المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 596 - بتاريخ: 04 - 12 - 1944 - مجلة الرسالة - جـ ٥٩٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 596

- بتاريخ: 04 - 12 - 1944

ص: -1

‌شعب مصر

للدكتور محمد مندور

لاقيت في هذا الأسبوع ثلاثة من مفكرينا: أحدهم وجهاً لوجه، وبيدي مقال أستعرض فيه ما نشكوه اليوم من مظاهر الانهيار الأخلاقي، وألتمس علاجاً لهذا الانهيار في إصلاح نظمنا السياسية والاجتماعية، علما مني بأن التربية وبث مبادئ الأخلاق في النفوس لا تكفي وحدها لتقويم النقص. ولقد أخذ محدثي على المقال ما فيه من قسوة، وعنده إنه من الخطر أن نجسم للشعب مواضع ضعفه، لأن ذلك التجسيم قد يزيده ضعفاً، وأنه لأجدى على هذه الأمة أن نحاول رد الثقة إليها، حتى ولو لم تكن تلك الثقة على أساس سليم، وأما فضح العيوب، فذلك ما لا ينبغي. وأضاف، وهو من ذوي الأمر، إنه كثيراً ما يتجاهل مواضع الضعف الأخلاقي فيمن يعملون معه، ويردهم إلى الأخلاق، وكأنه يستمدها من نفوسهم ذاتها، فإذا نقل إليه أحدهم قيلة سوء، فسرها على إنها قيلة خير، محاولاً حمله على أن يكون إلى الخير قصده، وعنده أن ذلك أجدى في معالجة النفوس من هتك ضعفها وأخذها بالقسوة

ساقني هذا الحديث إلى النظر في الحكم على الشعب المصري ووجوب مهاجمته بالحقائق أو سترها عنه، واتفق أن قرأت في هذا الأسبوع كتابين لمؤرخين من رجالنا، فلاقيتهما على صفحات ما كتبا، ولمست عند كل منهما اتجاهاً في الحكم على الشعب المصري يغاير اتجاه الآخر. فأما أولهما، فقد استلفت نظري حكمه في بعض مواقفه التاريخية، حكماً لا يخلو من صرامة، حتى لقد وقع في نفسي موقع السيف، وخشيت أن يكون صحيحاً، ولأضرب لذلك مثلين: الأول تفسيره لاستقرار الحكم وازدهار المدنية أيام الظاهر بيبرس وغيره من المماليك، برغم ما كان في حكمهم من شدة وعسف بقوله تفسيراً لخضوع المصريين وعدم ثورتهم للحرية:(إن ثمن الحرية - كما يقول الإنجليز - هو الكدح والدأب والمراقبة، ولما كانوا (أي المصريون) يكرهون النصب أكثر مما يحبون الحرية، فقد عاشوا يستبد بأمرهم كل ذي همة وعزيمة)؛ وفي قوله:(إنهم يكرهون النصب أكثر مما يحبون الحرية)، ما يملأ النفس رهبة، فتود لو لم يكن حقيقة. وفي موضع آخر يفسر نفس الكاتب سخط الشعب المصري على الفرنسيين وثورتهم ضدهم أيام الحملة الفرنسية بمجرد

ص: 1

حرصهم على ما ألفوه. . . فقد رأوهم يقلقون عاداتهم ويزعزعون أساليب حياتهم الموروثة، فيكرهونهم على نوع من الحياة لم يألفوه، في مقاومة الأمراض، وتنظيف الشوارع، وما إلى ذلك، فثاروا بهم، وهذه أيضاً قسوة في الحكم، لأن الكاتب لم يشأ أن ينسب إليهم ما نستشعره نحن اليوم من عاطفة وطنية، أو تعلق بحرية وذود عن استقلال. وهذا منهج قد تمليه الروح العلمية التي تلزم المؤرخ بأن يحكم بعقلية من يكتب عنهم، لا بعقليته هو، ولكنني مع ذلك أخشى أن يكون مؤرخنا قد أسرف في القسوة وأسائل نفسي: هل من الحكمة، بل هل من العدل، أن نحكم على الشعب المصري أحكاماً كهذه؟ ونحن في مجال التاريخ نحرص على الحقيقة أكبر الحرص، ولكن ما هي الحقيقة التاريخية؟ وفي كل تاريخ نوعان من الحقائق: وقائع، وتفسير لتلك الوقائع؛ فأما الأولى، فمن الواجب الوصول إليها بجمع الوثائق ونقدها، وعلى العكس من ذلك تفسير تلك الوقائع، فهذا ما لا تحمله الوثائق، وإنما يصل إليه المؤرخ باستنتاجه الخاص، وهنا يكون تفاوت المؤرخين؛ وتدخل شخصياتهم بحيث نستطيع أن نناقش أحكامهم دون أن يكون في مناقشاتنا خروج على المنهج العلمي السليم

وباستطاعتنا أن نناقش المؤرخ السابق بآراء الكاتب الآخر الذي لاقيناه يتحدث عن زعيم مصري تركزت فيه يوماً نزعات شعبنا، وهو السيد عمر مكرم. فمؤرخنا شديد الحماسة لتطلع هذا الشعب إلى الحرية منذ أوائل القرن الثامن عشر، وهو يرى أن ظهور السيد عمر مكرم كان استمراراً وخاتمة لمحاولات عديدة قام بها زعماء الشعب المصري الصميم للمساهمة في الحكم، وحمل الباب العالي على تعيين من يرتضونه والياً على مصر. وعنده أن سنة 1807 هي التي وضعت حداً لتلك النزعة الشعبية، وذلك لأن محمد علي عاهل مصر الأكبر، وإن كان قد وصل إلى الحكم بموجة شعبية قوية قادها السيد عمر مكرم، إلا أن ضرورة الحكم، وحرص هذا المصلح الكبير على أن يحث الخطى في النهوض بالبلاد ورفع مستوى الحضارة بها، قد اضطراه لسوء الحظ إلى أن يرفض عرض السيد عمر مكرم في تلك السنة مساهمته هو والشعب المصري في عونه على رد الإنجليز عن رشيد. والرأي عند مؤرخنا أن هذا الرفض قد أثر في تربية الشعب السياسية، وباعد بينه وبين الاهتمام بأمور الدولة والمشاركة فيها نحواً من خمسة وسبعين عاماً، أي من سنة 1807

ص: 2

إلى ثورة عرابي، وهنا أيضاً لا ندري إلى أي حد قد بلغ عطف المؤلف على الشعب المصري، والى أي مدى قادته الرغبة في تمجيده؟!

ويقف المرء حائراً. . . أي وجهة يوليها في حديثه عن هذا الشعب الذي نبغي كلنا خيره؟ هل نمس في رفق عيوبه، ونواريها عنه إلا بمقدار، ليظل محتفظاً بثقته بنفسه؟ أم نشق عنها الحجب، ونلقي الضوء كاملاً لعله يثيب؟ وإذا عالجنا ماضيه، هل نقسو في الحكم، أم نلين؟ وهل نحابيه، أم نزجره؟

إذا لم يكن بد من أن نفصل في هذه الاتجاهات العويصة، وجب - فيما أظن - أن نفرق بين الحاضر والماضي: فأما الحاضر، فالحكمة في أن نحدد فيه البصر حتى لا يأخذنا غرور مميت. وباستطاعتنا أن نتجنب الخطر بالا نقف عند تصوير العيوب، بل نلتمس لها العلاج. وليس من شك في أنك لن تستطيع حمل النفوس على قبول جديد وتغيير قديم ما لم تبصرهم بما في هذا القديم من عيب. والأمم لا يمكن أن ترقى ما لم يشتد بها النقد، وفيم الرغبة في التغيير إذا لم يؤمن الناس بضرورته؟

وأما عن الماضي، فلعلنا نكون أقرب إلى الروح العلمية الصحيحة كلما كانت نظرتنا أكثر عمقاً وأكبر اتساعاً. وآفة الأحكام في تفسير الظواهر كثيراً ما تأتي من التعميم، فالمصريون مثلاً إذا كانوا يكرهون النصب ويؤثرون السلامة أكثر مما يحبون الحرية، فإن ذلك لم يمنعهم عندما يشتد بهم الاستبداد من أن يغامروا بسلامتهم مؤثرين الحرية على كراهة النصب. وفي حركاتهم الثورية أيام الحملة الفرنسية وعرابي ودنشواي وسنة 1919 أدلة على صدق ذلك. وهم إذا كانوا بفطرتهم محافظين يكرهون الخروج على ما ألفوه فيثورون، إلا إنه قد لا يخلو من ظلم أن نرد حركتهم كلها إلى هذا الباعث، فهم إذا كانوا لم يتحركوا لفكرة الاستقلال الوطني بحكم تبعيتهم المتصلة للدولة العلية وعدم نشوء فكرة الانفصال عندهم إذ ذاك، إلا أن الشعور الديني مثلاً كان لا ريب من الحوافز التي يجب أن تضاف إلى نزوعهم إلى المحافظة على ما ألفوه. وها هو ذا الجبرتي نفسه يحمد الله أن سخر طائفة من النصارى (الإنجليز) لطرد طائفة أخرى (الفرنسيين) من أرض الوطن، وبذلك يتحقق - فيما يقول - قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). وهل من شك في أن الدافع الديني كان من محركات سليمان الحلبي مثلاً في قتله

ص: 3

لكليبر. ثم هل من الحق أو من الحكمة أن نجعل من الشعور الوطني عاطفة تنهض بذاتها منفصلة عن مصالح الأفراد الذين يكونون الوطن؟ ونحن ممن يعتقدون أن الوطنية ليست شعوراً بذاته، وإنما هي مجموعة من المشاعر يستند الكثير منها إلى مصالح الناس ووسائل حياتهم، ولهذا لن نمل تكرار القول بأن الوطنية الحقة لن تملأ نفوس المواطنين إلا إذا أحس كل منهم إنه عزيز في وطنه، ميسور الرزق في كرامة، متمتع بحياة تليق بالإنسان، وإنما يظهر انفصال الشعور الوطني عن غيره من المشاعر والمصالح عندما يحدث التعارض، وهنا يكون للمؤرخ الحق في أن يقسو في أحكامه أو يلين، وأما عندما تتساوق مصالح الناس ومصالح الوطن، فمن الظلم أن يأتي المؤرخ فيفسر الحركات الوطنية بالدافع الأول دون الثاني

ونجمل الرأي بأن الخير هو دائما في اتساع النظرة سواء نظرنا في الحاضر أو في الماضي، فأي أمة لا يخلو ماضيها أو حاضرها من مواضع ضعف ومواضع قوة؟ ومن الواجب إبراز الجميع ليكون في إظهار الضعف حافز للكمال، وفي إظهار القوة داع للثقة

محمد مندور

ص: 4

‌غرام يوم الثلاثاء

للدكتور زكي مبارك

أخي الأستاذ الزيات:

إليك أقدم تحية الشوق، ثم أذكر أني أكتب هذه الكلمة، وهي مقدمة القصيدة الآتية، بعد المحادثة التليفونية التي دارت بيني وبينك منذ لحظات في صباح هذا اليوم، وهو يوم عرفات، أعاده الله عليّ وعليك بخير وعافية!

وقد اتفقنا على نشر هذه القصيدة بالرسالة في العدد المقبل، لأستريح منها وتستريح مني، فلو بقيت بين يدي أياماً أُخر لقتلتني، لأنها تقهرني على الغناء بعد نصف الليل، وهو أصلح الأوقات للغناء، ولكنه يكدَّر بمحادثات تليفونية مزعجة، فقد يحلو لكل سامر أن يسأل عني بعد نصف الليل، وكذلك الحال مع السامرات، فهنّ يزعجنني بلا ترفق ولا إشفاق

أنا اعرف أن قرائي يحبونني، لأن أدبي يقوم على الصدق، ولكني أرجوهم أن يترفقوا فلا يسألوا عني بعد نصف الليل

عفا الله وصفح عن أولئك الهاتفات بعد نصف الليل!

أترك هذا وأحدثك عن تاريخ هذه القصيدة، فلها تاريخ وتواريخ

هذه القصيدة من وحي روح غالية، هي الروح التي تلقيت عنها الدرس الممتع المشبع في شرح نظرية وحدة الوجود

ما أكرم دمعي وما أسخاه حين أسمع صوتها الجميل!

أترك هذا أيضاً وأحدثك عن التاريخ الجديد لهذا القصيد:

رأى صديقٌ عزيز أن يغنيه الأستاذ محمد عبد الوهاب، فقابلت صديقي عبد الوهاب في مكتبه بشارع توفيق

من يصدِّق أن هذا الباكي الشاكي رجل أعمال؟!

قدمت إليه القصيدة ومعنا الأستاذ عبد الحميد عبد الحق، الذي وضع قانون اللغة العربية، فنظر في القصيدة لحظات، ثم اقترح تعديلات، فما تلك التعديلات؟

إنه اقترح أن أنوّع الأوزان ليلعب كما ألعب (وذلك نص كلامه بالحرف)

وكان الوجد في ثورته العاتية، فرأيت أن أنوّع الأوزان، ليلعب كما ألعب، وما كنت يوماً

ص: 5

من اللاعبين!

ثم خطر في البال أن أغني قصيدتي في محطة الإذاعة بصوتي، وهو في رخامة صوت الموسيقار محمد عبد الوهاب، ولكنَّ أبنائي اعترضوا، فما يجوز عندهم أن يكون أبوهم من المغنين، وهو يملك أكبر مجموعة من الألقاب العلمية

قلت لأبنائي: ألا تسمعونني أغني من حين إلى حين بقوة تنقل صوتي من الدور الثاني إلى أسماعكم بالدور الأول؟

قالوا: نعم

قلت: أنا أغني أشعاري حين يجود بها الوحي، فما الذي يمنع من تقديم صورة ناطقة يعرف بها الجمهور كيف أنظم أشعاري؟

قالوا: وأين الملحّن؟

قلت: أنا الملحّن، فالشعر شعري، وأنا أعرف كيف ألحنه بالصورة التي تموجت بها خفقات قلبي

لم يكن من السهل أن أقنع أبنائي، وهل أقنعت نفسي حتى أقنع أبنائي؟

إن جاز أن أغني هذه القصيدة في محطة الإذاعة، فيجب أن أكون في حال تشابه حالي في الأوقات التي نظمت فيها هذه القصيدة

وهذا غير ممكن، ففي المذيعين فريقٌ من تلاميذي، ولم يرني أحدٌ من تلاميذي في لحظة بكاء

نظمت هذه القصيدة وأنا أبكي من الفرح، وأصرخ من الفرح، فما أنعم الله على شاعر بمثل ما أنعم علي بإقبال تلك الروح

من حق الحياة أن تصنع بأبنائها ما تريد، فتسعدهم أو تشقيهم كما تريد، ولكنني فوق الحياة، لأنني العاشق المسيطر على تلك الروح

ثم ماذا؟

ثم أخبر صديقي صاحب (الرسالة) باعتراض الصديق محمد عبد الوهاب، إنه يقترح ترك المكان والزمان، فلا أقول (مصر الجديدة)، ولا أقول (يوم الثلاثاء)

أنا أوافق على اقتراح هذا الصديق العزيز، بشريطة واحدة هي أن يسمح بتزوير

ص: 6

العواطف، والغرام الذي أوحى هذه القصيدة مكانه في مصر الجديدة، وزمانه في أيام الثلاثاء

إن قراء (الرسالة) يذكرون أنني أول كاتب وجه الأنظار إلى الفتن التي تنثر نثراً فنياً في شارع فؤاد

سأغني بجمال بلادي، سأغني بجمالها إلى آخر الزمان

أما بعد، فقد اتفقت مع الأستاذ الزيات على إيداع هذه القصيدة (بمطبعة الرسالة) في يوم الأربعاء، لأستريح منها وتستريح مني، فما لي قدرة على التفكير في مصر الجديدة أيام الثلاثاء، ولا أنا قادر على تصور غرامي بمصر الجديدة أيام الثلاثاء، ولا أنا مستطيع نحر قلبي في يوم عرفات

أنا بخير وعافية، فلي مع هذه الروح في ليلة عيد القمر وميعاد وسأغني بحضرتها القصيدة الآتية فأقول:

يا ليل، يا ليلى، يا ليل

يا ليل، يا ليلى، يا ليل

يا ليل، يا ليلى، يا ليل

وهنا أذكر أن الأستاذ عبد الوهاب اعترض على هذه الزفرة المحرقة:

يا ليل، يا ليلى، يا ليل

وقال: سأترك هذه الكلمات عند الغناء

فقلت: ولكني كنت أهتف بهذه الكلمات عند كل فاصلة من فواصل هذا القصيد، فتأمل لحظة ثم قال: هي كلمات غير مفهومة، ولكنها (شمهورش)، وللجن وحيٌ يضلل الشعراء!

وأردت أن آخذ القصيدة لأردها إليه في حدود ما اقترح، ولكنه قال: اترك لي هذه النسخة، وعدّل النسخة التي عندك، فستكون لي معاودات أصل فيها إلى سريرة قلبك في اللحظات التي نظمت فيها ذلك القصيد

تاريخ لطيف

الصفحات الماضية كتبت بالأمس، وهو يوم عرفات، والصفحات الآتية أكتبها في مساء هذا اليوم، وهو يوم العيد، فما الذي وقع في صباح هذا اليوم؟

ص: 7

مضيت إلى قصر جلالة الملك لأقيد اسمي في دفتر التشريفات، وتلك فرصة ذهبية أرى فيها أصدقاء لا يتسع الوقت للسؤال عنهم في يوم العيد

وراعني أن أرى رجلاً يجذب يدي بعنف وهو يقول: قيد اسمك وتعال معي!

والتفتُّ فإذا هو الأستاذ وهيب دوس الذي تحدثت عنه في مجلة (الرسالة) مرات، ففرحت بلقائه وصحبته إلى حيث يريد، وشاء كرمه أن ينقلني بسيارته إلى سنتريس، فكانت النتيجة أن يصحبني إلى حيث أريد

وفي الطريق سألني عما يشغلني من الشؤون الأدبية فقلت: إني مشغول بنظم قصيدة فصيحة على وزن الموَّال

- وما الموجب لذلك؟

- الموجب واضح في نفسي، وهو أن وزن الموال وزنٌ قديم عرفه المصريون قبل الإسلام بأزمان وأزمان، ولهذا يغنُّونه بسهولة عجيبة، تشبه السهولة التي يغني بها أهل الشام والعراق قصائد العرب القدماء

- وإذن؟

- وإذن يجب أن ننظم الأغاني باللغة الفصيحة نظما تأنس إليه الموسيقى المصرية، فنجمع بين المزيتين، ونتقي لذعات الأستاذ سليمان الصفواني

- ومن هو الصفواني؟

- هو صديق عراقي عيّرني في مجلة بغدادية بأننا ندخل (لم) على الفعل الماضي فنقول:

(في البحر لم فتكم في البر فتوني)

وقد أجبت بأن (لم) تجعل المضارع ماضياً، فدخولها على الماضي توكيد، والجواب صحيح، ولكن ما الذي كان يمنع من أن يقول صديقنا عبد الوهاب:

(في البحر ما فتكم. . .)

- وما خصائص هذه القصيدة؟

- لها خصيصة أساسية، وهي التحرر من مراعاة ما يسمى في علم العروض بالإبطاء، فاللفظة تقبل بكل ترحيب حين يوجبها المعنى، فلن ألتزم ما التزمته في قصيدتي عن الإسكندرية وقصيدتي عن مصر الجديدة، وقصيدتي عن بغداد، فكلمة (الساقي) كررتها

ص: 8

عامداً متعمداً لأنها مطلوبة في القطعة الآتية:

شربتُ دمعي فلا كأسٌ ولا ساقي

مضى نديمي وخلاّني لأشواقي

يا ساقِيَ الراح هات الدمعَ يا ساقي

دمعي هو الراح فاسقِنيه يا ساقي

يا ساقيَ الدمع بعد الراح يا ساقي

دمعي دمٌ فترفَّق أيها الساقي

- إذن نرجع

- إلى أين؟

- إلى القاهرة، وإلى دار أم كلثوم، فهي القادرة على غناء هذا القصيد

- نروح إسكندرية!

- ماذا تقول؟

- كل طريق على غير هُدىً هو (نروح إسكندرية) كالذي وقع في فلم (يحيا الحب)

- لا أفهم ما تقول

- أنا أهديت هذه القصيدة إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب

- وأنا سأهديها إلى الآنسة أم كلثوم بإذنٍ صريح من الأستاذ محمد عبد الوهاب

رجعنا إلى القاهرة، فما لقينا أم كلثوم ولا عبد الوهاب، فقد صمت التليفون هنا وهناك، وأراد الأستاذ أن يدعوني للغداء فاعتذرت، برغم ما سمعت عن فخامة المآدب التي يقيمها الأستاذ وهيب دوس

أنا لا أشكو إلا من جوع روحي

هل أنشر في هذا العدد من الرسالة (غرام يوم الثلاثاء)؟

الموعد في العدد المقبل، وأنه لقريب

زكي مبارك

ص: 9

‌كتابة العربية بالحروف اللاتينية

للدكتور داود الجلبي الموصلي

في المجلات والجرائد العربية ضجة في هذه الأيام حول إصلاح الحروف العربية أثارها اقتراح معالي عبد العزيز فهمي باشا لتيسير كتابة العربية باستعمال الحروف اللاتينية. قام كثير من الكتاب يؤيدون صعوبة الخط العربي ونقائصه ولكنهم يحجمون عن التوصية باستعمال الحروف اللاتينية ذاهبين مذاهب شتى كلها خاطئة فمنهم من يتوهم أن الحروف اللاتينيو تخل بالدين، ومنهم من يعتقد أنها تهدم القومية وتضيع معها اللغة، ومنهم من يرجح التمسك بالحروف العربية مع الاعتراف بنقائصها وصعوبة التعلم بها والتحريف والتصحيف اللذين ينشآن عنها، يرجحون بقاءها لا لسبب إلا لكونها قديمة. فهذه أوهام لا ظل لها من الحقيقة. واقترح بعضهم إبقاء الحروف العربية مع شيء من التعديل ولم يأتوا بشيء تطمئن إليه النفس. ومن الغريب أن أحدهم اقترح إلحاق خطيطات برؤوس الحروف للدلالة على الحركات، ولكنه لما لم يطمئن هو نفسه إلى اقتراحه هذا اضطر إلى أن يوصي باستعمال هذه الإشارات في المطابع فقط وإبقاء الخط باليد على ما هو عليه.

لقد لاحظت أن جميع من كتب عن الكتابة العربية ذكر من نقائصها أولاً اختلاف أشكالها حسب وقوعها في أول الكلمة أو وسطها أو نهايتها وحسب انفصالها أو اتصالها بما قبلها وبما بعدها، وثانياً خلوها من حروف الحركة. ونسوا أو تناسوا تشابه كثير من حروفنا مع بعضها وعدم تفريقها إلا بالنقط كالباء والتاء والثاء والنون والياء، وكالجيم والحاء والخاء، وكالدال والذال، وكالراء وكالزاي، وكالسين والشين، وكالصاد والضاد، وكالعين والغين، والفاء والقاف مع تشابه هذين الأخيرين مع العين والغين في أوساط الكلمات إن هذا التشابه في الحروف أوجب، منذ وجدت الحروف العربية، ولا يزال يوجب أتعاباً جمة لكتّاب العربية وأدبائها بسبب التصحيف الذي ينشأ عنه. إن الذين يعانون تدقيق وإصلاح الكتب لتهيئتها للطبع يدركون أكثر من غيرهم الصعوبة الناجمة عن تشابه الحروف هذا وأستطيع القول إن جانباً من علم القراءات ما كان يكون له وجود لولا هذا التشابه في الحروف. وكذلك قل عن الاختلافات في رواية وضبط بعض الأحاديث الشريفة وفي قراءة أسماء الأعلام وغيرها. إن زلة القلم قليلاً تجعل النقطة نقطتين، وتقصيره قليلاً يجعل النقطتين

ص: 10

نقطةً. لا ننتظر اتقاناً وضبطاً في قراءتنا وكتابتنا ولا سهولةً في تعلمها ما لم نطرح هذه الحروف ونستعمل الحروف اللاتينية التي لا غنى لنا عن تعلمها وإن أبقينا على حروفنا لاحتياجنا إلى تعلم ألسنة الغربيين والاقتباس من علومهم ومعارفهم. فباتخاذنا حروفهم نكون قد وفرنا على أنفسنا تعلم نوعين من الحروف

وخلاصة القول إني أؤيد معالي عبد العزيز فهمي باشا في فكرة استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، الفكرة التي بعثت على يده من جديد بعد أن كنت أول من نادى بها منذ 37 سنة. فإني كنت قد بثثت هذه الفكرة في استنبول وطبعت فيها رسالة بالتركية أسميتها (إصلاح حروفه دائر) أوضحت فيها بإسهاب مصاعب التعلم والقراءة والكتابة بالحروف العربية والتصحيف والتحريف اللذين ينشآن من استعمالها وحثثت فيها الترك والعرب والإيرانيين على استعمال الحروف اللاتينية عوضها. وكان تاريخ طبع الرسالة المذكورة سنة 1326 هجرية، أي قبل أن تستعمل الترك الحروف اللاتينية في كتاباتهم بـ 18 سنة. وكانت بعض الجرائد المصرية قد تناقلت خبر اقتراحي ورسالتي في حينه. ثم كنت قد دافعت عن رأيي هذا في مقالتين نشرتهما إلى جريدة العراق البغدادية سنة 1928 وأتمنى الآن أن تروج هذه الفكرة فتقوم مصر وسوريا والعراق باستعمال الحروف اللاتينية فتقتدي بها سائر الأقطار العربية. فأهنئ معالي الباشا بقيامه بهذا المشروع

بيد أني لا أرى من الموافق إدخال بعض الحروف العربية بين الحروف اللاتينية كالجيم أو الحاء أو الخاء أو الصاد أو الضاد أو غيرها بصورها الأصلية أو مقلوبةً. وإني كنت قد عالجت الحروف العربية التي لا نظير لها في الأبجدية اللاتينية في رسالتي السالفة الذكر. وإني مرسل لمعالي الباشا نسخة منها لأجل الاطلاع. إن في الألبانية حروفا لا وجود لها في اللاتينية كالثاء والجيم والذال اتخذوا لها حروفاً تنسجم مع الحروف اللاتينية. وفي اليونانية ثاء وخاء. وهناك الطريقة التي يستعملها المستشرقون في ضبط الألفاظ العربية. وعند الروس والأرمن حروف تقابل بعض حروفنا التي لا نظير لها في الأبجدية اللاتينية فيمكن أخذ بعضها بأشكالها من الروسية واتخاذ البعض الآخر من الأرمنية بتعديل طفيف. أما حشر حروف عربية بين الحروف اللاتينية فيكون بمثابة ترقيع ثوب برقع من غير جنسه. لأن أشكال الحروف العربية لا تنسجم مع الحروف اللاتينية. وعدا ذلك إننا إذا

ص: 11

استعملنا حرف الحاء (ح) كما هو ووقع في وسط كلمة واتصل بما قبله وبما بعده أخذ شكل حرف الراء اللاتيني تماماً

إني عالجت في رسالتي بعض الحروف في لساننا باعتبار كون أحدهما يلفظ مرفقاً يقابله آخر مثله يلفظ مفخماً. فمما لاشك فيه أن الطاء تاء مفخمة. والضاد دال مفخمة. والظاء ذال مفخمة. وكذلك الحال مع الصاد والسين، والقاف والكاف. ويمكننا بنوع من التقريب اعتبار العين همزة مفخمة، والغين كافاً فارسية مفخمة. والحاء هاء مفخمة. فنستطيع الدلالة على الحروف المفخمة بإشارة للتفخيم يتفق عليها توضع على الحروف المرفقة. وبذا نكون قد استغنينا عن اتخاذ أشكال لحروفنا المفخمة

هدانا الله جميعاً طريق الصواب، وألهم أولي الأمر ومنهم أعضاء المجمع اللغوي لفؤاد الأول قبول هذه الفكرة المصيبة، إنه هو الهادي.

الدكتور داود الجلبي الموصلي

ص: 12

‌من رحلات القرن الماضي

انجلترة في نظر سائح عربي

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

تختلف أساليب الرحالين والسياح في كتبهم تبعاً لاختلاف أمزجتهم وطبائع نفوسهم. فمنهم المتزمت الوقور كابن جبير، ومنهم الناقد اللاذع كعبد اللطيف البغدادي - وخاصة حينما نزل مصر ورأى فيها ما لم يعجبه. ومنهم المحدث المتفضل بالحديث عن نفسه والدوران حول شخصه كابن بطوطة. ومنهم الذي يدرس الطبائع والظواهر كالمسعودى. ومنهم الدقيق الملاحظة المستفيد مما تقع عليه عينه ليقدمه إلى بلاده بعد عودته كالشيخ رفاعة الطهطاوي. ومنهم الذكي المتوقد الذي يتتبع كل أمر، ويتقصى كل شيء، وينظر إليه من وجهيه، ولا تفوته النكتة اللاذعة والفكاهة المرة - أو الحلوة - والنادرة المكشوفة، والعبارة المفضوحة كأحمد فارس الشدياق صاحب مجلة الجوائب. والشدياق من رحالة العرب في القرن التاسع عشر. وهو قرن اشتهر فيه منهم رفاعة الطهطاوي وأمين باشا فكري وأحمد زكي باشا. ولكنهم على فضلهم لا يرتفعون إلى منزلة الرحالة الأولين من العرب.

ومن كتاب الرحلات في القرن العشرين لبيب البتانوني بك في رحلاته إلى الحجاز وأسبانيا وأمريكا الجنوبية. وأمين الريحاني في رحلته إلى بلاد العرب. وأحمد حسنين باشا في رحلته إلى صحراء ليبية. والدكتور عبد الوهاب عزام في رحلاته إلى البلاد الشرقية ومحمد ثابت في رحلاته المتعددة حول العالم، وأحمد عطية الله في رحلاته إلى أوربا وفؤاد صروف في مشاهده في العالم الجديد

ولكل واحد من هؤلاء سبيله في الوصف، إلا أنهم يشتركون جميعاً في طابع الجد الذي يميز كتبهم

ولكن الشدياق غير هؤلاء جميعاً. فالمزح طبع أصيل فيه يشهد بذلك كتابه (الساق على الساق). وهو كتاب لم يخل من مجون أخذه عليه أهل الفضل والنظر.

وللشدياق رحلتان: أولاهما (الواسطة في معرفة أحوال مالطة - وضعهما سنة 1834). وثانيهما (كشف المخبأ عن فنون أوربا - طبع سنة 1854)

وقد أعلن المؤلف في مقدمة رحلتيه إنه يكتب عن حق ويروي عن صدق، فلم يمل به هوى

ص: 13

أو غرض إلى انحراف أو ميل. أو تفضيل قوم على قوم. وإنما يكتب بحسب ما ظهر له إنه الصواب

ولكن المتصفح لكتابه يرى فيه تحاملاً وتجنياً. فهو متحامل على لندن. ولعل ضبابها ودخانها أثرا في مزاجه، وهو رجل مرهف الحس، مرح كثير النقلة والحركة. فلم يعجبه محبسه في بيت إنجليزي هادئ أمام موقد يرمي باللهب. وآثر الانطلاق إلى بعض عواصم أوربا الموسومة بحياة خارج الدور لا تسجن بجدران! ولا تثقل بوجوه دائمة من السكان.

وفي رحلة الشدياق إلى إنجلترا من الحقائق والإحصاءات الدقائق والدرس الواسع ما لا يستهان به. وكان يسعفه في ذلك الرجوع إلى الوثائق الرسمية. ومن هنا كان لكتابه قيمةٌ تاريخية

ولمشاهداته قيمة من ناحية الاستقصاء، وفيها كثير من الموازنة والظرف والفكاهة، والسخرية اللاذعة التي لازمت الشيخ الأشيب حتى على بياض لمته. . .

فالقرية الإنجليزية الصامتة المتزمتة التي وصفها الشدياق هي هي التي نراها اليوم (ليس فيها مواضع للهو والحظ، وإذا أرادوا اللهو عمدوا إلى أجراس الكنيسة يضربونها فتقوم عندهم مقام آلات الطرب) وذلك حق من الشدياق؛ فالريف الإنجليزي على جماله يخيم على قراه هدوء حزين لا يسر الطبائع المرحة التي تجد في الحركة والصخب أنسا وراحة.

والشدياق يصف من الريف أرضه وسماءه وكل شيء فيهما. . . حتى البقلة الناجمة والزهرة الحالمة. . . ويوازن بين بقل وبقل، وزهر وزهر. ويدرك الفرق بين أزهار مالطة وشبيهاتها في فرنسة وإنجلترا، ويصف حيوانه وصفًا دقيقاً. ولا تفوته النكتة فيقول (ومما من الله به على هذه البلاد - يعني إنجلترا - أن ليس فيها حيات ولا عقارب ولا سوام أبرص، ولا ابن آوى يعوي في الليل، ولا نمس يأكل الدجاج ولا بعوض يمنع من النوم، ولا براغيث في الربيع إلا نادرا)

والشدياق حين يلاحظ الأمور الجارية في رحلاته يردها إلى علل معقولة طبيعية أو اجتماعية. فالإنجليزي يتخطى السبعين ولا يخط الشيب رأسه ولا عارضه. على عكس ما هو حادث في الشرق. ويرد ذلك إلى أن الشيب سببه الهم والخوف وتوقع المساءة من أولي الأمر وذلك معدوم في إنجلترا لفشو العدل بينهم واطمئنان الناس إلى حقوقهم

ص: 14

ويلاحظ رحالتنا العربي فرقاً بين ملامح الرجل المدني وأخيه القروي في إنجلترا، فالأول ضاحك السمات، مشرق البسمات، والثاني كثير العبوس قليل البشاشة لا يستخفه طرب ولا يستثيره لهو إلا في القليل. ويرد رحالتنا ذلك إلى حياة اللهو في المدن فينشأ الطفل على الطرب والخفة والبشاشة. أما القرية فقلَّ أن تجد فيها ملهى قائماً أو ملعباً دائماً. . ومن هنا نشأ أطفالهم على الجد والعبوس والتوقر

وعيب الشدياق في رحلته كثرة الاستطراد. وذلك عائد إلى ازدحام المعاني والأفكار والمعرفة عليه. فهو يروي ويصف ما شاهد ويؤيد ذلك بواقعة حال أو عبارة من مقال. أو يذكر بيتاً من الشعر أو لطيفة من الأدب أو حكاية عن العرب. ثم يعود بعد لف طويل إلى موضوعه الأول

وهو خبير في رحلاته بكل شيء. تراه عارفاً بالطعام، ذواقة لألوانه، خبيراً بأطايبه ناقداً لمعايبه. . . ولهذا لم يعجبه الطعام الإنجليزي على بساطته

وتراه خبيراً بالنساء طبيباً لأدوائهن. . . دارساً لخبايا نفوسهن. يعرفهن بالرمز والشارة، كما يعرفهن بالقول والعبارة. ويقدِّر جمال المرأة أحسن تقدير. . . ويؤثر العين والفم في وجه المرأة لأنهما يتحركان فيحركان الوجد ويثيران الشوق. ولا يذهب مع من قال (أحب منها الأنف والعينان) بل يذهب مع الراجز الآخر حيث يقول: يا ليت عيناها لنا وفاها. . .!

وتذهب به ملاحظته بعيداً فيتتبع الكتاب والشعراء الإنجليز في وصف محاسن المرأة. ويلحظ الفرق بيننا وبينهم في التشبيه والاستحسان. فهم لا يشبهون العيون بالسيوف كما يفعل شعراؤنا، ولا يشبهون المرأة بالشمس والقمر كما نفعل نحن. ولا يشبهون جيدها بجيد الغزال، وإنما يشبهون الجيد بالمرمر أو يقتصرون على وصفه بالبياض. ويشبهون المرأة بالنجم. ولا يستحسنون الفلج في الأسنان كما نستحسنه نحن ويستطرد إلى غسل النساء وجوههن بالصابون فينقله ذلك إلى أول من عمل الصابون، وإلى أول عهد استعماله في لندن سنة 1524، وإلى مقدار ما يستهلكه الإنجليزي منه في العام تبعاً لما وصل إلى علمه من إحصاءات

ويصف تقدير المرأة الإنجليزية للهدية وتعظيمها لها مهما قل شأنها وتفه أمرها. فلا تراها

ص: 15

إلا مثنية على المهدي معترفة بحسن صنيعه. مبالغة في وصف الهدية وتقديرها حتى يتوهم المهدي إنه صار رابعاً لحاتم الطائي وهرم بن سنان وكعب بن مامة من أجواد العراب. . .

ولا يفوته وصف الفلاحة الإنجليزية وهي تعمل في الحقل؛ حتى ليشفق عليها من البرد يعض جسمها، ومن شمس الصيف تلوح وجهها. . ويأسف لهذا الجمال الذي ترخصه مزاولة الأعمال. وينحى باللائمة على الرجال الذين يحوجون المرأة إلى هذا الابتذال

ولو عاش الشدياق في عصرنا هذا ورأى المرأة الإنجليزية في المصانع وفي لباس الجنود، وفي طبقات الجو وحبك السماء، ولو رآها تلعب دورها في هذه الحرب الضاربة فماذا كان يقول؟

ولكن النكتة لا تفوته في هذا المقام فيضع شعرا في الفلاحة الإنجليزية يقول فيه:

فلو برزت سواعدهن يوماً

لشاعرنا لأنشد من ذهول

بربات الحقول يحق لي أن

أشبب لا بربات الحجول. . .

كما لا تفوته النكتة البديعية فيعمل جناساً بين الحقول والحجول

ويثني الشدياق على المرأة الإنجليزية كزوجة صالحة وربة بيت تدير شئونه وتصرف أموره على أحسن تدبير وأكمل تصريف. ويقرر (أن من تزوج بإحداهن فقد هنأه العيش وقرت عينه بما يراه من نظافة منزله مع الاقتصاد في النفقة وراحة البال من الأسباب الباعثة على القيرة)

ولقد قر هو نفسه عيناً بزوجة إنجليزية صالحة إلا إنه لم ينجب منها. ولكنه أنجب من غيرها ثلاثة ذكور أكبرهم سليم الشدياق الذي ظفر بثقة السلطان عبد الحميد واحتل في الأستانة مكانا رفيعاً.

محمد عبد الغني حسن

ص: 16

‌فرقة التمثيل ومديرها الفني

للأستاذ حبيب الزحلاوي

لم نحمل على الفرقة القومية التي كان يرأسها الأستاذ الجليل خليل مطران بك كرهاً لها، أو تقليلاً من قدر رئيسها الفاضل، لأنه يستوي عند الأديب الغيور على فن المسرح أن تكون الإدارة بيد بكر أو خالد من الناس، إنما حاربناها لتصدر مديرها إلى تحمل أعباء مسؤولية فنية أثقلت عاتقه وسهلت لذوي أغراض خسيسة إرضاء مطامعهم وشهواتهم على حساب فن المسرح. وأزعم أن لو استجاب الأستاذ مطران دعوات الداعين إلى إيجاد مدير فني يقظ الذهن يدرك غرض الحكومة من إنشاء الفرقة، ويحرص على فن المسرح تأليفاً وتمثيلاً وإخراجاً، لما حدث الانقلاب الذي نتج عنه تبديل في الاسم واستبقاء للغرض والوضع

فرحنا أيما فرح عند تأليف الفرقة المصرية للتمثيل، وقد أسند مديرها الجديد إدارتها الفنية إلى الأستاذ زكي طليمات الفنان المتخصص، واغتبطنا أيما اغتباط عندما تألفت لجنة القراءة من رجال بعيدين البعد كله عن تزمت شيوخ لجنة القراءة السابقة وعنعناتهم، تحدوهم غيرة على الفن وحب للأدب لا دخل فيه ولا تصنع. ووقفنا بعيداً ننتظر قطف ثمار هذا الانقلاب

كأني بالأستاذ زكي طليمات ساير الزمن في انقلاب أوضاعه وماشى حكاماً استهانوا بكل شيء وأقاموا من شهواتهم قوانين للطغيان والظلم والكسب، فجنح هو أيضاً عن دستور الفرقة وقوانينها، وهبط إلى مستوى الفرق الأهلية التي تراعي الربح المادي ولا تلتفت إلى الفوائد المادية المعدودة بالمليم والقرش، فصرنا نشاهد على مسرح الأوبرا الملكية تمثيل رواية (شهرزاد) و (سلك مقطوع) و (يوم القيامة) و (كلنا كده). . . وما شاكل هذه التلفيقات البهلوانية والتهريج الرخيص

بودي لو تسمح لي أعمالي الخاصة بالوقوف عند كل رواية من هذه الروايات التي لا تشرف أحط الفرق الجوالة لو مثلتها في ساحة عامة على مشهد من السوقة والدهماء، وإني لأعجب والله كيف يباح لفرقة حكومية تعيش من أموال الدولة أن تقول عن أبناء الأمة انهم كلهم ديوث وقواد وعكروت (وكلنا كده)؟!

ص: 17

أفهم أن يعمد مؤلف إلى إبراز أشنع الصور الأخلاقية والاجتماعية، ويمعن في التهويل وفي تزييف هذه الصور إلى حد يجعلها بغيضة مكروهة من كل النفوس، حتى نفوس الشرار والمستهزئين، أما الذي لا يمكن فهمه ولا تسوِّغه سوى عقلية المدير الفني للفرقة الحكومية أن يقال للأمة (كلنا كده)!

ناهيك بالانحراف عن الكلام الفصيح، والتزام اللهجة العامية وتعابيرها النابية، والتنكيت البارد، والحركات السمجة، والزار، وضرب الطار، وهز البطن والأرداف، (والتشلبق البلدي) في رواية (يوم القيامة)، وقد كان ضحيتها ممثل بارع افتديه (بمعهد فن التمثيل) هو الممثل المقتدر عباس فارس، وقد اختاره زكي طليمات المدير الفني لأن يكون ذبيحة تلك الرواية ومهرجاً فيها. . . فيا لخيبة الفن!

وهكذا فعل أيضاً، فقد سخر أحمد علام وحسين رياض لأن يكونا مهرجين في رواية (سلك مقطوع)، ولم يسخرهما اعتباطاً، بل لغرض كامن في قرارة نفسه. ولم يخترهما لرواية (يوليوس قيصر)، بل تحايل بالمرض على تقديم فساكل من الممثلين المبتدئين ليمثلوا دوريهما، فكانوا على المسرح كالغراب صوتاً ومشية. . .

لا تخلو تصرفات المدير الفني في توزيع أدوار الرواية من الغرض، هذا إذا لم أقل مع الممثلين إنه يتعمده تعمداً، فقد شاهدت تمثيل رواية (الوطن)

وقد كانت بطلة تلك الرواية ممثلة لا أعرف اسمها، ولكني أذكر قصر قامتها، وشلل أوتار وجهها الذي لا يعبر عن شيء، وثقل حركتها، وعجز حنجرتها عن تلوين صوتها لعلة في مخارجه!

ألمثل هذه الممثلة الباردة يسند رواية عنيفة، متعددة المواقف، متنوعة التلوين والانفعالات؟؟

لا ألوم تلك الممثلة المسكينة، وأعتذر إليها من وصفي موقفها ذاك، إنما ألوم الذي أثقل كاهلها بحمل لا تطيقه طبيعتها بزعم خاطئ وتقدير معكوس في إنه يرفعها إلى مصاف كبار الممثلات، وإذا به يدفعها إلى الهاوية التي لا تستأهلها

لا يعني كلامي أن هذه الممثلة لا تتقن فن التمثيل، فقد تصلح ولا ريب لأدوار أخرى، إنما أعني أن المدير الفني أساء الاختيار كعادته في التحكم بالممثلين والتسيطر على الممثلات

ص: 18

بودي لو أقف طويلاً حيال كل رواية أخرجها الأستاذ طليمات لأقارنها بروايات أخرجها الأستاذ فتوح نشاطي، وبذلك يتبين له البون الشاسع والفرق الظاهر بين المجتهد الدؤوب، وبين القاعد المتقاعس

وسأفعل ذلك إذا توفر لي الوقت، وسأتكلم عن المواقف الفنية وعن فعال العنصر النسائي في الفرقة، وسأخصص درساً لروايتي (قطر الندى) و (شارع البهلوان)

والآن أسأل: ماذا أفاد الأستاذ زكي طليمات الفرقة المصرية للتمثيل، وبماذا أساء إليها بكونه مديرها الفني؟

لقد أفاد الفن كثيراً، وسأذكر هذه الفوائد بالتفصيل في الحين المناسب، ولكن هذه الفوائد على كثرتها أقل كثيراً من إساءاته، ولا أحصى منها إلا ما يأتي:

1 -

أساء إلى الحكومة في تعطيله قانون الفرقة بإدخاله اللهجة العامية وجعلها تطغى على اللغة الفصحى

2 -

أساء إلى الحكومة في إنفاق خمسة عشر ألفا من الجنيهات من أموال الدولة على (تكية) ممثلين نفعوا ذواتهم ولم يحسنوا إلى الأمة، وكان في وسعهم نفعها لو توفر لهم مدير فني يعمل للفن بدافع من الغيرة على الفن والاعتزاز بأمته

3 -

أساء إلى الحكومة التي وكلت شؤون التمثيل إلى جماعة توهمت فيهم المقدرة دون أن تقيم رقباء عليهم، فجعلوا الفرقة مطية للأهواء والشهوات

4 -

أساء إلى النهضة الأدبية وإلى سمعة مصر في البلاد العربية

5 -

أساء إلى نفسه وقد عرضها للوقوف أمام لجنة التحقيق - على حد ما ذكرت الصحف - عما نسب إليه من أمور لا شأن لي بذكرها

وأنه لمن المدهش حقاً أن تقف لجنة القراءة - وأعضاؤها من ذكرت - هذا الموقف الهين اللين من مدير الفرقة الفني، وهي تعلم أن مآلها مرتبط بسقطاته الفنية وغير الفنية، وقد يزول العجب متى أمطنا اللثام عن بعض أسباب ذلك الموقف وموعدنا قريب

حبيب الزحلاوي

ص: 19

‌الحياة الأدبية في السودان بين ماضيها وحاضرها

للأديب سعد الدين. أ. فوزي

لا أريد أن أطوي القرون القهقري، لأتكلم عن النهضة الأدبية في السودان القديم الذي عاصر الفراعين في مصر، والبابليين والآشوريين في العراق. ولا أريد كذلك أن أقتصر على النهضة الأدبية الناشئة الآن، ولكني أحب أن أقدم عرضاً موجزاً للحياة الأدبية في السودان العربي

عندما انتصر العباسيون تفرق الأمويون في بلاد الله، فنزل فريق منهم الأندلس وأسس بها مملكته الشماء، وجاء فريق إلى جنوب السودان وهبط سنار بين النيليين الأزرق والأبيض، حيث وجد موجات عربية أخرى قد سبقته ما بين القرنين السادس والثالث عشر الميلاديين إلى تلك الربوع، وهناك امتزج بالسكان الأصليين وتزوج معهم وتناسل، على أشهر الروايات، وأسس صرح مملكة عظيمة تسمى بالسلطنة الزرقاء أو مملكة الفونج، امتدت شهرتها حتى وصلت إلى القسطنطينية واتسعت حدودها حتى البحر الأحمر وأطراف الحبشة وحدود ذارفور

وقد اشتهر ملوك سنار بما جُبلوا عليه من الشيم العربية، من الكرم والشهامة وحب الثناء، فكان الشعراء يفدون عليهم من مصر ومن سائر البلاد العربية، فينظمون فيهم عقود الثناء، وينضدون فيهم قلائد المدح؛ ولكن الطابع الأصيل للنهضة الأدبية في رعاية ملوك سنار دينياً بحتاً، فكان للعلوم الفقهية المقام الأول، في الدراسة والتحصيل، وفي البحث والتنقيب. ولم تقتصر همة ملوك الفونج على رعاية العلماء في داخل حدودهم، بل كانت لهم صلات وثيقة بأفاضل العلماء في مصر، ورجالات الأزهر المعمور. ومن أشهر هؤلاء الملوك الملك بادي أبو ذقن؛ كان يرسل الهدايا والهبات إلى رجال العلم في الوادي الشمالي حتى مدحه الكثيرون بقصائد رنانة - أورد منها شقير بك في كتابه (تاريخ السودان) أبياتاً للشيوخ عمر المغربي قال فيها:

أيا راكباً يسري على متن ضامر

إلى صاحب العلياء والجود والبر

وينهض من مصر وشاطئ نيلها

وأزهرها المعمور بالعلم والذكر

لك الخير إن وافيت سنار قف بها

وقوف محب وانتهز فرصة الدهر

ص: 20

إلى حضرة السلطان والملك الذي

حمى بيضة الإسلام بالبيض والسمر

هو الملك المنصور بادي الذي له

مدائح قد جلت عن العد والحصر

سليل ملوك الفونج والسادة الألى

علا مجدهم فوق السماكين والنسر

وظلت هذه الصلات وثيقة العرى حميدة الأثر حتى ضعفت دولة الفونج وصار الأمر فيها إلى مواليها من (الهمج). وكان القرآن هو الدعامة الكبرى للتعليم في ذلك الوقت، تخصص على درسه وتدريسه فقهاء إجلاء من علماء الأزهر وعلماء السودان

ومن أشهر هؤلاء في ذلك العهد، الشيخ إدريس بن محمد الأرباب، اشتهر بالفضل والتقوى، حتى لقب بسيد الأولياء، وكانت له ولأحفاده من المكانة عند ملوك سنار ما جعلهم ملجأ المستغيث ومأمن الخائف. واشتهر بعده الشيخ حسن بن حسونة الذي جاء أبوه من الأندلس، فسكن (كركوج) على النيل الأزرق، واشتهر بالصلاح والتقوى. وفي هذا العهد أيضاً رحَّب السودان بعلماء كثيرين وردوا ساحته من سائر البلاد العربية، كالشيخ تاج الدين البهاري الذي جاء من بغداد، والشيخ إبراهيم بن جابر البولادي من مصر، والشيخ محمد العركي من مصر أيضاً. وفي المخطوط التاريخي الذي يعرف عند مؤرخي السودان (بطبقات ولد ضيف الله) ذكر الكتاب نيفاً وتسعين من رجال العلم والدين في ذلك العهد في مختلف أنحاء السودان لا داعي لاستعراضهم جميعاً

أما الكتابة الفنية الخالصة والشعر الوجداني المشبوب فما كانا غرضاً من أغراض الكتاب في دولة الفونج، إذا استثنينا الشعر الشعبي الذي لا يتقيد بالفصحى، والذي يعرف عندنا (بالدوبيت) وإنما كانت الكتابة وسيلة لمدح، أو رداً على رسالة أو تهديداً لخصم، وكان عمادها الجملة القرآنية، والاقتباس من الأحاديث النبوية، مع التزام السجع، وتقطيع الكلام إلى فقر قصيرة. وإليكم مثلا الرسالة التي رد بها السلطان محمد عدلان على إسماعيل بن محمد علي قائد الجيش المصري الفاتح عندما طلب منه التسليم، قال:

(لا يغرنك انتصارك على الجعليين والشايقية، فنحن الملوك وهم الرعية، أما بلغك أن سنار محروسة محمية، بصوارم قواطع هندية، وجنود جرد أدهمية، ورجال صابرين على القتال بكرة وعشية؟)

وكانت الحياة الأدبية في مملكة دارفور المعاصرة لمملكة سنار الآنفة الذكر، والواقعة في

ص: 21

غرب السودان مماثلة لما تقدم وصفه: حركة دينية عمادها القرآن والحديث والمذاهب، وأشعار مصطنعة في مدح الملوك والسلاطين، والفخر والحماسة، وتعليم أساسه الدين يبذل في المساجد وبيوت القرآن

ثم دالت مملكتا سنار ودارفور العربيتان، واستتب الحكم المصري في السودان سنة 1821 ميلادية، فاستمرت شعلة الإسلام متقدة وكثرت الطرق الصوفية في طول البلاد وعرضها وصار لأربابها من النفوذ ما يداني نفوذ السلطة، وانتشر علماء السودان الواردون من الأزهر في أنحاء البلاد، وازدحم الطلاب على أبواب كبارهم كالشيخ القرشي والشيخ محمد الشريف من زعماء الطريقة السمَّانية الكبار

وقد نشر المصريون في السودان عدداً من المدارس الأولية، وأنشئوا مدرسة وسطى بالخرطوم بنظارة الشيخ رفاعة بك الطهطاوي، وشمل خديويو مصر المساجد برعايتهم فأجروا أجور الأئمة، وقاموا بإصلاح الكثير منها، ولكن مما يؤسف له أن الشطر الأكبر من هذه الجهود ما زال مطوياً عن الجمهور في الوثائق الرسمية، ولم يصل بعد إلى آذان الجمهور في مصر في السودان. بيد أن سوق الأدب كسدت في أواخر الحكم المصري لاضطراب الحالة السياسية وضعف الإداريين واستبداد الجباة. وكان النثر على نوعين في هذه الفترة: لغة الدواوين التي تكتب بها التقارير وتصدر الأوامر وكانت مهلهلة لا ترمي إلى غير الأداء. ولغة العلماء والفقهاء التي ظلت تحتذي أسلوب القرآن وتسرف في تضمين آياته وأحاديث الرسول، ومن أشهر علماء هذه الفترة الفقيه السنوسي بقادي، والفقيه محمد الحاج الطيب إمام جامع الخرطوم في ذلك الحين، والفقيه محمد علي ولد العباس، والشيخ الطريفي بن الشيخ يوسف، والشيخ حسن ولد بان النقاب وكثيرون غيرهم.

وعندما انتهى الحكم المصري على يدي الثورة المهدية ازدادت شعلة الدين توهجاً، وامتزجت السلطة المدنية بالسلطة الدينية تماماً. وكان المهدي رجلاً متفقهاً في الدين متمسكاً بالكتاب والسنة، وكان على ذلك بليغاً سيال العبارة سلس الأسلوب، وقد عمل مخلصاً على نشر الدين وبث العلوم القرآنية. وكان إذا ما صلى صلت الأمة كلها وراءه، وكان إذا ما جاهد اندفع الجميع تحت لوائه. ولعل في النبذ الآتية من خطبه ومنشوراته ما يوضح ما

ص: 22

نحن بصدده من تحليل النثر في ذلك العهد

قال المهدي في رسالة له: (قد اجتمع السلف والخلف في تفويض العلم لله، فعلمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بضبط القوانين ولا بعلوم المتفننين، بل يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب. قال تعالى: (لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) و (عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) و (لا يسأل عما يفعل) و (يخلق ما يشاء ويختار). وإليكم نص البيعة التي بايعه عليها أنصاره الكرام (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله مع التسليم، أما بعد فقد بايعنا الله ورسوله، وبايعناك على توحيد الله، وألا نشرك به أحداً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نأتي ببهتان، ولا نعصيك في معروف، بايعناك على زهد الدنيا وتركها، والرضى بما عند الله رغبة فيما عند الله والدار الآخرة وعلى ألا نفر من الجهاد)

وكان للمهدي شعراء أفذاذ، نذكر منهم الشيخ عمر البناء، فقد كان شاعراً بليغا قوي الديباجة، رصين المعاني، له قصائد مشهورة أذيعها

الحرب صبر واللقاء ثبات

والموت في شأن الإله حياة

ولولا ضيق المقام لأوردنا الشيء الكثير غيرها. والشعر في ذلك الحين كان يقوم مقام الخطابة عند العرب؛ مدح للمهدي وتشجيع لأنصاره وحملة على أعدائه - ومن ثم كانت دائرته محدودة، ونظرته ضيقة

ثم انقضت المهدية وجاءت الحكومة الحاضرة، واتصل أدباء السودان وشعراؤه بالعالم الغربي الحديث فنشأت مدرستان في الأدب: قدماء ومحدثون

أما المدرسة الأولى فنهلت من مناهل الأدب العربي القديم، ورشفت على وجه خاص من موارد العباسيين، وعاصرت شوقي وحافظ عند المصريين

وأما المدرسة الثانية فتأثرت بالأدب المصري الحديث أول ما تأثرت ثم تشربت روح الغربية، واهتزت لشعراء وأدباء المهجر

وفي طليعة الأوائل الشيخ عبد الله عمر البناء والأساتذة أحمد محمد صالح، وصالح عبد القادر

وفي طليعة الأواخر: للتيجاني يوسف بشير ومحمد عثمان محجوب والمرضي محمد خير

ص: 23

ويوسف التنى

أما النثر فقد تطامن متنه لأدباء السودان، ولا داعي للإفاضة فيه، فهو لا يتميز عن النثر الحديث في العالم العربي، وإنما يجري في ركابه مع الاختلافات اليسيرة التي تميز أسلوب كاتب عن كاتب وشاعر عن شاعر

وقد اعتاد أدباء السودان وشعراؤه أن يقيموا مهرجاناً أدبياً كل عام يعرضون فيه ثمرات أفكارهم وروائع أشعارهم. وقد أقيم هذا المهرجان في ثاني يوم عيد الأضحى

وإذا ما قدر لإنتاج السودانيين في القريب بإذن الله، أن يجد طريقة إلى المطبعة فسيرى القراء الكرام مدى ما وصلنا إليه في عالم الفكر والأدب، ويحكمون بأنفسهم على ذلك الإنتاج

بخت الرضا - سودان

سعد الدين. أ. فوزي

ص: 24

‌الذوق الأدبي العراقي

للدكتور مصطفى جواد

للأدب العراقي سمة واضحة وخصائص لائحة ومزايا مشهورة ومقام شريف، ولكل صقع من الأصقاع تأثير في سكانه، تحدثه الوراثة والأرض والماء والهواء. وإن سلَّمنا نحن هذه الحقيقة فإنا لا نغلو فيها فنقول قول فيكتور كوزان العلامة الفيلسوف الفرنسي:(صفوا لي بلاد قوم أذكر لكم تاريخهم) ولقد علم علماء العرب القدماء هذه المعرفة وأسلافهم سبقوهم إليها، حتى ذكر ذوو الدراية أن عمر بن الخطاب، حين فتح الله البلاد على العرب كتب إلى حكيم من حكماء العصر:(إنا أناس عرب وقد فتح الله علينا البلاد ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن الأمصار فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها). فهذا الخبر - إن كان صحيحا - يدل على تفطن العرب لأثر المسكون في الساكن منذ أول العهود الإسلامية؛ وإن كان موضوعاً فإنه لا يخلو من كون هذا الرأي قديماً يزيد قدمه على ألف سنة

ودونك اسم باب من أبواب أحد الكتب القديمة (لُمع من ذكر الأرض وشكلها أو ما يغلب عليها وتأثيراتها في سكانها وما اتصل بذلك والأهوية وتأثيراتها). والعراق في صفة الأرض القديمة معدود من إقليم بابل، وفي نعته يقول أحد سكانه:(وأما العراق فمنار الشرق وسرة الأرض وقلبها، إليه تحادرت المياه، وبه اتصلت النضارة، وعنده وقف الاعتدال، فصفت أمزجة أهله، ولطفت أذهانهم، واحتدت خواطرهم، واتصلت مسراتهم فظهر منهم الدهاء وقويت وثبتت بصائرهم. . . وفضائل العراق كثيرة لصفاء جوهره وطيب نسيمه واعتدال تربته وإغداق الماء عليه ورفاهية العيش به. . . كانت الأوائل تشبهه من العالم بالقلب من الجسد لأن أرضه من إقليم بابل الذي تشعبت الآراء عن أهله بحكمة الأمور، كما يقع ذلك عن القلب، وبذلك اعتدلت ألوان أهله وأجسامهم. . وكما اعتدلوا في الجبلة كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بمحاسن الأمور). فكل هذه المأثورات الدالة على أن الترب والأهوية والماء تأثيرات في السكان، كتبت في أواسط القرن الرابع للهجرة. ومما يؤيد اختصاص العراق بخصائصه الإقليمية المؤثرة في ثقافة سكانه ومعايشتهم وأخلاقهم ما ذكره سائح أندلسيّ بلنسيّ ورد بغداد سنة (580) هـ والدولة

ص: 25

العباسية في عهد عزتها وفخامتها وزمن عظمتها من حيث العدل والتدبير والسياسة والاستقلال والسعادة والنظم والرسوم، قال: (وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب ويبعث النفس دائما على الانبساط والأنس، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طرباً وإن كان نازح الدار مغترباً حتى حللنا بهذا الموضع. . . وهو على مرحلة من بغداد. فلما نفحتنا نوافح هوائها، ونقعنا الغلة ببرد مائها، أحسسنا من نفوسنا - على حالة وحشة الاغتراب - دواعي الإطراب، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب، وهبت بنا محركات من الإطراب، أذكرتنا معاهد الأحباب في ريعان الشباب، هذا للغريب النازح الوطن، فكيف للوافد فيها على أهل وسكن:

سقى الله باب الطاق صوب غمامة

وردّ إلى الأوطان كل غريب

والذوق الأدبي هو إدراك محاسن الأديب ومعرفة دقائقه ولطائفه ونكاته، وهو للأديب ملكة تأسيس على مقاييس المحاسن الأدبية، وللقارئ الأدبي هو ملكة تمييز واستذاقة، وامتلاك هاتين الملكتين قائم على الدراسة والزمان والذهن، وبالذوق الأدبي يستطيع الإنسان قدر اللطائف الأدبية حق قدرها، وتعرَّف الحكمة وإحساس الأدب الجميل ولمح التأثيرات الأدبية في النفوس، وتمييز المستحسن من المستكره من الأدب بالإضافة إلى ذوي الأكثرية من أهل الأدب، ومعرفة ما يلائم الطباع من الآثار الأدبية، والغوص على النكات والدقائق، وعلم سبل الشعور المستقيمة، فمحروم الذوق الأدبي لا يدرك مثلا قول امرئ القيس:

مكرّ مِفرّ مقبل مُدبر معاً

كجلمود صخر حطه السيل من عل

ولا يعلم أن المراد به (معاً) هو أن الكر والفر والإقبال مجتمعة في قوة الفرس لا في فعله المقترن بالزمان، وذلك لأن المشتقات في العربية هي للنعوت والأوصاف لا للأفعال والأحداث، ولأن (معاً) للمصاحبة المطلقة، لا للزمان البحت، فلذلك يقال:(جاءنا مع العصر) بجعله مصاحباً للعصر في المجيء. ومن حرم المقياس عدم الإحساس

أجل تضافرت الآثار والأخبار على أن الذوق الأدبي العراقي حكيم بارع كريم، ألا ترى أن أبا علي محمد بن إسماعيل القاضي الطوسي، قاضي طوس المتوفى سنة (459) هـ كان يلقب بالعراقي لظرافته وطول مقامه ببغداد، وما نشك في أن الظرافة العراقية هي سبب التلقيب وإن كان لقبه (البغدادي) لا العراقي لأنه أطال الإقامة ببغداد. وروى الإمام أبو

ص: 26

عبيد الله محمد بن عمران المرزباني المتوفى سنة (384) أن محمد بن أبي العتاهية قال: (أنشدت أبي أبا العتاهية شعراً من شعري، فقال لي: أخرج إلى الشام، قلت: لم؟ قال: لأنك لست من شعراء العراق، أنت ثقيل الظل مظلم الهواء جامد النسيم) وقال العلامة أحمد بن محمد الفيلسوف المؤرخ الملقب بمسكويه: (إذا أنصفنا التزمنا مزية العراقيين علينا بالطبع اللطيف والمأخذ القريب، والسجع الملائم واللفظ الموفق والتأليف الحلو والسبوطة الغالبة، والموالاة المقبولة في السمع، الخالبة للقلب، العابثة بالروح، الزائدة في العقل المشعلة للقريحة، الموقوفة على فضل الأدب الدالة على غزارة المغترف، النائية عن عادة كثير من السلف والخلف) وقال أبو حيان ينعى على الصاحب بن عباد أسلوبه: (وطباع ما لجبلي مخالف لطباع العراقي، يثب مقارباً فيقع بعيداً، ويتطاول صاعداً فيتقاعس قعيداً)

والظاهر هو أن ظروف أهل العراق في الأخلاق والأدب أصبح في العصور الإسلامية كالحقائق المجمع عليها المتخذة مقاييس وعبراً؛ فهذا أبو منصور عبد الملك الثعالبي يقول في نعت أدب أبي العباس محمد إبراهيم الباخرزي الكاتب إنه كتب إليه بيتين، فأجابه الباخرزي بأبيات منها:

استودع الله الحفيظ حبيبا

يحكى إذا نظم القريض حبيبا

متطبعاً طبع الشآم مبرزا

متدرعاً ظرف العراق أديبا

وإذ لم يكن بد من التخصيص المؤدي إلى الاختصاص نذكر أن جماعة من الأدباء خصصوا أكثر الظرف العراقي والإبداع الأدبي بدجلة - أعني سكان بلادها - ومن ذلك ما قاله أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي يصف أدب أبي القاسم عبد الواحد ابن المطرز الشاعر البغدادي بعد إيراده له هذه الأبيات:

عسى طيف الملمة بالنعيم

يلم بنا على العهد القديم

أرقت له أماطل فيه هماً

يلازمني ملازمة الغريم

لعل خيال ذات الخال يسري

فينقع غلة النضو السقيم

وكيف ينام عشق تغلبي

تؤرقه ظباء بني تميم؟

قال: (هذا لعمري الشعر الذي ورد دجلة فارتوى من زلالها، وروّح بشمال بغداد فرفل في سربالها، واستفاد الصَّحة من اعتلالها) ولقد حكى الباخرزي في هذا الوصف عن شعور

ص: 27

شعره وإحساس أحسه ولون أدب ارتوى من نميره العذب، حتى امتلأ منه. وتفصيل ذلك إنه لما ورد بغداد مدح الإمام القائم بأمر الله الخليفة العباسي، بقصيدة صدّر بها ديوانه منها

عشنا إلى أن رأينا في الهوى عجباً

كل الشهور وفي الأمثال عش رجبا

أليس من عجب أني ضحى ارتحلوا

أوقدتُ من ماء دمعي في الحشا لهبا؟

وأن أجفان عيني أمطرت ورقا

وأن ساحة خدي أنبتت ذهبا؟

وإن تلهَبَ برق من جوانبهم

توقد الشوق من جنبُي والتهبا

فاستهجن البغداديون شعره وقالوا: (فيه برودة العجم) فانتقل الباخرزي إلى الكرخ وسكنها وخالط فضلاءها وسوقتها مدّة وتخلّق بأخلاقهم واقتبس من اصطلاحاتهم ثم أنشأ قصيدته التي أولها:

هبَّتْ عليَّ صبا تكاد تقول:

إني إليك من الحبيب رسول

سكرى تجشمت الربُا لتزورني

من علتي وهبوبها تعليل

فاستحسنها البغادّة وقالوا: تغير شعره ورق طبعه). ولا ينفك الأديب يلمح هذه الإشارات ويقرأ أمثال تلك العبارات ويستحيل هذه الحال في كثير من الكتب الأدبية، وتراجم الأدباء، فالثعالبي لم يومئ إلى ذلك في موضع واحد - أعني الموضع الذي أثرنا خبره - وإنما قال أيضاً في ترجمة أبي الفضل ممد بن عبد الواحد التميمي البغدادي:(وله شعر الأديب الظريف الذي شرب ماء دجلة وتغذى بنسيم العراق) ونحن لا نرى حقاً تسمية الخروج عن الأسلوب العراقي أو الأسلوب البغدادي خاصةً (برودةً) وإنما هو (أثر الانتقال) و (إمارات العبور) من الفارسية إلى العربية، فالمؤاخذة أكثر ما تكون في (الأسلوب) ولا يستطيع الفارسي وإن بلغ الذروة من صحة التركيب في العربية، أن يمتلك زمام مجاز العربية وبلاغاتها الأخر. ثم أن للشعر العربي طابعاً خاصاً به وسمةً دالةً عليه، فالفارسي على إجادته اختيار المعاني وإحسانه تزاويو التشبيه وزخارف الاستعارة، لا يخلص إلى أسلوب عربيّ لا حب، قال نقلة الأخبار إن الإمام أبا العباس أحمد بن الحسن الناصر لدين الله العباسي أسد بني العباس وسياسيَّهم الأعظم وأدبيهم البارع ومحدثهم الماهر لما سمع قول تاج الدين الطرقي الأصفهاني:

إذا ما رآني العاذلون وغردت

حمائم دوح أيقظتها النسائم

ص: 28

يقولون مجنون جفته سلاسل

وممسوس حيّ فارقته التمائم

تعجّب من ذلك وقال: (ما ظننت أن أحداً من العجم يصل كلامه إلى هذا الحد) وبعث إليه بخلعة. وهذا الخبر يدلنا أيضاً على ما بلغه الإمام الناصر لدين الله من إدراك لمحاسن الأدب العربي ومعرفة لدقائقه ولطائفه وبارعه ورائعه.

وقال أحد المؤرخين العراقيين: (سمعت أبا عبد الله محمد بن يوسف الأرجاني ببغداد يقول: (قال لي إنسان بسمرقند - وقد جرى ذكر أهل العراق ولطافة طباعهم ورقة ألفاظهم - كفى أهل العراق أن منهم من يقول:

تنبَّهي يا عَذَبات الرند

كم ذا الكرى! هبت نسيم نجد؟

وكرر البيت تعجباً من لطافته وعذوبة لفظه، وهو لابن المعلم (أبي الغنائم محمد بن علي بن فارس الواسطي الهرثي المتوفى سنة 592) مبدأ قصيدة مدح بها إنساناً يعرف بهندي، بني القصيدة على هذه القافية لأجل اسمه.

ولقد صدق هذا السمرقندي فان هذا البيت من قصيدة تجلَّت فيها محاسن الصناعة وبانت عليها بوارق البراعة، وهي في مدح الأمير هندي الكردي أحد الأمراء في أواسط القرن السادس للهجرة، كان في خدمة الإمام المقتفي لأمر الله الخليفة العباسي مجدد دولة بني العباس، وقال في ديباجتها الغزلية:

تنبهي يا عذبات الرند

كم ذا الكرى هبت نسيم نجد؟

مر على الروض وجاء سحَراً

يسحبُ بردَىْ أرج وبرد

حتى إذا عانقتُ منه نفحةً

عاد سموماً والغرامُ يعدى

واعجباً منّىَ أستشفي الصبا

وما تزيد النار غير وقد

أعلل القلب ببان رامة

وهل ينوب غصُن عن قد؟

وأسأل الربعَ ومن لي لو وعى

رجع كلام أو سخا برد

أأقتضى النوح حمامات اللوى

هيهات ما عند اللوى ما عندي؟

كم بين خال وجوٍ وساهر

وراقد وكاتم ومبدي؟

ما ضر من لم يسمحوا بزورة

لو سمحت طيوفهم بوعد؟

بانوا فلا دار العقيق دارهم

دار ولا عهد الحمى بعهد

ص: 29

آه من البعد ولو رفقتم

ما ضرني تأوهي للبعد

عشقي لا ما عشِقه عذرة

قبلي وبي يستن بي من بعدي

تعلة وقوفنا بطلل

وضلة تسآلنا لصلد

إن نكب الغيث الحمى وضن أن

يثير في عراصها ويسدى

سقته عيني ورمته أضلعي

بوابل وبارق ورعد

طرف تجف المزن وهو واكف

كأنما جفناه كف هندي

وأقرأ أيضاً بجمال الأسلوب العراقي في الأدب أدباء مشاهير من أهل الأندلس، فان ابن جبير الرحالة الأديب المشهور، المتقدم الذكر حضر - أيام دخوله بغداد في سنة 580 - مجلس (أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي) فقال:

(وفي أول مجلسه أنشد قصيداً نير القبس، عراقي النفس، في الخليفة الناصر أوله:

في شغل من الغرام شاغل

من هاجه البرق بسفح عاقل

يا كلمات الله كوني عوذة

من العيون للإمام الكامل

ففرغ من إنشاده وقد هز المجلس طربا). فقوله إن ذلك الشعر عراقي النفس يدل على اشتهار النفس الشعري العراقي في الأندلس فضلاً عن الشرق. وهذه الخصائص الأدبية واللطائف الشعرية. لم تكن مقصورة على الخاصة من العراقيين دون العامة، ألا ترى أحد المؤرخين يقول:(ومن خالط أهل بغداد وعلماءها عرف فضلهم ولطفهم؛ ومن تأمل لطافة العوام بها في مجونهم وحديثهم وإشاراتهم التي لا يفهمها أكثر علماء غيرها من البلاد حتى أن فيهم من يقول الشعر المسمى (كان وكان) فيأتي بمعان لا يقدر عليها فحول الشعر تبين له فضلهم ولطافة أخلاقهم).

وإن من غير العراقيين من اعترف بهذه الخصائص الأدبية وأسجل بها على نفسه كما يسجل القاضي بالحكم ويثبته في المحضر، وهناك لا تجد أنبل من هذه النفوس العلية والطباع المرضية التي من عادتها الإقرار بالحقيقة والإذعان للواقع مع ما فيه من هضم الجبلة وزم النفس عن مواقعها وتواضع هو في مقياس الفضائل ترفع؛ ومن أولئك النبلاء الأدباء أبو سعد علي بن محمد بن خلف الهمذاني؛ وفي ذلك قال:

فدىً لك يا بغداد كل مدينة

من الأرض حتى خطتي ودياريا

ص: 30

فقد طفت في شرق البلاد وغربها

وسيرت خيلي بينها وركابيا

فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً

ولم أر فيها مثل دجلة واديا

ولا مثل أهليها أرق شمائلاً

وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا

وكم قائل: لو كان ودك صادقاً

لبغداد لم ترحل فكان جوابيا:

يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم

وترمى النوى بالمقترين المراميا

روى هذه الأبيات أبو بكر الخطيب عن أبي القاسم علي بن المحسن القاضي التنوخي ورواها التنوخي عن ناظمها سماعاً بحضوره وإنشاداً من فيه، ومن طريف ما نذكر هنا أن أبا حيان التوحيدي لما مدح الوزير أبا عبد الله بن سعدان العارض، ذكر له إنه ممن يعتد به في مقامات المساجلة ومواطن المفاخرة وأنه يكابد به أصحابه ببغداد ويقول لهم: هل كان في حسبانكم أن يطلع عليكم من المشرق من يزيد ظرفه على ظرفكم، ويبعد بعلمه عن علمكم، ويبرز هذا التبريز في كل شيء تفخرون به على غيركم؟)

وآخر ما ننقل للقارئ شهادة أديب كبير وعلامة خطير ومنشئ بارع وشاعر مجيد وكاتب مجود ومؤرخ ذي يد باسطة في تحرير التراجم والأخبار، وهو عماد الدين الأصفهاني فانه قال في ترجمة أبي الفتح محمد بن محمد بن عمر الأديب الكاتب: (لم يكن في عصرنا أكتب منه، تبحر في أدبه، وتطرف في مذهبه. . . وله شعر كثير وديوان كبير، ولم يختلف له نظيراً. . . وعلى نظمه طلاوة بغدادية وحلاوة عراقية فمنه.

قام بالعذر في هواك العذار

فسلوى عن حسن وجهك عار

أدلال هذا التعنت أم أن

ت كما قيل خائن غدار؟

بغداد

مصطفى جواد

ص: 31

‌المناجاة الثالثة

إلى أخي بفرنسا

للأستاذ محمد برهام

من ذا يزف تحرقي وحنيني

لأخ يعيش على ضفاف السين؟

كنا على حذر وكان بمأمن

ما بالنا وسط الليالي الجون؟

يا راكباً متن الصعاب إلى العلا

وتكاد تقتلني عليه ظنوني

ما قيل إن على فرنسا غارة

إلا بدوت بخفة المجنون

عام يقضَّي في انتظار رسالة

وتفض كل رسالة تأتيني

ليد الرقابة أن تفض غلافها

أو أن تحيط بسرها المكنون

لكن مطالعتي بها مبثورة

من فرط ما بي من هوى يشجيني

فذر الرسالة يا رقيب سليمة

وإذا أبيت فبعضها يكفيني

لله أمٌّ وهي في محرابها

بين الخشوع وأنة المحزون

تدعو إِلهك أن يعيدك سالما

لتقر شتى أنفس وعيون

وحنت على كل الطيور بزادها

ربما أتت بالطائر الميمون

يا أمنا رُغمى تبلبلِ خاطر

غالٍ على عمر الزمان مصون

ها قد تحققت الأماني ابشري

فلقد لمحت النصر فوق جبين

(ياسين) لو بك أي جنب آمن

قلت ارعه في الجانب المأمون

ما كان مهداً للجمال ومرتعا

وتموج جنته بحورٍ عين

قد صيرته الحادثات جهنما

أبوابها فتحت لكل قطين

أأخي العزيز، الصبر جنة حازم

فاشدد يمينك صابراً بيميني

فلقد يعود إلى الحياة نعيمها

وتعود دنيا من دَدٍ وسكون

ستقول كيف أبي وأين تحية

منه لمضطرب المكان رهين؟

إني لأشفق أن أجيب فاعفني

إن السؤال جوابه يعييني!

أسْلمتَ أمر أخي لرحمة ربه

فإلى اللقاء، ويا رعاية صوني!

محمد برهام

ص: 32

‌مناجاة.

. .

للأديب إبراهيم محمد نجا

طواك الكرى في حنان ولينْ

فيا ليت شعري بما تحلمينْ؟

بحب يبوح به مغرم

يغنِّيك لحن الجوى والحنين

وأفق تحوم عليه الظلالُ

وقد غُيِّبت شمسه منذ حين

وعش يحلق فوق الغمامِ

تحوم عليه منى العاشقين

هواك جرى في دمي سره

وراحت تغازل قلبي رؤاهْ

وذكراك تشرق في خاطري

كفجر ينبِّه روح الحياه

ويهتز قلبي إذا ما رآكِ

كأنك لحن وقلبي صداه

فأنسى الزمان كأني نبيُّ

يشارف بالروح نور الإله

نظمت حياتي وأهديتها

إليك قصيداً كنَوْر الربيْع

وقدمت عمريَ في طاقة

من الزهر روَّيتها بالدموع

وأودعت حبيَ في غُنوة

كأن صداها عبير يضوع

فرنّت بها في السيول الرياحُ

وغنت بها الطير بين الربوع

بدا الفجر نشوان بين السهولِ

يغني فيرقص روح الوجودْ

ويضفي السنا فوق تلك الربى

ويلقي الندى فوق تلك الورود

فأحسست نفسي تفك الإسار

وأحسست قلبي يحل القيود

وعاد كما كان روحي طليقاً

يريد إلى عشه أن يعود

تعالي لنخطر فوق السفوحِ

مع الطير حتى يحين المساءْ

أغنيك أشجى أغاني الغرامِ

وما هيّج الشوق مثل الغناء

وسيان أن يتجلى الربيعُ

على الكون، أو يتراءى الشتاء

فكل نهار - إذا ضمَّنا -

صفاءُ، وكل الليالي ضياء

تعالي نعش في ثنايا المنى

تعالي نعش في حنايا الخيالْ

لنا في الهوى جوسق في السماءِ

وعشٌّ هنالك فوق الجبال

نعيش فريدين بين الضياء

ونحيا وحيدين بين الظلال

ص: 34

فكل الأغاني أغاني غرامٍ

وكل الليالي ليالي وصال

إبراهيم محمد نجا

ص: 35

‌البريد الأدبي

1 -

ما لزكي مبارك ولكتاب الله

عاد الدكتور زكي مبارك يعرض للقرآن الكريم بسوء الرأي كما فعل في مقاله الأخير في (الرسالة). وهو لم يعرض للقرآن مرة إلا افتضح، ولكنه في هذه المرة قتل نفسه: قتلها بالهواء الذي يملأ العالم، وبالزلطة التي كانت دومة لأن شكلها كالدومة، والزلطة التي كانت خيارة لأن شكلها كالخيارة، وبحياة الزلطتين لأنهما من دومة وخيارة حيتين، وبحياة الجماد كله قياساً على حياة الزلطتين!!

فما الطفل الذي يضرب به المثل في بعض كتب التربية لأنه علل بياض اللبن ببياض أول بقرة رآها تحلب بأقبح جهلا ولا أضعف عقلا من هذا الذي زعم أن الزلط حي لأن بعضه يشبه شكله شكل الدوم والخيار.

ونعوذ بالله من أن نعرض لكتابه سبحانه بما لا يرضى فينتقم منا بنا كما انتقم من زكي مبارك. فما كان أحد يظن أن هذا الرجل إذا خلى بينه وبين قلمه يتخذ من قلمه حبلا يشنق به نفسه كما فعل على صفحات الرسالة في مقاله الأخير.

2 -

إلى الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي

تحيتي الخالصة إلى الأستاذ على غير سابق معرفة به، واعتذاري إليه والى قراء الرسالة من أني لم أجب على كلمته الفاضلة التي نقد بها كلمتي الرابعة في فساد الطريقة في كتاب النثر الفني. وأكثر عذري أني أردت أن أرجع إلى قديم مخطوط إعجاز القرآن للباقلاني لعلي أجد فيه حكما بين رأيي ورأي الأستاذ أدرجه في جوابي. فكان الأمل في الوقوف على المخطوط يتجدد كل أسبوع من غير أن يتحقق في أسبوع.

أما وقد طال الانتظار فسأكتب ما عندي من جواب غير راجع إلى ما في المخطوطات حتى تتيسر، والموعد الأسبوع الآتي إن شاء الله

محمد أحمد الغمراوي

الأقوال وأصحاب الأقوال

في العدد الأخير من مجلة الرسالة يذكر الأستاذ منصور جاب الله أنني أفتخر بأنني القائل

ص: 36

(المجد كالمال، فيه حرام وحلال)، ثم يذكر أنني نسبت هذه الكلمة الطيبة إلى الشيخ يوسف الدجوي في بعض المقالات التي كنت أرسلها إلى جريدة البلاغ أيام إقامتي في باريس، ويرجو أن أجلو له وجه الحقيقة حتى لا يقع في الاضطراب بين الأقوال وأصحاب الأقوال

وأقول بعبارة صريحة إن هذه الكلمة الطيبة هي كلمة أستاذنا الشيخ يوسف الدجوي، وقد تلقيتها عنه في معرض النصح يوم رآني أجادل خصومي بعنف وأنا أدفع عدوانهم على الآراء التي دونتها في كتاب (الأخلاق عند الغزالي)

وقد انتفعت بهذه الكلمة فجعلتها شعاري في الجهاد العلمي، بحيث صرت أؤمن بدون وعي بأنها من كلامي، لأنها اتصلت أوثق الاتصال بروحي وعقلي، ولو كان الشيخ الدجوي يخطر في بالي عند الافتخار بهذه الكلمة الطيبة لأسندتها إليه مفتخراً بأني كنت تلميذه فيما سلف من أيامي

ثم أقول إني قرأت للأستاذ منصور جاب الله مقالات ظفرت بإعجابي، ولكن مقاله الوجيز في مجلة الرسالة فاق تلك المقالات، لأنه أتاح لي فرصة ذهبية، هي فرصة التنويه بمكانة أستاذنا الشيخ يوسف الدجوي، أطال الله في حياته وأسبغ عليه نعمة العافية

أما بعد فقد كانت النية أن أكتب لمجلة الرسالة مقالاً أفصّل فيه ما وقع بيني وبين هذا الشيخ الجليل من خلاف كان السبب في أن أحرم من صحبته عدداً من السنين، وهو خلافٌ طريف، لأنه يتصل بآراء لو نشرت لكانت من أجمل الميادين التي تصطرع فيها العقول

وأعترف بأن حجة الشيخ أقوى من حجتي، لأنه أصدق مني، فأنا مجادل، وهو مؤمن، والإيمان أقوى من الجدال

أنا أحب أن ألقى الشيخ لأستأذنه في نشر ما دار بيني وبينه من مصاولات، ولكن أين الوقت، وبين داري وداره أميال وأميال؟

لم يبق إلا أن أقول إن هنالك تاريخاً مجهولاً، وهو أن مشيخة الأزهر دعت أستاذنا الشيخ الدجوي إلى تأليف كتاب يشرح أصول الإسلام للأقطار الأمريكية، فألف الكتاب، ولكنه لم يجد المترجمين

لن تُعرف قيمة أستاذنا الشيخ يوسف الدجوي إلا بالرجوع إلى نضاله الديني في البلبلة التي أوجبتها الحرب الماضية

ص: 37

على أستاذي ألف تحية من التلميذ الذي يحفظ الجميل.

زكي مبارك

إلى الناقد سيد قطب

لاحظت في سلسلة مقالاتك النقدية عن (عالم القصة) أنك تكرر في كثير منها قولك إنك لا تعرف - ولم تر - شخوص أغلب من تتحدث عنهم ويبدو هذا غريباً في نظري - فالقصة - في هذا اللون بالذات من ألوان الأدب - لاشك أن لشخصية الكاتب وحياته الأثر القوي في إنتاجها - ومن قرأ كتاب ديهامل (دفاع عن الأدب) الذي أهداه الدكتور مندور إلى المكتبة العربية - يذكر أن ميهامل عرف أغلب - إن لم يكن كل - من تعرض لذكره أو نقده في كتابه الحافل، من معاصريه من الكتاب أو القصصيين.

وأنت - لاشك - قد خطوت خطوة كبيرة في خدمة رسالة النقد المعنوية في هذا البلد فلم لا تحاول أن تخرج من عزلتك وتتعرف إلى من تكتب عنهم، بل وتكون معهم صداقات روحية، فإذا أمسكت بقلمك بعد ذلك لتتحدث عن إنتاج لهم، جمعت بين الصورة والأصل؛ كما أنك ستخدم تاريخ الأدب المعاصر فتترك للأجيال المقبلة صوراً حية قوية من حياة المفكرين والكتاب المعاصرين. والسلام عليكم ورحمة الله

فوزي سليمان

إلى الأستاذ دريني خشبة

لقد أضعتُ وقتا غير قليل من أيامي الماضية في تدبر أشعار أبي تمام، وجمع شتاتها، إذ احتلَّت من نفسي المكان المرموق برغم ما كان يستوقفني أحياناً عندما تتحرى الذاكرة فتعرض صوراً من أشعار بعض الشعراء القدامى مشابهة لبعض صور أبي تمام كما جاء في فصولك التي تقدمها إلينا اليوم بأسلوبك العذب، وعلى طريقتك المثلى

ولا يسعني - وأنا الحريص دائما على استيعاب كل ما يكتبه الأستاذ الفاضل - إلا أن أعرض عليه ما يأتي:

جاء في مقالك الأخير، أن أبا تمام نسخ قوله:

وأحسنُ من نْورٍ تفتحه الصِّبا

بياض العطايا في سواد المطالب

ص: 38

عن قول الأخطل:

رأين بياضاً في سوادٍ كأنه

بياض العطايا في سواد المطالب

فذكرتُ ما قاله ابن الأثير في الجزء الأول من المثل السائر ص 56 في الحكمة التي هي ضالة المؤمن: (ويحكى عن أبي تمام أنه لما نظم قصيدته البائية التي أولها: على مثلها من أربعٍ وملاعب انتهى منها إلى قوله:

يرى أقبح الأشياء أوبة آمل

كسَتْه يدُ المأمولِ حلة خائب

ثم قال:

وأحسنَ من نَوْر يفتحه الصَّبا

ووقف عند صدر هذا البيت يردده، وإذا بسائل على الباب وهو يقول: من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا، فقال أبو تمام:

بياض العطايا في سواد المطالب

فأتم صدر البيت الذي كان يردده من كلام السائل)

أورد ذلك بعد ما قرر (انه يجب على المتصدِّي للشعر والخطابة أن يتتبع أقوال الناس في محاوراتهم؛ فإنه لا يعدم مما يسمعه منهم حِكماً كثيرة، ولو أراد استخراج ذلك بفكره لأعجزه). وعلى ذلك لا يكون عمل أبي تمام هذا من باب النسخ، وإنما يكون من باب الأخذ بالحكمة التي هي ضالة المؤمن، وقد أوجب ابن الأثير الأخذ بها كما جاء في كلامه، كما أن هذا لا يتفق وطريقة النسخ عند ابن الأثير.

وبعد، فلست أدري أي المصدرين لبيت أبي تمام خليق بالاعتبار، فانه تختلف درجة البيت بقدر ما بين هذين المصدرين.

أرجو إيضاح ما ذكرت أيها الأستاذ الفاضل، أيدك الله وألهمك التوفيق.

محمد العراقي

ص: 39