الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 592
- بتاريخ: 06 - 11 - 1944
العقلية المصرية
للدكتور محمد مندور
لست ممن يركنون إلى اليأس أو يدعون إلى تثبيط، وبودي لو نفثت في كل قلب إيماناً بالنفس وأملاً في الحياة حتى أرى جميع مواطنينا كالكراة من المطاط، كلما زدتها صدماً ازدادت قفزاً، ولكنني مع ذلك عودت قرائي الصراحة في علاج مشاكلنا، ولقيت دائماً ممن حظيت برأيهم تأييداً حاراً صادقاً. ثم أني أؤمن بأنه لا خير في التعامي عن الواقع، بل لا خير في إنكاره، لأن إنكاره لمن يمحوه. وهاأنا اليوم أعالج أخص ما تملك كأمة، وهو العقلية المصرية ولي في تلك العقلية رأي ثابت استخلصته من احتكاكي الطويل بعقليات الشعوب المختلفة وبخاصة الشعوب الغربية. وسأبسط هذا الرأي ثم أحاول تفسيره لنستنبط ما نستطيع من علاج.
كنت أنا وزملائي من المصريين نتلقى العلم سنين طويلة بالجامعات الأوربية مع طلبة من كافة الأجناس، ولاحظت أن الكثيرين منا كانوا يتفوقون على إخوانهم في الدرس تفوقاً واضحاً. ثم عدت وعاد زملائي؛ فإذا بالقليل منا من يوفق إلى اكتشاف جديد في ميدان المعرفة، بل إلى تجديد فكرة معروفة أو تعميقها، وعلى العكس من ذلك نسمع أن هذا الزميل الفرنسي، أو ذاك الإنجليزي قد اهتدى إلى نظرية غير معروفة أو كشف الحجاب عن مجهول في مجال المادة أو مجال الإنسان. وأنعمت النظر في هذا التناقض الواضح فاستقر بنفسي أن العقلية المصرية سلبية قابلة، بينما عقلية الغربيين إيجابية فعالة. فنحن نستطيع أن نحصل ما يلقى إلينا، ولسنا بلا ريب دون أحد في قوة الذاكرة، ولكننا لا نكاد نتخطى دور التقبل والتحصيل حتى يتبلد حمارنا، ولقد ينجح بعضنا في الجدل، ولكن مجهوده فلما يعدو فك الأفكار الأساسية كما تفك النقود إلى وحدات من البرونز، ولا يقف تأثير تلك العقلية القابلة عند ميدان المعرفة، بل يمتد إلى الحياة العملية ذاتها؛ فترى الكثيرين منا حتى المثقفين ضيقي الحيلة سيئي التصرف، قليلي الاعتماد على النفس والسير على أقدامهم أو الاهتداء إلى السبيل السوي عندما يضطرب حبل الأمور وتشتد المواقف هذه ظاهرة لا أظن هناك ما هو أخطر منها في حياتنا، ولابد من أن نلقي عليها من الضوء ما يظهر مواضع الخلل في بنائها
لعل من أكبر الأسباب التي كيفت العقلية المصرية على النحو الذي ذكرنا تلك الحقيقة الواضحة، وهي أنه قد يكون عندنا تعليم، ولكن مما لا شك فيه أنه ليست لدينا ثقافة، حتى لقد استطعنا في إحدى المقالات السابقة أن نتحدث عن أمية المتعلمين، والتعليم شيء والثقافة شيء آخر، وإن كان من الممكن أن يصبح التعليم، إذا أقيم على مناهج سليمة ونهض به أساتذة أكفاء، وسيلة من وسائل التثقيف. التعليم كما نلاحظه عندنا تلقين للمعارف، وأما الثقافة فتكوين للملكات، وهذا ما لا وجود له بيننا تقريباً، وفي الغرب نستطيع أن نقول إن عملية التثقيف تبدأ مع الميلاد، وهذا هو ما يعبر عنه المفكرون بقولهم إن خلف الأوربيين قروناً من الثقافة يتوارثونها ابناً عن أب. وهذا قول لا يخلو من تجوز، ومع ذلك فهو صحيح ولفهمه يلجأ بعض المفكرين إلى البحث في تأثير النشاط الثقافي على مراكزنا العصبية، وتوارث تلك المراكز مشكلة مكيفة، ولكن هذا بحث نتركه لأنه في نظرنا لا يقل غموضاً ومجازفة عن البحث فيما وراء الطبيعة، وإنما نقف على العكس من ذلك عند أمرين: اللغة، وطريقة الحياة. فالطفل الأوربي يحصل بتحصيله لغته اليومية طائفة كبيرة من المعارف التي تملأ سوق الحياة، وهو يحس بأثر تلك المعلومات الفعالة في كل أموره ويخبر صدقها عن تجربة؛ فيتمثلها تمثل الهضم، وإذا بها جزء من تكوينه العقلي، وهو يسير في حياته على طريقة لا تخلو، مهما بلغت من البوهيمية، من منهج وغاية. وتنظيم تلك الحياة المادية ذاته فيه ما يرفع عن كاهله الكثير من تفاصيلها، حتى ليتكلف أقل الجهد في إعداد ما يحتاجه من طعام أو كساء. وليس من شك في أنه كلما تخلصنا من تلك التفاصيل وأنزلناها منزلة الآلية تحرر الكثير من وقتنا لنصرفه في النشاط العقلي، وبخاصة القراءة؛ فالأم في بيتها والأب في عمله يجد كل منهما متسعاً لتغذية تفكيره، وإذا بجو المنزل تغمره الثقافة التي تنفذ إلى عقل الطفل إن لم تند خلاياه
لقد ناقشنا بإحدى الصحف مشكلة الأخلاق؛ فرأينا أن التربية لن تجدي في علاجها قدر ما يجدي إصلاح النظم التي تمكن الفرد من أن يصل إلى حقه ويدفع عن نفسه العدوان بوسيلة كريمة غير الرجاء الذي تفشي في بلادنا كالوباء. وباستطاعتي اليوم أن أجد في نفس هذا الإصلاح علاجا للعقلية المصرية. وليس بخاف أن العلاقة متينة بين العلم والخلق، وقديماً قال أحد المفكرين إن علماً بلا خلق خراب للنفس، وفي الحق ماذا يستطيع
في مجال العلم رجل لا يملك حتى الثقة بنفسه والاعتزاز بكرامته. وعندما تضطرب النفس وتتقاذفها الآلام كيف تريدها أن تصبر على كشف مجهول أو متابعة حقيقة أو استقصاء رأي. نعم إن العلماء في كافة بقاع الأرض لا تأخذ نفوسهم شهوة المادة، وتعلقهم الأول إنما هو بجوهر الفكر الخالد، ولكن هذا لم يمنع الهيئات الاجتماعية التي يعيشون بينها من أن توفر لهم أسباب الحياة، وتمكنهم من وسائل البحث. وأما نحن فمتى وضعنا معملاً تحت تصرف عالم، أو رزقاً ضرورياً في متناول أديب. وهبنا أيدينا استعداداً لأن نفعل ذلك فكيف السبيل لهذا العالم، أو ذاك الأديب أن يظهر مواهبه في بلاد بلغ فيها التفاوت في الثراء مبلغاً عض معه الفقر ملايين من البشر الذين لا يمكن أن نعدم - لو واتتهم الفرص - أن نعثر بينهم على نفر ولو قليل ممن حباهم الله مواهب النفس.
إذن فعدم تهيؤ الجو الثقافي الصحيح في منازلنا ودور تعليمنا من جهة، وفساد نظمنا الاجتماعية والاقتصادية من جهة أُخرى عاملان كبيران في تكييف العقلية المصرية. ولربما كان هذا هو السبب في أن الكثيرين ممن يعودون من أوربا من شبابنا لا يلبثون قليلا قليلا أن يخمد ضغط الوسط ما فيهم من حماسة ويثبط ما في قلوبهم من عزم بحيث لا نستبعد لو أن أحدهم بعد تخرجه باشر حياته العملية في أوربا لاستطاع خيراً مما يستطيعه هنا، وإن كنت لا أنكر أن نفراً غير قليل منهم لم ينزحوا إلى الغرب إلا بعد أن أخذوا طابعاً شبه نهائي، وكانت أمزجتهم من الصلابة بحيث لم تستطع ملابسة الوسط الجديد والتشبع بثقافته وطرق حياته؛ فلم تجد فيهم رحلة ولا أجدى اغتراب.
والآن كيف السبيل إلى علاج تلك الظاهرة. وهنا قد يصيح بي صائح، ولكن السبيل واضح تستطيع أن تجده فيما أسلفت من قول، فما عليك أو علينا إلا أن نصلح نظمنا، وأن نهيئ ما تريد ونريد من جو ثقافي في منازلنا ودور علمنا، ولكن هذا الصائح لن يلبث أن يوقعنا في دور؛ فمن لي ولكم بإنجاز ذلك، وهو لا يبدو هيناً إلا في الكتابة؟ هذه إصلاحات لابد أن يسوق إليها رأي عام قوي، وهذا الرأي لن يتكون إلا باستنارة العقول. والسبيل إلى تلك الاستنارة هو أن نسكت في نفوسنا النعرات الباطلة، وألا نستنكف في الأخذ عمن سبقونا في الحضارة، وألا نمل تكرار ما نأخذه عنهم، حتى يستقر في النفوس وينزل منها منزلة الإيمان؛ فعندئذ يصبح الفكر عملا، وإذا بعقليتنا السلبية القابلة تستحيل إيجابية فاعلة. فاليوم
الذي نؤمن فيه أن لكل فرد حقاً يجب أن يناله بغير رجاء؛ فإن لم ينله حكم له به قضاء عادل، واليوم الذي نؤمن فيه بأن لكل فرد أن يستغل ملكاته، وأن يمكن من وسائل ذلك الاستغلال، وأن جهده لابد أن يقوته على نحو جدير بمستوى الإنسانية، واليوم الذي نؤمن فيه بأن للفكر الإنساني كرامة لا تدانيها كرامة المال، حتى تقر الهيئة الاجتماعية لرجاله بما يستحقون من وجاهة وتقدير، هو اليوم الذي سيعتز فيه المصري بالا تكون عقليته سلبية قابلة، بل إيجابية فاعلة
محمد مندور
صلوات فكر
في محاريب الطبيعة!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
في فيض الحياة
أحياناً ينبثق في روحي فيض غامر من الحياة كما ينبثق الماء في حوض جاف. . . ولن يقيد روحي وقت ذاك قيد ما، بل تكون كعين ثرة تتفجر فتشق الصخر العاتي وتجرف السدود كما يجرف السيل الحصى والحطب والغثاء. . . وأنا حينذاك أحس بإنسانيتي الفائقة، ويزداد شعور ثقتي بنفسي وإقبالي على الحياة. . .
وأتمنى أن يشيع هذا الشعور الفائق الفياض في جميع أرواح أبناء آدم. سواء كانت أرواح تلك الأجسام العاجية الوردية ذات العيون الصافية والشعور الذهبية والعنبرية، التي أتخيلها راقصة ضاحكة في أفراح الحياة مخمورة بخمار الحب وسكرات الجمال وطفور القوة. . . أتمنى لها ذلك حتى لا يكون خمارها خمار الغفلة والزهو والركون إلى فترات الحياة اللاهية مع إهمال ما وراء هذا العالم الفاني من العالم الباقي. .
وأتمنى أن تشيع هذه القوة أيضاً وهذا الشعور الفياض في أرواح تلك الأجسام القبيحة الضعيفة الكئيبة ذات العيون المنطفئة والجلود المجعدة المخددة والشعور الكدرة التي تعبث بها نسائم الحياة كأنها شعور جماجم موتى تعبث بها ريح ثقيلة. . . والتي تتخيل بياض النهار سواد ليل، وذهب الضحى خزف تراب، وحرير الورد إبر شوك وقتاد. . . وترقص على ذلك رقصة ذبيح يجرجر جسمه المتهالك في رعشة الموت وحشرجة الفناء، وتغص بريقها وتأكل أكبادها من الحسرة، وتشرب حميم دموعها من الغصة وتطعم غسليناً وزقوماً. . . أتمنى ذلك حتى لا يكون وراء هذيانها وبحرانها بحمى الألم، وانكسار أعوادها بقاصمات الظهور شيء من يأس الكفر بالحياة والجحود لمستقبلها فيما وراء هذا العالم الفاني من العالم الباقي
فأسكب اللهم فيضك ونورك على أرواحنا، وأوسع ما بينها وبين رحمتك، ولا تظمئها فتجعل هذا الفيض غوراً يغيض ولا يفيض!
حياة مضاعفة
لست أحيا حياتي وحدي. . . وإنما أشعر أني أحياها ومعها حيوات جميع الكائنات التي أدركتها بالفكر والقلب!
وتظهر قيمة رحب النفس الإنسانية من مثل هذا الشعور.
إن الإنسان إذا اتصل بالكون اتصالاً وثيقاً كان حرياً أن يقذف الله مفيض الحياة على قلبه فيوضاً من كل منبع من منابع الوجود التي يتعرف إليها بفكره وقلبه!
الحياة بالحس وحده
يلذ لي أن أعيش حيناً بالحس وحده في فراش دافئ وثير في صبح يوم من أيام الشتاء جامد الفكر والجوارح لا أكاد أحرك في فكري وجسدي قوة! حين أتلقى من الحياة فيضاً من فيوض الشعور بالجسد!. . . حينئذ أستقبل الحياة بأنفاسي وحدها آخذها شهيقاً وأرسلها زفيراً في رتابة واسترخاء. . .
وقد يدور في خلدي حينئذ طائف من الأفكار المختزنة أجترها في هدوء كما تجتر الأنعام الجاثمة على العشب الطعام المختزن في كسل واسترخاء واستغراق واستقبال لموجات فيض الحياة من منبعها الخفي غافلة عما يدور في الكون. . .
حينئذ يحلو لي أن أتسمع إلى أنفاسي تتردد بين الجو وصدري، وأن أتسمع إلى نبضات قلبي التي تختلج وتهتز لها كل خلية في جسدي وتنقضي بها لمعة من لمعات روحي. . .
حينئذ أشعر بحنان غامر يغمر أعضائي وآلاتي العاملة في دءوب وقوة وصبر منذ أن دارت دورتها الأولى مع نسمة الحياة التي نفخها فيها نافخ النسمات، فابتدأت تدور طائعة مع جماعات الأحياء التي ترقص برعشات الحياة!
الحياة بالفكر وحده
وفي كثر من الأحيان أشعر بخفة في جسمي كأني لا أحمله ولا صلة لي به إلا إذا تحسسته بيدي. . . وحينئذ قد أشعر أنني صوت أو نظر أو سمع لا أكثر
يعتريني هذا الشعور غالباً حين أكون في الظلام في مهب نسيم رفيق. . .
ترى، هل يكون إحساسنا بالكون بعد انسلاخ أرواحنا من أجسامنا هكذا؟ فنصير كائنات
مجردة من الأجسام، ترى وتسمع وتحس بدون هذه الوسائط المادية؟
على أي حال إن هذا الشعور مدخل ندخل منه إلى عالم كائنات الأفق الأعلى الذي يلي أفق حياتنا. . .
الكون الجديد دائماً
أرى الكون صباح كل يوم كأنما فرغ من صنعه الصانع الأعلى في التو والساعة! ولا أجد فيه قديماً إلا ذهني الذي أحس أنه يعرض عليّ صوراً قديمة من الأيام السابقة. . .
إن الله محتف بالكون مجدد عوامل الحياة والنمو فيه!
ولو أنصفنا لصحونا من نومنا كل صباح كأننا مخلوقون في ذلك الصباح وحده. ولأهملنا ما في ذاكرتنا من ذكريات الآلام في الأيام السابقة، حتى نتجدد مع الكون
الكون أبو الهول
كلما تخيلت نفسي فرداً واحداً في غمرات الناس، وذرة ضئيلة بين هذا الكون الواسع الهائل الجبار تنظر بعينين ضئيلتين إلى دولاب الحياة الدائر والى وجه الله القيوم على ذلك الكون وما وراءه، أحسست بهول المسألة الكبرى والنبأ العظيم الذي ينبث في الكون والسر الخفي الذي خلق له. . .!
وحينئذ لا املك إلا ما تملكه الذرة الصغيرة التي تحملها ريح عاصف وتضرب بها في فجاج الأرض في سفر لا ينتهي!
روائح الجنة
الجنة في الأرض ولكنها غير دائمة، نراها في رحاب الجمال في زمان الربيع في سكرة الحب في حالة صفو النفس ورضاها عن نفسها وعن ربها، وقت أن تقول ليس في الإمكان أبدع مما كان!
ولو دامت النفس على هذه الحال لاستراح الناس إلى الدنيا باستراحتهم من أحاسيس القبح والشناعة والشقاء واعتكار البال والسخط على الحياة
ولكن الله حين لم يرد لنا الدوام في هذه الأرض، لوح لنا بالجمال والقبح، والرضا والسخط، والراحة والشقاء، وداولها على نفوسنا حتى نعلم أن الكمال ليس هنا، وأن النقص
الذي نراه وندركه هنا هو وسيلة إلى إدراكنا للكمال التام هناك. وما تحلم به النفس من المتاع الدائم والقدرة عليه والانتقال السريع إلى درجة الكشف عن رحاب السموات والأرض في خطرة النفس ولمحة البصر، ولقاء الأحباب بعد الموت والخلود معهم، وعدم وقوف عائق أمام إرادة النفس، وعدم استعصاء شيء على الإدراك و. . . كل أولئك هو من عالم الجنة، عالم (ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) و (لهم فيها ما يدعون) و (لا مقطوعة ولا ممنوعة) و (عرضها كعرض السماء والأرض) و (ما اخفي لهم من قرة أعين) و (رضى الله عنهم ورضوا عنه) و (رضوان من الله أكبر)
إن الله يداول جميع المعاني الأرضية على القلب البشري كما يداول (الفنان) أنغامه على أوتار قيثارة، وفي القلب البشري أوتار للأم لابد من استعمالها لبرز نوعاً ما من الحياة لابد منه في الدنيا. وانفعال النفس نحن العوامل الدنيوية هو الذي ولد لها خواصها، وأخرج منها معانيها الكامنة
وكما تحرث الأرض بالمحاريث وتعزق بالفؤوس لتخرج كوامن العناصر تمد بها الزرع لابد من حرث النفس بعوامل النعمة والشقاء حتى تخرج كوامنها.
عبد المنعم خلاف
2 - أبو تمام أعدائه وأصدقائه
للأستاذ دريني خشبة
في أخبار أبي تمام لأبي بكر الصولي أن أعداء أبي تمام احتجوا فيما احتجوا به على سرقاته بما رواه أحمد بن أبي طاهر أبو الفضل الكاتب قال: دخلت على أبي تمام وهو يعمل شعراً، وبين يديه شعر أبي نؤاس ومسلم، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعزى، وأنا أعبدهما من دون الله مذ ثلاثين سنة!
وقد دافع الصولي عن أبي تمام فقال: وهذا إن كان حقاً فهو قبيح الظاهر، رديء اللفظ والمعنى، لأنه كلام ماجن مشغوف بالشعر والمعنى انهما شغلاني عن عبادة الله عز وجل
ثم انطلق الصولي ينفي تهمة الكفر عن أبي تمام، وفاته أن المقصود بالرواية هو إكباب أبي تمام على شعر أبي نؤاس ومسلم ينتهب من معانيهما ما يشاء. وقد دافع الصولي عن أبي تمام دفاعاً مجيداً، إلا أنه ليس - في نظري على الأقل - أمجد من اتهام الآمدي له، واستقصائه سرقاته يرجعها واحدة فواحدة إلى أصحابها، هذا وإن اشتط الآمدي وأفرط في ذلك إفراطاً يبدو من ثناياه تجنيه على أبي تمام، وظلمه له أحياناً. . . والذي يعفي الآمدي من سخطنا هو إلمامه الواسع بأشعار العرب، ومقدرته المدهشة في رد السرقات إلى أصولها من أشعار قائليها، وأستاذيته التي تتجلى في إدارة حواره بين صاحب أبي تمام وصاحب البحتري، والفصول القيمة التي أظهر فيها سقطات أبي تمام في الموازين والنحو البيان والبديع، وما إلى ذلك كله من نواحي الضعف في شعره
والذي يدرس أبا تمام في هذين الكتابين الفريدين من كتب النقد العربي، يرى كيف أن الناس - على حد ما ذكره المسعودي في مروج الذهب كانوا فيه طرفي نقيض. . . متعصب له يعطيه أكثر من حقه، ومنحرف عنه معاند له. . أو كما قال أبو الفرح صاحب الأغاني: وفي عصرنا هذا من يتعصب لأبي تمام، فيفرط، حتى يفضله على كل سالف وخالف، وأقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه، ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك؛ وعبارة أبي الفرج توحي بما كان يضمره لأبي تمام من إعجاب. وقد ذكرنا في كلمتنا ما كان يقوله دعبل في شعر أبي تمام، من أن ثلثه سرقة، وثلثه عث، وثلثه صالح. وقد روي الصولي بعد هذا الخبر عن دعبل أنه كان يقول: لم يكن أبو تمام شاعراً.
وإنما كان خطيباً، وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر
وقد أشرنا إلى خصومة ابن الأعرابي، تلميذ المفضل الضبي والكسائي، لأبي تمام، وقد وعت بطون كتب النقد أعاجيب شتى من أنباء تلك الخصومة تعد من النوادر في أخبار الخصومات الأدبية: فمن ذلك ما ذكره الطوسي قال: وجه بي أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً، وكنت معجباً بأبي تمام. فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:
وعاذل عذلته في عذلهِ
…
فظن أني جاهل من جهلهِ
حتى أتمتتها، فقال: اكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها! قلت أنها لأبي تمام! فقال: خرق خرق! أي مزق، مزق!
ومع ذاك، فقد كان ابن الأعرابي، هذا الحجة الفاضل، يحفظ كثيراً من شعر خصمه أبي تمام، ويتمثل به، وهو لا يدري أنه له؟
وعلى هذا النحو كان الناس في عبقري الشعر العربي. وعلى هذا النحو، لا يزال الناس في أبي تمام!
والحق الذي لا يماري فيه إلا مكابر، أن أبا تمام كان نادرة زمانه في الشعر العربي، بل أنه لا يزال نادرة هذا الشعر حتى اليوم، فليس في شعراء العربية من استطاع أن يصور كما صور أبو تمام. وليس فيهم من استطاع تلوين صوره كما لونها هذا الشاعر المفتن المبدع، وذلك لا يعارض ما أثبته عليه خصومه من سطوه الكثير على معاني الشعراء، ذلك السطو الذي كان يفتن أبو تمام في إخفاء معالمه وستر مصادره بهذا البهرج الكثير من الصنعة البيانية، وتلك المركبات البديعية التي كانت تأتي زاهرة باهرة أحياناً، وملتوية معقدة لا تكاد تفهم أحياناً أُخرى: وما ظنك بهذا الالتواء الذي يشتد، حتى لا يفهمه عبد الله التوزي - أو التوجي، تلميذ أبي عبيدة والأصمعي، الذب قال فيه المبرد: ما رأيت أحداً أعلم بالشعر من أبي محمد التوزي، كان أعلم من الرياشي والمازني! فقد سئل هذا الرجل عن شعر أبي تمام فقال: فيه ما أستحسنه، وفيه ما لا أعرفه ولم أسمع بمثله، فإما أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وأما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه! (الصولي ص 245) والعجيب أن يعترف بذلك الصولي نفسه وهو (محامي) أبي تمام وقد ذكرنا كلمته التي أقر فيها بأنه:
ليس أحد من الشعراء يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام وأنه متى أخذ المعنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به! وقد ذكر الآمدي أن أبا تمام كان يتعالم في شعره ويتفلسف (الموازنة ص 2 - 11) ويصف ممدوحيه بالرمز إلى عقائد بعض الفرق الإسلامية، فيزيد ذلك في غموض شعره ويضاعفه، ويتعسر فهمه على غير من يعرف تلك العقائد، ويلم بهذه الأسرار: فقوله من مدحة في أبي سعيد:
فلو صح قول الجعفرية في الذي
…
تنص من الإلهام خلناك ملهما
لا يفهم حتى نعرف أن الجعفرية فرقة من الشيعة تنتسب إلى جعفر بن محمد ويدعون له الإلهام، كما يحدثنا بذلك التبريزي في شرحه لديوان أبي تمام، وكما نعرف ذلك من كتب الملل والنحل مثلاً، ثم قل مثل ذلك فيما يصادفك من أبياته التي تنبئ بإلمامه بالمذاهب والعلوم والفلك والنحو والمنطق مما كان يجيد الرمز به والإشارة إليه، متعمداً مرة، جارياً على سليقته أحياناً. وكله مما لا نرى أنه يدخل في باب الشعر، بل هو، كما ذكرنا في كلامنا عن ثقافة أبي العلاء تعالم من أبي تمام على أهل زمانه المتعالين. أما ثقافة أبي تمام الحقة، فتنحصر في سعة إلمامه بشعر من تقدمه من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين والأمويين والعباسيين، ودقة فهمه لمعانيهم، وحسن اطلاعه على مذاهبهم. وقد اشتغل فعلاً بالتصنيف الشعري، يؤيد ذلك ما ذكره البديعي في كتابه (هبة الأيام، فيما يتعلق بأبي تمام) من أن له (كتاب الحماسة) الذي دل على غزارة فضله وإتقان معرفته، وحسن اختياره، وكتاب فحول الشعراء جاهليين ومخضرمين وإسلاميين، وكتاب الاختيار من الشعراء. وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره، حتى قيل أنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد!). وذكر البديعي كذلك سبب تصنيف أبي تمام ديوان الحماسة، فقال (ص 138):(فانه لما وصل إلى همذان (في رحلته شرقاً)، وكان في زمن الشتاء، والبرد في تلك النواحي شديد، خارج عن حد الوصف، قطع عليه كثرة الثلج طريق مقصده، فأقام بهمذان ينتظر زوال الثلج، وكان نزوله عند رجل عنده خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها، فتفرغ لها وطالعها واختار منها كتاب الحماسة)). وفي مؤلفات أبي تمام يقول الآمدي:(ص23): (كان أبو تمام مشتهراً بالشعر، مشغوفا به، مشغولا مدة عمره (بتخميره!) ودراسته، وله كتب اختيارات فيه مشهورة معروفة، فمنها
الاختيار القبائلي الأكبر، اختيار فيه من كل قصيدة، وقد مر على يدي هذا الاختيار، ثم اختيار آخر لم يورد فيه كبير شيء للشعراء المشهورين، ثم اختيار ثالث تلقط فيه محاسن شعر الجاهلية والإسلام، واخذ من كل قصيدة شيئاً حتى انتهى إلى إبراهيم بن هرمة، وهو اختيار مشهور معروف باختيار شعراء الفحول، ومنها اختيار تلقط فيه أشعاراً من العشرة المقلين والشعراء المغمورين غير المشهورين، وبوبه أبوابا وصدره بما قيل في الشجاعة، وهو أشهر اختياراته وأكثرها في أيدي الناس، ويلقب بالحماسة، ومنها اختيار المقطعات، وهو مبوب على ترتيب الحماسة، إلا أنه يذكر فيه أشعار المشهورين وغيرهم من القدماء والمتأخرين، وصدره بذكر الغزل، وقد قرأت هذا الاختيار وتلقطت منه نتفاً وأبياتا كثيرة، وليس بمشهور شهرة غيره، ومنها اختيار مجرد في أِشعار المحدثين، وهو موجود في أيدي الناس. وهذه الاختيارات تدل على عنايته بالشعر وأنه اشتغل به، وجعله وكده، واقتصر من كل العلوم والآداب عليه، فانه ما شيء كبير من شعر جاهلي ولا إسلامي ولا محدث إلا قرأه واطلع عليه. . .)
وينتقل الآمدي من ذلك إلى قوله: (ولهذا أقول إن الذي خفي من سرقاته أكثر مما قام منها على كثرها، وأنا أذكر ما وقع إلي في كتب الناس من سرقاته، وما استنبطته أنا منها واستخرجته، فإن ظهرت بعد ذلك منها على شيء ألحقته بها إن شاء الله)
ثم يأخذ بعد ذلك في حصر سرقات أبي تمام وردها إلى مصادرها. فإلى أي حد وفق الآمدي في ذلك؟ سنرى
(يتبع)
دريني خشبة
تلك الروح وذلك اليوم
للدكتور زكي مبارك
بعد جفوة مسبوقة بنذير يئس القلب أثقل اليأس، واليأس يتجسم أحياناً فيصير أثقل من الجبال، وأبرد من الثلوج
ثم بدت الحياة لعيني وكأنها بيداء قفراء ليس فيها نبات ولا ماء ولا ظلال
كنت أسير في شوارع القاهرة فأراها تموج بالبشر والإيناس، وأرى القاهريين كما عهدت مسرورين منشرحين، كأن الدنيا ليست في حرب شعواء، وإنما هي في حرب خفيفة الظل، هي الحرب بين العيون والقلوب
وكنت أنظر فأراني وحيداً شريداً، وإن كان من يراني يتوهم أني ماض إلى ميعاد، فقد كانت القاهرة فيما سلف من أيامي ملاعب للمواعيد اللطاف
لقد اغتربت أسابيع كانت لهولها أطول من الآباد، بفضل الجفوة المسبوقة بنذير من تلك الروح، وكنت أخشى أن يطول اغترابي فيما بقى من أطياف حياتي، فما حياتي بعد تلك الروح غير أطياف
هذا هو اليأس، وذلك طعمه المرير، وتلك أيامه السود
وحاولت أن أعيش في ظلال الذكريات فتكدر عيشي، لأن تلك الروح لا تزال بعافية، وهي صائرة إلى غيري إن ضاعت من يدي، فما في الدنيا جمال يعيش بلا عاشق، ولو كان مقدوداً من الصخر الجلمود
لابد من رجعة أعنف من رجعة السيل، لابد من اقتناص تلك الروح من جديد، لأحمها من الضيم وأحمي نفسي من الموت
قلت لنفسي: إن هنالك غنيمة مضمونة وهي سماع صوتها في الهتاف، فما نطقت كلمة (ألو) إلا تمثلت أنها بلبل جماله كله في الحلق
وبكلمتين اثنتين تواعدنا على التلاقي، فأين النذير؟ وأين الجفاء، وأين اليأس؟
إن عقول المحبين عقول أطفال!
كان يجب أن أنتظر في حديقة البيت، وأن يكون في يدي كتاب، مع أني لن ألقى تلك الروح في ضوء المصباح
وتخفق أرواح في الطريق فلا ألتفت، لأن الروح التي أنتظرها لن تغيب عني، وإنني لأشعر بخطواتها على أبعاد الألوف من الأميال
ما هذا الذي أراه؟
إن الروح ثقيل وقد تجسمت في عروس من عرائس البحر في دمياط، وأنا أتلقاها بقلب قبست ناره من كهرباء الوجود
- أنت؟
- أنا؟
- ومن أنت؟
- أنا العاشق الذي صبر فظفر بعد صبوة دامت أكثر من عشر سنين
- وتستحق عطفي عليك؟
- إن رأيت يا روحي أن تؤدي زكاة الجمال
ثم يدور الحديث بما يعجزني، لأن الروح تقول:
(لقد أوحينا إليك)
فما هو إيحاء تلك الروح؟
أمرتني أن أصف لحظات التلاقي ولحظات العتاب، وتلطفت فلم تأمرني بوصف وجهها الوهاج، ولو أني أطعتها لاكتفيت بكلمة واحدة، وهي أني بها أعيش، ولها أعيش، فما للحياة بدونها مذاق
غنائمي من حياتي هي التعرف إلى تلك الروح، وانتظار عطفها في أوقات الكروب، وليس في الوجود بجانب عطفها كروب
ثم صحونا فوجدتها تشكو عدوان أظفاري. كتب الله عليها أن تشقى إلى الأبد بعدوان أظفاري! إن كنت جرحت جسمها فقد جرحت قلبي. . . والجروح قصاص
أنا صحوت؟ هو ذلك، وما الذي يمنع من أن أخادع نفسي؟
قضيت اليوم التالي وأنا لا أصدق أن ما وعته الذاكرة من وقائع الليلة التي مضت كان وقع بالفعل، فما تسمح الدنيا الغادرة بمثل ذلك النعيم، إلا أن يكون حلماً من الأحلام
وأستنجد بالهتاف لأسمع (ألو)، ولأعرف أن ما وقع حقيقة لا خيال، فيكون الجواب
بالإثبات مصحوباً بالاستغراب من شطحات صوفية وأنها تلك الروح بوادر جنون
وآخذ بتلابيب الفرصة فأدعو إلى لقاءه ثانية لأقيم البرهان على أني عاقل لا مجنون
اللقاءة الثانية بالنهار لا بالليل، وبالصحراء لا بالبيت، ثم يدور الحديث:
- أنت مصر على أن الوجود ليس فيه فضاء؟
- نعم
- وما دليلك؟
- الدليل حاضر، وهو أن ما نراه فضاء هو في الواقع مسكون بالأربطة الكهربائية التي يتماسك بها الوجود، وهو باعتراف الجميع مسكون بالهواء، فهو ليس بفضاء
- سلمت إلى أن أجد ما ينقض رأيك، ولكن الذي لن أسلم به أبداً هو إصرارك على أن كل موجود فيه حياة حتى الجماد
- الجماد كلمة اصطلاحية فقط، ولكنه في الحقيقة يحيا، كما يحيا الحيوان والنبات، وأنا سأجد الشواهد من الحجارة المنثورة في الصحراء. . . انظري هذه زلطة في حجم ثمرة الدوم وشكل ثمرة الدوم
- أتظن أنها دومة تحجرت؟
- هو ذلك بالفعل. . . ثم انظري فهذه زلطة في حجم الخيارة وشكل الخيارة
- هي أيضاً خيارة تحجرت؟
- نعم
- ولماذا لا تتحجر جميع الثمار؟
- لأنها ليست جميعاً في قابلية متساوية ولا فاعلية متساوية
- والنتيجة؟
- النتيجة أن الجماد الذي يتحول من وضع إلى وضع لا يتم له التحول بدون حيوية، وقد جهل أبو العلاء حين قال:
والذي حارت البرية فيه
…
حيوانٌ مستخرجٌ من جماد
- وما رأيك في الآية الكريمة (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)
- القرآن يعرض الظواهر التي تعارف عليها الناس لتكون الحجة على القدرة الإلهية أقوى
وأوضح، فمن العجيب في نظر من لا يعرف أن تكون البذرة الخرساء أصلاً للدوحة الشماء، وأن تكون البيضة الصغيرة أصلاً لطائر جميل يغرد أو يصيح
ولكن البذرة قد تفسد فلا يصدر عنها شجر ولا نبات، والبيضة قد تفسد فلا يصدر عنها طائر ولا حيوان
- ليس في الوجود فساد، وإنما هو تحول، فالبذرة الفاسدة والبيضة الفاسدة تتعرضان إلى تعفن تعيش به خلائق
- آمنت بالله وكفرت بفلسفتك
- لن تؤمني بالله إلا يوم تدركين حقائق هذه الفلسفة، يا محبوبتي الغالية
- وأصدق أن الحجر فيه حياة؟
- نعم، في الحجر حياة، وأثمانه تتفاوت لهذا لسبب، فالحجر الذي يباع رخيصاً في هذا اليوم لأنه لين، سيباع غالياً بعد ألف سنة لأنه صلب، وإن صبرنا عليه مليون سنة فقد يتحول إلى جرانيت، وهذا هو الفرق بين محاجر طره ومحاجر أسوان
- بدأت أفهم
- وأنا لو شئت أفهمت جميع الأغبياء
- أنا غبية؟
- اسمعي يا غبية ثم اسمعي، هذا البناء الشاهق مم يتألف؟ أنه يتألف من جمادات يأخذ بعضها برقاب بعض، لأنها جميعاً أحياء، فالجبس يعشق الطوب، والأسمنت يعشق الحديد، وبفضل هذا التعاشق تنهض هذه البنايات الشواهق، كما تبتسم الخمر حين يصافحها الماء
- وأنت بالأمس أنكرت الموت، وهذا أغرب ما سمعت من الآراء
- ليس في الوجود موت، فالدجاجة التي ذبحناها وشويناها ماتت في نظر الناس، فكيف تستطيع وهي ميتة أن تثير فينا النشاط حين نأكلها في صباح أو مساء؟ واللحوم التي ترد إلينا من استراليا محفوظة في علب هي لحوم حيوانات بعضها ذبح قبل أعوام طوال، ونحن نأكلها فنشعر بنشاط وأريحية، فكيف نصدق أنها ماتت؟
- إننا نرى بأعيننا ناساً يموتون، وندفنهم ونترحم عليهم، ونقيم لفراقهم الحداد
- أنهم يموتون موتاً عرفياً، وهم في الواقع أحياء، فلو بدأ لرجل أن يأكل قطعة متعفنة من
جثة ميت لأصابته نوبة تؤدي به إلى الهلاك، وهو نقله من حالة اسمها الحياة إلى حالة اسمها الموت في عرف الناس. . . وهنالك صورة أوضح من هذه الصورة في تأكيد الحياة لمن نتوهم أنهم أموات وهي خلود الفكر وتأثيره الموصول من مكان إلى مكان على اختلاف الأزمان، فأفلاطون لم يمت، والغزالي لم يمت، والمتنبي لم يمت، لأن هؤلاء بتأثيرهم الروحي أحياء غير أموات
- والدكتور زكي مبارك؟
- هو أيضاً لن يموت، وسيحيا بفكره وروحه حياة لا يعروها فناء، وسيقال فيما يلي من الأجيال أنه أول شارح لنظرية وحدة الوجود
- ولكنها نظرية غير إسلامية
- قلت ألف مرة أنني أتكلم باسم الفلسفة لا باسم الدين، فلا تثقلي علي بأمثال هذا الاعتراض، فأسلافنا ظلموا أنفسهم حين قالوا إن الفلسفة لا تخالف الدين، وكانت النتيجة أن يعقوا الفلسفة والدين
- بدأت أفهم
- ألم أقل أني لو شئت أفهمت الأغبياء!
- أنا غبية؟ أنا؟
- لو لم تكوني غبية لما كدرت هذه الساعة اللطيفة بهذه الاعتراضات
- وهل يؤذيك أن أدعوك إلى شرح آرائك الفلسفية ليرعوي من يتهمونك في عقيدتك الدينية؟
- الناس لا يهمونني في شيء، فمصايرنا جميعاً محتومة بصورة أزلية، وليس للمؤمن ولا الكافر إرادة فيما صار إليه، وليس هناك تعليل واضح لسحر هذه العيون
- عيوني؟
- عيونك وعيون ليلى المريضة في العراق
- يظهر أن تهمتك بالجنون لها أصل
- نعم، ومجنون ليلى يتعجب من أن تغزوه ليلى بعينيها الكحيلتين وبينها وبينه مسافات تعجز عن اختراقها الشياطين
- أسكت يا مجنون!
- وهذا الفضاء الذي بيني وبين بغداد ليس بفضاء، وإنما هو مجال لأسهم سحرية ترسلها ليلى في كل وقت، وإني لأراها معي في هذه اللحظة كما أراك معي
- اسكت، اسكت، فأنا أخاف أن تقتلني الغيرة
- تغارين من الوهم يا غبية؟
- ليس هذا بوهم، إن ليلى تطاردني في كل يوم وتحاول أن تسد طريقي إليك
- ومن أجل هذا يا محبوبتي أنكر المكان وأنكر الزمان
- ماذا تقول؟
- ليلى معنا، أليس كذلك؟
- بلى، وأنا أغار منها أعنف الغيرة
- إذن فليس هناك مكان، وهل تغارين مما وقع بيني وبينها في سنة 1937؟
- أغار، أغار
- إذن فليس هناك زمان
- خبلتني، خبلتني
- كذلك كانت تقول ليلى، زادك الله وإياها خبالاً إلى خبال!!
- هذا الحوار ينتهي بنا إلى وحدة الوجود؟
- إن فهمت مرادي يا أجمل غبية رأيتها في حياتي
- تلميذتك لا تكون غبية
- إذن فاسمعي، ثم اسمعي، ليس في الوجود فضاء ولا سكون ولا موت
- آمنت وصدقت
- وليس في الوجود زمان ولا مكان
- آمنت وصدقت
- وليس في الوجود ماضٍ ولا مستقبل
- ما معنى ذلك؟
- معناه يا طفلتي أن الوجود كله دفعة واحدة، فالماضي والحاضر والمستقبل صور لحقيقة
أبدية لا تحول ولا تزول
- لم أفهم.
- ستفهمين، هل تؤمنين بالأحلام؟
- أومن بالأحلام
- تؤمنين بأن الرؤيا قد تتحقق بعد سنين؟
- هو ذلك، ولي مع الرؤيا تواريخ، فقد رأيتك في منامي قبل سنين، وكان في الرؤيا أنك تمزج بين المجادلة والمغازلة لانخدع لك باسم العقل
- وأنا أيضاً رأيتك في منامي قبل سنين، وكان في الرؤيا أنك تلميذتي لا معشوقتي
- وانخدعت لك؟
- تلك أضغاث أحلام!
- أسرع وحدثني عن رأيك في الأحلام
- اسمعي، الأحلام واقعة بلا ريب، ولها تفاسير أختصرها في تفسيرين اثنين: التفسير الأول هو تفسير بعض علماء النفس، وهو أنها تعبير عن رغبات مكبوتة نعبر عنها في منامنا لنراها بعد أيام أو أسابيع، والتفسير الثاني هو تفسير الدكتور زكي مبارك، وهو أن لنا حاسة دقيقة تخترق المستقبل في بعض الأحايين فتحدثنا بما سيكون بعد أزمان طوال
- وكيف نعرف ما سيكون بعد أزمان طوال؟
- كما يعرف علماء الفلك أن الشمس ستكسف أو أن القمر سيخسف بعد عدد من السنين، ومعنى ذلك أن الوجود كله خلق دفعة واحدة، وأن الرجل الملهم قد يرى في منامه ما سوف يقع، لأنه سوف يقع، ولو طال الزمان
تلك الروح، وذلك اليوم، وآه ثم آه من تلك الروح وذلك اليوم! تلك الروح ملك يدي، وإن باعدت بيني وبينها مسافات لا أعترف لها بوجود
وذلك اليوم ملك يميني، وهو يومنا الهائم بمجاهل الصحراء، أنه يوم تجسم فيه إيماني بوحدة الوجود، وأعلنت فيه إشراكي بأوهام الغافلين
قيل أنه يوم ذهب، وأقول أنه يوم لن يذهب، لأنه سيلاحقني إلى البواقي من أيامي، وليس لأيامي نهاية، لأني قبس من كهرباء وحدة الوجود.
زكي مبارك
اقتراح في إصلاح الرسم العربي
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
قبل عرض الاقتراح، يحسن أن أذكر كلمة قصيرة في عيوب الرسم العربي وآثارها، لأنني قد راعيت في الطريقة الجديدة التي اقترحتها أن يتخلص رسمنا من جميع هذه العيوب وما يترتب عليها من نتائج
ترجع أهم عيوب الرسم العربي إلى الأمرين الآتيين:
(أولهما) أن الكلمات تدون بحسب هذا الرسم في الكتابة والطبع عارية عن حركات حروفها، أي مجردة من الإشارة إلى أصوات المد القصيرة (الفتحة والكسرة والضمة) التي تلحق الأصوات المقطعية في الكلمة
وقد ترتب على ذلك الأضرار الأربعة الآتية:
1 -
أنه لا يستطيع أحد أن يقرأ نصاً عربياً قراءة صحيحة ويشكل جميع حروفه شكلاً صحيحاً إلا إذا كان ملماً بقواعد اللغة العربية وأوزان مفرداتها إلماماً تاماً، وكان فاهماً من قبل معنى ما يقره. ففي معظم اللغات الأوربية، كما يقول قاسم أمين، يقرأ الناس قراءة صحيحة ما تقع عليه أبصارهم، وتتخذ القراءة وسيلة للفهم؛ أما نحن فلا نستطيع أن نقرأ قراءة صحيحة إلا إذا فهمنا أولاً ما نريد قراءته
2 -
أن النص العربي الواحد عرضة لأن يقرأ قراءات متعددة بعيدة عن اللغة الفصحى. وذلك أنه قد حدث تناوب واسع النطاق في أصوات المد القصيرة (التي يرمز إليها بالفتحة والكسرة والضمة) في اللهجات العامية؛ حتى أننا لا نكاد نجد كلمة باقية في هذه اللهجات على وزنها العربي الصحيح. فالنص العربي المجرد من الشكل عرضة لأن يقرأه أهل كل لهجة حسب منهجهم في وزن الكلمات
3 -
أنه من المتعذر مع هذا الرسم قراءة أسماء الأعلام (أسماء الأمكنة والبلاد والبحار والجبال والأناسي. . . الخ) قراءة صحيحة، إلا إذا كان القارئ يحفظ الكلمة وضبطها من قبل. ولذلك تضطر بعض المعجمات إلى تهجي حروف الكلمات التي من هذا القبيل والنص على حركة كل حرف منها.
4 -
أن رسماً كهذا من شانه أن يشيع اللحن، ويعمل على انحلال العربية الفصحى، ويحول دون تثبيت ملكتها في النفوس، ويحمل على الاستهانة بقواعدها، ويصرف كثيراً من خاصة الناس أنفسهم عن الإلمام بضوابطها النحوية والصرفية، لأن في استطاعتهم، بفضل هذا الرسم المعيب، أن يكتبوا ويؤلفوا بدون أن يكونوا ملمين بأصول هذه اللغة، ولا مستطيعين هم أنفسهم قراءة ما يكتبونه قراءة صحيحة، وبدون أن يظهر في كتاباتهم أي أثر لقصورهم هذا
(وثانيهما) أن للحرف الواحد بحسب هذا الرسم صوراً مختلفة: فله صورة إذا كان مفرداً وصورة إذا كان متصلاً بغيره؛ وله صورة إذا كان في أول الكلمة، وأخرى إذا كان في وسطها، وثالثة إذا كان في آخرها
وقد ترتب على ذلك الأضرار الأربعة الآتية:
1 -
أن تعدد هذه الصور من شأنه أن يحدث الارتباك والحيرة عند المبتدئين من المتعلمين ويطيل زمن تعلمهم للهجاء
2 -
أنه يكلف المطابع نفقات باهظة في الحصول على عدة نماذج لكل حرف من حروف الهجاء
3 -
أنه يخلق صعوبات في الطبع ويرهق العمال القائمين على صف الحروف من أمرهم عسراً، إذ يتردد الواحد منهم بين أكثر من مائة صندوق مختلفة في صور ما تشتمل عليه من نماذج، فضلاً عن صناديق الشكل وعلامات الترقيم؛ بينما لا يتردد العامل القائم على صف الحروف الإفرنجية إلا على نحو خمسين صندوقا
4 -
أن كثرة الصناديق وتعدد الصور للحرف الواحد، كل ذلك يجعل عمل هؤلاء العمال عرضة للزلل. ومن أجل هذا تكثر الأخطاء المطبعية في الكتب العربية بينما تندر جداً في الكتب الإفرنجية، مع أن جامعي الكتب الأولى ومصلحي تجاربها يبذلون من الجهد في الجمع والإصلاح أضعاف ما يبذله زملاؤهم في الكتب الثانية
وقد قدمت عدة اقتراحات لاتقاء هذه العيوب وآثارها ولكن معظم هذه الاقتراحات لا يحقق هذه الغاية تحقيقاً كاملاً؛ والقليل منها الذي يحققها أو يدنو من تحقيقها يخلق لنا رسماً يختلف كل الاختلاف عن رسمنا الحالي، فيقطع بذلك الصلة بين حاضرنا وماضينا،
ويحول بين الأجيال القادمة والانتفاع بالتراث العربي، كما بينت ذلك بتفصيل في كتابي (علم اللغة) و (فقه اللغة)
وقد كنت رأيت في كتاب (فقه اللغة) أنه من الممكن التغلب على صعوبات الرسم العربي (بالتزام شكل الكلمة التي من شأنها أن تثير اللبس عند أواسط المتعلمين إذا تركت بدون شكل)
ولكن ظهر لي فيما بعد أن هذا لا يقضي إلا على قليل من عيوب هذا الرسم ولا يقي إلا من بعض الأضرار التي أشرت إليها آنفاً
هذا إلى أن رسم الشكل فوق الحرف أو تحته مع اتصال الحروف بعضها ببعض وضيق الحيز الذي يشغله كل حرف منها يجعل هذا الشكل عرضة للانحراف فيحدث الارتباك ويوقع في الخطأ والحيرة. وفضلاً عن هذا كله فإن التجارب قد دلت على أن القلم كثيراً ما يزل في تدوين هذه العلامات الخارجة عن هيكل الكلمة وأن النظر كثيراً ما يتخطاها عند القراءة، فلا تكاد تؤدي الغرض المقصود منها
لذلك فكرت في طريقة أُخرى تخلص الرسم العربي من العيبين الرئيسيين الذين أشرت إليهما والى آثارهما فيما سبق، وتعفي القلم والنظر من الصعود والهبوط نحو حركات ترسم فوق الحروف أو تحتها، وتقي القارئ والكاتب شرور الانحرافات المترتبة على هذا الصعود والهبوط، ولا تقطع الصلة بين قديمنا وحديثنا، بل تتيح للأجيال القادمة الانتفاع بتراثنا القديم
فاهتديت إلى طريقة يمكن تلخيص أصولها في الأمور الأربعة عشر الآتية:
- أن ترسم حروف الكلمة مفردة منفصلاً بعضها عن بعض بنفس الصورة التي ترسم بها الحروف المفردة في رسمنا الحالي؛ هكذا: أب ت ث ج. . . الخ
2 -
أن ترسم الهاء هكذا: (هـ)، والتاء المربوطة هكذا (ة)، للتمييز بينهما وللنطق بكل منهما على وجهها الصحيح، فينطق بالأولى هاء دائماً وينطق بالثانية هاء في الوقف وتاء في الوصل
3 -
أن ترسم حروف المد الثلاثة مجردة من العلامات والنقط، هكذا: وى أ. ة ترسم الألف اللينة ألفاً مطلقاً مهما كان أصل الكلمة وعدد حروفها. فكلمات: رمى، إلى، على،
متى. . . الخ ترسم ألفاً حسب النطق بها
4 -
أن يوضع فوق الواو التي ليست حرف مد علامة ثمانية صغيرة هكذا (و8)(أو آية علامة أُخرى) للتمييز بينها وبين واو المد وللنطق بها على وجهها الصحيح
5 -
أن يوضع نقطتان تحت الياء التي ليست حرف مد، هكذا (ي) للتمييز بينها وبين ياء المد وللنطق بها على وجها الصحيح
6 -
أن ترسم همزة القطع ألفاً فوقها همزة هكذا (أ) للتمييز بينها وبين الألف اللينة ولينطق بها القارئ على وجهها الصحيح. وترسم على هذه الصورة أيا كانت حركتها وحركة ما قبلها، وأيا كان موضعها في الكلمة
7 -
أن ترسم همزة الوصل ألفاً فوقها علامة ثمانية صغيرة هكذا (ا8)(أو آية علامة أُخرى) وذلك للتمييز بينها وبين الألف اللينة وهمزة القطع، وللإشارة إلى أنه لا ينطق بها مطلقاً في الوصل، وينطق بها همزة في الابتداء
8 -
أن ترسم اللام الشمسية (التي لا ينطق بها في علامة التعريف) لاماً فوقها ثمانية صغيرة، هكذا (ل8)(أو آية علامة أُخرى)، وذلك للتمييز بينها وبين اللام القمرية وللإشارة إلى عدم النطق بها
9 -
أن يرسم الحرف الساكن بطبعه غير متبوع بأية علامة، ويكون تجرده هذا دليلا على سكونه (وأقول (الساكن بطبعه) لأن الحرف المتحرك إذا سكن في النطق لعارض كالوقف عليه مثلاً في آخر الكلمة يكون حكمه في الرسم حكم الحرف المتحرك، فندون حركته وفقاً للقواعد الآتية)
10 -
أن يرسم عقب الحرف المشدد بطبعه (كالسين في (مس)) أو المشدد في النطق لوقوعه بعد لام شمسية (كالسين في (السماء) علامة شدة فوقها فتحة أو ضمة إن كان مفتوحاً أو مضموماً وتحتها كسرة إن كان مكسوراً. فالسين المشددة أو الواقعة بعد لام شمسية ترسم هكذا في أحوالها الثلاثة: سَّ سِّ سُّ. وذلك للإشارة إلى أن الصوت ينطق به مرتين يسكن في أولاهما ويحرك في ثانيتهما بالحركة المدونة بعده. وإن كان الحرف المشدد منوناً رسمت علامة تنوينه فوق شدته. فالميم في (عم) مثلاً ترسم هكذا في أحوالها الثلاث: مَّ مِّ مُّ
11 -
أن يرسم عقب الحرف المنون غير المشدد علامة تنوينه: فيرسم عقب المفتوح فتحتان هكذا =؛ وعقب المكسور شرطتان متوازيتان تتصلان بشرطة مائلة هكذا= (حتى تتميز هذه العلامة عن العلامة السابقة)؛ وعقب المضموم علامتان من نوع الفاصلة في علامات الترقيم هكذا،، (وقد فضلت هذا الرمز على الرمزين المتداولين في التنوين المضموم وهما ، ، ٌ لأن أولهما يلتبس بالواو المكررة وثانيهما يلتبس بالقاف في خط الرقعة) فاللام المنونة ترسم في أحوالها الثلاثة هكذا: ل=ل ا=ل،، وذلك للإشارة إلى أن هذا الصوت محرك بالحركة المشار إليها ومتبوع بنون التنوين
12 -
أن يرسم الحرف المتحرك الممدود بالألف أو الياء أو الواو غير متبوع بما يدل على حركته، لأن وجود الألف بعده يدل على أنه مفتوح، والياء على أنه مكسور، والواو على أنه مضموم. فيرسم المقطع الأول من: قال وقيل وقوت هكذا ق اق ي ق و. إلا إذا كان هذا الحرف مشدداً فتطبق عليه القاعدة العاشرة السابق ذكرها. (فكلمة الدار مثلاً ترسم هكذا: ا8 - ل8 دَّ ار،)
13 -
أما الحرف المتحرك غير المشدد ولا المنون ولا الممدود فترسم حركته بعده: فإن كانت فتحة رسمت وفق صورتها في الرسم الحالي، وإن كانت كسرة رسمت هكذا (حتى لا تلتبس بالفتحة)، وإن كانت ضمة رسمت هكذا، (حتى لا تلتبس بالواو إن رسمت بصورتها المتداولة)
14 -
وأما علامات الترقيم فترسم الأنواع الآتية منها وفق صورها في الرسم الإفرنجي، وهي؛.؟! (()) (). أما الفاصلة المجردة، فترسم فوقها نقطة هكذا، حتى لا تلتبس بالواو إن رسمت بشكلها الإفرنجي وبالضمة إن رسمت بالصورة التي نرسمها بها الآن في العبارات العربية (،). وأما الشرطتان اللتان تحصران بينهما الجملة المعترضة فيستبدل بهما القوسان حتى لا تلتبسا بالفتحة إن رسمتا بصورتهما العادية: فترسمان هكذا ()
وفيما يلي نموذج لتطبيق هذه الطريقة، فالبيت والعبارة الآتيان (وهما يشتملان على نماذج لجميع القواعد الأربع عشرة التي تقوم عليها طريقتنا):
السيف أصدق إنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
لكل قاعدة استثناء، ولكل مطلق قيود
يدونان حسب الطريقة المقترحة على الصورة الآتية:
ا8 - ل س َّ ي ف، أ - ص د - ق، أ - ن ب أ=م - ن -
ا8 - ل ك، ت، بِ ف ى ح - دِّ هِا8 - ل ح - دُّب - ي ن -
ا8 - ل ج - دِّ و - ا8 - ل8 ل َّ ع - ب -
ل - ك، ل ِّ ق اع - د - ة=ا8س ت - ث ن اأ،،،
ول - ك، ل ّم، ط ل - ق=ق، ي ود،،
وتمتاز هذه الطريقة عن جميع الطرق المقترحة من قبل بالأمور الآتية:
1 -
أنها تخلص الرسم العربي تخليصاً تاماً من عيبيه الرئيسيين اللذين أشرت إليهما في صدر هذا المقال ومن جميع آثارهما الضارة التي أشرت إليها كذلك، وتحقق جميع الفوائد المقابلة لها
2 -
أنها تعفي القلم والنظر من الصعود والهبوط نحو حركات ترسم فوق الحروف أو تحتها، وتقي القارئ والكاتب شرور الانحراف المترتب على هذه الحركات وموضعها. وذلك أن طريقتنا ترسم الحركات في صلب الكلمة نفسها. ولا تشتمل إلا على ثلاث علامات خارجة من صلب الكلمة؛ ولكنها تشير إلى أمور أُخرى غير حركة الحروف، وهي الهمزة وعلامة الوصل وعلامة اللام الشمسية وعلامة الواو غير اللينة أا8 ل8 و8
3 -
أنها لا تقطع الصلة بين ماضينا وحاضرنا، ولا تحول بين الأجيال القادمة والانتفاع بالتراث العربي المدون بالرسم القديم. لأنها تستخدم نفس الصور والأشكال التي يستخدمها هذا الرسم (فيما عدا الكسرة والضمة والعلامة المميزة لهمزة للوصل واللام الشمسية والواو غير اللينة -، 8. على أن العلامتين الأوليين قريبتان جداً من شكلهما القديم، والعلامة الثالثة لا تغير شيئاً من هيكل الحرف وإنما ترمز إلى أنه غير ناطق أو غير لين). فالعالم بهذه الطريقة يستطيع مع شيء يسير جداً من التأمل والمران أن يقرأ الكتب المدونة بالرسم الحالي
ولا يؤخذ على هذه الطريقة إلا أمران:
(أحدهما) أنها تطيل رسم الكلمة قليلاً بالنسبة إلى رسمها القديم. ولكن ضرر هذه الإطالة ليس شيئاً مذكوراً بجانب ما تحققه من جليل الفوائد للعربية وأهلها. على أن معظم عيوب
الرسم القديم قد نشأ عن مبالغته في الاختزال والتعمية وإغفال الرمز إلى كثير من الأصوات التي ينطق بها في الكلمة فلا يرجى له إصلاح جدي إلا بالقضاء على اختزاله وتعميته واعتماده على فراسة القارئ. وهذا يستلزم حتما أن يطول رسم الكلمة حتى تكون رموزها معبرة تمام التعبير عن جميع أصواتها. هذا إلى أننا لم نأل جهداً في تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من الاقتصاد في مجهود القارئ والكاتب والطابع، مع عدم الإخلال بالغرض المقصود، وذلك بما تضمنته طريقتنا من الأصول المشار إليها في موادها التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. على أنه من الممكن أن تحذف علامة الحرف المفتوح لكثرة دوران الفتحة في اللغة العربية، ونثبت علامة الحرف الساكن لقلة دوران السكون، فيتحقق بذلك بعض الاقتصاد؛ وإن كانت الطريقة الأولى أكثر مطابقة للنطق
(وثانيهما) أنها ترسم حروف الكلمة متفرقة. ولكن رسم الحروف متفرقة أسلوب سليم لا غبار عليه ولا غرابة فيه. فقد سار عليه معظم أنواع الرسم السامي (الفينيقي والعبري والآرامي والحبشي واليمني. . .) وسار عليه الرسم العربي نفسه في أقدم صوره، ويسير عليه الآن الرسم الأوربي في الطباعة؛ بل لقد أخذ هذا الأسلوب منذ أمد غير قصير ينفذ إلى أقلام الكاتبين باللغات الإفرنجية، وأخذت مدارس كثيرة تسير عليه في تعليم الهجاء الإفرنجي وتأخذ تلاميذها به في كتاباتهم. وقد رأيت بعد تفكير طويل أن هذا الأسلوب وحده هو الكفيل بتخليص الرسم العربي من عيوبه وتحقيق الغايات التي نرمي إليها على أحسن وجه وأكمله. فبفضله نستطيع أن نرمز إلى أصوات المد القصيرة (الحركات) بعلامات ترسم في هيكل الكلمة لا فوق حروفها أو تحتها، وبفضله يصبح لكل حرف صورة واحدة لا تتغير، مهما كانت حركته وكان موضعه في الكلمة
صحيح أن من اعتاد الرسم والقراءة على الطريقة القديمة التي تقوم على الاختزال ووصل الحروف بعضها ببعض، سيعاني بعض العنت في السير على هذه الطريقة المفصلة المتفرقة الحروف. ولكن قليلا من المران كفيل بتخفيف هذه العنت وإزالته. على أن عبأه سيكون مقصوراً على أهل الجيل الحاضر ممن تعلموا على الطريقة القديمة. وأمر كهذا لا يقام له وزن بجانب ما تحققه الطريقة المقترحة من تقويم للألسنة والأقلام، وصيانة للعربية الفصحى، وتسهيل في طرق تعلمها وتعليمها، وتثبيت لملكتها في النفوس، وتمكين كل فرد
من قراءة أية عبارة قراءة صحيحة مهما كانت درجته في العلم ضئيلة، ومهما كان ضعيفاً في مبلغ إلمامه بقواعد اللغة
علي عبد الواحد داني
دكتور في الآداب من جامعة السوربون
ديوان أفراح الربيع
للشاعر حسن البحيري
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
لعل الحركة الأدبية في مدينة حيفا أظهر مما هي في المدن الأخرى من فلسطين، فهذا النشاط الدائب الذي نراه في جمعياتها وأنديتها يجعلنا نقول بهذا الرأي، ويعزز قولنا ما تطالعنا به في كل مناسبة من مهرجان تقيمه أو ذكرى تحييها تستفز بها الهمم وتوحي إلى الأدباء والشعراء
وقد طلع علينا في العام الماضي نادي أنصار الفضيلة في حيفا بديوان الأصائل والأسحار للشاعر الشاب حسن البحيري، وإذ قرأنا فيه كلمة اللجنة الثقافية للنادي، تلك اللجنة التي (أخذت العهد على نفسها أن تخدم لغة الضاد وأن تناضل لتذود عن لغة القرآن، وأن تبحث وتنقب عن تلك الكتب الضائعة المخفية وراء ظلام الوحدة لتخرج بها إلى عالم النور) أقول إننا إذ قرأنا هذا رأينا أي نهضة أدبية تتطلع إليها عيون الشباب في فلسطين وأي مطمح نبيل يساور قلوبهم المتفتحة للنور. فأفعم نفوسنا الأمل المشرق وملأها جمالاً وجلالاً وإيماناً بالمستقبل.
هذه ظاهرة ميمونة لم أر بدا من الإشارة إليها إذ أقدم بين أيدي القراء ديوان (أفراح الربيع) لشاعر حيفا حسن البحيري، أو شاعر الحب والجمال كما يسميه صديقه الشاعر المصري أحمد رامي
نقرأ في هذا الديوان كتاب الطبيعة المفتوح وقد زافت في منظرها الفتان، وفي جوها الذي سبح فيه خيال الشاعر تتضوع الأزهار وترف الأنداء على ثغورها رقيقة براقة، وهناك الجدول الراقص يستضحك من فرط الطرب (ويعزي من بكى عما بكى) بل هناك الدنيا ترف أمام عيوننا طيباً ونوراً وتمتلئ شذي وعطوراً
وللموسيقى وسحر إيقاعها نصيب وافر من الديوان، وكثيراً ما نستمع إلى حنين العود وأنين الناي فيه، فتتم لنا صور جمال الطبيعة، تلك الطبيعة التي نشأ الشاعر في أحضانها المفوفة وعل من جمالها ونهل؛ والشاعر كما يلوح لنا موسيقي بطبعه وله هيام لا حد له بالموسيقى، نلمس ذلك في (ألحان شاردة) وهو القسم الثاني من الديوان. حيث يستهله
بقوله:
لئن يوماً حدا بكمو حنين
…
لسكان القبور الدارسات
وأوقفكم على قبري اعتبار
…
أو استعبارُ عين الذكريات
فناجوني بناي أو كمان
…
لتسعد في حفائرُها رفاتي
وفي قصائده (عازف) و (ناي) و (وداع عود) وغيرها من الألحان الشاردة، نحس بالأنغام التي صيغت من ذوب القلوب. . . فبعثت الذكرى وهاجت الشجن، وقد تحمل الأرواح أحياناً من دنيا الهموم وتجعلها تطوف بأشواقها على متن الغيوم، وقد يهيج النغم أشجان القمر فيقف على باب مغيبه ويتمنى لو مد بقاء له لكي يتمتع بأنات الوتر. ولا عجب أن نرى وحي الموسيقى يشيع في الديوان فهي والشعر أخوان تهيم بهما النفس الجميلة، وتسمو على أجنحتهما إلى دنياوات ساحرة
وهناك من القصائد ما هفت فيها روح الشاعر نحو أليفها حيرى مضطربة، أذكر منها (الموعود) و (وادي الأحلام) وقد تشيع روحه الحيرى هذه في كثير من قصائده ولكنها في هاتين أظهر. ولنستمع إلى هذا العتاب وما فيه من مرارة عذبة، إذ يقول في قصيدة وادي الأحلام:
أنسيت عهدك والزمان مسالمي
…
فتركتني والبؤس من أخداني
أم شاق قلبك غير ودِّي شائقٌ
…
فرميت بي في وحدة الأحزان
يا سالياً ما إن ذكرت زمانه
…
إلا بكى زمني وأنَّ مكاني
ثم يصف لنا ما كان في وادي أحلامه من طير وشجر وماء وزهر، وكيف كان الماء يروي للبنفسج شوقه هيامه بمراشف الأغصان، إلى أن يقول:
يا من رسمت خياله بمدامعي
…
وحملت من ذكراه ما أشجاني
أنسيت وادينا وما كنا به
…
من حلو أحلام وعذب أماني
كم ساعة للوصل في أحضانه
…
سعدت بظل التوت والرمان
ولا أغفل عن ذكر قصيدته الجميلة (زهرة العمر) ومنها:
أخاف على زهرتي أن تموت
…
وسلوة روحي في عطرها
لقد سمعت من فؤادي الجريح
…
شجاه فكنته في سرها
وبثت أساه لنظارها
…
ببسمة شجو على ثغرها
وفي القصيدة نظرات فلسفية في الحياة والمصير الذي تنتهي إليه
وليس ما يؤخذ على الشاعر الشاب سوى وقوعه أحياناً في (سناد الردف) وهذا من عيوب القوافي، فنراه يردف في القافية بحرف الألف حيث يدع الردف في القافية التي سبقت أو تلت كقوله في قصيدة (عيد في عيد) إذ يشير إلى مولد النبي صلعم:
مولد كالشمس في إشراقها
…
ضوَّأ الدنيا بأنوار اليقين
مالت الشمس له عن شرقها
…
ثم حيته بإحناء الجبين
وكذلك في قصيدة (زورق الأحلام) حيث يردف بحرف الياء في قافية (الطير) بينما تخلو قوافي القطعة كلها من الردف مثل النهر والعطر
هذه هنات ما كنت أحب أن آتي عليها لولا إيثاري للشاعر ورغبتي الخالصة في أن يتجنبها في المقبل من شعره، وما عدا ذلك فالديوان يفيض بالشاعرية والجرس الموسيقي الذي يشمل كلماته المنتقاة التي تدل على ذوق جميل وطبع أصيل
وتتصدر الديوان أبيات للشاعر أحمد رامي صديق شاعرنا، فبين الشاعرين تألف روحي مصدره ذلك الشبه بين روحيهما الهائمين في سماء الحب والجمال. والديوان رشيق الطبع أنيقه، مزين بصور طبيعية لبلادنا الحبيبة الفاتنة، وهذه الصور تكمل في نفس القارئ شعوره بالجمال، وقد طبعته شركة فن الطباعة في القاهرة ونشره محمد أحمد حجازي
وإذ أشكر للشاعر الرقيق هديته الجميلة فإنني أهنئه بنتاجه الموفق الجميل.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
البريد الأدبي
إلى الطبيب القدير الدكتور حسين همت
يا صديقي. ويا طبيبي!
دار الحول واقتربت الساعة التي أوشكت أن تكون موعد لقاء منظور، وقد كانت عندك أفجع فراق مرهوب
مضت ثلاثة أعوام على تلك الليلة التي ناديتني فيها لتبلغني كلمة واحدة لم تزد عليها، ولكنها لا تحتمل الزيادة، لأنها وسعت من التعبير عن آلام نفسك - أيها الصديق العزيز - ما تضيق به المعجمات والأسفار
ويخيل إلي أنني أسمعها الساعة كما سمعتها منذ ثلاثة أعوام، لأن للكلمات أرواحاً تعيش وتموت، وأعماراً تطول وتقصر، وقلما تموت كلمة مرهونة بألم طويل العمر، مديد البقاء
تعودت يا صديقي وطبيبي أن أطرق جرسك في هدأة الليل لأعوذ بعلمك وطبك في أمري وأمر الأعزاء عندي، ولكنني لم أسمع صوتك يطرق سمعي في هدأة الليل إلا هذه المرة، ولم أسمع منك في هذه المرة غير تلك الكلمة الواحدة. ولكنها الكلمة التي جمعت فيها من ألمك ما لم أجمعه في مئات الكلمات
ماتت!
ولا حاجة بعدها إلى مزيد
وليس من عادتي أن أقحم العزاء على المفجوعين في ساعة الفجيعة الدامية، لأنني أحسبه اجتراء على قدس الأحزان لا خير فيه، ولكنه صوت سمعته لابد له من جواب تسمعه غير الصمت والسكون. . فقلت كأنني لا أعلم ما أقول:
(إنك رجل يا دكتور، ولن تنفعك الرجولة في مقام بعد اليوم إن لم تنفعك بالصبر الجميل في هذا المقام)
نعم يا صديقي، ويا طبيبي!
إنك رجل ذو عزيمة وجلد وإباء. صبرت على الأهوال في بلاد الأهوال، وصحبت الحرب الماضية في البلاد التركية وفي بلاد أوربا الوسطى وأوربا الشرقية يوم كانت تلك البلاد موارة بالخطوب والقلاقل، سوارة بالفتن والزلازل، تصبح في حال ولا تمسي عليه،
وتمسي ولا تدري كيف يطلع عليها الصباح
وبلوت من الدنيا ما هو أقسى على النفس من أهوال الفتن والحروب: بلوت منها تقلب القلوب وغدر الصحاب وخيبة الظنون
بلوت هذا كله فما وهنت ولا شكوت ولا أجريته على لسانك إلا كسمر السامر وفكاهة المتحدث، وعبرة المعتبر بأحوال الدنيا وخلائق الناس
أنت يا صديقي رجل ذو عزيمة
ولكنك وا أسفاه رجل ذو قلب وذو ضمير. وكثيراً ما يكون القلب وحده مدداً للعزيمة، والضمير وحده ينبوعاً للصبر والأباء
وهاأنت يا صديقي تفجع في القلب فما جدوى العزيمة وما غناء الصبر وما حيلة الأباء؟
أكنت نسيت ذلك كله ساعة أبلغتني الخبر المشؤوم فأهبت منك بعزم الرجال؟
إن كنت قد نسيته في تلك الساعة فما كان اخلقني ألا أنساه، لأنني لمست شواهده قبيل ذلك بأيام، وشاءت الأقدار أن أسبقك إلى مصاب يهد القوي ويفت في الأعضاد، وشاءت الأقدار أن تكون أنت في لواعج الخوف من وقوع مصابك الأليم ولا علم لي بشيء من ذاك، لأنك كنت تواسيني مواساة الصديق والطبيب، وتعوذ من نفسك بعزم أولي العزم، وتكتم عني ما كنت فيه
فلما برح بي الألم ولجأت إليك أستمد منك عوناً لهذه البنية ينصرها على البرحاء علمت ما يشغلك، وعلمت مبلغ صبرك على مغالبة الخوف والفزع والبلاء
علمت أنك هجرت بيتك ولزمت حجرة المستشفى منذ أيام، وتركت محرابك الذي لا تتركه لتقيم إلى جوار تلك العزيزة التي تودع الحياة: تلك العزيزة التي كان منها مدد قلبك ومدد عزمك. . . تلك الزوجة الرؤم بل ذلك الملك الكريم الذي سكنت إليه كما تسكن السفينة إلى الميناء الأمين بعد هوج البحار
علمت أنك تأوي إلى المستشفى منذ أيام ولم أعلم ما حقيقة الداء وما مبلغ الرجاء في الشفاء، وكان أغلب الظن عندي أنها عقدة من عقد الجراحة يحلها مبضع الجراح. فلما ذهبت إليك قويت عندي هذا الظن وتمالكت وتجلدت وألححت في السؤال عني لتطلق لساني وتنسيني ما أنت فيه
وهاأنت يا صديقي تفجع في القلب فما جدوى العزيمة وما غناء الصبر وما حيلة الآباء؟
حين دق الجرس في هدأة الليل، وسمعت صوتك يجهش بالبكاء، ويلقي إلي بتلك الكلمة القصيرة في حروفها، الطويلة في عقابيلها - لم يخطر على لساني إلا الصبر أثوب بك إليه، ولولا ذهول المفاجأة لخطر لي أن الصبر قد أصيب في المقتل المنيع، لأنه قد أصيب في القلب الذي يعتصم به الرجل الصبور، وكثيراً ما يتراجع الرجال بعزائمهم إلى قلوبهم، فإذا أصيب القلب - فإلى أين يتراجعون؟
ذاك هو اللغم في الميناء، وأنه لأهول من الإعصار في هوج البحار
واليوم وقد دار الحول دورته الثالثة لا أحاول العزاء، لأن العزاء تخفيف من الأسى والأسى على الأعزاء عزيز مثلهم، لا يروقنا أن نمسه بتخفيف
إنما أحاول ترويض الحزن بشيء من التذكير
ولا أذكرك إلا بمصائب الحياة إلى جانب مصائب الموت. فوالله يا صديقي أن الحياة لأقسى من الموت في أكثر من مصاب، وأن قسوة الموت لرحمة في بعض الأحايين عند قسوة الحياة، فليست أوجع السهام مخبوءة لنا في جوف التراب، بل هي مخبوءة لنا في رحب الهواء
إن فقدان الموت يورثنا الألم ولكنه الألم الذي لا نهون به ولا نخجل من قبوله، وقد نشرف أمام أنفسنا بالصبر عليه والحنين إليه
وكم من فقدان في الحياة يورثنا الألم الذي يخجل ويضيم، لأنه ألم لا يجمل بنا أن نحسه ولا يشرفنا الصبر عليه والحنين إليه، وإنما يشرفنا أن نقتلعه من جذوره كلما استطعنا، وقد لا نستطيع
كل مفقود بالموت يستحق الحزن عليه، وكل مفقود بالحياة فالحزن عليه كثير
ولأكرم لنا وللأعزاء أن نفقدهم موتى ولا نفقدهم أحياء، وما يرضينا أن نفقدهم على حال من الحالين لو كان لنا اختيار بين الأمرين، ولكننا مسيرون يا صديقي للقضاء، ولا حيلة يا صديقي للموتى ولا الأحياء، مع حكم القضاء
عباس محمود العقاد
شرح وحدة الوجود
في غير هذا المكان من الرسالة يجد القراء كلمات كتبتها لنفسي، ولم أكن أنوي نشرها في هذا الوقت، ولكن المقال الأخير للأستاذ دريني خشبة حملني على تقديمها لمجلة الرسالة، لتكون جواباً على اعتراضات كثيرة واجهني بها كثير من أصدقائي، وتمنوا أن أجيب، ليستطيعوا الإجابة عني حين يستطيل أعدائي
وأقول بعبارة صريحة: إن الأستاذ دريني بعيد كل البعد عن نظرية وحدة الوجود، ومقالاته في نقضها تشهد بأنه لا يريد أن يسمع ما نقول في تأييد هذه النظرية، وأنه يحرص على أن تكون كل فكرة موصولة بالدين الإسلامي، مع أني قلت له أني لا أجعل الإسلام في بالي حين أواجه معضلات الوجود، لأن الإسلام ينهانا عن مواجهة تلك المعضلات
وقراء الرسالة يشهدون أني فررت من الميدان حين رأيت أن ثباتي فيه يعرضهم لبلبلة فكرية لا أريدها لهم بأي حال، وأنا القائل بأن المجد كالرزق فيه حرام وحلال، وأنا لهذا أبغض الشهرة المجلوبة بإيذاء الناس
وقال قوم أنه كان يجب أن أرد على الأستاذ معروف الرصافي، وأقول أني لن أرد عليه، لأنه أكرمني بنقد آرائي، وأنا أحترم من ينقدون آرائي بإخلاص. . . وقد قلت مرة إن الذوق خير ما دعا إليه الأنبياء، ولهذا المعنى لن أناقش الأستاذ دريني، لأنه من أعز أصدقائي، وإن كان ينفر من آرائي
وأنتهز هذه الفرصة فأسجل بيتين هما خير ما قال صديق في الشوق إلى صديق، وهما تحية من الشاعر عبد الرحمن البناء:
لك يا ابن الغُرِّ الميامين نفسٌ
…
خُلقت من مكارم الأخلاق
فرَّقتنا الدنيا فهل يا زكيُّ
…
أنا باق إلى اللقاء، أنا باق
سأراك يا أيها الشاعر إن سنحت فرصة لزيارة بغداد، وسأراك إن تفضلت بزيارتي في وطني، فأنا بحمد الله من أكابر الأغنياء في وطني، وسيكون من الشرف أن أهدي إليك داراً في سنتريس هي طيف من دارك في بغداد، يا شاعراً سابق الرصافي إلى إكرامي في بغداد.
زكي مبارك
حول أبي فراس الحمداني
إلى مترجمي دائرة المعارف الإسلامية
قرأت ترجمة أبي فراس في دائرة المعارف الإسلامية، فاسترعى نظري أمران خالف فيهما وجه الرأي مترجمو هذه الدائرة، والواجب العلمي يقضي بالتنبيه إليهما
أما الأمر الأول فما جاء في هذه الترجمة من قولهم: (وقبض عليه (أي أبي فراس) للمرة الثانية عام 351هـ (962م) وسيق إلى القسطنطينية وسجن فيها عدة أعوام، ونظم في ذلك الحين مراثي مؤثرة رثى بها أفراد أسرته، ومن بينها مرثيته المشهورة في أمه التي ترجمها أهلواردت وهذا خطأ واضح؛ فإن أبا فراس لم يرث أمه أصلاً؛ لأنه مات قبلها كما أجمع على ذلك مؤرخوه
أما القصيدة التي يشير إليها بروكلمان الذي كتب هذه الترجمة، فليست قصيدة رثاء لوالدته، ولكنها قصيدة أرسلها إليها وقد ثقل من الجراح التي نالته، ويئس من نفسه فكتب إلى أمه كأنه يعزيها، وأول هذه القصيدة التي ترجمها أهلواردت إلى الألمانية
مصابي جليل والعزاء جميل
…
وظني بأن الله سوف يزيل
والأمر الثاني قولهم: (وتمتاز أشعاره بطابع شخصيته القوي الواضح، وهي أقرب ما تكون إلى اليوميات. ولو أنها لا تختلف في أسلوبها عن أشعار معاصريه، وهي ليست في روعة أشعار المتنبي)
وقد نقل المستشرق المعروف بلاشير في كتابه عن المتنبي (ص330) رأي بروكلمان الذي ذكره في دائرة المعارف الإسلامية، وهو يخالف هذه الترجمة التي نقلناها إذ يقول: ، ? ، -
أي أن بروكلمان، مثل فون كريمر، يضع أبا فراس في مرتبة أعلى من مرتبة أبي الطيب. ومنه يتبين الفرق بين ما نقله بلاشير عن بروكلمان في دائرة المعارف وما ترجمه مترجمو هذه الدائرة إلى اللغة العربية.
(حلوان)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين
الهكسوس ومدة حكمهم لمصر
اختلف الأستاذان سيد قطب وصلاح ذهني في تحديد مدة حكم الهكسوس لمصر. فهذه المدة في رأي الأستاذ ذهني مائتا عام أو أقل مستنداً في ذلك إلى الفصل الذي كتبه الدكتور أبو بكر في كتاب (المجمل في تاريخ مصر العام)، وهي في رأي الأستاذ سيد قطب خمسمائة عام مستنداً إلى جوستاف لوبون في كتاب (الحضارة المصرية القديمة)، وهذا فارق كبير في التقدير يحتاج إلى كثير من التحقيق
يقرر الدكتور أبو بكر أن الهكسوس دخلوا مصر عام 1710 ق. م. وطردوا منها نهائياً عام 1580 ق. م. فتكون مدة حكمهم قرناً ونصف قرن ويقدر الأستاذ برستد في كتاب (تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي) المدة بين حكم الأسرة الثالثة عشرة (وهي التي بعد انحلالها أغار الهكسوس على مصر)، وبين نهاية حكم الأسرة السابعة عشرة بمائتين وثمانية أعوام (1788 - 1580ق. م) بما في ذلك مدة حكم الهكسوس، ويؤكد أن مدة حكمهم لم تزد على مائة عام، ويجعل المسيو دريتون في كتابه: ، ، مدة حكمهم بمائة وخمسين عاما (1730 - 1580ق. م)
أما الذين قالوا ببقاء الهكسوس بمصر خمسة قرون. فلا أذكر منهم غير المؤرخ اليهودي جوسيفوس الذي زعم أنه نقل عن ماتينون أنهم استمروا يحكمون مصر 511 عاماً. ولكن برستد يقرر أنه لم يوجد على الآثار ما يؤيد كلام ماتينون، كما يقرر الدكتور أبو بكر مبالغته مدة حكم الهكسوس
ويرجح الأستاذ دريتون حدوث المحاولات التي انتهت بطرد الهكسوس بين (1680 - 1580ق. م)، ويورد قائمة بأحد عشر ملكاً سماهم ملوك الأسرة السابعة عشر حدثت في أيامهم تلك المحاولات، فتكون مدة هذا النضال مائة عام وليست مائتين أو مائة وخمسين كما يحاول الأستاذ قطب تأويل كلام الأستاذ ذهني
هذا ونأمل أن يتقدم أحد المشتغلين بتاريخ مصر القديم والمهتمين بعصر الهكسوس بصفة خاصة، وأقصد به الأستاذ الدكتور باهور ليعرض عصر الهكسوس عرضاً سليماً صحيحاً
ويجلو لنا بصفة خاصة مسألة العجلات الحربية، ولا يخفى على دارسي تاريخ مصر القديم ما كان للهكسوس من أثر كبير في ذلك التاريخ
وبعد فأنتهز هذه الفرصة لأعرب عن أسفي لاستعمال ذلك الأسلوب الذي غلب على الأستاذين المتساجلين ورمي أحدهما الآخر بالتبجح والجهل، فما كانت الحقائق التاريخية لتخضع لمثل هذا الجدل، بل لابد أن يدحضها منطق سليم وتؤيدها أدلة ثابتة قاطعة
وكم أود كذلك لو انتفع النقاد بما كتبه الدكتور صبري في العدد 590 من الرسالة، فهذا دستور سليم لمن أراد نقداً أدبياً صحيحاً، فقد سئمنا ذلك الأسلوب الذي جرت عليه المساجلات والمناقشات في السنين الأخيرة، وطالما تأذينا من ذلك الصغار الذي يقلب على كتابة كبار الكتاب، وكم نرجو أن تكون الحجة هي الفاصل والعقل هو الحكم، والخلق الأدبي هو الذي يسود حتى يتخلص النقد الأدبي من تلك المهاترات التي لا تقدم ولا تؤخر، بل تنزل من قيمة كاتبها درجات، ويبعث في مصر الرأي العلمي الصحيح الذي يزن الأمور بميزان النقد الصحيح فلا يكون النقد أداة هدم فحسب.
(الإسكندرية)
مصطفى كمال عبد العليم
ليسانسه في التاريخ