المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 591 - بتاريخ: 30 - 10 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٩١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 591

- بتاريخ: 30 - 10 - 1944

ص: -1

‌تبارك رزاق البرية

للأستاذ عباس محمود العقاد

ذهبت لرد الزيارة لضيف نابه من ضيوف مصر ينزل بفندق كبير من فنادق مصر الجديدة، وكانت الليلة ليلة الأحد والسهرة سهرة راقصة في ساحة الفندق الكبير، فجرى ما لابد أن يجري في هذا المقام من حديث الحرب وملاهي الحرب وأغنياء الحرب وبذخ هؤلاء الأغنياء وحداثة نعمتهم في البذل والعطاء، والروايات في ذلك كثيرة تضيق بها صحائف الإحصاء

منها أن بعض هؤلاء الأغنياء دخل الفندق ومعه زميلة يريد أن يراقصها فاتفقت نهاية العزف الموسيقي في ساعة دخوله، فنادى بأعلى صوته على رئيس الفرقة (فوكس تروت. فوكس تروت)، واستجيب النداء في الحال، لأن رئيس الفرقة على ما يظهر كان من عارفيه ومن طلاب عطاياه

فما هو إلا أن فرغ من رقصته التي لا يحسنها حتى دعا الخادم فأعطاه ورقة بعشرة جنيهات يوصلها إلى الرئيس المستجيب، وورقة بجنيه واحد مكافأة للخادم على مشقة التوصيل!

ومن تلك النوادر أن غنياً (حربياً) آخر أفرغ جيبه في ميدان السباق من ورق لا يحصيه ولا يهتم بعده، تعويضاً لزميلة له عن خسارة زعمت أنها قد منيت بها في بعض الأشواط، وهذه الزميلة لا تذكره بين أترابها إلا باسم (الحمار)

ومن تلك النوادر أن غنياً آخر جازف بعشرين ألف جنيه لينافس بعض الكبراء على هوى من الأهواء

وكانت هذه الروايات - وبعضها حقائق مشهودة - تتوالى على أسماع بعض الغرباء عنها فيدهشون ويحنقون ويغلو بهم الدهش والحنق كما يغلو بهم الخوف على مصير المجتمع المصري من هذه الغوايات في أيدي أناس لا يستحقون ملء الجوف من خبز الشعير، وهم يخدمون شهواتهم بثروات تعبي بها جهود الأكفاء والأمناء. فرفع رجل من الحاضرين إصبعه إلى السماء: رجل من الحاضرين لا شك في إسلامه وإيمانه بوجود الله، ولكنه ذهل عن نفسه لما سمع من تلك المحرجات، فصاح وهو ينظر إلى القبة الزرقاء: أأنت موجود:

ص: 1

أهذه عدل في قسمة الأرزاق؟

صيحة قديمة على ألسنة المحرجين في أشباه هذه الأزمان، قيل إن أبا العلاء صاحها، فقال:

إذا كان لا يحظى برزقك عاقل

وترزق مجنوناً وترزق أحمقا

فلا ذنب يا رب السماء على امرئ

رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا

والبيتان معروفان، ولكن الشك كل الشك في نسبتهما إلى أبي العلاء، وهما أشبه بكلام ابن الراوندي حيث يقول:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا

وأشبه بكلام غيره ممن لا أذكره الآن حيث قال:

تبارك رزاق البرية كلها

على ما قضاه لا على ما استحقت

فكم عاقل لا يستبيت وجاهل

ترقت به أحواله وتعلّت

وما من صيحة في هذا المعنى هي أوجع من صيحة ابن الرومي في قصيدته البائية التي يقول فيها:

أتراني دون الأولى بلغوا ألا

مال من شرطة ومن كتاب

وتجار مثل البهائم فازوا

بالمنى في النفوس والأحباب

فيهم لكنة النبيط ولكن

تحتها جاهلية الأعراب

أصبحوا يلعبون في ظل دهر

ظاهر السخف مثلهم لعَّاب

غير مغنين بالسيوف وإلا الأقلا

م في موطن غناء ذباب

ليس فيهم مدافع عن حريم

لا ولا قائم بصدر كتاب

ولكنه يثوب إلى تسليم الحائر حين يقول:

تبارك العدل فيها حين يقسمها

بين البرية قسما غير متفق

وما هو إلا تسليم الإعياء واللغوب لا تسليم الراحة والقبول

سمعت ذلك الرجل المسلم المذهول وهو ينظر إلى السماء ويصيح: أأنت موجود؟ فقلت: نعم! بل هذا هو الدليل على وجوده. فانه لأعلم بما حرمه الله من نعمة الإنسانية، فلو أراد أن يعوضه عما حرمه لكان قليلا في تعويضه أموال المصارف التي في القاهرة جمعاء

ص: 2

وكانت هذه الصيحة تتردد في مجالس الأدباء ورجال الفنون خاصة؛ فكان يطيب لي أحياناً أن أسليهم وأعابثهم في آن واحد، فأسأل أحدهم: بكم تبيع ما وهب الله لك من الشاعرية؟ وأسأل غيره: وأنت بكم تبيع ما وهب من الذوق الجميل؟ وأسأل غيرهما: وأنت بكم تبيع ما وهب لك من الوسامة والقسامة؟

فمنهم من يقول أنه لا يبيعها بمال الدنيا، ومنهم من إذا سألته تقويم الملكات بالمال دون الرضى ببيعها وشرائها تردد في ذلك وذكر الألوف ومئات الألوف، وهو لا يظن المغالاة، ولو صعد بالتقدير إلى الملايين

فهذى الألوف يا هؤلاء إذن (بدل مفقود). . . وأنتم أول من يرضى بتسويم السلعة على هذا المقدار!

ولا أدري لم لم تخامر في قط نقمة على نظام الكون من هذه الناحية في أوائل الشباب حيث تكثر الشكوى ويكثر الطموح، أو فيما بعد ذلك حيث يكثر إيمان الإنسان بحقه في الراحة والرجحان، ولعلها قلة الاكتراث بالمال هي التي جعلتني أصغره في حسابي أن يكون التفاوت فيه علة الشك في نظام الوجود.

فقديما - قبل أربع وعشرين سنة - عرضت لهذه المسألة في مقدمة الطبعة الثانية من مجمع الإحياء، فقلت يومئذ: (لم أزل منذ دارت في نفسي هذه الخواطر أسمع حجة واحدة هي أكثر ما يورده الناس على فساد نظام الكون، وهي مع ذلك أوهن الحجج وأظهرها بطلانا، وتلك الحجة هي تباين موازين الجزاء وتنزلها على خلاف المقرر المسلم به في عرفهم. فهم يقولون: أما كان العدل يقضي بالتسوية بين الناس في منازلهم وحظوظهم؟ أليس من الغبن أن يغتضر الشاب ويؤخر الهرم، وإن يحرم العامل ويغدق على العاجز وأن يرتفع الوضيع ويبتذل الكريم؟ وإن كان هذا مراد الأقدار أفما كان في وسعها أن ترضي كل مخلوق بنصيبه وتغنى كل طالب عما ليس في يده؟ وازدادت هذه الشكوى بعد الحرب الكبرى فسمعت في كل مكان، وكان لها فعل عجيب في تغير الأحوال، وستسمع في كل حين ما دام الاختلاف بين الناس فتكون من أقوى دوافع التيار الإنساني. . . والشاكون بهذا اللسان لا يداخلهم الريب في عدل شكواهم، وينسون أن أنانيتهم هي الشاكية المتلهفة على التغيير وإن ليس العالم هو المفتقر إليه، المتوقف نظامه عليه، وإن أحدهم ليقول في أيام

ص: 3

رضاه ما لا يقول في أيام سخطه، ويتقلب أمله في حالتي الرضى والسخط. فهل يريد أن يتحول العالم معه كلما تحولت به الصروف وتقلبت عليه الآمال؟. . . يشكون من تفاوت الأعمار والحظوظ، وهم إنما تعجبهم من الرجل شجاعته وهمته وجوده، لأن الأعمار مجهولة، ولن يكون لرجل على رجل فضل بشجاعة أو همة أو وجود لو زالت المخاطر من الدنيا وتساوي الناس في الآجال أو أمنوا الموت إلا في وقت معلوم، فإذا أمن الشيب والشبان فهل يرضيهم هذا العدل الذي لا تعيش معه فضيله، والذي يجعل الإنسان أشبه بالإنسان من اللبنة باللبنة، فتبطل مزايا البأس والذكاء والأريحية والمروءة: لا قائد ولا مقود ولا سيد ولا مسود ولا حاسد ولا محسود، ولا تتشعب علوم أو تتنوع صناعات أو تتعدد خصال وأعمال أو تتفرع أجناس واديان. فأي دنيا تكون هذه وأي حياة؟ إن هؤلاء الشاكين لو أسند إليهم أمر السكون لحاروا في تصور هيئة غير هيئته ولهدءوه قبل أن يؤسسوه)

منذ أربع وعشرين سنة كانت الحال كهذه الحال، وكانت الدنيا في أعقاب حرب كهذه الحرب، وكان أناس مسلمون وغير مسلمين يصيحون تلك الصيحة وهم ينظرون إلى السماء: أأنت موجود؟

وكنت طوال حياتي أرضى أن أقول مع البحتري في لاميته الميكالية:

أعد أجل النائبات رزيئة

وفور الرزايا وانثلام الأماثل

ولولا اهتمامي بالعلي وانعكاسها

لما ارتعت ذعراً من تعلي الأسافل

ولكني لا أرضى أن أصيح صيحة ابن الراوندي، ولا صيحة غيره من المحرجين في قسمة الأرزاق، لأن مقداراً من الدراهم ينقص هنا أو يزيد هناك لا يزري بنظام الكون كله ولا يساوي أن تنظر إلى القبة الزرقاء نظرتك إلى خواء

فالآن أجدني في هذه الحرب أعيد إلى نفسي ما ابدأته في الحرب الماضية، وأجد أن لامية البحتري تسعدني بالشواهد حيث تقول:

أواخر من عيش إذا ما امتحنتها

تأملت أمثالا لها في الأوائل

وما عامك الماضي وإن أفرطت به

عجائبه إلا أخو عام قابل

أجل هي ليلة شبيهة بالبارحة، وفي كل عام قابل أو غابر عجائبه التي تغنيه، ومسائله التي

ص: 4

ترتفع منها الصيحة إلى القبة الزرقاء.

ولكنني إذا أنكرت الصيحة إلى القبة الزرقاء فليس في وسعي أن أنكر دواعيها ولا مواجع النفس الإنسانية منها، وغاية ما أصنعه بها أن أحولها من صفحات علم التوحيد أو علم (اللاهوت) أو علم ما وراء الطبيعة إلى صفحات علم آخر هو أولى بها وأحق بتصريف أمرها، وهو علم الاقتصاد أو علم التشريع، لأنها مسألة الأرض والعمل وليست مسألة الآباد والأزال.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الحروف اللاتينية

للكتابة العربية

للدكتور عبد الوهاب عزام

ذهب الأستاذ عبد العزيز باش فهمي مذهباً عجباً في نقد محاضرتي اللتين نشرت خلاصتهما في مجلة (الثقافة)، بعد أن حشر ما حشر من الكلم الجافي الذي ذكرت نبذة منه في المقال الأول، وإجمال هذا المذهب العجيب أنى كلما ذكرت مقدمة يقتضيها سياق الكلام قال هذا أمر معروف، وكلما عرضت لمزية من مزايا الخط العربي إيفاد لبحثي في (الخط العربي مزاياه وعيوبه) قال هذا ليس في الموضوع. فالموضوع في رأي الأستاذ هو الاعتراف بقصور الخط العربي وسقمه والعدول عنه فوراً إلى الخط اللاتيني. هذا هو الموضوع، فمن جادل فيه فقد حاد عن الموضوع.

بينت حاجة البشر إلى الإبانة عما في أنفسهم، ونقلت جملة من كلام الجاحظ في هذا. فقال الأستاذ:(آمنا وصدقنا، لا لأن الجاحظ أو غير الجاحظ قاله. بل لأن هذا ضرورة ماسة واقعة يدركها كل إنسان، سواء أرادها الجاحظ وغيره أو لم يريدوها. . . وليس هؤلاء المفكرون إلا مجرد مسجلين للواقع المقضي بالضرورة. وهذا التسجيل أستطيعه أنا وأنت وكل عالم متمكن وكل ناقصي التعليم. الخ). ولست في حاجة إلى أن أدحض هذا الرأي فهو داحض بنفسه

وبينت تاريخ الخط في العالم وتسلسل الخطوط من الخط الفينيقي إلى الخط العربي، فاستبان أن الأصل القريب للخط العربي هو الخط النبطي. فقال الأستاذ:(وهو تقرير يستطيعه كل إنسان يعرف لغة أجنبية فيطلع على معجم من معاجمها المطولة. الخ).

أفكان حتما علي أن أترك هذا الحديث وأحذف مقدمة لابد للبحث منها من أجل أن كل إنسان يعرف لغة أجنبية يستطيعه؟ وهل من الحق أن كل من عرف لغة أجنبية استطاع أن يكتب في هذا الموضوع. إن الأستاذ يكلف الناس علمه وذكاءه فيكلفهم شططاً

وقلت إن الخط العربي خط أمم منتشرة في أصقاع مترامية، وأن هذه الأمم على اختلاف لغاتها، أخذت هذا الخط فزادت فيه ما احتاجت إليه وأحكمته وجملته. فقال سعادة الأستاذ: (وهذا التقرير معروف الموضوع عند الجميع. . . فهو هنا مجرد حشو وتزيد لا غناء

ص: 6

فيه).

وكذلك ادعى الأستاذ في مسائل أُخرى تحتاج إلى البيان أو يحتاج إليها الاستدلال: أنها معروفة ذكرها حشو وتزيد كأن كل مستدل يلزمه أن يحذف المقدمات المعروفة، ويأتي بدعواه منكرة يعوزها الدليل. أليس الاستدلال يا سعادة الأستاذ هو الاستعانة بالمعروف على معرفة المجهول

لم أستطع والله أن أنسى وأنا أقرا هذا الكلام وشبهه قصة جحا المشهورة، إذ صعد المنبر فقال: أتعرفون ما سأقول؟ - إلى آخر القصة التي يمنعني من ذكرها أنها معروفة يعد ذكرها حشواً وتزيداً

وقلت إن من مزايا الخط العربي أن السامع يستطيع أن يكتب به ما يسمع دون عناء. ولا كذلك الخطوط اللاتينية؛ فإن سامع الكلمة من بعض لغاتها لا يستطيع أن يضبط كتابتها بالسماع، ولابد له أن يراها مكتوبة أو يعلم كتابتها، ومقصدي أن أبين مزية من مزايا الخط العربي واللغة العربية، وموضوعي هو تبين المزايا والعيوب.

فقال الأستاذ: (إن حضرة المحاضر في هذه القطعة ينسى نفسه تماماً. . . إن أحداً لم يشك لحضرة المحاضر ولا لغير حضرة المحاضر من أن الكاتب بالعربية لا يستطيع أن يكتب ما يسمعه. ما شكا أحد هذا إليه قط، لأن أحداً - حتى ولا عطية كاتب الزراعة الجهول - لا يكاد يخطئ في رص حروف النغمات بعضها تلو بعض على الترتيب الذي يسمعه). إلى أن ذكر الأستاذ أن هذه الكتابة التي تسهل على السامع بشكل على القارئ قراءتها الخ. فهل إشكال القراءة وهو مسألة أُخرى ينفى هذه المزية، مزية السهولة واليسر على الكاتبين. أقول الكتابة العربية سهلة على الكاتب. فيقول الأستاذ: لا تقل هذا فإنها صعبة على القارئ. فهل هذا جدل يساير (أدب البحث والمناظرة). ومن الذي نفسه في هذا الجدال.

وقد رأيت - وهو رأي لم أسبق إليه، وإن عده الأستاذ معروفا عند الناس أو في غير الموضوع - أن حذف حروف الحركات من الكلمة ملائم للغات السامية، والعربية خاصة. ورددت هذا إلى اشتقاق هذه اللغات، والتفريق بين الأصول والزوائد فيها. وقلت لو كتبت الحركات أثناء الكلمات لاضطرب اصل الكلمة، وبان في صور مختلفة، وضربت مثلا مادة كتب وقلت لو كتبنا:(كاتابا يا كتوبو، في الماكتابي، كيتابن). بدل: (كتب، يكتب، في

ص: 7

المكتب كتاباً) لالتبست مادة الفعل، وهي أصل الاشتقاق والعمدة في التصريف، وظهرت في صور تلبس الأصلي بالزائد - ولهذا كان خيراً أن تشكل الكلمات العربية شكلا خارجا عن بنية الكلمة.

قلت هذا فقال سعادة الأستاذ ما خلاصته: إن اشتقاق العربية وتغيير المادة فيها تغيراً كثيراً يجعلانها أولى بالضبط من اللغات الأُخرى التي لا تتغير موادها أو التي يقل فيها التغيير الخ.)، وما كانت دعواي أن العربية باشتقاقها غنية عن الشكل؛ بل كانت الدعوى أن الشكل الذي وضعه الخليل ابن أحمد أقرب إلى طبيعة العربية من إدخال حروف الحركات في ثنايا الكلمة، فنسى الأستاذ هذه الدعوى وذهب يجادل في غيرها. ثم ختم كلامه بقوله:(وعلى كل حال فإن الكلام في هذا الصدد هو كما ترى من قبيل الأدلة الخطابية المتخاذلة التي إذا عصرتها لم تجدها شيئاً، ولم تدرك لها آية فائدة فيما نحن فيه)

ولست أدري كيف سمى الأستاذ الاستدلال بالاشتقاق والتصريف والحروف والحركات أدلة خطابية. أنها أدلة برهانية واضحة، ليست من قبيل الخطابيات، ولكن الأستاذ يجادل كما يشاء، ويدعي على مجادليه ما يشاء، ويسمي الأشياء كما يشاء؛ فكيف يستقيم معه جدال؟

لم أرد الاستقصاء في هذا الجدال ولكن التمثيل. وحسبي ما ذكرت، وإني أعترف أني عاجز عن الجدال على هذه الطريقة، بل الجدال على غير طريقة، وقد رجعت إلى نصيحة صديق لي من زعماء فلسطين نصحني ألا أحفل بالرد على مثل هذا الكلام

عبد الوهاب عزام

ص: 8

‌صلوات فكر

في محاريب الطبيعة!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

أقباس من ظلمات القبح

إن القبح يتعرض لي لأصوره في صحفي! أليس قانوناً مؤثراً في حياة الأرض كما يؤثر الجمال؟

إذاً فاستيقظي يا رؤوس الشر والقبح التي طال نومها وصمتها في دنياي، وحدثيني حديثك. . ارفعي رأسك، وجرجري جسمك، وارقصي أمامي رقصاتك فقد جاء دورك!

وما صور الأهوال في جحيم (دانتي)، ولا خيال الطفولة عن السعالي والغيلان والجنان في كسف الظلام، ولا أحلام الكظة و (الكابوس) على صدر نائم ممتلئ واسع الخيال مرهف الحس بأشد تهويلاً وتخييلاً وافتناناً مما أراه الآن في عالم القبح. . .!

سيالات متدافعة من ظلمات الأوهام. . . وتهاويل مفزعة من شناعات الأشباح والأجسام. . . وصور وأطياف من الوحل والجمر والقيح والصديد والغسلين والزقوم وزفرات البراكين ورؤوس الشياطين، كل أولئك بعض ما تمر مواكبه في خيالي الآن وأنا أستعرض ذلك العالم!

فسيري أمامي يا جنود الشر التي تطمس نضارة الحياة وتنهش جسمها العبقري وتشوه محياها الجميل. . .

انسابي أيتها الزواحف السامة في جنح الليل تحت أقدام الأحياء، وروعيها بفحيحك الهامس ولسعك القاتل. . .

إنك نفوس في أجسام حية أيضاً، ولكنها نفوس تعيش مقبوحة مسلولة ملعونة مطاردة تجرجر أجسامها في العفونات، وترقب الحياة في الأحياء العليا بعيون حديدة محمومة من الحقد، وأنياب يغلي فيها السم المخزون في رؤوس كلها حويصلات أذى. . .!

انعبي أيتها البوم والغربان على الأطلال والخرائب بصرخات تفزع منها طمأنينة النفس وتترك فيها أنغاماً جنازية قابضة تدبر منها بهجة الحياة. . .

ص: 9

عيشي أيتها الجعلان والحنفسان والدود في الخبائث والعفونات، وعلى أشلاء الأحياء، غائبة عن عالم النور والعطر والطهر. . .

رصعي أيتها السوس والبرغوث والبعوض حقول النبات وأجسام الإنسان والحيوان، وأعطبي ثمراتها، وامتصي دماءها، واشربي ماءها. . .

اخفقي أيتها الخفافيش البغيضة حائرة محرومة في غبش المساء بين الخرائب والأطلال فلم يبق لعيونك الخشاء إلا وشل من النور تسبحين فيه، وتحومين على الوجوه بمس كريه

خوضي أيتها الأحياء الدنيئة في الأوحال والمناقع والأدغال متربصة بالأذى على طريق الحياة. . .

انبعثي أيتها العفونات والمنتنات وازكمي الأنوف وأفسدي الأذواق والطعوم واخنقي عطور الأزهار وطيوب الأشجار

اضربي يا أكف الظلام النجم بالأفول، والصحة بالمرض، والصبا بالشيخوخة والذبول

ثوري يا جبال النار واقذفي الحجارة المصهورة، والمعادن الذائبة، والشواظ الحارق، وانشري ذوائبك السود على أجواء الأحياء. . .

وأنت أيتها المقابح الخفية في قلوب الناس! اطمسي جمال الحياة من داخل النفس كما تطمسه تلك من خارجها. . .

انشري العقوق والحقد والبغض والحسد والرياء والكبرياء وفرقي بين الأحباء. . .

كُلي قلوب البشر وأكبادهم، وأثيري شهوات أحشائهم على حكومة العرش الأبيض الهادئ في رؤوسهم. . .

أعيدي إلى أضراسهم وأنيابهم وأظفارهم سعار اللحم والدم، وأدلعي ألسنتهم بالسباب والعهر والمهاترة والعواء. . .

اجعلي لبطونهم سعة البحر، ولأطماعهم جوع الجحيم. . .

تسللي أيتها الجريمة رهيبة مخيفة للغيلة والغدر، واختطفي حياة نفس آمنة شفاء لحزازات حقيرة وتلبية لصراخ الغرائز الوحشية. . .

أمطري الدمع والدمَ، وأحرقي شغاف القلوب ولفائف الصدور بالإثم. . .

ازرعي قرون الشيطان أبيك العتيد في كل مكان، وضاعفي البذور ليتضاعف محصول

ص: 10

الحصاد. . .

ابرزي أيتها الحرب راقصة عارية بادية السوآت خاضبة بالدماء، حاجلة على جماجم العباد وأنقاض البلاد. . .

اختطفي زهرات الشباب من أحضان الأمهات والزوجات وضميهم إلى أحضانك الجافية القاسية عاشقين مخدوعين فانين. . .

تربعي أيتها الجهالات والضلالات، وانشري سلطانك الغشوم المقيت على أفكار الحيوان المقدس!

افعلن كل أولئك يا جنود الشر والقبح وخذن مكانكن من مجال المعركة الأبدية بين الخير والشر وبين القبح والجمال في هذه الدنيا لترى نفس ما تختاره لنفسها في تلك الآنية الموعودة التي لا يكون فيها مزيج من الخير والشر والجمال والقبح في مكان واحد. وإنما للخير والجمال وحدهما مكان، وللشر والقبح وحدهما مكان. . .

فإن كانت الدنيا مزيجا من عالم الجنة (وهو المباهج واللذات والكمالات) وعالم النار (وهو المقابح والآلام والنقائض) فإن الآخرة عالم جنة أو نار خالصة. . .

وقد شاء الله للإنسان أن يحيى حياته في الدنيا ذات الصبغة المزدوجة ليتعرف إلى العالمين ويختار أحدهما. فهو إذاً المسئول عن عذابه بعالم القبح والشر الخالص في أخراه، إذ أنه هو الذي اختاره لنفسه في دنياه. . .

ومن العدالة ووضع الشيء في موضعه ألا يدخل دار الجمال والخير إلا من مرن على الصفات الأساسية اللازمة لسكناها ومعاشرة قطانها. .

ومعاذ الجمال أن يوضع البعر في طاقات الريحان والزهر!

أجراس

في سمعي من سير الزمان أجراس رنانة تدق بالليل والنهار. . .

هي أجراس السكون والصمت اللذين يغمران العالم الأعلى. . .

لا يشغلني عنها شاغل من ضجة مطارق البشر في المصانع والمناجم، أو جلجلة مدافعهم وقوارعهم في الملاحم، أو رنين صحافهم وأقداحهم في المباهج والمناعم، أو عويلهم وصراخهم في المآتم، أو عربدات مجانهم في المباذل والمآثم. . .

ص: 11

وسهل أن ألاقي أجراس الحركة بأذني وحاستي المحدودة. أما أجراس الصمت والسكون فعلي من ضجتها ضغط ثقيل أجتمع له بجميع حواسي وقوى نفسي!

الزمن

في (الكرنك) قضيت في الشتاء الماضي سويعات من الزمن! والكرنك أعظم رحبة من رحبات الأطلال الفرعونية؛ فهو أثر صناعي بشري ليس من الطبيعة. ولكن الزمن أضفى عليه من سحره ما جعله فيما وراء الوعي مني كأنه محراب من محاريبها. لفرط إيغاله في القدم حتى ليتصل ببواكير التاريخ الإنساني المعلوم ويتاخم منطقة المجهول من ذلك التاريخ

والزمن تشتد الحساسية به في هاته الرحاب حتى لكأنها مقبرته. نرى فيها مومياءه وجثوته تضحك لنا بفكين مقبوحتين وعينين مطموستين وشفتين مقلوصتين! وتغمرنا منه سيالات ورعشات حتى لنحسه حين نحس هذه الأطلال التي طالما رأت صباحه ومساءه وصيفة وشتاءه وظلاله وأفياءه وظلماته وأضواءه في يوم واحد معاد مكرور يشيب الصغير ويفنى الكبير ويبلى الحجر. . .

وبيني وبين الزمن علاقة سيئة! فأنا لا أباليه ولا أحفل به كثيراً. فالحياة عندي منذ أدركتها يوم واحد لا أزال في بهجة من تعاجيب صبحه وضحاه. .! وقد أقبلت على حدود الأربعين ليس بيني وبينها إلا خطوات ثلاث. ومع ذلك فأنا من حساسيتي بالطبيعة وأذواق الحياة أسير فيها كمبتدئ حياته أو كمبتدئ رحلته، يريد أن يتخفف من أثقال الزمن وأوقاره حتى يعبر الأسواق بجسم خفيف ونظر طليق لماح يرى كل يوم جديداً. . .

ومع هذا الشعور الذي يكاد يلازمني قد أحسست حين دلفت إلى معبد الكرنك بين صفين من تلك الكباش الرابضة منذ خمسة آلاف سنة تستقبل الوافد في وداعة وقوة، أنني قادم على الزمن شيخاً هرماً راعشاً راهباً ترهب وتعبد في الحجرات المظلمة والدهاليز المتداخلة والأقبية المسحورة التي تضمها أسوار هذا المعبد

وقد تركت لرفاقي حظ الاستماع إلى شرح (الدليل) وسرد التفاصيل، وأقبلت على أوهامي تلعب في ملاعب الأوهام القديمة التي كانت تعيش بها الإنسانية في تلك العصور السحيقة وتجسمها في التماثيل والتهاويل التي على عجزها وجمودها تثير خيال ناظريها واللائذين بها وتجعلهم يخلعون عليها ألوانا من حياتهم ويبادلونها أحاديث نفوسهم. . .

ص: 12

أأطلال هذه أم ظلال! وجنادل وصفاح أو أوهام وأشباح! أهذه أعمدة لمعبد القارعات أو كاهناته الراقصات! أنهاري هذا الطالع المشرق أم نهارهم! أبقايا ظلام مخزون هذا الذي أراه جاثما في حجرات أسرارهم أو ظلام جديد!

أهذه النسمات التي تمسح وجوهنا الآن خفقات رياح القرن العشرين بعد الميلاد، أو رياح القرن الأربعين قبل الميلاد! أنحن أرواح بائدة تجول في خلال هذه الأطلال أم نحن فلان وفلان وفلان من أبناء هذا الزمان؟ أقصائد مرسلة هذه الأطلال أم حجارة ميتة جامدة!

ألا بقية حياة تحدثنا بصوت حي بين الرجام؟!

ألا تعست الأحلام وخابت الظنون! فبين اليوم وأمس جدار بحجم دورة الشمس في عرض السماء! فما بالك بما بيننا وبين هاتيك الأيام من دورات!

لماذا هذا التعلق بالبقاء يا أبناء الفناء؟ لماذا تولهون قلوب الأحفاد أيها الأجداد؟ لماذا تعمقون الإحساس بالزمن؟ امضوا من غير أن تتركوا صوى وأعلاما على الطريق، حتى لا يراع بعدكم أحد، من طول المدى بين الأزل والأبد!

وإنه ليخبل عقلك ويشرد لبك أن تبحث عن عمار هذه الهياكل الذين كانوا! وأن تضع قدميك على مواطئ أقدامهم، ويديك على ملامس أيديهم، وعينيك على مواقع أنظارهم!

وإنك لتحس لذع السخرية يصبها الزمن على حسك ووعيك حين تحين منك التفاتة إلى وجه الشمس من خلال ظلل المعبد؛ فتراها لا تزال كما رآها أجدادك جديدة الوجه عنيفة الشباب مصقولة المرآة قوية الضحوة، وكأنها بنت يومك أنت ولدت في صبحه وبكرته!

وانك لتوشك من فرط التخييل أن تنادي الأفراد المغمورين المملوكيين والسادة المالكين والكهنة حاضني الأسرار ليجيبك صدى صوتك مردوداً إليك باليأس والعجز بعد أن تتلقفه الزوايا والأبهاء وتعوي به التماثيل الصماء!

أكذلك أطبق ظلام الموت وظلام الأرض على أشخاص الأحياء فغابوا فيه ثم بقيت أعمالهم في محيط الجوامد الخوالد؟!

أكانوا أمواج ماء اضطرب به سطح الأرض فأرغوا وأزبدوا وهدروا، حتى وصلوا إلى شاطئ الموت فانسلحوا وفنوا بأصدافهم وقواقعهم وزبدهم وغثائهم!

أذهبوا وبقيت أحجارهم خالدة؟

ص: 13

وهل يملك فانٍ أن يصنع خالداً؟

لقد أحسها حسرة (لبيد) فأرسلها كلمة جاهلية ترجمت كل معاني إحساس النفس البشرية بالألم في كل عصر حين ترى أن نصيبها من الزمن أوكس حظا من نصيب الجماد. إذ قال:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع

وتبقى الديار بعدنا والمصانع!

عبد المنعم خلاف

ص: 14

‌فتنة وحدة الوجود

والدكتور زكي مبارك

للأستاذ دريني خشبة

لست أدري علة هذا الموقف الذي يحاول أن يقفه الصديق الفاضل الدكتور زكي مبارك من فتنة وحدة الوجود! لقد حاولت بكل الوسائل أن أجتذبه إلى الميدان الذي لم يكن شك في أنه واجد فيه أخوة كريمة وصراحة تامة، وطريقاً منضورة بالورد. لكنه آثر السلامة آخر الأمر، وليته في إيثاره السلامة كان رحيماً بالناس كما يقول فأغلق باب جهنم حتى لا يصلى بحرها أحد لا من الخاصة ولا من العامة. . .

لقد وعد الأخ الكريم أن يجلي للناس غامض هذه الفتنة بعد إذ لاحظ أن كل الذين كتبوا عنها حاموا حولها ولم يخوضوا فيها. . . لكنه أخلف، ثم وعد، ثم اخلف، ثم وعد. . . ثم آثر السلامة آخر الأمر، خوفاً من بلبلة أفكار المسلمين، وإشفاقاً على العامة من أن يزلزل إيمانهم. . . فما هذا الذي يقوله الأستاذ؟ وأي وسيلة لبلبلة الأفكار أفتك من هذه الوسيلة من وسائل الحوار؟ إن الأستاذ بموقفه ذاك يلقى الريب في قلوب المسلمين أضعاف ما كان يفعل لو أنها توكل على (الوجود المطلق الكلي) فشرح لنا وحدة الوجود كما يفهمها ويؤمن بها. . . على أنني أسبق فأطمئنه؛ فمهما حاول الأستاذ أن يوهم بأن الذي قاله الشيخ معروف الرصافي في هذه الوحدة حق، فلن يتأثر بإيهامه أحد من المسلمين الصادقين الذين لا يعقلون كيف تكون الحمير والبغال والمجانين والببغاوات. . . و. . . وهذه القطة النائمة التي (تخربش) من يوقظها أجزاء من الله الذي يعبدونه ويخبتون له أو مظاهر لهذا الإله العجيب الذي يقول أنصار وحدة الوجود أنه لا وجود إلا له. . . أما هذه المخلوقات فهي باطل. . . هي وهم. . . ولست أدري كيف يكون وجود الرصافي وهماً وباطلا، ووجود الدكتور زكي مبارك وهماً وباطلاً. . . وهاهو ذا يعترف بوجود نفسه ويعترف الناس بوجوده ويأكل ويشرب ويسافر وحده أو مع غيره ويعلم وينتفع الناس بعلمه وينصح التلاميذ الأغنياء ويواسي التلاميذ الفقراء، ويكتب في الجرائد والمجلات ويحاضر ويخطب ويؤلف إلى آخر ما يقوم به من شؤون هذه الحياة الدنيا ولست أدري كيف يؤمن أخي الدكتور زكي مبارك بأنه لا وجود له وهو ينكر الموت في السؤال الذي يوجهه إلي

ص: 15

لأحترق إذا حاولت أن أبينه له! إن الوجود كما تقول يا صديقي ليس فيه موت، فكيف تؤمن بوحدة الوجود إذن وهي تقول - أو المخرفون الذين يؤمنون بها يقولون، إن الموجودات كلها عدم، ولا وجود إلا للوجود الكلي المطلق الذي لا أدري وحياتك يا أخي ما هو؟ ثم كيف تجهر يا أخي بأنك تكفر بالموت؟ أتعني بذلك أن أحداً من حضرات أجدادك - وأجدادي - لم يمت؟! أحذر يا أخي أن تظن أنني أستهزئ بأحد، فالمسألة أجل من هذا! أحرام إذن أن أدعو لوالدي وأجدادي بالرحمة، وهذيان أن أقول اللهم ارحم أجداد أعز أصدقائي الدكتور زكي مبارك؟! ثم ما هذا الذي تقوله يا أخي؟ لماذا توهم الناس أن وراء الأكمة قطة (تخربش)! وقد آثرت القطة الظريفة اللطيفة السلامة؟ ثم ماذا تصنع الخربشة ما دام أنه لا موت؟ وماذا في الاحتراق تخيفني به وهو لا يميت؟! ولماذا تمنعني عن الإجابة على سؤالك فتدعوني بهذا المنع إلى السكون، وأنت نفسك في سؤالك تجهر بأنه لا سكون. . . وبهذه المناسبة يا اخي، هل باطن جبل المقطم متحرك غير هذه الحركة الكلية التي تحمله فيها الكرة الأرضية في رحلتها السماوية؟ وهل باطن الجنيه الذهبي الذي تشتري بألفين منه - ألفين عداً ونقداً - عزبة عامرة بفلاحيها وجاموسها وبطها وأوزها؟ وإذا كان باطن المقطم متحركا، وباطن الجنيه - الجنيه الذهبي! - متحركا، وباطن كتلة الفولاذ متحركا، وباطن زجاج كؤوس الطلي التي حفها - أو لم يحفها - الحبب - المتحرك دائماً - متحركاً. . . فعوضنا نحن المؤمنين السذج على الله في عقولنا، أو في غباوتنا!

آه. . . تذكرت. . . إن كتلة المادة مركبة من إلكترونات! والإلكترونات هي هذه الذريرات من الكهرباء السالبة تدور بسرعة حول بروتونات من الكهرباء الموجبة. وعلى هذا فكل شيء متحرك حتى باطن جبل المقطم وباطن الجنيه الذهبي والفولاذ وزجاج كؤوس الطلي. . . وحتى الموتى متحركون بتحرك ذراتهم على هذا النحو. . . وليس في الدنيا فضاء لأن الفراغ الموهوم بين الكواكب والسدم تملأه الجاذبية؟! وما الموت عندكم إلا نوع من أنواع التجول!

ولكن ما هذا كله وما نحن فيه! لماذا تخيفني يا أخي إن أنا أجبت على سؤالك الهائل على هذا النحو؟ وبعد صدور الرسالة صبيحة يوم الأحد بنصف ساعة؟! هل كنت تحسب أن الإجابة على هذا السؤال هي من قبيل ذلك المضنون به على غير أهله؟ لأنه من العلوم

ص: 16

اللدنية. على أن الأمر أيسر من أن يخفى وراءه أحداً. أنك تريد أن تقول إنه ليس في الوجود فضاء، فلا مكان لله إلا المكان الذي يشغله العالم!؟ وعلى هذا فالله حال في العالم. وإذن فأنت تؤمن، مع إيمانك بوحدة الوجود، بالحلول الذي ينافي الإسلام الصحيح

يا آخي:

قبل أن نبعد. . . أصارحك أنني لا أقبل الدنية في ديني، ومن الدنية في الدين أن ألف معك إذا لففت، وإن أداورك إذا داورت. لنكن صرحاء إذن. فمن ورائنا ألوف القراء من المسلمين ومن غير المسلمين يرتقبون أن تنكشف هذه الغمة التي لم أفر من ميدانها حينما طلبت إلى أن أساجلك فيها، ولم أطلب أنا منك شيئاً قط قبل أن تبدأ أنت بطلب هذه المساجلة، في أمر أنت أول من يشهد بين يدي ربك أنه باطل، لأنك أقمت على ذلك الحجة التي لا تدفع في كتابك القيم الذي كان سبب هذا الشر، ولن يصدقك أحد اليوم إن تصيدت المعاذير عن نقضك لهذه النظرية بمثل الحجة الفارغة التي جئت بها في كلمتك الظريفة في العدد الماضي، والتي تدعي فيها أن (البحث العلمي الذي ارتضيته لنفسك يوجب أن تدرس كل نظرية من جميع الجوانب مع التحرر من رأيك الخاص، حرصاً على تثقيف قرائك). فليس هذا بعذر! لأنك لم تتبع تلك الطريقة في أي كتاب من كتبك، لأنك أقمت الدنيا وأقعدتها بكتابك عن الغزالي لأنك أعلنت فيه عن (رأيك الخاص) الذي كان الإجماع منعقداً ضده ومع ذلك فقد انتصرت! هذا، وقد ألممت، بالرغم من ذلك بكل النظريات التي سبقت إليها عن الأخلاق عند الغزالي، وأرجوك أن تعود إلى كتابك الثمين هذا فتقرأه إن كنت قد أنسيت ما فيه

ثم أنت قد أتيت في كتابك عن النثر الفني - هذا الكتاب القيم أيضاً، الذي أشدت لك ألف مرة بقيمته، بالرغم من البقع الكبيرة التي فيه، بنظريتك العجيبة التي لا يقرك عليها أحد في إعجاز القرآن بمعانيه لا بأسلوبه. وهذه النظرية هي بلا شك رأيك الخاص الذي جئت اليوم تزعم أنك تخفيه وتتحرر منه في دراستك لأي نظرية من جوانبها المتنوعة. . . وأعود فأرجوك أن تعود إلى كتابك الثمين هذا فتقرأه إن كنت قد أنسيته

ثم أنت أيضاً في كتابك عن التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق لم تكن مقراً للنظريات التي سبقك إليها الناس، وإلا ما استحققت قط أن تمنحك الجامعة درجة الشرف في الفلسفة.

ص: 17

بل منحتك الجامعة هذه الدرجة لحسن مناقشتك لتلك النظريات وتزييف ما يستحق التزييف منها، وإحقاق ما يستأهل الإحقاق، ولو من وجهة نظرك أنت، لا من وجهة نظر الممتحنين. . . ويؤسفني أن تضطرني إلى تذكيرك بهذا كله بعد كل ما نلته من درجاتك الجامعية. . . كما يؤسفني أن أراك تقف هذا الموقف في قضية لا تستطيع أن تجهر برأيك فيها بعد أن أعلنت (أنا) للعالم أنك عندي أجرأ كاتب في مصر، بل في لشرق العربي كله! فإذا سألتك هل تخشى على الإسلام شيئاً من إعلان ما تعتقد أنه الحق في نظرية وحدة الوجود نفيت ذلك النفي الشفشاف، وقلت: كلا، بل خشيتي هي على عامة المسلمين الذين لا خير لهم في الإيمان بهذه النظرية. . ولست أدري لماذا لا ترى لهم مصلحة في الإيمان بها؟ أليس كما قررت في كتابك لأن هذه النظرية تهدم القوانين والشرائع وتنسف الأخلاق المقررة التي تواضع عليها الناس، والتي يكون أمرهم بدونها فوضى يستوي فيها الخير والشر، والتقى والدعارة، والهدى والعمى، والرشد والغواية، والأبيض والأسود، والسجود بين يدي الله الواحد القهار، وإكباب المرء على حليلته في وضح النهار!

ما هذا الموقف الزئبقي يا صديقي؟

كيف تتنكر لماضيك بهذه السهولة وبذل اليسر؟ وكيف تخشى أن تعلن عن رأى تؤمن أنه الحق، وأنت تعلم أنه ينقض ديننا الحنيف وينافيه، لأنه دعوة إلى التجسيم والحلول، وإن حاول أهل وحدة الوجود أن ينكروا ذلك بادعائهم أن جميع المخلوقات باطل ووهم لأنه لا موجود إلا الوجود المطلق الكلي؟

وبعد. فقد كنت لخصت آراء صاحبك الرصافي التي علق بها على كتابك في التصوف. . . وقد ذكرت أن هذا الرجل يجهر بما يأتي:

1 -

أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مخترع خرافة وحدة الوجود

2 -

وأنه لم يخبر بذلك أحداً من أصحابه إلا ما لمح به لأبي بكر

3 -

وأن القرآن من تأليف محمد بدليل ما دأب على ذكره من قوله: قال محمد في القرآن

4 -

وأنه كان يعتذر لمحمد عن ذلك بأنه كان يفنى في الوجود المطلق الكلي فيخيل إليه أنه ينطق بلسان الله الذي هو هذا الوجود

5 -

وأنه لا يرى معنى للصلاة والأدعية لأنها لن تغير في نظره شيئاً من قوانين الوجود

ص: 18

المطلق الكلي التي هي قضاء الله وقدره. . .

6 -

وأنه لا يرى معنى للبعث الذي يؤمن به المسلمون وجاء به القرآن الكريم

7 -

وأنه لا يرى معنى للحساب، ولا للثواب وللعقاب. إنما الثواب أن (يموت الإنسان) فيعود إلى التراب ويتحد بالوجود المطلق الكلي. . . والعقاب هو ذاك أيضاً مع شيء من وخز الضمير

8 -

أن المتضادات أمام الوجود المطلق الكلي سواء، ومن هنا استواء الخير والشر وغيرهما مما قدمنا. ومن هنا ألوان الشذوذ الأخلاقية الني نددت من اجلها بالمتصوفة. . . أو ببعضهم. . . في كتابك

9 -

أنه يخضع تفسير كثير من آيات القرآن لأهوائه في خرافة وحدة الوجود. فالله: الظاهر والباطن. أي المنظور المسموع المشموم المأكول الخ. ثم ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. أي الجبر المطلق الذي ليس معه لمخلوق اختيار في شيء ما

ثم أشياء أُخرى لا أذكرها الآن

فما رأيك أنت في هذا كله؟ أحق هو؟ أنك إلى الآن تؤيد نظرية وحدة الوجود وتشفق من تفسيرها على ما ترى. فكن حراً في إشفاقك هذا، ولكن هل تتفضل فتبدي رأيك فيما يذهب إليه صاحبك من هذه الآراء التي ربما خيل إلى الناس أنك تؤمن بها لإيمانك بوحدة الوجود!

يا دكتور زكي:

أعود فأذكرك أنني لا أرضى الدنية في ديني. وأنني لن أبقى على إرضائك لأسخط الله. . . وأنت الذي انتهيت بي وبك إلى هذا الوضع، وهأنذا قد كشفت عن مقصدك في سؤالك عن الفضاء والسكون والموت. فعسى إلا نعود إلى إيثار السلامة وإثارة الغبار في وجوه الناس

ولست أحذرك أن تحترق بشيء، ولكني أدعو لك بالهداية والتوفيق، وهكذا علمنا رسول الله، فلنتخذه أسوة

دريني خشبة

ص: 19

‌على هامش النقد

في عالم القصة

شعاب قلب. . . حبيب الزحلاوي

للأستاذ سيد قطب

(شعاب قلب) مجموعة أقاصيص للأستاذ حبيب الزحلاوي، من أفضل المجموعات التي ظهرت باللغة العربية. ففيها طبيعة قصاص، وقلب إنسان، وقسط من الشاعرية في الإحساس بالخلجات النفسية، وبصور الكون والحياة. وهي سمات تكفي لتقرير حقها في الظهور، ثم يبقى بعد ذلك مجال تقويم هذه السمات!

فيها طبيعة قصاص، يعرف كيف يتناول موضوعه، وكيف يدبر فكرته، وكيف يضمن شوق القارئ، ومتابعته للأقصوصة في غير تعمل ولا تكلف، ولا مغالطات براقة وهو قصاص طويل النفس - في الأقصوصة - متعدد المسالك، والبناء الأصلي لأقصوصته. يصلح لأن تقوم عليه قصة مع بعض التعديل والتحوير

وفيها قلب (إنسان) إنسان حي يعيش على هذه الأرض، ينفعل بأحداثها ويستجيب لهذه الانفعالات، ويتابعه القارئ في نبضه الطبيعي: ببطيء ويسرع ويرتفع ويهبط، كما تنبض قلوب الآدميين، فيه هذه الحياة

وفيها قسط من الشاعرية، ينقذ القصة من الواقعية المحدودة الضيقة، ويطلق في جوها بعض الإشعاعات الحارة. دون أن يحيلها إلى جو رومانتيكي مصطنع، ولا إلى أسطورة خيالية. أنه يمنحها الحرارة الإنسانية الطبيعية وكفى!

ولا يحسب أحد - تبعاً لهذا - أن الزحلاوي قد بلغ القمة. كلا. فهذه الصفات التي أعددها هي - في اعتقادي - بعض الشرائط الأولى للأقصوصة. ويبقى المجال بعدها مفتوحاً للسياق والمفاضلة. وعلى الذين تخلو أعمالهم القصصية من روح القصاص ومن حرارة الإنسان، ومن قبس الشاعرية، أن يبحثوا لهم عن عمل آخر في الحياة!

تحتوي هذه المجموعة على تسع قصص. كلها موسومة بهذه السمات التي أسلفت على تفاوت في حظها منها. وكلها موسومة بسمة أُخرى، هي دليل الصدق فيها جميعاً

ص: 20

الأستاذ حبيب (الزحلاوي) ليس مصري الأصل - كما هو واضح من نسبته - وللبيئة في بعض جاراتنا الشرقية إشعاعات معينة، قد لا نحسها في البيئة المصرية على هذا النحو من العنف والوضوح. وهذه القصص تحمل - عدا طابعها الإنساني العام - طابع هذه الإشعاعات البيئية الخاصة

بعض هذه الجارات يضيق بسكانه، فهم أبداً يمدون أبصارهم إلى مطالع أُخرى: تارة تكون هذه المطالع نقلة جسم إلى حيث تتوافر وسائل الحياة. وتارة تكون نقلة روح، إلى حيث الغنى والثروة، أو السعة والحرية

وأقول الحرية، لأن التقاليد الدينية والاجتماعية، ولاسيما قبل ربع قرن، ربما كانت من الصلابة والشدة بحيث يفر منها الكثيرون ينشدون الحرية والطلاقة أما بأجسامهم وأما بخيالهم. فهناك أبداً رغبة في الانطلاق، وهناك أبداً شيء من العنف في التفلت من القيود، وفي الإقبال على الحياة

حلم الثروة، وحلم الحرية، هما الحلمان الواضحان في كل قصة من هذه القصص على وجه التقريب، وهما ينبعان من منبع واحد، ويتجهان في اتجاهين ومتضادين، يؤديان في النهاية إلى طابع واحد؟

هما ينبعان من الضيق بالواقع: الواقع المادي، والواقع المعنوي، الضيق بالمجال المحدود الذي لا يتسع لأهله من السكان. والضيق بالقيود والتقاليد، التي تقف دون أشواق الإنسان

وهما يتجهان في اتجاهين متضادين: أحدهما الرغبة في الغنى والحرص على جمع الثروة، (وقد تقود الرغبة والحرص إلى الجور على المتعة بالحياة، والانطلاق مع الأشواق) وثانيهما الرغبة في الانطلاق من القيود، والاندفاع للمتاع (وقد تقود الرغبة والاندفاع إلى التضحية بالغنى، والاستهتار بالمال)!

وهما يؤديان - في تناقضهما - إلى طابع واحد: طابع التقلقل والاضطراب، والحيرة بين هذا وذاك

وينشأ من هذا كله إشعاعات نفسية خاصة، هي التي تجمع في النفس الواحدة بين يقظة التاجر وحلم الشاعر؛ وبين عنف الثائر وترفق المهاجر، وبين استغراق البوهيمي، وروحانية الصوفي. .

ص: 21

وكل هذه الإشعاعات تبدو في هذه القصص على السواء. تبدو وتبدو معها صفحات في وصفها وعرضها وتحليلها، هي التي تجعلني أقول: إن هذه المجموعة من أفضل المجموعات التي ظهرت باللغة العربية

من عيوب هذه المجموعة أن يحفل بعضها بالتوجيهات الفكرية، والنظريات الفلسفية والاجتماعية، بحيث يطغى هذا على صور الانفعالات النفسية، والحوادث الواقعية. والفن فن. وهما يكن للعلم والفلسفة من مكانة. فيجب ألا يجتازا عتبة الفن إلا بمقدار، ومقدار لا يبرز بل يبقى وراء الستار

وقصة (إشاعة طلاق) مثال بارز لهذا العيب في المجموعة، فهي قصة رجل فنان تزوج، وسارت حياته الزوجية في المبدأ كما يبتغيها فنان، ثم نظر. فإذا المرأة قد صارت أماً وربة بيت لا عروساً جميلة، ولا زوجاً أنيسة. فضاق بها وهجرها، وانطلقت في محيطهما (إشاعة طلاق) وفي النهاية يرسل إليها رسالة طويلة، يشرح لها فيها ما دعاه إلى العزلة، ويبين لها وظيفة المرأة الكاملة، مع رجلها الفنان

في هذه الرسالة (توجيهات) أطول مما تحتمل الأقصوصة، وأبرز مما يحتمل العمل الفني. وهذه التوجيهات لها قيمتها في ذاتها، وهي تحليل صحيح لنفسية الفنان، ولوظيفة المرأة ولواجب الزوجة. ولكن قيمتها هذه لا تبرر حشرها - بهذا الطول - في أقصوصة وكان خيراً أن تبدو في حركات ولفتات، لا في عبارات وكلمات

ومن عيوبها كذلك بعض أخطاء السياق كما في قصة (تربص القدر) حيث يلتقي القصاص بزميل له لم يره منذ ست سنوات. كان هذا الزميل من الدعاة ضد الزواج. فإذا لقيه اليوم بغتة، اندفع يقص عليه أنه تزوج وأنه أسعد مخلوق بهذا الزواج. ثم يقص عليه كيف تزوج في نوبة حماسة إنسانية وكيف وجد الحياة الزوجية التي كان يخشاها حياة جميلة حافلة بما لم يخطر له على بال. . . وبعد هذا كله يفاجئه بأن زوجته قد ماتت منذ أيام، وأن حياته الآن لا تطاق، وأنه خرج ذاهلا يتمشى في الطرقات!

إن أنساناً منكوباً، خرج ذاهلا يتمشى وحده في الظلام حين يلقى صديقه لا يكون من التماسك بحيث يبدو سعيداً، وبحيث يقص أولاً قصة سعادته. إن الطبيعي في هذه الحالة أن يبادر صديقه بقصة نكبته التي تسيطر هذه اللحظة على نفسه، وتتراءى مجسمة في

ص: 22

خاطره، ثم يتدرج منها إلى استعراض سعادته الضائعة

ولقد يبدو - من وجهة الفن القصصي - أن الطريقة التي سلكها المؤلف هي الأولى. لأنها تضمن شوق القارئ ومفاجأته مرتين: عندما يعلم بزواج هذا الذي كان داعية ضد الزواج، وبسعادته فيما كان يفر منه ويخشاه. ومرة عندما يعلم بالكارثة التي كان يتربص بها القدر، لينزلها به وهو في أوج سعادته

ولكن الصدق في عرض هذا الإنسان - وهو في حالة الذهول بالنكبة - أولى من كل حيلة فنية. وعلى قواعد العرض الفني أن تتحور وتحتال لتحقق الصدق - وليس على الصدق أن يتحور ويحتال! وقد كان هذا ممكناً لو أن المؤلف حكى عن زميله ولم يدعه يعرض حكايته بنفسه. أو لو أنه سلك آية طريقة أُخرى من طرق العرض الفني الكثيرة

إلا أنني احب هنا أن أنبه إلى أن هذه القصة لا تقوم على الحادثة وحدها. إنما تقوم - كمعظم قصص المجموعة - على استعراض المفارقات النفسية، والخلجات الشعورية والالتفاتات الذهنية، وهذا ما يجعل لها قيمة، وما يجعلنا نناقش عيوبها - كما نراها -

ومن عيوبها أن تغلب قوة المفاجأة على بساطة الطبيعة في قصة واحدة هي (عين زكية). فقد التقي القاص في ليلة زفافه والكاهن يربط بينه وبين زوجته برباط الأبدية. التقى بعيني فتاة استطارتا نفسه، فتمنى لو لقيها قبل هذا الرباط الذي ضاقت به نفسه منذ هذه اللحظة. ثم تسير القصة وقد علم فيما بعد أن هذه الفتاة صديقة زوجه. فكان هذا وسيلة إلى اجتماعهما وارتباطهما عشر سنوات. يستمتع فيها بالفاكهة المحرمة من بعيد، وتأبى هذه الفاكهة أن تستجيب لمن يطلب يدها، لأنها تؤثر حياتها في هذا الثالوث العجيب! ويستعرض المؤلف هنا مشاعره وخوالجه في كل موقف استعراضاً جميلا

وفجأة تعلم في النهاية أنها صنعت ذلك كله، لأنها تهيم بزميلتها!

لا نكران في أنها مفاجأة تامة لا يوجد في القصة أي إشعار سابق بها فلها في النفس هزتها. ولا نكران أن فيها سخرية بكل أحلامه وهواجسه، فقد كان يحسب ذلك كله لأجله! ولا نكران أن هذا الشذوذ هو حالة مرضية يعترف بها علم النفس الحديث!

ولكن هذا كله لا يساوي أن تسير الحياة على طبيعتها، وإن تكون هذه العقدة بسبب أي حادث آخر غير هيامها بزميلتها، وأن تختم القصة خاتمة أُخرى

ص: 23

هنالك أقصوصة سلمت من كل عيب في هذه المجموعة، وفازت بكل ميزة من ميزاتها. هي قصة (هواجس) توازنت فيها الانفعالات النفسية والبحوث الفلسفية. وسار السياق مشوقاً حتى نهايته. واتسمت حبكتها بسمة الطبيعة الصادقة. واختلطت فيها الشاعرية المرفوفة، بالواقعية الصحيحة. وتوافرت لها كل عناصر الأقصوصة الجيدة

وهناك خمس أقاصيص أُخرى تتراوح بين الأقاصيص الثلاث السابقة وبين هذه الأقصوصة الجيدة؛ فتأخذ من هذه وتأخذ من تلك، وتبقى وسطاً بينها جميعاً

سيد قطب

ص: 24

‌بحث علمي

حقائق عن الدماغ البشري

للأستاذ عبد العزيز جادو

في آخر يوم من أيام شهر ديسمبر منذ 167 سنة مضت، ولد بالقرب من قرية غلام قضى حياته في السعي باجتهاد لحل مشكلة الصلة بين قوى العقل ووظائف المخ والحالات المختلفة للجمجمة.

سعى جاسبر سبورزيم بالاشتراك مع فرانز جول إلى تفسير سر التفكير بطريقة سميت فيما بعد بعلم فراسة الدماغ وكان جاسبر أول من نشر هذا المذهب الجديد في إنجلترا. وقد أعتقد أن الارتفاعات السطحية في الجمجمة تشتمل على ارتفاعات مناسبة في المخ. وكانت نظريته باختصار أن الجمجمة البشرية تتركب من مجموعة نتوءات توضح مساحات الذكاء في المخ والقوى الذهنية الموافقة في الشخص.

ولسوء الحظ كانت طريقة علم فراسة الدماغ يعوزها الإتقان والتجربة والبرهان. ولكننا على أي حال مدينون بدين الشكر ومعرفة الجميل لهذين المشتغلين بعلم تشريح المخ.

واليوم قام طب المخ الجراحي بتحديد مساحات المخ شيئاً فشيئا بتدقيق علمي، فظهرت من اثر ذلك حقائق عجيبة. فانه قام الدليل مثلا على أن قوى الرجل العقلية تظل مستمرة في تأدية وظيفتها طبيعية وعادية حتى في حالة انتقال نصف المخ من موضعه. وكشف الأطباء الجراحون أيضاً أن العقلية لا يلحقها فساد أو تلف عندما تنتقل فصوص المخ الأمامية. والمسائل التي تواجه دارسي تركيب المخ وهندسته هي الكشف عن سبب نبوغ بعض الرجال وخمول بعضهم الآخر.

والدكتور واجنر هو أول عالم سبر سر طاقة المخ بمقارنته أمخاخ رجال ذوي نبوغ بمخ الرجل العادي، وأتم تجربته الأولى سنة 1860. فلقد قام الدكتور واجنر بفحص مخ أحد المشاهير في الرياضيات ومخ رجل بستاني، وبعد دراسة طويلة شاقة وصل إلى النتيجة الآتية:

1 -

ليس هناك أي اختلاف بين المخين

2 -

الشقوق والتلافيف في المخين متشابهة تماماً

ص: 25

3 -

وزن المخين كليهما متماثل من الوجهة العملية

ومنذ أن أجريت تلك التجارب وجد أن مخ المعتوه يكون في الغالب أثقل في الوزن من مخ الرجل العاقل والمرأة العاقلة.

أساطير عن المخ

بات من المفروض أن الجزء الجبهي (الأمامي) من المخ هو المنطقة التي تحتوي على أعلى الملكات وأسمى الطاقات

وأوصى كل من البروفسور ستانلي هول العالم النفساني الشهير، والسير ويليام أوسلر الطبيب العالمي المعروف بأن يشرح مخهما. وبمقارنتهما بالفصوص الجبهية لرجال عاديي الذكاء ثبت أن هذه الفكرة إن هي إلا محض خرافة. ولقد أكد أيضاً أن المرضى الذين تلفت فصوصهم الجبهية من تأثير مرض، عندهم القدرة - مع ذلك - على إجراء خططهم العقلية بطريقة اعتيادية. وعندما يواجه الأخصائيون في المخ مخين فلن يقدروا على تمييز مخ الرجل ذي الذكاء الحاد من مخ الرجل الأجير الأمي.

سر قوة المخ

وبعد قطع الرجاء من إيجاد قاعدة فيزيقية للذكاء، أدرك أحد المشتغلين بعلم تشريح المخ نهائياً أن جميع دراساته كانت على شيء من القيمة العلمية، فلقد كان من العبث وإضاعة الوقت سدى دراسة الأمخاخ الميتة أو أمخاخ الموتى! فهي أشبه شيء بدراسة آلة أو جهاز تالف، ولا يمكن الكشف عن كل شئ في الآلة إلا في حالة سيرها. والمخ ككل آلة يجب أن يكون له بعض منابع من الطاقة، أي القوة الدافعة. ما هذه الطاقة؟ الجواب على ذلك بسيط - فهي مورد الدم. والدم هو المفتاح لسر المخ، ويمكننا به أن نفهم آثاره وأعماله بدقة تفوق التأملات الميكروسكوبية للخليات والأنسجة

وأكبر غلطة لواجنر هي أنه تغاضى عن أغطية المخ. وهذه الأغشية أو الأنسجة الدقيقة الناعمة كانت بمثابة (حجر رشيد) للمشتغلين بعلم تشريح المخ. أنهم تكلموا كثيراً عن طاقة المخ أكثر مما تكلموا عن الحجم والثقل والتعقيد لبناء المخ ذاته.

وفي سنة 1926 قام الدكتور هينزيه الأخصائي الفرنسي في المخ بكشف مهم فيما يختص

ص: 26

بسر طاقة المخ. وأدت أبحاثه في التركيب الشرياني لأمخاخ الأشخاص المتفوقين في الذكاء إلى التسليم بأن أنسجة الرجال (سريعي الفهم) لها دائماً مورد دم غزير وأوعية دموية ذات طاقات كبيرة. ولقد ثبت ثبوتاً لاشك فيه أن طاقة المخ لا تتوقف على وزن المخ أو على تعقيد طياته؛ وإنما المهم هو مجرى الدم. وغطاء المخ عند ثقيل الفهم له مورد دم عقيم بشريانات مزمومة (مضغوطة) وفي مقدور الخبير أو الأخصائي الآن أن يحدد بصفة قاطعة ما إذا كان المخ الذي يدرسه ملكا لنابغة أو لأحمق. ودم المخ الجيد عنصر جوهري في الذكاء.

جبر المخ وسكره

وثمة استكشافات مهمة جاء بها الدكتور هينزيه منذ بضع سنين تضمنتها رسالته (الدلالات الإضافية على أساليب دراسة الجهاز الشرياني للمخ) وبين هينزيه أن تركيب مجرى الدم إنما هو نقطة من الأهمية بمكان، أنه موضوع ليس في الكم فحسب ولكن في الكيف أيضاً. والأساليب العقلية يمكن أيضاً أن تكون محكومة بمجرى الدم الذي يسيطر عليها، ولقد وجد أن الجير والسكر يلعبان دوراً مهما في (دراما) المخ، وأكد الدكتور كاتزينيلبوجن طبيب الأمراض العقلية - أن غالبية المعتوهين الذين يرجع اختلال عقلهم إلى علة عضوية، عندهم نقص في الجير وزيادة في سكر الدم، والسكر الكثير في الدم يزيد التوتر العصبي، والمخ الذي تكون (حلاوته) شاذة، خارجة عن أصولها، يحتمل أن يكون مخاً سقيماً

كهرباء المخ

لم تعرف كهرباء المخ حتى زمن قريب. وكان معروفا منذ خمسين سنة أن المخ ينتج كهرباء، ولكن منذ أن أخذ الصمام المفرغ يتحول ويتقدم أخذت القوة الكهربائية للمخ نصيبها من البزل (اصطلاح طبي)

وكان الدكتور برجر أول من اشتغل بكهرباء المخ. وقد بزل للمخ بوضع آلات تسمى (إليكترودات مباشرة على العضو من خلال فتحات صغيرة في الجمجمة. وحصل على آثار موجة المخ للعباقرة والبلهاء. وهذه الطريقة الآن يسهل استعمالها

هب أن مخك أريد به أن يبزل؛ إذن يجب أن يدعك ذراعك الأيمن دعكاً تاماً لينتقل كل

ص: 27

زيوت الجلد. ثم يلف حول الذراع ضمادات مشبعة بمحلول ملحي لتحفظ الآلات المسماة اليكترودات) مضغوطاً عليها تجاه الجلد عند المعصم والساعد. وتوضع حول رأسك عمامة بيضاء تحتوي على الجهاز الفضي للرأس، وتوصل الأسلاك هذا الجهاز بجهاز آخر يسجل (تموجات المخ) على قصاصات من الورق

التموجات الكهربائية للمخ

للموجات الكهربائية في المخ وزنان معروفان في العلم بموجتي (ألفا) و (باء) & ووزن يتموج نحو 10 مرات في الثانية الواحدة. يتموج نحو عشرين مرة في الثانية. وتظل هذه الموجات متماثلة يوماً بعد يوم في حالات اعتيادية. وحينما يحدث اضطراب عقلي أو عصبي تسجله الموجات الكهربائية. فمثلا في الصرع يوجد تكديس عظيم من القوة الكهربائية في المخ بمقدار 3000 % فوق العادي. وفي الإغماء تبطئ موجات المخ بالنزول إلى 3 أو 5 مرات في الثانية. وعلى قدر ما يكون استعمالك لمخك شاقا تكون القوة الكهربائية التي تنشرها أكثر. والاشتغال بالمسائل الحسابية العويصة يجعل الإلحاح على مقياس المخ كبيراً

ومن الوزن الذي يظهر على السجل نحكم بأن النساء يفكرن أسرع من الرجال. والتكرار المتوسط لموجات (ألفا) عند المرأة 11 في الثانية مقابل 10. 2 عند الرجال

والبزل الكهربائي للمخ يظهر في موجات أناس يختلفون اختلافا تاماً. ولقد برهنت التجارب حقيقة نظرية علم النفس بأنه ليس هناك شخصان يتشابه تفكيرهما بأي حال.

(الإسكندرية)

عبد العزيز جادو

ص: 28

‌العنصر الإنساني

في كتاب (النماذج البشرية)

للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

أصدر الدكتور محمد مندور كتباً ثلاثة أضافها في الأسبوع

الماضي إلى المكتبة العربية هي (نماذج بشرية) و (في

الميزان الجديد) و (من الحكيم القديم إلى المواطن الحديث)

الأول والثاني من تأليفه، والثالث ترجمة عن الفرنسية

لمجموعة من الدراسات في الثقافة الخلقية، كتبها نفر من كبار

أساتذة فرنسا المعاصرين

وليست (النماذج بشرية) بالكتاب الغريب عن القراء فقد طالعنا بعضه مقالات في المجلات الأدبية، ظل ينشرها المؤلف تباعاً منذ عاد من أوروبا، قبل الحرب الحالية بقليل، حتى اليوم. وقد جمعها المؤلف في كتاب واحد بعد أن أعاد فيها النظر فأصلح منها، ورجع عن الكثير من آرائه وأحكامه، وفقاً لتطوره الروحي. وأضاف إليها نماذج جديدة؛ وفضلا عن ذلك فقد صدر للكتاب بمقدمة طويلة كتبتها زوجته السيدة ملك عبد العزيز خريجة كلية الآداب، وقد احتوت تلك المقدمة على دراسة عميقة لما جاء في الكتاب؛ وبما لها من نفاذ الأدبية الشاعرة، ويحكم كونها أقرب الناس إليه عرضت لشخصية المؤلف بالتحليل فكشفت لنا الستار عما يخفى علينا من خصائص نفسه الغنية الزاخرة بمختلف المشاعر الحادة والمعاني المتألقة

وبعد فما موضوع هذا الكتاب؟ أو ما هي هذه النماذج البشرية التي عرضها علينا المؤلف؟ نفر قليل من العباقرة الخلاقين أمثال: (جيته) و (دستويفسكي) و (موليير) و (هوميروس) الخ. . . هم وحدهم الذين استطاعوا بطول ما تدبروا الوجود والنفس الإنسانية؛ النفاذ إلى جوهر الحياة الإنسانية، فكشفوا الستار عن أسرار البشر وطبائعهم الأصيلة، وأودعوا أبطال

ص: 29

قصصهم هذه الأسرار وحملوهم هذه الطبائع فجاءت (نماذج بشرية) بحق كما سماها المؤلف لأنها تمثل آلافاً من البشر الذين يعيشون بيننا ويضطربون في مناكب الحياة؛ ولأنها تساهم في تجسيم المشاكل الإنسانية، تلك التي نشترك فيها جميعاً أياً كان زماننا وأياً كان مكاننا، كمشكلة السعي الأبدي لبلوغ الحق والخير والجمال، كما تصورها مأساة (فوست)، وكالصراع الدائم بين قوى الفرد وصخرة المجتمع العاتية التي لا ترحم، كما تبرزها قصة (جوليان سوريل) أو قصة الحلاق الفيلسوف (فيجارو)، وكالحب ذلك القبس القدسي الذي أودعه الله قلوب البشر والذي لم تخمد جذوته ما بقي قلب ينبض في هذه الحياة، ذلك الحب الأبدي الذي خلد حياة (دانتي) الشاعر الإيطالي بقصته مع (بيتريس) في (العهد الجديد)

فكتاب النماذج إذن وحدة متسقة لأن كل نموذج إنما هو محاولة لبلوغ العناصر الخفية في نفوسنا الإنسانية. ولهذا كانت حياة النماذج حياتنا لأنها تجاوب ما فينا من عنصر إنساني، وتعبر عما يكتنف نفوسنا من مشاعر وأهواء

وقد أدرك الدكتور مندور هذه الحقيقة الواضحة التي يرجع إليها الفضل في خلود نماذجنا على صفحات الزمن، فبعث هذه الشخصيات الروائية خلقاً جديداً مليئاً بالحياة، زاخراً بمائها. وكأن المؤلف إذ يحدثك عن نماذجه ويورد أخبارها إنما يحدثك عن شخصيات رآها، أو حيوات عاشها؛ وذلك، بما له من قدرة على بعث نماذجه من مرقدها وإكسابها واقعية حية، وتهيئة الأجواء التي عاشت فيها، واستحضار الملابسات التي اكتنفت حياتها

وقد ساعده على هذا دراسة طويلة للأدب الغربية، دراسة تستطيع أن تقف على مدى عمقها أن أنت قرأت ما كتبه عن (أوليس)، تلك الشخصية التي خلدت في الأدب اليوناني، وذلك البطل الذي تردد ذكره في الأوديسا والإلياذة، ملحمتي (هوميروس) ثم بعد ذلك بقرون في (فيلوكتيت) مسرحية (سوفوكليس) الشاعر اليوناني العظيم الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. وهل كان الكاتب يستطيع أن يلم بمعالم هذه الشخصية وتطورها إلا خلال دراسة ممحصة لهذه المسرحيات الثلاث؟ بل ولحياة اليونان بأسرها: تاريخها وفلسفتها، وفنها وأخلاقها؟ وإن القارئ ليلمس آثار هذا الجهد حين يقرأ المؤلف عن (أوليس) وكيف أودع هذا النموذج تطور اليونان الروحي من خشونة البداوة الأولى بما فيها من مظاهر

ص: 30

الشجاعة والإقدام إلى طور الحكمة وما يسوده من مكر ودهاء؛ ثم إلى طور الانحلال الخلقي الذي يجعله المؤلف رهينا بظهور الفلسفة وما يتبعها من سفسطة وتمرد للفكر. ويقول المؤلف في ذلك (ص114):

(لا. إن أوليس لم يعد (في الأوديسا) من الصلابة بحيث كان، وقد أخذ التفكير يتغلب في نفسه على خشونة البداوة. أخذ الدهاء يسيطر على الشجاعة، أخذت الرقة تنفذ إلى صلابة قلبه. أخذ يتحضر، وهذا أمر لا عيب فيه، ولكن طريق الحضارة طريق زلق سوف تراه في الحديث آلاتي (فيلوكتيت) ينتهي برجلنا كما انتهى بالشعب اليوناني كله إلى بوادر انحلال خلقي، ستكون إحدى مظاهره ذلك الخبث القبيح الذي يصد عنه أوليس (فيلوكتيت) مسرحية سوفوكليس الروائي العظيم). ثم يقول عن أوليس في فيلوكتيت (ص114):

(تركنا أوليس وقد أصبح في الأوديسا أقدر على الدهاء مما عهدناه من قبل. وهانحن نلقاه اليوم في (فيلوكتيت) مسرحية (سوفوكليس) الشاعر العظيم فإذا بنا في القرن الخامس قبل الميلاد وإذا بنا في أثينا حيث ظهر الفلاسفة، وكثر الخطباء، وتعدد السوفسطائيون؛ فأخذت بوادر الانحلال تدب في الأخلاق. وتلك ظاهرة لها أشباهها في تاريخ كل الشعوب، فالتفكير ملكة خبيثة كثيراً ما تنتهي بالإنسان إلى تبرير كل الوسائل والتماس كافة السبل لما تسعى إليه من أهداف، فيسكت صوت الضمير، وتختفي من النفس معاني النبل التي تتوافر عادة في البداوة)

وهو يأبى أن يدع (أوليس) بعد هذه المسرحيات اليونانية الثلاث فتلمسه في الآداب الحديثة أيام نهضت أوربا من رقادها في عصر النهضة، تفتش عن تراث اليونان الخالد فتبعثه من جديد. وكان (أوليس) - وقد اجتمعت فيه عوامل الخلود - ممن استوقف الناظرين فظهر في كثير من آداب عصر البعث العلمي. فتتبعه مؤلفنا عند (دانتي) الإيطالي وعند الشاعر الفرنسي (دي بالي وأخيرا ينتهي بنا عند أوليس الكاتب الإنكليزي المعاصر (جميس جويس)

هذا هو الجهد الذي كان على المؤلف أن يحتمله كي يخرج لنا أوليس نموذجاً بشرياً في صفحات قلائل، يقرؤها آلاف البشر في يسر دون أن ينعموا النظر فيما تخفي هذه السطور من دراسة دقيقة متصلة

ص: 31

(أوليس) إذن عصارة مركزة لتلك الآداب اليونانية التي تشربها المؤلف، وأحسب أنه لو لم يشربها لما استمتعنا بقراءة (أوليس). فنحن إذ نقرأ أوليس نحس لذة لا تزول لأن من صور حياتها عاش أعواما في ظل (هوميروس) يحسو أعذب الرحيق من ملحمتيه، وماشى تطور اليونان حتى عصر (سوفوكليس). ولأنه زار تلك المواطن التي أوردها هوميروس في ملحمتيه: شاهد بحار اليونان التي خرج فيها (أوليس) على رأس جنده، وتطلع إلى قمة (الأولمب) مقر الآلهة، وشاهد تلك المخلفات الرهيبة الساحرة، التي لا تزال تفوح منها حتى اليوم رائحة هذه المعارك الدامية بين أثينا وإسبرطة، وتنبعث منها صور الماضي السحيق وأطياف أبطال اليونان وشعرائهم وفلاسفتهم

وهكذا فالمؤلف إذ يحدثنا عن (جفروش) أو (العبيط) أو (إبراهيم الكاتب) لا يحدثنا عن شخصيات قرأ عنها في بطون الكتب بل جاء حديثه نتاج تمثله لهذه النماذج وتشربه روح خالقها. فحديثه إنما هو بعض نفسه، ومن أجل هذا استطاع أن ينقل إلى قرائه في يسر، ما أحس من مشاعر، وأن يضمن في نفوسهم ما أحدثته هذه النماذج في نفسه من أثر عميق لا يمحى

كل ذلك في أسلوب لا أجد في التعبير عن موسيقاه أحلى من قول السيدة ملك في مقدمة الكتاب: (إنها ليست موسيقى رقص محدودة متقابلة، ولكنها فيض نفس، نفس حارة غنية، موسيقى سيالة تعلو وتهبط، وتتكسر وتتراخى وتتدافع حسب نبضات الإحساس أو وثبات الفكر).

وبعد: فهذا أيها القارئ كتاب النماذج من حيث هو كتاب أدب. ولكن هل هو كتاب أدب فحسب؟ أو أراد به مؤلفه أن يكون صياغة جديدة لبعض القصص العالمي، وعرضاً تحليلياً لأبطال هذا القصص؟ اللهم إن كان هذا لجاء الكتاب دراسة فحسب ولما كان فيه خلق أو طرافة. ولكن ما يعطى الكتاب قيمته التي سيخلد بها هو انطواؤه على تيارات خفية؛ من اليسير على القارئ اللبيب تأن يدركها، تيارات نفسية هي مزيج من السخط على ما في المجتمع من شرور، وتطلع قلق لتحطيم ما فيه من أصنام، وتدمير ما يحوي من نظم عقيمة بالية. هذه التيارات اعتملت في نفس المؤلف وأقلقت روحه مذ كان شاباً غض الشباب، فلم يجد سبيلاً للإفصاح عن هذه الثورة الكامنة والتعبير عن أفكاره، ومثله السياسية

ص: 32

والاجتماعية، إلا أن تكون هذه النماذج البشرية، هذه المخلوقات الإنسانية التي تبناها لتصور بعض جوانب نفسه وتنقل رسالته الاجتماعية إلى الجيل الجديد.

عبد المنعم عبد العزيز المليجي

ليسانس في الفلسفة

ص: 33

‌البريد الأدبي

فرقة التمثيل

حاربت مع من حارب الفرقة القومية للتمثيل التي كان يديرها الأستاذ الجليل خليل مطران، ولم أحفل بمن كان يطالب بالتريث والاصطبار إلى أن يشتد عضد الفرقة وتقوى على مسايرة الأمة في نهضتها الأدبية، لأني كنت ولا زلت أعتقد أن المسرح مرآة ثقافة الأمة وعنوان إدراكها معنى الحياة وأن السكوت عنه إنما هو خيانة للأدب

ولقد صفقت فرحاً يوم استخلص الشبان الإدارة من أيدي الشيوخ، لظن حسن مني بأن إرادة شبابنا لا تقاوم، وأن حبهم الفني للفن يقصيهم بعيداً عن الشهوات والنزعات

ولكن، سرعان ما قبض الشبان على أعنة التمثيل حتى استهانوا بالفن وبذواتهم، وتراخوا عن العمل، وانحدروا دراكاً إلى مستوى عامة الشعب

أسوق هذه الكلمة إلى إخواني في فرقة التمثيل المصرية وهم هم الذين قاموا على أنقاض الفرقة القومية، لا لأحاسبهم على ما اقترفوه في حق النهضة الأدبية خلال العامين المنصرمين في تمثيل روايات (كلنا كده) وشهرزاد (وسلك مقطوع) وإضراب هاتيك المهازل السخيفة والتهريج السمج، بل لأنبههم بأن أقلام الكتاب لم تعد تغلها قوة طاغية، ولا تسيطر عليها أهواء السياسة ووسوسات الشيطان

حبيب الزحلاوي

تعقيب

عقب الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في الثقافة رقم (300) على كلمة الأستاذ عبد الحميد ناصف في الرسالة رقم (579) بشأن كلمة (الصدفة) إذ يستشهد الثاني على لغويتها ببيت أبي دهبل الجمحي:

فطوراً أمني النفس لقياك صدفة

وطوراً إذا ما لجَّ بي الحزن أنشج

ويتساءل الأستاذ عبد الباقي عن المصدر الوارد به هذا البيت

قلت: ورد البيت في كتاب الأغاني جزء6 صفحة 151 (طبعة المغربي) هكذا:

فطوراً أمني النفس من عمرة المنى

وطوراً إذا ما لج بي الحزن أنشج

ص: 34

كما أنه ورد على هذه الصورة في آمالي المرتضى جزء (1) هامش صفحة 82

وأما عمرة هذه صاحبة أبي دهبل فهي امرأة من قومه (وكانت جزلة يجتمع الرجال عندها لإنشاد الشعر والمحادثة)

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان

إلى الأستاذ توفيق الحكيم

سيدي الأستاذ الجليل صاحب مجلة الرسالة المحترم

قرأت في العدد 588 من مجلتكم الغراء في باب البريد الأدبي كلمة للأستاذ توفيق الحكيم يرد بها عن نفسه بعض تهم ألصقتها به الصحافة السورية، كما أنه يتبرأ من رأي (هو كعادة آرائه في المرأة) كان قد أعطاه عن الوحدة العربية راجياً صحف الأقطار الشقيقة أن تضن قليلا بحسن ظنها في صحة الأقاويل والإشاعات التي تنسب إليه وألا تلقي بالا إلى غير ما ينشر موقعاً عليه باسمه من مقالات أو تصريحات مسنداً ذلك إلى بدعة (أحاديث المجالس) المتفشية في الصحافة الحديثة (كذا)

ولما كنت ذلك الصحافي الذي تفضل عليه الأستاذ (حفظه الله) برأيه في الوحدة العربية لأنشره، وقد نشرته فعلاً في مجلة (العالمان) السورية في شهر يونيه الفائت إلى جانب آراء للأساتذة أنطون الجميل بك وعبد القادر المازني و. . وكان يومئذ جالساً في مقهى (ريتز) مع الأستاذ المازني (الذي لم اكن أعرفه) فقدمني إليه يعطيني بدوره حديثاً عن الوحدة قائلاً: إن الأستاذ المازني خير من يفي هذا الموضوع حقه لأنه أكثر ممارسة له

وقد كان الأستاذ المازني لطيفاً جداً إذ وعدني بإنجاز الحديث في اليوم التالي بينما كان الأستاذ الحكيم يكتب بخط يده! نعم بخط يده، أجوبته على أسئلتي على ورقة ما زلت محتفظاً بها

وبعد. فقد جئتكم راجياً نشر كلمتي هذه على صفحات رسالتكم لإظهار الحقيقة

وتفضلوا بقبول أسمى احترامي

محمد فاضل طلس

ص: 35

نظرية دوركهيم والإصلاح الاجتماعي

كتب الدكتور محمد مندور مقالاً في العدد 586 من مجلة الرسالة الغراء، ذكر فيه رأيه في المنهاج الذي يجب أن نسير عليه إذا أردنا النهوض ببلدنا. ونص فيه على (شاب مسكين أكبر الظن أنه حديث التخرج من قسم الفلسفة بالجامعة) لأنه (تحدث عن مكافحة الأميين في ضوء علم الاجتماع) فذكر (أن هذه المكافحة ستجري ضد قوانين علم الاجتماع المزعومة) وأنها لذلك لن تنجح لأن عقلية الفلاح ليست عقلية حضارة وعلم وإنما تصبح كذلك بعد أن تنتشر الصناعات في مصر) وأنا لم أقرأ مقال هذا الشاب (المسكين) ولا يعنيني رد الدكتور مندور عليه أو شتمه إياه وإنما يعنيني أن أدفع زعماً نشأ عن سوء الفهم لنظرية المدرسة الفرنسية الحديثة وعلى رأسها العلامة دوركهيم

لعل الفكرة الأساسية في نظرية دوركهيم هي أن الظواهر الاجتماعية تسير وفق قوانين لا تقل في صرامتها عن قوانين الطبيعة، وإنها تتطور تبعاً لسير الزمان واختلاف المكان

وليس معنى هذا أننا لا نستطيع عمل أي إصلاح. ويتحتم علينا أن نقف مكتوفين أمام ما تبرمه تلك القوانين. كلا. أننا إذا دققنا الفهم ووضعنا هذا الإحساس أمام أعيننا أمكننا أن ننشئ فناً إصلاحياً دعامته علم الاجتماع. فمن يقوم على دراسة ظروف البيئة وأحوال الشعب وأخلاقه، ومقدار التطور فيها، ومقدار تقبل الشعب للإصلاح الجديد. ويجب أن نقف على حالته الاقتصادية وقوفاً تاماً. وبالجملة نكون على علم تام بحالة البلد التي نحاول أن نضع لها مشروع الإصلاح، وما يترتب عليه من نتائج في شتى فروع الحياة. وينبغي كذلك أن نستعرض آثاره في الأمم التي أخذت به، حتى نستطيع أن ننتفع بأخطاء غيرنا، وإن نكون على علم بالأحوال والظروف التي أحاطت بتنفيذه حتى نتلافى الضار منها

هذا هو الوضع الصحيح إذا أردنا الإصلاح، وأردنا أن نسير بالمجتمع نحو الكمال في شيء من التدرج الذي لا يحس معه أفراد المجتمع أن شيئاً خارجاً عن طبيعتهم قد أقحم عليهم، بل يشعرون إن إصلاحاً كهذا من طبيعة الأشياء ومن لوازمها. ولعمري أن هذا الشعور وحده قمين بنجاح أي إصلاح

ولقد أجاز بعض العلماء التدخل في قوانين الظواهر الاجتماعية. أي في لغتنا نحن أجاز

ص: 36

هؤلاء العلماء أن نظفر بالشعب ونستحثه على السير إلى الأمام بخطوات أوسع، ولكن هذا لا يتم إلا إذا هيأنا أذهان المجتمع لإصلاحنا التهيؤ الكافي

ومن هذا نرى أن علماء الاجتماع لا يتفقون بعلمهم موقفاً عقيماً في وجه أي إصلاح بل أنهم يريدون أن يكون الإصلاح أساسه العلم الصحيح بأحوال المجتمع وميوله

وإذا رحنا نحن نوسع هذا القول ونقاربه من الموضوع الذي حدا بنا إلى كتابته وهو موضوع محو الأمية. فإننا نرى أن هذا المشروع يسير وفق قوانين المجتمع، فلقد أحسسنا برغبة شديدة في محو الأمية للاستزادة من العلم والسير في قافلة العالم المتمدن. ثم إن هذا المشروع لم يرتجل ارتجالاً بل أتى نتيجة لدراسة عامة شملت جميع النواحي الاجتماعية وخاصة الناحية الاقتصادية. زد على ذلك أنها عند عرض هذا المشروع على البرلمان المصري لم يعترض أحد على المبدأ مما يدل على أن هناك استعداداً لتقبله

وأخيراً فإني أعتقد أننا عملنا الدعاية الكافية له. وأن في مسارعة الهيئات المختلفة إلى تلبية ذلك النداء لدليلاً كافياً على أن الزناد كان متوقفا على إشعال الثقاب فقانون محو الأمية يوافق رغبات المجتمع إذن وهو بذلك يسير وفق قوانين علم الاجتماع التي قلنا عنها أنها تتطور على مرور الزمان وتختلف باختلاف المكان

أما إذا كان مخالفاً لرغبات المجتمع فما كنا نرى بالمرة صيحات الاستحسان له من كل مكان ومنها صيحة الدكتور مندور، وأظنه يعلم من تاريخ النهضة أولئك الرجال الذين أوذوا في سبيل دعواتهم لأنهم لم يمهدوا لها التمهيد الكافي مخالفين بذلك نواميس الاجتماع

فليطمئن إذن الدكتور مندور فإن أحداً لن يتأثر بدعوته الهوجاء في نبذ نظريات العلم لأن هذا يخالف قوانين المجتمع ولأن أحداً لم يبلغ من السذاجة مقدار ما بلغه رجله الفرنسي

وبعد فهذه كلمة قصيرة نكتفي بها اليوم ولدينا مزيد إذا أراد الدكتور مندور.

سعيد زايد

ليسانس في الفلسفة والاجتماع

ص: 37