الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 594
- بتاريخ: 20 - 11 - 1944
قادة الفكر.
. .
للدكتور محمد مندور
منذ القدم والمستنيرين من الناس يقتتلون حول قادة الفكر، فمنهم من يدعوهم إلى الكفاح مع مواطنيهم عندما يدعو داعي الوطن، ومنهم من يود لو نأى بهم عن كل ضجة فانية ليتوفروا على خلق الأفكار الباقية، وصياغة المشاعر التي تتغذى بها الأجيال في كل زمان ومكان. وتلك قضية تستحق النظر فما لا شك فيه أن الكاتب - وبخاصة إذا كان انفعالي الطبع - لا يملك في بعض الأحيان أن يدفع إحساسه بالمسؤولية، فكلما رأى فساداً من حوله أو أحس ظلماً يقع على الناس أو جراحاً تصيب وطنه ثارت نفسه، وكأن سكوته تأمين على ما يرى أن لم يكن مشاركة فيه. ولقد يتساءل الناس من حوله عن سر حماسته لهذه الفكرة أو تلك دون أن يحظوا برد يقنع العاديين منهم لأن الرد الوحيد هو طبيعة الكاتب وحرارة قلبه
وموضع التدبر هو أن نتساءل عما يستطيع الكاتب عندئذ أن يكتب دون أن يصيب كتابته الفناء، وليس أشق على نفس الكاتب من أن يحس بأن جهده سيتبدد أنفاساً، وإن كل ما يخط لن يخلف أثرا لأنه وليد ملابسات يومية لن تلبث أن تتغير فتفقد كتاباته قيمتها. ولكن هذا قول ليس صحيحاً على إطلاقه، فإلى اليوم لا زلت أقرأ خطب ديموستين الزعيم الإغريقي الخالد يوم كان يكافح فيليب المقدوني ويدعو مواطنيه إلى مكافحته دون أن يثنيه عن ذلك حتى اليقين بأنه ومواطنيه سائرون إلى الهزيمة مؤمناً بأن الجهاد غاية نبيلة في ذاتها، وأنه من الخير أن تموت وسلاحك بيدك عن أن تنفق في فرق الجبان. ولا زلت أقرأ لروبسبير وهو يناهض ما صاحب الثورة الفرنسية الكبيرة من انحلال في الخلق وتقلب في العقائد وتيقظ في الشهوات واستحصاد للضغائن العمياء. ويدعو إلى أن يكون الطموح عملا على استحقاق المجد وتقدير الشعب، أقول أنني لا زلت أقرأ للخطيب الإغريقي أو الخطيب الفرنسي فلا أستطيع أن أقول مع القائلين أن الكتابات أو الأفكار التي تولدها ظروف خاصة سيصيبها الفناء. فكل كتابة تستطيع أن نخلد بما تحمله من عناصر إنسانية ثابتة، والإنسان هو الإنسان في كافة عصوره. وسيظل ابد السنين يهتز لمعاني الكرم النفسي
هذه إذن قضية الحق فيها واضح. ولكن ثمة قضية أُخرى أشق منها علاجا وهي: أيهما
أجدى على قادة الفكر: أن يتوفروا على فهم الإنسان وشق الحجب عن أسراره النفسية أم ينصرفوا إلى توجيهه وقيادته. وهنا قد يبدو التعارض واضحاً، ولكنه في الحق تعارض سطحي. وكبار الكتاب يجمعون دائماً بين الأمرين دون أن يقصدوا إلى أيهما. ففهمك للإنسان وتبصيرك إياه بحقائقه الغامضة فيه خير توجيه له. وأنه لمن الحمق أن يظن أشباه الأميين أن باستطاعتهم أن يخلقوا أمة أو يوجهوا رأياً توجيهاً ثابتا بالألفاظ الخطابية الرنانة أو بالجمل المرصعة الجوفاء، فهذه حماقات موقوتة التأثير وأما الأثر الباقي فهو ما تستمده من حقائق النفس لترده أليها، ولكم من مرة يكون من واجبك إذا أردت أن ترفع قلباً أو تحث عزماً أن تسلم له بادئ الأمر بحقه في أن يبتئس أو يتوانى عزمه، ولكم من مرة يكون في هذا التسليم ذاته أكبر ناهض بالنفوس، وأما المكابرة وأما التنكر لحقائق النفس البشرية ومحاولة أخذها بالضجيج فذلك تفكير عقيم.
وإذن فمشكلة الفهم أو التوجيه هي الأُخرىمحلولة في أعماقها. ولعل في تحديد العلاقة بين رجال الفكر وبين رجال السياسة ثم بين رجال الفكر وبين بيئاتهم مشكلات اشق من السابقتين
بعض رجال السياسة ليسوا من قادة الفكر ومنهم من لا يكاد. يقرأ كتاباً، وتلك لا ريب آفة شديدة الأثر على الحياة العامة، وقديماً رأى أفلاطون أن يقود الفلاسفة المدينة. وقادة الفكر بدورهم ليسوا جميعاً ممن يطيقون مجابهة الجماهير وخوض المعارك السياسية، ومن هنا تنشأ طائفة من السياسيين لا علاقة لها بالفكر وطائفة من المفكرين لا صلة لها بالسياسة، ومن عجيب الأمر أن ترى في التاريخ مفكرين سياسيين جاء تفكيرهم تقريرياً بحتاً بحيث لم يدعوا إلى عمل ولا نادوا بتغيير، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك كارل ماركس الذي يتخذه الاشتراكيون اليوم زعيماً لهم، فقد كان الرجل مؤرخاً عالماً لا سياسياً عاملاً، وهو لم يناد بتحقيق مذهب وإنما درس الماضي وتنبأ بأن تصيب العالم في يوم من الأيام أزمة اقتصادية تقضي طبيعتها إلا يكون لها حل غير الاشتراكية، ومع ذلك كم من السياسيين استطاعوا أن يتخذوا من مبادئه التقريرية دعوة إلى الثورة ومبادئ للعمل الإيجابي. ولقد يتفق أحياناً أن يقول مفكر بنظرية من النظريات في بلد ما، ثم لا تطبق إلا في بلد آخر، ولعل أوضح مثل لذلك مونتسكيو الفرنسي ونظريته في فصل السلطات، ففرنسا لم تطبق
هذه النظرية على نحو دقيق وإنما طبقتها أمريكا. والأمر في العلاقة بين رجال الفكر ورجال السياسة عندئذ شديد الشبه بالعلاقة بين رجال العلم ورجال الصناعة. فالعلماء يكشفون عن قوانين المادة التي تمكن من تسخيرها للإنسان ويصوغون قوانينهم معادلات جبرية، ويأتي رجال الصناعة فيستغلون تلك القوانين والمعادلات في الإنتاج الاقتصادي والإثراء به. ولكن الوضع بين العلماء والصناع قد يكون مقبولا على نحو ما هو الآن، بينما هو بين المفكرين والسياسيين محفوف بأشد المخاطر على سلامة الأمم واستقامة الحكم فيها. ولقد تعقدت أمور الحياة العامة في العصر الحديث بحيث لم يعد كافياً لقيادة الأمم أن تكون وطنياً مخلصاً أو ذا وجاهة اجتماعية، بل لابد لك من ثقافة عامة شاملة حتى تعالج الأمور على نحو سديد مستنير
وعندما يصبح السياسيون من قادة الفكر ستتحدد العلاقة بينهم وبين بيئاتهم. فللرجل المفكر في وسطه مهمتان: أولاهما أن يبصر قومه بحالتهم الحقيقية، حتى يعوا ما هم فيه من شقاء وتخلف، وذوو النظر مجمعون على أن البؤس ذاته لا يحرك الشعوب، وإنما يحركها أن تفطن إلى ما هي فيه من بؤس. ولعل في حالة الفلاح المصري أوضح دليل على ما نقول، ومهمته الثانية هي أن يسبق الأمم إلى آمالها الغامضة، ومن هنا ترى أغلبية الكتاب المفكرين من الداعين إلى الأفكار المتقدمة، فهم رسل الرجاء وبألسنتهم تشكو النفوس آمالها وتتطلع إلى سعادة أتم. وهذا هو السر في أنهم يعيشون دائماً في كفاح مع بيئاتهم وكثير منهم لا يستجاب لندائه إلا بعد موته بسنين؛ فعندئذ يقر لهم بالفضل وتقام لهم النصب وتنزل آراؤهم من القلوب منزلة الإيمان
محمد مندور
1 - أبو تمام
وموازين السرقات الشعرية عند ابن الأثير
للأستاذ دريني خشبة
رأينا أن أبا تمام لم يشتغل طول حياته بغير الشعر تأليفاً وتصنيفاً، ورأينا كيف كان يختار مرة للمشهورين ثم يختار أُخرى لغير المشهورين، فيحكم ذوقه النقاد في الحالين، فلا يقدم إلينا إلا كل درة وكل غرة من درر الشعر العربي وغرره. . . ولم يكن أبو تمام مصنفاً ومؤلفاً فحسب، بل كان حافظاً، بل كان أعجوبة في الحفاظ الذين اشتهر بهم تاريخ الفكر العربي. . . ورأينا اتفاق آراء خصومه وأصدقائه على أنه كان يأخذ المعنى، فيعني بتخميره - على رأي الآمدي - أو بالاتكاء فيه على نفسه - على رأي الصولي - حتى يخلص له آخر الأمر، أو لا يخلص له، بل يشوهه وينقص منه، كما صرح بذلك دعبل وابن الأعرابي التوجي وأبو هفان وأبو حاتم السجستاني وغيرهم من أعداء أبي تمام. . .
وقبل أن نأخذ في عرض طائفة من سرقات أبي تمام، مما استدركه عليه الآمدي، لا نرى بداً من وضع خلاصة لذلك الفصل القيم الذي ختم به الأستاذ العلامة أبو الفتح بن الأثير كتابه (المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر) والذي خصصه للسرقات الشعرية، ولا سيما عند أبي تمام والبحتري، وابن الرومي والمتنبي، وهو فصل من أبرع الفصول في بابه، وأكثرها إحاطة بهذا الموضوع الذي تشعبت أطرافه، وكثر فيه إرجاف الرواة والنقاد. ومن الطريف أن ابن الأثير المتوفى سنة 637هـ كان قد ألف في ذلك الموضوع كتاباً قائماً بذاته، ثم ضاع هذا الكتاب، فعوضنا منه بذلك الفصل خيراً
1 -
فعند ابن الأثير أن الشاعر إذا أورد شيئاً من ألفاظ شاعر آخر، في معنى من معاني هذا الشاعر، ولو كان ذلك لفظة واحدة، فإن ذلك يكون دليلاً قاطعاً على سرقته.
2 -
ويقسم السرقات الشعرية إلى خمسة أقسام: هي النسخ، والسلخ، والمسخ، واخذ المعنى مع الزيادة عليه، ثم عكس المعنى إلى ضده
3 -
أما النسخ، فهو أخذ اللفظ والمعنى برمته، من غير زيادة أو نقصان؛ وأما السلخ فهو أخذ بعض المعنى، وأما المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونه
4 -
ويعود ابن الأثير فيجعل النسخ على ضربين: فإما أخذ كلاماً كما تقدم، وأما أخذ معظم
اللفظ والمعنى كله، كقول أبي نؤاس:
دارت على فتية ذل الزمان لهم
…
فما يصيبهم إلا بما شاءوا
فقد نسخه من بيت في أصوات معبد، وذكره أبو الفرج:
لهفي على فتية ذل الزمان لهم
…
فما أصابهم إلا بما شاءوا
ومثل قول أبي تمام:
محاسن أصناف المغنّين جمَّة
…
وما قصبات السبق إلا لمعبد
نسخه ممن مدح معبداً، وذكره أبو الفرج، فقال:
أجادُ طوَيس والسُّريجي بعده
…
وما قصبات السبق إلا لمعبد؟!
5 -
ثم يقسم السلخ فيجعله أحد عشر نوعاً: (وهذا التقسيم أوجبته القسمة، وإذا تأملته علمت أنه لم يبق شيء خارج عنه!)
فالأول: أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه، ولا يكون هو إياه، وهذا من أدق السرقات مذهباً، وأحسنها صورة، ولا يأتي إلا قليلاً كقول بعضهم:
لقد زادني حباً لنفسي أنني
…
بغيض إلى كل امرئ غير طائل
آخذه المتنبي فقال بيته المشهور:
وإذا آتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
وقول أبي تمام:
رعته الفيافي بعدما كان حقبة
…
رعاه وماء الروض ينهل ساكبه
آخذه البحتري فقال:
ركبا القنا من بعدما حملا القنا
…
في عسكر متحامل في عسكر!
الثاني: أن يؤخذ المعنى مجرداً من اللفظ، وهو صعب قليل الورود، بل هو من أشكلها، وأدقها، وأغربها، وأبعدها مذهباً، كقول أبي تمام:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة
…
تقوم مقام النصر إذ فاته النصر
فقد سلخه من قول عروة بن الورد:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا
…
من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً. أو ينال رغيبة
…
ومبلغ نفس عذرها مثل مُنجح
ولا يخفى ما في بيت أبي تمام من الجمال والعبقرية في السلخ مع حسن السبك!
والثالث: أخذ المعنى ويسير من اللفظ، وهو عند ابن الأثير من أقبح السرقات وأظهرها شناعة، وقد افتضح بهذا النوع البحتري خاصة، ووقع فيه أبو تمام كثيراً، مثل قوله:
فلم أمدحك تفخيماً بشعري
…
ولكني مدحت بك المديحا
فقد سلخه من قول حسان:
ما إن مدحت محمداً بمقالتي
…
لكن مدحت مقالتي بمحمد
وقول ابن الرومي:
جرعته العيون فاقتص منها
…
بجوى في القلوب دامي الندوب
فقد سلخه من قول أبي تمام:
أدميت باللحظات وجنته
…
فاقتص ناظره من القلب!
وسرقة ابن الرومي ظاهرة مفضوحة لا شك فيها، ويخفف من وزر السارق في نظر ابن الأثير أن يجيء بلفظ أحلى، أو معنى زائد فيه جمال. أما أن ينحط عن الأصل، فهذه هي الشناعة التي ما مثلها شناعة عنده!
- والرابع أن يؤخذ المعنى فيعكس. وهو حسن يكاد يخرجه حسنه عن السرقة، كقول أبي الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذة
…
شغفاً بذكرك فليلمني اللوم
عكسه المتنبي فقال:
أأحبه وأحب فيه ملامة؟
…
إن الملامة فيه من أعدائه
- والخامس أخذ بعض المعنى، كقول أبي تمام:
تُدعي عطاياه وفرا وهي إن شهرت
…
كانت فخاراً لمن يعفوه مؤتنفا
ما زلت منتظراً أعجوبة زمناً
…
حتى رأيت سؤالاً يجبتني شرفا
أخذه من قول أمية بن أبي الصلت:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته
…
ببذل، وما كل العطاء يزين
وليس بشين لامرئ بذل وجهه
…
إليك كما بعض السؤال بشين
- والسادس هو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر، كقول ولد مسلمة:
أذُلَّ الحياة، وكره الممات
…
وكلا أراه طعاما وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما
…
فسيرا إلى الموت سيراً جميلاً
أخذه أبو تمام فقال:
مثَّل الموتَ بين عينيه والذلّ
…
وكُلاً رآه خطباً عظيما
ثم سارت به الحميَّة قُدْما
…
فأمات العِدا ومات كريما!
فزاد في المعنى: فأمات العدا ومات كريما
- والسابع أن يؤخذ المعنى فيكسي عبارة احسن من الأولى، وهنا تتجلى عبقرية أبي تمام. . . ولله من قال: من سرق معنى واسترقه، فقد استحقه: وإن كنا لا نشجع السرقة!! قال بعض الشعراء:
مُخَصّرة الأوساط زانت عقودها
…
بأحسن مما زيّنتها عقودُها
أخذه أبو تمام فقال:
كأن عليها كل عقد ملاحة
…
وحسناً وإن أضحت وأمست بلا عقد
وسطا عليه البحتري فقال:
إذا أطفأ الياقوت إشراقُ وجهها
…
فإن عناءً ما توخت عقودُها
وكلاهما رقق المعنى وزاده حسناً
- والثامن أن يؤخذ المعنى ويوجز في سبكه، وهو عند ابن الأثير من أحسن السرقات كقول أبي العتاهية:
وإني لمعذور على فرط حبها
…
لأن لها وجهاً يدل على عذري
أوجز فيه أبو تمام فقال:
له وجه إذا أبصر
…
ته ناجاك عن عذري!
وقول بشارة:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيبات الفاتك اللهِج
أوجز فيه تلميذه سلم الخاسر فقال:
من راقب الناس مات غماً
…
وفاز باللذة الجسور!
- والتاسع أن يكون المعنى عاماً فيجعله السارق خاصاً والعكس: كقول الأخطل
(ونسبه الناشر إلى أبي الأسود):
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
خصصه أبو تمام فقال:
أألوم من بخلت يداه وأغتدى
…
للبخل تربا؟ ساء ذاك صنيعاً
وقال أبو تمام:
ولو حادت شُولٌ عذرت لقاحها
…
ولكن مُنِعتُ الدَّرَّ والضَّرع حافل
عممه المتنبي فقال:
وما يؤلم الحرمان من كف حارم
…
كما يؤلم الحرمان من كف رازق
- والعاشر زيادة البيان مع المساواة في المعنى، أو ضرب مثال يوضح المعنى المسلوخ: كقول أبي تمام
قد قلصت شفتاه من حفيظته
…
فَخِيل من شدة التعبيس مبتسما
توسع فيه المتبني فقال:
وجاهل مده في جهله ضحكي
…
حتى أتته يد فراسة وقم
إذا رأيت نيوب الليث بارزةً
…
فلا تظنن أن الليث يبتسم
وهذا عند ابن الأثير من المبتدع لا من المسروق!
- والحادي عشر هو اتحاد الطريق واختلاف المقصد. . . وذلك أن يسلك الشاعر طريقاً واحدة تنتهي بهما عند جنتين مختلفتين! ثم تتجلى فيهما عبقرية كل منهما. . . وقد ضرب ابن الأثير لذلك مثلاً قصيدة لأبي تمام في الرثاء بولدين وقصيدة للمتنبي في الرثاء يولد. ومطلع قصيدة أبي تمام:
ما زالت الأيام تخبر سائلا
…
أن سوف تفجع مسهلاً أو عاقلا
وهي موجهة إلى عبد الله بن طاهر. ومطلع قصيدة المتنبي:
بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل
…
وهذا الذي يضني كذاك الذي يُبلى
وهي في رثاء أبي الهيجاء بن سيف الدولة وقد توفي صغيراً، ثم أقام بينهما موازنة يشوهها التلخيص، فيحسن الرجوع إلى المثل السائر ليشهد القارئ مثلا من أمثلة العبقرية العربية في النقد الأدبي الدقيق (جـ2 ص391 وما بعدها)، وإن ظهر فيها ابن الأثير
متحزباً (بحق!) للمتنبي، مع سلخ المتنبي كثيراً من معاني أبي تمام. ثم أنه فضل المتنبي على البحتري في وصفهما الأسد في قصيدتين متشابهتين تواردا على كثير من معانيهما، ولعل هذا التوارد هو الضرب الثاني عشر من السلخ الذي لم يشر إليه ابن الأثير
ثم يعرف ابن الأثير المسخ فيذكر أنه (قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة. . . والعكس) على أنه هذا العكس ليس في رأينا مسخاً، بل هو خلق وابتداع وتجميل يقتضيه الذوق الدقيق الصناع
قال أبو تمام:
فتى لا يرى أن الفريصة مقتل
…
ولكن يرى أن العيوب مقاتل
مسخ صورته المتنبي فقال:
يرى أن ما بان منك لضاربٍ
…
بأقتل مما بان منك لعائب
والمسخ هنا هو في تجاور ما وما المختلفتين معنى
وحسبنا الآن هذا القدر مما لخصناه من ابن الأثير، وهو تلخيص نضعه بين يدي القارئ العجل، ليكون نوراً يكشف له جوانب الظلام وجوانب العبقرية، فيما سنقدمه له من سرقات أبي تمام التي أحصاها عليه الآمدي. ولو أن ابن الأثير تولى عنا الفصل بين أبي تمام وخصومه، لأمدنا بذخيرة لا تنفذ، ويد لا تجحد. . . رحم الله نقادنا الأفذاذ وجزاهم عنا خيراً
دريني خشبة
قضية المرأة أيضاً
للأستاذزكريا إبراهيم
إذا كان الرجل والمرأة سواء، اللهم إلا فيما يرجع إلى الجنس، فلا بد لنا إذن من أن نستند إلى البحوث الفسيولوجية الخاصة بمسألة التفرقة بين الجنسين، حتى نستطيع أن نفصل في (قضية المرأة) فصلا علمياً صحيحاً. والبحوث الجنسية التي أجريت في هذا الصدد كثيرة متعددة، ولكن النتائج التي تستخلص منها مختلفة متعارضة. وسنحاول في هذا البحث الموجز أن نجد أساساً مشتركاً بين كل هذه البحوث، نجعله عمدة لنا في الوصول إلى رأي صحيح تنحل به مشكلة الجنسين، وبالتالي قضية المرأة.
وأول رأي يواجهنا في مسألة الجنسين، هو ذلك الرأي القديم الذي ينظر إلى المرأة والرجل على انهما جنسان مختلفان، يقوم كل منهما بنفسه، ويستقل كل منهما عن الآخر. وهذا الرأي يقضي بأن يكون الرجل متميزاً كل التميز من المرأة، لأن جنس الذكر أرقى وأكمل من جنس الأنثى، ولان المرأة هي التي جبلت من ضلع الرجل، لا العكس! وقد دأب الناس على أن يأخذوا بهذا الرأي، حتى أن أي شك يثار حول رجولة فرد، كان كافياً لأن يثور له ذلك الفرد، باعتبار أنه إهانة عظيمة لا تغتفر! وليس من شك في أن قصة الخلق - كما وردت في التوراة - كانت عاملا من العوامل التي أدت إلى اعتبار الرجل أرقى من المرأة، كما يظهر من استشهاد القديس بولس بها، في معرض المفاضلة بين الرجل والمرأة
ولكن البحوث العلمية التي قام بها علماء (الجنس) والتجارب المنوعة التي قاما بأجرائها، تدلنا على أن الأدنى إلى الصواب أن تكون الأنثى هي الأصل الذي اشتق منه الذكر. فالمرآة هي (الصورة الأولى) للنوع الإنساني، والرجل إنما هو (الصورة الثانية) التي تفرعت من ذلك الأصل، ومعنى هذا أن الذكر ينطوي في أثنائه على أنثى كامنة، هي الجنس الأصلي الذي تنزع إليه كل الثدييات. وهذه الأنثى الكامنة هي على استعداد لأن تظهر بشكل واضح، حينما تستأصل تلك الغدد الزائدة التي تعوق ظهورها - فليست الفروق الجنسية بين الذكر والأنثى إذن، فروقاً جوهرية أصلية، بل هي فروق فرعية مستجدة. وبعبارة أُخرى يمكن أن يقال أن التركيب الجنسي لأفراد كل فصيلة، له أساس مشترك يحتمل التذكير والتأنيث، وهذا ما يعبر عنه بالإمكانية الجنسية المتعادلة
من هذه الحقيقة البيولوجية، يتبين لنا خطأ النظرة القديمة إلى الجنس. فليس الذكر والأنثى وحدتين مستقلتين تقوم كل منهما بذاتها، وإنما هما حالتان متماستان، قد يبلغ بهما التقارب أن يندمجا معاً ليكونا حالة مختلطة هي ما يعرف بالخنثى فليس في استطاعتنا أن نتحدث عن (النوع المذكر) و (النوع المؤنث) بل عن تلك السلسلة الطويلة من الحالات الجنسية التي تمتد ابتداء من الخنثى حتى تلك الأشكال المعتدلة التي تكاد تكون سوية طبيعية.
هذه هي النظرة الصحيحة إلى الجنس، وهي نظرة تساعدنا على أن نفهم تلك الحالات الكثيرة التي طالما نظر إليها الناس على أنها انحرافات غريبة أو حالات شاذة، مثل حالة (التخنث) وحالة (حب الجنس للجنس): ذلك أن التجارب قد دلتنا على أنه ليس من الحق أن هناك رجولة خالصة أو أنوثة خالصة. فإذا لم يكن في استطاعة أحد أن يفخر بأنه رجل كامل الرجولة فأي حق يكون لنا إذا حكمنا بالغرابة والشذوذ على قوم بلغت درجة الرجولة عندهم حدا أدنى بقليل مما يوجد لدينا؟ أن كل ما هنالك هو أن هؤلاء القوم قد اخذوا من الجنس الآخر قسطا أكبر مما لدينا، فلذلك ظهرت حالة (الاختلاط) عندهم بشكل أوضح. والتجارب قد دلتنا على أن التميز الجنسي التام، يكاد يكون معدوماً. فالرجل الخالص، والمرأة الخالصة، هما حالتان قلما يلتقي بهما المرء في الظروف العادية - كما يقول بيدل - وإذن فإن كل ما يميزنا عن أولئك الذين نعدهم شاذين منحرفين، هو أن الإفرازات الهرمونية الموجودة لدينا أكثر مما يوجد لديهم. وقد كنا جميعاً في البداية، ذوي نزعة جنسية إلى نفس الجنس بالقوة ولكننا لحسن الحظ قد تحولنا إلى الطريق الصحيح، بافتراقنا عنهم وأصبحنا أميز من حيث الذكورة.
يتبين لنا من هذه النظرة الجديدة إلى الجنس أن الناس يخطئون إذ يعممون أحكامهم، فيقولون بوجود فروق جنسية كبيرة بين الرجل والمرأة، وبخاصة حول موقف كل منهما من الزواج والحياة الجنسية. فليس الرجل والمرأة كالقطب الموجب والقطب السالب، وإنما الصلة بينهما أبعد ما تكون عن هذا التصوير الساذج البسيط. وعلى الرغم من أن الخلط بين (الإيجاب) والذكورة، وبين (السلب) والأنوثة، قد يبدو لنا حقيقة بيولوجية، فإن الواقع أنه خلط لا أساس له - كما بين ذلك فرويد - وحتى في الناحية الجنسية الخالصة، فإننا لا
نستطيع أن نقول أن موقف المرأة موقف سلبي خالص.
أما تلك التعميمات التي قد نضطر إليها لبيان بعض الفروق الموجودة بين الجنسين، فإنها قد تضللنا إذا اعتبرنا تلك الفروق عامة على الإطلاق. حقاً أن تلك الصفات التي ننسبها إلى كل من الجنسين، قد تكون صحيحة بالنسبة إلى الأفراد الذين يشغلون أعلى السلم أو أسفله، أعني بالنسبة إلى الرجل الحقيقي والمرأة الحقيقة (وهذان قلما يوجدان)، ولكنها تقل شيئاً فشيئاً حينما تقترب من الرجل المتأنث والمرأة المتذكرة (أو المترجلة). فإذا كنا قد فرقنا بين الرجل والمرأة (في البحث السابق) من بعض النواحي الجنسية والنفسية، فإن من الواجب أن نذكر القارئ هنا أن هذه التفرقة ليست عامة مطلقة، وإنما هي تطبق في دائرة محدودة فقط؛ وثم أفراد كثيرون لا تصح بالنسبة إليهم.
وإذا كانت هذه هي حقيقة الصلة بين الرجل والمرأة، فما أحرانا بأن نبتسم حينما نلتقي بأولئك الذي يفخرون برجولتهم، متناسين أن هناك (امرأة) تكمن في قرارة نفوسهم! (حقاً أن هؤلاء قد لا تكون بيوتهم كلها مصنوعة من الزجاج، ولكنهم مع ذلك ينسون أن نوافذ بيوتهم مصنوعة من الزجاج، فما يليق بهم أن يقذفوا الآخرين بالأحجار!)
لقد دنت الشقة بين الرجل والمرأة؟ فكيف بها بين الرجل والرجل؟ أن الرجولة الخالصة قد أصبحت أسطورة من الأساطير، فلنترك لأولئك الواهمين تلك الأسطورة الرائعة، أسطورة الرجولة المزعومة! أما نحن فحسبنا أن نكون (إنسانيين)، ننظر إلى الرجل على أنه إنسان، وننظر إلى (المرأة) على أنها إنسان، ونعتبر أن جوهر الإنسانية واحد في كل منهما؟
زكريا إبراهيم
10 - القضايا الكبرى في الإسلام
قضية فدك
للأستاذعبد المتعال الصعيدي
تمتاز قضية فدك على سائر القضايا الإسلامية بتدخل السياسة فيها، وما دخلت السياسة في أمر من الأمور إلا جعلته عرضة للاضطراب والتقلب. ولو أن السلطة القضائية انفردت بالحكم في هذه القضية لكان لحكمها فيها قداسته واستقراره، ولم تقع فيه تلك التقلبات التي استمرت حوالي قرنين من الزمان
وفدك بلدة بينها وبين المدينة ثلاث مراحل، وكان أهلها من اليهود، فلما فتحت خيبر أرسل أهل فدك يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يتركوا بلدهم ويرحلوا ففعل، وبهذا كانت فدك خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فكان ينفق منها ويأكل، ويعود على فقراء بني هاشم، ويزوج أيمهم، وينفق على أبناء السبيل ونحوهم
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم غير فدك سهمه من خيبر، وصدقته بالمدينة، فأما سهمه من خيبر؛ فأنه كان قد قسمه نصفين: نصفها لنوائبه وحاجته، ونصفها بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً. وأما صدقته بالمدينة فقيل أنها كانت نخل بني النضير، أفاءها الله على رسوله فأعطى أكثرها للمهاجرين، وبقي منها له هذه الصدقة. وقيل أنها كانت أموال مخيريق من يهود بني قينقاع، وكان نازلا ببني النضير. وقد شهد أحداً مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله
فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تولى بعده أبو بكر رضي الله عنه، آتته فاطمة رضي الله عنها فقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لي فدك فأعطني إياه، وشهد لها علي بن أبي طالب، فسألها شاهداً آخر، فشهدت لها أم أيمن. فقال لها أبو بكر: قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا تجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وقيل أنها قالت لأبي بكر: أعطني فدك؛ فقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لي. فسألها البينة، فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدا لها بذلك، فقال لها: إن هذا الأمر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل وامرأتين. ولا يقتصر الاضطراب في هذه القضية على
هاتين الروايتين، فقدري أيضاً أن فاطمة سألت أباها أن يهب لها فدك فأبى
وهناك روايات أُخرى تؤيد الرواية الثالثة، وتجعل قضية فدك قضية ميراث لا قضية هبة، فقد روي البخاري أن فاطمة والعباس عليهما السلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أراضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، ثم قال: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته. فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت
وروي البلاذري أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتت أبا بكر فقالت له: من يرثك إذا مت؟ فقال: ولدي وأهلي. فقالت: فما بالك ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم دوننا؟ فقال: يا بنت رسول الله، والله ما ورثت أباك ذهباً ولا فضة ولا كذا ولا كذا. فقالت: سهمنا بخيبر، وصدقتنا فدك، فقال. يا بنت رسول الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما هي طعمة أطعمنيها الله حياتي، فإذا مت فهي بين المسلمين، وروي البلاذري أيضاً أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه مواريثهن من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك، فقالت لهن عائشة: أما تتقين الله، أما سمعتن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث ما تركنا صدقة، إنما هذا المال لآل محمد، لنائبتهم وضيفهم، فإذا مت فهو إلى ولي الأمر بعدي. فأمسكن عن طلب ذلك منه. وقد مضى الأمر على هذا مدة ولاية أبي بكر، ولم يسلم له حكمه في ذلك إلا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. أما فاطمة وزوجها علي وعمه العباس فلم يسلموا له هذا الحكم وتمسكوا بحقهم في ذلك الإرث. ولا شيء في أن تغضب فاطمة مع احتجاج أبي بكر بذلك الحديث السابق، وهي أولى الناس بالخضوع لحديث أبيها، فلعلها قام بنفسها أنها كانت أولى الناس بمعرفة هذا الحديث، لأنها صاحبة الحق في الإرث، ولم يكن هناك ما يمنعها أن تسمعه كما سمعه أبو بكر. وقد قالوا في تسويغ ذلك أنها كانت تعتقد تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله صلى الله عليه وسلم لا نورث - ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن يورث عنه. وروي بعضهم أن أبا بكر عاد فاطمة في مرضها، فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن
عليك. قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم. فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت، ولكنها رواية مرسلة لا تقوى على معارضة ما سبق من أنها ماتت وهي مغاضبة له
وقالوا أيضاً في حكمة أن الأنبياء لا يورثون: إن الله بعثهم مبلغين رسالته، وأمرهم إلا يأخذوا على ذلك أجراً، كما قال تعالى (قل لا أسألكم عليه أجراً) وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك، فكانت الحكمة في ألا يورثوا لئلا يظن انهم جمعوا المال لوارثهم
ومن الشيعة من يروي الحديث بنصب - صدقة - على أنه حال، فلا يفيد نفي إرثه صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، وقد رد عليهم بأن أبا بكر احتج بهذا الحديث على فاطمة فيما التمست منه مما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم من الأراضي؛ وهما من أفصح الفصحاء وأعلمهمبمدلولات الألفاظ، ولو كان أمر هذا الحديث كما ذكره بعض الشيعة لم يكن فيما احتج به أبو بكر حجة، ولم يكن جوابه مطابقاً لسؤالها، ومما يؤيد أنه بالرفع ما ورد في بعض طرقه - ما تركناه فهو صدقة - ولا شك أن هذا ليس بقاطع في رد ما ذكره بعض الشيعة، لأن فاطمة لم تقتنع باحتجاج أبي بكر، فيجوز أن يكون قد فهم الحديث كما يفهمه أهل السنة على أنه بالرفع، ويجوز أن تكون قد فهمت الحديث كما يفهمه الشيعة على أنه بالنصب، وأما رواية ما تركناه فهو صدقة فيجوز أن تكون مروية بالمعنى ممن فهم الحديث كما يفهمه أهل السنة
وهنا أمر لم ينتبه إليه أحد في هذه القضية، وهو في الحقيقة السبب في أن فاطمة لم تخضع لحكم أبي بكر، وفي أن ورثتها من بعدها لم يخضعوا له أيضاً، وهذا الأمر هو أن أبا بكر في هذه القضية كان خصماً وحكماً، والخصم في قضية من القضايا لا يصح أن يكون حكماً فيها، وكان الواجب أن تعرض هذه القضية على بعض كبار الصحابة ليحكم فيها بين أبي بكر وفاطمة، نزولا على ما هو الواجب من الفصل بين السلطتين، حتى يكون حكم القضاء نافذاً في الحاكم والمحكوم، ولا يكون لأحد وجه في أن يقف منه هذا الموقف الذي كان من فاطمة وورثتها من بعدها
وقد مكثت هذه القضية على هذا الوضع مدة خلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، ثم أتى علي والعباس عمر فطلب منه على نصيب امرأته من أبيها، وطلب منه العباس نصيبه من ابن أخيه، فدفع عمر إليهما صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأمسك خيبر
وفدك، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر. وقد أخذ عمر عليهما عهد الله وميثاقه ليعملان في الصدقة التي دفعها أليهما بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما عمل فيها أبو بكر، وبما عمل هو فيها إلى أن دفعها أليهما، فكانا بذلك نائبين عنه في النظر عليها. وقد اختلف علي والعباس بعد ذلك فيها، فأتيا عمر وطلبا منه أن يقسمها بينهما، فأبى أن يقضي فيها بغير ما قضي به، وطلب منهما أن يدفعاها إليه أن عجزاً عنها
ولكن علياً غلب العباس بعد ذلك على هذه الصدقة، ثم كانت بعده بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم بيد علي بن الحسين والحسن بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، ثم كانت بيد عبد الله بن حسن، ثم ولي بنو العباس فقبضوها، وغلبوا أبناء علي عليها، وكان من يتولى منهم يولي عليها من قبله من يقبضها ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة، ومكث الأمر فيها على ذلك إلى رأس المائتين من الهجرة، ثم تغيرت الأمور فيها بعد ذلك، وزالت الأوضاع فيها عما كانت عليه إلى ذلك العهد
وأما سهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك فقد مكث بيد أبي بكر وعمر مدة خلافتهما، وكانا يقدمان منه نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها مما كان يصرف منه، وما فضل بعد ذلك يجعلانه في المصالح، ثم اختلف في أمره بعدهما، فقيل أن عثمان بن عفان أقطع فدك مروان بن الحكم، لأنه رأى أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عن فدك بأمواله ووصل بها مروان بن الحكم: وقيل أن الذي أقطعها مروان بن الحكم معاوية بن أبي سفيان، فوهبها مروان لأبنيه عبد العزيز وعبد الملك، ثم صارت لعمر بن عبد العزيز وللوليد وسليمان بن عبد الملك، فلما ولي الوليد سأله عمر حصته منها فوهبها له، ثم سأل سليمان حصته منها فوهبها له أيضاً، فاستجمعها كلها في يده، وكانت أحب أمواله إليه. فلما ولي الأمر بعد سليمان جمع بني مروان فأشهدهم على أنه ردها إلى ما كانت عليه مدة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين
فلما كانت سنة عشر ومائتين أمر المأمون بدفعها إلى ولد فاطمة رضي الله عنها، وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة: أما بعد، فإن أمير المؤمنين بمكانه من دين الله،
وخلافة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقرابة به، أولى من استن سنته، ونفذ أمره، وسلم لمن منحه وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته، وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته، وإليه في العمل بما يقربه إليه رغبته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك، وتصدق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً، لا اختلاف فيه بين آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تزل تدعي منه ما هو أولى به من صدق عليه، فرأى أمير المؤمنين أن يردها إلى ورثتها ويسلمها إليهم، تقرباً إلى الله تعالى بإقامة حقه وعدله، والى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذ أمره وصدقته، فأمر بإثبات ذلك في دواوينه، والكتاب به إلى عماله، فلقد كان ينادي في كل موسم بعد أن قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك، فيقبل قوله وينفذ عدته، أن فاطمة رضي الله عنها لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها، وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك، وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لتولية أمير المؤمنين إياهما القيام بها لأهلها، فاعلم ذلك من رأى أمير المؤمنين، وما ألهمه الله من طاعته، ووفقه له من التقرب إليه، والى رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعلمه من قبلك، وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد الله بما كانت تعامل به المبارك الطبري، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها أن شاء الله، والسلام - وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة عشر ومائتين
وقد مكثت فدك بعد هذا لآل فاطمة إلى أن ولي المتوكل على الله، وكان يعادي آل فاطمة عداء شديداً، فأمر برد فدك إلى ما كانت عليه قبل المأمون
عبد المتعال الصعيدي
وحدة الوجود
للبروفيسور ج. ا. بودن
بقلم الأستاذ عثمان حلمي
لكي تقترب من قضية العلم الحديثة الخاصة بنظام الكون يجدر بنا أن نرجع إلى أولئك المخترعين العظام الذين ألموا بعلم الميكانيكا أمثال جاليلو وديسكارت ونيوتن، وعلى الأخص (نيوتن) أعظمهم جميعاً.
هؤلاء المفكرون لم يكونوا ضيقي الأفق في تفكيرهم، ولا كانوا محدودي التفكير (كأولئك الذين لم يخرجوا عن دائرتهم المحدودة، فلم يصلوا بسبب بين فلسفتهم وعلمهم وبين دينهم) ذلك أنهم واجهوا هذه المسالة كاملة واشتغلوا (بالتدين الطبيعي) فكانوا بذلك رجالاً كاملين في تفكيرهم، بينما كان أتباعهم أنصافاً. فلو أنهم لزمهم ذكر الخالق ومواجهة حقيقته، لفهم الطبيعة وإدراك أسرارها، فانهم لا يحجمون عن ذكره في علومهم.
لقد قيل: إن بحث نيوتن فيما وراء الطبيعة كان غير ناضج ومبايناً لما هو معهود في طبيعة علمه. والحقيقة أن نيوتن لم يكن فيلسوفاً - بمعنى الكلمة - ولكن تقاليد الفلسفة الأفلاطونية للعصور الوسطى التي جاراها في كامبردج في أيامه، هي قريبة للعبقرية العلمية أكثر منها للفلسفة السفسطائية التي تلت نيوتن.
لقد كان في وسع هذه التقاليد أن تعترف بميلاد العلم الحديث والإدراك الميكانيكي والرياضي الذي ساق أمامه آياته القابلة للتصديق مع علاقته بهذه التقاليد.
إن الدنيا في نظر نيوتن غير مفهومة المغزى بغير وجود (الله)، وعلى ذلك، فانه لا يحجم عن ذكر الله في طبيعياته وفلكه، وهو يوضح لنا فكرته في الله من الصفات التي يصفه بها: كالأبدية، والأزلية، والقدرة على كل شيء، والعلم بكل شيء. . . وهي صفات مستعارة من علم اللاهوت في العصور الوسطى، غير أن القدرة على كل شيء من وجهة نظر نيوتن لها معناها الطبيعي المادي، كما لها معناها الروحي.
(هو قادر على كل شيء، ليس نظريا فقط، ولكن مادياً أيضاً، لأن الفاعلية لا تعيش في رأيه ولا تستمر بغير المادية، فمنه - كما يقول نيوتن - تتكون كل الأشياء وتتحرك، ومع ذلك فهي لا تؤثر فيه، وهو لا يؤوده شيء من حركة الأجسام، كما أن الأجسام لا تقوى
على مقاومة قدرته على كل شيء).
وبذلك فإن وجود الله الأكبر ضروري، وبمثل هذه الضرورة هو موجود أبداً وفي كل مكان، فهو يرى، لا كما نرى، ويسمع، لا كما نسمع، ويعقل، لا كما نعقل، ويريد، لا كما نريد، أي بحال ليست بالمرة كحال الإنسان، بل بحال يعجز العقل البشري عن إدراك كنهها.
إن المرء ليعجب إذن كيف يمكن وصف الله (في الدراسات الفلسفية)، ولكن فهم نيوتن الحقيقي لله هو قريب الشبه من طبيعيات أفلاطون السابقة أكثر منها للتعاليم المدرسية اللاهوتية، فهو يقول نفس ما قاله اكسينوفانس.
فنيوتن ليس أكثر من أنشتاين، لا يعتقد (في الحركة مع الحيز)، فإن الجاذبية في نظر نيوتن ناشئة عن النواميس الرياضية، أي أنها لا توجد في اصل الأجسام.
وفي نظر نيوتن، كما هو في نظر أنشتاين، أن الحركة في الأجسام (الأفلاك والأجرام والكواكب) مثلا يشترط فيها الحيز، ولكن الحيز ليس هو الفضاء المجرد الذي ورد في العلم الحديث.
فلماذا إذن وجد نيوتن أنه من الضروري ذكر الله في العلم، يوجد السبب العام وهو (حبه للجمال) هذا الجمال الذي أثر في أفلاطون بقوته فرآه في (البساطة والنظام)، هذا الجمال الذي غمر الطبيعة فجعله يعجب بها أيما إعجاب ويجلها كل الإجلال، وقد كان ذلك أيضاً بالنسبة لنيوتن مضافاً إليه الأسباب الخاصة بما شاهده في تجاربه الميكانيكية والرياضة، فالنواميس الميكانيكية للطبيعة ليست كافية لحصر منشأ الدنيا ولا لحفظ توازنها، ولو أن الكائن يحتاج في تكوينه بهذه القوانين إلى أحقاب عديدة، فإن الأساس المادي هو (قوة الاستمرار) فالحركة تابعة للمادة إذا تحركت، و (قوة الاستمرار) هي مبدأ سلبي بموجبه تثابر الأجسام على حركتها وإلا فإنها تقف لتستمد الحركة المناسبة لقوة الدفع لها فتقاوم بقدر ما تقاوم وبهذا المبدأ فقط لن تكون هناك حركة في العالم، فقد تكون الأجسام في وضع ضروري لحركتها فينشأ وضع وهي في حركتها يعكس هذه الحركة، ومن مختلف الوضعين في الحركتين يتضح أنه من المحتم وجود الكم من قوة الدفع في العالم).
إذن هو يرى أن الحركة قد تكتسب أو تنعدم إذ يقول: ولكن بسبب تماسك الأجسام السائلة وميوعة أجزائها وضعف المرونة في الأجسام الصلبة فإن الحركة أكثر عرضة للفقد من
الاكتساب وهي دائماً عرضة للاضمحلال والانحلال والتلاشي
هنا يقرر نيوتن بمفرده حقيقة التعويض الداخلي لمثل هذا الفقد، فيظن أنه ربما كان ذلك آتيا من أرواح أثيرية، فتتكاثف هذه الأرواح من الله إلى (مادة) وتسد النقص في الحركة، وهنا يلقي نيوتن ضوءاً على نظرية النشاط الإشعاعي وأنه قد يتحول إلى نشاط مادي، وإن هذا الخلق وإعادة تجديده تأخذ محلا (في الله) الذي يصفه (بالقوة التي تعيش أبداً والتي توجد في كل مكان قادرة بإرادتها على أن تحرك الأجسام بوعيها الذي لا يحد، وعلى ذلك فإنها تكون وتعيد تكوين أجزاء الوجود بإرادة لا كما تعمل بإرادتنا في تحريك أجسامنا، ومع كل هذا فإننا لا نستطيع أن نقول أن العالم كجسم لله أو أن أجزاءه المتعددة كأجزاء متعددة له.
(يتبع)
عثمان حلمي
على هامش الشؤون الخارجية
الرفق بإيطاليا
للأستاذ علي إسماعيل بك
تعرض الدكتور محمد عوض محمد في عدد (الثقافة) الصادر في 3 أكتوبر إلى (الرفق بإيطاليا) بعد هزيمتها، وعزا ذلك الرفق إلى نبالة أخلاق البريطانيين وكرمها الذي يقضي عليهم أن يمدوا أيديهم إلى العدو المهزوم بعد صرعه، والأخذ بناصره بعد خذلانه. وتبسط في الحديث عن تلك النبالة وعن ذلك الكرم مبدياً انهما كانا السبب في خلاف شديد ساد ردحاً من الزمن بين فرنسا وبريطانيا، حول معاملة ألمانيا بعد الحرب الماضية
وبعد أن دلل الكاتب على عاطفة الرفق عند البريطانيين بما اشتهروا به من حب العجماوات التمس لنفسه الاغتفار والغفران من مقابلة الرفق بإيطاليا بالرفق بالحيوان!
أما أن العفو من شيم الكرام الأنجلوسكسونيين فأمر قد أجمع عليه الجميع حتى خصومهم، وتدلل عليه طبائع الأفراد في بلادهم: فما دخل البريطاني ملاكمة وانتصر فيها على خصمه إلا كان أول واجباتها مصافحة ذلك الخصم بعد أن قيض الله له النصر
وما نازل غريماً في معركة انتخابية إلا نازله بأسلحة مشروعة لا غبار على استخدامها أمام الرأي العام؛ فإذا انتهت المعركة بادر لغريمه المخذول يتمتم في حياء كبير قائلا (آسف أنني انتصرت لأنك قمت بنصيب أكبر من الجهد، أو (هوذا الحظ الذي ساعدني على النصر) وما إلى ذلك من عبارات المجاملة التي تنم عن روح مرهفة الحس وشعور عريق في السراوة (الجنتلمنة)، وعواطف فياضة بالمدنية
ألا فليعلم حضرة الكاتب أنه مع الاعتراف الصادق بتلك الناحية من الخلق الأنجلوسكسوني، أقول ألا فليعلم أن الشؤون الخارجية وعلاقات الدول بعضها ببعض لا تقوم على شيء من هذا الذي ذكر بل قوامها قبل كل شيء ذلك الأساس الصخري الراسخ ما رسخت الأرض من المصلحة الذاتية وحدها دون مصلحة الغير
فهذا الرفق يدعو إلى كبير الأسف كما سترى
لقد دخلت إيطاليا هذه الحرب بفعل رجل واحد - هذا لا شك فيه - ومهما يكن من عيوب ذلك الرجل فقد كان له فكر ثاقب في تفهم سياسة بلاده الداخلية، ونظرة نافذة في وسائل
الضرب على أيدي المهرجين فيها
ألا تذكر (جابرييلي داننونزيو) المشعوذ ورفقاءه الأرديتي يوم كانوا يحتلون (فيومي) دون أن يكون لهم أية علاقة بالسلطة العسكرية الشرعية في روما؟
ألا تذكر (بومباتشي) ذا اللحية الغثة السوداء يوم كان يلوح بقبضته اليمنى على منصة الخطابة في (مونتيشيتوريو) مهدداً بإدخال الدولة الثالثة في أرض هي مهد الكلاسيكية؟
ألا تذكر (كارلوسفورزا) سليل الأمراء إذ كان ينادي عبثاً بتوحيد الصفوف للذود عن حوض الديمقراطية فما لبى نداه أحد؟
أغمض الحلفاء إذ ذاك جفونهم لما كان يحدث في إيطاليا، وتركوا هذا وذاك يجر الحبل كل في اتجاه، بينا كانت أيد آثمة تعمل في الخفاء لقلب نظام الحكم: فمن إضرام النار في المسارح الشهيرة إلى إخراج القطر السريعة عن قضبانها، ومن إضراب غير مشروع في المعامل إلى إلقاء القنابل على برءاء في دور السينما، ومن حوادث قتل وفتك بأيد مجهولة، إلى حوادث إرهاب لا مبرر لها! تلك كانت حال إيطاليا! كوميديا إلهية! جحيم دانتي! جحيم دانتي الذي كتب على بابه (أولئك الذين يدخلون ألا فليطرحوا كل آمالهم طرحاً)
أتلوم الحوادث أن تلد رجلا بطاشاً يخرق الحجب الكثيفة التي تجهمت فوق سماء إيطاليا، ويفتح باب الجحيم الدانتية على مصراعيه، ويلقي فيها أصحاب تلك الأيدي الآثمة، الهدامة للنظام التي كانت تلعب في الخفاء وتبيت للأرض الكلاسيكية انقلاباً اجتماعياً لو أنه تم لقضى قضاء مبرماً على المعاهد الديمقراطية التي تغذي جيلنا بلبانها وتذوق حلاوتها وسكرها؟
أتلومن رجلاً قوياً: (وهل تشرشل ضعيف؟ وهل روزفلت ضعيف؟) أقول أتلومن رجلا قوياً أن يخرج ذلك الشعب الفنان المحبب من ظلمة التخبط إلى نور الاتزان اللاتيني الوهاج؟
لقد سار الرجل في برنامج داخلي أعاد إلى إيطاليا رونق العهد الكلاسيكي. سار سيراً حثيثاً، موفقاً، مذللاً الصعوبات بيد حديدية، مقتحماً العقبات التي اعتورت طريقه بإرادة قيصرية لا تعرف الكلل
ولما أن رأى أن الإصلاح الداخلي وما إليه من مسكنات شهوته اصبح بعيداً عن أن يغذي
طموح الجبار - وتلك هي خطيئته - أراد أن يطرق ميادين أُخرى، ميادين كنا نظن عيون الحلفاء بها ساهرة لا تعرف الغمض ولا النوم؛ فأخذ يغري الشعب الإيطالي بأمان براقة - وما أغرى لعواطف الشعب من التلويح له بالأماني البراقة ولو كانت كاذبة! فصال صولة وجال جولة، وقال في صدد الحدود بين مصر وبرقة إلى وزير مصر المفوض (لن يخدش خطي قيد أنملة)
الخطأ الأول في دبلوماسية ما بعد الحرب العالمية أنها لم تقتل الفاشية في بدايتها، فقد كانوا يعرفون أن فضلات المائدة مهما كثرت بعمدة عن أن تغذي معدة كمعدة موسوليني، لقد كانت الفضلات على العكس بمثابة مشهيات عنيفة: فما طالب بطلب أو هدد بتهديد إلا وطائرة تحلق بين لندن وروما، وروما ولندن - خروجاً على التقليد البريطاني الراسخ - تحمل إلى نيرون أغصان الزيتون!!
لماذا أحجمت الدول عن قتل أفعى تلك الشهية وهي في مهدها؟ أكان هناك ما يبرر تنغيص العالم زهاء عشرين سنة بصراخ ذلكم الطاغية وتركه يتمادى في هواه وإثمه إلى أن شهر السلاح في وجه بريطانيا التي كانت العامل الأول في استقلال بلاده؟
ألمثل موسوليني يلوح بأغصان الزيتون؟
ألمثل موسوليني يطير ماكدنالد ويطير شامبرلين ويطير أيدن كلما صال الرجل وجال؟
لقد كانت الدبلوماسية البريطانية تعرف حق المعرفة أنه سيتمادى في مطالبه كلما أذعنت له، وأنه إذا أعطى قيراطاً عبس وتولى وطالب بقيراطين. فإذا أعطى القيراطان طالب بثلاثة فأكثر وهكذا، فإذا سلمت الجغبوب اليوم ظن تسليمك ضعفاً وطالب بالحبشة فملحقاتها فملحقات الملحقات إلى ما شاء الله، ذلك أن بعض العقليات الواطئة ترى في الكرم ضعفاً وفي الرفق خوفا ورهبة.
لماذا لم تعبر إذن الدول المتحالفة عن شعورها في حينه في حزم وفي صلابة؟ لماذا تركت موسوليني يتمادى في مطالب لا يبررها التاريخ ولا تقرها حالة إيطاليا المادية والأدبية دون أن تقابل تماديه بتهديد يعززه الاستعداد لمقاومته بالقوة؟
لقد دار الفلك دورته وانهزم الطاغية شر هزيمة وانهار صرح الإمبراطورية الإيطالية من أدناها إلى أقصاها وفقدت الصومال وأرتيريا والحبشة وطرابلس وألبانيا وجثا أسطولها
الشامخ يتلمس الرحمة من ذئاب البحر ورفع مليكها التاج عن رأس وخطها وخز الضمير شيباً، وفتكت قنابل الحلفاء في حصونها فتكاً ذريعاً، وخربت القلاع والمعاقل والموانئ. فماذا بقي لإيطاليا بعد حدوث ما حدث؟
الرفق!
الرفق! كأننا لم نتعلم من دروس الماضي القريب!
فليرفق الدبلوماسيون بالمهزوم ما شاءوا، دهاء منهم أو غير دهاء. أما نحن في مصر وقد اصبح لنا مقعد في الأسرة الدولية الكبرى فلا صالح لنا البتة أن نحيد عن المبدأ الواقعي الذي أشرت إليه في بدء هذا المقال: نريد أن يبني مستقبل مصر الدولي على الصخر الراسخ. فليرفق إذن بإيطاليا ما شاء الدبلوماسيون ولكن بعيداً عن مصر وعن حدود مصر، بعيداً عن النيل وعن منبع النيل!
علي إسماعيل
كلمة أخيرة.
. .
للأستاذ سيد قطب
لست أملك أن أتمادى في الحديث مع الأستاذ صلاح ذهني أكثر مما فعلت حتى الآن، حيث لا موضوع للحديث غير الشتائم والسباب، وإلا فهو الرابح. . . لقد عجز بإنتاجه في القصة أن يكون موضع حديث أحد في صحيفة، فنال ذلك الآن عن طريق الشتائم والسباب!
وإلا ففيم كلمته الأخيرة؟
لقد أخذت عليه أن لهجة رده الأول كانت لهجة بذيئة، وإن ما جاء فيها من بيانات كان مستطاعاً دون الاضطرار إلى هذه البذاءة، صوتاً لمستوى المناقشات الأدبية. فإذا هو في كلمته الثانية يهبط ويهبط، حتى ليعز على كاتب يحترم قلمه أن يلاحقه. . . لقد فشلت إذن فيما وجهته إليه أول مرة!
والمسائل التي أثارها، فرددت عليها، عاد يثيرها بالنص من جديد: توفيق الحكيم ليس كاتب قصة، لأنه كاتب رواية؛ والمازني ليس كاتب قصة لأنه كاتب مقالة!
وعلى هذا النحو يسير، فلا يجوز أن أتحدث عن قصص بودلير لأنه شاعر، ولا عن قصائد لورنس لأنه قصاص وعلي أن الغي إنتاجهما الآخر، فلا أذكره ولا أسميه. وهكذا فشلت مرة أُخرى في أن أرد الأستاذ إلى الموضوع!
وقلت له: إن إنكاري للمدارس الأدبية مسألة لا تستحق المناقشة، لأنها تردنا إلى سذاجة في النقد، والى فوضى لا تنتهي فقال: أنني تركت الحديث فيها لجهلي بها. . . ثم إذا هو يقول عن تيمور: أنه ذو نزعة واقعية ينتمي بها إلى موباسان. . . لقد عدنا إذن إلى أن هناك عنوانات ترد إليها الأعمال الفنية. وكان قد أنكر ذلك وأثبته في آن واحد في مقاله الأول. فرأيت الحديث فيها عبثاً، وقد اتضح أنني محق فيما رأيت، فبعد مقالين هانحن أولاً، لا نزال حيث كنا من قبل!
بقيت أمور جديدة في قائمة الشتائم:
إنني لا أعرف لغة أجنبية: وهذا صحيح. ولعل منشأ كسلي عن تعلم لغة أجنبية هو أنني أرى الأستاذ صلاح وعشرات من أمثاله يعرفون لغة يتبجحون بمعرفتها ويلوكون
مصطلحاتها ثم يكونون حيث هم، وأكون حيث أنا. فأرى أن اللغة - وإن كانت ضرورية - لا تخلق المعدومين، ولا تعدم الموجودين!
وثانية الشتائم أنني لا أكتب إلا عن الكتب التي تهدي ألي، ولذلك استهديته كتب تيمور. والأستاذ صلاح مسكين في هذا الهبوط، ثم مسكين. ولكن ماذا يقول، وقد أهدى ألي هو كتابه الأخير، إهداء لا أدري كيف أضع له الآن عنوانه في سجل الأخلاق وهو:(إلى أخي الناقد البارع الأستاذ سيد قطب مع وافر التقدير). ومع هذا فلم أكتب عنه شيئاً، لأنني لم أجد أنه يستحق شيئاً، فجاملته بالسكوت!
وليلاحظ أنني وقتها كنت (ناقداً بارعاً) وكنت الأستاذ فإما اليوم، فأنا لا (ناقد)، ولا (بارع)، ولا (أستاذ)، ولا يحزنون. . . لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وثالثة الشتائم في القائمة أنني ظل العقاد في الظهيرة. فلأكرر هنا ما قلته من قبل للدكتور مندور: أنني أفهم المسائل على نحو غير الذي يفهمه بعض (شبان) الجيل. أنني لا أحاول إنكار تلمذتي للعقاد، لأن لدي ما أقوله وما أبدعه وراء ذلك، فلست أخشى على وجودي حين أعترف بهذه الأستاذية، وهي حق، فلا يسمح ليس خلقي أن أنكرها أشد الإنكار، وإن أبرأ منها كل البراءة، كما كان الأستاذ صلاح يصنع ويتشنج حين قال:
إنه من تلاميذ تيمور!
وبعد، فظل العقاد هذا يستطيع أن يكون (الناقد البارع) كما كنت عند الأستاذ صلاح في 23 أبريل الماضي! وإن يكون (ناقد شعر فقط) كما أنا الآن عند الأستاذ صلاح أيضاً في 12 أكتوبر الحالي. وأن أكون شاعراً كما يقول بعض الناس غير الأستاذ صلاح. فهل يستطيع أن يقول لي ما هو: ماذا يستطيع أن يكون؟ لقد كنت أعني ما أقول حين قلت له: إن إعزازي الشخصي له، هو الذي يدعوني أن أناقشه، وإلا فليس هنالك من محور أدبي نلتقي عنده ليستحق الحديث. وحتى هذا الإعزاز الشخصي قد عبث به ببذاءة التعبير. . . تلك كلمة أخيرة، لأن الشتائم في منوال من يريد.
سيد قطب
القيثارة
للدكتور عزيز فهمي
نسجتْ عليها العنكبوتُ شعارها
…
ورمى البلى لما رمى أوتارها
كانت عزاءك دون كل خليلةٍ
…
لهفى عليك وقد حرمتَ حوارها
كم قد شكوت لها تباريح الهوى
…
في ليلة أرخت عليك ستارها
وشرحت الآم الجوى ولهيبه
…
فاستودعتك بدورها أسرارها
تتناجيان ولا سمير سواكما
…
والنجم يهتك أو يلم خمارها
حتى إذا طلعَ الصباحُ طرحها
…
وأويت أهدأ ما تكون جوارها
وقفتْ عليك حياتها فأنينها
…
باكٍ عليك إذا قدحت أوارها
ونشيجها لولا أساك كشدوها
…
وأساك يلهبها ويضرمُ نارها
عزافة الألحان تشدو طلقةً
…
ما شئت حتى تستثير قرارها
تحنو عليك حنانَ أم برة
…
يفرى ويقلم طفلها أظفارها
لا تقتضيك على الوفاء بديله
…
وتظل طوعك ليلها ونهارها
لولاك ما نطقت بآه حرةٍ
…
يوماً ولا شق الحنين إطارها
ماتت عروس الشعر فوق شفاهها
…
والقوس يعزف راوياً أشعارها
وحكى الصدى ألحانها فتجاوبت
…
حيناً وأذهل صمتها سمارها
غنيتهم زمناً فهوم نائمٌ
…
وأشاح عنك فعاودتْ إصرارها
وحبست عنهم لحنها فتلفتوا
…
لما زجرتَ عيونها وهزارها
وصبنت عنهم كأسها فتذوقوا
…
خمراً سواها واستسغت عقارها
فصدفت عنهم يائساً مترفعا
…
وغنيت عنهم واحتملت إسارها
كانت عزاءك دونهم فحرمتها
…
وبقيت وحدك حافظا تذكارها
حملت همومك عنك دهراً فاحتمل
…
فيها المصاب مخلداً أخبارها
من شعر الأطفال:
القلم يقول عن نفسه. . .
للأستاذعلي متولي صلاح
إنني شيء صغيرٌ
…
في يديكم كل آنِ
ليس جسمي بكبيرٍ
…
غير أني ذو مكانِ
كلكم يعلم فضلي
…
كلكم يعرف شأني
أنا عند الطفل والأس
…
تأذ في كل زمان
يفخر الناس بحملي
…
فأنا زين البنان. . .
صرخة اليأس
لشارل بودلير
(لا تقل ما أجملها بل قل ما أجمل الشر فيها)
جميلة أنت ي عيني يا جاني
…
يا صرخة العار في شكي وإيماني
أقبلت في قوة كالشر يحفزه
…
ضعف النفوس فوالهفي أنا الجاني
صببت قلبك في قلبي فأحرقته
…
حتى تبدي لهيباً دمعه القاني
ماذا بروحك من خمر ومن لهب
…
وأنت من أنت يا نيران أشجاني
صرعت قلبي وأنت اليوم كعبته
…
يا جمرة الخلد في روحي ووجداني
يطوف حولك نفح دافئ عطر
…
كما يطوف فراش حول نيران
يا صرخة العار يا كأسا مرنحة
…
لعينة أنت في يأسي وخذلاني
أعيش في ظلك المسحور مرتجفاً
…
كأنني عابد أستاف إلهامي
أنا السجين بأغلال عبدت بها
…
قيد الجمال وإن أودت بأنغامي
أنا الطعين بسكين شربت بها
…
خمر الهلاك وأنت الخنجر الدامي
ناشدت قلبي سلواً عنك فارتجفت
…
فيها الحياة ودوى صوتها الحاني
ورحت للخنجر القتال أرفعه
…
فغازل النصل عيني وهو ينهاني
ورحت للموت أسقيه وأنشده
…
لحن الفناء فلم يهتف بألحاني
قالت لي الكأس لو ضاعت حقيقتها
…
لعشت فيها وكنت الهادم الباني
أواه مما ألاقي اليوم من عنت
…
وآه ما مضى في أمسي الفاني
عبد القادر محمود
البريد الأدبي
نظرية الفصل وماذا يريد القائلون بها؟!
لا أريد بهذا المقال أن ألتقي مع المتلاحمين في معركة (وحدة الوجود)
فحسب هذا الميدان من فيه، وما أنا محاول كذلك فتح (جبهة ثانية) بعد
أن انسحب الدكتور زكي محتمياً بما قاله عن ظروف حرية الرأي في
مصر، وهو احتماء غير كريم. . .
إنما هي كلمة هادئة إلى هؤلاء الذين نادوا وينادون بنظرية عجيبة، يذوبون هياماٍ بإشاعتها، ويلبسونها قفازاً في أيديهم، يلفون به في كل معركة، عندما يعوزهم الدليل والبرهان. . .
ففصل العلم عن الدين غرام أنهك داؤه قلوب قوم أولعوا به، إذ وجدوا فيه رفعاً لالتزامات، لا تستطيع أعصابهم احتمال الوقوف عند سدها القائم لصد النزوات، ورد الهفوات - هذا الميزان العلمي، لضبط الفضيلة العلمية، ووقاية العقل من الشطط، وتحرير الحقيقة. . .
وقد كان لهذه النظرية والقول بها مذاق في أفواه الأقدمين، حين كانت الأديان طقوساً منعزلة عن الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية والثقافية، وكل ما له صلة بحياة الناس العملية الواقعية وإن مستها فإنما تمسها وتتصل بها اتصالا رفيقاً لا يدخل في صميم نظمها وتنظيمها، ووضع أسسها، وتفصيل برامجها، والإفتاء في كل ما له صلة به بكل جلاء ووضوح. .!
كان لهذه النظرية مكان في هذا الماضي التاريخي، حين كانت الأديان على نحو ما ذكرنا، وحين كانت تعني بالمسائل الروحية التعبدية في مجموع ما فيها من وسائل، وقد يسوغ أيضاً أن يبقى هذا المكان أو أن يمتد هذا التاريخ في غير بلاد الشرق المسلمة، وفي غير مصر الإسلامية، بعد أن جاء الإسلام منذ 1363 سنة نظاماً عاماً، شاملاً كاملاً، تناول الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، ونظم شؤون الناس جميعها، معنياً بالروح، عنايته بالجسم والعقل، وعنايته بكل النواحي الإنسانية الأُخرى، بما لا يدع مجالا لمنكر أو طالب حقيقة، وآيات القرآن ناطقة بهذه الحقائق، وسنوفيها حقها في موضعها من الكلام
فما بالنا إذن نبعد عن فهم حقيقة الإسلام، ونحصره في زاوية ضيقة محدودة من آفاق الحياة؟! أنها ليست دعوى تعصب، ولكنها الحقيقة يؤيدها التاريخ والواقع
فعلى القائلين بنظرية الفصل أن يتريثوا، وإن يقترفوا بتاريخهم، ويتبصروا مقدار ما في هذا الخطأ الشائع من جناية على الحياة العقلية الشرقية، والحقائق الإنسانية
كنا نريد أن يكون المتزعمون للحركة الفكرية عندنا قوميين أحراراً، يصدرون في آرائهم عن باعث القومية الحرة، ونقول القومية الحرة، حتى يكون رأياً بعيداً عن التحيز أو التعصب، وبعيداً كذلك عن الالتماس في الفكرة الغربية. بتهالك المستسلم الذي نسى نفسه وجهل تاريخه وماضيه فذهب حاضره ومستقبله هباء
يا قوم. . . إننا أمة ذات مجد وذات تاريخ، فأين نحن في حاضرنا من مكاننا المرموق؟! إننا لا ندعوكم إلى تعصب في العلم أو تعسف فيه، ولا نطالبكم بتزييف التاريخ أو الممالأة فيه، ولكننا ننبه إلى تفهم الحقائق التي بين أيديكم، والسيطرة على مفاخر الكنوز من تاريخكم، وهي كلمة أولى إن اتسع لها صدر الرسالة، وما نظنه ضائفاً، فسنتبعها بالكلمة المقصودة من المقال وهي بيان كيف أن الإسلام جاء نظاماً شاملاً كاملاً تناول كل مظاهر الحياة وعناصرها، وكيف أنه لم يفرق ولم يفصل بين أية ناحية من نواحيها، بل جعل منها جميعاً مزاجاً واحداً متماسكاً، أقام عليه أسس الحضارة الإنسانيةالفاضلة، التي سعد في ظلها الناس جميعاً - ثم نعرض لموقفه من العلم - والعلم التجريبي خاصة
ومودعنا بهذا كله عدد آت إن تفضلت الرسالة الغراء.
أحمد. . . الحجاجي
إلى أستاذي البشبيشي
تفضلتم بتنبيهي إلى صحة كلمة (الربى) في بيت (شوقي) لأن أصلها الربى. وتسهيلها جائز. فأشكر لكم هذا التنبيه. وأذكر أنها وردت في مقالي في مجال نقدي لكثرة الاضطرار إلى التسهيل والترخيم. . . الخ مما لا يضطر إليه إلا المبتدئون.
تلميذكم
سيد قطب
إلى سعادة عبد العزيز فهمي باشا
إذا وجد في الأمة مكابر واحد ينكر عليك أنك كنت المحامي الأول والقاضي النزيه الأول، فقد لا يوجد فيها من يجرؤ على إنكار أنك كنت ثالث رجلين حملوا كلمة مصر يجابهون بها مغتصب حقها ومستعبد أهلها يطالبونه بالاستقلال.
وليس بين عقلاء مصر من لم يكبر فيك تجنبك ديماجوجية زعامة الشعب وتهويشها
كان كل موقف من مواقفك هذه خليقاً بأن يرفعك إلى مصاف العظماء، وكان الأخلق بها متجمعة أن تسير بك في سبيل. المجد الخالد، ولكن أنت همتك الشماء إلا توقل مرتفعات المجد وبلوغ قمة الخلود
لقد أصبحت من الخالدين، لا يوم اصطفوك، لأن تكون في زمرة أعضاء المجمع الخالدين، بل يوم طرحت على زملائك رجال المجمع اللغوي اقتراحك (الحروف اللاتينية لكتابة العربية) فهذا الاقتراح في ذاته، بغض النظر عن خطئه وصوابه، بطريقة عرضه، وبالأسلوب الذي صيغ فيه، وبصدقك الصادق، وجرأتك العالية، وحججك الدامغة، قد نزع القناع الشفاف عن نفسية العبقري. هي عبقريتك الفريدة، فصرت في الخالدين
حبيب الزحلاوي
إلى الأستاذ العقاد
تبارك الرزاق في تقسيم الأرزاق
أيها الأستاذ الكبير. إن ذلك الرجل الذي رفع إصبعه إلى السماء وصاح:
(أأنت موجود؟ أهذا عدل في قسمة الأرزاق)(في مقالك في الرسالة بعنوان (تبارك رزاق البرية)، وأن أبا العلاء المعري الذي قال:(إذا كان لا يحظى. . . فتزندقا) - وإن ابن الراوندي الذي قال: (كم عاقل. . . العالم التحرير زنديقاً) - وغيرهم من الشعراء، وغير الشعراء ممن قالوا مثل هذا - أن هؤلاء يا أستاذ، يريدون أن يلقوا المسؤولية في ظلم الحظوظ لهم على الرزاق أو على القضاء والقدر. وكأنهم في الوقت نفسه يبتغون (وهم لا يدرون) أن يبرروا نظام المجتمع العسوف الغابن الجائر، وإن يبرئوا منظمي المجتمع من فساد نظامه
ليس المسؤول عن ذلك الغبن في تقسيم الأرزاق، لا الرزاق ولا القدر. بل المسؤول هو جنس الناس أنفسهم، الذين سنوا قوانين مجتمعهم ناقصة وفاسدة وغير منصفة
أن تلك الألوف التي يبددها المسرفون ليست (بدل مفقود) كما تقول، وإلا جاز أن يكون (اتيس) التيوس صاحب الملايين، لأن الذكاء النابغ يثمن بالملايين. وإنما هي ثمن عدل بيع بخساً أو ثمن ظلم اشترى رخيصاً. فما كانت الألوف في زمن من الأزمان، أو مكان من الأمكنة تنال بالبله أو بالخساسة أو بالسخف أو بالكسل المطلق. وإنما كان ولا يزال كل قرش ينال بتعب في عمل معادل له. فإذا كان معك عشرات الألوف من الجنيهات فهناك ألوف من العمال حصلوها بتعب معادل لها، وإذا كان عندك مليون جنيه، فلا يعقل أنك بذلت تعباً يساوي مليون جنيه، فهي من جني تعب غيرك
فأولئك الكسالى والأخساء والبله، الذين يملكون الألوف والملايين لم يملكوها بدل ذكاء فقدوه، ولا بدل نباهة أو عبقرية فقدوها، ولا بدل عمل كسلوا عنه. وإنما نالوها متجمعة من حاصل أتعاب الذين تعبوا في تحصيلها - وأنت تعلم ذلك جيداً. وتعلم أن ذلك ليس من قسمة الرزاق ولا من قضاء القدر. وإلا فلا جزاء للبشر لا خيراً ولا شراً إذ لا مسؤولية عليهم. إنما هو من فساد نظام البشر
والذين يتذمرون من عدم العدل في تقسيم الأرزاق يعزونه إلى عدم التساوي في المواهب والعقول والأخلاق، حيث لا مبرر للتذمر أو الشكوى، لأن هذا قضاء الرزاق ولا حيلة لهم فيه
وإذن ففساد نظام الكون ليس (في تباين موازين الجزاء) بل في أن ذلك النظام يمنح من لا موهبة له ولا علم ولا ذكاء ولا عمل ويمنع الموهوب والذكي والعامل الصالح
على أن الفقرة التي ختم بها الأستاذ مقاله كفرت عن حملته على المتذمرين من عدم العدل في قسمة الأرزاق.
نقولا الحداد
الدكتور زكي والشيخ الدجوي
في بعض أعداد (الرسالة) الأخيرة، افتخر الدكتور زكي أنه القائل (المجد كالمال، فيه حرام
وحلال).
والذي نذكره أن الدكتور زكي نسب هذه القولة إلى أستاذه الشيخ يوسف الدجوي عضو جماعة كبار العلماء، وقد كتب يذكر شيخه بها في بعض رسائله التي كان يرسلها في صحيفة (المساء) من مقامه في باريس عام 1930.
وقال الدكتور يومئذ أن الشيخ الدجوي نصحه بهذه (الحكمة) إبان صدور كتابه (الأخلاق عند الغزالي) حين أخذ جماعة من الناس يصاولونه ويناجزونه.
ولما كنا نعرف في الدكتور الحقائق التاريخية، فإننا نرجو أن يجلو لنا وجه الحقيقة حتى لا نقع في الاضطراب بين الأقوال وأصحاب الأقوال!
(الرمل)
منصور جاب الله
حول فرقة التمثيل
لو جرى النقد المسرحي على النمط الذي أرانا إياه الأستاذ حبيب زحلاوي في العدد الفائت من هذه المجلة، لوجب علينا إلا نعبأ بالنقد وإن نطلب الهداية لأصحابه، وأن نعقد (الفصول والغايات) في تبيان ماهية النقد وأصوله وأهدافه!!
سقطت رواية (يوليوس قيصر) التي أخرجتها بوصفي مديراً فنياً للفرقة المصرية، ونجحت رواية (مرتفعات ويذرنج) ومخرجها زميل لي. . . والسبب في هذا - كما يزعم الناقد - أنني قدمت عن توخي التجويد فني بعد أن وصلت إلى أعلى مراتبه، في حين أن زميلي دائم التوفر على التحسين والإتقان. كذا؟؟
بهذا جرى زعم الأستاذ زحلاوي، وهو زعم له ما وراءه، له أن يثير النفرة وبين زميل لي في الفن نجاهد معاً على تحقيق غرض واحد.
أما أن يعمد الناقد إلى تبيان كيف ولماذا لم تنجح الرواية الأولى، ونجحت الثانية، وأين مواطن الضعف في هذه، وأين مراتب التجويد في تلك، وما السبيل إلى تلافي وجوه النقص والوهن، وكيف نزيد في توخي الإتقان، فكل هذا أمر مطوي في سريرة الناقد لم يفصح عنه، وأؤكد أنه لو قدر على الإفصاح عنه لما تردد، لأنني اعهده متلمساً كل عيب يسهب
ويفيض في كل أمر يكتب فيه!!
ولكنني أؤكد أن الأستاذ زحلاوي، لا يقدر على هذا، وإذا جرى قلمه بشيء منه، فكما تجري مطرقة الحداد في يدي اليسرى.
أسائل الأستاذ زحلاوي ماذا أفاد الناس من نقده وأنا في مقدمتهم؟ وبماذا ننعت نقدا لا يفيد المنقود ولا القارئ؟؟
ليعفني القارئ من الجواب، ومن أيراد النعت اللائق بذلك النقد، وللقارئ أن يقول فيهما ما يشاء، ولكنني أقول إن هذه الظاهرة العجيبة في النقد المسرحي - وهي ظاهرة نطالعها في أكثر ما يكتب عن المسرح - حدت بالوزارة إلى إنشاء (قسم النقد والبحوث الفنية) بمعهد فن التمثيل العربي الذي أتشرف بالعمل فيه.
فهل يجد الأستاذ زحلاوي من الشجاعة الأدبية ما يحث خطاه إلينا؟ أنني أدعوه دعوة صادقة مخلصة، فنحن ما عشنا طلاب علم، وإنما العلم من عند الله يؤتيه من يشاء.
زكي طليمات
الكتب
1 -
تاريخ ما قبل التاريخ
(مطبعة الشباب الحديثة)
الأستاذ الفاضل عبد الله حسين كاتب وصحفي معروف بسعة ثقافته وطلاوة أسلوبه وحسن تناوله للموضوعات التي يعرضها لقرائه المعجبين به، وقد اضطره مرضه الذي ابل منه والحمد لله إلى البعد عن عالم التأليف وقتاً غير قصير، وقد فاجأنا اليوم بكتابه الطريف (تاريخ ما قبل التاريخ) فذكرنا بمؤلفات ولزم خصوصاً في كتابه (خلاصة التاريخ) الذي جمع فيه أشتاتاً من المعارف منذ خلق الله الخلق إلى اليوم. . . وقد تصفحنا كتاب الأستاذ الفاضل ثم لم نجد بداً من قراءته أخيراً. . . فكانت ساعات ثمينة من المتعة الذهنية لم نقف فيها إلا عند هنات لا تنقص من جهد الأستاذ. . . نحسب أن أهمها ما كان يضطر إليه الأستاذ من السرد الصحفي للموضوعات، وعدم المبالاة أحياناً بتنسيق التبويب، فبينما يحدثنا عن الفن فلا يذكر من الفنون إلا التمثيل، ثم ينتقل إلى الأدب والشعر (وكل ذلك في الفصل الثامن عشر) إذا به يحدثنا عن العواطف الجنسية في الفصل الحادي والعشرين ويتناول الموسيقى في هذا الموضع مع كونها في مقدمة الفنون وكان مكانها في الفصل الثامن عشر وإن مست العواطف التي يحدثنا عنها الأستاذ. . . ومما لاحظناه أيضاً انتقال الأستاذ فجأة من العام إلى الخاص، ككلامه عن الحديد في مصر في الفصل التاسع (العصور الجيولوجية وعصور المصنوعات المعدنية) وكان الأظرف جعل الكتاب عاماً بدل هذا التخصيص الذي كان حقه أن يفرد بكتاب مستقل.
الحق أنه كتاب جميل؛ فيه جهد وفيه فكر.
2 -
هارون الرشيد والبرامكة
(مطبعة جلبي بدمنهور)
كتاب شائق للآنسة بنت بطوطة كتبته بالفرنسية ونقله إلى العربية الأستاذ د. ن. والكتاب قصة لهذه الفاجعة الألمة التي انتهت بنكبة البرامكة، والتي كان لحادثة العباسة أخت الرشيد في علاقتها الشريفة بوزير الرشيد المقرب جعفر البرمكي دخل كبير في أشنع مأساة لطخت
العصر الذهبي للحكومة الإسلامية. . . وقد استطاعت الآنسة بنت بطوطة أن تستعرض في الكتاب جميع الآراء المختلفة في أسلوب روائي ممتع تستحق من اجله التهنئة، كما جاءت الترجمة العربية ترجمة سهلة في عبارة خالية من التكلف
3 -
عشاق العرب وقصر الهودج
(جماعة النشر للجامعيين)
يخطو الأستاذ الفاضل كامل عجلان المدرس بالأزهر خطى حثيثة نحو الكمال الأدبي، ونحن يسرنا أن يلتفت شباب الأزهر إلى ضرورة المشاركة في نهضة مصر الأدبية في عالم الشعر والقصة والرواية بأنواعها. . . فليس يحرم هذه الفنون على شباب الأزهريين إلا جاهل بقيمتها وقيمة الأزهر وبرسالته الحديثة. . . وقد بدأ الأستاذ عجلان يساهم في الإنتاج الأدبي، فقدم للقراء مجموعته الطريفة (عشاق العرب)، وهي خمس قصص حوارية من أروع قصص الحب في الأدب العربي أولاها، حبابة، وثانيتها جميل، وثالثتها زينب بنت إسحاق، والرابعة قيس ولبنى، ثم الخامسة غادة الهودج وهي أطولها، وكان الأحرى اختصاصها بكتاب قائم بذاته. . . وغادة الهودج التي نثرها الأستاذ عجلان هي قصر الهودج التي نظمها صديقنا الأستاذ باكثير. . . وقد وفق كل منهما توفيقاً كبيراً في الوصول إلى هدفه. . . وسنجري أن شاء الله موازنة بين التمثيليتين في فصل خاص عسى أن يكون قريباً.
4 -
وامعتصماه!
(دار اليقظة العربية: دمشق)
مجموعة من التمثيليات الجيدة يصلح الكثير منها للتمثيل بالمدارس، أنشأها الأستاذ الأديب عبد الوهاب أبو السعود أحد أدباء سوريا الشقيقة، وقد راقتنا منها القطعة الرمزية الجميلة: الوطن - بقدر ما شاقنا حسن تصريف المؤلف للحوار في المجموعة كلها، وحسن استخلاصه لموضوعاته من أدبنا العربي الصميم.
(د. خ)