المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 595 - بتاريخ: 27 - 11 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٩٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 595

- بتاريخ: 27 - 11 - 1944

ص: -1

‌أيهما؟.

. .

للأستاذ عباس محمود العقاد

سؤال من الأسئلة الكثيرة التي توجهها الصحف الغربية والعربية إلى المشهورين، وهو: أيهما أحب إليك: المال أو الشهرة؟

وقد وجه هذا السؤال في أمريكا إلى رجال ونساء عندهم المال وعندهم الشهرة، ولو وجه السؤال إلى أناس لا يملكون هذا ولا تلك، ولكنهم يسعون إليهما ويطمعون فيهما، لظفر السائلون بناحية أُخرى من نواحي الجواب، لعلها أصدق وأقرب إلى معرفة النفس من جواب المشهورين الأغنياء

فلإنسان لا يحسن تقدير الشيء الذي هو في يديه، لأنه ينزل به عن قدره، ولا يحسن تقدير الشيء الذي يصبو إليه، لأن يرفعه فوق قدره، ولكنه - على الأقل - بصوره لنفسه وللناس في صورة هي أجمل وأقرب إلى مرضاة الخيال

كذلك يختلف تقديرنا لما نملكه ونطمئن إلى بقائه وتقديرنا لما نملكه ولا نزال مهددين فيه

وإنما القصد بين جميع هذه التقديرات أن نملك الشيء ونحس الحاجة إليه، ولكن في غير فزع ولا اضطراب، فمن ثم لا نزهد فيه ولا ننزل به عن قدره ولا نغلو في تعظيمه غلو من يتطلع إلى الأمنية وهو يحسبها منه بمنزلة السماء من الغبراء

رجعت إلى نفسي في هذا السؤال فلم أفكر في جوابه، بل وثب بي الفكر إلى موضوعه، ورجع في طفرة واحدة إلى أيامي المدرسية في أوائل القرن العشرين. . . أيام كانت (أيهما) هي فاتحة كل موضوع من موضوعات الإنشاء العربي يطلب من التلاميذ أن يكتبوا فيه:

أيهما أفضل: العلم أم الغنى؟ أيهما أحب إليك: الحرب أم السلم؟ أيهما أجمل: الصيف أم الشتاء؟ أيهما أنفع للإنسان: الشجاعة أم الحكمة؟

إلى آخر هذه المفاضلات التي استأثرت زمناً بأقلام الناشئين الصغار، وكتب على جيلهم بعد ذلك بعشرين سنة أن يكون هو الجيل الذي يغرق إلى أذنيه في النقاش والحوار: تارة نقاش الأحزاب، وتارة نقاش الآراء والأفكار

وعرضت مراحل الإنشاء المدرسي من تلك المرحلة إلى الآن، وهي مراحل التي حضرتها

ص: 1

على كرسي الأستاذ، ولم أحضرها على كرسي التلميذ

كانت هذه المراحل موزعة بين الوصف وكتابة الرسائل واستعادة الحوادث أو الذكريات

صف الربيع في الريف، أو صف الحجرة التي تتعلم فيها، أو صف رجلاً عظيما رأيته، أو صف محفلاً من المحافل العامة. . . إلى أشباه هذه الأوصاف!

أما الرسائل، فمنها ما يطلب من التلميذ أن يكتبه إلى أبيه، ومنها ما يطلب إليه أن يكتبه إلى أستاذه، أو زميله، أو شخص من شخوص الخيال

واستعادة الحوادث والذكريات تتلخص في تكليف التلميذ أن يذكر ما مر به في الإجازة المدرسية، أو في يوم من أيام البطالة، أو في السفر إلى بلد من البلدان

والمقابلة بين هذه الموضوعات في صعوبتها أو سهولتها على التلاميذ هي في الآونة درس نافع لسبر أغوار العقول، وقياس مقدرة الفكر الإنساني في كبار الرجال، وليس في صغار التلاميذ وحسب

فأصعبها بغير خلاف هو الوصف، ثم استعادة الحوادث والذكريات، ثم كتابة الرسائل على اختلافها

وإنما جاءت صعوبة الوصف من كونه امتحاناً للحواس والملكات جميعاً في وقت واحد، ومنها حواس النظر والسمع وملكات الملاحظة والترتيب والاختيار

فالواصف مطالب بأشياء كثيرة في شيء واحد يسمى (الوصف)، وهو في الواقع عمل تشترك فيه كل ملكة في الإنسان

فعليه أولاً أن يحصر ما يراه وما يسمعه وما يحسه على اختلاف ضروب الإحساس

وعليه ثانياً أن يرتب هذه المحسوسات كما سيذكرها في وصفه وعليه ثالثاً أن يختار ما هو حقيق بالذكر، وينبذ منها الفضول الذي يسكت عنه أو يجتزئ بالإيماء إليه

وعليه رابعاً أن يحسن التعبير عما أحسه ورتبه واختار أن يكتب عنه

فلا جرم كان بهذه المثابة امتحاناً صادقاً لعقل الكبير والصغير، وملكات الفيلسوف والرجل العامي من سواد الناس

ولا أخال الكاتب يعرف بعمل من أعمال قلمه يعرف كما يعرف بطريقة وصفه لمنظر من المناظر، أو خالجة من الخوالج، أو حادثة من الحوادث، لأنه لا يهمل ملكة واحدة من

ص: 2

ملكات قريحته وهو يعالج هذه الأوصاف، وإذا هو أهملها عامداً أو غير عامد، فإهمالها نفسه دليل على ملكات القريحة كدليل العمل والانتباه

وقد رأينا صحفيين مشهورين يرحلون من بلد إلى بلد، أو من حي إلى حي، ليكتبوا مقالاً وافياً عن بعض الزيارات أو بعض (الشخصيات) فيعنون بالعرض قبل الجوهر، ولا يدرون (مكان الشاهد) كما يقال في لغة العامة عند حصر الحديث المفيد

فيحسبون مثلاً أن المهم من حديث (الشخصية) المقصودة هو ما يسألونها عنه وتجيب عليه، أو يحسبون أن السكوت عن بعض الأسئلة لا يفيد شيئاً كما يفيد الجواب عليها، أو يحسبون أو وضع الطرف والصور في بعض المواضع من المكتب أو البيت عامة أمر لا يهم الاطلاع عليه، ويجرون على قاعدة واحدة في السؤال والجواب، وابتداء الحديث والانتهاء منه، مع اختلاف الأمزجة والعادات بين أناس ينكشفون من المباغتة، وأناس ينكشفون من الشخصية والتكرار، وبين أناس يتحفظون في أحوال، وأناس لا يتحفظون في جميع الأحوال، أو يتحفظون في سياق، ولا يتحفظون في سياق

وقد تجري بين الصحفي والرجل الذي يحادثه محاورة في التمهيد للحديث يسقطها الصحفي من حسابه، لأنها جاءت قبل افتتاح الحديث، ولم تجيء في صلبه بعد بداية السؤال والجواب، مع أن المحاورة التمهيدية هذه قد تدل القراء على جوانب في ذهن صاحب الحديث وعاداته، لا يدلهم عليها عشرات الأسئلة والأجوبة التي تقال بعد تنبيه وتحضير

وندع الصحفيين وننظر إلى الروائيين الذي يتخللون رواياتهم بالوصف الحسي أو الوصف النفسي إما نصاً وإما في خلال السطور

فما أيسر ما نعرف هؤلاء الروائيين قبل أن نعرف أبطالهم وحكاياتهم عنهم؟. . . هذا روائي يصف لك الدنيا كأنما هي كلها سريرة نفسية لا محل فيها لاختلاف الصيف والشتاء وتبدل الأماكن والعصور، وهذا روائي يصف لك الدنيا كأنما هي كلها حديقة أو غابة لا محل فيها لشيء غير نضرة الأوراق وذبول الأوراق وألوان الأوراق، وهذا روائي غيرهما يصف لك الدنيا كأنما هي كلها سوق أو مضمار صراع أو مضجع غرام. وكلهم يظهرون بدنياواتهم هذه قبل أن يظهروا لنا أبطالهم من الرجال والنساء

عرضت مراحل الإنشاء المدرسي في ذاكرتي ورجعت منها إلى مرحلتي على كرسي

ص: 3

التلميذ يوم أفاضل كل أسبوع بين العلم والجهل أو بين الحرب والسلم أو بين المال والجمال أو بين الصيف والشتاء، أو بين القوة والمعرفة، أو بين أولي الأشياء أحياناً بالتفضيل وأولاها أحياناً بالتهجين والإنكار

وذكرت كيف كنت أختار في كثير من الأحيان أضعف الشيئين لأجتهد في تمييزه والذود عنه، ففضلت الجهل على العلم مرة وفضلت الحرب على السلم أُخرى، وناقشت في ذلك أساتذتي وأناساً من كبار الزوار وأئمة العقول في الديار المصرية

ثم عدت أراجع اليوم موقفي من أمثال ذلك السؤال، وأعني به كل سؤال يبتدئ بأيهما ويرمي إلى تغليب شيء على شيء كل التغليب

أصبحت أعتقد أنه سؤال لا يجوز أن يوجه إلى عاقل ولا يحتفل عاقل بالجواب عليه

فليس في العالم الإنساني مسألتان يكون الحق كل الحق في إحداهما ويكون الباطل كل الباطل في الأُخرى

وإنما تختلف مواضع الاختلاف بمقدار نصيبها في الحق كثرة وقلة وقوة وضعفاً لا بخلوها منه كل الخلو واشتمالها عليه كل الاشتمال

يسألني بعضهم: هل تتغلب الديمقراطية بعد الحرب أو تتغلب الشيوعية! فأقول مبدئياً أن الديمقراطية والشيوعية لن تبقيا كما هما الآن، ولكن تأخذ الشيوعية من الديمقراطية وتأخذ الديمقراطية من الشيوعية وتتقابلان في وسط الطريق، ولكني أعتقد أن موضع الالتقاء أقرب إلى الديمقراطية بكثير

ويسألني آخرون: هل تفضل النهضة الفنية أو النهضة العلمية في الأمم التي تحتاج إلى النهضات؟

فأقول إن نهضة من هاتين النهضتين لن توجد على انفراد، ولن تحيى أمة قط بالعلوم دون الفنون أو بالفنون دون العلوم، فكل عالم تجرد من روح الفن عالم عاجز؛ وكل فنان تجرد من روح العلم فنان غير موهوب، ولا جواب (لأيهما) هنا إلا أن تقول (كلاهما) وتعود إلى التفصيل في التفضيل

ويسألني غيرهم: أيهما أحب إليك جمال المرأة؟ أو جاذبيتها؟ فأقول: وهل تتجرد الجاذبية من الجمال وتسمى جاذبية؟ أو هل يتجرد الجمال من الجاذبية ويستحق بغيرها اسم الجمال؟

ص: 4

فإذا بدأ السائل اليوم بأيهما؟ أوشكت أن أجيب (كلاهما) قبل أن يتم السؤال

سألني بعضهم مازحاً وقد سمع مني هذا الرأي: وأيهما على هذا القياس أفضل: البصر أم العمى؟

قلت: وحتى هذا

نعم حتى هذا لا استثناء فيه، لأن العمى هو انعدام البصر وليس هو ملكة تقابله المناظرة والمشاكلة. فعلى هذا الاعتبار يمكن أن يقال إن احتجاب النظر في بعض الأحوال خير من النظر في تلك الأحوال. ومنها النوم والراحة والإعراض عن القبح والشناعة وما لا يستحب النظر إليه في جميع الأحوال، وليس لأحد أن يقول حتى في جواب هذا السؤال إن النظر خير من عدم النظر في جمع الأحوال

ألم يفعل المعري في هذا المعنى فقال:

قالوا العمى منظر قبيح

قلت بنقدي لكم يهون

والله ما في الوجود شئ

تأسى على فقده العيون

فإذا أردنا الإنصاف قلنا: بل في الوجود شيء تأسى على فقده العيون، وفي الوجود شيء لا تأسى على فقده العيون

و (كلاهما) ثم تفصيل جواب صالح لكل (أيهما) على هذا الاعتبار.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌على هامش النقد

خواطر متساوقة

في النقد والأدب والأخلاق

الأستاذ سيد قطب

مما يؤسف له أن يقف الناقد بين فترة وفترة ليرسم طريقه، ويحدد أهدافه، ويعلن عنها للقراء! ولكننا في دور يفوعة أدبية، فلا مفر من الوقوف عند هذه البديهيات. ولعل مما يعزى عن ضياع الوقت والجهد في هذه الوقفات - وإن كان موضع أسف جديد -، أن الناقد في الشرق العربي، لا ينهض لتصحيح مقاييس الفن وحدها، ولكنه ينهض كذلك لتصحيح معايير الأخلاق!

وحينما تصديت لعمل (الناقد) كنت أدرك - كما قلت مرة -: (أنني لن أخرج من بين المؤلفين بكثير من الأصدقاء! فالفنان - بل الإنسان عامة - لا يرى في الغالب إلا الصفحة الجميلة في نفسه، لأن هذا الجانب هو الذي يسره ويلذه، ويملق كبرياءه ويغذي غروره. فإذا ووجه بالصفحتين جميعاً، فوجئ بالصفحة الأُخرى التي يراها لأول مرة، وحسبها تزويراً عليه. وحتى لو اقتنع بأنها صفحة، فإنه لن يستريح لعرضها على نظره وأنظار الناس)!

ومن يومها وأنا أفقد الأصدقاء واحداً إثر واحد، لأكسب عدداً معادلاً من الخصوم! بل عدداً أكبر لأنني أضم إليهم كل يوم خصوما. . . ولكنني أعاهد القراء على أنني سأمضي في الطريق؛ فحسبي أن أعوض ما أفقد من بين القراء المحايدين وهم بحمد الله كثيرون!

ولقد احتملت منذ أشهر فقد صديق عزيز مقابل مقالة نقد، أعطيته حقه فيها من تطفيف!

ولابد أن يحتمل المرء ما يأسف له من الهنات الخلقية في هذا السبيل أيضاً، فلبعض المؤلفين حاشية خاصة، وظيفتها التهليل والتكبير لكل ما يخرجون من أعمال، والدفاع - بكل أنواع الأسلحة - ضد النقد الحر، إذا استطاع ناقد أن ينفذ من هذه الشباك!

ولقد رماني الحظ أخيراً في وقعة من هذا النوع! فلم يكن بد من أن يصيبني رشاش من هذه الهنات، وإذا كنت قد أسفت على شيء، فعلى أنني لم أكن عطوفاً عليها وأنا أفهم بواعثها

ص: 6

الصغيرة. . . وهل أقل من أن أكون جاهلاً؛ وألا أكون ناقداً لينجو مؤلف من حكم النقد العادل؟ إنها أيسر سبيل لتجريح هذا (الناقد) الذي لا يعرف كيف يتخلى عن وظيفته على الطريقة الساذجة المتبعة في المحاكم من (تجريح) أفضل الشهود للحصول على البراءة عن هذا الطريق!

ما علينا. فمنذ اليوم سنعطف على مثل هذه الهنات!

وحينما تصديت لعمل (الناقد) كانت لي طريقة معينة أؤدي بها هذا العمل، لا أرى بأساً من عرضها هنا لقراء (الرسالة):

إن عملي مع كل مؤلف هو وضع (مفتاحه) في أيدي القراء الذين يقرءون أعماله متفرقة، ولا يدركون القاعدة التي تقوم عليها هذه الأعمال، ولا يتعرفون إلى شخصيته المميزة الكامنة وراء كل عمل

وهذا (المفتاح) ضروري للتعريف بالأديب؛ وإلا كان النقد عملاً جزئياً ليس وراءه كبير طائل بالقياس إلى القراء. ونقد كتاب دون بيان السمات (الشخصية) التي تطبعه إنما هو عمل ناقص لا يؤدي إلى شئ في هذا الباب

لا بل إن هذا (المفتاح) ضروري للمؤلف نفسه لا لقرائه وحدهم. فكثير من المؤلفين لا يعرفون أنفسهم، ولا يلتفتون إلى خصائصهم. وهم يستفيدون من الناقد الذي يضع المرأة أمام وجوههم ليتبينوا فيها ملامحهم الأصيلة

وليس من وظيفة الناقد أن يغير من طيعة المؤلف التي فطر عليها. ولكن وظيفته أن يعرف هذه الطبيعة ويبلورها، ويقيس أعمال المؤلف بها، ويهديه إليها إذا ضل أو أنحرف في فترة من فترات الضعف والضلال!

وكلما تناول الناقد أحد المؤلفين مرة، يجب أن يصير هذا المؤلف (معرفة) لدى القراء: لا من حيث الشهرة والبروز، ولكن من حيث تميز الملامح، ووضوح الخصائص. فلقد يكون المؤلف ذائع الشهرة عند آلاف القراء؛ ولكنهم لا يدركون (من هو) على وجه التحقيق؛ ولا يعرفون (مفتاح) طريقته الموحدة في أعماله جميعاً

وأذكر أنني سرت على هذا المنهاج في كل ما كتبته حديثاً من فصول النقد. فلم يكن همي هو التعريف بالكتاب فحسب، بل التعريف بالكاتب أيضاً. وكانت سمات الكاتب العامة

ص: 7

وخصائصه الأساسية، هي التي تسترعي نظري، وتنال اهتمامي. وكان المؤلف في نظري إنساناً ذا طبيعة قبل كل شيء، ووظيفتي هي تصوير هذه الطبيعة. يستوي أن يكون المؤلف شاعراً أو باحثاً أو كاتب رواية أو قصة أو أقصوصة. فما يعنيني عنوان عمله بمقدار ما تعنيني طبيعة عمله

وعلى هذا الأساس تحدثت مثلاً عن أعمال تيمور، وأعمال المشتغلين بالرواية والقصة والأقصوصة من الكبار والصغار؛ وعن نزعته بين نزعاتهم، وعن المدرسة التي يمكن أن ينمي إليها بين مدارسهم. فأما الذين فهموا طريقتي، والذين يهمهم جوهر الطبيعة الفنية، فقد وافقوني أو خالفوني فاهمين، وأما الذين كل بضاعتهم مصطلحات وعنوانات، ولا يملكون أن ينفذوا من ورائها إلى جوهر الطبيعة الفنية؛ فقد راحوا يتعالمون ببضاعة من الفهارس والمعجمات!

إن الأديب يكون ذا طبيعة واقعية أو رمزية أو خيالية، ثم يكون شاعراً وكاتب رواية أو قصة أو أقصوصة، أو كاتباً اجتماعياً، أو باحثاً تاريخياً. والناقد المهتم بالطبائع الفنية، قد يتجاوز العنوان الذي يقدم به أعماله، ليبحث مباشرة في طبيعة هذه الأعمال، كما أنها قد يراعي العنوانات الظاهرية مع الطبيعة الداخلية زيادة في التبويب والتقسيم. حينما يقف الآخرون أمام هذه العنوانات لا يتجاوزونها إلى النزعة الكامنة وراءها. لأنهم محرومون من الفطنة إلى طبائع الأشياء!

أحب أن ينتبه قرائي إلى هذا الاتجاه.

وبعد؛ فالنقد ضريبة وتضحية! فما أحسب (الناقد) في الشرق العربي إلا خاسراً لو المسألة بالقياس إلى نفسه:

إنه لا يرضى أحداً إلا القليلين. وأنه لينفق من الجهد ليقول شيئاً ذا قيمة - أكثر مما ينفقه في أي فن آخر من الفنون الأدبية، فكتابة مقال تستأديه على الأقل قراءة كتاب، أو عشرة كتب أو عشرين في بعض الأحيان. لقد صنعتها حينما كتبت في (الرسالة) منذ عام أربعة فصول عن الدكتور طه حسين و (مدرسة الأسلوب التصويري) والأستاذ توفيق الحكيم و (مدرسة التنسيق الفني) والأستاذ المازني و (طريقة الحركة الحيوية) والأستاذ العقاد و (مدرسة المنطق الحيوي) ولقد كلفتني كل مقالة قراءة كل كتاب لهؤلاء الأربعة ومعظم ما

ص: 8

كتبوه من مقالات. ولم أكن لأزيد على هذا الجهد شيئاً لو اعتزمت أو أؤلف عنهم كتاباً. وكل ما يعزيني عن هذا الجهد أن هؤلاء الأربعة هم مع آخرين هم عندي اليوم موضوع كتاب!

ولقد كنت آخذ - في وقت ما - على بعض كتاب الصحف الأول عندنا انهم لا يخصصون جزءاً من وقتهم للنقد وتوجيه الحركة الأدبية. فالآن بدأت أفهم أنهم معذورون. فالنقد عمل يستنفد الوقت والجهد، بلا تعويض مناسب. وخير لهم أن يؤلفوا كتباً موضوعية من أن يتتبعوا أعمال المؤلفين بالنقد. وقد لا يكون بين كل عشرة كتب يقرءونها كتاب واحد يستحق ما أنفق من الوقت في قراءته!

النقد ضريبة يؤديها الناقد من وقته وجهده! - وأنا أؤديها قدر ما أستطيع - وإنني لأرغب في التخلي عن أدائها لأنشئ أعمالاً أدبية أُخرى. فلولا إجازة أعطيتها لنفسي في صيف هذا العام ما استطعت أن أؤلف (كتاباً). وأشهد أنني لم أتعب فيه أكثر من تعبي في إعداد مقال من مقالات النقد الصغيرة!

ولكنني أصرح - وليقل من شاء ما يشاء - بأنه ليس هناك الآن (ناقد) يؤدي هذه الضريبة. كان هناك رجلان يستطيعان أداءها - على اختلاف في النوع والطاقة - هما العقاد والمازني: فانصرفا - وحق لهما ذلك - إلى الخلق والإنشاء

ثم تصدى لها الدكتور مندور. والدكتور مندور من خيرة الشبان المثقفين ومن القلة النادرة بين (الجامعيين) في مصر الذين لديهم ما يقولونه، وما يزيدون به شيئاً غير الفهارس والعنوانات. ولا يمنعني ما شجر بيني وبينه في وقت من الأوقات من الاعتراف له بهذه الخصائص

ولكنه - مع هذا كله وعلى الرغم من كتاب الميزان الجديد - لا يصلح ناقداً. أنها ناقل ثقافة وشارح آداب. أما النقد فلا. إن الحاسة الأولى للناقد تنقصه: حاسة التفرقة لأول وهلة بين الأصالة والزيف، وبين النضج والفجاجة

فالناقد الذي يخلط بين طبيعة المتنبي وطبيعة الأستاذ محمود حسن إسماعيل، فيرى أن هناك خيطاً - ولو ضئيلاً - يصل بين هاتين الطبيعتين، إنما تنقصه الحاسة التي تفرق بين الأصالة والزيف. ولو تشابهت المظاهر في بعض الأحايين

ص: 9

والناقد الذي يعجبه (تيمور) حين لا يعجبه (توفيق الحكيم) إنما تنقصه الحاسة التي تفرق بين النضج والفجاجة، أيا كانت النزعة التي ينزع إليها هذا أو ذاك، وأيا كانت الطريقة التي يسلكها. فالعمل الفني الناضج ينال مكانة، مهما تكن عيوب النزعة التي أملته والطريقة التي يسلكها، والعمل الفني الفج لا ينال هذا التقدير مهما تكن نزعته واتجاهه.

ليست المسألة أن هذا اللون يعجبك أو ذاك. ولكنها في الصميم، أن هذا أصيل أم زائف، وناضج أم مبتسر. وتلك مسألة لا تخفى معالمها على الناقد الأصيل

ويكون الإنسان قارئاً ومثقفاً، ولكن هذه الحاسة هبة تنميها الثقافة، وتعجز عن خلقها في النفوس

والدكتور مندور يبدع ويعجب ما ظل يتحدث عن المبادئ العامة، ولكن الزمام يفلت من يده عند التطبيق، فتختلط عليه الأصالة بالزيف والنضج بالفجاجة. وتستهويه بعض النزعات الأدبية دون بعضها، فيضله هذا الاستهواء كما حدث في نماذجه عن (الشعر المهموس) وفي حديثه عن (تيمور)

وهذه لا ينقص من قدر الدكتور مندور؛ فنحن في مرحلة بعد نقلة الثقافة فيها هم رواد الجيل.

سيد قطب

ص: 10

‌2 - أبو تمام

بين عبقريته وسرقاته

للأستاذ دريني خشبة

استطاع أبو القاسم الآمدي أن يحشد لنا في كتابه الموازنة طائفة كبير جداً من أشعار أبي تمام التي سطا فيها على معاني غيره من الشعراء، والتي تركها تختمر في رأسه - كما يعبر الآمدي - أو التي اتكأ فيها على نفسه - كما يقول أبو بكر الصولي - حتى أخرجها آخر الأمر زائدة المعنى، أو معدولاً بها عن معناها الأصلي، أو مذهوباً بها تلك المذاهب الطريفة التي تصورها ابن الأثير، والتي قسمها إلى تلك الأقسام الخمسة: من نسخ، ومسخ، وسلخ؛ وأخذ المعنى مع الزيادة عليه، وعكس المعنى إلى ضده، على نحو ما بيناه في الكلمة السالفة. وكان ابن الأثير يضرب الأمثال لكل من هذه الأقسام بأبيات شائقة لشعراء مختلفين، وكان ما خص منها أبا تمام شيئاً كثيراً. وسنجهد هنا أن نطبق موازينه على السرقات التي أوردها الآمدي، لنرى أن أبا تمام كان يسرق حقاً، وكان يستر هذه السرقة فتخفي على الناس أحياناً، ثم تكشف عن نفسها أحياناً أُخرى، بل أحياناً كثيرة. . . وسنرى أنه كان يزيد في المعاني المسروقة معاني مبتكرة يوفي بها على غاية الحسن. . . بل يظهرها بها في صور عجيبة لا يقدر عليها إلا خيال فنان مبتكر، قادر على التوشية الحية، والتلوين البديع. وسنرى أيضاً أنه كان يغلو في صوره، حتى يجعلها ضرباً من الألغاز، يكاد ينقلب إلى ضرب من السخف، لما يحشد فيها من الإغراب والتعقيد. . . الأمر الذي جعل حساده يقولون فيه: إنه ابتعد عن عمود الشعر، لإسرافه في استعمال أدوات البديع. . . استعمالاً حسياً أحياناً، واستعمالاً معنوياً في أغلب الأحيان

وسنرى كذلك أن أبا تمام كان يمسخ المعاني المسروقة، ويقصر بها عن صورها الأصلية الرائعة، وسنرى أن علامات السرقة التي نص عليها ابن الأثير، ولا سيما في السلخ بأنواعه، مستوفية في كثير من سرقات شاعر المعاني الخالد

1 -

فمن نسخ أبي تمام قوله:

وركبٍ كأطراف الأسنة عَرَّسوا

على مثلها والليل تسطو غياهبه

أخذ صدره من بيت كثير:

ص: 11

وركب كأطراف الأسنة عَرَّسوا

قلائص في أصلابهن نُحول

وأخذ قوله:

لما رأى الحرب رأْىَ العين نَوْفَلَسٌ

والحرب مشتقة المعنى من الحَرَب

من قول إبراهيم بن المهدي:

ومسعر الحرب، واسم الحرب قد علموا

لو ينفع العلم، مشتق من الحَرَب؟

ولم ينفعه ستر السرقة بقوله مشتقة المعنى بدل اشتقاق الإسم وأخذ قوله:

كأن بنى نبهان يوم وفاته

نجوم سماء خرَّ من بينها البدر

من قول جرير:

أمسى بنوه وقد جلّت مصيبتهم

مثل النجوم هوى من بينها القمر

أو من قول مريم بنت طارق:

كنا كأنجم ليل بينها قمر

يجلو الدجى، فهوى من بينها القمر

وأخذ قوله:

وكانت لوعة ثم استقرت

كذاك لكل سائلة قرار

من قول الفرزدق:

أنتم قرارة كل مدفع سوءةٍ

ولكل سائلة تسير قرار

وأخذ قوله، وهو يجمع بين النسخ والمسخ:

فلو أبصرتهم والزائر يهم

لما مِزْت الحميم من البعيد

من قول محمد بن بشير الخارجي:

وإذا رأيت صديقه وشقيقه

لم تدر أيهما أخو الأرحام

ولا غرو أن بيت الخارجي أروع!

وأخذ قوله، وزاد في معناه وأبدع:

تعوَّد بسط الكف حتى لو أنه

دعاها لقبض لم تجبه أنامله

من قول مسلم بن الوليد:

! لا يستطيع يزيد من طبيعته=عن المروءة والمعروف إحجاما

والنسخ هنا كلى في المعنى، مع تجويد فيه، وتبديل للألفاظ وقوله في مغنية تغني

ص: 12

بالفارسية:

ولم أفهم معانيها ولكن

شجت كبدي فلم أجهل شجاها

من قول الحسين بن الضحاك في الظرف نفسه:

ولا أفهم ما يعني

مغنينا إذا غنَّى

سوى أنيَ من حبي

له، أستحسن المعنى!

وذلك مما يلحق أيضاً بآخر ضروب السلخ عند ابن الأثير، وهو الأخذ عن معنى ثم الانتهاء إلى جنتين مختلفتين! والحقيقة أننا حرنا في أي القولين أشجى رأيهما أملح وأروح؟

وأخذ صدر البيت التالي، وعدل بعجزه:

لا يحسب الإقلال عُدْما، بل يرى

أن المقل من المروءة معدم

من قول أبي داود الإيادي:

لا أعد الإقلال عدما، ولكن

فقد من فقدته الإعدام

وعجز بيته:

فتى في يديه البأس يضحك والندى

وفي سرجه بدر وليث غضنفر

من بيت مسلم:

تمضي المنايا كما تمضي أسنته

كأن في سرجه بدراً وضرغاما؟

ونسخ هذين البيتين:

ما اليوم أول توديعي ولا الثاني

البين أكثر من شوقي وأحزاني

وما أظن النوى ترضى بما صنعت

حتى تشافه بي أقصى خراسان

من قول الأرقط بن دعبل:

نهنه دموعك من سح وتسجام

البين أكثر من شوقي وأسقامي

وما أظن دموع العين راضية

حتى تسح دما هطلا بتسجام

ونسخ هذين البيتين:

يعيش المرء ما استحيا بخير

ويبقى العود ما بقي اللحاء

فلا والله ما في العيش خير

ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

ص: 13

من قول النظار بين هاشم الأزدي:

يعف المرء ما استحيا ويبقى

نبات العود ما بقي اللحاء

وما في أن يعيش المرء خير

إذا ما المرء زايله الحياء

ولا يخفى أن تعبير أبي تمام أسلس، وإن لم يبق على معنى الأزدي المسكين!

وقوله:

إليك هتكنا جنح ليل كأنه

قد اكتحلت منه البلاد بإثمد

من قول أبي نؤاس:

أبِنْ لي كيف صرت إلى حريمي

ونجم الليل مكتحل بقار؟

ولا يخفى أن أبا تمام وإن سرق من أبي نؤاس إلا إنه أجاد عنه ولم يقع فيما وقع هو فيه من قبح بتكحيل النجم بالقار - أي الزفت؟ -

ونسخ قوله:

حمراء من حلب العصير كسوتها

بيضاء من حلب الغمام الرقرق

من قول مسلم:

صفراء من حلب العصير كسوتها

بيضاء من حلب الغيوم البُجَّس

وقوله:

وأحسن من نوْر تُفتّحه الصبا

بياض العطايا في سواد المطالب

من قول الأخطل:

رأين بياضاً في سواد كأنه

بياض العطايا في سواد المطالب؟

وقوله، وهو يجمع بين النسخ والسلخ:

لو كان في الدنيا قبيل آخر

بإزائهم ما كان فيها معدم

من قول بشار:

لو كان مثلك آخر

ما كان في الدنيا فقير

ونختم هذه المنتخبات التي وضعناها في باب النسخ، والتي تخيرناها من أكثر من ألفى بيت مما حشد الآمدي من سرقات أبي تمام، بما رواه أبو محمد بن اليزيدي قال: قال دعبل: لما مات ذفافة العبسي رثاه أبو سلمى المزني، من ولد زهير، واسمه مكنف، وكان بينهما

ص: 14

هجاء في إفحاش بقصيدة منها:

أبعد أبي العباس يستعتب الدهر

وما بعده للدهرُ عتبى ولا عذر

ألا أيها الناعي ذفافة ذا الندى

تعست وشلت من أناملك العشر

ولا مطرت أرضاً سماء ولا جرت

نجوم ولا لذت لشاربها الخمر

كأن بني القعقاع بعد وفاته

نجوم سماء خر من بينها البدر

توفيت الآمال بعد ذفافة

فأصبح في شغل عن السَّفر السَّفْر

وما كان إلا مال من قل ماله

وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر

قال أبو محمد: أنشدني دعبل هذه القصيدة ثم جعل يعجب من أبي تمام في ادعائه إياها وتغييره بعض أبياتها!

وقصيدة أبي تمام التي يقصدها دعبل هي مرثيته الخالدة التي رثى بها محمد بن حميد الطوسي ومطلعها:

كذا فليجل الخطب، وليفدح الأمر

فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

والتي قهر بها أبو تمام أعداءه، بما أبدع فيها من معان، أقلقت بال دعبل، وسهدت جفنيه، فأخذ أبياتا من مرثيه أبي سلمى المزني في زفافه، وخلط بها روائع أبيات أبي تمام، ولا سيما:

توفيت الآمال بعد محمد

وأصبح في شغل عن السفر السفر

وما كان إلا مال من قل ماله

وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر

كأن بني نبهان يوم وفاته

نجوم سماء خر من بينها البدر

ثم جعل يشنع بها على أبي تمام. . . ولو فطن إلى سرقات أبي تمام التي وقع عليها الآمدي في هذه المرثية، والتي أشرنا إلى بعضها في هذه الكلمة لكان خيرا له من ذلك التلفيق.

وفي أخبار أبي تمام للصولي (ص201) أن محمداً بن موسى حدث بذلك الحسن بن وهب فقال: أما قصيدة مكنف هذه فأنا أعرفها، وشعر هذا الرجل عندي، وقد كان أبو تمام ينشدنيه، وما في قصيدته شيء مما في قصيدة أبي تمام، ولكن دعبلا خلط القصيدتين، إذ كانتا في وزن، وكانتا مرثيتين، ليكذب على أبي تمام!!

وعلى هذا فليس في ذلك نسخ كما وهم بعض نقاد أبي تمام ومنهم الآمدي.

ص: 15

(يتبع)

دريني خشبة

ص: 16

‌أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي

هيلوئيز الجديدة

للأستاذ صلاح الدين المنجد

كان الحب في القرن السابع عشر يرافق البطولة ويصاحب الشرف. ولقد رأيت أن الأميرة دكليف، خشيت أن تؤذى في الحب. فأفضت إلى زوجها بأنها أحبت، لئلا يمس شرفه وتعر كرامته. فلما أتى القرن الثامن عشر، مالت المرأة إلى دراسة شمائل الرجل وعاداته من خلال الحب. وانقضى ما كان من قبل من حب هائم، يسهر الليل ويذهل اللب، ويضني الفؤاد.

وما لبث الناس أن انطلقوا. . . يلذون، ويفكرون فساقهم هذا الانطلاق البعيد إلى الملل، ودفعهم الملل إلى حب الطبيعة، والرغبة في البساطة، والبعد عن التكلف، مما هيأ النفوس لقبول رواية هيلوئيز الجديدة، والعناية بها.

كان روسو قد أشرف على الخامسة والأربعين من عمره، عندما كتب هذه الرواية وكان قد نشأ ابن ساعاتي في جنيف. ثم ماتت أمه وهو صغير. وفر أبوه من رجال الحكومة وتركه فولج كل باب، ودخل كل مدخل، ثم مضى لاهياً متشرداً لا يحفل أحداً.

واتصل بمدام دفرنس، فكانت خليلته وربيطته من غير أن تحبه. كما كانت جورج ساند ربيطة شوبان من بعده.

ثم تركها وصنع كل صناعة: فكان ناموساً لأرشمندريت، ثم سفيراً، ثم سارقاً، ثم موسيقياً، والى هذا كله، كان فناناً، حالماً، مرهف الحس، رقيق الشعور، يحس جمال الطبيعة، ويعشق اللذائذ الصافية البسيطة، وكان يرنو إلى زرقة السماء، وخضرة الحقول، وجريان المياه. . . ويداعب في نفسه حلما جميلاً.

وقصد باريس، حالماً بالمجد. كان يتمنى نصر الأبطالوخلود العباقرة. ولكن ما هو الثمن الذي ينبغي أن يؤديه؟ لقد اخترع طريقة لترقيم الموسيقى، وكتب غنائية لم ينشرها، ثم أنه يحس أنه قادر على التأليف، فهل يكفي هذا. . .؟

ص: 17

وكان إلى ذلك أيضاً رقيق المشاعر، لكنه متكبر. وكان يعيش في الخيال. ويبتعد عن الواقع، ويقول:(إن الإنسان لا ينعم بما يناله، بل بما يأمله، ولا يحس المرء السعادة إلا عند ارتقاب السعاد). فرجل كهذا، قد يجد في عزلته من النعيم ما لا يجده بين الناس. ولكن هناك المجد. . وكيف يدركه؟

واستطاع أن يتصل بمدام دوبان التي كانت تستقبل عظماء باريس كلها وصادق ابن زوجها (فرانكويل) وكان هذا عاشقاً (مدام ديبيناي ' ثم انضم إلى جانب الفلاسقة. وعندما وضع مجمع ديجون بالمسابقة خطابا حول الفنون والعلوم، كتب دفاعه الشهر ثالباً محاسن المدنية:)

(. . . أيتها الفضيلة، أما نقشت مبادئك في جميع القلوب، أو لا يكفي، لكي نعلم قوانينك، أن ينحني الإنسان على نفسه فيصغي إلى صوت ضميره، عند صمت الأهواء. . .)

وذاع صيت روسو، وعرف بأنه عدو لدود للعواطف المتكلفة، وأنه صديق الطبيعة. هذا أول لقب من ألقاب المجد، فليفتش عن لقب آخر

وفي السنة 1752، مثلت روايته (عراف القرية أمام الملك في فرساي، وأوتيت حظاً كبيراً من النجاح فتطلع الناس كلهم إلى معرفة روسو والتحدث إليه

لكن هذا العالم الذي استقبله ورحب به، لم يكن قد خلق له. ولم تكن أبهاء باريس، وما فيها، لتروقه. (كانوا يلهون، يحاولون الجمع بين الفكر والعقل، ولا يتعمقون في المباحث خوف الملل. ويجنحون إلى الإيجاز، ثم لا تجد واحداً ينقد رأي آخر، أو يؤيده، ويتعصب له. . .)

فماذا يفيد روسو من هذه المحادثات؟

وعزف عن الناس، وانقطع إلى أمام ديبيناي، في أحضان الطبيعة

وهفن نفسه إلى تأليف رواية يدور موضوعها على الحب؛ هذا الحب الذي لم ينعم به في أيام صباه، وقد هاجه ما يحيط به في عزلته هذه، في دار مدام ديبناي. لقد ذاق طعم حياة هادئة فيها راحة وهناءة وسذاجة. وتمتع بمرأى الغابات والحقول، ولذته أناشيد العصافير، وأسكرته عبقات الأزاهير. أنها عزلة حلوة، ولكن، ما كان أكثر جمالها وأشد هناءتها، لو كانت عزلة مخلوقين اثنين عن الناس، عزلة قلبين متحابين يعيشان في دار كهذه، وينعمان

ص: 18

بطيب الحياة، وكان الربيع الطلق قد أقبل يضحك ويغني، وفي كل مشهد من الطبيعة نداء للحب. فأغراه ذلك كله على كتابة رواية ما. فبدأ، وأحاط حوادثها بمنظر الطبيعة التي عاش فيها وتمتع بروائها، أيام كان صبياً غض العود، على ضفاف بحيرة جنيف. وسماها هيلوئيز الجديدة لأنها تشابه مغامرة هيلوئيز وآبيلار، المؤدب الذي عشق الفتاة التي عهد إليه أن يؤدبها. وتخيل شاباً لا نسب له ولا مال، اسمه سان برو، يحاكي روسو في خلقه، ويخالفه في تبلده، قد أتى به ليؤدب جوليا ابنة السيد ديتانج الغني السويسري. وكانت قد أوتيت الجمال والشرف والتهذيب. فما أن رآها حتى أحبها. فكتم حبه. فلما ثار الهوى، وضاق به ذرعاً، كتب إلى جوليا رسالة حبه الأولى. وهي رسالة رقيق تفضي إليها بحبه

كان سان برو كروسو، تؤثر فيه العواطف وتهزه الأهواء. وكان، كما قلنا، خيالياً حالماً، فلم يطمع من جوليا بما يصعب نواله ويستحيل إدراكه، بل كان يريد أن يقول لها:(إن ملامحك خلابة بهرت عيني. . .)

(. . . إن أبصارنا تتلاقى، فتفلت من صدورنا بضع آهات في وقت معاً، وتنحدر بضع دمعات. . .

(. . . لقد حاولت اليوم، مائة مرة، أن أرتمي على قدميك فأنديهما بعبراتي، فيفل شجاعتي دائماً رعب قاتل، وترجف ركبتاي ولا تطيقان ثنياً. . .)

وينمو الحب في قلبي العاشقين، ويحاول سان برو أن يفر خوف الفضيحة فيسافر، وتتبعه رسائلها تدعوه فيها، لكن كيف السبيل إلى صون الشرف. كلا العاشقين قد أذلهما الهوى. ويريدان أن يبقيا شريفين طاهرين؛ فكانت تتمنى إلا يجفوها صادقة في حبها إياه، ولم يشأ روسو أن يغريها. . فتألم وبئس، وأذعن، ثم شعر بالملل، وكان يراسلها فانقطع عن مراسلتها.

وعاد روسو إلى روايته يتمها. . .

فتخيل أن جوليا تجبر على زواج رجل روسي نبيل اسمه سان برو، وتتطلب أن يحبها، وأن يصونها ويحترمها

ولكي تتم الرواية، جعل روسو لهذين البطلين وصيفين يكتمان أسرارهما. فاتخذت جوليا ابنة عمها، واتخذ سان برو صديقه ميلورد ادوارد، ويجتمع سان برو بجوليا، وتكون معهما

ص: 19

كلير في غيضة شعرية، ويكون مشهد القبلة الشهير

(فلما دخلتها، دهشت لرؤية ابنة عمك تقترب مني وتسألني قبلة بدلال واستعطاف فقبلت هذه الصديقة الفاتنة غير مدرك من السر شيئاً، ولكن رباه! ماذا أصابني بعد لحظة، حينما أدركت. . . لقد رعشت يدي، وأحسست قشعريرة لطيفة تدب في جسمي، وشعرت بفمك الوردي، فم جوليا، يلتم فوق فمي، وبذراعيك تضمان جسمي. أواه! كلا ليست نار السماء بأكثر تأججاً، ولا أشد سرعة من النار التي سرت تلك اللحظة في جسمي. لقد كانت النار تندلع من آهاتنا، وتتأجج في لاهبات شفاهنا، وكاد قلبي يموت تحت عبء اللذة، ثم رأيتك، وقد شحب وجهك، تغمضين عينيك الحلوتين، وتتكئين على ابنة عمك، ثم تسقطين على الأرض من الإغماء. عندئذ أطفأ الرعب سرورنا، فلم يكن نعيمي غير سنا خاطف كالبرق. . .

(إن اثر الإحساس العميق الذي أحسسته لن يزول أبداً. احفظي قبلاتك يا جوليا. . فأنا لا أستطيع احتمالها. . إنهن شديدات الأثر، يخزن ويحرقن حتى اللب)

ويتأجج الحب ويفور وتقسم جوليا ألا تتزوج أحداً غير سان برو

ويحاول سان برو أن يهدئ من فوران حبه ويخفف ثوران هواه فلم ير بداً من السفر. فغاب وفي إيان غيبته، أعلم السيد ديتانج، ابنته جوليا، أن زواجها رجلاً غير ذي نسب ونبالة مستحيل

فلما عاد سان برو، هزها الشوق، وعطفها إليه الحنين، فتقربت منه، وأزلها الشيطان، فأضحت خليلته، وعندئذ شعرت بوخز الضمير

(ليعزب هذا البربري إلى الأبد عن وجهي، ليمض فلا يضاعف بحضوره آلام روحي، ليكف عن التلذذ الوحشي بتأمل دموعي، ماذا أقول؟ وا أسفي على نفسي! أنه ليس مجرماً. أنا المجرمة وحدي. إن مصائبي لمن صنع يدي، وليس لي أن ألوم غيري)

ويسعى ميلورد ادوارد في إرجاع الأب عما عزم عليه ولكن سعيه كان فشلا. واضطر سان برو إلى مغادرة سويسرا فقصد باريس.

وتكشف السيدة ديتانج بعد سفر، رسائل العاشقين.

(ضاع كل شيء، وانكشف كل شيء. لم أجد الرسائل في المكان الذي خبأتها فيه، مع أنها

ص: 20

كانت فيه أمس مساء، لابد أنها لم ترفع من مكانها إلا اليوم، وقد تكون أمي وحدها استطاعت أن تراها، ولئن رآها أبي، فليكونن هذا آخر عهدي بالحياة!)

ويقف روسو، برسائله وروايته عند هذا الحد، وكان يحمل هذه الرسائل في حقيبته، ويقرأهن على النساء، فيبكين رقة وأسى، وكان يعتقد أن روايته قد نمت، وإن الحبيبين افترقا إلى الأبد، فلا لفاه، لكن حادثاً يقع، فيكون نتيجة لتلك القصة الخيالية. وهذا مثال واضح يفسر الصلة بين الرواية والحياة وبين الخيال والحقيقة

عرف روسو، في هذه الحقبة، مدام دوتو. وكانت هذه، شأن كثيرات من نساء القرن الثامن عشر، قد فركت زوجها وأحبت سان لامبير، القائد الشاعر، عاشق مدام دشاتليه

وصادف أن لجأت إليه - وهو في عزلته عند مدام ديبيناي - وحلة قد بللها المطر. ثم زارته زورته ثانية ممتطية حصاناً، وقد تزيت بزي الرجال.

يقول روسو: (. . . ورغم أني لا أحب شبيهات هذه السخريات، فقد بهرت بشكلها، وأحببتها. . .)

لم تكن مدام دوتو، جميلة. ولكنها ذات سحر وجاذبية. وسرعان ما اشتد حبه وانتقل فجأة من العالم الذي كان يتخيله على الورق، إلى عالم فيه ما يلاقيه الهائمون من الوله والحنين والشكوى. وكانت، تياهة، طياشة ذات دل ورقة، وكانت لا تأبى على روسو النزهات في ضوء القمر، أو القبلات على حفافي النهر. لكن قلبها كان شارداً. أسره رجل غير روسو، وغير زوجها. رجل قائد خيل إليه أنه شاعر، وأوهمته أنها صادقة في حبها إياه. ولم يشأ روسو أن يغريها. . فتألم ويئس وأذعن. ثم شعر بالملل، وكان يراسلها فانقطع عن مراسلتها

وعاد روسو إلى روايته يتمها. . .

فتخيل أن جوليا تجبر على زواج رجل روسي نبيل اسمه ولما قد أوتى بسطة من البلادة، وإن سان برو، يذعن، وقد يئس. ثم يجعلها في حل مما كانت عاهدته عليه، فلا تتزوج غيره. وتذعن جوليا إطاعة لأبيها، وشفقة على حبيبها ويضطرب سان برو، فسافر ليطوف في البلاد، مسكينة جوليا أنها لم تذق من هواها غير القلق والخوف واليأس. . . ولم تلق في طريقها غير حبيب أحبته، فأبعد منها، وزوج لم ترض عنه قرب إليها.

ص: 21

فلما طوف كثيراً، عاد فنزل عند ولمار نفسه زوج جوليا. وحادث جوليا أول محادثة، وكانت خجلى، وحاولت أن تبدي عذرها في زواجها، ولكن زوجها فاجأهما. . .

يقول روسو (. . . ولم تعبأ، وظلت تتكلم بحضوره كأنه لم يكن. وعندما سكتت قال لي: هذا مثال من الصراحة التي تسود هنا. وإذا شئت أن تكون فاضلاً حقاً، فاتبع هذه السبيل. هذا هو الرجاء الوحيد والأمثولة الطيبة اللذان أقدمهما لك. أن أول خطوة نحو العار أن تخفي الأعمال العلانية. إن حكمة واحدة يمكن أن تحل محل الحكم كلها. وهي: لا تعمل ولا تقل ما لا تريد أن تنظره من الناس أو تسمعه منهم. . .)

لقد حاولت جوليا إدراك سلام القلب مع زوجها، رغماً عن هواها القديم الذي يثور في فؤادها. وهكذا انقلبت الرواية إلى درس أو منهج للأخلاق

لقد أراد أن يثبت أن الإخلاص بين الزوجين هو أهم واجبات الزوج شأناً، وأن الهوى العنيف عندما تكون الفتاة عذراء، إذا دام بعد زواجها من لا تحب يصبح جريمة. وأن المرأة تستطيع أن تنشئ حياة سعيدة على أنقاض حب عظيم

وتقضي جوليا العيش مع زوجها، في الحقول، يراقبان الخدم، ويوجهان الزارعين، ويعنيان بالكروم

ويعجب سان برو، بحكمة دلمار وجوليا ورجاحة عقليهما. ويصف الخدم والحديقة، وصفاً ممتعاً، ولكنه لم يستطع أن يطفئ لهب هواه، أو ينسى حبه القديم فقد كان كل شئ يذكره ويذكرها بنعيم مضى. . . وعندما اتخذت جوليا قارباً تتنزه فيه، فكرا معاً في ذلك الماضي الجميل (. . . كان صوت المجاديف المتزن، يثيرني لأحلم، وكانت صدحات دجاج الحقول المرحة تذكرني بنعميات عمر مضى فتحزنني بدلاً من أن تفرحني. وشعرت، رويداً رويداً، بازدياد الغم الذي كنت به مثقلاً. فلا صفاء السماء، ولا طراوة الهواء، ولا شعاعات القمر اللطيفة، ولا رعشات الماء الفضية حولنا، حتى، ولا وجود هذه المخلوقة العزيزة، لم يستطع أن يطرد عن قلبي ألف فكرة مؤلمة. . .)

وينهى روسو روايته بموت جوليا. بعد أن أوصت سان برو بزواج كلير ابنة عمها، ولكنه أبي. وعاش مع كلير ينشئان أولادها، وفاء لها

تلك خلاصة موجزة عن هيلوئيز الجديدة. ولقد أوتيت من الانتشار ما لم يقدر لغيرها.

ص: 22

وقرأها النساء والشبان والشيخان، بحماسة ولذة وظلت طوال القرن الثامن عشر، رواية الجمهور. لقد علم روسو بها الحب نابليون، وأخذ عنه غوته وستاندال أيضاً. وعلم بها الناس الفضيلة، فكان قائداً أخلاقياً، ثم علمهم حب الطبيعة فأحبوها، وكان أباً وأستاذاً للابتادعيين الذين أتوا بعده.

صلاح الدين المنجد

ص: 23

‌السلم العالمية

حمل قريب الأمد

للدكتور أحمد فؤاد الأهواني

كتب الأستاذ محمد توحيد بك السلحدار في عدد سابق من (الرسالة) مقالاً عنوانه منع الحرب حلم الأبد، وأقول رداً عليه إن السلم العالمية حلم قريب الأمد

والحق أننا نعيش الآن على مسمع من قصف المدافع وأزيز الطائرات، وعلى مرأى من مشاهد حرب شنيعة المهلكات

ولاشك أن أحداً من الدول المشتركة في هذه الحرب القائمة لم يكن يرغب في إثارتها، ليكتوي بنارها. والواقع المسلم به أن كل دولة تتبرأ من إعلان الحرب وتصرح بالابتعاد عن تبعة إثارتها

ولم يكن الأمر كذلك في قديم الزمان، إذ درج الحكام والملوك والأمراء على التفاخر بالعدوان، والمباهاة بالقوة والبأس والسلطان. فإذا كنا نرى في الوقت الحاضر أن أصحاب العروش وذوي التيجان وأقطاب الدول والزعماء المحركين للشعوب يتنصلون من تبعة الحرب ويتبرءون من إعلانها، فلا شك أن هذا دليل يحمل في طياته النزعة القوية إلى السلام، ويبشر بتحقيق هذا الحلم الذي كان من أطماع الناس في القديم ولا يزال من آمالهم حتى الآن

والقول في الحرب أو في السلام يقتضي منا الإشارة إلى الأسباب التي تسوق الدول إلى الخصام أو تدفع بها في سبيل الوئام.

قال الأستاذ توحيد بك السلحدار في أسباب الحرب ما نصه: (إن الغرائز والشهوات ما زالت تتغلب على العقل، والطبيعة لم تصلح بعد من شأن النزعات الأنانية، ولم توجهها إلى التعاون الصادق، والإنسان مقسور على الكفاح في الحياة، والدول من طبعها أن تتعمد التوسع وترغب في الفتح والسيادة الدولية بالمنافسة المطلقة في الاقتصاد والصناعة والتجارة والتسلح. وهذه سبيل لا مندوحة فيها عن الحرب بين حين وحين)

وقد جمع الأستاذ بين الدوافع النفسية في الفرد وبين العلاقات الدولية وتنافر مصلحة الجماعات

ص: 24

والحجة لا تستقيم بذكر طبائع الفرد وخصائصه، لأننا بصدد حرب بين دولة وأخرى، ومن المسلم به أن طبائع الجماعة تختلف عن طبائع الفرد، كما هو معروف لكل من درس علم الاجتماع

والدليل على نقض تلك الحجة النفسية هو نفور الجند من هذه الحرب الحاضرة من الحرب، لأنها جماعات وكتل بشرية تترك في الميادين يفقد فيها الفرد شخصيته المستقلة.

وأبلغ دليل في هدم كيان تلك الحجة النفسية القائلة يجب الكفاح. وتغلب الغريزة والشهوة والأنانية، أن الأفراد يعيشون في داخل الدولة الواحدة، ويرتفع عددهم إلى ملايين قد تزيد على المائة، وتسود فيهم بطبيعة الحال غرائز الكفاح والأثرة والمغالبة والنزوع إلى السيطرة والسلطان، ومع ذلك تعيش هذه الجماعة، الواحدة كخلية النحل، كل فرد يقوم فيها بعمل، يكسب معاشه، ويتصل بغيره من الأفراد في سبيل كسب المعاش، دون أن تقع بينهم معارك دامية، إلا ما يحدث من الخصام المعروف بين الأفراد، الذي يحله القانون ويقتضيه الأمن والنظام.

فنحن نسلم بوجود النزعة إلى الكفاح في الفرد، وقد اقتضت الحضارة والمدنية أن توجه هذه النزعة إلى كفاح الحياة والتغلب على عقبات المعيشة، وتذليل البيئة المحيطة بالإنسان وتسخيرها لمصلحته، ودفع عدوان الأمراض والأوبئة وهي أفتك بالإنسان من أسلحة الحرب.

والبوليس والقضاء كفيلان بضبط الأمن وحفظ السلام بين سكان الدولة الواحدة.

فالمسألة في السلام هي خضوع الجماعة لحكومة واحدة ونظام واحد، لأن الحرب تقع بين الدول لا بين الأفراد.

فهل يصبح العالم بأسره خاضعاً لحكومة واحدة، وتتحول النزعة الوطنية إلى دولة واحدة وعالم واحد ونظام واحد؟

ذلك أن العلة الأساسية في الحروب هي انقسام العالم إلى دول تنطوي على نفسها، وتحتفظ كل واحدة منها بشخصيتها المستقلة، وتشيع العقيدة في نفس بعضها أنها أقوى من غيرها بأساً، وأسمى عقلاً، وأرفع منزلة، وأوسع علماً.

لهذا وقعت الحرب الحالية لانقسام العالم إلى دولة عظمى وإمبراطوريات كبيرة تتنازع على

ص: 25

السيادة والسلطان.

ولهذا أيضاً ستقع الحرب المقبلة - وأنا لا أشك في هذا - بعد أن تضع الدول السيوف في أغمادها، والطائرات في حظائرها، لأنهم يقولون: إن العالم ستتحكم فيه الدول الثلاث المنتصرة: إنجلترا، وأمريكا، وروسيا، وقد يضيفون إليها الصين أو فرنسا.

ستقع الحرب في الجيل المقبل أي بعد عشرين عاما كما يقال، وقد تقع بعد جيل آخر أيضا، ولكن الخطوات التي يخطوها العالم في سبيل التطور والوحدة، فخطوات سريعة جداً، هي التي تجعلنا نقول بأن السلم قريبة الآن.

ونحن نؤيد هذا القول بشواهد في التاريخ، معتمدين على النظر إلى تطور الإنسانية خلال العصور الطويلة.

ذلك أن الجماعات كانت تعيش قديما في مدن صغيرة، أو قبائل متناثرة، ثم اقتضى الرقي والعمران أن يلتئم شمل المدن في دول، وأن تتسع رقعة القبيلة فتصبح شعباً كبيرا.

وكلما اتسعت الدولة زالت الفوارق بين الناس في اللغة والتقاليد والعادات والفكر والدين.

وقد ظهر في العالم عامل جديد لا ينبغي إغفاله لكل من يريد أن يبحث في تطور البشر. وهو عامل سيقلب كيان الإنسانيةكلها ويغير من مظهرها القديم.

هذا العامل هو سرعة المواصلات البرية والبحرية والجوية، فأصبح انتقال الإنسان في أرجاء الدنيا الأربعة من أيسر الأشياء. وإن آثر أحدنا البقاء في مكانه ولم يكلف نفسه عناء إلى شتى بقاع العالم، فمن اليسير عليه أن يفتح المذياع فيتلقى أنباء العالم في لمح البصر. وانظر بعد كيف يتم التقارب الشديد بين الناس جميعاً في الفكر وأسلوب الحياة.

وهذه خطوة بالغة الأثر في توحيد العالم

وستعقبها خطوات أُخرى يخيل إلينا أنها قريبة الوقوع وهي وحدة اللغة، ووحدة التقاليد، ووحدة الزي، ووحدة الأساليب في شتى فروع الحياة.

ألا ترى أن تركيا اصطنعت الكتابة بالحروف اللاتينية. وأن عبد العزيز باشا فهمي يريد في مصر مثل ذلك. والدلالة التي نعتبر منها في مثل هذه الحالة وأشباهها، هي النزعة الشديدة نحو اتحاد العالم في مظهر واحد. ولن يتأخر اليوم الذي تتم فيه هذه الوحدة لما ذكرناه من سهولة شتى المواصلات وسرعتها.

ص: 26

ولا يغيب عن بالنا أن نذكر في هذا الصدد ما دار في الأذهان في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي من محاولة اختراع لغة عالمية سموها في ذلك الوقت (اسبرانتو). وقد ماتت الفكرة حيناً من الدهر، ولكنها أخذت تبعث الآن. فتوحيد اللغة أمر لابد من وقوعه لأنه لا يتوقف على الأمل والنية، بل يعتمد على طبيعة الأشياء. وطبيعة العمران الجديد الناشئ عن تيسير المواصلات بين أجزاء العالم، تقتضي حتما التفاهم بين الناس بلغة واحدة

ومن العوامل القوية في منع الحروب وتحقيق السلام بعد توحيد العالم على النحو الذي وصفنا وقوعه في المستقبل، انتشار التعليم بين سواد الناس، وما يتبع ذلك من رقي عقلي، ونزوع إلى تغليب الحكمة على الشهوة، وحل المشكلات بالعقل لا بالقوة. وكلما ارتفعت عقليات الأفراد صعب قيادهم قياداً أعمى لمصلحة ذوي المطامع الذين اصطلحوا على تسميتهم بمجرمي الحرب، ولا ننس أن الحرب صناعة كسائر الصناعات، ويحتاج إعدادها إلى تهيئة جيش مدرب على استخدام السلاح، ويعتنق فلسفة العدوان ويكره الجنوح إلى السلام، والعالم يسير الآن نحو خطة جديدة يرمي بها إلى نزع السلاح، ويجري في التعليم على بث روح السلم واعتناق فلسفة السلام

هذا التطور السريع الذي نشاهده في العالم يرمي إلى اشتراكية اقتصادية لاشك فيها الآن. وقد كانت الشيوعية هي المذهب المنتظر للفلسفة المادية التي تبغي إلغاء الملكية ومنع الاستغلال المزري، ولكنها اعتدلت فأباحت شيئاً من الملكية لضرورة العمران، فاقتربت بذلك من المذهب الاشتراكي الذي أصبح واقعاً في جميع الدول الآن. ومن شأن تنظيم الاقتصاد العالمي، وتيسير المعيشة لكل فرد في طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه وتعليمه، أن يشعر جميع الناس بالراحة من جهة معاشهم، فلا يبقى محروم تدفعه الحاجة إلى الثورة وامتشاق الحسام للحصول على الطعام

فإذا ذهبنا مع أصحاب الفلسفة المادية الذين يفسرون جميع الحروب التي حدثت في التاريخ تفسيراً اقتصادياً، فإن تحقيق المساواة لجميع سكان العالم في الحياة المادية، وهو ما يقضي به التطور الذي نشهد آثاره، كفيل بمنع الحرب وإقرار السلام، ولهذا صح ما نقوله من أن السلم حلم قريب الأمد، لا أنه حلم الأبد

أحمد فؤاد الأهراني

ص: 27

‌2 - وحدة الوجود

للبروفيسور ج. أ. بودن

بقلم الأستاذ عثمان حلمي

إن وجود الخالق الذي كون العالم من أرواح أثيرية والذي رعى ودعم العالم، لا يمكن أن يثبته وجود العالم نفسه، بينما يظن (نيوتون) في موافقة للتقاليد أنه لما كان للعالم بداية فإن النظام الكوني كان أزلياً منذ أن ضمن وجود الله إعادة تجديده المستمر. ويرى نيوتون أن في شتى أجزاء الفضاء إلهاً يشكل خلقه في المادة وكذا في قوانين الطبيعة، ومن الجلي أن الطبيعة في نظر (نيوتن) ليست محض كتل ميتة عمياء تصطدم على غير هدى وتتجمع أو تنفصل في الفضاء، ولكن العالم تتخلله روح خالق يدين له العالم بوجوده كما يدين بتدعيمه وحفظه لهذه الحقيقة، وهذا يجعل الدنيا قابلة للفهم كما يجعلها جميلة مقبولة

يسخر ليبنتز من فكرة أن الله غير قادر على أن يخلق آلة ميكانيكية فوراً تسير بنفسها، ولكنها في حاجة إلى عامل معها لحفظها، إلا أن (ليبنتز) لم يقدر حساب اتجاه الانحدار في المادة (انحلال الحركة)

ففي عالم (ليبنتز) لا يوجد فقد عارض، غير أن فهم (ليبنتز) في إعادة التناسق في الذرات الهيولية التي تدور كالساعة منذ الأزل لم يبرهن عليه بنتيجة يرتاح إليها العلم الحديث

وأبعد من هذا فإن لابلاس قد تناول علم نظام الكون في مبادئ نيوتون (بفرض عدم وجود الله) ولكنه لم يعمل حساب قوة قابلية المادة للتحول

ويرى كلارك ماكسويل ثاني أعظم مهندسي العلم الحديث وجهة قابلية المادة للتحول فيخال أن (روح العالم بكل شيء) الذي يقدر أن يتصرف بدقائق أجزاء الطبيعة قد يعكس تدرج الانحدار المادي باختبار عاقل مدرك، غير أن (روح العالم بكل شئ) اصطناعية بجانب إله نيوتن. ومما لا ريب فيه أن نيوتون رغب في أن يعرف الله وإن يكشف عن جوهره بينما ارتضى علماء اليوم أن يقروا بجهلهم، فهو مثلاً كان متأثراً بحقيقة أنه في أي توزيع لكم من المادة عدد لا حصر له من الأنظمة والقوانين، وأنه يجب أن يكون هنالك اتجاه إلى نظم أُخرى خارجة عنها حتى يمكن أن يظل استمرار تناسق الأشياء وتوازنها الذي لا يمكن أن يدوم بغير قوة إلهية لحفظه، وجدير بعلماء هذا العصر أن يلاحظوا، ما

ص: 29

هي؟

هو يجزم أن هذه الدنيا سائرة لا محالة إلى نهاية بعد قليل من بليونات السنين من يومه، والذي نسيه هو أن مسألة النهاية محددة بمسألة البداية، وعالم حقيقي كنيوتون يهمه أن يقف على حقيقة كل ذلك

لقد كان نيوتون عالماً عظيماً بما وراء الطبيعة بفضل سلامة بصيرته وصحة وجدانه، فضلاً عن تخصصه الفني، وإن درايته بما وراء الطبيعة لتزيد كثيراً على ما تطلبه حاجة علمه

(إنك لا تستطيع أن تفصل الله عن العالم الذي فحصه العلم ثم تستطيع بعد ذلك أن تزعم أنك قد اقتنعت بهذا العلم)

هذه النظرة من فلسفة نيوتون قد أهملت طويلاً، وقد قال لنا علماؤنا السفسطائيون إن (كانت) قد دحض فلسفة نيوتون بتدليله على أن الفضاء والزمن وهميان - أي في العقل - وإنه بناء على ذلك لا يمكن أن يقال إنهما بميزان العالم الحقيقي إلا أن كل ما أورده (كانت) لم يكن إلا إظهار منطق نيوتون بصورة (إقليديسية) متخصص بعلم الفضاء، وأن النظام الزمني لم يكن ليستمد إلا من عقولنا، إن (كانت) لم يدحض نظرية الفضاء التجريبي الذي بني عليه علم نيوتون حقيقة وهذه لم يمكن دحضها بحجج سابقة، وفضلا عن ذلك فإن إيمان نيوتون بدقة هذا النظام المحكم المتزن في الطبيعة سيبقى حجة تتحدى العقل الإنساني، وإننا لا يمكننا أن نهمل سبق هذا النظام ولكن يجدر بنا أن نجهد أنفسنا لكي نكشفه كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا

إن إصرار نيوتون على فكرة ضرورة وجود مبدأ ميكانيكي سام في الطبيعة سيبقى كذلك، ولقد قال بعض ذوي الكفايات العلمية المحدودة من متأخري اللاأدريين أن (كانت) قد حطم أساس البراهين التي أقيمت على وجود الله، غير أن (كانت) لم يحطم في الواقع إلا البراهين السابقة التي بنيت على الأوهام وشرود الذهن الذي لا حد له

إن رأي نيوتون في الله كواسع ودائم وموجود في كل مكان كان رأياً علمياً غير ثابت عند الطبيعيين كما أنه لم يكن ليستطاع جعله مثاراً للجدل

إنه ليوجد سبيل واحد نستطيع به فهم الكون كدعوى سائرة، وذلك كما يقول أفلاطون عن

ص: 30

طريق بعض الشعور بتسلط الحياة والعقل، والحياة هي الشيء الوحيد الذي نعرفه والذي تصل به الطاقة إلى أعلى مستوى في النظام ودقة الترتيب.

إن الجسم الحي هو النوع الوحيد من الأشياء الذي يستطيع أن يطوع الطاقة في حدود أجزائه بحيث يمكن توطيد صلة تداولها المشترك بين مصدرها وهدفها، والطاقة في الجسم الحي غير مبعثرة كيفما اتفق في التوزيع بحيث يمكن أن يصدم جزء منها شيئاً آخر في سبيله ثم يكون لهذا عواقبه المرجوة الموافقة، ولكي تكون الصلة مناسبة على الدوام فإنها لابد أن تكون دائمة حتى في المصادفات، والجسم الحي لا يعمل كمجرد مجموعة عرضية من الأجزاء مع مجموعة عرضية مماثلة من الصلات العرضية، ولكنه يعمل كوحدة، وتدار طاقات الجسم كلها لصالح الجسم كله، وبسيطرة ضابطة على جميع الأعضاء فإن كل عضو يقوم بوظيفته حسب منهجه الخاص

وليست كمية الطاقة فقط هي التي يعول عليها ولكنها الطاقة المناسبة وعملها المحدد الذي ينجز حيثما تدعو الحاجة إليه

ففي حالة ما إذا أصيب الجسم بجرح فإن عدداً لا يحصى من الكريات البيضاء يلم شعثه ويندفع إلى موضع الخطر لتلافي سوء نتائج ما حدث، وليست هذه بالطبع مسألة مصادفة، ولا تتكاثر هذه الكريات بدون تمييز في النظام والترتيب حتى يكون منها القدر الكافي في الموضع المعين فحسب، ولكن النشاط الكلي للجسم يتركز في نقطة الخطر لحصره، أما كيف ينتقل نشاط الجسم في مثل هذه الحال فإن ذلك يماثل في غموضه وتعقيده حالة النشاط الإشعاعي في فضاء الكون)

إننا نعرف أن النشاط الغدد المهمة مثل الغدد الدرقية أهميتها البالغة في حالة دثور وتجدد أجزاء الجسم المتعددة التي قد يكون بعضها بعيداً عن الغدد. ولكننا لا نعرف شيئاً عن انتقال هذا النشاط آلياً

وقد يكون إفراز عصارات الغدد داخلياً ومع ذلك فإنها تؤثر في النواحي المتعددة التي هي في حاجة إليها في كل مكان من أجزاء الجسم

نجد في الجسم الحي حينئذ مثالاً بل المثال الوحيد للعلاقة المشتركة - علاوة على المدى - بين الطاقة وهدفها

ص: 31

ففي الجسم الحي بناء وتجديد لأجزائه، وهما في خدمة الجسم كله.

ولو اعتبرنا الأمة كوحدة في مقابل جسم الفرد لوجدنا الطريقة واحدة في البناء والتجديد لحفظ كيان الأمة. والمجتمع هنا يكون حياة الأمة في مقابل حياة الفرد ولكن المبدأ واحد

والآن لنفرض أننا فهمنا الكون قائماً كوحدة بتعدد جزئياته التي يجب أن تكون مناسبة لنا لتعليل ما يمكننا فمه من أسرار الكون من المادة إلى العقل الخالق - يجب أن نفهم أن الكون تدب فيه الحياة والروح، وإنه ليس مجرد كتل مبعثرة من المادة، ولنفهم أنه كوحدة حية ليس معناه أن كل جزء في الكون عضو حي، وهذه هي مغالطة في التقسيم، ففي الجسم الحي الذي نعرفه توجد عناصر وتحولات كما يستعمل هذا التعبير في الاصطلاحات الطبيعة والكيميائية - وهما يمدان حياة السم مع سيطرة الضابط - ولكنهما غير عضوين

ومن الواضح أننا لو فهمنا الكون كوحدة فانه لا يمكن أن تكون هناك علاقات خارجية - العلاقات حينئذ يجب أن تكون داخلية - لأن الكون ليس له خارج - والعلاقة بين جزء وجزء مع الضابط هي في أجسامنا أو في المجرة النجيمية أو في السديم اللولبي سواء

ويمكننا أن نقرر أنه لا توجد طاقة مبددة في هذا الفراغ من الفضاء، كما يمكننا أن نعتبر النشاط الإشعاعي في الكون كدم الحياة له، وبسيطرة الضابط العام يدور الجميع.

يتبع

عثمان حلمي

ص: 32

‌عبد الرحمن عزام بك

لمن لا يعرفه من قرب

(بمناسبة تعيينه رئيساً للشؤون العربية بوزارة الخارجية،

وأميراً على ركب الحج المصري هذا العام)

للأستاذ عبد المنعم خلاف

(كتلة) دقيقة من الأعصاب! كلها نقاء وطهر، ليس فيها شر أصلا. عليها وجه دقيق الملامح في سماحة وجد وتواضع، فيه نفس عجيبة في هذا الزمان بل وفي كل زمان، تطل من عينين نافذتين فيهما ذكاء، وليس فيهما خبث الذكاء. . . وتتضح عبقريتها إذا نطقت مسترسلة هادئة واصلة إلى أغوار الحق. إذا سمعتها تتحدث سمعت منطقا مسلسلا مرتباً واضحاً يلقى في هدوء وقوة استدلال وبلاغة استيعاب وهدى بصيرة ملهمة، ومنطق طبع سليم من الالتواء والاهتمام بصغارات الحياة وصغائر الناس.

له عقل ذو قدرة عجيبة على تلخيص القضايا الكبرى المربكة وإيضاحها في تحديد دقيق.

بكرت رجولته وحساسيته بالمسئوليات الوطنية والقومية والمالية الكبرى فحمل من أعباء المجد وأوشحته ما لم يحمله أحد في مثل شبابه الأول، وظفر من تقدير من اتصل به من رجال السياسة والحرب في الشرق والغرب، وهو حدث ناشئ في باكورة الشباب، فأدار ثورة وأقام دولة، وأصلح بين أقوام مختلفين، وألف بينهم ووحدهم وهو فيهم غريب نزيل في الحدود الأولى من العقد الثالث من عمره.

عليه سكينة منزلة من الله في جميع الظروف. صابر دائما، باذل دائما، يبذل من نفسه وماله وشعاره قول محمد رسول الله:(إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) وهو قد وسع الناس بأخلاقه وماله معاً. فهو في بذل المال يحقق القول الشريف: (يعطي عطاء من لا يخشى الفقر). وما يبذله من النفس شيء كثير عظيم عميق يتصل بأصول الخير في الوجود. الخير السلبي والإيجابي.

نظيف اللسان والجسد. لم يقع عليه ظل شبهة، لا ينطق هذراً لا سخفاً ولا سباباً، ولا ينال أحداً في حضور أو غياب، ويغفر غفراناً واسعاً كل ذنب. يقدر ضعف النفوس البشرية

ص: 33

وينظر إليها نظر الملأ الأعلى سواء أكانت قريبة أم بعيدة في الجنس أو الدين والقومية.

حيي يستحي من الناس فينالون منه بحيائه ما يرهقه في بعض الأحيان. ومع ذلك لا يتململ، فهو كالنهر الكبير يأتي إليه كل وارد فلا يرده ولو كان كلباً. . . لأنه واسع طهور لا يتنجس. . . مجمع على حبه من جميع الأحزاب والأجناس والأديان فليس له فيما أظن عدو بالمعنى المعروف للناس. .

متواضع ليس لديه فروق مصطنعة في معاملة الناس، يملكه الفقير الضعيف المحدود ويأنس به.

زاهد حقيقي في دنيا الناس وزينتها، فلا يهتم بصغائر اللباس والرياش. وحظه من الدنيا حظ قليل لم يجد لديه من الوقت ما يتذوقه. .

حليم لا يثور ولا يؤذي عشيرة بجارحة، ولا يحب السيطرة والتحكم، مع ثقة بالنفس واعتزاز بالكرامة في عدم تبجح أو ادعاء أو تظاهر.

ليس به لهفة على شيء مهما كان. فهو دائماً هادئ الأعصاب، وإن كان كثير الآلام الاجتماعية، عميق الأحزان المقدسة في الدين والوطنية والقومية

الخير عنده واضح المسالك، فلا تأويل ولا عذر يصرفه عنه ويصد قلبه عن مقتضيات البر والإحسان. . كأن لكل قاصدته عليه حقا لازماً يلام إذا قصر في أدائه، وطالما عجبت لصبره على رجاوات الناس، فهو كنز من الصبر والاحتمال لا ينفذ، أو هو كالشجرة المثمرة المباحة القريبة الجني، لا ترد يداً عن قطاف. ما عرفه أحد من الناس إلا وأمسك بتلابيبه وعض على علائقه معه بالتواجد! فإن كان من أهل العلم وجد عنده علما وفقها بلباب الحياة وبصرا في شئونها وعلومها. وإن كان من أهل السياسة وجد لديه بصيرة ملهمة تنفذ إلى بواطن الأمور وتشير إلى مصادر الأحداث، وتضع يدها على ما غاب عن أكثر الأذهان، وإن كان من أهل السلوك والخلق وجد عنده فهماً له وتقديراً ورفعاً لشأنه وتشجيعاً واسع المدى. وإن كان من أهل الشر الذين لا يؤمنون بالخير وجد في شخصيته وسلوكه رداً ونقضاً بليغاً على دعواه يحمله على أن يرجع النظر كرتين فيما رأى لنفسه وما اتخذه من مسالك الشر.

إنه يرفع الحياة الإنسانية ويرسم المثل الأعلى أمام (الماديين) وأمثالهم حتى يتيقظو إلى أن

ص: 34

في الحياة روحاً من الخير هي أثمن وأعظم مما يملكون وما به يفتنون واليه وحده ينصرفون.

فهو لطيف النفس والجسم كالنسيم الرفيق الذي يدخل الرحمة على النفوس البائسة المغلقة. وبالإجمال لا حصر لوقائعه في المجد والخير والسياسة الرشيدة، ولذلك يستطيع كل من عرفه أن يذكر عنه قصة أو قصصاً تكفي لرفع نفس إلى العظمة والذكر الطيب الخالد.

وقد كافأه الله وجزاه بأن أراه الدنيا في الشرق والغرب فأوسع له في آفاق المعرفة والخبرة، وجمع عليه قلوب من عرفه من رجالات الشرق والغرب. وكثير ما هم!

ولن أنسى قول المرحوم (مستر ألبرت فيش) الوزير المفوض الأسبق للولايات المتحدة في مصر قبيل سفره من مصر إلى منصبه في أسبانيا بيوم واحد حينما زاره ليودعه في مكتبه برياسة القوات المرابطة منذ ثلاثة أعوام تقريباً: (ما كنت لأسافر من مصر قبل أن أودع اثنين: جلالة الملك فاروق وأنت)

فحسب عبد الرحمن بك شرفا أن يذكر هذا الذكر بجوار اسم (الفاروق) على لسان رجل أحب مصر والشرق العربي وفهم روحهما وعرف من يمثلها خير تمثيل.

هذا النموذج الإنساني الرفيع الذي عرفته من قرب معرفة جيدة، أحببت أن أرسم له صورة عاجلة لمناسبة تعيينه عميداً للشئون العربية بوزارة الخارجية وأميراً على ركب الحج هذا العام، أضعها أمام الشباب الذي اختلطت عليه نماذج الخير والمجد، ونماذج الشر والضعة. وإن فيه لقدوة صالحة لمن يريد أن يقتدي.

عبد المنعم خلاف

ص: 35

‌الكتب

كتاب المستقصي للزمخشري

محمود جاد الله الزمخشري المتوفى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة إمام من أئمة اللغة له تصانيف فائقة في الحديث والتفسير والنحو واللغة والمعاني، وغيرها منها:(تفسير الكشاف) و (أساس البلاغة) و (المفصل في النحو) وهذه أشهر كتبه وأكثرها تداولاً، وله تصانيف غير هذه لا يعرف شيء عنها، منها (المستقصي في الأمثال العربية)، ولندرة هذا الكتاب أحببت أن أقدم شيئاً عنه على صفحات (الرسالة) العزيزة

لم يذكر صاحب (معجم المطبوعات العربية والمعربة) هذا الكتاب في

حديثه عن كتب الزمخشري المطبوعة، وهذا المعجم شامل لأسماء

الكتب المطبوعة في الأقطار الشرقية والغربية من يوم ظهور الطباعة

إلى نهاية سنة 1919. على أن المرحوم جرجي زيدان يذكر في كتابه

(تاريخ آداب اللغة العربية) شيئاً عنه، فيقول: (إن منه نسخة في

المكتبة الخديوية في 178 صفحة، ومنه في مكاتب أوربا، والظاهر أنه

غير مطبوع. . .)

وأقول إن النسخة التي اطلعت عليها تقع في 478 صفحة ولست أعتقد أن في الشرق نسخة أكمل منها

يقول المؤلف في مقدمة الكتاب إنه قد خرج هذه الأمثال (في واحد وستين باباً ينطق كل باب منها بذكر ما يشتمل عليه أولاً، ويفصح عن الاستشهاد وسياقه المراد آخراً، وما منها إلا ما يتعلق في اللغة بسبب، ويضرب في الاستعارات والتشبيهات بسهم). وقد عقد الباب الأول منها للكلام فيما يضاف إلى اسم الله تعالى، والباب الثاني فيما يضاف إلى الأنبياء، والباب الثالث فيما يضاف إلى الملائكة والجن، والباب الرابع فيما يضاف إلى القرون الأولى، والباب الخامس فيما يضاف إلى الصحابة والتابعين؛ ولا أريد أن أعدد جميع الأبواب، وإنما أريد أن أذكر نماذج للمواضيع التي طرقها من غير أن ألتزم في ذلك

ص: 36

تسلسل الأبواب. فقد ذكر في الأبواب الأُخرى ما يضاف إلى الشعراء، وما يضاف إلى البلدان والأماكن، وما يضاف إلى الحيوان والطير، ثم ما يضاف إلى النيران والشجر والنبات والطعام والشراب والسلاح والليالي والأوقات والأزمان، ثم الأدب وما يتعلق به، ثم في فنون مختلفة مرتبة على حروف الهجاء. . .

يتكلم في الباب الأول فيما يضاف إلى اسم الله تعالى فيبين لماذا يقال: أهل الله، وبيت الله، ورسول الله، وكتاب الله، وخليل الله، وأرض الله، وسيف الله، ونهر الله إلى آخر هذه الإضافات. ثم يمضي في شرحها فيقول في قولهم أهل الله مثلاً:(إنه كان يقال لقريش في الجاهلية أهل الله لما تميزوا به عن سائر العرب في المحاسن والفضائل والمكارم التي هي أكثر من أن تحصر؛ فمنها: مجاورتهم لبيت الله تعالى، وإيثارهم سكنى حرمه على جميع بلاد الله تعالى وصبرهم على أذى مكة وخشونة العيش بها، ومنها ما تفردوا به من الإيلاف والرفادة والسقاية والوفادة والرياسة. .) وهكذا يمضي في بيان فضائل قريش وتعداد مناقبها. ثم ينتقل إلى الكلام في بيت الله وفضائله ورسول الله (ص) وفضائله ثم ينتقل إلى الكلام في سيف الله (خالد بن الوليد). ويقول مثلاً عن نهر الله: (. . . من أمثال العامة والخاصة إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وإذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى، ونهر معقل بالبصرة ونهر عيسى ببغداد وعليهما أكثر الضياع الفاخرة والبساتين النزهة. وإنما يريدون بنهر الله النيل والأمطار فإنها تغلب سائر المياه والانهار، ولا أعرف نهراً مخصوصاً بهذه الإضافة سواهما)

وينتقل بعد هذا إلى الكلام في إضافات أُخرى مثل حسن يوسف، وبلاء أيوب، وصدق أبي ذر، وحلم الأحنف، وندامة الكسعي؛ فيذكر الحوادث والنوادر التي كانت سبباً في هذه الإضافات وهو في كلامه هذا أقرب ما يكون إلى المؤرخ. على أنه حين يتحدث عن الشعراء وما يضاف إليهم يجمع الأدب إلى التاريخ، وقد ذكر الشيء الكثير مما يضاف إلى الشعراء مثل: حلة امرئ القيس، وحلم لبيد، وحوليات زهير، وصحيفة المتلمس ولسان حسان، وسيف الفرزدق، وغزل ابن أبي ربيعة. . الخ، ثم يتحدث عن حلة امرئ القيس فيقول:(يضرب مثلا للشيء الحسن يكون له اثر قبيح)، ثم يذكر قصة امرئ القيس ووفوده على قيصر. ويقول عن لسان حسان (يضرب به المثل في الذلاقة والطول والحدة) ثم يذكر

ص: 37

طرفاً في أخبار حسان ويقول عن سيف الفرزدق (يضرب مثلا للسيف الكليل بيد الجبان)، ويسوق حادثاً وقع لجرير والفرزدق كان سبباً في هذا المثل. وقد كسر أبواب الكتاب الأُخرى على ذكر مختلف الإضافات ولا أريد أن أمضي في الحديث عنها لأن فيما ذكرت ما يكفي لإعطاء فكرة عن الكتاب وما فيه ولست إلى غير هذا قصدت.

(البصرة)

عبد الحميد صالح البكر

مليم الأكبر

(جماعة النشر للجامعيين)

الأستاذ عادل كامل من أدباء الشباب المصريين الذين لهم في عالم القصة قدر ملحوظ، وقد فازت قصته (ملك من شعاع) بالجائزة الممتازة في مسابقة وزارة المعارف، ولكن قصة (مليم الأكبر) لم تفز بشيء من ذلك، مع أنها في نظرنا خير من قصته الفائزة، وكان ظريفاً من جماعة النشر للجامعيين أن تختار هذه القصة بالذات لتقدمها لجمهورها من القراء لتعطيهم مثلا من أمثلة التحكيم الأدبي في مصر، وخصوصاً ذلك التحكيم الرسمي العجيب. . . وقصة مليم الأكبر تشمل مقدمة ضخمة في 128 صحيفة هي من أثمن المقدمات الأدبية التي تذكرنا بمقدمات برنرد شو الممتعة. ولابد من عودة إلى القصة في فصل بذاته إن شاء الله.

وجيدة

(جماعة نشر الثقافة)

لست أدري لماذا يؤثر الأستاذ شعبان فهمي الكتابة باللغة الدارجة المصرية وهو يداول الحوار بين أبطاله، ولا سيما في مثل قصته الجميلة (وجيدة). . . لا أنكر أنني كنت من أنصار هذا الرأي قبل أن أستبين خطله، فاللغة الدارجة في رأيي هي أداة للتحادث مؤقتة، وسيقضي عليها انتشار التعليم والصحافة الراقية المهذبة. . . ثم نحن ليست لنا لهجة دارجة واحدة، بل قد تعدو لهجاتنا الدارجة العشرين أو الثلاثين. . . هذا غير لهجات

ص: 38

الشعوب العربية الأُخرى. . . فإذا كان لدينا هذا اللسان العربي المبين الجامع الذي يخلصنا في طول البلاد العربية وعرضها، من هذه اللكنات العجيبة، فلماذا نهمله وهو خير لنا كل الخير؟ ثم لا يفوتن الأخ الفاضل أنه بإيثاره اللهجة الدارجة القاهرية يحصر مجهوده الأدبي في محيط ضيق وقراء معدودين، فلا أظن مثلاً أن قارئاً عراقياً أو شامياً أو جزائرياً يرغب في قراءة قصة طويلة كل حوارها بهذه اللهجة الدارجة التي لا يفهمها، ونحن كمصدرين للأدب إلى إخواننا العرب، يجب أن نلقي بالنا إلى تيسير الأداة التي نخاطبهم بها

وفي القصة بعض الآراء الجريئة التي يستجيدها بعض القراء كما يفرق منها بعضهم الآخر.

(د. خ)

القاهرة - من المعز إلى الفاروق

(للبكباشي عبد الرحمن زكي)

مؤلف هذا الكتاب من رجال السيف؛ إلا أن الله وهب له مزية البحث التاريخي؛ فوقف عليه كثيراً من وقته؛ ودرس حتى حصل على دبلوم في الآثار من جامعة فؤاد الأول. ولا أطيل الثناء على هذا الصديق الوفي، فإن أبحاثه ورسائله النفيسة الممتعة تغنيه عن كل ثناء. فهو صاحب كتاب (الجيش المصري في عهد محمد علي الكبير) وهو سفر تاريخي قيم؛ وصاحب رسائل (معارك مصرية في القرن التاسع عشر)، و (الصحراء المصرية والحرب)، و (القائد إبراهيم)، و (معارك مصرية في القرن العشرين)، و (موقعة كادش بين مصر وختيا) مشتركا مع الأستاذ محمد فاضل يوسف. و (حروب مصر القديمة) مشتركا مع اليوزباشي محمد حسين عواد. وغيرها.

وفي الكتاب أبواب عن قاهرة المعز، وقاهرة صلاح الدين، وقاهرة دولتي المماليك، وقاهرة الباشوات والبكوات. وقاهرة محمد علي باشا، وقاهرة الخديو إسماعيل وقاهرة المغفور له الملك فؤاد وقاهرة الفاروق

وفي خلال هذه الأبواب فصول طريفة عن قصور القاهرة وأخطاطها ومساجدها وأسواقها ومشاهدها وحفلاتها ودور كتبها ومدارسها وكل أثر للحياة فيها. والكتاب بحق يعد تتمة

ص: 39

لخطط علي باشا مبارك على فرق ما بين الكتابين من الإجمال والتفصيل

إن مراجع المؤلف التي أثبتها في آخر الكتاب تدل على اطلاع واسع؛ وقد استطاع صديقنا أن يصور لنا القاهرة في ألف سنة في (فيلم) تاريخي جميل

وإذا كانت العواصم حبيبة إلى نفوس الأهل، فإن هذا الكتاب جدير أن يكون حبيباً إلى نفوس القراء.

محمد عبد الغني حسن

ص: 40