكثيرة العدد مثلاً يفسح للمجال أولاً للتحاسد والنزاع بين الأفراد بعضهم وبعض في دائرتهم الضيقة المحدودة، ويفسح للأدعياء طريق التسلل في قطرهم وقلب المقاييس والأوضاع

وكلنا نذكر أن زعيماً كبيراً مرض ذات يوم، وكان مرضه مرض موت، فهرع إليه من الأطباء الحابل والنابل والصغير والكبير. . . وكانت دقة الحالة تستدعي بالطبع أن لا يذهب إليه إلا الراسخ في صناعته المقدم على أهلها، وأن يتنحى الصغير للكبير عن مكانه دون النظر إلى رتبة يحملها أو لون سياسي يتباهى به. وسبب هذه الفوضى هو كما قلنا عدم وجود نخبة وافية من الأطباء تؤلف كتلة متزنة في نظامها

وهذه الفوضى نشاهدها في الأدب كما نشاهدها في الطب ونشاهدها في جميع أنواع الحياة العامة في مصر. والعجيب أن الأدعياء يجدون صحفاً ومجلات تنشر لهم. والأدعياء في مصر فريقان: فريق المتأدبين الأغبياء الذين يحاولون الوصول بكل الوسائل ظناً منهم أن مجرد الحصول على (شهادة) أو مجرد تأليف كتاب أو ألف كتاب يكفي لاكتسابهم صفة الأدباء. وفريق الأدباء الذين وصلوا بطرق ملتوية إلى الشهرة واغتصبوها اغتصاباً، فألئك يزعجهم ويقض مضاجعهم أن يتنفس أو يتكلم كل أديب صادق النسب، فهم لا يفتأون يتقلقلون ويتململون وراء ابتسامتهم الصفراء

فالأديب في مصر لا يجد عوناً من أهل صناعته، ولا يجد عوناً من الجمهور، لأن الطبقة المستنيرة لا تعد إلا بالمئات في حين أنها في البلاد الغربية تعد بمئات الآلاف. . . بل ولا يجد عوناً من أصحاب المكاتب والناشرين، فأكثر الأخيرين أميون أو شبه أميين لا يهمهم

ص: 7

من نشر الكتب إلا الربح والتجارة ولو ظهرت الكتب مشحونة بالأغلاط ممسوخة. . . وقد عرض أحدهم على مؤلف قبل الحرب أن يطبع له كتاباً ويعطيه خمسة جيني!

وأكثر كتبنا تباع في بلاد الشرق والأقل منها يباع في مصر. وأكثر الكتب رواجاً هي بلا شك الكتب الدينية. . .

وتجد الجمعيات المستشرقة في أوربا أكبر عون في حكوماتهم لطبع الكتب العربية النادرة، ولذلك فإن أهم دواوين العرب وآثارهم. كان أول ظهورها في أوربا، وأوربا هي التي أحيت آدابنا ونشرتها نشراً علمياً، هذه حقيقة مؤلمة تجب مواجهتها

وفي مصر لا تتألف جمعية علمية أو مجمع أو معهد ثقافي أو لجنة استشارية إلا ويصبح فيها أصحاب الأبهات والمناصب أكثرية، ورجال الفن أقلية، والظل الأعوج يتبع العود الأعوج.

محمد صبري

ص: 8

‌ثقافة أبي تمام وأثرها في تعقيد شعره

للأستاذ دريني خشبة

منذ عهد قريب كنت أقرأ ذلك الكتيب الصغير الذي كتبه جلبرت موري عن بطل الدرامة اليونانية الأشهر يوريبيدز فلفتت نظري عبارة عجيبة للمؤلف نسب فيها انصراف اليونانيين عن شاعرهم العظيم الخالد وقلة احتفالهم بفنه المسرحي من وجهتيه الشكلية والموضوعية إلى جملة أسباب كان أهمها (وضوحه)، ووصوله بسرعة إلى إفهام النظارة!. . . ثم تكلم موري بهذه المناسبة عن الأمة الإنجليزية، فذكر أن الإنجليز مثل اليونانيين القدماء، يكرهون أن يكون الشاعر واضحاً، ويؤثرون أن يكون في الشعر بعض الغموض، أو كثير من الغموض، الذي يستثير العقل ويحفزه إن كان خادماً، ولا بأس أن يعنيه، بل أن يضيفه أحياناً، أما الشعر العادي - يقصد الواضح السهل الذي لا يجشم القارئ نصباً - فهو أسخف ألوان الشعر في نظر هذه الأمة العجيبة التي أمدت العالم بخير شعرائه المحدثين. . . وافتخر المؤلف بأن الإنجليز قراء مهرة، وانهم سريعو الإدراك. أو: - كما يعبر هو، فالشاعر الذي يكفيهم مؤنة التفكير في شعره بجعله واضحاً، أو بإسرافه في جعله واضحاً هو أسخف الشعراء في نظرهم، لأن شعره هذا السهل المشرق الصافي ينيم أذهانهم ولا يكدها. . . وهم يكرهون ألا تكد أذهانهم بما يقرءون. . . ثم يتظرف موري فيقرر أنه ما على الشاعر إلا أن يغمض في شعره بعض الغموض، أو كل الغموض، ليخدع هؤلاء الإنجليز عن أنفسهم - وربما عن نفسه! - وليفوز بينهم بالمكانة العليا، ومنزلة الشاعر العبقري!

أما عندنا، فنحن نضيق بالشاعر الغامض ونلعنه. . . ويظهر أن في طبيعة أمزجة الشعوب العربية ما يحبب إليها اليسر والمرح، ويزهدها في العناء في التفكير. . . وذلك لأن طبيعة البيئة في أوطان تلك الشعوب سهلة غير معقدة، شأنها في اليونان وفي إنجلترا، حيث اختلاف المناظر وكثرتها وتعقيدها أحياناً يورث اليونانيين والإنجليز مزاجاً أعمق وتفكيراً أهدأ، وأشد غوراً، فلا يضيقون بالغموض في شعر شعرائهم، بل يغرمون به، في حين يضيقون بالشعر السهل الواضح الذي لا مجال فيه لإعمال الفكر، ويعدونه شعراً سخيفاً قليل الخطر منخفض الدرجة.

ص: 9

ولست أعلل ثورة دعبل وابن الأعرابي والآمدي ومن إليهم ممن قدحوا في شعر أبي تمام وعابوه بالغموض، والبعد عن عمود الشعر العربي إلا بطبيعة هذا المزاج المشرق المرح، الذي يستمد كيانه من طبيعة بيئة الشعوب العربية. . . ويتجلى ذلك المزاج في تحمس الآمدي للبحتري، في كتابه (الموازنة بين أبي تمام والبحتري)، وتفضيله شعر البحتري لسهولته ووضوحه وإشراقه، والتواء شعر أبي تمام وتعقده وغموضه، وثورته على طبيعة الفهم العربي الوادع المرح الذي يبغض الالتواء والتعقيد والغموض. وقد رزق الله أبا تمام كثيرين من النقاد العرب الذين هبوا ينافحون عنه ويدافعون عن طريقته، وفي مقدمتهم، أو على رأسهم، أبو بكر محمد بن يحيي الصولي، صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) الذي برهن بدفاعه المجيد عن شاعرنا الخالد على أن فينا أمزجة تشبه هذه الأمزجة اليونانية والإنجليزية المولعة بالغموض في الشعر، التي تؤثر الالتواء والتعقيد فالحمد لله، وشكراً لأبي بكر الصولي!

وأكثر المؤرخين على أن أبا تمام ولد في جاسم إحدى قرى دمشق، وأقلهم - وفيهم صاحب الأغاني - على أنه ولد في إحدى قرى منبج.

وأكثر المؤرخين على أنه عربي من قبيلة طيء، وأكثر هو من الفخر بذلك في شعره. . ثم أقلهم على أنه ليس من طيء في الذيل ولا الذؤابة، بل أنه ابن رجل يوناني نصراني أسلم، وكان يدعى (تدوس) أو تيودوس فعدل به أبو تمام إلى أوس، فصار يدعى أبا تمام حبيب بن أوس الطائي، فراراً عن هذه اليونانية التي كانت تكون له شرفاً لو أنها صحيحة، لا عاراً كما أراد أعداؤه أن ينالوا منه، ويقدحوا في نسبه، لأن ذلك يزكي مذهبه في الشعر ويجعل له أصولا وراثية من دماء هؤلاء اليونانيين الذين غضوا من شعر يوريبيدز في عصره لسهولته ووضوحه ويسره

وسافر أبو تمام إلى مصر بعد أن أيفع بالشام، وكان أبوه خماراً، وكان هو حائكا، كما جاء في تاريخه المضطرب. . . وأكبر الظن أنه لذلك لم ينتفع في الشام بعلم ولا أدب، وأن السنوات الخمس التي عاشها في مصر كانت فترة التعليم الجامعي الذي انتفع به أبو تمام، وشدا منه تلك الذخيرة من دروس الجامع الكبير، أو مسجد عمرو بالفسطاط مستعيناً عليها بسقاية الماء. . . ثم شد رحله إلى المشرق بعد أن تمكن من نظم الشعر في مصر تمكناً

ص: 10

جعله سيد شعراء عصره عشرين عاماً كاملة بإجماع النقاد. فإذا عرفنا أن أبا تمام لم يتجاوز الأربعين، أو تجاوزها قليلاً ثم مات. . . عرفنا أنه ثقف الشعر في مصر. وحصل جميع علومه في مصر. وأن مصر قد صنعت الجزء الأكبر من أدب أبي تمام وعلمه وشعره. وأنه حينما سافر إلى العراق سافر إليه وقد نضج عقله وقلبه بكل ما كانا يفيضان به من علم وشعر. فإن يكن قد انتفع في بغداد والبصرة والكوفة بعلم أو أدب. فليس يعدو ذلك اطلاع الأديب الذي اشتد عوده والذي لا غنى لثقافته عن مواصلة القراءة. . . والمقارنة بين مدارس الفكر المختلفة. يتقلب من اجلها بين البلاد:

خليفة الخِضْر من يربعْ على وطن

في بلدة، فظهور العِيس أوطاني

بالشام أهلي. وبغداد الهوى. وأنا

بالرقمتين. وبالفسطاط إخواني

وما أظن النوى ترضى بما صنعت

حتى تُشافِه بي أقصى خراسان

خلّفت بالأفق الغربي لي سكنا

قد كان عيشي به حُلواً بحلوان

فإخوان أبي تمام الذين تركهم وراءه في مصر هم أخدان الصبا وأصدقاء الشباب وشركاؤه في أيام الدرس والتحصيل. . . وطالما تذكرهم أبو تمام بعد ذلك، وسجل ذكره لهم في شعره:

ذو الود مني وذو القربى بمنزلةٍ

واخوتي أسوة عندي وإخواني

في دهري الأول المذموم أعرفهم

فالآن أنكرهم في دهريَ الثاني؟

عصابة جاوزت آدابهم أدبي

فهم وإن فُرّقوا في الأرض جيراني؟

أرواحنا من مكان واحد وغدت

أبداننا بشام أو خراسان

ورُبّ نائي المغاني روحه أبدا

لَصُيق روحي ودانٍ ليس بالداني

ولله ما أسعد تلك العصابة من الأصدقاء الأوداء الذين تتجاوز آدابهم، وتتنافس ثقافاتهم، وتسفر بينهم قصائد الشعر ورسائل الأدب. . . وقد ثبت أن أبا تمام قد نظم كثيراً من غرر شعره وهو في مصر، وأنه عندما ذهب إلى العراق وأخذ في إنشاد أشعاره، وقف الناس منها موقف المشدوه الذي يرى فيها شيئاً جديداً لم تتعوده أذنه، ولم يعرفه فيما عرف من أشعار العرب فكان الذي يستطيع فهمها يستحسنها، ويشهد لها بالجدة والجمال، أما الذين كانت تستعصي عليهم، وتضيق بها أخيلتهم، فكانوا يشتدون في إنكارها كما يشتدون في

ص: 11

خصومة نظمها، وإن كان بعض الطاعنين على أبي تمام لا يملك أحياناً إلا أن يصفق له. . . وقد كان أبو بكر الصولي لبقاً في سوق أمثلة ذلك. ولهذا فنحن نرى أن أبا تمام قد ذهب إلى العراق حينما ذهب إليه، بفن جديد أنشأه في مصر، وضع فيها أصوله، وقعد قواعده، ووشاه بذوقه المتفرد المفتن الجبار. . . وحسبنا أن نقرأ قصائده الأولى التي أنشدها في العراق لنعلم كيف فجأ الناس بها وبما تضمنته من غرائب هذا الفن الجديد العجيب. . . وليس يصح في الأذهان أن أبا تمام ابتدع ذلك كله بالعراق فجأة، لأن قصائده الأولى هذه تشبه قصائده الأخيرة في كل مشخصاتها ومقوماتها، وربما كان بعض المتقدم منها أجود من بعض المتأخر

ولعل القارئ يسأل: ما بالنا نبدأ في ذلك ونعيد، وماذا نبتغي ما إثبات فضل مصر على أبي تمام؟ والجواب على هذا لا يخلو من أن نشغب على أستاذنا الدكتور طه حسين الذي أنكر هذا الفضل على مصر، وجعل العراق وحده هو الوطن العقلي لأبي تمام، وذلك في محاضرته التي ألقاها عن أبي تمام وضمنها كتابه الفريد المفيد (من أحاديث الشعر والنثر) ونعود فنقول إن السنين العشرين التي تفرد فيها أبو تمام بجوائز الملوك والأمراء، والتي كان فيها جميعاً فارس حلبة الشعر، قد بدأت حينما بدأ أبو تمام حياته في العراق، وهو إذ ذاك في حدود العشرين من عمره أو فيما يقاربها، فأين إذاً نما غراسه الأول إن لم يكن قد نما واشتد وآتى أكله في مصر؟

ونحن لا ننكر أن أساتذة أبي العلاء في الشعر العربي لم يكونوا من المصريين، لأن أحدهما هو أبو نؤاس، والثاني هو مسلم ابن الوليد، وكان أبو تمام يعجب بهما ويسطو على آثارهما، ينتهب منها ما يشاء. فيغمض فيه، ويزيد عليه، ثم يغرب ويغلو في الأغراب، حتى تكون البضاعة له خاصة آخر الأمر: وفي ذلك يقول الصولي في رسالته إلى مزاحم بن فاتك:

(وليس أحد من الشعراء - أعزك الله - يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام؛ ومتى أخذ معنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به. . .)

وسئل دعبل - أشد خصوم أبي تمام - عن شعره فقال:

ص: 12

ثلث شعره سرقة، وثلثه غث، وثلثه صالح

وأنشد ابن الأعرابي شعراً لأبي تمام فقال: إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل!

ولأبي العنبس، ولابن مهرويه، كلمات في أبي تمام من هذا القبيل، ولم يكن أحد ينتصف لأبي تمام بمثل ما انتصف له الصولي

فكيف يكون العراق وطن أبي تمام العقلي، وقد كان مذهبه في الشعر غريباً على العراق إلى هذا الحد؟

(يتبع)

دريني خشبة

ص: 13

‌على نمط المقامات

في العيد

للأستاذ علي متولي صلاح

حدثنا أبو الحسن الفسطاطي قال:

قضيت شهر رمضان المعظم هذا العام - إلا أقله - في عزلة عن الحياة، أتقرب بالعزلة إلى الله، وأبتهل إليه وأبتغي رضاه، فكنت أقضي النهار صياماً، والليل قياماً، وألزمت نفسي ألا تنطق إلا لماماً، وألا تقارف آثاماً، وألا تقول إلا سلاماً، والتزمت هذه الحال ثمانياً وعشرين من الليال. . .

ولما أوشك رمضان الكريم على النهاية، وأشرف على الغاية، حدثتني النفس الأمارة بالسوء، التواقة دائماً إلى ما يسوء، أن أنفلت من هذا العقال، وأتحلل من تلك الأغلال، وأسعد نفسي بالأنس بين الصحاب، والسمر بين الأحباب، وأنقل وإياهم الحديث في العلوم والآداب، فذلك عندي وعندهم أشهى الرغاب، وما خضنا علم الله يوماً في حديث نم أو اغتياب، ولا ذكرنا وقاك الله حديث أعراض ولا أنساب. . .

قصدت إلى تلك الصومعة الجميلة، والظلة الظليلة، صومعة الأدب والأدباء، ومثوى الشعر والشعراء، تلك التي أنشأها مقام الأستاذ الزيات بالمنصورة الحبيبة حينا من الدهر، كان والله في مثل عمر الزهر، وكان - وحقك - عهداً ما برحت نشوته في الفؤاد، وما زال برده في الأكباد، وما فتئ حديثه هو الحديث المعاد، ليته بقي ودام، إلى هاتيك الأيام. . .

وفي جوار تلك (الكافورة الحسناء) الكاملة البهاء، الحانية على النيل الجميل كأنها الرحمة والعطف والمحبة تهبط من السماء، تلك التي خلدها الزيات بآيات من السحر، ما هي من نثر، ولا هي من شعر، ولكنها من الدر والتبر، في جوارها أخذت مكاني، وآثرت الجلوس منتظراً إخواني، وطال بي المكث والانتظار، وما وافاني منهم ديار، ولا نافخ نار، فجلست وحدي أتأمل ما يفعل الناس في شهر الصيام وما يقولون، وفي أي حديث يخوضون، فما راعني إلا أن أسمع الناس يسبون شهر رمضان ويلعنون، ويتضجرون منه ويتململون، ويودون فراقه ويشتهون، ويصفونه بأقبح الصفات، ويشيعونه بأسوأ اللعنات، فسألت نفسي فيم يصوم هؤلاء ويمسكون؟ ومازالوا باللغو والباطل يتمسكون؟ أم هم على الصيام

ص: 14

والإمساك مكروهون؟. . . والصوم كما أفهم عبادة مردها إلى الضمائر، ومرجعها إلى السرائر، ليست عبادة نفاق، ولا تجارة للإرتزاق، ولا يقصد بها سوى الخلاق! ومن أراد أن يبدو للناس صائماً وهو عند الله مفطر كان ذلك عليه يسيرا، لا عسيرا! أما أن يمسك عن الطعام، ولا يفتأ يسب الصيام، كأنه على فعله مسير، لا مخير، فذلك ما لا أستطيع له تأويلا، ولا أعرف له تعليلا. . . ورجعت إلى داري وقد انتصف الليل أو كاد، وأنا في إبراق وإرعاد، أسب هؤلاء الأوغاد، وأحمد الله على تلك الوحدة والانفراد. . .

وفي الليلة التالية - وكانت آخر ليالي رمضان - ذهبت كدأبي إلى مكاني المعهود، ومراحي المنشود، فما عتمت أن رأيت الناس وقد تنفسوا الصعداء، وأبرقت أساريرهم بالبشر والصفاء، كأنما انحطت أثقالهم، وانفكت أغلالهم، وتحللوا من وقر لا يطيقونه، وأسر لا يحتملونه، ولا حديث لهم إلا ما كانوا يحرمون في رمضان من لذات، ويمنعون من طيبات، ورأيت فيما رأيت بعد برهة شخصاً يخب في المسير، حتى ليكاد أن يطير، فلما وقع بصره على إخوانه في السهر، ورفاقه في ليالي السمر، صاح فيهم يقول:

رمضان ولى هاتها يا ساقي. . .!!

فرد عليه جميعهم في صوات واحد، وكل منهم يشير إلى صدر نفسه قائلاً:

مشتاقة تسعى إلى مشتاق!

وسرعان ما أداروا بينهم الكؤوس، حتى مالت الرؤوس فحوقلت ورجعت، ومن الشيطان بالله استعذت، وقلت: ليلة أخرى أحتسبها عند الله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، وهرولت إلى بيتي كأسف البال، سيئ الحال، أعجب كيف لم يهذب الصيام تلك القلوب الكاشحة، ولم يكبح تلك الطبائع الجامحة. . .

وفي فجر يوم العيد الأغر، وبعد انبلاج صبحه الأزهر، خرجت ألتمس العظات، بزيارة الأموات، فقصدت إلى تلك الصحراء الموحشة التي ينتهي إليها الجميع، الرفيع منهم والوضيع؛ والمتبوع منهم والتبيع، تلك التي تسكن النفوس عندها وتخشع، وتتأمل القلوب لديها وتخضع، وتزهد الطامع فيما فيه يطمع، واليه ينزع،. . . فإذا بي أرى عندها مما تندى له الجباه، ما لا يصل الخيال إلى مداه! وما ظنك بنساء حول المقابر متبذلات، غير محتشمات، ولا مؤدبات؟ قد أخذن زخرفهن وازين بأفخر اللباس، ليبهرن عقول الناس؟

ص: 15

ورجال قد خلعوا العذار، وتركوا الوقار، ونصبوا الحلقات للأحاديث والأسمار، لا للعظة والاعتبار، كأنهم وحقك في قصور، لا في قبور!

وشبان مفتونين قد جاءوا إلى المقابر جماعات، يسعون وراء الغادات، الرائحات الغاديات، ويغمزون لهن بأطراف الأحداق، ويبثونهن لواعج الصبابة والأشواق، ويظهرون لهن العشق والهوى، والهيام والجوى، ونسوا ما حولهم من الرجام! التي توحي بالآيات العظام، وتنسي الحب والغرام!

فلما شاهدت هذه الأباطيل ضاقت نفسي، وهاج حسي، وعدت إلى داري وصرت حلسها إلى وقت الأصيل، فخرجت بلا صديق ولا دليل، أنعم النظر في مشاهد العيد وأطيل، فما كادت والله تقع عيني إلا على شر، ولا ترى غير هزل ونكر، ولا تكاد تسمع أذني إلا الفحش والهجر، أفواج من الآدميين سائرون كالبهم هنا وهناك بلا أغراض ولا أهداف، كأنهم قطيع من الخراف، يسيرون - وقاك الله - كما تشاء لهم أرجلهم عن اليمين أو عن اليسار أو في المنتصف مشية الفرح والزهو والسرور، استمتاعاً بما تبيحه لهم حرية السير والمرور!

وعربات تكدست بالأجسام التي تتغنى بأنكر الأصوات، وأقبح النغمات، كأنها خوار ثيران، أو نهيق قطعان، ومجالس ومجتمعات لا للصلاة ولا للدعاء ولا للسجود، ولكنها لابنة العنقود! وناهيك بما يدور فيها من حديث الإفك والبهتان، والغيبة في الأبرياء والعدوان، مما تحرمه الأديان، ويستنكره الديان، ولا يليق بطبيعة الإنسان!

وكم وراء الستار في ليالي العيد من أمور! وكم يخفي ظلام أمسياته من فجور! وكم تباح حرمات، وتنال شهوات، وتدرك غايات! كأن الناس ما كانوا منذ يوم لله صائمين، ولحدوده ملتزمين، أو كأنهم كانوا في صيامهم هازلين لا جادين:

قال أبو الحسن: فلما رأيت هذه الحال، وذلك المآل، فزعت إلى الله أقرأ في كتابه، وأقف خاشعاً عند بابه، وأستزيد من رحمته ومن ثوابه، واطلب للناس الهدى والرشاد، والصواب والسداد، ثم أنشدت:

ما صام من أمسك عن طعامه

ولم يصم عن اقتراف إثمه

الصوم أن تمسك عن عدوان

وعن أذى. . . في السر والإعلان

ص: 16

إن لم يهذب بالصيام الطبع

فما وراء أن تجوع. . . نفع!

(المنصورة)

علي متولي صلاح

ص: 17

‌قضية المرأة!

للأستاذ زكريا إبراهيم

قضية المرأة قضية قديمة قدم العقل الإنساني نفسه، فإن الإنسان منذ خلق ولوع بالتمييز والمفاضلة، حريص على تعرف أوجه الخلاف والمماثلة، وقد وجد الإنسان موضعاً للتفرقة بين المرأة والرجل، فخلق لنفسه من ذلك مشكلة، وكان الرجل هو المسيطر، فتلبست المشكلة بالمرأة، ومن ثم نشأت تلك القضية الصعبة، (قضية المرأة) لا الرجل!

وعلى الرغم من كثرة المناقشات التي أثيرت حول المفاضلة بين الرجل والمرأة، أو المساواة بينهما، فإن قضية المرأة لا تزال مستعصية على الحل، لأن وضع المشكلة نفسه ليس بالوضع الصحيح. والواقع أن كل تلك المناقشات العقيمة، لا يمكن أن يترتب عليها إلا أن تزيد المشكلة تعقداً وتشابكاً، لأن من شأنها أن توقف المرأة وجهاً لوجه أمام الرجل، تناضله وتذود عن نفسها، كأنما هي بازاء خصم عنيد جائر!

ولكن الأمر ليس من هذا في كثير أو قليل، فإن الصلة التي تربط بين الجنسين، ليس صلة (تفضيل)، وإنما هي صلة (تكميل) فكل مفاضلة بين الرجل والمرأة هي عبث لا طائل تحته، لأن المجال الذي يعمل فيه كل منهما يختلف عن المجال الذي يعمل فيه الآخر. ولما كان الزواج هو الوحدة التي تجمع بين الجنسين، فإن النقص الذي يوجد لدى المرأة يستحيل إلى كمال إذا اقترنت بالرجل، والنقص الذي يوجد لدى الرجل يستحيل إلى كمال أيضاً إذا اقترن بالمرأة، فيذهب نقصها في كماله، ويذهب نقصه في كمالها، ويخرج من ذلك الإنسان الكامل! وقد أراد القديس أوغسطينوس أن يعبر عن فكرة تضافر الجنسين فقال:(لو أراد الله أن تكون المرأة حاكمة على الرجل لخلقها من رأس آدم؛ ولو أراد لها أن تكون أسيرة له، لخلقها من رجله؛ ولكنه خلقها من ضلعه، لأنه أراد أن يجعل منها شريكة للرجل، مساوية له)

بيد أن هذا لا يعني أن المرأة والرجل على حد سوى، وإنما هو يعني أنه ليس ثمة وجه للمفاضلة بين الاثنين. فإذا استثنينا ما يرجع إلى الجنس، قلنا أن الرجل والمرأة سواء. وكل ما بين الرجل والمرأة من فرق في الناحية الجنسية، فذلك لضرورة تحتمها الوظيفة التي ينهض بها كل في المجال الذي اختصته الطبيعة به. وهذه الضرورة قد جعلت المرأة

ص: 18

تميل إلى التعشق الذاتي والاكتفاء بالذات، في حين جعلت الرجل يميل إلى التعشق الغيري والخروج عن الذات. فالمرأة - كما يقول فرويد - حينما يكتمل نموها وتنضج أعضاؤها الجنسية (بعد أن كانت من قبل في حالة كمون يتزايد لديها الشعور بالتعشق الذاتي، فتنزع إلى الاكتفاء بذاتها - وتزداد قوة هذا النزوع إذا صاحبه اكتمال في الأنوثة والجمال، فيترتب على ذلك أن تعشق المرأة نفسها (فحسب) عشقاً يقرب في شدته من عشق الرجل لها. ولهذا نجد أن المرأة لا تريد أن تحب، بل أن تكون محبوبة، فإنها بطبيعتها لا تريد أن تكون طالبة، بل أن تكون مطلوبة. وإذا تهيأ للمرأة حظ كبير من هذا (التعشق الذاتي) فإنها تكون جذابة إلى أبعد حد، لأن التعشق الذاتي من شأنه أن يجتذب انتباه أولئك الذين تخلوا عن جزء من عشقهم الذاتي، وراحوا يلتمسون (موضوعاً) آخر لعشقهم - والسر في هذه الجاذبية، يرجع إلى أن المرأة (النرجسية) تكون في العادة جميلة الخلقة (لأن فرط الجمال هو الذي يدفع إلى التعشق الذاتي)، فضلا عن أن اكتفاءها بذاتها من شأنه أن يحيطها بهالة سحرية من الغموض المستحب الذي يزيد الرجل ولوعاً بها! ولكن هذا لا يمنع من أن تكون هناك طائفة أخرى من النساء، يتخذ الحب عندها شكله المعروف لدى الرجال، فتنزع المرأة إلى البحث عن هدف من الجنس الآخر تجعله موضوعاً لحبها؛ ويكون هذا لنزوع مصحوبا بتقدير مبالغ فيه للناحية الجنسية

ويجب أن نلاحظ أن الحاجة الجنسية لدى المرأة تختلف عنها لدى الرجل، فإن اللذة الجنسية عندها ليست غاية في ذاتها كما هي عند الرجل - وإنما هي مجرد وسيلة لغاية أخرى تفوقها، وهي الأمومة: فغريزة الأمومة عند الأنثى أقوى بكثير من الغريزة الجنسية، كما تدلنا على ذلك التجارب التي أجريت على فصائل الحيوان. وإذا كانت المرأة - كما يقول مارانيون - تشعر بميل إلى الحياة الجنسية، فما ذلك إلا لكي تتخذ من الرجل وسيلة تحقق بها غاية الأمومة التي هي عندها كل شيء. ففي أبعد أغوار نفس المرأة، تكمن الرغبة في الأمومة. وهذه الرغبة القوية هي التي تصبغ بصبغتها كل حياة المرأة. أما اللذة الجنسية فهي عند المرأة بمثابة عرض مصاحب يقترن بالشعور الذي تظهره نحو ذلك الرجل الذي اختارته لكي يكون أباً لأولادها. ومن أجل ذلك فانه إذا كان الرجل قد يطلب اللذة الجنسية للذة الجنسية نفسها فإن المرأة لا يمكن أن تقنع بذلك مطلقاً، لأن كل ارتباط

ص: 19

يتم بينها وبين الرجل، دون أن تستتبعه ولادة طفل، هو في نظرها عديم الجدوى

ولما كان الحافز الجنسي عند المرأة أقل شدة منه عند الرجل فإن من اليسير على المرأة أن توجه ميلها الجنسي توجيهاً آخر. وبفضل هذه المقدرة، تستطيع المرأة أن تضمن لنفسها العفة بجهد أيسر من الجهد الذي يحتاج إليه الرجل. فهي تستطيع بسهولة أن تجد منفذاً لحاجتها الجنسية، وذلك بالاشتراك في أعمال البر أو القيام ببعض المشروعات الاجتماعية أو باتخاذ بعض الأبناء الخ ولعل من دلائل ضعف الحافز الجنسي لدى المرأة بالنسبة إلى الرجل، أن في استطاعة المرأة بسهولة أن تصادق امرأة أخرى صداقة متينة حارة؛ وهذه الصداقة تصطبغ في بعض الأحيان بصبغة حب الجنس للجنس فتكون مظهراً لإرضاء الحاجة الجنسية عن طريق آخر، حين لا تساعد الظروف على إيجاد المنفذ الطبيعي لهذه الحاجة

ومن ناحية أخرى فإن وظيفة الأمومة قد اقتضت أن تتصف المرأة ببعض الصفات الثانوية الأخرى التي تهيئ لها القيام بالمهمة المعدة لها: فالمرأة أكثر حساسية من الرجل، وأسرع استجابة للمؤثرات الوجدانية. وهي تنظر إلى الحياة من خلال عواطفها ووجداناتها، وكثيراً ما تهتدي عن طريق شعورها إلى حقائق لا يستطيع الرجل أن يهتدي إليها بعقله. وإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تلحق بالرجل في ميدان التجريد العقلي فإن هذا لا يمكن أن يكون دليلاً على عجز أو قصور، لأن العقل إذا كان يعين الرجل أحياناً على أن يحكم حكماً صحيحاً، فانه أيضاً كثيراً ما يجنح به عن جادة الصواب. وليس من شك في أن المرأة إذا وضعت في موضع القضاء، فإنها لن تصدر أحكامها، إلا وفقاً لما يمليه عليها قلبها وشعورها، ولكن (هل يمكن أن تكون هناك طريقة في الحكم خير من تلك التي نحكم فيها على أفعال الآخرين، بمقتضى العقل المقترن بالعاطفة)؟

(للحديث بقية)

زكريا إبراهيم

ص: 20

‌القضايا الكبرى في الإسلام

قضايا ابن تيمية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 9 -

أخذ الجمود في العلم يخيم على العقول منذ أقفل باب الاجتهاد، وأخذ الحجر على العلماء يتسع قرناً بعد قرن، حتى استحكمت حلقات الجمود في القرن السابع الهجري، فحرم الأخذ في الأصول بغير مذهب الأشعري، وفي الفروع بغير مذاهب الأئمة الأربعة، ومنع الناس من النظر في الفلسفة وعلومها، وبهذا وقف المسلمون عن النهوض في ميدان التنافس بين الأمم، فتأخروا وسبق غيرهم، وصاروا إلى ما نشاهده الآن، مما لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى

وبينما كان أهل ذلك القرن يغطون في نومهم، ظهر بينهم ابن تيمية يحطم بعض تلك القيود، ويدعو إلى فتح باب الاجتهاد، ويحاول الخروج في الأصول على مذهب الأشعري، وفي الفروع على مذهب الأئمة الأربعة، ويحارب بدعة التصوف التي لعبت بعقول العامة، وجعلت دينهم ضلالات وخرافات

وهذا الإمام المصلح هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله بن القاسم بن تيمية، ولد سنة 661هـ بمدينة حمران، وأخذ على علماء عصره، وأكثر من المطالعة والقراءة، حتى فاق الأقران، وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف

وقد دعا في الأصول إلى الأخذ بمذهب السلف من الوقوف عند ظاهر النصوص، وترك التأويل الذي يلجأ إليه الأشعري وغيره، وقد جره هذا إلى القول بأن الله في السماء، أخذا بظاهر قوله تعالى في الآية - 16 - من سورة الملك:(أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) ثم أخذ يدعو إلى منع ما شاع في عصره من التوسل في قضاء الحاجات بغير الله تعالى من الأنبياء والأولياء، ويفتي في الفقه بما قام الدليل عليه عنده، ولو لم يكن موافقاً لما قال به الأئمة الأربعة، ومن ذلك فتواه بأن الطلاق الثلاث من غير

ص: 21

تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة

فقامت عليه بذلك قيامة العلماء والفقهاء والمتصوفة، وشكوه إلى السلطان المرة بعد المرة، وكانت أولى شكواهم في شهر ربيع الأول سنة 698هـ فبحث في شكواهم، وحكم بمنعه من الكلام فيما شكوا منه، ثم شكوه ثانياً إلى السلطان في سنة 705هـ فورد مرسوم من السلطان إلى نائب دمشق بامتحانه فيما يعتقده، فعقد له مجلس في (7 من رجب سنة 705) سئل فيه عن عقيدته، فأملى عليهم منها، ثم أحضروا عقيدته التي تسمى الواسطية، فبحثوا في مواضع منها، ثم اجتمعوا في (12 من رجب سنة 705) وندبوا الصفي الهندي ليناقشه، ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني، وقد انتهى الأمر في هذا التحقيق بإشهاده على نفسه أنه شافعي المعتقد

وكان لابن تيمية أشياع وأتباع، فأشاعوا أنه انتصر على خصومه، فغضبوا وقدموا شخصاً من أتباعه إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية، فحكم بتعزيره؛ وكذلك فعل الحنفي باثنين منهم، فقامت فتنة كبيرة بين الشافعية وغيرهم في دمشق، وقد اعتزل فيها القاضي ابن صصري الشافعي القضاء، احتجاجاً على ما أصاب الشافعية من الأذى

فطلب القاضي ابن صصري وابن تيمية إلى القاهرة، وكان أمراؤها قد انقسموا في أمره، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير والقاضي المالكي بالإنكار عليه وعلى أتباعه من الحنابلة، وقد اشتد الأمر عليهم حتى صفع بعضهم، وانتصر له الأمير سلار، فلما وصلا إلى القاهرة قدم ابن تيمية في (12 من شهر رمضان سنة 705) إلى القاضي المالكي لينظر في دعوى خصومه عليه، فقال ابن تيمية: هذا عدوي. ولم يجب عن الدعوى، وقد كرر عليه السؤال فأصر على الامتناع عن الجواب، فأقامه القاضي من المجلس، ثم حكم بحبسه فحبس في برج، وكان الناس يترددون عليه فيه، فلما بلغ القاضي ذلك قال: يجب التضييق عليه إن لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره. فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب

ثم أرسل مرسوم إلى دمشق فقرئ في الجامع على أهلها، ونودي في شوارعها بأن من أعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله، وجمع الحنابلة من الصالحية وغيرها فأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي، وكان قاضي الحنابلة ضعيفاً ليست له مكانة في العلم، فبادر إلى إجابتهم في ذلك المعتقد، وقد استكتبوه فكتب لهم بذلك

ص: 22

وكان قاضي الحنفية شمس الدين بن الجريري، وهو عالم شجاع لا ترهبه قوة السلطان، ولا يخشى في الحق لومة لائم، فانتصر لابن تيمية على خصومه، وكتب محضراً أثنى عليه فيه بالعلم والفهم، وذكر أن الناس لم يروا مثله منذ ثلاثمائة سنة، وكان جزاؤه على هذه الجرأة العزل من القضاء

وقد سعى الأمير سلار في تخليص ابن تيمية من الحبس، وأحضر القاضي الشافعي والمالكي والحنفي وكلمهم في إخراجه، فأجابوه إلى ذلك بشرط أن يرجع عما أخذ عليه في الدعوى، وقد أرسلوا إليه مرة بعد مرة فامتنع من الحضور إليهم، وآثر الحبس في الجب على أن يرجع عن عقيدته، ولم يزل في ذلك الجب إلى أن شفع له أمير آل فضل، فأخرج من الحبس في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، وأحضر إلى القلعة وعقد لمباحثته مجلس من الفقهاء، ثم كتب محضر بأنه قال: أنا أشعري

ولكنه لم يكد يخلص من أولئك الفقهاء حتى قامت عليه قيامة المتصوفة، وكان زعيمهم في الثورة عليه ابن عطاء صاحب الحكم المشهورة، فذهبوا إلى القلعة في العشر الوسطى من شوال وادعوا على ابن تيمية أنه يطعن في شيوخ الطريقة، وأنه أنكر الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بتسييره إلى الشام على خيل البريد، وكان القاضي المالكي قد اشتغل عنه بمرض أشرف منه على الموت، ولكنه لم يكد يعلم بمسيره إلى الشام حتى أرسل إلى النائب فرده من نابلس، وأقيمت عليه دعوى عند القاضي ابن جماعة، وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني، فحكم عليه ثانياً بالسجن في حارة الديلمة، وقد نقل إلى القاضي أن جماعة من أتباعه يترددون عليه، وأنه يكلمهم فيما أنكر عليه مما تقدم، فأمر بنقله إلى الإسكندرية، وقد حبس هناك في برج شرقي، وكان موضعه فسيحاً، فقصده أصحابه هناك، وصاروا يدخلون إليه للقراءة عليه، وبحث ما يحتاجون إليه من المسائل، ولم يزل محبوساً إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة، فشفع فيه عنده، فقبل الشفاعة فيه وأمر بإحضاره من الحبس، وكان حضوره إليه في (18 من شوال سنة 709) فأكرمه وجمع القضاة وأصلح بينه وبين القاضي المالكي، وقد اشترط هذا القاضي في صلحه ألا يعود إلى ما أخذ عليه من الأقوال، فقال له الناصر: قد تاب

وقد ثار خصومه عليه بعد ذلك في شهر رمضان سنة 719هـ، لأنه أفتى بأن الطلاق

ص: 23

الثلاث من غير تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة، ولم يهدأوا حتى عقد له مجلس في رجب سنة 720هـ، فحكم عليه بالحبس في قلعة دمشق، وقد مكث فيها إلى أن أخرج منها في 10 من المحرم سنة 721هـ

ثم ثاروا عليه في شعبان سنة 722هـ، لأنه أفتى بمنع زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فأعيد اعتقاله بتلك القلعة، ولم يزل بها إلى أن مات في 20 من شهر ذي القعدة سنة 738هـ، وكان يوماً مشهوداً، حتى ضرب المثل بكثرة من حضر جنازته، وأقل ما قيل في عددهم خمسون ألفاً

وهذه القضايا الخطيرة تمثل لنا أروع معركة علمية قامت في الإسلام بعد إقفال باب الاجتهاد، وتبين لنا كيف أقفل هذا الباب بالقهر والعسف، وأنه لم يقفل بالدليل والإقناع، ولا لمصلحة عامة أو خاصة اقتضت حظره على العلماء

وكم كان ابن تيمية موفقاً في محاولته فتح باب الاجتهاد في الفروع، وإيثاره فيها الدليل من الكتاب والسنة على أقوال الأئمة المعروفين، وكم كان موفقاً أيضاً في حملته على أولئك المتصوفة الذين حشوا أدمغة المسلمين كثيراً من الجهالات والخرافات، ومما أنشد له في ذلك على ألسنة فقرائهم:

والله ما فقرنا اختيارُ

وإنما فقرنا اضطرارُ

جماعة كلنا كسالى

وأكلنا ما له عيار

تسمع منا إذا اجتمعنا

حقيقة كلها فشار

ولكنه لم يكن موفقاً في حجره على العقول في الأصول، والحكم عليها بالوقوف عند ظواهر النصوص، وموقفه في هذا غير منسجم مع موقفه الأول، وقد وقع بهذا فيما وقع فيه خصومه من الحجر على حرية الرأي، وحصر الدين في حدود ضيقة يشتد فيها الحرج على العقول، ولا تتسع للاجتهاد الذي لا شطط فيه ولا انحراف، ولقد كان خصومه منطقيين في جمودهم على كل ما ألفوه، وتحريمهم في الفروع مخالفة الأئمة الأربعة، وفي الأصول مخالفة الإمام الأشعري، ولم يكن هو منطقياً في تسويفه مخالفة تلك الأئمة بالاجتهاد في الأصول، فهو بهذا قد فر من جمود إلى جمود

واضطرابه في ذلك هو الذي لم يجعل منه المصلح السمح الذي يعلو على ما كان يقع فيه

ص: 24

خصومه من المجازفة بالتكفير، وجعله يجازف بالتكفير مثلهم، ويشتط في الإنكار على الأشعري وغيره ممن حاول في الدين الجمع بين العقل والنقل، وأخذ في ذلك بالاجتهاد في الأصول، ولم يجمد كما جمد ابن تيمية وغيره على ظواهر النصوص، والإسلام من المرونة بحيث يعلو على ذلك التضييق، وهو الذي أتى برفع الحرج في الدين، ولم يقف من العقل موقف المنابذ المخاصم، بل وقف منه موقف المصالح المسالم

ولو أن ابن تيمية لم يقع في ذلك الاضطراب لكان منه المصلح الذي يتطلبه المسلمون في ذلك العصر، ولأمكنه أن يجمع كلمتهم على الإصلاح اللازم لهم، وهو إصلاح لا يقف عند الحدود الضيقة التي وقف هو عندها، بل يتناول الإصلاح في الدين، والإصلاح في العلم، والإصلاح في الحكم، وما إلى هذا من أمور الدنيا والآخرة

عبد المتعال الصعيدي

ص: 25

‌امتحان الأستاذية الأزهرية

بعد أربعة أعوام

للأستاذ زكي الدين إبراهيم بدوي

منذ نيف وثلاث سنوات حضرت امتحانات العام الدراسي الأول لدرجة (الأستاذية) الأزهرية، وأبديت على صفحات الرسالة الغراء عدة ملاحظات عنت لي بشأن المحاضرات والرسائل التي اشتملت عليها تلك الامتحانات. ولما كنت قد قضيت معظم المدة المنصرمة بعيداً عن البلاد في مهمة تعليمية بالعراق عدت منها أخيراً، فقد بدا لي أن أحضر بعض امتحانات هذا العام لأقف على مدى تطور هذه الدراسة الجديدة في الأزهر بعدما سلخت امتحاناتها أربعة أعوام

ويسرني أن أبدا اليوم ملاحظاتي بتسجيل بعض خطوات التقدم في النواحي التي كنت قد تناولتها بالنقد في كلمتي الأولى.

فمن ناحية الشكل أخذت إدارة الكليات الأزهرية بطرف من النظم الحديثة المتبعة في مناقشات الرسائل، فأعدت مدرجات خاصة لهذه المناقشات بعدما كانت تجري في غرف ذات مقاعد منبسطة. وأصبح النظام الحاضر يقضي بأن يقدم للمناقشات بعرض موجز يلم فيه صاحب الرسالة بعناصر البحث الذي تشتمل عليه رسالته. فيتيح بذلك لجمهور المستمعين من الطلاب وغيرهم متابعة هذه المناقشات والإفادة منها. كذلك أخذ معظم حضرات أعضاء اللجان بالتقليد الجامعي الجميل، الذي يقضي بأن يبدءوا ملاحظاتهم على الرسائل بالتنويه بما يستحق التنويه من مواطن الإجادة فيها مما ينطوي على تشجيع نافع لأصحابها، ومكافأة أدبية لهم على ما بذلوا من جهد، وحفز لهم غيرهم

ومن ناحية الموضوع لمست تقدماً محسوساً لمستوى الطلاب العلمي تجلى في عرض الرسائل والمناقشات التي دارت حولها مما يدل على ارتقاء وسائل هذه الدراسات في فروعها المختلفة

على أنني حين أبادر إلى تسجيل بوادر التقدم الآنفة الذكر مقدراً للمشرفين على هذا النوع من الدراسة جهودهم التي أبلغته هذا المبلغ من النهوض على حداثة عهد الأزهر به - لا يسعني مع ذلك أن أغفل التنبيه إلى ما لا يزال بارزاً من مواطن القصور والتقصير

ص: 26

فأول ما يسترعي الانتباه من ذلك أن هذه الدراسات تعوزها الطريقة الحديثة للبحث والعرض والتصنيف. فالرسائل وإن كانت قد تزحزحت قليلاً عن طرائق الأزهر التقليدية التي كانت تضفي على الآراء والمذاهب القديمة هالة من التقديس تجعلها بمنجاة من سهام المناقشة الطليقة والنقد الحر - إلا أنها مازالت في مجموعها محدودة بحدود التجميع والتنظيم للأبواب العامة في مختلف العلوم، ولا تخرج عن هذا النطاق إلا خروجاً جزئياً بأبحاث عابرة متفرقة يقع عليها قارئ هذه الرسائل في غضون صفحاتها دون أن يحس بوحدة فكرية تربط بين عناصرها وتوجهها وجهة معينة مما يبرز فيه أثر المجهود الشخصي الذي هو طابع التصنيف الحديث. يضاف إلى ذلك أنه حتى في نطاق التجميع والتنظيم لا يبدو في الرسائل والمحاضرات الحالية - فيما عدا القليل منها - أثر المجهود الشخصي في التجديد والابتكار في العرض

والأصل الذي تقضي به الطريقة الحديثة المتبعة في مثيلات هذه الرسائل والمحاضرات أن يتناول كل منها بالبحث نقطة معينة - لا باباً من الأبواب العامة - يدرسها الباحث دراسة مستفيضة من جميع نواحيها وما يحيط بها من ملابسات، ثم يعمل فكره ورأيه الخاص في ذلك كله، حتى يخرج بفكرة عامة تنتظم عناصر البحث وتقرر له كياناً مستقلاً يشهد عرضه لصاحبه بالبداء والابتكار، فيضيف بذلك جديدا إلى الموضوع الذي يعالجه، ومن شأن ذلك أن يثبت مقدرته على الاضطلاع في مستقبل حياته العلمية بإضافات جديدة من هذا القبيل يسهم بها في تقدم العلم والفن أن هو وفق إلى ابتكار آراء أو نظريات جديدة، أو يساعد على ذلك - على الأقل - إن وقف به جهده عند حد التجديد في العرض والتأليف المستساغ بين عناصر من الأبحاث جديرة بأن يبذل الجهد في تنظيمها تنظيماً علمياً جديداً وجمع شتاتها على هذا النحو. وهذا هو الهدف الأول للأبحاث والدراسات الأكاديمية المختلفة

كذلك يسترعي الانتباه في رسائل الأستاذية أن أصحابها لا يراعون فيها الطرائق الحديثة في التبويب والتقسيم والفهارس، فما يزال بعضهم يجري على الطرائق القديمة في ذلك متبعاً التقسيم التقليدي إلى أبواب عديدة وفصول، ومقتصراً على فهرس واحد في آخر الرسالة. وقليل منهم يحاول محاكاة الطريقة الحديثة في التبويب والتقسيم، لكنه يسير في

ص: 27

ذلك على غير هدى لعدم وقوفه على أصول هذه الطريقة، فيبدو تقسيماً غير منطقي يقدم فيه ما حقه التأخير ويؤخر ما حقه التقديم وتوضع بعض عناصر البحث في غير المكان المناسب من أقسامه مما يشيع فيه الفوضى والاضطراب والتكرار أحياناً، فيشوه العرض ويعوق الإفادة منه ويصد عنها

والطرائق الحديثة في التبويب والتقسيم تقضي بالبدء بوضع خطة للبحث تقررها وحدته وكيانه المستقل بعد اتضاحه في ذهن الباحث، ويراعي فيها التأليف بين عناصره المتشاكلة لدرجها تحت أقسام رئيسية قليلة العدد، ثم يتدرج من ذلك إلى تبويب كل من هذه الأقسام، ثم إلى تفصيل الأبواب، فالتمييز بين المباحث المختلفة فيها، وتفريع كل من هذه المباحث إلى فروع، والتمييز بين النقط التي يشتمل عليها كل فرع وهكذا بحسب تشعب موضوعات البحث حتى يعرض في ثوب قشيب نسج على أساس منطقي متماسك البنيان متسق الحلقات يروق القارئ ويساعده على الإحاطة بأطرافه والوقوف على الفكرة أو الفكر الرئيسية التي يقصد الباحث إلى إبرازها. أما الفهارس في المصنفات الحديثة، فيراعى فيها التعدد بحيث تشتمل على ثبت للموضوعات بحسب ترتيب ورودها في البحث، وآخر لها بحسب ترتيبها الأبجدي، وثالث للمراجع، ورابع للأعلام، وخامس لأسماء البلدان وهكذا بحسب ما يشتمل عليه البحث ويتطلبه تيسير المراجعة

ولاتباع الطرائق الحديثة أهمية خاصة في موضوعات الدراسات الأزهرية التي تعتمد على مراجع عتيقة كتبت بأساليب القرون الخالية، ومن حق الناس على الأزهريين أن ينتظروا منهم - على الأقل - إفراغ هذه الموضوعات في قوالب جديدة تناسب عقلية الجيل الحاضر وتتفق وطرائق تفكيره

ولكن من ذا عساه أن يوجه شباب الأزهر التوجيه الذي يهيئهم لأداء هذه الرسالة؟ إن الطلاب لا يستطيعون الاهتداء بأنفسهم إلى طرائق البحث والعرض الحديثة، ولا مندوحة لهم من الاعتماد على أساتذتهم في الأخذ بأيديهم في هذا السبيل. وهنا نواجه من جديد مشكلة الأزهر العتيدة بل مشكلة الإصلاح العامة حيثما بدت الحاجة إلى الإصلاح في معاهد التعليم، وأعني بها مشكلة المدرس أو الأستاذ. وقد حاول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي في مشيخته الأولى علاج هذه الناحية يندب عدد كبير من أساتذة الجامعة للتدريس في الأزهر،

ص: 28

وإيفاد بعوث أزهرية إلى الخارج عاد أكثر أفرادها إلى مصر بعد انتهاء دراستهم وانتظموا في سلك أساتذة الأزهر. لكن عدد هؤلاء من القلة بحيث لا يفي بإحداث هذا التغير الجوهري في طرائق التعليم، وقد وقفت ظروف الحرب الحاضرة إيفاد البعثات للخارج، كما فتر حماس الأزهر للاستعانة بأساتذة الجامعة الذين كان في مقدورهم حقاً المساهمة في التوجيه الدراسي المنشود، ويؤسفني أن أقرر أن معظم من بقي به للآن من الأساتذة غير الأزهريين هم من تلاميذ المدرسة القديمة الذين لا يختلفون كثيراً عن جمهرة شيوخ الأزهر الحاليين من حيث الصلاحية للتوجيه الأكاديمي

وإذا كان لي بمناسبة ما أبديته من الملاحظات المتقدمة على دراسات (الأستاذية) الأزهرية أن أنبه إلى ما أعتقده كفيلاً بالإصلاح الممكن في الظروف الحاضرة، فإنني أتوجه إلى المسؤولين في الأزهر والغيورين على نهضته بالمقترحين التاليين:

1 -

العودة إلى الاستعانة - في نطاق واسع - بكبار الأساتذة الذين إليهم يرجع الفضل في توجيه سياسة التعليم الجامعي في مصر إلى الوضع الذي استقرت عليه الآن، وبخاصة من جمعوا في ثقافاتهم بين الدراسات الأزهرية وغيرها، سواء منهم من بقوا في الجامعة حتى الآن ومن خرجوا منها، دون ما نظر إلى الاعتبارات الأجنبية عن التعليم والتي وقفت حتى الآن عقبة في سبيل الاستعانة بهؤلاء الأفاضل الذين يستطيعون وحدهم الاضطلاع بوضع حجر الأساس للتطور المنشود

2 -

الاستعاضة مؤقتاً عن البعثات الأزهرية الخارجية غير الميسورة الآن ببعثات داخلية توفد إلى كليتي الآداب والحقوق بجامعتي فؤاد وفاروق، ولهذا سابقة حاولها الأستاذ المصلح الكبير السنهوري بك لترقية تدريس الشريعة في كلية الحقوق بجامعة فؤاد في عهد عمادته لهذه الكلية، وكانت فكرة جليلة لم تمهله الظروف السياسية - مع الأسف - حتى يستطيع تنفيذها، فلا مانع الآن من الأخذ بها في نطاق واسع لصالح الأزهر وثقافته

وقبل أن أختتم هذه الكلمة أوجه النظر إلى ما سبق أن نهبت إليه في كلمتي الأولى من وجوب قيام الأزهر بطبع الممتاز من وسائل الأستاذية على نفقته مع الأخذ بنظام تبادل الرسائل مع الجامعات الأخرى، لأن في ذلك شحذاً للهمم، وإذاعة لمجهودات الأزهريين، وتقريباً نافعاً بين ثقافتهم وأنواع الثقافات الأخرى.

ص: 29

إبراهيم زكي الدين بدوي

المتخرج في الأزهر وكليتي

حقوق باريز والقاهرة

ص: 30

‌طاقة زهر

(مهداة إلى البارونة الشاعرة جويتس برليشنجن

للأستاذ علي محمود طه

زهراتكِ الحُمْرُ التي أسْلَمْتِها

بيديْ مودِّعةٍ يمينَ مُودِّعِ

لمّا وصلتُ إلى المصيف حملتُها

كالطفل نام على ذراع المرضعِ

أمشي بها فوق الرِّمال كأنني

امشي بطيف في الظلام مُقَنَّعِ

مضمومةَ الورقاتِ طيَّ غِلالة

وُسِمَتْ بطابَع ذوقكِ المترفِّعِ

محجوبةً كأميرةٍ شرقيةٍ

في هودجٍ أستارُه لم تُرفَعِ

حتى إذا آويتُها بعد السُّرَى

وخَلَعْتُ عنها لِبسةَ المتمنّع

هشَّتَ لآنيتي وأشرق لونُها

وترددتْ أنفاسُها في مضجعي

ومضتْ تخُالسني حَيِيَّ لحاظها

لا تشتكي سهراً وفرط تَطَلُّعِ

هيَ أنتِ، أحلامٌ تغازلُ ناظري

وتصبُّ حُلْوَ حديثها في مِسمعي

هيَ أنتِ، أطيافٌ تعانقُ مهجتي

وتَفِرُّ حين تُحِسُّ حُرْقَةَ أضلعي

أمستْ تُعابثني وملءُ شفاهها

من مُغْرياتك بسمةٌ لتولَّعي

ومكَرْتِ مكركِ يا حبيبةُ وانقضي

ليلى، وأنتِ لديَّ ساهرة معي

أَرْسَلْتِها عيناً عليَّ رقيبةً

تأتيكِ بالخَبَرِ العجيب الممتعِ

تُحصي حراكيَ إنْ مشيتُ لشرفتي

وتَعُدُّ خطوي إنْ رجعتُ لموضعي

شَهِدَتْ بأنِّيَ مُذْ تركتكِ حائرٌ

متفرِّدٌ بصبابتي في مخدعي!!

ص: 31

‌من شعر الأطفال

للأستاذ علي متولي صلاح

1 -

العام الجديد

مرحباً أهلاً بأيام العملْ

مرحباً بالجِدّ من بعد الكسلْ

مرحباً مدرستي: ألفُ تحيّهْ

لكِ مني كلّ صبْح وعشيّهْ

باجتهادٍ نبدأُ العام الجديدا

فليكنْ يا ربَّنا عاماً سعيدا

وليكنْ في مصرَ إقبالاً وسعْدا

ولْتزدْ بين الورى عزاً ومجْدا

نحنُ ما عشنا فداءٌ لحماها

نبذلُ الأنفس منّا في رضاها

2 -

صديق الطيور

الطيرُ كم أُكرمُهُ

الطيرُ كْم أُرْضيهِ

أنا الذي أُطمعهُ

أنا الذي أسقيهِ

الطير لا أُعذِّبهْ

كلا. ولا أحبسُهُ

بلْ دائماً ألاعبُهْ

ودائماً أحْرُسُهْ

عصفورتي صديقتي

تَخُصُّني بحُّبها

قد زينتْ حديقتي

بصوتها ولعبها

ص: 32

‌البريد الأدبي

إليك أعتذر يا صديقي

كتب الأخ العزيز الأستاذ دريني خشبة كلمة في الرسالة يدعوني فيها للمرة الثالثة إلى شرح نظرية وحدة الوجود. والحق أني وعدت ثم أخلفت، وما كان يجوز أن أخلف الميعاد، ولكن الذي منعني حق الوفاء هو عرفاني بأن لمجلة (الرسالة) قراء من جميع الطبقات في جميع البلاد العربية والإسلامية، وبهذا يكون في شرح نظرية وحدة الوجود بلبلة فكرية لا أحب أن يكون لها في هذا الوقت مجال

وأنا أتأدب بأدب الغزالي حين ألف كتاباً سماه (المضنون به على غير أهله) وهو كتاب ألفه للخواص وطواه عن جماهير الناس

ولأجل أن يدرك الأستاذ دريني خطر ما يدعوني إليه أقول أني أعتقد بأنه (ليس في الوجود فضاء ولا سكون ولا موت)

وهذا الحكم الذي صغته في كلمات يحتاج في شرحه إلى مجلدات، ثم لا يصير مع ذلك من البديهيات، لأنه من الدقة بمكان

وإذا كان الأخ قد عجب من أن أترك الإسلام على جانب حين أفكر في الأمور الفلسفية، فليس معنى ذلك أني أرى في الإسلام جوانب واهية كما قال، ولكن معناه أني لا أحب أن أحشر الإسلام في مضايق نهانا عن الخوض فيها رسول الإسلام

والأخ يعجب من أن أوثر السلامة وأتخوف من ظلم الناس، ويصرح بأن المفكرين في العصور الخوالي قد تعرضوا للظلم والقتل، وفي هذا قال الأستاذ عبد المنعم خلاف كلاماً جاء فيه أن المفكرين في هذا العصر لا يريدون أن يتحملوا في سبيل مبادئهم أي إيذاء، مع أن أسلافهم كانوا يرحبون بالنفي والتشريد والقتل

والجواب حاضر: وهو أني لا أرى لجماهير المسلمين مصلحة في أن يؤمنوا بنظرية وحدة الوجود، ولو كنت أرى لهم مصلحة في الإيمان بهذه النظرية لعرضتها في كل مكان، وتعرضت من أجلها للنفي والتشريد والقتل

وتقول أني في كتاب التصوف الإسلامي أيدت هذه النظرية في صفحات، ثم نقضتها في صفحات، وأقول إن البحث العلمي الذي ارتضيته لنفسي يوجب أن أدرس كل نظرية من

ص: 33

جميع الجوانب، مع التحرر من رأيي الخاص، حرصاً على تثقيف قرائي

ثم أقول مرة ثانية أين أعتقد بأنه (ليس في الوجود فضاء ولا سكون ولا موت) فإن بدا لك أن تنقض هذه النظرية فافعل إن استطعت، ولعلك تستطيع، لأغير رأيي في نظرية وحدة الوجود، ولأسألك عن المكان الذي يقيم به خالق الزمان والمكان

ثم أقول: '

فإن فعلت فستحترق، أنجاني الله وأنجاك من الاحتراق بنيران وحدة الوجود.

زكي مبارك

إلى الأستاذ نقولا الحداد

عرضت سؤال السيد على مراجع اللغة العربية - لا على مراجع الدين - فوجدت في مادة (لحد) ألحد بمعنى عَدَل وماري وجادل وترك القصد فيما أمر به وأشرك بالله. ووجدت في (الزنديق) أنه أحد الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، أو هو معرب زن دين أي دين المرأة ج زنادقة أو زناديق، وقد تزندق والاسم الزندقة، وعندنا نحن المسلمين أن الذي لا يؤمن بأن الله لا إله إلا هو، وأن الله الذي أرسل موسى هو الذي أرسل عيسى وأرسل محمداً وأرسل الرسل أجمعين بعقيدة التوحيد التي لم تتغير فهو ملحد وزنديق - أما أهل واق الواق والأقزام السبعة فلهم دينهم ولنا دين. وكذلك الذين لا يؤمنون إلا بالمادة الذين يقولون بأن الروح والسمع والبصر والفكر إن هي إلا من التفاعلات الكيميائية. ليعتقدوا ما شاءوا. فإن سألوا مراجع اللغة العربية عما تسميهم به. فقد عرفنا بماذا تجيب. أما حرية الفكر فمصونة بحمد الله الذي نؤمن به إلا أن يقدح أحد في ديننا أو يسفه إيماننا أو يكذب قرآننا بحجة تلك الحرية المفتراة التي هي أسفل دركات الفوضى حينئذ

وتقبل يا سيدي الأستاذ الجليل أزكى تحياتي وأوفى احتراماتي

دريني

بين تيمور وذهني

لم أفاجأ برد الأستاذ صلاح ذهني في عدد الرسالة الماضي، ولكنني فوجئت بلهجة هذا

ص: 34

الرد؛ فالحقائق يمكن أن تقال، دون أن يحتاج قائلها حتماً إلى البذاءة!

وأكبر ما يأخذه عليّ في رده أنني تحدثت عن تيمور مع جماعة من كتاب القصة والرواية، - ولم أقصر الموازنة على كتاب الأقصوصة - فما تقوله إذا كان (تيمور) نفسه هو الذي يضطر الناقد إلى هذا، لأنه لا يقصر محاولاته على الأقصوصة، فيحاول معها القصة والرواية؟ وإلا فما (نداء المجهول) وما (قنابل) وكيف يتحدث الناقد عمن يحاول هذه وتلك؟

أما حكاية أن ليس هناك (مدارس) فنية فلست أدري إلى أي وأد من الفوضى والسذاجة تقودنا فأدعها لأنها لا تستحق الحديث!

وقال: إنني نسيت توفيق الحكيم عند الكلام على (كفاح طيبة) مع أنه في (رواية) له اتجه إلى مصر القديمة و (الرواية) التي يعنيها هي قصة (عودة الروح) وهي تتناول عهد الثورة المصرية. فهل هذا هو ما يعنيه الأستاذ العلامة بأنه (مصر القديمة)؟. ثم يا هذا العالم باللافتات (اليفط) كيف تتحكم فتحتم تسمية (عودة الروح) و (كفاح طيبة) روايتين، ولا تسميهما قصتين؟! مع اعتزازك العريض بأنك تعرف اصطلاحين؟!

ثم ينكر أن يكون المازني كاتب قصة. فبماذا نسمي (إبراهيم الكاتب) أو (إبراهيم الثاني)؟ نسميهما مقالتين، لأن المازني كاتب مقالة فحسب؟!

وينكر أن يكون لتوفيق الحكيم قصة. فما عودة الروح، وما راقصة المعبد وما سواهما في عرف السيد صلاح؟!

ثم ماذا؟

ثم يلجأ إلى لهجته وهو يتكلم عن جهلي بالتاريخ. فلقد رجحت أن تكون مدة حكم الهكسوس حوالي خمسمائة عام لا مائتين كما ذكر الأستاذ نجيب محفوظ. فما رأيه في جهل رجل كجوستاف لويون يقرر في كتابه (الحضارة المصرية)(أن حكم الهكسوس بقي نحو خمسة قرون) وأن الصراع بينهم وبين حكام طيبة قد ظل أكثر من مائة وخمسين وعاماً؟ لعل مدة الصراع هي التي يجزم الأستاذ العلامة بأنها مدة حكم الهكسوس؟

أما أنني مخطئ في تعقيبي على قول الملك (سكنن رع): (لم تكن العجلات من آلات الحرب لدى الرعاة فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها) لأن الهكسوس إنما أخذوا العجلات عن أهل فلسطين. . . فلست أدري كيف أرد على الأستاذ صلاح فيها. إنني في

ص: 35

حاجة لأن أستعير لهجته!

آلهكسوس سبقوا المصريين في استخدام عجلات الحرب أم لا؟ أهم قد غلبوا بهذا السبق أم لا؟ هذا هو لب الموضوع وتعقيبي في موضعه. أما تعقيب الأستاذ صلاح فله وصف آخر ليس الآن في قاموسي!

وأما أن أحمس مشتق من (الحماسة) بمعناها. فأنا في انتظار ما يثبته، ولا يكفي أن يقرره العالم العلامة السيد صلاح ليصبح يقيناً لاشك فيه!

وأما أن بلاد بنت هي الصومال فهو محق في هذا وأنا مخطئ! والمسألة أهون من كل هذا التبجح العريض

ما الذي أثار الأستاذ صلاح إذن، وخرج به إلى تلك اللهجة البذيئة؟

أثاره أولاً: أن إشارتي إلى قصصه لم تكن مما يرضيه. فأنا إذن لا أصلح للنقد! ولكنني كنت أصلح ولا شك يوم كنت أجامله فأكتب عنه كلمة تشجيع. وكان على الأستاذ القصاص الكبير أن يعرف أنني شجعته في البدء منتظراً خطواته إلى الأمام. ولم يكن معقولاً أن تظل لغة التشجيع وهو يخرج كتابه الرابع فلا يبدو أن هناك خطوة وراء الخطوة الأولى، ولا يزيد على أن يظل مبتدئاً! حينئذ لم يكن بد من التنبيه الرفيق وقد فعلت، فآثر كل هذا الهياج

وأثاره ثانياً: أنني لم أرض تيمور. وهو يحس بينه وبين نفسه - وإن أنكر هذا كل الإنكار في أحاديثه - أنه ظل باهت لتيمور، وأن له خصائصه في (متحف الشمع) مع الفارق بين الأستاذ والتلميذ. فهو إنما يدافع عن نفسه حين يتخفى وراء أستاذه. أما تنصله الشديد العنيف من هذه التلمذة، فشيء متروك لأخلاق هذا الجيل!

وبعد فإن إعزازي الشخصي البحت لصلاح هو الذي يدفعني إلى أن أناقشه، وإلا فقد كنت أعرف يوم كتبت عن (تيمور) أن هناك صلاحاً وعشرة صلاحات أخرى، سيعدون أنفسهم (خونة) إذا لم يشتموا هذا الذي لا يتملق تيمور!!

سيد قطب

دعبل شاعر الهجاء

ص: 36

بمناسبة تشرفي بزيارة الوطن العزيز أخذت أطلع على بعض الكتب التي تتناول أخباره وحوادثه، وكان من بينها كتاب للرحالة العربي (البكري) خاص بوصف بلاد المغرب من كتابه المسمى (المسالك والممالك)، وقد لفت نظري في الصفحة السابعة ما ورد بخصوص شاعر الهجاء (دعبل)، حيث قال: (. . . ولما فتح عمرو برقة بعث عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة، وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين. وبزويلة قبر دعبل بن علي الخزاعي الشاعر. قال بكر بن حماد:

الموت غادر دعبلا بزويلة

وبأرض برقة أحمد بن خصيب

فرجعت إلى بعض المصادر الأخرى أبحث عن ترجمة وافية لهذا الشاعر علي أهتدي إلى الأسباب التي دفعت هذا الشاعر أن يترك بغداد ويذهب إلى زويلة في جوف صحراء طرابلس. وكان من بين هذه المصادر معجم الأدباء لياقوت الحموي، طبعة دار المأمون؛ فوجدت له ترجمة في الجزء الحادي عشر، ولكن صاحب هذا المعجم لم يتعرض لوفاة هذا الشاعر وأين دفن. أما كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان الذي نشره ديسلان، طبعة باريس سنة 1338؛ فقد أورد له ترجمة صغيرة مكتفياً بذكر بعض الأمثلة من شعره، وقال في صفحة 260:(. . . وتوفي سنة 246هـ بالطيب، وهي بلدة بين واسط العراق وكور أهواز. . .). ثم تصفحت قاموس الأعلام للزركلي فوجدته يذكر في صفحة 209 من الجزء الأول أنه توفي ببلدة الطيب كما ينقل عن ابن خلكان.

فإلى أدباء مصر ومؤرخيها أسوق هذه النبذة راجياً التفضل بتحقيق هذه الأسباب على صفحات الرسالة الغراء حيث لها المكانة الأولى في نفوسنا نحن الطرابلسيين، والأمل معقود بأن يتفضل مؤرخ مصر الكبير الأستاذ عبد الحميد العبادي يتناول هذا الموضوع.

مصطفى بعيو

مسراته - طرابلس الغرب

الخوارزمي أيضاً

أخذ الأستاذ علي محمد حسن المدرس بالأزهر على الأستاذ منصور جاب الله في مقال نشرته الرسالة أنه لم يدقق في بعض أحكامه الأدبية، ومن ذلك دعواه على القدامى بأنهم

ص: 37

منحوا الخوارزمي لقب (الأديب) لأنه كان (راوية)، ونبهه إلى أن الخوارزمي شاعر فحل وكاتب بليغ، وكذلك أخذ عليه جريه مع النقاد القائلين بهزيمة الخوارزمي في المناظرة بينه وبين بديع الزمان الهمذاني

ولقد كنا ننتظر أمام هذه المآخذ أن يدافع الأستاذ منصور عن رأيه، وأن يحدثنا كيف أطلق على الخوارزمي (لقب الأديب) لروايته فحسب؟ ومن الذي أطلقه عليه؟. . . وأن ينتصر للبديع في تلك المناظرة بأسباب وجيهة، ولكن الرسالة طلعت علينا بكلام للأستاذ منصور لا جدوى منه ولا محصول له، فقد وافق الأستاذ علياً على كل ما أخذه عليه، وزاد أنه يعرف المراجع التي استند إليها الأستاذ في اعتراضاته (!) وأنه انساق إلى ذلك انسياقاً (!). وماذا يفيد القراء أن يعرفوا أن الأستاذ منصوراً اطلع على هذه المراجع، ولكنه انساق إلى ما انساق إليه انسياقاً؟. وهل أراد من ذلك أن يغض من خصمه؟

نريد أن نقول للكاتب إن الأستاذ علياً قد نبه على ما نبهه عليه منذ ست سنوات في صيف سنة 1939 حيث كان يكتب في السياسة الأسبوعية ترجمة للبديع يستطيع أن يرجع إليها إن شاء؛ ونظن أن الأستاذ علياً لم يطلع على كتاب المستشرق، كما (نحسب) أن الأستاذ منصوراً لم يطلع عليه ولا سمع به، وإلا لانتفع منه؛ على أن الانتصار للخوارزمي رأي قديم، لا فضل فيه للمستشرقين، وإن كنا لم نظفر بالأسباب التي ذكرها الأستاذ.

أحمد الشرباصي

كلية اللغة العربية

ص: 38