الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 597
- بتاريخ: 11 - 12 - 1944
بعد الاعتكاف
وجدتُني بعد خروجي من المستشفى أشبه شيء بالآلة الميكانيكية الموهونة، تزلزلت مفاصلها وانحلت عراها، فشدوا بعضها إلى بعض بخيوط غليظة بالية؛ فكنت إذا نهضت نهضت متحاملاً على ذراع، وإذا مشيت مشيت متثاقلاً على حذر. وتلقيت على هذه الحال دعوة المجمع العلمي العربي بدمشق إلى مهرجان المعري، فارتحت إلى هذه الدعوة، لأنها ستتيح لي سعادة النفس بلقاء الإخوان، ومتعة العقل بشهود المهرجان، وصحة البدن بهواء الجبل، وتأدية الواجب لشيخ المعرة
ولكن السفر شاق، والأمد بعيد، والآلة الهشة لا تزال من الوهن تميد وتتخلع. فقررت الاعتكاف عن دنيا الناس حيناً من الدهر تحية وزلفى لإمام المعتكفين في مهرجانه؛ وقلت لنفسي: هي خلوة صوفية يثوب فيها الجسم، وتصفو بها الروح، وتشفُّ بيننا وبين أبي العلاء الحجب؛ فنخلو إلى روح الشاعر في كتبه، ونجلو لإخواننا المحتفلين فناً من أدبه. ووقفت بنا السيارة على باب صومعتي الريفية، وهي قائمة وحدها بين الحقول الخضر والأشجار الغين، كما كان يقوم عش آدم في الجنة حين لم يكن على الأرض إنسان غيره وغير زوجه، فدخلتها دخول الناسك الشريد وجد الظل والماء بعد وقدة الهجير وشدة الظمأ. وهبّت على الجسد العليل نفحات النسيم البحري فأذهبت عنه ما أرمضه في القاهرة من لفحات يوليو القائظ. وغمرني السكون الريفي الحي في المنزل والحديقة، وفيما حولهما من مزارع القطن والرز، فسبحتُ في فيض من سكينة الفردوس اختنق فيها ما بقى عالقاً بسمعي من أصداء الحياة وضوضاء المدينة. وقطعت عن عشي صلات العالم الخارجي فلم أعد أرى غير مخضرٍّ أو مفترٍّ، ولم أعد أسمع غير صادح أو باغم.
تذكرت حينئذ ناسك المعرة، وقد اختصر العالم في داره، واختزن العلم في صدره، ثم كفاه الله هم الرغيف والمرأة، فانفلت من إسار العيش، وانطلق سابحاً في جواء الفكر الحر، ينظر من علٍ إلى بني آدم المساكين، وقد سلطتهم الطبيعة على أنفسهم، فتفارسوا بالغرائز، وتنافسوا في الصغائر، وزعموا أنهم العلة الغائية لخلق السموات والأرض وما دب على ظهرها، وتولد في بطنها، ونما في ثراها، ولو أنك نضوت عنهم ثياب التمثيل، وجردتهم من وسائل التمويه والتجميل، لما وجدتهم في حقيقة الأمر يختلفون عن جماعة الكلاب تقتتل على جيفة، أو تختصم على كلبة!!
كان اعتكافي كما قلت قرباناً لأبي العلاء؛ فأنا أعيش معه أكثر النهار في اللزوميات، أو في الفصول والغايات، أو في مسارح التأمل والتفكر. وكثيراً ما كنت أستغرق في ادِّكاره واستحضاره وأنا مستلق على العشب، فأتمثله وهو مضطجع على سريره يفكر، أو جالس على حشيَّته يملي، وكاتبه بين يديه، وأولاد أخيه من حواليه، وتلاميذه وزواره في صحن الدار يرقبون أن تشرق عليهم شمس المعرفة من غرفته. وكنت أتخيل الشيخ بين هؤلاء كائناً عجيباً يشع العلم طبعاً كما تشع الشمس النور، وتبث الزهرة العطر، وتعسل النحلة الشهد، فأسائل نفسي: هل أبو العلاء وأضرابه من عباقرة الفكر أفراد من نوع الإنسان؟ وإذا كان وجودهم دليلاً على قابلية هذا النوع لمثل الرقي، فلماذا كانوا من الندرة بحيث يعدون عدَّاً منذ وقع في سمع الزمان نبأ آدم؟ وهل يجوز أن يكون التفاوت بينهم وبين سائر الناس كالتفاوت بيني وبين هذه الحشرات التي تموج من حولي تحت وريقات هذا العشب؟
خلوت إلى أبي العلاء في هذا المعتكف شهرين شغلتهما بالفكر فيه والقراءة له والتأمل معه وكنت أشعر في خلالهما أني أعمق شعوراً بالكون، وأدق فهما للطبيعة، وأتم علماً بالناس، ولكني مع ذلك حاولت مراراً أن أكتب فلم أفلح! ذلك لأن الخواطر التي كانت تنثال عليً إنما كانت صدى لخواطر المعري أو اشتقاقاً منها أو اقتياساً بها. وكنت أجد في شعره أو نثره التعبير الجميل الصادق عن هذه الخواطر فلا أجد بي حاجة إلى مزيد. والاعتكاف بعد هذا ضرب من العبادة الصامتة يغنى بها الفكر عن الذكر، والاستغراق عن المشاهدة، والاستقبال عن الإذاعة
وأوفيت على تلك الحال بالنذر للشيخ، فودعته وودعني، وانسدلت بيني وبينه القرون العشرة؛ ثم عاد إلى قبره الجديد، وعدت إلى مقري القديم، ليستأنف هو راحة الخلود في سكون المعرة، وأستأنف أنا جهاد الحياة في زحمة القاهرة. فلما أخذت، على عادتي في الريف، أبسط رئتي للهواء النقي، وأرهف أذني للصوت الجميل، إذا الهواء منتن بزكم الأنف ويأخذ بالنفس، وإذا الصوت منكر يندب الأخلاق وينعى الشرف، وإذا النقائص والفواحش التي أخذها أبو العلاء على الناس متفرقين في الأمم والعصور، تتجمع كلها في زمن واحد وبلد واحد! وتلك كارثة خلقية تتضاءل بجانبها كوارث الحرب في الأموال
والأنفس. فإن من يشكو الجوع والموت والدمار وهي بلايا تدفعها السلم القريبة ويعوضها العمل المنتج، ليس كمن يشكو جوع النفوس، وموت الضمائر، وخراب الأخلاق، وهي محن لا ينفع فيها غير تبديل الفطر الأصيلة، وذلك من صنع الله وحده!
لم يأت وا أسفا على مصر في دهرها الطويل حينٌ كهذه الحين انماعتْ فيه الرجولة، وانجلت الأخلاق، وطغت الشهوات، وأظلم الحس، حتى خفت الرذائل على الطباع، وساغت التهم الفواجر في الأسماع، فأصبح الناس يقرءونها كالأخبار، ويسمعونها كالقصص، ويتبادلونها كالتحايا، ثم لا يجدون لها في أنفسهم مضاً ولا غضاضة!
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
حول وحدة الوجود فيما كتبه الأستاذ دريني خشبة
للأستاذ معروف الرصافي
كتب الأستاذ دريني خشبة في العدد (591) من الرسالة مقالاً كرر فيه شتائمه السابقة لأهل وحدة الوجود عامة، وللرصافي خاصة، ونحن هنا لا نريد أن نقابل تلك الشتائم بمثلها، وإن كنا أقدر عليها من غيرنا، لأننا نكره النزال في حومة لا يخرج منها الغالب إلا وهو ألأم من المغلوب
يقول الأستاذ خشبة: (كيف تكون الكائنات مظاهر لهذا الإله العجيب الذي يقول أنصار وحدة الوجود إنه لا وجود إلا له. . . أما هذه المخلوقات فهي باطل - هي وهم. . . ولست أدري كيف يكون الرصافي وهماً وباطلاً. .) إلى آخر ما هنالك من أقاويل أرجف فيها
إن الأستاذ خشبة يتهم خصمه بنقيض اعتقاده، ويحمل كلامه على ضد مراده، ثم يؤاخذه على ذلك مؤاخذة إرذال وتشنيع، وهذا لعمر الله لم يعهد في تاريخ البحث والمناظرة لأحد قبل الأستاذ
أنا لا أشك في أن الأستاذ، لو قرأ في الصفحة 21 من رسائل التعليقات، ما نقلناه عن محيي الدين بن عربي كلامه حول ما جاء في الحديث النبوي (أصدق كلمة قالتها العرب، قول لبيد (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) وما أوضحناه نحن وذكرناه هناك، لأحمر خجلاً من قوله إن هذه المخلوقات باطل، وإنها وهم
إن أهل وحدة الوجود، يعطون الكائنات وجوداً لا يدركه الفناء. لأنهم يرون وجودها ووجود الله واحداً. وهذا هو كل ما يريدون من قولهم بوحدة الوجود، فالوجود في رأيهم واحد لا اثنان، وهو الله ذو الوجود الكلي المطلق اللانهائي، وما هذه الكائنات عندهم، سوى مظاهر للوجود الكلي، وصور قائمة به، كالأمواج في البحر، فإن الموجود في البحر، واحد وهو الماء، وما الأمواج إلا مظهر من مظاهر الماء، وصور قائمة به، وليس للأمواج وجود غير وجود الماء، ولا ريب أن وجود الأمواج حق، لا وهم من الأوهام
والظاهر أن الذي حمل الأستاذ خشبة على جعله المخلوقات وهماً، هو قولهم: إنه لا وجود إلا لله، ولو افتكر الأستاذ جيداً، لأدرك إنه لا يلزم من ذلك أن تكون المخلوقات وهماً، ولنضرب له مثلاً أوضح من أمواج البحر: هرماً مبنياً من الثلج، فنسأل الأستاذ هل لهذا
الهرم وجود غير وجود الماء؟ كلا! وهو مع ذلك حق، لا وهم من الأوهام، بل كل ما هنالك أنه غير قائم بذاته، بل بالماء، فهو من هذه الناحية، يقال له باطل على طريق التشبيه أي كالباطل، وبذلك فسر محيي الدين ابن عربي قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، إذ قال:(اعلم أن الموجودات كلها، وإن وصفت بالباطل فهي حق من حيث الوجود، ولكن سلطان المقام إذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله باطلاً، من حيث إنه ليس له وجود من ذاته، فحكمه حكم العدم، وهذا معنى قوله ما سوى الله باطل، أي كالباطل، لأن العالم قائم بالله لا بنفسه)
ثم قال: (والعارف إذا وصل إلى مقامات القرب في بداية عرفانه، ربما تلاشت هذه الكائنات، وحجب عن شهودها بشهود الحق، لا أنها زالت من الوجود بالكلية، ثم إذا كمل عرفانه، فإنه يشهد الحق والخلق معاً في آن واحد)
هذا ما قاله محيي الدين، وأين هو مما يقوله الأستاذ خشبة من أن هذه المخلوقات باطل، وإنها وهم. ولا ريب أن شهود الحق والخلق معاً في آن واحد كما قال محيي الدين، هو كشهود الماء والهرم والثلجي معاً في آن واحد، وهذه المرتبة عند الصوفية، تسمى مرتبة الجمع، كما هو مسطور في كتب التصوف، فكما أن وجود الهرم الثلجي حق، لا وهم، وإن لم يكن له وجود غير وجود الماء، كذلك وجود المخلوقات حق، لا وهم، وإن لم يكن لها وجود غير الوجود الكلي أو غير وجود الله، وكما أن هذا الهرم، مظهر من مظاهر الماء، وصورة قائمة بالماء، كذلك المخلوقات كلها مظاهر للوجود الكلي، وصورة قائمة به، فهي كهذا الهرم ليس لها وجود غير الوجود الكلي
أليس من المعيب عند الأستاذ خشبة، أن يتهم الوصفية بضد ما يقولون، ثم يشنع عليهم قولهم كل هذا التشنيع. وكيف جاز للأستاذ أن يتغاضى عن فصل كتبناه تحت عنوان (الحق والباطل، في رأي أهل التصوف) وقد صرحنا فيه بأن كل ما وقع فهو حق عند أهل وحدة الوجود وأنه لا باطل عندهم إلا المحال
2 -
ومن شتائم الأستاذ خشبة للرصافي قوله: (إن الرصافي يرى أن القرآن من تأليف محمد؛ بدليل ما دأب على ذكره من قوله: قال محمد في القرآن)
فنقول: إن هذا القول قد قاله بعض المشايخ من ذوي العمائم عندنا في بغداد قبل الأستاذ
خشبة، وهو يدل على أنهم يجهلون اختلاف علماء الإسلام في القرآن، هل هو المعنى، أو المعنى واللفظ معاً، وأنه ذهب فريق منهم إلى أن القرآن هو المعنى القائم بذات الله، دون الألفاظ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:(نزل به الروح الأمين على قلبك) ولم يقل على سمعك، حتى أن الإمام أبا حنيفة أجاز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة، ثم إن هؤلاء اختلفوا في ألفاظ القرآن لمن هي، فمنهم من قال بأنها لرسول الله، ومنهم من قال بأنها لجبريل، ومنهم من قال غير ذلك كما هو مسطور في كتب العقائد الإسلامية
وأما الفريق الثاني فذهبوا إلى أن القرآن هو المعنى واللفظ معا، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) والنطق يشمل المعنى واللفظ معاً، وأجاب الفريق الأول بأن (هو) في قوله:(إن هو إلا وحي يوحى)، عائد إلى القرآن، لا إلى المصدر المفهوم من (ينطق)، وإذا كان الأستاذ خشبة لم يطلع على هذا، فليقرأ ما كتبه الإمام السيوطي في الإتقان على الأقل
وعلى كلا القولين لكلا الفريقين، لا يلزم من قول الرصافي (قال محمد في القرآن) كونه من تأليف محمد، أما على القول الأول فلأن التأليف يشمل المعنى واللفظ معاً، ولا يكون اللفظ فقط، والقرآن هو المعنى الموحى من الله على قول هؤلاء، فيكون معنى قولنا (قال محمد في القرآن) عبر محمد عن المعنى الموحى إليه من الله. وأما على القول الثاني، فظاهر، لأن قول محمد هو قول الله، بدليل (وما ينطق عن الهوى إن هو وحي يوحى)
3 -
ومن شتائم الأستاذ خشبة للرصافي قوله: بأن الرصافي لا يرى معنى للبعث الذي يؤمن به المسلمون وجاء به القرآن الكريم
فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، إن الرصافي إنما قال عند الكلام عن البعث:(أما مسألة بعث الموتى بأرواحهم وأجسادهم، فلم أقف على كلام للصوفية في تخريجه على مذهبهم وتوجيهه) قال: (والذي أراه إنه معتقد صرف لا يقوم إلا بالإيمان، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يخفى أن الإيمان بالغيب، يتسع لأكبر منه وأبعد) قال: (ومن العبث إقامة الأدلة العقلية على أمور لا تقوم إلا بالإيمان في جميع الأديان، وليس الدين إلا إيماناً بالغيب، كما جاء في القرآن (يؤمنون بالغيب فالإيمان بالغيب هو أساس الأديان كلها)
وإنما قلنا إنه ليس للعقل فيه مجال، لأن العقل البشري، عاجز عن أن يدرك قيام الموتى
من قبورهم شعثاً غبراً، ينفضون التراب عن رؤوسهم، إلى ربهم ينسلون
أما أنا فأعترف للناس أجمعين بأن عقلي عاجز عن إدراك حقيقة البعث على هذا الوجه، وإن آمنت به، فإن كان عقل الأستاذ خشبة، يستطيع أن يقيم لنا الأدلة العقلية والعلمية على ذلك، فليتفضل، فنحن له من الشاكرين، وبهديه من المهتدين
ولكن كيف يستطيع ذلك، وهو ينادي بأعلى صوته أنه مؤمن بالله وبرسوله إيماناً ساذجاً كأيمان العجائز، ولو كان في استطاعته إقامة الأدلة العقلية على البعث، لما كان إيمانه كإيمان العجائز، ذلك الإيمان التقليدي الذي يزلزله أدنى شك، ويزعزعه أقل ريب
وإلى القراء بعض فقرات مما كتبه الرصافي عند كلامه على البعث، قال:
(وإن كان البعث مما لا تدركه العقول، فإن الإيمان به معقول ومقبول، ذلك لأن الغاية المقصودة منه، هي اعتقاد المؤمن بيوم الدين، الذي هو يوم الحساب والجزاء، ذلك اليوم الذي يجازى فيه المحسن، ويعاقب المسيء، ولا ريب أن الإنسان إذا كان مؤمنا بيوم الدين إيماناً صادقاً، اجتنب الشرور، وكف عن العدوان، وبذل الجهد في الأعمال الصالحة، وهذا هو كل ما تريده جميع الأديان في كتبها السماوية، وجميع الحكومات في قوانينها الأرضية). قال: (وعليه، فلا حرية في أن الأيمان بالبعث، يكون من أهم الوسائل المؤدية إلى السعادة في الحياة الدنيا، لأن المؤمن به، وبيوم الجزاء، يستحيل عليه عقلاً وعادة، أن يرتكب الشرور، وأن يعمل غير الصالحات، ومتى كان كذلك، كان صالحاً للحياة الاجتماعية بكل ما اشتملت عليه من حقوق وواجبات)
ثم قال: (وتالله إني لا أرى في الوسائل العلمية والأدبية، وسيلة تؤدي إلى إصلاح الإنسان في حياته الاجتماعية، أنفع، ولا أنجع، ولا أروع من إيمانه بيوم الجزاء المترتب على إيمانه بالبعث، ولا ريب أن الفضل كله في ذلك، راجع إلى دين الإسلام القائل بالبعث دون غيره من الأديان)
هذا ما قاله الرصافي في رسائل التعليقات من الكلام الذي أعرب فيه عن كل هذه المعاني السامية، ولكن الأستاذ خشبة يقول إن الرصافي لا يرى للبعث معنى فإنا لله وإنا إليه راجعون
أنشدك بالله أيها القارئ الكريم، هل في هذا الكلام ما يدل على أن قائله كافر بالبعث، وهل
يجوز للأستاذ خشبة أن يشتم الرصافي هذه الشتيمة المنكرة، ويتهمه بأنه لا يرى للبعث معنى
من الجائز شرعاً، أن أقابل هذه الشتائم بمثلها، و (الحرمات قصاص) وليس الأستاذ خشبه بمعجزي أن أكايله مثل هذا الشتم صاعاً بصاع، إن نثراً فنثر، وإن شعراً فشعر، ولكني كما قلت آنفاً أكره النزال في حومة لا يخرج منها الغالب إلا وهو ألأم من المغلوب
أنا لا أطلب من الأستاذ خشبة، ولا من غيره، أن يترك أيمانه الساذج، إلى إيمان تسايره الحكمة، ويؤيده المعقول، فإن ذلك منى فضول. كما أني لم أكتب رسائل التعليقات لدعوة الناس إلى وحدة الوجود، بل كل ما هنالك أني قرأت كتاب التصوف الإسلامي للدكتور زكي مبارك، فعلقت عليه بعض ما عندي في التصوف من معلومات، وأنا خاضع لكل رد يأتيني بالحق، لا بالباطل. أما التغيير والتبديل، بقصد التكفير والتشنيع، فشيء لا يرتضيه حتى الكفر المركب، فضلا عن الإيمان الساذج، والسلام على من ترك هوى النفس، ولم يقل إلا الحق.
بغداد
معروف الرصافي
على هامش النقد:
خواطر متساوقة في النقد والأدب والأخلاق
للأستاذ سيد قطب
كنت أعد مقالي للرسالة عن (مليم الأكبر) كتاب الأستاذ (عادل كامل) حينما وصل إليّ منها العدد الأخير، فقرأت فيه كلمة الأديب الفاضل (فوزي سليمان) الموجهة إليّ في باب البريد الأدبي عن الناقد بين الكتب والشخصيات. وقد رأيت في هذه الكلمة ما يدعو إلى البيان المفيد. ولم أجد بأساً من تأخير الكتابة عن (مليم). فهذا الشاب الفقير (مليم) قد صار من أغنياء الحرب كما يقول مؤلفه. وحسب أغنياء الحرب ما هم فيه من ثراء، ولا ضير عليه حين يتأخر نصيبه من الأدب. بل لعله لا يحفل مطلقاً بهذا النصيب!!! ثم إنّ له لدينا حساباً عسيراً عن أخلاقه وأعماله وآرائه. ومن حقه علينا وقد أصبح من الأثرياء أن نفرغ لحسابه بما يناسب المقام!!!
يقول الأديب الفاضل:
(لاحظت في سلسلة مقالاتك النقدية عن (عالم القصة) أنك تكرر في كثير منها قولك: (إنك لا تعرف - ولم تر - شخوص أغلب من تتحدث عنهم. ويبدو هذا غريباً في نظري، فالقصة - في هذا اللون بالذات من ألوان الأدب - لاشك أن لشخصية الكاتب وحياته الأثر القوي في إنتاجها. . .)
ثم يقول:
(فلم لا تحاول أن تخرج من عزلتك، وتتعرف إلى من تكتب عنهم. بل وتكون معهم صداقات روحية. فإذا أمسكت بقلمك بعد ذلك لتتحدث عن إنتاج لهم جمعت بين الصورة والأصل، كما أنك ستخدم تاريخ الأدب المعاصر، فتترك للأجيال المقبلة صوراً حية قوية من حياة المفكرين والكتاب المعاصرين)
وهذا كلام صحيح في مجموعه، وإن لم يكن ضرورياً في كل حين وأنا قد قلت شيئا منه في مناسبات سابقة:
فمنذ أثنى عشر عاماً كنت أقدم الديوان الأول لزميلي وصديقي الشاعر (عبد العزيز عتيق) - وكنت وإياه ما نزال طالبين - فجاء في مقدمتي هذه الفقرات:
(أعتقد أنني أحق إنسان بأن أكتب هذه المقدمة لديوان (عتيق) وأنه لو لم يطلب مني وضعها لتقدمت أطلبه منه. ذلك أني قد أكون أعرف الناس بشخصيته، وبالعوامل التي تختلج في نفسه، والظروف التي تحيط به؛ وما كان هذا الشعر إلا صدى لهذه المجموعة، وصورة أخرى لها. ولقد قاسمته كثيراً من هذه العواطف التي سجّلها الديوان؛ وشاركته كذلك بعض ظروفها. والذي لم أكن موافقاً عليه من ناحية نسجه ومنحاه، كنت موافقاً على الظرف الذي انبعث عنه، والعاطفة التي أملته
(وإني لميال إلى اعتبار شخصية الشاعر جزءاً من ديوانه، - إن لم تكن هي كل ديوانه - فمعرفة الناقد بشخصية من ينقده أمر ضروري له في تحليله. وهو إذا لم يعرفها استعان على معرفتها بآثارها المكتوبة. فإذا قلت: إنني قد أكون أعرف الناس بشخصية صاحب هذا الشعر، كان ذلك معادلاً للقول بأني أحق إنسان يقدمه للناس.
(وأنا اليوم حينما أريد أن أعرف صدق الشاعر في التعبير عن شعوره - وهو عندي مناط الشاعرية - لا أجهد نفسي في التحليل والتمحيص. وتخريج المعاني ومراجعة الأحاسيس. كلا! فإن لدي صورتين حاضرتين: صورة صاحب الديوان وتصرفاته في الحياة وأفكاره وخواطره ودراسته. . . الخ. وصورته الأخرى المخطوطة في ديوانه. وما عليّ حين أشاء معرفة صدقه من كذبه، إلا أن أوازن بين الصورتين، فينماز المشوه والدخيل. وتتبين مواضع التزييف والمغالطة، أو تستقيم الصورتان وتنعدم الفروق. . .)
وأنا اليوم على هذا الرأي مع اختلاف في التطبيق والتفسير. فالصدق الفني - كما أفهمه اليوم - ليس من الضروري أن يحقق الصدق الواقعي. وحسبه أن يبلغ صدق الإحساس بالحياة وصحة الشعور بالطبيعة، وأن يعبِّر بعد هذا عن الخلجات المستسرة في الضمير، وإن لم يطابق تصرف الفنان الظاهر للعيان!
فهذه الصورة المستسرة هي الصورة الفنية مترجمة إلى لغة التعبير
على أن العجز لسبب ما عن تحقيق الشيء في عالم الواقع، كثيراً ما يقود الفنان لتحقيق ذلك الشيء في عالم الفنون. سواء أكان سبب العجز شخصياً أو كونياً. مثال ذلك شاعر أو قصاص مندفع بحكم بنيته أو وراثاته أو مزاجه إلى الارتكاس في حمأة الشهوات؛ ثم نجده يتغنى بالمثل الرفيعة أو يرسم شخصياته نماذج للترفع أو الصوفية. . .
لهذا الفنان عالمان: عالم الواقع الملموس، وعالم الرغبات المكنونة. وعالمه الفني هذا العالم الأخير. إنه ذو شخصية مزدوجة، نعلم ذلك من صورة شخصه، ومن صورة فنه. وليست إحداهما بكاذبة وهنا يكون للمعرفة الشخصية قيمتها في تحليل هذا الازدواج!
والموانع الكونية شبيهة بالموانع الشخصية. وصرعاها أكثر وأكثر. وما المدينة الفاضلة والطوبى العصرية وأمثالهما إلا من صنع هذه الموانع الكونية، والرغبات الكونية كذلك. فأنا حريص على أن أعتقد أن للكون رغبات مضمرة في التسامي المطلق تمثلها رغبات الأفراد الفانين!
ولست كذلك ممن يخشون غلبة الملابسات الشخصية على الأمانة الأدبية في النقد - إذا أنا عرفت أشخاص المنقودين - ولا ممن يخشون اتهام بعض القراء لي بأن لهذه الملابسات دخلاً في توجيه النقد، تحت تأثير الصداقات والخصومات!
وقد وقفت قبل أحد عشر عاماً كذلك ألقي محاضرة عن (وحي الأربعين) ديوان الأستاذ العقاد في (رابطة الأدب الجديد) فبدأتها بهذا التمهيد:
(أود قبل أن أتحدث عن (وحي الأربعين) أن أعلن إليكم صداقتي لصاحب (وحي الأربعين)! وأن هذه الصداقة شرط أساسي للدراسة والنقد - ولاسيما نقد الشعر ودراسته - فأنت لن تستطيع فهم الشاعر وتحليله حتى تتصل بقلبه وعقله، ولن يتاح لك الاتصال بهما حتى تكون صديقاً للشاعر، وحتى يكون بينكما تواد وتعارف قديم.
(وربما جهد غيري في مثل هذا الموقف أن ينكر صلاته بالرجل الذي يتحدث عنه، أو ربما جهد أن يعلن إليكم انه تخلص من صداقته، ليخلص إليكم برأيه البريء!
(أما أنا فلا أنكر! وأما أنا فلم أحاول التخلص من هذه الصداقة؛ لا. بل إني لأعلن إليكم أنني اتصلت بالأستاذ العقاد لأستوضحه بعض النقط، ولأتأكد من بعض ما كنت في شك منه.
(ولست أخشى من هذه الصداقة - على أشدها - أن تؤثر في رأيي. لأن لي صداقة أخرى أقوى من هذه الصداقة. وهي صداقتي لضميري. لا. بل صداقتي لشخصيتي، وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى. . .)
وأنا اليوم بعد أحد عشر عاماً كما كنت يومذاك بفارق واحد. وهو أنني لم أعد أعني اليوم
- كما كنت أعنى يومذاك - بإعلان (صداقتي لشخصيتي وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى. . .)
إنني لم أعد أحرص اليوم على مقاومة الفناء في الشخصيات الأخرى، لأنني عدت أكثر اطمئناناً لعدم الفناء! وإني لأعرف اليوم أن صيحتي يومذاك إنما كانت صيحة الخائف الذي يحدث نفسه في الظلام، وينفي عنها الأوهام ليشعر بالاطمئنان!!!
لقد كنت أتحدث يومها عن العقاد. وكانت شخصية العقاد هي الشخصية الوحيدة التي أخشى الفناء فيها - كنت أحس هذا بيني وبين نفسي - ولقد ظلت هذه الخشية إلى وقت قريب حينما بدأت أشعر أنني قد تخلصت. وأنني أنتفع بالعقاد ولكنني لا أقلده. وأن لي طريقاً ألمح معالمه وأستشرف آفاقه. وأنني أتذوق بحسي، وأنظر بعيني، وأسمع بأذني. وإن كان للعقاد فضل التوجيه في الطريق العام.
عندئذ بدأت أسكت عن كل اتهام. وبدأت أتحدث عن أستاذية العقاد لي وتلمذتي له، وبدأت أسخر من بعض (شبان) الجيل الذين يحسبون هذا مطعناً إليّ منه الغمزات! فأؤكد لهم التهمة التي يلمحون بها أو يصرحون!
وإني لأضحك وأسخر من الكثيرين، الذين كلما رأوا أنفسهم ينتفعون ببعض الشخصيات، خافوا أن يضبطهم الناس متلبسين فراحوا يعلنون تجاهلهم التام أو خصومتهم القوية لهذه الشخصيات، على طريقة السذّج من المتهمين الذين إذا سئلوا: هل سرقتم من بيت فلان؟ كان الجواب: إننا لم نعرف فلاناً هذا ولا بيته في يوم من الأيام!
وبعد فأنا أرى الآن أن المعرفة الشخصية قد تكون ضرورية في أحيان، وغير ضرورية في أحيان؛ وذلك حسب طبيعة الفنان، فبعضهم يغنيك بما يكتبه عن معرفته لأنه يكتب ما يشبه الاعترافات كابن الرومي والمازني. وبعضهم لابد أن تعرفه وبعضهم تزيدك معرفته علماً بفنه. . .
تلك خلاصة رأيي في النقد والمنقودين، فإذا كان الأديب الفاضل لاحظ أنني ذكرت عدم معرفتي لبعض من كتبت عنهم من الشبان، فإنما كان ذلك لأنني لم أعرفهم فعلا؛ ولم تكن لدي الفرصة لمعرفتهم من قبل. كل ما هنالك أنني وجدت بين يدي أعمالاً أدبية تستحق التنويه؛ فلم يكن من الميسور أن أتعرف إلى أصحابها لأكتب عنها مقالة عابرة. ورأيت أن
أكون أميناً، فلا أدعي معرفتي الكاملة لهذه الشخصيات، ولا أزعم أن ما كتبته هو كل ما هنالك. فأعلنت أنني لا أعرفهم، وهذا يتضمن في طياته بعض العذر إذا كنت لم أحط بكل جوانبهم.
ومنذ عامين لديّ كتاب عن (المدارس الأدبية المعاصرة) وما يؤخرني عن كتابته إلا استيفاء بعض الدراسات الشخصية لأبطاله. وقد استطعت أن أجمع عن كثب معظم ما أريد جمعه عن (العقاد وتوفيق الحكيم) وشيئاً مما أريد جمعه عن (طه حسين. والمازني) وقليلاً جداً عن (المنفلوطي والزيات) ومتفرقات عن (تيمور وحقي ولاشين) وآخرين. . .
وبعد ما أستوفي هذه الدراسات - لا قبله - سآخذ في الحديث عن (المدارس الأدبية المعاصرة). ولو صرفت عامين آخرين. فأنا أقدر قيمة هذا العمل وأعرف ما هو مطلوب مني إزاءه. ويومها سأحقق ما يقترحه عليّ الشاب الأديب.
سيد قطب
بين الأبصار والبصائر
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
امتاز الأدب العربي بطائفة من العُميان فقدوا نعمة البصر ولكنهم لم يفقدوا نعمة الذكاء والفهم والبصيرة. حتى لقد بلغ بعضهم منزلة يحسده عليها المبصرون.
وفي كل أمة طائفة من هؤلاء، اشتهروا بحسن الأثر، وجليل العمل. وعند الإنجليز منهم أمثال الدكتور أرميتاج؛ والقس توماس برنارد، والسير فرنسيس كامبل، ودكتور رانجر؛ والسير روبرتسون تندال، وهنري تايلر، والسيدة هيلين كيلر.
وعند الفرنسيين منهم أمثال السيدة جاليرون دي كاليرون
وعند العرب أمثال أبي العلاء المعري، وبشار بن برد، وحماد بن زيد الضرير.
والذي يولد أعمى يقال له أكمه. ومن هؤلاء عندنا بشار ابن برد وقد جمع إلى الكمه جحوظ العينين وضخامة الخلقة وعظم الوجه.
ومن العميان من أصابه العمى في طفولته، كما حدث للمعري، وقد اعترف هو بذلك في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة.
وقد يكون العمى في الصغر نتيجة لشيء آخر غير المرض. كما حدث للقس برنارد الإنجليزي وللسير فرنسيس كامبل الذي جنت على بصره لعبة طائشة.
وقد يكون العمى نتيجة لحادث مقصود لذاته، كتوقيع عقوبة أو تنفيذ حكم. كما حدث لأمير المؤمنين المتقي الخليفة العباسي الذي خلعه الثوار وسملوا عينيه، ولم يمنعهم دينه وصلاحه وكثرة صلاته وقيامه من تعذيبه على تلك الهيئة. واجتمع عليه فقد البصر وعذاب السجن خمسة وعشرين عاماً احتملها صابراً راضياً مذعناً لقضاء الله. وله في ذلك أبيات مؤثرة يقول فيها:
سملونا وما شكو
…
نا إليهم من الرمد
ثم عاثوا بنا ونح
…
ن أسودٌ وهم نقدْ
كيف يغتر من أقا
…
م وفي دستنا قعد
وكما حدث للوزير محمد بن بقية وزير بني بويه الذي رثاه ابن الأنباري الشاعر بقصيدته المشهورة التي مطلعها: -
علو في الحياة وفي الممات
…
لحق تلك إحدى المعجزات
وهذه القصيدة وزعت في شوارع بغداد خفية - كما توزع اليوم المنشورات السرية - إلى أن بلغ خبرها ابن بويه فتمنى أن يكون هو المصلوب وأن تكون القصيدة قيلت فيه.
ومن الناس من يصاب بالعمى على سن عالية كما حدث للدكتور أرميتاج الإنجليزي من رجال القرن التاسع عشر، فقد كان جراحاً نابهاً وبرع في علم النبات براعة جعلته من أكبر الثقات فيه. وأتقن الألمانية كأنه وهو يتكلم بها لا يستعمل لغة غربية، فلما نزلت به البلية لم يستكن إلى محبس العمى وسجن الظلام بل استطاع أن يقدم إلى إخوانه في البلاء أجل المساعدات التي جعلته في عداد الآخذين بيد المكفوفين العاملين على تحسين أحوالهم وتهوين الحياة عليهم.
ومن هؤلاء في أدبنا العربي صالح بن عبد القدوس صاحب البيت المشهور: -
ما يبلغ الأعداء من جاهل
…
ما يبلغ الجاهل من نفسه
فقد ذاق متع الدنيا ولذات العيش وهو بصير، فلما عمى لزم بيته وأوى إلى محبسه، ووجد في الوحدة أنساً وفي العزلة سروراً. وعبر عن ذلك بقوله: -
أنست بوحدتي فلزمت بيتي=فتم العز عندي والسرور
وأدبني الزمان فليت أني
…
هجرت فلا أزار ولا أزور
وله أبيات مؤثرة يخاطب بها عينه الذاهبة بقوله: -
عزاءك أيها العين السكوب
…
ودمعك أنها ثوب تنوب
وكنت كريمتي وسراج وجهي
…
وكانت لي بك الدنيا تطيب
ومنها: -
على الدنيا السلام فما لشيخ
…
ضرير العين في الدنيا نصيب
يموت المرء وهو يعد حيا
…
ويخلف ظنه الأمل الكذوب
يمنيني الطبيب شفاء عيني
…
وما غير الإله لها طبيب
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً
…
فإن البعض من بعض قريب
وممن أصيب بالعمى على كبر عطاء بن رباح الذي ولد في خلافة عثمان بن عفان، وكان تابعياً جليلاً. انتهت إليه الفتوى بمكة وشهد له أبو حنيفة بالفضل.
ومنهم عقيل بن أبي طالب أخو الإمام علي؛ وقد اجتمع له من علم النسب وأيام العرب شيء كثير.
ومنهم عبد الله بن العباس ابن عم النبي عليه السلام، وأبو الخلائف من الدولة العباسية. وكان فقيهاً عظيماً. وبلغ من فقهه أن الخليفة عمر كان يستشيره في مسائل الفقه. هذا إلى وضوح في الحجة، وجهارة في الرأي، وقوة في البرهان.
وليس في الدنيا من يشتهي العمى ويطلبه، فهو شيء بغيض إلى النفوس؛ حتى ليدعي به على المكروه، ولكن شاعراً واحداً تمناه لنفسه فكان له ما تمنى. . .
أما الشاعر فاسمه المؤمل بن أميل؛ وأما قصته فكما يأتي: -
أحب امرأة من الحيرة، ورآها فجنت عليه نظرته إليها فقال: -
شفَّ المؤمل يوم الحيرة النظر
…
ليت المؤمل لم يخلق له بصر
فما عتم طويلاً حتى تحقق ما تمناه، وضاعت منه عيناه. . .
ولم يبلغ أحد في الأدب العربي كله منزلة أبي العلاء، وهو في الشعر من هو. أما في التأليف فقد عد له المرحوم تيمور باشا أربعة وسبعين كتاباً؛ ليست مثل كتب السيوطي. . . ولكنها مثل (رسالة الملائكة) و (الفصول والغايات) و (رسالة الغفران).
استعمل العمى في القرآن بمعنى الضلالة والحيرة. وذلك شر أنواع العمى. أما فقد البصر فقد يخففه ويغني عنه تفتح البصيرة وتنور القريحة. ونحن نجد الآن بعض المكفوفين يفوقون المبصرين إدراكاً للأمور وخوضاً في المعترك الحيوي، وهم ليسوا كمكفوفي الأمس يخلدون إلى الدعة ويلتزمون المحابس في دورهم، ولكنهم يشتركون في الحياة العامة.
فالسير فرنسيس كامبل حصل على أعلى درجة من جامعة جلاسجو وهو أعمى. وكافح في الحياة، واحتل مكاناً بارزاً في الحياة الاجتماعية بإنجلترا حتى استحق لقب (سير) وهو به جدير.
والسيدة هيلين كيلر لم يمنعها العمى من التأليف المجدي في علم النفس ودرس نفسيات الأطفال. وكتاباها حجة في هذا الموضوع.
والشاعرة الفرنسية مدام جاليرون دي كالون لم يعطل العمى مواهبها في الشعر وبراعتها في الخيال. وهي تعبر عن ذلك في قصيدة لها عنوانها (ماذا بهم؟) تقول منها: -
لن أراك بعد هذا أيتها الشمس الساطعة
ولكني سأحس حوادثك
لن أراك بعد هذا يا سناء الورود
ولكن السماء قسمت حظوظنا
فماذا يهم الضياء؟ - إن عندي روح الأشياء
لن أرى بعد هذا بهاء الورود
ولكن عندي عبيرها الفوَّاح
والدكتور رانجر مثال لشجعان المكفوفين. فلم ينطو على نفسه بل حصل على إجازة الحقوق وهو ضرير. واشتغل بالمحاماة واشترك في مجامع عديدة للعميان وصاهر إلى أشرف الأسر الإنجليزية.
والسير روبرتسون تندال لا يقل عنه شجاعة فقد ناضل واشترك في الهيئة الاجتماعية، وألقى دلوه مع المبصرين حتى شرفته مدينة بريتون الإنجليزية بالنيابة عنها في مجلس النواب.
والمستر هنري تايلر أكمل نفسه بالعلم - وهو ضرير - فاختير في سنة 1898 رفيقاً بالجمعية الملكية للمهندسين؛ واختير ممثلاً جامعياً في مجلس جامعة كامبريدج. واختير للمدينة سنة 1900م. وله على المكفوفين من طلاب العلم العالي فضل عظيم. فقد اشترك في طبع كتب لهم يقرءونها بأطراف أصابعهم، ولا بأبصارهم. . .
ولعل القراء يذكرون فصلاً ترجمته مجلة المختار خلاصةً لكتاب ألفه كفيف اسمه (كارستن اونستاد) وعنوان الكتاب (العالم عند أطراف أصابعي)، وهو ترجمة لحياة حافلة بالمغامرة والبطولة والنضال من شاب فقد نعمة البصر وهو دون الثلاثين. وهذا الكتاب يذكرنا بكتابين نفيسين للسيدة هيلين كيلر؛ الأول (قصة حياتي) والثاني (العالم الذي أعيش فيه)
وللمكفوفين نوادر وطرائف لا يخلو منها كتاب من كتب الأدب والتاريخ، وقد صنع فيهم صلاح الدين الصفدي كتابه المشهور (نكت الهميان) الذي أشرف على طبعه المرحوم أحمد زكي باشا رحمه الله.
محمد عبد الغني حسن
جواب على نقد
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
تفضل الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي فنقد كلمتي الرابعة في فساد الطريقة في كتاب النثر الفني، وخالفني في رأيين ارتأيتهما، الأول يتعلق بالبيت المعروف
كأننا والماء من حولنا
…
قوم جلوس حولهم ماء
والثاني يتعلق بنص من كتاب إعجاز القرآن للإمام الباقلاني
فأما البيت فقد أورده صاحب النثر الفني مثالاً للكلام يكون بالغ الصدق فلا يمنعه ذلك أن يكون بالغ التفاهة. وضربته في كلمتي مثلاً لسوء فهم صاحب الكتاب، لأنه لم يدرك أن تفاهة البيت البالغة راجعة إلى صدقه ولكن إلى نوع من الكذب فيه، لأنه في الواقع بيت كاذب من ناحية التشبيه إذ لم يغاير بين المشبه والمشبه به. وأردت أن أمتحن هذا الرأي باختيار عملي فقلت لو نقلنا البيت عن التشبيه إلى الإخبار، بحذف كأن وإحلال إن محلها، لصار البيت صادقاً ولارتفعت قيمته ارتفاعاً ينجيه من أن يكون مثلاً مضروباً للكلام المستهزأ به. وتعقب الأستاذ بدوي قولي هذا بأن البيت يظل تافهاً حتى بعد التعديل المقترح، بل يكون من وجهة اللغة غير صحيح لأن الخبر فيه لا يفيد فائدة تزيد على المبتدأ، ولأنه لا يحتمل أن يكون من قبيل قول أبي النجم (وشعري شعري)
فأما أن البيت يظل تافهاً فصحيح. لكني لم أزعم للبيت أنه بذلك التعديل ينجو من التفاهة، ولكن زعمت أنه ينجو من التفاهة البالغة التي جعلته مثلاً يسخر منه. وتحول الكلام من تافه بالغ إلى تافه مجرد ارتفاع في قيمته من غير شك، كالعدد السالب الكبير إذا صار سالباً صغيراً أو موجباً صغيراً، وليس كل تافه يستهزأ به، فالكلام التافه كثير، ومضرب المثل للمستهزأ به منه قليل
أما عدم صحة البيت برغم جعله إخبارياً فلست أوافق الأستاذ عليه. ألا يرى أن الإظهار بعد الإضمار، والوصف بعد أن لم يكن وصف، فائدة زائدة في الخبر، لها قيمتها في الإخبار وليس لها أية قيمة في التشبيه، بفرض أن ليس هناك فرق معنوي ما بين الجملة الحالية في الشطر الأول وأختها الوصفية في الشطر الثاني؟ إن الجملة الخبرية في صميمها هي (إننا قوم جلوس) وهي جملة مفيدة من غير شك، كبرت الفائدة أو صغرت. وإسقاط
الجملتين، الحالية والوصفية، عند تجريد البيت المعدل هكذا لتقدير فائدته جائز عند الإخبار، غير جائز عند التشبيه، لأن الجملة الحالية - والماء من حولنا - هي من صميم المشبه في بيت التشبيه، وليست من صميم اسم إن بعد أن صار البيت إخبارياً. أي أنها جزء أساسي من المشبه، وليست أختها الوصفية - حولهم ماء - إلا صفراً في المشبه به في البيت فطرح كل منهما من طرفي البيت لتصفيته وتقدير قيمته ممكن في حالة الإخبار، غير ممكن في حالة التشبيه
وأنا مع الأستاذ في أن المبتدأ والخبر - لولا الوصف بالجلوس - ليسا من باب قول أبي النجم (وشعري شعري)، لا لأنه لا يحتمل شيئاً مما يحتمله قول أبي النجم كما يرى الأستاذ، فإن المسألة في مثل هذا مسألة توجيه الذهن إلى معنى غير ما في ظاهر اللفظ، وتوجيه الذهن ممكن في الحالين، ولكن لأن قائل البيت لا ينتظر منه مثل هذه الالتفاتة الذهنية، لأن الذي يعجز عن أن يغاير بين طرفي التشبيه يكون عن مثل هذه الالتفاتة أعجز
على أن الأمر كله هين من الناحية التي كتبت من اجلها الكلمة المنقودة. فلو صح نقد الأستاذ كله لما غير شيئاً من السبب الذي من أجله خطأت صاحب النثر الفني في فهمه أن البيت بالغ الصدق وبالغ التفاهة معاً. ولا أظن الأستاذ يصوب صاحب الكتاب في هذا. والتعديل الذي اقترحته وتعقبه الأستاذ لم يكن، كما قلت، إلا من باب الاختيار العملي للرأي الذي ارتأيته. ولو شئت لاختبرته من الطرف الآخر، بإبقاء حرف التشبيه وإدخال المغايرة على المشبه به، كأن يكون - طير جثوم حولها ماء - بدلاً من قوم جلوس. وهذا يرفع البيت حالاً من الوهد إلى النجد، ويجعله في حالة التشبيه أعلى مرتبة منه في حالة الإخبار، لوضوح التشبيه وخفاء الاستعارة فيما يبدو. لكن الأمر لا يستحق كل هذا التدقيق
أما النص المنقول من كتاب إعجاز القرآن فأمره أهم. والنص محل الخلاف هو: (السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع. وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى. وفصلٌ بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره. ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون
السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)
هذا هو النص. وقد ذهبت إلى إنه مختلف غير متفق بعضه مع بعض، فما قبل قوله:(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه إلخ. . .) مستقيم، وهو عمود الكلام وأصل رأي الباقلاني، إليه ينبغي أن يرد ما عداه؛ لكن ما بعده لا يتفق معه ولا مع نفسه إلا إذا تبودل المكان بين كلمتين تحل إحداهما محل الأخرى، وبين جملتين تحل إحداهما محل الأخرى كذلك. فتصير بقية الكلام كما يأتي:(وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون اللفظ منتظماً دون المعنى. (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع) كانت إفادة السجع كإفادة غيره. (ومتى ارتبط المعنى بالسجع) كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى). والشرطتان تبينان الكلمتين، والأقواس تبين الجملتين - على أحد وجهين - اللتين حلت إحداهما محل الأخرى ليستقيم الكلام كله
وذهب الأستاذ بدوي إلى أن النص كما هو في الأصل مستقيم واضح كل الوضوح، لا تداخل فيه ولا اختلاف، وجاء بتوجيه هو خير ما يمكن أن يوجه به النص، لولا موانع من ذلك في نفس الكلام.
وأظهر هذه الموانع هو أن توجيه الأستاذ للنص المطبوع يستقيم به أكثر لا كله. فهو مثلاً لم يوجه قول الباقلاني (دون تصحيح المعنى) في قوله: (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى) مع أن هذه الكلمات الثلاث هي التي تحول دون ما ذهب إليه الأستاذ بدوي لأنها صريحة في أن الباقلاني يقصد كلاماً غير منتظم المعنى ولا صحيحه، وهذا لا يتفق مع صدر الجملة الشرطية لأن ارتباط المعنى بنفسه لا بالسجع يضمن صحة المعنى من غير شك لأنه هو المقصود وله في هذه الحالة الاعتبار الأول فكيف يمكن أن يكون غير صحيح أو أن الكلام المرتبط معناه بنفسه مستجلباً للتجنيس دون تصحيح المعنى؟ إن من الواضح أن من فعل الشرط وجوابه مختلفان غير متسقين في هذه الجملة من النص المطبوع؛ كذلك من الواضح أن الاختلاف يزول بالإبدال الذي اقترحته، لأن استجلاب التجنيس دون تصحيح المعنى يتفق مع الحالة الأخرى التي ذكرها الباقلاني، حالة ارتباط المعنى بالسجع وخضوعه له، في القسم الذي قال عنه في صدر كلامه إن المعنى يقع تابعاً للفظ المسجوع. فإذا وضع فعلاً الشرطيتين -
أو جواباهما - أحدهما مكان الآخر، زال الاختلاف واتسق الكلام
ونستطيع أن نتبين وجه الحق في هذا الموضوع من طريق آخر: طريق رد النظائر في النص بعضها إلى بعض، لننظر على أي الوجهين يمكن أن يستقيم الكلام كله في نفسه ووفق رأي الياقلاني في تقسيم ما هو على هيئة السجع من الكلام
لقد قسم الباقلاني ما هو على هيئة السجع إلى قسمين في صدر النص: قسم يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وقسم يتبع اللفظ فيه المعنى. ولا خلاف في المقصود من هذين القسمين فأولهما للفظ فيه الاعتبار الأول، وثانيهما للمعنى فيه الاعتبار الأول
هذا القسمان قد أشار إليهما الإمام الباقلاني في بقية النص مرتين: الأولى في قوله (وفصلٌ. . دون اللفظ) والثانية في قوله (ومتى ارتبط المعنى بالسجع. . . دون تصحيح المعنى)
ففي الأولى ذكر صنفين من الكلام: كلام منتظم في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه - وواضح أن هذا مراد به القسم الثاني الذي يتبع اللفظ فيه المعنى - وكلام يكون المعنى فيه منتظماً دون اللفظ ولا محيص من رد هذا إلى القسم الأول الذي يتبع فيه المعنى اللفظ. ويتبين بأدنى تأمل أن الوصف كما هو لا ينطبق على القسم الذي يجب رده إليه، لأن الوصف يذكر كلاما غير منتظم اللفظ منتظم المعنى، والقسم الأول على عكس ذلك تماماً: منتظم اللفظ لأنه قصد فيه إلى السجع، غير منتظم المعنى لخضوعه للفظ وتبعيته له. فلا يمكن أن يكون الباقلاني أراد هذا. فما تعليل الخلف؟ لا شيء إلا أن كلمتي (المعنى)(واللفظ) حلت إحداهما لسبب ما محل الأخرى في الوصف. هذا هو أبسط تفسير ممكن. وإذن يجب أن تكون حقيقة الوصف هي (أن يكون اللفظ منتظما دون المعنى) حتى ينطبق على أول القسمين اللذين قسم إليهما الباقلاني ما هو على هيئة السجع من الكلام
لننظر الآن في الإشارة الثانية إلى نفس القسمين. أشار الباقلاني إلى أحدهما بقوله (ومتى ارتبط المعنى بالسجع) وإلى الآخر بقوله (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع). فإلى أي القسمين ترجع كل من الإشارتين؟ إن من الواضح أن الإشارة الثانية راجعة إلى القسم الثاني الذي يتبع اللفظ فيه المعنى، وإذن تكون الإشارة الأولى راجعة إلى القسم الأول الذي يتبع المعنى فيه اللفظ ويكون للفظ فيه الاعتبار الأول. ليس عن ذلك محيص
من هذا يتبين أن معنى قول الباقلاني (ومتى ارتبط المعنى بالسجع) أي متى جاء تابعاً
خاضعاً للسجع، ومعنى قوله (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع) أي متى جاء مستقلاً عن السجع وجاء السجع تابعاً له. لكن توجيه الأستاذ بدوي عكس الوضع، وجعل ارتباط المعنى بالسجع معناه استلزامه السجع لأداء المعنى على وجهه، أي أن اللفظ المسجوع جاء في هذه الحالة تابعاً للمعنى، فرد صدر الإشارة إلى القسم الثاني، ورد آخرها إلى القسم الأول، أي عكس ما يحتمه رد النظير إلى نظيره في كلام الباقلاني
وما دام قد تبين أن ارتباط المعنى بالسجع هو تبعيته للفظ، وجب أن يكون هذا هو المستجلب لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى، وتكون فائدة السجع كفائدة غيره في حال ارتباط المعنى بنفسه واستقلاله عن اللفظ. ومن هنا التعديل الثاني الذي يقتضيه الاتساق، ويقضي به رد النظائر بعضها إلى بعض، من إحلال فعلي الشطريتين - أو جوابيهما - كل محل الآخر على النحو السابق في الكلمة التي كانت موضع نقد الأستاذ في هذا الجواب
وبعد فهذان طريقان كل منهما يؤدي إلى وجوب تعديل النص المطبوع ليتسق كلام الإمام الباقلاني كله
وتحيتي الخالصة وشكري إلى الناقد المفضال.
محمد أحمد الغمراوي
هوستن ستيوارت شمبرلين
فيلسوف النازية الأول وصاحب دعوة الزعامة الألمانية
للأستاذ زكريا إبراهيم
لعلّ من غريب المصادفات أن يكون الرجل الذي وضع الأصول الأولى للفلسفة النازية، رجلاً إنجليزياً ينتسب إلى أصل إنجليزي صريح. ولعل من غريب المصادفات أيضاً أن يكون الرجل الذي استمد منه فيلسوفنا هذه الأصول، رجلاً فرنسياً لا يمتُّ إلى الأصل الألماني بأدنى سبب. فقد نشر الكاتب الفرنسي (آرثر دي جوبينو) كتابه عن (تفاوت الأجناس البشرية)(من سنة 1853 إلى سنة 1857) وفيه أعلن سيادة العنصر الآري على سائر العناصر؛ فلم يكد القرن التاسع عشر يشارف تمامه، حتى تأسست في ألمانيا نفسها جماعة عرفت باسم (جماعة جوبينو)، أخذت على عاتقها أن تقنع الألمان - وهؤلاء لم يكونوا في حاجة إلى إقناع طويل - بأنهم أرقى الأجناس، وأنهم أنقى سلالة من سلالات الآريين. ولم تكد تمضي على اليوم الذي تأسست فيه هذه الجماعة خمسة أعوام، حتى ظهر كتاب ضخم يُعدّ إنجيل (العنصرية)، وهو كتاب (دعائم القرن التاسع عشر) للكاتب الإنجليزي هوستن ستيوارت شمبرلين
وقد ولد شمبرلين من أب إنجليزي كان ضابطاً كبيراً في الجيش؛ ولكنه تأثر بالمؤثرات الألمانية، فدفعه إعجابه بعظمة الجنس التيوتوني إلى أن يتخلى عن الجنسية الإنجليزية، لكي يتجنس بالجنسية الألمانية. ولم يلبث أن اقترن بابنة ريتشارد فاجنر، فأصبح يعد نفسه منذ ذلك الحين ألمانياً خالصاً ينحدر من أصل ألماني خالص! وحينما نشر شمبرلين كتابه الذي أودع فيه دفاعه الحار عن العنصر الجرماني، لقي هذا الكتاب رواجاً كبيراً، وأثنى عليه كثير من النقاد، حتى لقد قيل إن القيصر نفسه كان يقرأ هذا الكتاب على أبنائه؛ كما كان يقدمه لضباطه ويأمرهم بأن ينشروه خلال ألمانيا كلها. وحسبنا أن نلقي نظرة على كتاب (كفاحي) الذي ألفه هتلر، لكي ندرك إلى أي مدى أثر كتاب شمبرلين في ألمانيا الحاضرة نفسها
والفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب الضخم هي أن الحضارة الحديثة وليدة العمل الذي قام به التيوتون، أعني أنها ثمرة للعمل الجرماني الآري. فالعنصر الجرماني قد
استطاع أن يمزج بين الحضارات المختلفة (من يونانية ورومانية وغيرها) وعن هذا المزج اجتمعت له مدنية قوية، أقام على دعائمها حضارة القرن التاسع عشر
وكما أن حضارتنا الحديثة ليست إلا ثمرة لذلك الامتزاج الذي تم بين الحضارات القديمة، فكذلك التيوتون هم أيضاً ليسوا إلا ثمرة للامتزاج الذي حدث بين العناصر الجرمانية القديمة، والسلافية، والسلتية. وأنقى مزيج لهذه العناصر الثلاثة هو ذلك الذي نجده في ألمانيا، فلهذا كان الألمان هم الشعب المختار. وليس ثمة أمارات جسمية خاصة تميز الألمان، فليس بلازم أن يكونوا طوال القامة، أو زرق العيون، أو بيض البشرة؛ وإنما هم يتميزون بصفات خاصة لا تمت بأدنى صلة إلى تلك الصفات الجسمية المزعومة:(فالألماني - كما يقول شامبرلين - إنما هو ذلك الذي تدل أفعاله على إنه ألماني، كائناً ما كان الأصل الذي ينتسب إليه)
ولكن؛ ما هي أظهر الصفات التي يتميز بها الطابع الألماني؟ إنها ليست إلا الإيمان الراسخ بمبدأ الزعامة المقدسة؛ أعني الخضوع للزعيم خضوعاً مطلقاً، وطاعة أوامره طاعة عمياء. فلو وجدنا هذه الخصلة لدى الإيطاليين أو الفرنسيين، فانه يكون علينا أن نعتبر هؤلاء أيضاً ضمن التيوتون، مهما كانت مواطنهم الأصلية التي ولدوا فيها. وعلى ذلك فإن الجنس هو خلق، وليس دماً أو وراثة. وإذا غيّر أحد نفسيته العنصرية فإنه بذلك يكون قد غيّر أيضاً جنسه أو عنصره. (وليس أيسر على الإنسان من أن يصبح يهودياً. . . فإن حسبه في هذا أن يديم الاتصال بجماعة من اليهود، وان يقرأ الصحف اليهودية)
بيد أن شمبرلين يعود فيقول: (إن الرجل الذي ينتسب إلى جنس نقي خالص، لا يمكن أن يفقد شعوره بالعنصر الذي ينتسب إليه مطلقاً. والسبب في ذلك أن ثمة ملاكا أو حارساً يذكره دائماً بعنصره، ويرافقه دائما في تنقله؛ ويحذره حينما يتهدده خطر الضلال، ويجبره على الطاعة، ويضطره إلى القيام بكثير من الأعمال الجليلة التي ما كان يجرؤ على القيام بها. . . فالجنس (أو العنصر) يعلو بالإنسان على نفسه، ويمده بقوى غير عادية، بل بقوى خارقة للطبيعة. وإنها لحقيقة تظهرنا عليها التجربة المباشرة أن لنوع الجنس أهمية كبيرة، وقيمة حيوية عظيمة).
وإذا تأملنا في هذه الأقوال المختلفة، فإن من السهل علينا أن نرى كيف أن شمبرلين قد وقع
في كثير من المتناقضات. فهو أولاً قد قال إن الجرمان هم أرقى البشر، لأنهم ثمرة لخير امتزاج تم بين (الأجناس النبيلة) ولكنه قال إن جلائل الأعمال إنما هي وقف على أهل (الأجناس النقية الخالصة). ثم عاد بعد ذلك فقال إن من الممكن أن يتغير الجنس، لا عن طريق امتزاج الدماء فحسب، بل أيضاً عن طريق الاتصال الاجتماعي بشعوب ذات (عقلية بدائية)!
ولكن شمبرلين لم يحفل بهذه المتناقضات، فإن ما كان يعنيه هو أن يجد أسطورة يستلهمها مبدأ العنصرية الذي يدعو إليه، أما التوافق المنطقي، فهذا ما لم يكن يعنيه في كثير أو قليل
والأجناس البشرية - في نظر شمبرلين - مختلفة أشد الاختلاف، إن في الخلق والصفات، أو في القوى والملكات.
وقد ترتب على هذا الاختلاف أن أصبح هناك جنس راق يتميز بصفات (فطرية) سامية، وجنس منحط يتميز بصفات (فطرية) وضيعة. ومن بين الأجناس المنحطة التي تنتسب إلى النوع الأخير (فيما يرى شمبرلين) الجنس (اليهودي)
فاليهود هم الشعب الذي لم يستطع يوماً أن يعيش على وفاق مع أي شعب آخر، ومن أجل ذلك فقد ظلوا دائماً أبداً (شعباً غريباً أجنبياً بين كل الشعوب). ولقد استجاب الأوربيون لداعي المحبة والصداقة، ففتحوا الأبواب أمام اليهود؛ وعندئذ لم يلبث اليهود أن اندفعوا كما يندفع العدو المنتصر، فاكتسحوا كل المناصب، واستلبوا جميع المراكز، ثم رفعوا من بعد أعلامهم التي هي غريبة عنا كل الغرابة. . . وأينما تركت القوة لليهود، فانهم لابد أن يسيئوا استعمالها. . . أليس اليهود هم ذلك الشعب الذي جعلت منه طبيعته جنساً ميالا إلى الربا والطمع، في حين أن شريعة موسى تحرم الربا تحريماً قاطعاً؟. . . (إن اليهودي لهو من الكراهية إلى الرجل الأوربي، بحيث أن الأطفال الصغار الذين لم تؤثر الحضارة بعد في نفوسهم ليقدرون أن يشموا رائحة اليهودي عن بُعد!)
هذه هي الأفكار الرئيسية في مذهب شمبرلين، ولسنا في حاجة إلى أن نبين للقارئ ما فيها من أخطاء علمية، وأغلاط تاريخية؛ وإنما الذي نريد أن نلفت نظر القارئ إليه، هو أن قوة الفكرة لا ترجع إلى صدقها أو مطابقتها للواقع، وإنما ترجع إلى ما فيها من قدرة على التأثير. وكثيراً ما تكون الفكرة الخاطئة نفسها، قوة كبيرة توجه شعوباً بأكملها فتنقاد
لسحرها في حماسة وقوة، دون أن تدرك ما فيها من خطأ، وما يشوبها من العناصر الأسطورية. بعضها يتفق مع ما ذهب إليه نيتشه اتفاقاً كبيراً حتى إنه ليصعب علينا أن نتصور أن يكون نيتشه لم يطلع على ما جاء فيها. ومما يتفق فيه الفيلسوفان:
أولاً: القول بأن (الحياة هي الكل) بمعنى إنه ليس في وسعنا أن نتصور شيئاً ما على إنه موجود حقيقة إلا إذا كان هذا الشيء حياً.
وثانياً: القول بأن الأخلاق التي تنادي بفكرة الواجب والأمر المطلق، أخلاق فاسدة يجب القضاء عليها، لأن الإلزام أو التكليف يرجع إلى الحياة نفسها، إذ الحياة هي التي توفر للفرد الشعور بالقدرة على العمل، وليس هناك قوة سحرية غريبة (كالأمر المطلق) المزعوم
وثالثاً: القول بأن التشاؤم يدعو إلى الانحلال والفناء، في حين أن التفاؤل يكسب الحياة خصباً وامتلاء، فكل من جويو ونيتشه يعتبر التشاؤم مظهراً للانحلال والهبوط والفناء. . .
رابعاً: القول بأن الفن هو المعنى الباطن للحياة بمعنى أنه ليس مجرد متعة أو أُلهية، بل هو أمر جدي له قيمته في الشعور بالحياة الحافلة الخصبة المليئة. فكل من جويو ونيتشه ينظر إلى الفن نظرة حيوية، ولا يعده عديم الغاية بل يذهب إلى أن الفن للحياة وبالحياة. ومعنى هذا أن الفن عندهما ليس للفن - كما يقال عادة - بل هو غائي، وغايته ليست تقويم الأخلاق أو إصلاح الناس، بل تقوية الشعور بالحياة
وأما النواحي التي يختلف فيها جويو مع نيتشه فهي تلك التي تمس مشكلة (الفردية)؛ وذلك لأن جويو يعتقد أن الرجل القوي ليس هو الرجل المتوحد (كما يزعم نيتشه) بل هو الرجل الذي تجمعه بغيره من الناس، وشائج العقل والقلب. فعلى الرغم من أن جويو يتفق مع نيتشه في القول بالحياة الخصبة المليئة، إلا إنه يتصور هذه الحياة على أنها أولاً وبالذات، حياة اجتماعية تنعدم فيها الأنانية، لأن الأنانية سلب للحياة نفسها، وإنكار لكل خصب أو امتلاء. . ولعل خير ما يوضح لنا الفارق بين نيتشه وجويو، هو أن الأول يدعونا إلى اتباع الطبيعة (كما دعا إلى ذلك الأقدمون)، في حين أن الثاني يدعونا إلى تعميق الطبيعة. فنيتشه يقول:(اتبع الطبيعة) وأما جويو فإنه يقول: (عمق الطبيعة) ومهما يكن من شيء، فإن جويو هو بلا ريب واحد من أولئك الرواد الذين سبقوا نيتشه في الطريق الذي سلكه.
وقد رأينا أن هؤلاء الرواد كثيرون؛ فهل علينا من حرج بعد هذا إذا قلنا إن السبيل الذي سلكه نيتشه سبيل مطروق؟
(السويس)
زكريا إبراهيم
مدرس بمدرسة السويس الثانوية
شعر البارودي في منفاه
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
وضعت الثورة العرابية أوزارها، وقضى على كثير من زعمائها بالنفي إلى جزيرة سيلان التي تقع جنوبي بلاد الهند؛ ففي أواخر عام اثنين وثمانين وثمانمائة وألف أبحرت السفينة من مصر تقل البارودي ومن معه من الزعماء إلى هذه الجزيرة، وقد رست السفينة بهم في ثغر كولومبو حيث قدر للشاعر أن يعيش مع رفقائه سبع سنوات، سئم فيها تلك الحياة، وهؤلاء الصحب، فرحل إلى كندي العاصمة القديمة للجزيرة، وهي مدينة في الداخل مرتفعة عن سطح البحر ذات مناظر جميلة ومناخ صحي، وظل بها البارودي عشر سنوات أخرى
غادر البارودي وطنه وعمره أربع وأربعون سنة، لم يفارق بعد عهد الشباب والفتوة، وظل في منفاه سبعة عشر عاماً فقد فيها القوة والشباب، وفي هذه الغربة الطويلة كان البارودي في وحدة نفسية موحشة، فرفقاؤه الذين سافرا إلى كولومبو قد انقلب بعضهم على بعض، كلّ يلقي تبعة ما حل بهم على رفيقه، وكل يضمر لصاحبه الحقد ومر العتاب، ولعل نصيب البارودي من موجدتهم كان عظيما بمقدار ما كان له من يد في الثورة وشئونها، فتبرّم بهم، وآثر أن يعتزلهم، ويصم أذنيه عما تلوكه ألسنتهم، وما يتحدثون به عنه في غيبته
ولم يكن نصيبه في كندي بأفضل من ذلك، لأنه أضطر إلى الوحدة يقوم بشئونه فيها خويدم أسود، ذلك أن سكان هذه المدينة لا يعرفون اللغة العربية، فلم يستطع أن يجد من بينهم رفيقاً مؤنساً، يخفف عنه آلام وحدته وغربته، ولعل هذا هو ما دفعه إلى أن يعلم بعض أبناء هذه البلاد اللغة العربية عله يجد منهم من يفهم عنه ويجعله صديقاً، ولكنه لم ينجح في لقيان هذا الصديق، واضطر إلى معاشرة من لا تستريح نفسه إليه
وجد البارودي نفسه إذا في وحدة مؤلمة، فاتجه إلى الشعر يتخذ منه الأنيس الرفيق، والصديق المخلص، يبثه آلامه، ويناجيه بأحلامه وأمانيه، ونستطيع أن ندرس شعره في تلك الفترة من الزمن، فنجده صورة صادقة لما كان يعتلج في صدره حينئذ من الأحزان والآمال، وإنه لصادق حين قال في إحدى قصائد منفاه:
فانظر لقولي تجد نفسي مصورة
…
في صفحتيه، فقولي خط تمثال
شكا البارودي إلى شعره هذه الغربة الطويلة، والوحدة التي أضطر إليها، وهو يردد هذه الشكوى في كثير من قصائده، فحينا يقول:
أبيت في غربة لا النفس راضية
…
بها ولا الملتقى من شيعتي كثب
فلا رفيق تسر النفس طلعته
…
ولا صديق يرى ما بي فيكتئب
وحينما يشبه نفسه بطائر ترك فريداً بين الأدغال، وقد غال الردى والديه فتركاه صغيراً لا يستطيع النهوض، ولا أن يصون نفسه ممن يريد به السوء، يرتاع كلما سمع صوت البزاة، بل إنه ليفوق هذا الطائر بما يحس به من الجوى، وما يذرفه من الدمع فيقول:
لا في سر نديب لي إلف أجاذبه
…
فضل الحديث ولا خلّ فيرعى لي
فلو تراني، وبردى بالندى لثق
…
لخلتني فرخ طير بين أدغال
غال الرّدى أبويه فهو منقطع
…
في جوف غيناء لا راع ولا وال
أُزَيغب الرأس لم يبد الشكير به
…
ولم يصن نفسه من كيد مغتال
يكاد صوت البزاة القمر يقذفه
…
من وكره مبين هابي الترب جوّال
لا يستطيع انطلاقاً من غيابته
…
كأنما هو معقول بعقال
فذاك مثلي، ولم أظلم، ورّبتما
…
فضلته بجوى حزن وإعوال
شوق ونأي وتبريح ومعتبة
…
يا للحميّة من غدري وإهمالي
ولقد كان أثر هذه الوحدة في نفسه قوياً، حتى صار أكبر آماله في منفاه أن يجد الصديق الوفي المخلص:
لم يبق لي أرب في الدهر أطلبه
…
إلاّ صحابة حر صادق الخال
ولو كان البارودي قد وجد في مغتربه الخل الوفي لخفف قربه آلام نفيه، وعذاب اغترابه، فاضطر - كما قلنا - إلى أن يتصل بمن لا يشتهي قربه، ولا تأنس نفسه إليه، وظل يهتف باحثاً عن صديق يسره ويقول:
فهل من فتى يسري عن القلب همه
…
بشيمة مطبوع على المجد مسعف
رضيت بمن لا تشتهي النفس قربه
…
ومن لم يجد مندوحة يتكلف
ولو أنني صادفت خلاّ يسرني
…
على عدواء الدار لم أتلهف
وأبى القدر إلا أن يزيد في آلامه، فبعد زهاء عامين ورد إليه نعي زوجته فبكاها، ورثاها بما نلمس فيه صدق العاطفة وخالص الود، وأشفق على بناته بعدها، وقد اغترب الوالد وماتت الأم فقال:
يا دهر فيم فجعتني بحليلة
…
كانت خلاصة عدتي وعتادي
إن كنت لم ترحم ضناي بعدها
…
أفلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهن فلم ينمن توجعاً
…
قرحى العيون رواجف الأكباد
ألقين در عقودهن وصغن من
…
در الدموع قلائد الأجياد
يبكين من وله فراق حفية
…
كانت لهن كثيرة الإسعاد
فخدودهن من الدموع ندية
…
وقلوبهن من الهموم صوادي
وهي قصيدة طويلة صادقة التعبير لا يقلل من قيمتها إنه تأثر فيها بقصيدة التهامي في رثاء ولده، لأن معانيها تنبع من إحساس صادق لا تقليد فيه
وفجعته الأيام كذلك بابنته، فقابل الفجيعة بحزن بالغ، جمدت له عيناه، ثم بصديقين عزيزين هما حسين المرصفي وعبد الله فكري باشا، فحزن عليهما أشد الحزن، وبكاهما في قصيدة طويلة أرسلها عبرة مسفوحة على موطن شبابه وأيام شبابه وصديقي شبابه، فقال:
لم تدع صولة الحوادث منى
…
غير أشلاء همّة في ثياب
فجعتني بوالدي وأهلي
…
ثم أنحت تكرَّ في أترابي
كل يوم يزول عني حبيب
…
يا لقلبي من فرقة الأحباب
أين مني حسين بل أين عب
…
د الله رب الكمال والآداب
لم أجد منهما بديلاً لنفسي
…
غير حزني عليهما واكتئابي
(البقية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين
الضمير.
. .
للدكتور عزيز فهمي
صاحبٌ وَسْنان منْ طول السَّهَرْ
…
إنْ تنَمْ ناداك أَوْ تَنْسَ ادَّكَرْ
كلّما غافَلْتَه في سَكْرَةٍ
…
من أمانيكَ تَجَنّى أَوْ عَذَرْ
فإِذا كَفّرْتَ عن وِزْرٍ عَفا
…
وإذا عُدْتَ إلى إِثْم ثَأرْ
لَيْسَ مَلْموساً فَتَدْري كُنهْه
…
وَهْوَ ما كَتّمْتَ يَدري ما تُسِرْ
وَتُواريه فَيُغْضي ساعةً
…
ثمّ يَسْتَيقِظُ في لَمْح البَصَرْ
لَيْسَ عقلاً أو شعوراً خالصاً
…
بل تُراثاً من شُعورٍ وَفِكَرْ
فَهْوَ عَقلٌ باطنٌ أو مُلْهِمٌ
…
وَهْوَ إحساسٌ قديمٌ مُدَّخَرْ
كَمْ جَرَعْتَ الصّابَ من تِرْياقِه
…
واسْتَسَغْت الشُّهدَ ممَّا قد هَصَرْ
أنتما الدَّهرَ طريدٌ آبِقٌ
…
وغريمٌ طاردٌ أو مُنْتَصِرْ
أينما وَلَّيْتَ أحصى مُرْجئا
…
مَوْعِداً حَتماً فَأيَّانَ المَفَرْ؟
يتراءى شاحباً أو إمَّعا
…
فَهْوَ كالظِّل إذا الظِلُّ انتَشَرْ
وَهْوَ جَبّارٌ عنيفٌ تَارَةً
…
وَهْوُ أحياناً ضعيفٌ يَأْتَمِرْ
وَهْوُ إعْصارٌ وريحٌ صَرْصَرٌ
…
وهْوَ كالسَّيْلِ إِذا السَّيْلُ انْهَمَرْ
وهْوَ كالبَحْرِ إذا البحرُ طغَى
…
وهْوَ كالْمَوْجِ إِذا المَوْجُ انحَسَرْ
وهْوَ كالسّهم إذا السهمُ رمى
…
وهْوَ كالسّيفِ إذا السيف بَتَرْ
آمِرٌ ناهٍ وعاص طَيَّعٌ
…
وهُوَ الآمِرُ وهْوَ المُزْدَجِرْ
لا ينامُ العُمْرَ إلا ساعةً
…
فَتَرَقَّبْها وبَالْغ في الحَذَرْ
ساعة أن نِمْتَ عنها غافلاً
…
عُدْت كالمخمورِ أو كالمُحْتَضَرْ
أيُّها السَّاهِرُ نَمْ أو لا تَنَمْ
…
وترَفَّقْ وتَجَلَّدْ واسْتَعِرْ
إنْ جَنَينْا فعلينا وزْرُنا
…
وإذا نحنُ أنبْنا فاعْتَذِرْ
عزيز فهمي
قد كنت شيئاً.
. .
للآنسة الفاضلة (دنانير)
أينَ زمانٌ كابتسام الضُّحى
…
تُظِلُّني أغصانُهُ الوارفَةْ
أشهى من الدنيا إذا أَقْبَلَتْ
…
أينقضي كاللمحة الخاطفَةْ
ما كنتُ إذ حاولتُ إبقاَءهُ
…
إلاَّ كمن أُوقظ من رقدتِهْ
مدَّ يدْيِه خلفَ حُلْم سرى
…
يودُّ لوْ يُبقيهِ في مقلتِهْ
أخشى على قلبيَ من يقظةٍ
…
تسلُبُه أطيافَ أحلامِهِ
فإِنما يحيا بتلك الرُّؤَى
…
ومن رؤاهُ فَيْضُ إلهامِهِ
يا من نأى الصدُّ به والنوى
…
هلْ ضِقْتَ بالشوقِ وتبريحِهِ
فحاجةُ النفس إلى إلْفِها
…
كحاجة الجسم إلى روحِهِ
لكنَّما قلبُكَ غِيضَ الهوى
…
منه فأَضحى ناضبَ المنبعِ
وماتَ ممّا جفِّ، فانظرْ إلى
…
حُطامِهِ وابكِ عليه معي
أَوْ لا فكيف اليوم عاف الهوى
…
وطُهْرَ دنياهُ وعُليَا سماهْ
وراحَ يَهْوى في حضيض الثرى
…
يخلِبُهُ جاهُ الغنى والرفاهْ
هل يَسْتوي القلبان هذا مضى
…
في الأرض يَسْتَهْويهِ وَهْجُ الذَّهبْ
وذاك في الأفلاكِ تصعيدُهُ
…
يفتُنهُ النورُ ووهْجُ اللهبْ
رغائبُ العيش وأطماعُهُ
…
رَاوَدْنَ منكَ القلبَ حتى غَوى
يا ضَيْعَة القلبِ إذا لم يكنْ
…
لعالم الحبِّ ودنيا الهوى
دُنيا من الطُّهْرِ هَيُوليّةٌ
…
وكلُّ ما فيها رقيقٌ شَفِيفْ
خفيّة الألطافِ إلاَّ على
…
مَنْ مسَّهُ منها الشعاعُ اللطيفْ
وعالَمٌ أبدعَهُ ساحرٌ
…
يَنْفُثُ فيه من هُنا أوْ هُنا
لطافةُ السَّحرِ وإعْجازُهُ
…
صاغاهُ جمَّ العَطر جمّ السَّنا
قد كنتَ شيئاً راعني سحُرُه
…
صورّهُ وهْمي وصاغَ الخيالْ
واليومَ ما أنتَ؟ لقد بِنْتَ لي=حقيقةً أفرِغَ منها الجمالْ
(فلسطين)
(دنانير)
البريد الأدبي
زكي مبارك وكتاب الله
التحدي نشر بمجلة (الرسالة)، وهي مجلة عالية، والمتحدي أستاذ بكلية الطب، وهي أيضاً كلية عالية، فمن واجبي أن أدفع عن نفسي بلاء هذا التحدي فأقول: إني رجعت إلى مقالي المنشور (بالعدد 592) من (الرسالة) عن (تلك الروح وذلك اليوم)، فلم أجد فيه لفظة واحدة تدل على أني أخاصم القرآن حتى يصح لذلك الفلان أن يقول (ما لزكي مبارك وكتاب الله)
أنت يا أيها الأستاذ محمد أحمد الغمراوي تسيء إلى نفسك بإصرارك على اتهامي في إسلامي، وإن صح زعمك، فسيكون كفري أفضل من إيمانك، لأني أعرف ما لا تعرف من حقائق العلم والدين
كان يجب أن تتذكر أني دكتور في الفلسفة ثلاث مرات، وأني أجدر العلماء وأقدرهم على شرح نظرية وحدة الوجود، وسأخرج عنها كتاباً يفوق فهمك، ولكنه سيشرّفك حين تدرك أن في أبناء وطنك من شرح معضلة عجز عن شرحها الفلاسفة فيما سلف من الزمان!
وأنا مع هذا راضً عنك، لأنك بعلمك الغزير الوفير ترشدني إلى فهم القيمة الصحيحة لحقيقة نفسي، فما خطر في بالي أني أعظم من أساتذة كلية الطب، قبل أن أقرأ ما تكتبه عني
ثم ماذا؟ ثم أتعجب من ثنائك على نفسك بنشر ما قال أحد مخاطبيك مدحاً في قدحك على كتاب (النثر الفني)
وهل تفهم كتاب (النثر الفني) حتى تتطاول على مؤلفه بذلك الأسلوب؟
ثم ماذا؟ ثم اسأل عن سكوتك المطلوب المرغوب عن نقد كتاب (التصوف الإسلامي). . . وأجيب عنك فأقول: إنك تعجز عن فهم كتاب (التصوف الإسلامي)، لأنه كتاب في الفلسفة العالية، ولا تستطيع أنت ولا يستطيع أشياخك أن ينقدوه بحرف؛ لأنه فوق ما تطيق وفوق ما يطيقون!
أنت يا أيها الأستاذ في احتياج شديد إلى من يدلك على أن الشتائم لا تنفع في مقارعة الخصوم، وإنما ينفع الصدق، ولو أن الله وهبك عمر نوح لعجزت عن تأليف كتاب مثل كتاب (النثر الفني)، أو كتاب (التصوف الإسلامي).
زكي مبارك
كتاب المستقصي للزمخشري
اطلعت على ما كتبه الفاضل عبد الحميد صالح البصري عن كتاب المستقصي في الأدب للزمخشري؛ وهو في أمثال العرب أوله: الحمد لله على ما أثلج صدورنا من برد اليقين. ذكر فيه جملة من أمثال العرب، وعني في شرحها بإيراد قصصها، وذكر النكتة والروايات فيها والكشف عن معانيها والأنباء عن مضاربها، والتقاط أبيات الشواهد لها مع الاختصار المستحسن المقبول، وتجريد الألفاظ عن الفضول. رتبه على فصول المعجم، وانتهى من تأليفه في شهر رمضان سنة 499 هجرية.
ولدي نسخة من المستقصي، والنسخة التي تحت يدي في ستمائة صفحة مكتوبة بخط جيد أنيق على ورق من الكتان العتيق أحسبها كتبت في القرن السابع أو الثامن الهجري لاعتبارات فنية من ناحية قاعدة كتابتها ومن المادة التي كتبت بها والورق، وهي من ضمن مجموعة خطية أثرية من مخلفات والدي. وإني مستعد لتلبية من يود طبعه بشروط أتفق عليها أو أني أقدمها للمجمع اللغوي بمصر إذا رغبها. على أن الكتاب لا يخرج من القاهرة خدمة لأبناء وطني؛ كما إنه لدى تفسير البقاعي الذي لا وجود له بالمرة. وقد قدمت للمرحوم أحمد طلعت بك حول السبعين ألفاً من المؤلفات النادرة المثال، ومن النفائس منها: تفسير الخروبي لا يوجد له نظير مثل المستقصي وهو كتاب (ربيع الأبرار) اختصره هو نفسه وسماه: (روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار)، أما المعروف المتداول من مؤلفاته فهو: أساس البلاغة، أطواق الذهب، أعجب العجب، الأنموذج في الجبال والأمكنة، الحقائق في غريب الحديث، الكشاف في التفسير، الكلم النوابغ المفصل، النصائح الكبرى، مقدمة الأدب.
محمد عبد الله الغزالي
أمين مكتبة منطقة التعليم بإسكندرية
العقلية المصرية
أعجبت بالكلمة التي كتبها الدكتور مندور عن العقلية المصرية في عدد 592 من الرسالة، ولست أخالفه في وجهة نظره، ولكني أريد أن أقول إن العقلية المصرية إيجابية فعالة كالعقليات الغربية، وليس أدل على هذا من أنها سلبية قابلة كحكمه عليها، لأن العقل المحصل الواعي القوي الذاكرة لابد أن يكون منتجاً فعالاً لو أتيح له، وفي نهضتنا العلمية الحاضرة مظاهر للإنتاج العقلي الإيجابي تتفق وخطواتنا في سبيل التقدم العلمي ووسائلنا المادية المساعدة، ومن شبابنا المثقف من اهتدى في عالم الأدب والنفس إلى نظرية غير معروفة، ومن كشف الحجاب عن مجهول، ومن استطاع أن يقود حركة خاصة ويتزعم مدرسة خاصة. فإذا تذكرنا أننا في الواقع في بدء النهضة التي ينتظر أن يتسع مجالها غدا استطعنا أن نصدق في كثير من الرضا أن العقول المصرية إيجابية فعالة. والمعقول أن النهضات تبدأ بالتحصيل والقبول أزمنة تختلف باختلاف الأمم استعداداً للنهوض واستجابة لدوافعه، ثم يكون بعد ذلك الإنتاج الإيجابي. فإذا كنا نحن في بدء النهضة، ونحن في الواقع كذلك، فليس لنا أن نحكم على العقلية المصرية بأنها تكيفت بكيفية ما تيئسنا من أن يكون فينا منتجون إيجابيون بالقدر الذي نبغيه وبأنه لا وجود للملكات بيننا تقريبا.
إن الإنتاج الإيجابي في أي أمة يتجلى في مظهرين لا ثالث لهما. الأول: المظهر الأدبي بأوسع ما يمكن أن تحتمله هذه العبارة، وهذا، ولا أغالي، قد قطعت فيه مصر شوطاً لا بأس به يتناسب جد التناسب مع عمر نهضتها الحالية. والثانية: المظهر المادي وحظ مصر فيه حقاً قليل جداً، لأن المظهر المادي دائماً يعتمد على المال وحسن استثماره، ولكن إذا قسنا كذلك ما وصلت إليه مصر في هذا المجال إلى عمر نهضتها وظروفها الخاصة، كان من المعقول أن يكون حظها منه مناسباً
وهذا لا يدلنا على أي حال أن العقلية المصرية تكيفت بالنحو الذي يجعلها سلبية قابلة فقط
ومظاهر سوء التصرف وضيق الحيلة وضعف الاعتماد على النفس وعدم الاهتداء إلى السبيل السوي عندما يضطرب حبل الأمور وتشتد المواقف، مرده في الواقع فيما نراه في الكثيرين منا حتى المثقفين إلى تغير مجرى الحياة السياسية بمصر منذ عهد غير بعيد. ولو أن مصر كانت حسنة الحظ سياسياً وسارت نهضتها التي بدت بعهد عاهلها الأكبر محمد علي باشا في طريقها لرأينا النفس المصرية غيرها الآن.
والمشكلة الحقيقية عندنا هي مشكلة الأخلاق التي هي أقوى مظاهر الثقافة، فإذا استطعنا أن نربي في نفوس الأجيال المقبلة الملكات التي توجه الأفراد والمجتمعات صغيرة أو كبيرة الوجهة الصالحة في غير عناء اتسع المجال أمام العقلية المصرية السلبية القابلة ويسرت لها وسائل الإنتاج الإيجابي فكانت فعالة مبتكرة.
ولست أرى رابطة بين العلم والأخلاق إلا بقدر البيان الإرشادي فقط باعتبار أن الأخلاق قد تكون من مباحث العقل، فلا يمكن أن يكون العلم والتوسع فيه مقوماً للأخلاق، فالعلم شيء آخر. فليتجه من بيدهم الأمر بمصر إلى تقويم الأخلاق، وليجعلوا كل شيء من مظاهر الإصلاح في المحل الثاني بعدها، فهناك تستقيم أمورنا ويستطيع الفرد أن يبتكر، وهناك ترى العقلية المصرية إيجابية فاعلة.
عبد اللطيف ثابت
(الشوامخ)
أصدر الدكتور الفاضل محمد صبري الجزء الثاني من الشوامخ، وهو دراسة تحليلية لخصائص الشعر الجاهلي بدراسة أعلامه: الأفوه الأودي، وزهير، وطرفة، ولبيد، والشنفري، والشعراء الهذليين وقد قال المؤلف الفاضل في مقدمته:(ولا ريب أن خير وسيلة لدراسة الشعر العباسي، والشعر الحديث بصفة عامة، هي دراسة الشعر الجاهلي والرجوع إلى (عمود الشعر) الذي تكلم عنه مشايخ النقد، كما أن خير وسيلة لدراسة الشعر الجاهلي هي الانتباه إلى الصلة الدقيقة التي تربط النثر الجاهلي بالشعر الجاهلي، وبعبارة أدق درس المحيط والبيئة التي نشأ فيها الشعر وتمكن، والى الصلة التي تربط ذلك الشعر بآداب العرب وفنونها من نحت وتصوير.
(وفي اعتقادنا أن دراسة الشعر الجاهلي في ذلك الضوء الجديد من شأنها أن تظهر لنا الكثير من روائعه، وأن تفتح لنا منه كل باب مغلق). وهو كلام حق لا ريب فيه
والكتاب مطبوع في مطبعة (دار الكتب المصرية) طبعاً متقنا. ويطلب من المكاتب الشهيرة وثمنه ثلاثون قرشاً.