الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 6
- بتاريخ: 01 - 04 - 1933
في الربيع.
. .
منذ أيام تيقظت الطبيعة من رقادها الطويل، وأخذت تنضح جفنها الوسنان بأنداء الربيع، وتبحث عن حللها وحلاها في خزائن الأرض، وتأهب كل حي ليحتفل بشبابها العائد وجمالها المبعوث. فالحياة الهامدة تنتعش في الغصون الذابلة، والطيور النازحة تعود إلى الأعشاش المقفرة، والأفنان السليبة تتفطر بالأوراق الغضة، وبأرض النبت يحوك على أديم الثرى أفواف الوشى، والنسيم الفاتر يروض أجنحته ليحمل إلى الناس رسالة الزهور، وسر الحياة يستعلن في الحي فينتشي ويمرح، وطيوف الهوى تمس القلوب فتهفو وتختلج، والعالم كله يسبح في فيض سماوي من الجمال والنشوة والغبطة؛
اللهم إلا الإنسان!!
فقد حاول بادعائه وكبريائه أن يكون عالماً بذاته، فكان نشوزاً في نغم الكون، ونفورا في نظام العالم، فلو أنه اقتصد في تصنعه وائتلف كما كان بالطبيعة، لاتَّحَدَ الآن مع الربيع فشعر بتدفق الحياة في جسمه، وإشراق الصفاء في نفسه، وانبثاق الحب في قلبه، وأحس أنه هو في وقت واحد زهرة تفوح، وخضرة تروق، وطائر يشدو، وطلاقة تفيض على ما حولها البشر والبهجة!
لا يكاد يقبل على أوربا الربيع حتى تختلط أناشيد الشعراء وأغاريد البلابل في تمجيده وإعلانه، لأنه يفد إليهم فيرد عليهم النور والدفء والزهر والجمال والحركة.
أما نحن فلا نكاد نفطن لحلوله ولا لرحيله، لأن العالم كله على ضفاف الوادي يوم من أيام الربيع: فجره النديُّ يناير، وضحاه الزاهر أبريل، وظهره الساطع يوليو، وأصيله الرخيُّ أكتوبر!
فليس للربيع المصري على سائر الفصول فضل إلا بذلك السر الإلهي الذي تتشقق عنه الأرض، فيسري في العود، ويشيع في الجو، ويدب في الأجسام، وينشأ عنه هذا البعث الصغير!
ففي الربيع يشتد الشعور بالجمال وبالحاجة إلى التجمل، فترى الشباب بجنسيه يستعير ألوان الرياض، وعبير الخمائل، ومرح الطيور، ويحتشد في دور الملاهي، وصدور الشوارع، فيخلع على الوجود وضاءة الحسن، وعلى الحياة رونق السعادة!
وأجمل شيء في ربيع القاهرة أصائله وأماسيه!
ففي هذين الوقتين تزدهر شوارع القاهرة الحديثة بزهرات شتى الألوان من بنات الإنسان، فتملأ الجو عطراً، والعيون سحراً، والقلوب فتنة!
وهنالك على أفاريز الطرق، ومشارف المقاهي، تقف أبصار الكهول والشيوخ حائرة مبهورة تلسع بالنظر الرغيب هذا الحسن المصون! وبين النظرة والنظرة عَبرة جافة تَصعَّد أسى على شباب ذاهب لا يرجع، وجمال رائع لا يُنال!
وفي الربيع تضطرم العواطف والعزائم في الشباب، فينفحون بالأمل والطموح والحب نَفَحان الورُود النِواضر بِعَرْف الطيب! فقصائدهم الغزلية تنثال كل يوم على بريد (الرسالة) فيحول بينها وبين استيعاب (نشرها) العَطِرِ صفحاتها المعدودة.
وكتبهم القيمة تظهر فياضة بالأفكار الوثابة، والعواطف المشبوبة: كالفكر والعالم، والشعبية، وعلى طريق الهند، والحياة الثانية، والربيع، والضحايا، وغير ذلك مما نقرأه الآن لنعود إلى نقده وتحليله بعد.
ومشروعاتهم الاقتصادية والثقافية تظهر موسومة بطابع الإقدام والإخلاص والوطنية؛ كمشروع تعاون الشباب لمزاولة الأعمال الحرة، ومشروع القرى لتثقيف العامة.
وفي الربيع تحتدم الطباع في الأدباء الكهول، فيثب بعضهم على بعض بالهجو المقذع والنقد اللاذع، ويتنافرون تناقر النسور على الصخور، والطيور الوديعة جاثمة في ظلال الغصون ترقب المعركة على بعد، فكلما رأوا الريش المنتوف والدم المنزوف، كبّروا واستبشروا، ودعوا الله في أغرودة شامتة أن يتفانى الفريقان، ليخلو الجو من البزاة والعقبان!
وأدباؤنا الكهول شديد بعضهم على بعض! فهم يسخون بالنقد الممِض، ويضنون بالتقريظ العادل، كأنما العصر لا يحتمل غير كاتب من الكتاب، والمكاتب لا تحتمل لغير كتاب من الكتب!
ويعجبني الأستاذ صاحب رواية (الهادي): عرف أن الأدباء ربما خرجوا عن نقدها وتقريظها بالصمت كالعادة، فكتب هو في مدحها فصلا في البلاغ. والإنسان أولى الناس بخيره، وأعرف بقيمة عمله من غيره.
وفي الربيع تتقد حَمِية العروبة في العرب. فتسمع اليوم في فلسطين والشام أبناء الشعب
الخالد، ووراث المجد التالد، يصرخون صراخ الأسد في راقد العدل أن يستيقظ، وفي غائب الحق أن يثوب!
وترى في العراق حطام السياسة البالية تكسحه الريح كسحها للهشيم، ثم تقوم على هذا الطلل المنسوف حكومة فيها حيوية الربيع، ولكن ليس فيها شبابه!
والشباب في العراق كالشباب في مصر منذ سنين: يحاول القائمون على أمره أن يربوه تربية الدجاج: ينقنق دائراً بين الحَب والماء، ويبحث في الأرض ليذهل عن السماء، ويأبى الشباب إلا أن يكون طيراً يحتقر القفص، ويقتحم الجو، ويسمو إلى الغاية! والغد على كل حال يومه!.
أحمد حسن الزيات
الخجول
خجول بطبعه، ضعيف الثقة بنفسه، إن تحدث ظن حديثه مملولا فيقتضبه، أو معروفاً فتحمر بالخجل وجنتاه، ويبتل بالعرق جبينه. . ويحاول التخلص من موضوعه فلا يعرف، فيتلعثم لسانه، ويموت على شفتيه كلامه.
إذا أراد شراء حاجة، كان كمن يحاول فعل شيء محرَّم، فهو يخرج من شارع إلى شارع، ويمر من أمام حانوت إِلى أمام حانوت، دون أن يجرؤ على دخول واحد منها!! ولا يزال كذلك حتى تكل رجلاه، فينكفئ راجعاً إلى بيته؛ فإذا كانت الحاجة شديدة، نسي خجله لحين، ثم استجمع ما استطاع من الشجاعة، ودخل رابع حانوت يقابله. فيطلب ما يشاء في صوت المسترحم، فإذا ما أحضر إليه، لم يفكر في جودة الصنف ولا في غلاء الثمن. . بل يؤدي الثمن فوراً. . ويغادر المحل منتصرا. .!!
إذا قابل صديقاً انضمت يمناه إلى يسراه وأخذتا تتحاكَّان! فإذا كانت إحداهما مشغولة، ارتفعت الثانية إلى ذقنه. . أو إلى طربوشه. . أو إلى أذنه. . . .
والسلام! أمر ما أشقه! فهو يبدأه والصديق على مسافة طويلة، ثم يحيي بصوت خافت لا يكاد هو يسمعه.
هذا إذا كان الصديق بازائه، ولا مفر له من لقائه، أما إذا استطاع أن يهرب فهو يوفر على نفسه كل هذا العناء في خفة يحسده عليها اللص!
إذا دعوته إليك، اعتذر وبالغ في الاعتذار، فإذا ألححت في الدعوة، دفعه خجله إلى الإجابة، وكم تكون تضحيته عظيمة في هذه الحالة! فهو يتحمل ساعة ما أشقها على نفسه! كلها عمل وإجهاد فكر. . . لا يكاد يدخل الحجرة حتى يصطدم بأول كرسي يقابله، فإذا ما حاول إعادته إلى وضعه الأول اصطدمت يده بالمنضدة. . . .
إذا قدمت إليه القهوة اعتذر عن شربها. . ولكنه يتناول الفنجان عندما يقدمه إليه صديق، ولا يكاد يمسكه حتى تقوم في الفنجان عاصفة تدفع بالقهوة يمينا وشمالا، ولا مفر لها من هذا الاضطراب، ما دام هو بعينه حال يده. .!!
إذا طلب إليه صديق أن يقرضه مبلغا من المال، امتدت يده إلى جيبه فأخرج المطلوب دون وعي ولا تفكير!!
وقد يحتاج هذا المال بعد أيام، وتضطره الحاجة إلى الذهاب إلى صديقه، فإذا ما بلغ البيت
نسي سبب المجيء، وكاد يعود أدراجه. . . ولكن الحاجة تلح عليه. . فتدفعه إلى داخل المنزل. . فإذا ما قابل الصديق نسي كل شيء. . .!!
وهو شاب مثقف، له غرام بالأدب الحديث، وله آراء سديدة فيه، ولكنه عندما يعارَض، ينسى آراءه ويعتقد أنها خاطئة، وإن كان لا يعرف وجه الخطأ فيها. . .!!
قدِّر لي أن أسمع حديث حبه وغرامه. .، وقد كان هذا منه غريبا، ولكن أغرب منه غرامه، فقد رأى حبيبته مارة أمام بيته في خفة الغزال، وجمال الزهرة، فأعجب بها، ووقع في شراك حبها. .، وكان يظفر منها كل يوم بنظرة في هذا المكان وفي هذا الوقت. . أما اسمها ومنزلها وأسرتها فذلك أبعد شيء يفكر فيه. . .
أليس الخجل كالتردد (مرضا من الأمراض يصيب المرء في حياته العملية فيغل يده ويشل عقله) ويجعل الحياة في نظره عبثا لا يحتمل، ولغزا لا يحل؟
سليمان محمود جاد
الزهرة
الزهرة ابنة الصباح، وجمال الربيع، ومنبع العطر، وظرف العذارى، وغرام الشعراء!
هي كالإنسان، قليلة البقاء، سريعة الفناء. ولكنها تُساقط أوراقها على الأرض في أناقة ولين!
كان القدماء يُجملون بها كؤوس موائدهم، ويتوجون بها رؤوس حكمائهم، ويجلّلون بها أجساد شهدائهم. أما اليوم، فتذكارا لهذه الأيام الغابرة نضعها نحن في معابدنا، ونعبر بألوانها عن مشاعرنا: فالأمل باخضرارها، والطهر بياضها، واشتعال الحب باحمرارها، والغيرة باصفرارها. فهي كتاب رشيق أنيق. يجمع بين دفتيه تاريخ الحب وثورات القلوب، ولكن لا أثر فيه للفتن والحروب!
محمد توفيق يونس
من رسالة إلى صديق
حول التجديد
. . . الجديد جديد في مظهره، قديم في جوهره، لا يصلح موضعاً لدرس ولا موضوعاً لحديث.
ستقول: إذن ما بال هذه القصائد الرائعة التي يجلوها الشعراء والمقالات الرائقة التي يدبجها الكتاب؟ فأقول لك إنك إذن تفهم من كلمتي القديم والجديد غير ما أفهم، وتريد من مدلولهما غير الذي أريد. كأنك تريد بهما ما كان يريده الأقدمون حين كانوا يتمارون في شعر امرئ القيس وجرير وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي وابن هانئ. والأقدمون كما تعلم إنما كانوا يختلفون في شكل الشعر لا في موضوعه، فهم يتكلمون في اللفظ الجزل والركيك، والأسلوب الرصين والمهلهل، والمعنى المسروق والمطروق، والتشبيه المنتزع من وجوه البادية أو من صور الحضر، والمطلع الجيد والرديء، والتخلص الحسن والقبيح، ويجرون في كل ذلك على أذواق تختلف باختلاف الطبقات والبيئات والصناعات والأجناس. وعذرهم في ذلك واضح. فالشعراء لأسباب فطرية واجتماعية، لم يقدموا إليهم الا نوعاً واحداً من الشعر هو ما يتعلق بالوجدان والعاطفة. فكان النقاد أمام وحدة الشعر العربي ونقصه، مسوقين إلى أن يقصروا جهودهم على لفظه: يحكون معدنه، ويعجمون عوده، ويسبرون غوره بالموازنة والمقارنة والتعقب. والشكل الخارجي حكمه حكم اللباس والأثاث والآنية: يتغير بتغير الزمان والمكان والحالة، ليس لأحد في ذلك حيلة.
فهل ترى أن أبا نواس مجدد بالإضافة إلى أمرؤ القيس، لأنه بدأ قصيدة بوصف الخمر، وتكلم في الغلمان والطرد؟ أو أن المتنبي مجدد بالإضافة إلى أبي نواس، لأنه داف شيئاً من فلسفة اليونان في شعره؟ أو أن مطرانا مجدد بالإضافة إلى المتنبي، لأنه ذكر القطار والكهرباء، ولوّن أدبه بأدب الغرب؟ أني لا أرى في مثل هذا التفاوت الظاهري تجديداً، ما دام الشعر قد ظل في كل هذه العصور واحداً في موضوعه وطريقه ونوعه ووزنه. . أما تغير الشكل فذلك فعل القانون العام الذي يغير أبدا كل شيء.
وهل قصد أحد من هؤلاء وأولئك إلى هذا التجديد المزعوم فجاهد في سبيله أهل جيله، كما
فعل أرباب المذهب الاتباعي والابتداعي والواقعي في فرنسا مثلا؟؟ لم يكن شيء من ذلك، لأنهم لم يختلفوا كما اختلف الفرنج في الموضوع والينبوع حتى تتباين الأغراض من تلك المواضيع، وتتشعب المسالك إلى هذه الينابيع. وهل سمعت أن الناس اختلفوا يوم تركوا العلبة إلى الكوز والكوب والقدح والجام؟ أم علمت أنهم اختصموا كلما تغيرت موادها من الجلد إلى الخشب، ثم إلى الخزف. ثم إلي الزجاج، ثم إلى المعدن؟ كلا! لم يسمع أحد بذلك، لأن اللبن والماء وهما القصد والغاية لم يتغيرا منذ خلقهما الله. أما حين تغير الشراب من اللبن إلى الخمر فقد حدث الخلاف وتشعب الرأي وتعددت المذاهب.
الحق أن التجديد لا يحدث، والجديد لا يكون، الا متى وجد القِصص والتمثيل في الشعر فيكمل، ودخلت الأقصوصة والقصة والرواية في النثر فيتم. أما ادعاء التجديد بالدعوة إلى العامية وترجمة الأساليب الغربية فعجز يتظاهر بالقدرة، وجهل يتستر بالتحذلق!
ا. الزيات
السائل
بينما كنت أسير في إحدى الطرق، وقفني سائل مسكين بوجه شاحب، وعينين داميتين، وشفتين متقلصتين، وقدمين مرتجفتين. فقلت في نفسي:
أُوه! ما أتعس هذا الشقي!
قدَّم إليَّ يده الحمراء النحيلة القذرة، وطلب مني صدقة بصوت يخنقه بالبكاء.
فوضعت يدي دون أن أفكر، وقد أخذتني الشفقة على هذا البائس، وضعتها في جيوبي، ثم جعلت أبحث فيها عن شيء أعطيه إياه، ولكني وا أسفاه لم أجد شيئاً، لا نقوداً ولا ساعة، حتى ولا منديلا!
صار موقفي حرجا، وما زال السائل ماداًّ إليَّ يده واثقاً كل الثقة من العطية!
لم أعرف ماذا أعمل!. وفي النهاية أخرجت يدي وأنا حيران خجل، ثم مددتها وصافحت يده الممدودة قائلا:
(أنا آسف يا أخي فليس معي شيء).
ولم أكد أتم هذه الجملة حتى رأيت عيني السائل وشفتيه تفترَّان عن ابتسامة رقيقة، وإذا به يضغط على يدي شاكراً ممتنا وهو يقول:
(حسناً يا أخي! شكراً لك! إن هذه أيضاً صدقة!)
م. يونس
التجديد في الأدب
للأستاذ أحمد أمين
- 1 -
موضوع ثار فيه الجدل بين الكتَّاب، واحتدم فيه الخلاف بين الباحثين. هل أدبنا العربي يحتاج إلى تجديد؟ وهل سواء في ذلك شعره ونثره؟ وتعصب قوم للقديم يذودون عنه ويحافظون عليه، ولا يسمحون بأي تغيير فيه. وهب المحدثون ينعون علىالمحافظين جمودهم، وينذرونهم بسوء العاقبة إن هم ظلوا متمسكين بالقديم معرضين عن الجديد.
ولكن أسوأ ما يسوئني في هذا الموضوع وأمثاله الغموض والإبهام؛ فإذا سألت المجددين ماذا يريدون بالتجديد وما ضروبه وما مناحيه وماذا يقترحون أن يدخلوه على الأدب العربي جمجموا بالقول وأتوا بكلمات غير محدودة المعنى، ولا واضحة الدلالة. وقد يجوز إذا حددوا أغراضهم وأبانوا عن مقاصدهم، أن يوافقهم المحافظون أو أكثرهم، ولا يكون ثمة خلاف، وإن يكن فخلاف معروف تقام عليه حجج واضحة.
من أجل هذا كله أحاول أن أعرض لوجوه التجديد التي يخيل إليّ أنهم يريدونها، وأدلي برأيي فيها، وأدعو الكتاب أن يساهموا فيها بآرائهم، ويستدركوا ما يفوتني من حججهم وأغراضهم:
في أدب كل لغة عناصر ثابتة لا يعتريها تغير ولا ينالها تجدد، هي قدر مشترك من الأسلوب والتراكيب وتأليف الجمل؛ به تمتاز اللغة من سائر لغات العالم. وينفرد أدب الأمة عن آداب العالم، وقدر مشترك من الفن، نتبين به الجيد من الأدب في كل عصر وكل جيل، هو فوق البيئة وفوق العوامل السياسية والاجتماعية، وفوق ما يطرأ عليها من كل تغيير.
وهذا وذاك هما اللذان يجعلاننا نتذوق الأدب الجاهلي، وندرك ما فيه من جمال، ونشعر بما فيه من نقص. ويستطيع الأديب منا أن يعرف خير ما قال امرؤ القيس، وما قال طرفة، وما قال زهير؛ وهو الذي يجعلنا نتذوق ما في القرآن الكريم من جمال في الأسلوب والمعنى. وندرك ما في العصر العباسي إلى عصرنا هذا من نثر وشعر، ونزنه ونقومه، ونحكم على بعضه بالحسن والجمال والقوة، وعلى بعضه بالضعف والقبح والغموض.
ولولا هذا القدر المشترك لانقطعت الصلة بيننا وبين القديم فلا نحس له جمالا، ولا نتذوق له طعما.
وهذا النوع من العناصر لا يقبل تجديداً ولا تغييرا، إذ بتغييره تضيع اللغة وتفقد مشخصاتها، فلو قلبنا تركيب الجمل رأساً على عقب، أو لم نراع الوضع الذي تسير على نهجه اللغة، لكان لنا من ذلك لغة جديدة، ليس بينها وبين الأولى نسب.
وهناك نوع آخر من العناصر في اللغة والأدب، خاضع للتغيير، قابل للتشكل، يتأثر بالبيئة وبدرجة الحضارة، وبالأساليب السياسية، وبالحياة الاجتماعية، وغير ذلك.
وفي هذا النوع يكون التغيير والتجديد. ومن أجل هذا التغيير كانت الفروق واضحة بين الشعر العباسي والشعر الجاهلي، في التعبير والتشبيه والأسلوب والموضوع ونحو ذلك. ومن أجل هذا أمكن الأديب إذا عرض عليه نوع من الأدب، أن يعرف عصره ولو لم يعرف قائله؛ لأنه يستطيع أن يتبين خصائص كل عصر ومميزاته، ويطبق ذلك على ما يعرض عليه من شعر أو نثر. ومن أجل هذا أيضاً ترى الفرق واضحاً بين لغة الأدباء الآن وبين لغتهم منذ عشرين عاماً. وتجد الفرق واضحاً بين لغة الجرائد المصرية اليوم، وبين لغة الجرائد السورية والعراقية، وإن كانت كلها تصدر باللغة العربية، وتشترك في العناصر الأساسية.
وهذا التغيير أو التجديد في الأدب وتأثره بما حوله خضع له الأدب العربي وكل أدب على الرغم من المحافظين والجامدين؛ فقد رأينا في العصر العباسي مدرسة وعلى رأسها الأصمعي لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلّد القدماء. ورأينا من كان يُنْشدُ الشعر فيستحسنه، فإذا قيل له انه محدث استهجنه واتهم ذوقه؛ ولكن هذه المدرسة أخضعها الزمن لحكمه، ونشأ أدب عباسي جديد، احتفظ بالعناصر الأساسية للأدب العربي ولم يأبه لما عداها وكان الفرق كبيراً بين الأدبين كما قال الجاحظ: كم من الفرق بين قول امرئ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً
وقول علي بن الجهم:
فبتنا جميعاً لو تُراق زجاجة
…
من الماء فيما بيننا لم تَسَرَّبِ
وجاء المتنبي وعلى أثره المعري فجددا في الشعر من ناحية الأسلوب ومن ناحية المعاني، فأنكر عليهما أدباء عصرهما نزعتهما الجديدة، حتى رأينا من بين العلماء من أبوا أن يعدوهما في الشعراء. ثم حكم الزمن على هؤلاء العلماء ووضع المتنبي والمعري في مكانهما اللائق بهما.
وكان هذا هو الشأن في كل عصر، حتى عصرنا الحديث، نشأ قوم تأثروا بالأدب العربي القديم وحذوا حذوه، ولم يخرجوا قيد شعرة عنه. فلو ركبوا الطائرة قالوا ركبنا الهودج والبعير، وإذا استهلكت البنزين قالوا رعت السَّعدان، وسموا الجنيهات الإنجليزية وعملة الورق دراهم ودنانير، وإذا لم يكن لهم من الأمر شيء قالوا لا ناقة لنا ولا جمل، إلى كثير من أمثال ذلك.
وتأدب قوم بالأدب الغربي إلى ثقافتهم العربية، فثاروا على كل ذلك واختلفوا بينهم في مقدار هذه الثورة، فقوم يريدون أن يتحرروا من الأوزان والتزام القوافي، وآخرون يريدون أن يتحرروا من التشبيهات البالية والمجاز العتيق، وآخرون يعافون بعض الأساليب القديمة، والموضوعات التي جرى عليها السابقون. وكان صراع بين الطائفتين نعرض له بعد.
على كل حال دلتنا أحداث الزمان على أن عوامل البيئة في التغيير والتجديد لا يمكن أن تقاوم، كما دلتنا على أن ليس كل تجديد يصادفه التوفيق ويتسع له صدر الزمن، وأن نجاح من نجح من دعاة التجديد وفشل من فشل منهم إنما كان خاضعا لقوانين طبيعية ظاهرة حيناً وخافية أحياناً، وأن نوع التجديد إن كان صالحا وكان مما تسمح به القوانين الطبيعية للأدب فمعارضة المعارضين لا يكون لها من أثر إلا أن تؤخر زمن الإصلاح، وهو واقع لا محالة يوما ما، وإذا لم تسمح بها هذه القوانين كانت دعوة التجديد صيحة في فضاء، أو خطاً في ماء.
وبعد فأي أنواع التجديد يتطلبه المجددون؟ وهل من خير الأدب العربي قبوله أو رفضه؟
إن أول أنواع التجديد وأبسطها تجديد الألفاظ، لأنها مادة الأديب الأولية، وخيوطه التي ينسج منها قطعته الفنية.
وتجديد الألفاظ على ضربين:
(1)
اختيار الألفاظ التي تناسب العصر ويرضاها ذوق الجيل الحاضر، لأن لكل أمة في كل عصر ذوقاً خاصاً بها تختار ألفاظا تناسبها وتأنس بها، وتمج ألفاظا لا تستحسنها ولا تستسيغها، وذوق الأمة في حياة مستمرة، فهو كذلك في عمل مستمر إِزاء الألفاظ، وأدباء كل عصر لهم معجم يخالف معاجم اللغة القديمة. فلو أن أديباً استعمل كلمة (هَبَيَّخ) للجارية الحسناء لكفت في إسقاط قصيدته أو مقالته. ولو استعمل كلمة بُعاق للمطر أو السيل لدل على فساد ذوقه، وسوء أدبه، ومن أجل ذلك لا يستحسن في هذا العصر بعض ما كان يستحسن في عصور سابقة. فقد كان يستحسن من أبي الطيب قوله:
وترى الفضيلة لا ترد فضيلة
…
الشمس تشرق والسحاب كَنَهْورا
ولكن كنهورا الآن ثقيلة في اللفظ كريهة على السمع، وهذا بديهي لا يحتاج إلى إطالة. وكل من جهل هذه الحقيقة لا يفلح أن يكون أديباً، لقد أراد الأستاذان الشنقيطي وحمزة فتح الله أن يحييا غريب الألفاظ ويستعملاه في قولهم وكتابتهم ففشلا كل الفشل، وكان الناس يستظرفون ذلك منهما كما نستظرف فتاة حضرية لبست ثياب بدوية، وفهموا أن ذلك ليس جدا من القول، وليس طبيعيا أن تعيش بداوة القرن السابع في حضارة القرن العشرين. إنما يحيا الأديب يوم يوفق لاختيار الألفاظ الرشيقة التي تناسب ذوق عصره، والعصر الآن أميل إلى السرعة والاقتصاد، وكلاهما يتطلب الوضوح والجلاء لا الغموض والغرابة.
لذلك أصبحت في معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة إلا أنها أثرية تحفظ فيها كما تحفظ التحف في دار الآثار.
والضرب الثاني: ألفاظ تخلق خلقا، تلك الألفاظ التي تساير المدنية الحديثة بكل ما اخترعت من أدوات وصناعات، وما ابتكرت من فن وعلم ومعاني وآراء، واللغة العربية اليوم، قاصرة كل القصور في هذا الباب، فليس لدينا ألفاظ لكثير مما اخترع وابتكر، وهذه مشكلة المشاكل اليوم وقبل اليوم تجادل العالم العربي فيها طويلا ولما يستقر على حال.
وكان لقصور الألفاظ أثر كبير في ضعف الأدب. فكيف يستطيع الأديب أن يصف حجرة وكل ما فيها من أثاث ليس له ألفاظ تدل عليه؟ وكيف يستطيع الكاتب أن يؤلف رواية، وهو في كل خطوة يعثر بمسميات لا أسماء لها؟ ولذلك يهرب كثير من الأدباء من التعبير الخاص إلى التعبير العام، فإذا أراد أن يصف رجلا يلبس طربوشاً قال انه يلبس عمارة أو
قلنسوة، والحقيقة انه لا يلبس عمارة ولا قلنسوة، وإنما يلبس طربوشا، وإذا أراد أن يقول انه يضرب على البيانو قال إنه عزف على آلة موسيقية، وهذا منتهى الفقر في التعبير.
كل هذا حقن الأفكار في أدمغة الأدباء، وسبب ضعف الوصف والرواية وغيرهما في الأدب العربي الحديث، وجعل الأدباء يفرون إلى الموضوعات الإنسانية العامة، والأفكار الميتافيزيقية، فان نحن شئنا أن يكون الأدب ظلاً لحياتنا، وحياتنا الآن، وجب أن نحل مشكلة الألفاظ حتى يطلق الأدباء من أغلالهم، وإلا ظلوا يدورون حول أنفسهم، وظل أدبهم غذاء ناقصا للأمة ليس فيه كل العناصر التي لا بد منها للحياة.
وهناك تجديد في مناحي أخرى غير الألفاظ نعرض لها في مقالات تالية إن شاء الله.
الثور في مستودع الخزف
للدكتور محمد عوض محمد
جعل الثور يطوف في نواحي المدينة، ويجول في طرقاتها في ساعة غفل فيها الرعاة، وغاب الحراس. فلم يزل يمشي على غير هُدىً، حتى ساقه القدر المحتوم إلى مستودع الخزف:
في دار صغيرة متعددة الحجرات، جمع أهل المدينة تراثهم الخالد (أو الذي حسبوه خالداً) من خَزَف قديم وحديث.
وصناعة الخزف أقدم صناعات الإنسان جميعاً. بدأ يمارسها منذ آلاف السنين، وهو بعد في مثل سذاجة الأطفال، فكانت في العصور الأولى شكولاً ساذجة، وصوراً بسيطة. يراد بها النفع والفائدة، لا الزينة والحسن، فلا نقش فيها ولا تزويق، ولا إتقان في الصنع ولا إبداع. ثم لم تزل ترقى برقي الإنسان، وتمشي وإياه جنبا إلى جنب، وتحاكيه في تقدمه ورفعته، حتى غدت فناً من أجلّ الفنون، وصناعة من أشرف الصناعات. وأبدع فيها الخيال البشري أيَّما إبداع، فأصبح منها اليوم ما يعد تحفة القرون وفخار الفنون.
وهذه المدينة عريقة في صناعة الخزف البديع، قد نبغ فيها في جميع العصور، رهط من كبار رجال الفن، فرفعوا في العالم ذكرها. وحلقت شهرتها في سماء الفنون. ولم يكن لها في هذه الصناعة ضريب.
وفي هذه الدار الصغيرة، قد أودع أهل المدينة خير ما أنتجته قرائح بنيها على مدى القرون، لكي تكون معرضاً لهذه الصناعة، يزورها الناس في كل آونة، فتنعم عيونهم بما فيها من جمال باهر، وتنعم نفوسهم بما يبعثه الجمال في النفس من سعادة وغبطة. فكان بابها مفتوحاً النهار كله، يقصد إليها الناس على الرحب والسعة، في كل ساعة من الزمان.
وفي ساعة نامت فيها ملائكة السعد واليمن، واستيقضت أبالسة النحس والشؤم، ساقت المقادير العجيبة الغريبة، ذلك الثور العنيف المخيف، إلى هذه الدار - من دون الديار جميعاً!
ولم يلبث طويلاً حتى حملته أرجله إلى داخل الدار. فأجال عينيه فيما حوله، فإذا أمامه آيات الفن، مصفوفة على المناضد والرفاف: من أواني قد ألبستها الحسن يد صناع،
وتعاونت على نقشها وتصويرها البراعة والخيال. . . ها هنا صور تمثل الطبيعة بزهرها ونَوْرها، وخضرتها ونضرتها، وأنهارها وعينها، ونبتها ودوحها، ومائها وسمائها. . . وهناك صور تمثل الطبيعة كما يراها خيال العبقري، لا كما يراها الناس، فيزيد في حسنها حسناً، وفي شكولها أشكالا وضروباً. . .
وها هنا صور للحياة، تذكرنا وصف أبي نؤاس للكؤوس، تتمثل فيها الناس في جدهم ولعبهم، وفي سرورهم وكمدهم؛ وحين يريحون وحين يسرحون؛ وحين يدأبون وحين يمرحون. . ومن تماثيل ذات حسن عزيز؛ كأنما نصبت هناك لتقيم المعاذير لمن عَبَدَ الأوثان، ومجَّد الأصنام: منها القائم الناهض، والجاثم الرابض، والمتكئ والمستلقي، والساكن الهادئ، والثائر النافر. . بعضها قد ألبس ثوباً أو بعض ثوب. وبعضها عارٍ إلا من الحسن. وكلها آيات في الإبداع والابتكار.
فتباركت الأيدي القديرة، التي أحالت الطين والصلصال، إلى كل هذا الجمال والجلال!.
رأى الثور هذا كله، وما برأسه إدراك للفن أو تقدير للحسن؛ وما في غريزته فهم لهذا الجمال المتَّسِقِ المؤتلف، وهذه الصناعة الباهرة الساحرة. . .
كلا. . . بل في غريزته عنف وبطش، وتحطيم وتدمير، فأجال فيما حوله نظرة بهيم. ثم تراجع إلى الوراء قليلا، شاهراً قرنين حديديين كالفولاذ. واندفع نحو تلك التحف والطرف وصال فيها وجال. . وهي (وا أسفاه!) هَشَّة ضعيفة، سهلة المكسر، لا حول لها أمام العنف ولا قوة. فطاحت تلك الآيات إلى الثرى، وتناثرت قطعها الغالية في جوانب الدار!
وحملق الثور في التدمير الذي أحدثه، وكأنما راقه منظره. فأعاد الكرة، المرة بعد المرة.
وما هي الا دقائق معدودة، حتى لم يبق بالدار تمثال قائم، ولا إناء منصوب؛ بل استحالت جميعا إلى شظايا مبعثرة، وأجزاء متناثرة. وقد اختلط بعضها ببعض، فما تميز العين جديدها من قديمها، ولا طارفها من تليدها؛ ولا آنيةً من تمثال، ولا رأساً من جسم. . . لقد صارت جميعاً أكداساً من الخزف المحطم، ليس فيها من الجمال أثر، ولا يرى فيها شاهد على براعة الصناعة.
في بضع دقائق استطاع هذا البهيم العنيف أن يقضي على تراث القرون، وثمار القرائح، وخلاصة الفن؛ وأن يحيل هذه الدار، ولم يكن لها نظير في جمال التنسيق، إلى دار فوضى
قد شاع فيها الخراب والدمار!
ولم يكن بالدار غير فتاة ترعاها. هالها أن رأت ذلك الثور المخيف، وأحست بالشر، يوشك أن يحدق بالدار ومن بها. فغافلته وهو يلهو بالكسر وبالتحطيم؛ وانطلقت تنشد النجدة والمعونة. . .
وبعد لأى أقبل الناس، علَّهم أن ينقذوا البقية الباقية. فلم يجدوا بقية باقية. . .
وهل شفي الغليل أن قُتل الثور ومُزِّق كل مُمَزق؟
إن دماء ثِيَرَةِ الأرض جميعا لا تعادل آية واحدة من آيات الفنون!
ويلُ الورى من عَنيفٍ أحمقٍ خَرِفِ،
…
كأنه الثورُ في مستودع الخزفِ
رأى جمالا وفناً ليس يفهمه
…
وهاله ما رأى من مُبْدَع الطُّرَفِ
فلم يزل مُرْهِفاً قَرْنَيه، مندفعاً
…
يجري، فيكسر ما ألْفَى من التحف
كأن في صدره حقداً ومَوْجِدة
…
لكل شيء بديع الصنع مؤتلف
وكيف يدرك (ثور) أنَّ ذي تُحَف
…
للحفظ والصون، لا للمحوَ والتلفِ؟
فلسفة برجسون
نشرت (الرسالة) بحثاً قيما لحضرة الأستاذ زكي نجيب محمود لخص فيه فلسفة برجسون أحسن تلخيص وأوفاه، وهي تلك النظرية التي تسود عالم العلم الآن، والتي صار لها الرجحان التام على كل ما خالفها من المذاهب والآراء.
وإنني على شدة إعجابي بالطريقة الشيقة الواضحة التي عرض فيها بحثه، وبما دعمه من الحجج القوية، والأدلة الساطعة التي تثبت بأجلى بيان إن الأصل في الكائن الحي هو الروح لا الجسم، وإن الروح كائن مستقل بذاته، وأنه هو الذي يسيطر على الجسم، وهو الذي يديره ويوجهه حسب إرادته الذاتية. وإن الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان، خلقت أنواعها خلقاً مستقلا، ووضعت في الدرجات والمنازل التي عينتها لها الروح بمطلق إرادتها، لا بطريق النشوء والتطور؛ كما كانت تذهب إلى ذلك الآراء المادية البائدة. أقول مع إعجابي بذلك وبغيره مما شيد به أركان النظرية، وأقام عليه بناءها المحكم. أراه قد انتهى إلى نتيجة لا تتفق مع هذه المقدمات، ولا تسير مع أحكام العقل؛ بل بعضها يناقض بعضا.
تلك النتيجة هي قوله في ختام بحثه: (هذه الحياة التي لا تفتأ تخلق وتغير وتبتدع، والتي تلتمس الحرية من قيود المادة هي الله (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) فالله والحياة اسمان على مسمى واحد؛ ولكنه إله ذو سلطان محدود بقيود المادة، وليس مطلق الإرادة كما تصوره الأديان؛ إلا أنه دائب في التخلص من أغلاله وأصفاده. وأغلب الظن أن الحياة ستظفر آخر الأمر الخ. . .)
فنرى من ذلك أنه جعل الله والحياة شيئاً واحدا، وبعد أن وصف هذا الشيء بأنه أساس الوجود وبأنه هو الخالق وهو الذي عيّن الحياة درجاتها ومراحلها وخلق لها أعضاءها ووظائفها، وسخر لها المادة تسخيرا، عاد فجعل هذا الشيء الذي هو الحياة، وهو الروح، وهو الله، خاضعا لقيود المادة، وأنه يجاهد ليتخلص منها. وهذا لعمر الحق تناقض لا يقبله العقل ولا يقول به أحد.
إنه لا بد من أحد أمرين: فأما أن تكون الروح هي الأصل في الوجود والمادة طارئة عليها أو العكس، فإذا كانت الروح هي الأصل (كما ذهب الأستاذ إلى ذلك وبرهن عليه) فلا ريب في أن هذه الروح مستقلة الإرادة مالكة لتمام حريتها، وأن وجودها لذاته لا يحتاج في قوامه
إلى شيء، وانه مطلق. فليت شعري ما هي العوامل التي جاءت بعد ذلك وأخضعت الروح للمادة الطارئة وقيدتها بأغلالها وأصفادها؟. أما إذا كان العكس أي إذا كانت المادة هي الأساس، فهذا ما لا يسعنا فرضه، لأن النظرية لا تقول بذلك، بل أنها قامت على هدم هذا الأساس، وقد نجحت في ذلك نجاحا باهرا، حتى لا يكاد يوجد الآن من يقول به.
وعلى هذا يكون الغرض الأول (وهو أساسية الروح واستقلالها عن المادة وتسلطها عليها) هو الواجب التسليم به، ولا يكون ثمة معنى لارتباط هذا الروح بالمادة ارتباط خضوع، ثم لا أدري ماذا يريد الأستاذ بقوله: أن الله أو الحياة يجاهد ليتخلص من قيود المادة. فإذا فرضنا أنه نجح (كما توقع هو ذلك) فماذا يكون بعد نجاحه؟ وأي حالة يصبح عليها؟ أهي شيء غير استقلاله بذاته ونيله حريته التامة؟ ولماذا لم يكن ذلك من الآن بل ومن قبل ما دام هو الأساس في الوجود؟
أما اعتباره الحياة كائناً مستقلاً ذا شخصية موجودة تدافع وتناضل عن نفسها فما ذلك الا وهم، لأن الحياة أمر معنوي لا يقوم الا في الذهن وليس له وجود في الخارج، وكذلك سائر المعاني الكلية مثل العلم والإرادة والقوة فأنها لا توجد في الخارج، بل الذي يوجد منها إنما هو أفراد موصوفون بالحياة أو العلم أو الإرادة أو القوة، وذلك مبسوط في كتب المتكلمين والمناطقة فلا حاجة للتوسع في شرحه هنا؛ وإذا كان المر كذلك فما هي تلك الحياة التي يقول بوجودها وأنها هي الله؟ مع أننا لا نرى الا أفراداً من الأحياء سواء أكانوا من نوع الإنسان أم الحيوان أم النبات، وفي غير أفراد هذه الأنواع لا نرى للحياة وجودا.
الحقيقة أننا لا يمكننا إساغة النتيجة التي انتهى إليها حضرة الأستاذ الباحث بالصورة التي هي عليها، ولا يمكن التوفيق بينها وبين المقدمات التي وضعت بين يديها. فدفعا لهذه الإشكالاات، وتخلصا من هذه المتناقضات، يجب أن نضعها على النحو الذي يحكم به العقل والمنطق، بل الذي تقضي به البديهة: وهو أن نميز الروح التي قلنا إنها أساس الوجود، وأنها تخلق وتدبر من الروح المخلوقة والخاضعة لقوانين الوجود ونواميس المادة، ثم نميز كذلك هذه الروح المخلوقة والتي لها صفة الحياة من المادة المائتة، ونعتبرهما متباينين في الجوهر وفي درجة الوجود، وبعبارة أخرى تكون النتيجة هكذا:
إن للعالم روحاً هي أساس وجوده، وهذه الروح موجودة لذاتها لا عن شيء آخر، ولا لعلة،
وإن وجودها مطلق، وسلطانها غير محدود، وأنها هي التي أوجدت كل شيء بمحض إرادتها، وهي التي خلقت المادة وخلعت عليها الحياة بجميع مراتبها، وهذه الروح يجب أن يكون لها كل صفات الكمال والبراءة من جميع شوائب النقص، تلك الروح هي ذات الله تبارك وتعالى.
وما نظن هذه النتيجة تكون موضع بحث فضلاً عن أن تكون موضع خلاف، لأنها هي التي يحتّمها العقل والتي أجمع عليها رجال العلم والفلسفة في كل عصر - الا شواذ لا يعتد بهم ممن يقولون بالحلول أو بوحدة الوجود كسبينوزا وجيوردانو وأضرابهما.
تلك هي ملاحظتنا نقدمها إلى الأستاذ الفاضل عن إخلاص، راجين أن يحلها محلها من الاعتبار، ولا يفوتنا هنا أن نكرر إعجابنا وعظيم اغتباطنا بمبحثه النفيس ومجهوده الموفق.
سيد أحمد فهمي
خواطر!
ضجة!
هي موسيقى كلها نشوز، موسيقى خفاقة مضطربة؛ يثيرها فرد بل تثيرها في الفرد يده اليمنى، وليست الموسيقى الا تعبيراً عن الذوق والإحساس. وقد اشتهر المصريون من يوم خوفو وأترابه بالذوق الرفيع، والإحساس السامي. . .
والمصريون أمة مرحة طروب؛ وإذا كان هناك شك فقد بطل الشك، وأثبت نزعة المرح في أمتنا بائع العرقسوس!
في أحيائنا الوطنية وأنصاف الوطنية يسير هذا الرجل يحمل إلى صدره آنية ضخمة، خرج من فوهتها لوح من الثلج طويل يترجح بين البياض والسمرة. . . ويمسك بيده اليمنى وعاءين من النحاس الأصفر، يتنافران أحياناً؛ فإذا تجاذبا تعانقا، وكانت قبلتهما تلك الموسيقى التي يضج لها الشارع، وتطل عليها الملاليم، وتملأ لها الكوبات، ويحسوها الناس فرحين، وتنفرج الشفاه عن لفظ الجلالة. .!!
وعلم الله أن بائع العرقسوس وشراب العرقسوس، لا يستحقان هذا التقدير، وليس من الذوق أن يثيرا هذه الضجة المزعومة، وإلا كان لبائع التمر هندي أو الرمالي أو جروبي أن يسير وفي معيته طبل بلدي.!!
تقليد!
يزعمون أن التقليد لا يفيد، وأن المقلد أعرج بالقياس إلى صاحب الفكرة، أو كالتل بالنسبة للجبل، ويعطينا الزاعمون أمثلة من الأدب، فيقولون: إن الأدب الروماني ظل للأدب اليوناني، ولهذا كان الأدب الروماني ضعيفاً بالقياس إلى أدب اليونان. ثم يعرجون على حياة الجماعة، فيقولون: إن تقليد الناس للناس في مظاهر حياتهم معناه أن المقلد يستمر على ذيل القافلة يتطلع ولا يتقدم، ويبصر ولا يفكر.
وسواء أكان هذا الرأي صواباً أم خطأ فأنا أرى أن تقليد الإنسان للإنسان هو قضاء على تفكير المقلد، وعبودية لعبقريته الكامنة. وأن النفس التي تعيش على تفكير نفس أخرى، أجدر بالزراية وأحق بالتثريب.
فتياتنا في مصر أردن خلع البراقع وأردن تقليد الغربيات، فماذا اخترن لرؤوسهن من
لباس؟ اخترن (البيريه) وما أعجب وضع هذا البيريه على الرأس! ذلك الوضع الذي يحتاج إلى حارس يراقب رأس الآسنة! محافظة على ذلك البيريه الذي تنافر مع معظم الرأس وتجاذب مع بعضه، مصغياً إلى الشمال جدا. .! وحسب موقع البيريه من الرأس أنه يترجح بينها وبين الأرض، وأنه في حاجة إلى إنسان يراقبه من عثرة السقوط! أما لون البيريه فأغلب الظن أنه تقليد أعمى لجوارب كرة القدم في ملاعب القاهرة. .!
أنا لا أكره البيريه وإنما أكره وضعه من الرأس ولونه السخيف. . .
سخاء!
لعل طبيعة السخاء في المصريين تغلب على طبائعهم جميعا، وليس يشك عاقل في أن السخاء طبيعة محبوبة ترضاها الإنسانية المعذبة التي لا تجدها في كثير من الأحيان. ولكن، نعم، ولكن السخاء قد يركب العقل والقلب ويصبح نوعا من الإسراف، فيه ثورة على أمن الناس وراحتهم!. .
في الترام أو في السيارات العمومية تجد هذا السخاء يمتط ويعرض وتطول حباله فإذا به ثورة. . سحاء يدفعه الوفاء حيناً وتدفعه المظاهر أحياناً، هذا يريد أن يكلف نفسه ما وسعت فيتحمل عن صديقه عبء التذكرة. . . والصديق يأبى أن يستغرقه هذا الفضل!. ويرغب في أن يكون سباقاً في هذا المضمار!
وتقوم ثورة تحسها في اللسان، وقد اجتمعت عنده أغلظ الايمان، وتراها في العينين الزائغتين، وفي اليدين المندفعتين، تحمل القروش إلى المحصل! وتبدأ الثورة رويداً رويداً ثم تتكاتف الألسنة، وتبرق العيون، وتندفع الأيدي؛ هذا يريد أن يدفع، وذاك يود أن يسبق صاحبه، والمحصل يظل حائرا، وقد وسعت يده أكثر مما يطلب، ويرجو إن أمكن أن تصل يد قبل أختها. فأغلب الظن أن يدي الصديقين تصلان معاً في فترة واحدة، وفي عاصفة من التهليل والتكبير!. أما الراكبون فلست أشك أنهم لا يغضبون، لأنهم في هذا السخاء سواء يعلنونه ما ملكت إيمانهم وما وسعت جيوبهم، وكم أخاف أن تقوم هذه الضجة فلا يجد أحدهما في جيبه غير ثمن تذكرته، وتصبح ثورة السخاء هباء في هباء، والناس من حولهما يضحكون أو يأسفون؟!.
إبراهيم عبده
باقة من حديقة أبيقور
لأناتول فرانس
- 1 -
ماهية الحقائق العلمية
انه لخطأ كبير أن نظن الحقائق العلمية تختلف اختلافا جوهريا عن تلك التي نشاهدها كل يوم وهي إن امتازت بشيء فبسعة إحاطتها ومبلغ دقتها، أما من الوجهة العملية فالاختلاف عظيم الأهمية، ويجب أن لا ننسى في نفس الوقت أن قوة الملاحظة عند العالم مقصورة على ظواهر الأشياء وما يجري في الطبيعة، ولكنها لن تستطيع أن تنفذ إلى باطن المادة أو تعرف شيئا عن حقائق الأشياء؛ والعين التي تستعين بالمجهر ما تزال عينا إنسانية؛ نعم أنها أكثر إبصارا من العين المجردة، ولكنهما لا تختلفان في الوسيلة. وان العالم ليزيد من صلات الإنسان بالطبيعة ومعرفته بها، ولكن يستحيل عليه بأي حال أن يحدد الخواص الجوهرية لتلك العلاقات المتبادلة بين الأثنين، وهو يشاهد كيفية حدوث بعض الظواهر الطبيعية ولن سبب حدوثها بمثل هذه الكيفية يبقى عليه كما هو علينا سرا محجوبا وبابا مغلقا.
وإننا لنبوء بالخيبة اللاذعة حين نتطلب في العلم قانونا أخلاقيا، فقد كان الناس يعتقدون منذ ثلاثمائة سنة أن الأرض مركز الكون، ولكننا نعلم الآن أنها جزء من الشمس قد انفصل عنها وأن هذا الكون الذي نحن فيه كذرة التراب الهائمة إنما هو في حركة دائمة وعمل مستمر لا ينفك ينشأ ثم يبيد، وأن الأجرام السماوية لا تفتأ تموت ثم تولد. ولكن من أية ناحية قد تغيرت طبائعنا وأخلاقنا بهذه الاستكشافات العظيمة؟ أترى الأمهات قد تأثر حبهن لأطفالهن قوة وضعفا؟ أم ترى تقديرنا لجمال المرأة قد كثر أو قل؟ أم أن نبض قلب البطل المغوار في صدره قد اختلف عن ذي قبل؟ كلا! فلتكن الأرض كبيرة أو صغيرة فماذا يعني الناس من كل هذا؟ أن في سعتها ما يكفي ليجعل منها مسرحاً للألم والحب، فهما منبعان متلازمان لجمالها الذي لا ينفد، نعم الألم ما أجله وأقدسه! وما أجهلنا بقدره وقيمته! فنحن ندين له بكل ما هو حسن فينا وكل ما يجعل الحياة جديرة بالعيش فيها، ندين له بعاطفة الرحمة والشجاعة وسائر الفضائل، وما الأرض الا ذرة من الرمل في اللانهاية المجدبة
للعوالم التي تحيط بنا.
ولكن إذا كان على الأرض وحدها نقاس الخلائق المتعددة فهي أعظم قدراً من تلك العوالم بأجمعها، بل هي كل شيء والباقي لا شيء، فبدونها لن يكون للفضيلة ولا للعقل وجود. وما هو الذكاء إذا لم يكن فناً يقصد به إبعاد الألم؟ على إنني أعلم أن هناك عقولا كبيرة قد تطلعت إلى آمال أخرى غير هذا، فقد كان رينان يعلل نفسه في فرح الواثق بحلم هو انتظار قانون أخلاقي مؤسس على العلم إذ كان يثق به ثقة لا حد لها، وكان يعتقد أنه ما دام العلم قد استطاع أن يتخذ في الجبال نفقاً فلن يعجز عن تغيير العالم برمته في المستقبل، ولكنني لا أظن مثله أنه قادر على أن يجعل منا آلهة كاملة، والحق أقول أنني لا أريد ذلك ولا أرغب فيه، فإنني لا أحس في نفسي عناصر الألوهية بعد غض النظر عن بساطتي، فضعفي عزيز عليّ محبب ألي وهو نقص ولكنه أهم مميزات وجودي.
سذاجة العلماء
لقد عهدت العلماء كالأطفال في سذاجتهم وبعدهم عن الادعاء، وفي كل يوم نلقى أدعياء يتوهمون أنهم محور العالم، ومن المؤسف أن يعتبر كل منا نفسه مركز الكون. وهذا وهم شائع في جميع الناس لا يخلو منه الكناس العابر تنبئه به عيناه حين ينظر حوله فيرى قبة السماء تستدير به من كل الجهات، جاعلة إياه مركز السماء والأرض، وقد يتزعزع هذا الاعتقاد في نفس من يفكر تفكيراً عميقاً، فالتواضع وهو شيء نادر بين المتعلمين ما زال أندر منه بين الجاهلين!
ماهية الجهل
الجهل شرط ضروري لا بد منه لا للسعادة فحسب بل للحياة نفسها. فلو أحطنا بكل شيء علماً لما استطعنا احتمال الوجود ساعة واحدة، لأن الشعور الذي يحببه إلينا أو يجعله محتملا على الأقل إنما ينبع من الأباطيل ويتغذى بالأوهام، فلو استطاع إنسان أن يستحوذ كمالا له على الحق المطلق ثم يفلته من يديه لبادت الدنيا واختفى العالم كما يختفي الظل، فالحق الإلهي كيوم القيامة يسحق هذا الوجود سحقاً.
حنفي غالي
في الأدب العَرَبي
القصة المصرية
للأستاذ جيب. أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بجامعة
لندن
جاء ابتداء ظهور القصة كفن من فنون الأدب في مصر متأخراً، إلى حد أننا نلتمس العذر لمن يدرس الأدب المصري، إذا هو رجع إلى ما أنتجته من قبل (مدرسة الكتاب السوريين) من الآثار ليبحث عما إذا كان هناك في الأصل علاقة بينها وبين نمو القصة.
وفيما عدا ما يحتمل من أن نجاح القصصيين السوريين قد شجع الكتاب المصريين على إنتاج نوع من القصص يلائم شعبهم، ستبقى (القصة المصرية) وهي موضوع هذا المقال، أثناء البحث مستقلة تمام الاستقلال عن تاريخ القصة السورية.
أما المؤثرات الغربية، فقد ظهرت بوضوح فيما ولى ذلك من الأطوار كما أنها استخدمت استخداما مباشرا، ولكن على الرغم من هذا فان (آداب التسلية) في مصر قد ظلت لمدة طويلة تعتمد على ما خلفه العرب من النماذج الأدبية العالية، والنماذج العرفية التي درج الناس عليها. فلما آن لها أن تتحرر من تبعيتها لتلك النماذج، كان تحررها ببطء وبعد تردد، ومن ثم كان نجاحها في ذلك الاتجاه فردياً موزعا، ولم يكن نتيجة لحركة تطور مستقيمة.
ونحن في الواقع إذا أردنا أن نتحدث عن (نمو) القصة في مصر، فلا بد أن نمد في معنى هذا اللفظ (القصة) حتى يشمل شعبة واسعة من فنون الكتابة يربطها جميعا رباط الخيال القصصي، وإن كان بينها كثير لا يمكننا مطلقا أن نعتبره قصة إذا قصدنا المعنى الحقيقي لهذا اللفظ.
ويعزى تأخر مصر في هذا الميدان، ميدان القصة، إذا هي قورنت بتركيا والهند (وهما المركزان الأساسيان الآخران للثقافة الإسلامية) إلى عدة عوامل أوضحناها في مقال سابق في صدد الكلام عن الأسباب الأدبية، والأسباب التعليمية التي كانت عقبة في سبيل ظهور آداب للتسلية من نوع جديد في مصر. ونستطيع أن نضيف اليوم إلى تلك العوامل أن المصريين وجدوا غنية ومتاعا فيما خلفه العرب من آداب عالية متنوعة، مما لم يكن له
مثيل في كلتا اللغتين التركية والأردية. وهناك بعض عوامل محلية خاصة سنعرض لها في شيء من التفصيل في بحثنا هذا، ولكننا نحب أن نشير الآن إلى تلك الحقيقة التي تحوي شيئاً مما سنعرض له، وهي أن تلك الطبقة المحصورة التي تعلمت تعلما حديثاً في مصر، كانت تستطيع أن تجد بغيتها في الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي، ومن أجل ذلك انعدمت في الدوائر الأدبية البواعث التي تشجع على تأليف كتب التسلية بالعربية. فلما أمست الحاجة إلى هذا النوع من الكتب، كان المسلك الطبيعي الذي سلكه الأدباء هو إقبالهم على ترجمة القصص الفرنسية والإنجليزية، وفضلوا ذلك على أن يقوموا بإنتاج أدب قصصي جديد لا يرجون له انتشاراً، إذ كان ذلك العمل يتطلب منهم خلق فن جديد من فنون الكتابة.
ولما كانت هذه القصص قد ترجمت ترجمة سقيمة، ولم يراع في اختيارها حالة مصر الاجتماعية، ولا حالة الثقافة العامة، ولا الذوق الأدبي في البلاد. فان قبول القراء لها على الرغم من عيوبها ليدل على انه كان هناك شعب يتذوق هذا النوع من الأدب ويقدره حق قدره.
على أن هناك كتاباً يصح اعتباره مقياسا للكياسة والمهارة اللتين ينبغي أن يتصف بهما من يريد القيام بترجمة قصة أوربية، بحيث يجعلها تلائم ذوق شعب ثقافته إسلامية كالشعب المصري، ذلك الكتاب هو ترجمة عثمان جلال لقصة (بول وفرجيني) فان تلك الترجمة على ما فيها من الاختصار والتصرف في الجملة ظلت محافظة على الروح الأصلية وعلى ما جاء في الأصل من المعاني. أضف إلى ذلك أن استعمال السجع في عبارات سهلة. ووضع المؤلف بعض المقطوعات الشعرية محل الأفكار الفلسفية التي وردت في الأصل، قد أكسب هذه الترجمة مسحة عربية، لم توجد مع الأسف في معظم ما عاصرها أو جاء بعدها من الكتب المترجمة. ويمكننا أن نستشهد على ذلك بالفقرة الآتية:
(وما أنت أيتها الصغيرة فلا عذر لك في السفر، ولا بد من تسليمك للقضاء والقدر، وأن تطيعي أمر الأقارب وإن ظلموا وأن تسلمي لمل به حكموا، فإن سفرك وإن كان لا أحد يرضاه، فهو على ما حكم الله. فلقد أنزل تعالى في كتابه العظيم، على لسان نبيه الكريم: قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى، وإن سفرك إن شاء الله لنعم العقبى، أفتعصين الله ما أمر، أم تسلمين للقدر).
وهناك غير هذا الكتاب مئات أخرى بينها عدد ليس بالقليل حرص فيه المترجمون على الأصل إلى درجة تختلف قلة وكثرة عما ذكرنا، ونخص بالذكر تلك التراجم التي قام بها المنفلوطي، وإن كان ينقصها كثير من مزايا ترجمة عثمان جلال، على الرغم من براعة أسلوب المنفلوطي. والذي يعنينا في هذا الصدد الكتب المترجمة من أنها كثيرة وأنها صادفت رواجا عظيما.
ونستطيع أن نتبين ميل الكتاب المصريين إلي المحافظة على ما خلفه لهم العرب من الأوضاع الأدبية التقليدية، (الا أن يضيفوا إليه بعض العناصر الجديدة) في تلك القصة التي تعد أول قصة مصرية بالمعنى الذي أشرت إلى وجوب اعتباره في صدد الكلام عن القصة المصرية، وهي (رواية عذراء الهند أو تمدن الفراعنة لمنشئها الضعيف احمد شوقي) عام 1897. وهي من أوائل مؤلفات الشاعر النابه احمد شوقي. ولم توضع هذه القصة على نمط قصص ألف ليلة وليلة أو على طراز قصص السيرة، وإنما وضعت على نمط تلك الأقاصيص الخرافية الشهيرة التي تعرف (بالحواديت). وقد سار المؤلف في توسيعها على الطريقة التي تتبع في (القصص التاريخية). على أني أقرر صراحة أن هذه القصة مما لا يمكن أن يستسيغه العقل، من حيث الخطة ومن حيث ما حشر فيها حشراً من المخلوقات الخرافية كالسحرة والعرافين، مما لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاتها، ولكنها ورثت مما سبقها من (الحواديت) المشهورة ميلاً شديداً إلى الحركة والمخاطرة فعوض ذلك عليها بعض مساوئها، وإننا لنشعر بشيء من اللذة أثناء قراءة الصفحات التي لم تحشر فيها الخرافيات لأنها تعد بين القصص الحي.
أما ما تدين به تلك القصة (للقصة التاريخية) فهو طريقة سرد التاريخ في ثنايا القصة. ولقد تعرضت هذه القصة لشرح عظمة مصر القديمة. وهي جديرة بالاعتبار من هذه الناحية. على أن خطرها الحقيقي إنما يرجع إلى أنها كتبت بذلك الأسلوب الفخم الذي قلد شوقي زعامة الشعر في الأدب المصري. ويعد النثر المسجوع فيها من أفصح ما عرف من هذا النوع ولقد كانت الفقرات تجري على روى واحد أربع مرات أو خمسا في غير إملال. وكانت تتخلل هذه الفقرات بعض المقطوعات الشعرية الرائعة للمؤلف. وأن الإنسان ليأسف على انه لم يتح لهذا الأسلوب موضوع آخر ومواد أخرى غير التي استعمل فيها.
بجانب تلك المحاولة التي قام بها شوقي، ظهرت محاولة أخرى بعد ذلك ببضع سنوات كانت أبعد نجاحا وأعظم أثراً وهي التجاء الكتاب إلى ذلك الضرب المعروف بالمقامات، وهي تعد في نظر من يدرسون الأدب العربي في العصور الوسطى أقرب ضروب الكتابة في ذلك الوقت إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد ظلت المقامة تستعمل في شكلها التقليدي حتى أواخر القرن التاسع عشر. وعلى الأخص على يد ناصيف اليازجي وعبد الله باشا فكري، ولكنها كانت في يدي هذين الرجلين وغيرهما من كتاب مدرستهما مقصورة على الموضوعات القديمة ولم يكن لها بحياة عصرهم غير ارتباط قليل.
ولكن ظهر بجانب هذه المقامات نوع آخر لجأ إليه الكتاب فيما طرقوه من الموضوعات وعلى الأخص في النقد الاجتماعي؛ وأقبل عليه عدد من الكتاب المصريين فأخرجوا طائفة من الآثار الأدبية؛ كانت إحدى المظاهر الخاصة التي امتاز بها الإنتاج الأدبي في السنوات العشر التي سبقت عام 1914.
ويعد (حديث عيسى ابن هشام) لمحمد إبراهيم المويلحي (1858 - 1930) أقدم وأحسن تلك المجموعة الجديدة، بل أن هذا الكتاب في تصوراته وطريقته ليكاد يصل إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد لجأ المويلحي أيضاً في ذلك الكتاب إلى الخرافيات، لأن الخيط الذي يربط أجزاءه، هو تجارب أحد الباشوات الذين عاشوا في عهد محمد علي، وقد بعث هذا الباشا من مرقده فهاله ما وجد من الظروف الاجتماعية الغريبة التي لم يألفها في القاهرة التي استحالت إلى مدينة أوربية. وبهذه الوسيلة تسنى للمؤلف أن ينتقد في حوار ممتع حالة عصره، وأن يقارن ذلك بالماضي مظهرا ما في الحاضر من مساويء، أهمها ولع أهله بتقليد الأوربيين تقليدا مرذولا. على أن هذا الكتاب، كما لاحظ محمود تيمور، ينقصه الخواص الجوهرية للقصة، وأعني بها الخطة البسط، ولكنه في تصوير الأشخاص قد نجح إلى درجة جديرة بالاعتبار. ولقد أضيف إلى الطبعة الأخيرة لهذا الكتاب جزء آخر سمي (بالرحلة الثانية) غيرت فيه المناظر الأولى بمناظر باريس أبان المعرض العظيم عام 900، وبذلك تسنى للمؤلف انتقاد مساوئ التشبه بالغربيين، وأوضح معايب المدنية الغربية لدى منابعها. ومما هو جدير بالملاحظة أن الباشا لم يرجع ثانية إلى قبره، ذلك إلى مثله في الكتاب ما يحملنا على الظن بان المؤلف قد نسى الفكرة التي بدأ بها كتابه.
ولا يعزى نجاح هذا الكتاب وشهرته إلى القصة نفسها ولا إلى مغزاها بقدر ما يعزى إلى براعة الأسلوب والمقدرة على الوصف، فإن المؤلف يقلد تقليدا متقنا الخصائص الحسنة التي يمتاز بها أسلوب المقامة مضافا إلى ذلك سهولة حديثة وظرف. ويتخلل عباراته المسجوعة حوار في لغة سهلة حديثة. ولقد يلجأ المؤلف إلى اللفظ العامي الاصطلاحي فيستعمله في غير تردد، وذلك على الرغم من أن الحوار نفسه كان يتطرق كثيرا إلى عبارات وصفية مسهبة. وكان السجع مزيجا متقنا من القديم والحديث مما أكسب الأسلوب طرافة ورونقا، وجعل القارئ يستمتع بأثر من الآثار الأدبية الحية جدير بأن ينافس آثار المنفلوطي في الأسلوب مع تفوقه عليها في عمق الحس وحسن الترتيب.
وتستطيع أن تضيف إلى كتاب المويلحي كتابين آخرين، جرى فيهما صاحباهما على سنّة المويلحي في اختيار طريقة المقامة للكتابة في النقد الاجتماعي، وإن كانا أقل منه لباقة ورقة، أولهما (ليالي سطيح) لمحمد حافظ إبراهيم وهو أقوى منافس لشوقي في زعامة الشعر العصري (1871 - 1932) وظهر هذا الكتاب عام 1907. وخطة هذا الكتاب بسيطة تتلخص في أن جماعة من الناس كانوا يشكون في ليالي متوالية ما يلاقونه من مساوئ الأحوال السائدة في مصر، فيجيبهم على التوالي صوت خفي مبيناً أسباب ما يضجون منه من المساوئ في نثر مسجوع تتخلله بعض المقطوعات الشعرية، واصفاً لهم الدواء. على أن خطة الكتاب تأخذ بعد ذلك في التغير تدريجا حتى يصير الجزء الأكبر منه عبارة عن محاورات في نثر مرسل سهل تضيع فيه المعالم الأصلية للكتاب. ولقد قوبل هذا الكتاب بحماس وإقبال في الدوائر الأدبية المصرية ولكن مما تلذ ملاحظته في هذا المقام أن أصواتا عالية قد ارتفعت في ذلك الوقت منددة باستعمال السجع في مثل هذه المؤلفات.
أما ثاني هذين الكتابين فهو (ليالي الروح الحائر) للكاتب السياسي والمؤلف المسرحي محمد لطفي جمعة. ولقد سار المؤلف في هذا الكتاب على طريقة المقامة بالدقة، دون أن يلجأ إلى السجع. ويلاحظ في كتابه أثر كتّاب (المدرسة السورية الأمريكية) واضحا خصوصا في هذا النوع من الإنشاء المعروف باسم الشعر المنثور أو الشعر الحر. أما المتحدث في هذا الكتاب فهو روح غير مجسمة كما يفهم من اسمه، وأغلب هذا الحديث في انتقاد الأحوال الاجتماعية في مصر، ولقد أشار زيدان بحق إلى جمال هذا الكتاب وفصاحة أسلوبه. وفي
نظري أنه في هذه الناحية أهم منه في الناحية الأخرى: ناحية التعمق في الأفكار التي تعرض لشرحها.
وقبل أن أترك هذه المجموعة المتشابهة أحب أن أشير هنا إلى كتاب آخر عظيم الشبه بها وإن امتاز منها في الروح ثم في الأسلوب إلى حد كبير، ذلك هو مجموعة الفصول التي جمعت تحت عنوان (أين الإنسان) لمؤلفها الشيخ طنطاوي جوهري. ولقد قدمت هذه الرسالة إلى المؤتمر الدولي الذي انعقد في لندن عام 1911. أما المتكلم في هذه الرسالة فهي روح سماوية، وأما الحديث فانه يدور حول التقدم العالمي والإخاء البشري. ولم يلجأ الكاتب إلى استعمال السجع، وهذه الرسالة مفخرة للأدب العربي العصري، وهي جديرة بأن تكون موضوع دراسة خاصة، ولكني أكتفي هنا بالإشارة إليها لخروجها عن موضوع بحثي.
ويمكننا أن نتبين في هذه المؤلفات عدة محاولات مجتمعة لإيجاد نوع جديد من الأدب، يسد حاجة جمهور قارئ جديد، ويتصل بعض الاتصال بمشاكله ونظراته إلى الحياة، بحيث يسهل تناوله، ويثير اهتمامه، ويلائم خياله. على أن أصحابها لم يصادفوا نجاحا في تلك المحاولات لأنها كانت أقرب إلى الأدب العالي منها إلى آداب التسلية، فلم يقبل عليها الا عدد صغير من خاصة القراء.
وبدل أن يطرقوا موضوعات جديرة طريفة تسري عن الجمهور ما يلاقيه من متاعب الحياة نراهم يوجهون اهتمامهم إلى هذه المتاعب نفسها فيتناولها بالدرس والتحليل، وأدهى من ذلك انهم كانوا يسلكون في كتاباتهم طريقة الوعظ الجافة، أضف إلى ذلك انهم لم يسلموا من تسلط الفكرة القديمة، فكرة العصور الوسطى، التي تنظر إلى الأدب كوسيلة من وسائل المباهاة والظهور، سواء في ذلك ساروا على الطريقة القديمة أو من قاموا بترجمة بعض المؤلفات الغربية كعثمان جلال والمنفلوطي، ولم يخل الكتاب السوريون من التشيع بهذه الفكرة أيضاً وحتى كتاب الأقاصيص التافهة التي تركت في زوايا النسيان الذي استحقته منذ ظهورها، قد قصدوا في كتاباتهم إلى ذلك الغرض الوعظي الخلقي. ويظهر لنا من هذا أن أولئك الكتاب كانوا ينظرون إلى القصص التي تكتب للجمهور نظرة ازدراء مما كان له أكبر الأثر في تأخر نمو القصة كفن من فنون الأدب العربي.
ابن خلدون في مصر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
(2)
وانه لمنظر شائق ذلك الذي يقدمه إلينا ابن خلدون عن مجلسه في ذلك اليوم ومن حوله العلماء والأكابر يشهدون الدرس الأول لذلك المفكر المبدع. وهو يحرص على تدوينه كما يحرص على تدوين الأثر الذي يعتقد أنه أحدثه إذ يقول: (وانفض ذلك المجلس وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار). وفي ذلك ما يدل على ما كان يشعر به ابن خلدون من كبرياء وثقة من أنه كان شخصية ممتازة تجب أحاطتها بمظاهر خاصة من التكريم والرعاية. ثم كانت الخطوة الثانية في ظفره بمناصب الدولة، وتعيينه قاضيا ًلقضاة المالكية في أواخر جمادى الآخرة سنة 786 (أغسطس 1384م) مكان القاضي المعزول جمال الدين بن خير السكندري. وكان ارتفاعه إلى هذا المنصب الذي هو رابع أربعة تعتبر من أهم مناصب الدولة إيذانا بوثوب العاصفة من حوله، واضطرام تلك الخصومات التي كدرت صفو مقامه، وادالت نفوذه، واقتلعته من المنصب غير مرة. يقول ابن خلدون في سخرية:(وأقمت على الاشتغال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية. فعزله واستدعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه. فتفاديت من ذلك، وأبى الا مضاءه). وقد عرف ابن خلدون هذه (النزعات الملوكية)، وعرف أنها تبطن من الشر والنقم في معظم الأحيان أكثر مما تسبغ من العطف والنعم. ولكنه يريد أن نفهم أن ارتفاعه إلى منصب القضاء لم يكن نزعة ملوكية فقط. وإنما أختاره السلطان كما يقول (تأهيلا لمكانه وتنويهاً بذكره).
ونستطيع أن نقدر أن ولاية ابن خلدون لخطة القضاء لم تكن حادثاً عادياً، فقد كان أجنبياً. وكان تقدمه في حظوة السلطان، وفي نيل الناصب سريعاً. وكانت مناصب التدريس والقضاء دائما ًمطمح جمهرة الفقهاء والعلماء المحليين؛ ولم يكن مما
يحسن وقعه لديهم أن يفوز بها الأجانب الوافدون دونهم. وإذا فقد تولى العلامة المغربي منصبه في جو يشوبه كدر الخصومة والحسد. وجلس بمجلس الحكم في المدرسة الصالحية بحي بين القصرين، فلم يمض سوى قليل حتى ظهرت من حوله بوادر الحقد والسّعاية
ويقول لنا أبن خلدون في سبب هذه العاصفة التي ثارت حول توليه القضاء، كلاما طويلا عما كان يسود القضاء المصري يومئذ من فساد وأضطراب، وما يطبع الأحكام من غرض وهوى، وعما كان عليه معظم القضاة والمفتين والكتاب والشهود من جهل وفساد في الذمة؛ وأنه حاول إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وقمع الفساد بحزم وشدة، وسحق كل سعاية. وغرض: (فقمت في ذلك المقام المحمود، ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق وتحري العدالة. . . . لا تأخذني في الله لومة. ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة، مسويا بين الخصمين، آخذ الحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحاً إلى التثبت في سماع البينات، والنظرة في عدالة المنتصبين
لتحمل الشهادات؛ فقد كان البر منهم مختلطاً بالفاجر، والطيب متلبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم فيتجاوزون عما يظهر عليهم من هناتِهم. لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة، فأن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن وأئمة للصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة فيضنون بهم الخير، ويقسمون الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة، والتوسل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم؛ ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجب العقاب، ومؤلم النكال. . .) ثم يعدد نواحي الفساد التي شهدها، وجدّ في إصلاحها وقمعها، وكيف مضى في سبيله (من الصرامة وقوة الشكيمة) وكيف احتقر شفاعات الأعيان والأكابر خلافاً لما اصطلح عليه زملاؤه القضاة من قبولها، حتى ثار عليه السخط من كل ناحية، وسلقته جميع الألسن وكثرت في حقه السعاية لدى البلاط.
وهذا التعليل الذي يقدمه لنا أبن خلدون عن سبب الحفيظة عليه، واضطرام الخصومة حوله، معقول يحمل طابع الصراحة والصدق. بل هذا ما تسلم به التراجم المصرية المعاصرة والقريبة من عصره. فيقول أبو المحاسن مثلاً مشيراً إلى ولايته للقضاء:(فباشره بحرمة وافرة، وعظمة زايدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة، وشفاعات الأعيان، فأخذوا في التكلم في أمره. . .) ويقول ابن حجر والسخاوي: (فتنكر (أي ابن خلدون) للناس بحيث لم يقم لأحد من القضاة لما دخلوا للسلام عليه، مع اعتذاره لمن عيبه عليه في الجملة، وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود، وصار يعزر بالصفع، وشبهة
الزج، فإذا غضب على إنسان، قال زجوه فيصفع حتى تحمر رقبته) وفيما ينقل السخاوي قصد إلى التعريض والانتقاص، وسنرى أنه شديد الوطأة على أبن خلدون يشتد في نقده وتجريحه؛ ولكن في قوله ما يؤيد أن ابن خلدون كان يصدر في قضائه عن نزاهة وحزم وصرامة؛ بل هو يشهد لابن خلدون بذلك صراحة، حينما يقول عنه في موضع آخر:(ولم يشتهر عنه في منصبه الا الصيانة. .).
انقضت العاصفة على ابن خلدون إذا لأشهر قلائل من ولايته وكثر السعي في حقه والإغراء به حتى (أظلم الجو بينه وبين أهل الدولة) على حد تعبيره، وفقد حظوته وما كان يتمتع به من عطف ومؤازرة. وأصابته في ذلك الحين نكبة أخرى هي هلاك زوجه وولده وماله. وكان منذ مقدمه ينتظر لحاق أسرته به؛ ولكن سلطان تونس حجزها عن السفر ليرغمه بذلك على العودة إلى تونس فتوسل إلى السلطان الظاهر أن يشفع لديه في تخلية سبيل أسرته به، ففعل، وأطلق سراح الأسرة وركبت البحر إلى مصر. ويروي لنا ابن خلدون نبأ الفاجعة في قوله:(ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد. وصلوا من المغرب في السفين، فأصابها قاصف من الريح، فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود؛ فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب) ولم يمض سوى قليل حتى أقيل المؤرخ من منصب القضاء، أو بعبارة اخرى، حتى عزل. بيد أنه يريد أن نفهم أن هذا العزل جاء محققاً لرغبته إذ يقول:(وشملتني نعمة السلطان أيده الله في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت فيما زعموا مصطلحها، فردها إلى صاحبها الأول وأنشطني من عقالها؛ فانطلقت حميد الأثرة مشيعاً من الكافة بالأسف والدعاء وحميد الثناء، تلحظني العيون بالرحمة، وتتناجى الآمال في العودة) والخلاصة أن ابن خلدون يؤكد لنا إن عزله كان نتيجة التحامل والحقد والسعاية فقط، وأنه أثار استياءً وأسفاً في المجتمع القاهري، وأنه غادر منصبه موفور الكرامة والهيبة. بيد أننا سنرى، حسبما يشير في قوله المتقدم، أنه كان يرمى بجهل الأحكام والإجراءات وأنه لم يكن بذلك أهلا لتولي القضاء، وانه كان مشغوفاً بالمنصب، أشد ما يكون حرصاً عليه.
وكان عزل ابن خلدون عن منصب القضاء لأول مرة في السابع من جمادى الأولى سنة 787 هـ (يوليه 1385م)، أعفي لنحو عام فقط من ولايته، فأنقطع إلى الدرس والتأليف
كرة أخرى.
على أن هذا العزل لم يكن إيذاناً بسخط السلطان ونقمته؛ فقد لبث ابن خلدون في منصب التدريس بالقمحية؛ ولم يمض سوى قليل حتى عينه السلطان أيضاً لتدريس الفقه المالكي بمدرسته الجديدة التي أنشأها في حي بين القصرين (المدرسة الظاهرية البرقوقية). واحتفل ابن خلدون كعادته بالدرس الأول، وألقى خطابا بليغا يدعو فيه للسلطان، ويعتذر عن قصوره في تواضع ظريف. وشغل بالدرس في المعهدين حتى كان موسم الحج عام تسعة وثمانين، فأعتزم عندئذ أداء الفريضة، وأذن له السلطان وغمره بعطائه، وغادر القاهرة في منتصف شعبان؛ وقصد إلى الحجاز بطريق البحر؛ ثم عاد بعد أداء الفريضة، بطريق البحر أيضاً حتى القصير؛ ثم أخترق الصعيد بطريق النيل، فوصل القاهرة في جمادى الأولى سنة تسعين (790 هـ)؛ وقصد السلطان تواً واخبره بأنه دعا له في الأماكن المقدسة، فتلقاه بالعطف والرعاية. ثم خلا كرسي الحديث بمدرسة صرغتمش فولاه السلطان إياه بدلا من تدريس الفقه بالمدرسة السلطانية؛ وجلس للتدريس فيها في المحرم سنة إحدى وتسعين، وألقى خطاب الافتتاح كعادته في حفل فخم، وأعلن أنه قد قرر للقراءة في هذا الدرس كتاب الموطأ للإمام مالك؛ ويعرفنا ابن خلدون بموضوع درسه الأول في ذلك اليوم، فقد تكلم فيه عن مالك ونشأته وحياته وكيفية ذيوع مذهبه، ثم يقول لنا في كبريائه المعهود:(وأنقض ذلك المجلس، وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيون، وأستشرت أهليتي للمناصب القلوب، وأخلص النجا في ذلك الخاصة والجمهور).
أثر اللغة العربية في العالم الإسلامي
للسير دنسون روس. مدير مدرسة اللغات الشرقية بلندن
- 2 -
الهند:
سأبدأ الآن بالهند مبيناً ما تدين به تلك البلاد للعرب. وكلكم تعلمون أن الفتوح الأولى للقوات الإسلامية في الهند، لم تذهب بهم بعيداً داخل تلك البلاد، ومن ثم كانت قليلة الأثر هناك، ولكن الأتراك في القرن العاشر استطاعوا أن يتوغلوا بالإسلام إلى مسافات بعيدة داخل الهند، إلى أن كان القرن الثالث عشر، وهنا نرى أول ملك إسلامي يتبوأ عرش (دلهي).
ولننظر الآن ما كانت عليه أحوال تلك البلاد في ذلك الوقت، نرى قبل كل شيء أنه كان يوجد في الهند آداب واسعة، هندوكية وبوذية، وكانت تتجلى في اللغات الكلاسيكية التي لم يكن يفهمها الا طائفة محصورة من الناس. ثم يأتي بعد ذلك أن الهنود كانوا وثنيين، وأنهم كانوا أول عدو من غير أهل الكتاب صادفهم المسلمون.
ويعتبر في الحقيقة أتراك أواسط آسيا أول من نشر الإسلام بشكل واسع في الهند، وكان هؤلاء الأتراك يتكلمون التركية بينما كانت ثقافتهم فارسية، وهي تلك الثقافة الفارسية الحديثة، التي ظهرت فجأة في بلاط (سميندس) في بخارى.
وعلى ذلك يكون الإسلام قد أدخل في الهند لغتين: العربية لغة الدين، والفارسية لغة الشعر؛ وكانت العلاقة الوثيقة بين اللغة الفارسية، واللهجات السائدة في الهند الشمالية، هي بلا شك السبب في أن مسلمي الهند قد اختاروا الفارسية واسطة لآدابهم دون العربية والتركية، واستمر الحال كذلك بينهم حتى القرن الخامس عشر، إذ لم تصل اللغة الأردية (وهي خليط من الهندية والفارسية، إلى المستوى الذي تصلح معه لأن تكون واسطة أدبية) الا في ذلك القرن.
ولم يك مسلمو الهند قادرين على تذوق العبقرية التي امتازت بها العربية بالسرعة التي كانت عند غيرهم من الفرس، ولكن حدث على مر الأيام أن أنجبت الهند أدباء نابهين، ومما هو جدير بالملاحظة أن بعضاً من النصوص العربية الأنيقة كان من وضع أدباء الهند
في العصور الأخيرة.
وإني أميل بعد ذلك إلى أن أقرر أن أعظم تغيير أحدثته الثقافة الإسلامية، بعد ذلك التغيير الهائل، وهو دخول هذا العدد العظيم من الهند في دين التوحيد، إنما هو ما طرأ على الهند من الميل إلى تذوق التاريخ.
فإن هذا العلم لم يصادف هوى في قلوب الهنود من قبل، إذ كان يعتبر أمراً مادياً صرفا في نظر قوم مفكرين وفلاسفة بالسليقة. وهذا هو السبب في أن التاريخ الهندي القديم قد جمع بصعوبة عظيمة، وكان الاعتماد في جمعه على ما عثر عليه من السكة والتماثيل، دون أن يكون هناك بجانب هذه الأشياء مخلفات كتابية.
ولا تزال التواريخ بل القرون التي ظهر فيها بعض الحكام الأولين موضع جدل ومناقشة. فلما ظهرت الهند الإسلامية، دبت الحماسة في قلوب الناس فجأة نحو كتابة التاريخ، وكان من نتيجة ذلك أن دونت مع التوسع أخبار جميع ملوك دلهي ابتداء من القرن الثالث عشر.
وينبغي أن لا يفوتني هنا أن أذكر إدخال الحروف الهجائية العربية في الهند، وانتشار الكتابة بين الناس على العموم، في بلد كان كلما يتعلق بالعلم والكتابة فيه محصوراً في أيدي البراهمة.
أواسط آسيا وبلاد فارس:
مهما أطنبنا في وصف الأثر الذي تركه تعلم اللغة العربية في عقول سكان أواسط آسيا والهند، فلن يعد ذلك منا إسرافا أو مبالغة، فإن الأثر الذي تركته العربية في عقول الأتراك والفرس، ومسلمي الهند، كان أجل شأنا وأعظم خطراً من الأثر الذي تركته اللاتينية في عقول الأدباء من أهل أوربا في العصور الوسطى.
فمع أن اللاتينية كانت الواسطة للكتابات الدينية والعلمية، لم يكن هناك ميزة أخرى من ورائها سوى تلك المهارة الأدبية التي كان يتصف بها كل من ثقفها. إذ كان قبل حركة الأحياء الكاثوليكية بزمن طويل، نصف سكان أوربا ينظمون الشعر ويتغنون به، كما أن بعض اللغات كانت قد اتخذت فعلا شكلا محدوداً، واصطبغت بصبغة البيئة التي وجدت فيها.
ولم يكن الأمر كذلك في العربية، فان العربية قد أمدت المستنيرين في أواسط آسيا بثقافة
تعتبر جديدة من جميع الوجوه. وبثت في قلوب هؤلاء أفكارا طريفة، وفتحت أمام أعينهم عوالم جديدة، وبعبارة أخرى، فان العربية أمدت الفرس والأتراك والهنود (بلغة جديدة) ولا غرابة في ذلك، فانه بالقضاء على الديانات القديمة قضاء ظاهراً، وبحلول العربية محل اللغات القديمة في المسائل الأدبية، ثم باستبدال الثقافة الإسلامية بكل ما يرجع في أصله إلى الثقافة الآرية، كل أولئك يحملنا على القول بأن العربيةأمدت بلاد فارس بخزائن جديدة من العلم، إلى جانب لغة مكتوبة منظمة. أو قل أمدت الفرس (ببعث قومي جديد مع ثقافة حديثة) وكل ذلك في وقت واحد، فلقد أتحفت العربية أواسط آسيا بالشعر العربي الذي غيّر وجه الشعر هناك، ثم بالفلسفة اليونانية، وغيرها من العلوم.
ونستطيع أن نقول أن المجوسية لم يكن لها الا معنى ضئيل في عقول معظم الرعايا الساسانيين، وكان لا يفهمها الا طائفة الكهنة، بينما كانت لغة الكتب المقدسة وهي الفهلوية لا يكاد يفهمها إلا رجال الدين، وطائفة الموظفين الرسميين.
فمن السهل أيضاً أن نتصور الأثر المباشر الذي أحدثته العقائد الإسلامية في الفرس، بله الروعة والدهشة للتي تركهما في نفوسهم ذلك الكتاب المقدس الذي نزل بلسان سهل مبين.
هذا وينبغي أن لا ننسى أنه في الأيام الأولى قبل إدخال الشكل، وخلو العربية من الحروف التي تعين الساكن والمتحرك لم يكن من السهل قراءة اللغة العربية، ولكن العربية كانت على أي حال أسهل من الفهلوية، إذ كان نظام هذه الأخيرة في الكتابة أصعب نظام عرف حتى ذلك الوقت. ولكن حينما ظهرت مدارس النحو في الكوفة والبصرة، أصبح من السهل ضبط العربية واستيعابها.
وهذا البحث يؤدي بنا إلى الهجاء العربي، وإلى فن الإملاء، ذلك الفن الذي كان حتى ذلك الوقت مجهولا تمام الجهل في فارس والهند.
أحس الناس وعلى الخصوص غير العرب منهم فضلا عن الزهو الذي داخل نفوسهم بتعلم اللغة العربية، سرورا وميلا عظيما نحو تلك الحروف المرنة السهلة وهي الحروف الهجائية العربية. ولقد كان لهذه الحروف في نفوسهم مثل ما للصور من الجمال الفني ولا سيما إذا نقشت على ظاهر المباني، أو إذا حفرت على الأضرحة والمقابر سواء ما كان منها ثلثاً أو كوفياً أو نسخاً.
ولست (إلى حد كبير) أشك في أن هذه الزخرفة الأنيقة في رسم الحروف العربية إنما كانت نتيجة لتحريم تصوير الأشخاص في العهود الأولى. ولكن بحث هذه النقطة ربما يخرج بي بعيداً عن الموضوع.
ويجب ألا ننسى أن العرب لم يدخلوا معهم إلى تلك البلاد أي شيء في شكل فني، وأن الفرس كانت لهم تقاليد فنية ترجع إلى ما يزيد على ألف سنة. ومما يدعو إلى الدهشة أن الإغريق وقد حكموا الفرس فعلا نحو قرنين لم يتركوا فيها أي أثر أدبي، كما انهم لم يتركوا شيئا من هذا في الهند. وكذلك لم يترك فتح الفرس لمصر أي أثر في تلك البلاد. وهكذا استمر الفرس حتى الفتح الإسلامي محتفظين بآدابهم منعزلة تماما عن أي تأثير من غيرهم.
وكانت آداب الفرس محدودة من جهة الانتاج، فلم يكن لديهم عدا بعض الكتب الدينية الا مجموعة من السير والتواريخ كما أنهم ترجموا أمثال بيدبا عن السنسكريتية.
على إن بعض القطع الفهلوية تدلنا على أن الفرس قد أكثروا من الشعر، وربما كانت (المناظرة) ترجع في أصلها إلى الفرس ولكن الأوزان والقوافي العربية كانت أمرا جديدا بالنسبة لهم. وان المرء ليعجب لتلك السرعة التي أخذ بها الفرس هذه الأشياء.
وأريد أن أختتم كلامي بكلمة عما تدين به العربية للفرس. كلنا نعرف أن خلفاء المسلمين في دمشق وبغداد كانوا يدينون للفرس بكل المسائل المتعلقة بالحكم ونظام الملك، ومما يذكر عن أحد الخلفاء الأمويين أنه قال:(أني لأعجب من أمر هؤلاء الفرس: لقد حكموا ألف سنة دون أن يحتاجوا إلينا مرة. بينما نحن لم نستطع مدة المائة سنة التي حكمناها أن نستغني عنهم لحظة).
إن العلم الإسلامي في القرون الأولى كان يدين للإغريق بالمسائل العلمية والفلسفية، ولكنه كان يدين للفرس بما وصل إليه من الآداب الجميلة. وما علينا لكي نفهم أثر الفرس في تلك الثقافة العربية الفخمة إلا أن نستعيد أسماء هؤلاء الشعراء والكتاب المجيدين لنرى عدد من يرجع منهم إلى الفرس من حيث الأصل أو المولد.
(محمود الخفيف)
طرائف من شعر الشباب
عتاب
للأستاذ محمود الخفيف
أي ذنب جنيت؟ أن فؤادي
…
مذ أردت الجفاء يخفق رغبا
أي ذنب جنيت غير ودادي
…
أيكون الوداد عندك ذنبا؟
ذاك ذنبي وكيف أقلع عنه؟
…
إن ذنبي تعلتي ورجائي
ذاك دائي ولست أشفق منه
…
فهو برئي وسلوتي وعزائي
كيف أُجْزَى على الوداد جفاء!
…
وأُسام العذاب من غير ذنب!
كيف أرجو مع الجفاء عزاء!
…
إن هذا الجفاء يُذهب لبي
يخفق القلب إن خطرت ويهفو
…
وتَمُرين في سكون غريب
وتظنين أنني عنك أغفو
…
كيف أغفو ومهجتي في لهيب؟
لست أنسى وقد مررت سريعا
…
لم تبالي بحيرتي واضطرابي
نظرة منك خلفتني صريعا
…
نظرة الهجر والجفا والتغابي
أزجر القلب إذ أراك وأبدى
…
غضبة الحر وابتئاس الوَلوع
أكتم الحزن والتألم جهدي
…
فإذا ما مضيت فاضت دموعي
كنت قبل الجفاء طلق المحيا
…
أنهب اللهو والسعادة نهبا
كنت طوع الشباب حرا قويا
…
لا أرى في الحياة سهلا وصعبا
كنت كالسيل دافقاً لا أبالي
…
بملام ولا أخاف رقيبا
هادئ النفس لا أهاب الليالي
…
لا أرى في الوجود شيئاً رهيبا
كنت كالطائر المغرد ضحكا
…
مستفيض السرور عذب الشباب
كنت كالطفل لست أعرف شكا
…
مطمئن الفؤاد جم التصابي
أسبق الشمس كل يوم شروقا
…
فأحيي الصباح فوق التلال
أنزل السهل حيث شئت طليقا
…
مشرق الوجه سابحاً في الخيال
يرقص الزهر عن يميني اختيالا
…
وتغني الطيور صوب يساري
ويفيض الغدير عذباً زلالا
…
رائع الحسن مثل وجه النهار
كنت جم النشاط أقضي نهاري
…
(كفَراش الربيع بين الزهور)
دائم الوثب لا يقر قراري
…
أملأ السمع من غناء الطيور
جعل الحب كل شيء نضيرا
…
وأثار الجمال كامن حسي
وسها الدهر فاغتدوت قريرا
…
كل ما في الوجود يبهج نفسي
كنت أنت الجمال ملء عيوني
…
كنت أنت الحياة تملك لبي
كنت أنت الهناء ملء جفوني
…
كنت أنت الشعور يملأ قلبي
كنت وحي القريض ينفث سحرا
…
في فؤادي فيستجيب لساني
أنظم الدر من حديثك شعرا
…
أين من وقعه رقيق الأغاني؟
أعشق الكون كله في هواك
…
إذ أرى الكون في هواك جميلا
أطلب المجد كي أنال رضاك
…
لا أرى في الجهاد عبئاً ثقيلا
كم سقانا السرور كأساً دهاقا
…
وحبانا الشباب عيشاً رضيا
كم نهلنا من الوداع رحيقا
…
وشربنا الغرام عذبا شهيا
ويح نفسي أذاك عهد تولى؟
…
أم تريدين بالجفاء عتابي؟
ولعمري لقد سئمت فهلا
…
آمل الوصل بعد طول العذاب؟
من رآني يهوله اليوم لوني
…
واكتئابي ولوعتي وذبولي
وهن العظم في الصبابة مني
…
ودهى الناس حيرتي وذهولي
يهمس الناس: قد علاه اصفرار
…
ويشير العليم في غير همس
أيها الناس إن دائي خطير
…
أو ليس الغرام يضني ويؤسي؟
قتل الحب كم أحل دماء
…
من دماء الشباب في غير حق!
ولكم أورث النفوس عناء
…
واستباح القلوب في غير رفق!
ليت قلبي يطيعني في غرامي
…
حطم القلب في الهوى كبريائي
أيها القلب أنت أصل سقامي
…
واكتئابي ومحنتي وبلائي
ويح نفسي! أما لهمي انتهاء؟
…
كدت أقضي صبابة ونحولا
ويح قلبي! أما لقلبي ارعواء؟
…
أو لم يأن أن يثوب قليلا؟
شهد الله، لو تحرر قلبي
…
لتمنيت أن يعود أسيرا
فاقتليني إذا أردت بذنبي
…
سوف أبقى بما جنيت فخورا
كدت أهوى الشقاء لولا اشتياقي
…
لذة الحب لوعة واضطراب
أن بعد الغياب يحلو التلاقي
…
ويلذ الهوى وينسى العذاب
أخدع القلب في الهوى وأسَرِّي
…
عن فؤادي بأنني سأراك
أن هذا الخيال يشرح صدري
…
كيف بالوصل حين ألثم فاك؟
الفلاح
رفقاً بنفسك أيها الفلاح
…
تسعى وسعيك ليس فيه فلاح
// لك في الصباح على عنائك غدوة
…
وعلى الطوى لك في المساء رواح
هذي الجراح براحتيك عميقة
…
ونظيرها لك في الفؤاد جراح
في الليل بيتك مثل دهرك مظلم
…
ما فيه لا شمع ولا مصباح
فيخر سقفك إن همَت عين السما
…
ويطير كوخك إن تهب رياح
هذي ديونك لم يسدد بعضها
…
عجزاً، فكيف تسدد الأرباح؟
بغضون وجهك للمشقة أسطر
…
وعلى جبينك للشقا ألواح
عَرق الحياة يسيل منك لآلئاً
…
فيُزان منها للغنى وشاح
قد كان يجديك الصياح لديهم
…
لو فجر الصخرَ الأصم صياح
يتنازعون على امتلاكك بينهم
…
فلهم عليك تشاجر وكفاح
كم دارت الأقداح بينهم ولم
…
تملأ بغير دموعك الأقداح!
حسب الولاة الحاكمون على القرى
…
أن ثَمّ أجساد ولا أرواح
كيف التفاهم بين ذينك: نائح
…
يشكو العذاب، وسامع مرتاح
قد أنكروا البؤس الذي بك محدق
…
أفينكرون الحق وهو صراح؟
يا غارس الشجر المؤمل نفعه
…
دعه فان ثماره الأتراح
اقلعه فالثمر اللذيذ محرم
…
للغارسين وللقوي مباح
أصبحت تورثك الحقول أسى فما
…
يهتاج أنَسك نشرها الفياح
أفنت حقولك آفة أرضية
…
عاثت بها وشعارها الإصلاح
سر ببؤسك فاضح لذوي الغنى
…
لو أن سرك في البلاد يباح
يا ريف ان كتاب بؤسك مشكل
…
يعيا بحل رموزه الشراح
أطيار روضك غالها باز العدا
…
وعدا على أسماكك التمساح
الورد قد خنقته أشواك الربى
…
ظلما وفر البلبل الصداح
يا ريف ما لك شرب أهلك آجن
…
رنق، وشرب ولاة أمرك راح؟
النجف. أحمد الصافي النجفي
وداع
أذكري يوم أن رحلت اذكريه
…
لا قضى الله بعد ذلك بينا
يوم كنا على المحطة نبغي
…
لو يطول الوقوف ثمَّ علينا
قد أخذنا لنا مكاناً قصيا
…
فذكرنا غرامنا واشتكينا
ونخاف القطار يأتي، فنمضي
…
ننظر الساعة التي في يدينا
بل خدعنا نفوسنا (يا سعاد)
…
وعبثنا بعقربيّ ساعتينا
نحسب الوقت بالدقيقة حتى
…
قدم (القطر) من بغتة فبكينا
وتضنين بالفراق، إلى أن
…
دق صوت الناقوس في أذنينا
فركبت القطار، ثم تهادى
…
فحكانا، ونحن نمشي الهوينى
لم يكن بعد، غير بضع ثوان
…
واختفيتم عن عيننا واختفينا
افترقنا ولم نبل غليلا
…
ولنا اليوم أشهر ما التقينا
لا جزى الله يوم بينك خيرا
…
كم أسال الدموع من مقلتينا!
محمد برهام
بعد الحب
// لم تكن للحياة قبل لقائي
…
بك معنى، فأنت معنى حياتي
زهَرُ الروض كان خلوا من العط
…
ر فأمسى معطَّر النَفحاتِ
وليالي الربيع كانت بلا سح
…
رٍ فباتت ظلالها ساحراتي
وبنفسي لحن سجين عن الحب
…
وناي مشوش الصرخات
أنت أطلقته فدوَّم في الصد
…
ور غني بأعذب النغمات
والهوى يصبغ الحياة بلون ال
…
ورد حتى تعود شتى النبات
إنني إن أسفت آسف للما
…
ضي، تولى لم أدر طعم الحياة
هو عهد مضى، وعيني عليها
…
حجب من ستائر مظلمات
ثم جاء الهوى ففتح عينيَّ
…
فأبصرت فتنة الكائنات
فإذا بالجمال يسبح في الجو
…
ويسري شذاه في النسمات
وإذا بالجمال يسبح في الرو
…
ض ويهدي شذاه للزهرات
كل ما في الجمال حلو مع الحب
…
فيا حب أنت سر الحياة
أمين عزت الهجين
في الأدب الشرقي
نظرات في الأدب الفارسي
منذ نشأته إلى إغارة التتار
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
يروي عن الرودكي أنه نظم شعراً كثيراً جداً يقدره بعضهم بألف ألف بيت. وأنه نظم كليلة ودمنة، ولكن ليس عندنا من شعر الرودكي كله الا قطع منها نحو242 رباعية، ومن الحكايات المأثورة المشهورة عن هذا الشاعر ما ذكره نظامي العروض، أن الأمير نصر بن أحمد خرج بجيشه إلى هراة فأعجب بهوائها وثمارها، وبقى يتردد في أرجائها أربع سنين حتى ضاق العسكر ذرعاً، ولم يستطيعوا صبراً عن أوطانهم وأولادهم، فذهبوا إلى الرودكي وجعلوا له خمسة آلاف دينار على أن ينظم شعراً يشوق الأمير إلى بخارى. فنظم قصيدة وجاء الأمير وهو يصطبح، فغناها على المزهر فما أتم الأبيات حتى نهض الأمير مسرعا إلى فرسه لا يصبر حتى يلبس حذاءه، وتوجه إلى بخارىلا يلوي على شيء، فلم يدركه الناس الا بعد فرسخين، وهناك قدم له الحذاء فلبسه.
وأول هذه الأبيات:
بعرى جرى موليان آيد همي
…
بعرى يا لهربان آيد همي
(ما يزال يهب علينا نسيم نهر جيحون
…
وما نزال ننشق على بعد روح الأحباء)
ثم يؤثر على الرودكي شعر من نوع الدوبيت أو الرباعي. وهو ضرب فارسي. فهذا أول شعراء الفرس ينظم على أساليب العرب وعلى أسلوب آخر، وهذا ينبئ بما سيكون عليه الشعر الفارسي الحديث من الجمع بين الصبغتين العربية والفارسية.
ثم نجد هذا الشاعر يسبق إلى نظم القصص، إذ نظم كليلة ودمنة، وهذه ميزة أخرى من مزايا الشعر الفارسي كلف بها الشعراء من بعد.
توالى الشعراء من بعد الرودكي وارتقى الشعر على الزمن حتى بلغ غايته.
شجع السامانيون الآداب الفارسية، ولمنصور بن نوح منهم شعر فارسي، فنبغ في أيامهم
شعراء يقاربون الثلاثين، ثم شرعوا يؤلفون ويترجمون الكتب من العربية إلى الفارسية، فترجم تاريخ الطبري وتفسيره (وألف لهم بالفارسية كتاب أبي منصور والهروي في الطب) ومنه نسخة مخطوطة في فينا، وهي أقدم مخطوط فارسي (سنة 447 هـ) وألف لهم كذلك كتاب في التفسير. فهذه الكتب الأربعة أقدم نثر فارسي بأيدينا.
وأما بنو بويه فليس لهم أثر في الأدب الفارسي، وأكثر أمرائهم كانوا شعراء في العربية. ووزيراهم ابن العميد، والصاحب من حملة لواء الأدب العربي لا الفارسي، وحسبنا أن الصاحب لم يقصده به الا شاعران فارسيان هما المنطقي والخسروي، على كثرة شعراء العربية الذين مدحوه.
وكان الزياريون في طبرستان من حماة العلوم والآداب، ولكن شيخهم قابوس كان أميل إلى العربية، وقد مدحه الخسروي السرخسي من شعراء الفرس، كما اتصل بابنه منوجهر الشاعر الفارسي الذي سمى نفسه منوجهري تبعاً لسيدة. وقد ألف كيكادس حفيد قابوس كتابه قابوس نامه بالفارسية لتربية ابنه.
وكان من المتصلين بقابوس أبو علي بن سينا، وله شعر بالفارسية، وقد ألف كتابه دانش نامه علائي بعد موت قابوس، فأهداه إلى علاء الدولة أبي جعفر كاكوية في اصفهان وسماه باسمه.
وكان محمود بن سبكتكين في غزنة مقصد كبار الأدباء والعلماء، وأثر عنه وعن ابنه محمد شعر فارسي. فمن شعرائه: العنصري والأسدي، والعسجدي، والفردوسي الذي قدم له الشاهنامه، فلم يعطه محمود ماأراد فغاضبه وهجاه، وقد ألف شرف الملك من شعراء محمود كتابا في الديوان بالفارسية سماه كتاب الأصطفا. ويقال إن اليميني من شعراء محمود أيضاً كتب تاريخ محمود بالفارسية، وكتب البيروني كتاب التفهم في النجوم بالفارسية والعربية.
وفي عصر السلاجقة، ذلك العصر المديد نبغ شعراء كثيرون جداً عد منهم عدني أكثر من مائة - وأعظمهم الأنوري والخاقاني نظامي الكنجري، والأزرقي، وظهير الغارياني، وناصر خسرو والخيام، وبابا طاهر، والفصيحي، ومسعود سعد، والأديب صابر، والمعزي، وعمق البخاري، وسوزني، ونظامي العروض؛ ومن الصوفية: أبو سعد بن أبي الخير، والأنصاري، ثم مجد الدين سنائي، وفي نهاية هذا العصر فريد الدين العطار.
ولا ريب أن هذا العصر أزهى عصور الشعر الفارسي.
ومن المؤلفين والكتاب في هذا العصر نظام الملك الوزير مؤلف سياستنامه، والغزالي والسجزي الفرخي مؤلف ترجمان البلاغة في الشعر والصناعات البديعية، والرشيدي السمرقندي مؤلف زينت نامه في علم الشعر، ورشيد الدين وطواط مؤلف الكتاب الذائع الصيت: حدائق السحر في دقائق الشعر، والبهرامي مؤلف غاية العروضيين وكنز القافية، والأسدي مؤلف لغة الفرس، وشاهمر دامه بن أبي الخير مؤلف الموسوعة (نزهة نامه لملاني) ألفها لعلاء الدولة، وخاص بك أمير طبرستان آخر القرن الخامس، والباخرزي مؤلف دمية القصر، ومؤلف طرب نامه وهي رباعيات فارسية، وأبو المعالي محمد بن عبيد الله مؤلف كتاب بيان الأديان في آخر القرن الخامس. ومن مؤلفي الصوفية الهجويري صاحب كشف المحجوب وهو من أقدم الكتب الصوفية، ألف في القرن الخامس.
ومن المترجمين من العربية إلى الفارسية. الجرباذقاني، ترجم تاريخ العتبي للفارسية، وجمال القرشي مترجم الصحاح، وفراهي الذي نظم قاموساً عربياً فارسياً يقرأ في مدارس إيران حتى اليوم، والزوزني الذي كتب معجما عربيا فارسيا سماه ترجمان القرآن، ونصر بن عبد الحميد مترجم كليلة ودمنة.
وفي العصر القصير الذي بين السلاجقة والمغول نجد من الشعراء العطار وجلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وغيرهم. ونجد من المؤلفين ابن اسفنديار مؤلف تاريخ طبرستان، وفخر الدين الرازي مؤلف الاختيارات العلائية، ونصير الدين الطوسي، وشمس قيس مؤلف المعجم، ومحمد عوفي مؤلف لباب الألباب.
هذه نظرة عامة غير شاملة ولا بالغة. ترينا كيف بدأ الأدب الفارسي شعرا ونثرا، وكيف توإلى مع الدول المختلفة. ويكفي هنا أن يقال إن لباب الألباب يحتوي على 27 ملكاً نظموا بالفارسية و43 وزيراً، و69 عالماً، ويذكر من الشعراء تسعة وثلاثين ومائة.
ولأجل أن ندل على حظ الأقطار المختلفة من هذا العدد نقول: ان خراسان وهي مهد الأدب الفارسي الحديث ينالها 31 من العلماء الذين نظموا بالفارسية و55 من الشعراء. وما وراء النهر 13 من العلماء، و22 شاعراً. والعراق 16 من العلماء و16 من الشعراء. وغزنة وما يليها 22 شاعراً. فخراسان أوفرها حظاً.
بعد هذا يحق لنا أن نسأل ما مميزات هذا الأدب الفارسي الإسلامي في الشعر والنثر؟
فأما الشعر فيشارك الشعر العربي في موضوعه من الهجاء والمدح والغزل والفخر والوصف (في ميل إلى المبالغة) ويمتاز بأشياء:
(1)
ذكر ملوك الفرس القدماء وأبطالهم مثل فريدون ورستم، وزال، وكأس جمشيد، وقد سرى هذا إلى الشعر العربي الذي نظم في بلاد الفرس كشعر بديع الزمان وأمثاله.
(2)
يمتاز الشعر الفارسي بميزتين عظيمتين: الشعر القصصي والشعر الصوفي.
فأما الشعر القصصي فقد أولع الفرس به في كل عصر، وقد رأينا أن أبان بن عبد الحميد نظم كتاب كليلة ودمنة بالعربية، وأن الرودكي أول شعراء الفرس الكبار نظم هذا أيضاً، ومن الأدلة على ولع الفرس بالقصص قصة يوسف وزليخا، فهذه القصة مأخوذة من القرآن، ولكن شعراء العرب لم يهتموا بها، وأما الفرس فقد نظموها مراراً، نظمها من كبارهم الفردوسي وجامي. ونظمها آخرون. ورواية وامق وعذراء التي قيل أنها قدمت لعبد الله بن طاهر فأمر بطرحها في الماء؛ نظمها العنصري شاعر محمود الغزنوي، ثم الفصيحي في رعاية كيكادس الزياري ونظمها أربعة شعراء آخرون.
وحسبنا شاهنامه الفردوسي التي حاكاها شعراء كثيرون فألفوا شاهنمات لم تنل ما نالته من القبول والصيت؛ ومن القصص المنظومة رواية خسرو وكل، وبلبل نامه لفريد الدين العطار، وسلامان وايسال لمولانا جامي وغيرها مما لا يتسع المقال لتعديدها.
وأما الشعر الصوفي فقد بدأه أبو سعيد بن أبي الخير من بلدة مهنا في خراسان، وأبو عبد الله الأنصاري من هراة. نظما فيه قطعاً ورباعيات، ولكن لم يكثر فيه التأليف الا بعد مدة طويلة، إذ نبغ طليعة فرسانه سنا، الغزنوي، ثم قفاه العطار ثم تلاه إمام الصوفية مولانا جلال الدين الرومي صاحب المثنوي الذي يسمى القرآن في اللغة الفارسية، ويقال لمؤلفه لم يكن نبيا ولكن أوتي كتاباً.
ومن بعد غارات التتار نبغ لسان الغيب شمس الدين حافظ الشيرازي والشيخ عبد الرحمن الجامي الذي يعد آخر شعراء الفرس العظام.
والحق أن اللغة الفارسية تبذ سائر لغات العالم بهذا النوع من الشعر النفسي الإنساني الفلسفي الذي يرتفع عن جدال المذاهب وعصبيات الأجناس، وينفذ إلى بواطن الأشياء
فيرى الوحدة الإلهية المتجلية في مظاهرها العديدة.
الأدب الياباني
للأستاذ أحمد الشنتناوي
- 2 -
انتهينا في مقالنا الأول من الكلام عن الأدب الياباني حتى نهاية العقد الثامن من القرن التاسع عشر، أي بعد أن هدأت الثورة اليابانية الأهلية وابتدأت بوادر التجديد تظهر في جميع نواحي الحياة اليابانية كما هي العادة دائما عقب الثورات الاجتماعية الخطيرة التي تظهر في الأمم. وكان حظ الأدب الياباني من هذا التجديد عظيما إذ لم يلبث أن ظهر في الميدان الأدبي (كويو) وهو مؤسس المدرسة الأدبية الحديثة في اليابان المسماة (أصدقاء المحبرة) وكان هو وتلاميذه وأتباعه يدينون بالمذهب الواقعي، ولا يكتبون الا القصص المفعمة بالمشاعر الرقيقة، والتي تتزاحم فيها العواطف والنزعات المختلفة، متخذين كتاب الحياة مصدرا ومعينا لما يكتبون ويصفون. وبالرغم من تباين أتباع (كويو) في الأعمار والمراكز الاجتماعية والأزمنة التي عاشوا فيها كانوا يضربون جميعا في مؤلفاتهم على هذا الوتر الحساس الذي طرب له (كويو) فاتخذه شعاراً لمدرسته الأدبية الحديثة، ونعني به المذهب الواقعي. ولم يعمر (كويو) طويلا بل توفي في عنفوان شبابه بعد أن طبقت شهرته جميع أنحاء اليابان. وتعد قصته الموسومة (بشيطان الذهب) أبلغ أعماله الأدبية على الإطلاق. ولقد اشترك مع (كويو) في تأسيس تلك المدرسة الأدبية الحديثة أديب آخر يدعى (روهان) ولو أن هذا لم يكن يميل إلى المذهب الواقعي، بل كانت الروح الغالبة على مؤلفاته هي الروح الخيالية الدينية الفلسفية. كذلك اكتسب هذا الأديب شهرة فائقة بقصة ألفها تدعى (بوذا المدلل) وهو لم يكتب شيئا آخر غير تلك القصة، ولو أن العمر امتد به إلى ما بعد تاريخ هذا الكتاب بكثير.
وبعد الحرب الصينية اليابانية أخذت الآداب الغربية تطغي على اليابان رويدا رويدا، وكان أعظمها أثرا مؤلفات تولستوي وإبسن إذ ترجمت إلى اليابانية آثارهم وآثار غيرهم من زعماء الأدب الأوربي أمثال موبسان وهوجو وزولا وغيرهم حواليعام 1896 حتى وقف العقل الياباني حائرا أمام هذا السيل الجارف من الآداب الأوربية؛ وحاول (كويو) وأتباعه أن يدخلوا روحا جديدة تحليلية على الأدب الياباني، وفعلا أصدروا عدة مؤلفات تعبر
أصدق تعبير عن نفسية الشعب الياباني الحديث، كما تعصب فريق آخر لأدب زولا وحاولوا تقليده.
وبعد انتهاء الحرب الروسية اليابانية التي شب أوارها عام 1905 نجد الآداب اليابانية تزيد صبغتها الغربية وتقوى، فأننا نجد مثلا (هجوتسو) أحد أساتذة جامعة (واسدا) في طوكيو يعود بعد سياحته الطويلة في ربوع أوربا ويؤسس مدرسة أدبية جديدة هي تحوير للمدرسة الأدبية الفرنسية المعروفة بالمدرسة الطبيعية، حسبما تقتضيه البيئة اليابانية وأذواق الشعب الياباني. وأهم المبرزين في تلك المدرسة هما
تبدأ الحرب العالمية بعد ذلك ويخفت صوت الآداب الأوربية نوعا ما، فتجد الآداب اليابانية المجال أمامها متسعا لكي تقف بنفسها في الميدان، وتسمع صوتها للملأ، فتقوم في اليابان حملة عنيفة على الأدب المكشوف، وهو شعار المدرسة الطبيعية، ويطلب أصحاب تلك الحملة بإلحاح أن تكون الآداب وسيلة لطب المثل العليا، وأنها يجب أن تسير في جو محتشم طاهر، وأصبح هؤلاء فيما بعد زعماء المدرسة (الإنسانية) وهؤلاء لم ينجحوا الا في القضاء على أصحاب الأدب المكشوف، ولكنهم في الوقت نفسه ظلوا في إسار الآداب الغربية. ولعل أشهر هؤلاء الجماعة وأرسخهم أدبا هو (أريزيما) وأشهر أعماله الأدبية قصته المسماة (تلك المرأة) وهي تاريخ حياة امرأة حديثة (مودرن) تمثل في جملتها العقلية اليابانية في ذلك العهد الذي تشبع بالروح الغربية، ويمكننا أن نعتبر هذه القصة مثالا لحالة الأدب الياباني في ذلك العصر الذي أغارت فيه الحضارة الغربية على بلاد الشمس المشرقة.
والمتصفح لتاريخ الأدب الياباني منذ أقدم عصوره إلى الآن يمكنه أن يلاحظ بكل وضوح مقدار اختلاف العقلية اليابانية عن العقلية الغربية. فالذي تنفرد به العقلية اليابانية هو سرعة استعدادها لاعتناق كل ما هو جديد. بل التهامه التهاما دون التأمل والنظر فيما إذا كان الطعام الذي ستتناوله في مقدرتها هضمه أم لا. وليس معنى هذا أنها عقلية عديمة القدرة على التمييز والاختيار ولكن هذا التمييز وهذا الاختيار يأتيان بعد فترة من الزمن بعد أن تملك النفس زمامها وتألف رؤية الشيء الجديد ويذهب عنها بريقه ولمعانه. ويمكننا أن نذكر لك أن اليابان كانت تعشق أدب تولستوي عام 1894 فتحولت عنه إلى سودرمان
وهوبتمان عام 1896، ثم تحولت عنهما عام 1897 إلى موبسان وزولا وهوجو ثم منهم إلى ترجنيف عام 1898 ثم إلى نيتشه عام 1901 ثم إلى مكسيم جوركي ومترلنك عام 1902 وأخيرا انتهى بها التنقل والمطاف إلى تشيكوف وواجنر عام 1903. وإذا عرفنا هذا لا نعجب إذا رأينا اليابان تحتفل احتفالا عظيم الشأن بالعيد المئوي للشاعر شيلر، أو إذا رأيناها تخصص الصفحات الأولى من جرائدها ومجلاتها المحترمة للكتابة عن إبسن ومؤلفاته ومكانته الأدبية الممتازة عقب وفاته. لهذا يمكننا أن نعتبر الآداب الغربية نوعا من أنواع (المودة) التي تروح وتغدو كل عام بين أوربا واليابان.
ولم يعقب هذا اللقاح المتعدد الأنواع والأجناس الا نوعا من الآداب أشبه شيء بالثوب الذي تزدحم فيه الألوان دون تناسق أو تآلف أو ترتيب، ولكن يصح الآن أن نقول أن الآداب اليابانية قد تخلصت من جميع تلك العناصر الغربية بل يمكن أن نميز فيها بوضوح اتجاهين يابانيين جديدين. فانه بعد المدرسة الإنسانية التي أنشأها (سيرا كابا) عقب المدرسة الطبيعية ظهرت مدرسة أخرى جديدة تدين بالمذهب الواقعي جعلت همها مخاطبة الجماهير والتحدث إليهم عن معايب الطبقة الرأسمالية الغنية؛ وكان زعيم هذه المدرسة الجديدة (كيكوتي) الذي أسس عام 1911 في اليابان جمعية أدبية أطلق عليها اسم (جمعية القصصيين) ولا يزال أثر هذه المدرسة نافذ المفعول حتى اليوم، لأن آثار (كيكوتي) وأتباعه الأدبية قد لاقت هوى في نفوس العدد الأكبر من اليابانيين لأن رجال المال هم القابضون على زمام الأمور في تلك البلاد.
أما الاتجاه الآخر فهو أن جماعة من كتاب اليابانيين الحديثين أخذوا على عاتقهم أن يصفوا في كتاباتهم حياة الطبقة الدنيا من اليابانيين أي طبقة العمال ومن إليهم، وقد تعمقوا في هذا الوصف حتى أنك تكاد تلمس بيديك في كتاباتهم هيكل البؤس والتعس المخيم على هذه الطبقة الفقيرة.
وخلاصة الموقف الأدبي الآن في اليابان هو أن هناك في الميدان أربع فرق من الأدباء تتنازع الجمهور الياباني، فالفريق الأول هم أصحاب المدرسة الكلاسيكية الذين يعشقون الآداب لذاتها، وهؤلاء يمثلون الطبقة الأرستقراطية من المجتمع، ويقفون وجها لوجه أمام الفريق الثاني أي الأدباء الذين يعبرون عما تكنه صدور الطبقة الدنيا من آلام وآمال وهموم
وأحزان؛ ثم الفريق الثالث وهم أدباء المدرسة الحديثة الذين يحبون التجديد في كل شيء حتى في العواطف الإنسانية ويطلقون عليهم تهكما اسم (المدرسة الاستقراضية) وآثارها مع ذلك لا تخلو من الطرافة في نواحي عدة منها. أما الفريق الرابع فهم أدباء المدرسة الشعبية وينضم تحت لوائها العدد الأكبر من أدباء اليابان وهم يخاطبون الشعب الياباني كأنه كتلة واحدة لا تباين فيها ولا اختلاف.
في الأدب الغربيّ
قصة فيلسوف عاشق
للدكتور طه حسين
- 2 -
واتصلت زيارة أغوست كونت لأسرة كلوتيلد، واشتدت الصلة بينه وبينها متانة وقوة؛ وأخذت تزول من هذه الصلة بقايا هذه التكاليف الاجتماعية التي تواضع الناس عليها في حياتهم المألوفة، والتي لا يزيلها ولا يمحوها الا المودة الخالصة إذا بلغت أقصاها، أو الحب الصحيح إذا انتهى إلى غايته. وألحت الأسرة في التعريض بهذه الزيارات المتصلة، وبهذه الصلات التي كانت تتخلص شيئاً فشيئاً من التكلف والاحتشام. ونزعت الفتاة نفسها وقتا طويلا في أن تتحدث إلى الفيلسوف بهذه الريبة التي أخذت تثور حولهما في نفوس الأسرة؛ ولكنها انتهت إلى أن أنبأته بما عندها من ذلك فاستمع لها، ولم يحتج إلى تفكير وتقدير ليمتلئ قلبه سروراً وغبطة، وليأخذه شيء من الكبرياء غريب في ظاهر الأمر، ولكنه مألوف عند العشاق والمحبين. وماله لا يسر ولا يغتبط والحجب ترفع كل يوم بينه وبين من يهوى؛ وماله لا يأخذه الكبر ولا يملأه التيه وهو يثير الريبة في نفوس الأسرة، ويضطرهم إلى أن يشعروا بحبه للفتاة وبأن الفتاة لا تزدريه ولا تفرط في ذاته، ولا تنظر إليه في غير عناية ولا اكتراث. لعلها لا تحبه كما يحبها ولكن في قلبها عاطفة ما تعطفها عليه وتدفعها إليه. ومن يدري؟ لعل هذه العاطفة أن تنمو وتقوى وتخضع لما يخضع له الإنسان بملكاته وعواطفه من التطور، فتستحيل من المودة الخالصة إلى الحب العنيف. وإذا فما له لا يستأنف سعيه وإلحاحه؟ وما له لا يدور حول قلب الفتاة لعله يجد سبيلا لبلوغه والوصول إليه. وقد فعل. فهذا الحنان الذي كان قد كظمه في نفسه أو أسبغ عليه لوناً من الجد يجعله إلى الود أقرب منه إلى الحب، قد أخذ يتجرد من ثوبه المتكلف ويظهر على حقيقته وفي صورته الصحيحة، وقوته التي لا تبقي على شيء. وهذا التحفظ الذي كان اصطنعه في الحديث يزول شيئاً فشيئاً. وإذا هو صريح، وإذا هو يجدد إعلان الحب، ويكرر هذا الإعلان ويحيط الفتاة بشباك من الطلب والأمل والتضرع والاستعطاف والأغراء الذي يتجه إلى العقل حيناً وإلى الشعور حيناً آخر. وكيف تريد أن تفلت الفتاة من
هذه الشباك جميعاً وهي لا تكاد تخلص من واحدة حتى تتعثر في أخرى. هي مضطرة إذا إلى أن تسالم بعض الشيء وتصانع إلى حد ما، وتنهزم عن خط الدفاع الأول كما يقولون.
وهل كانت هي في نفسها منصرفة عن الفيلسوف حقاً راغبة عن حبه كل الرغبة؟ لست أدري ولكنها على كل حال عجزت عن المقاومة فكتبت إلى أجوست كونت تنبئه بهذا العجز وتظهره على ذات نفسها وتبين له رأيها في التخلص من هذا الموقف الدقيق ورأيها أنها لم تكن تقدر أن أحداً يكلف بها ويتهالك عليها، وأنها هي لا تكلف بأحد ولا تتهالك على أحد، ولكن أملها إن صح أن يكون لها أمل في الحياة، إنما هو طفل تقف عليه حبها وحنانها وقوتها ونشاطها. وهي إذا شاركت رجلاً في الحياة فإنما قوام هذه الشركة الوصول إلى تحقيق هذا الأمل. وهي حريصة كل الحرص على أن يكون شريكها إن ظفرت به رجلا ممتازا مرتفع النفس كبير القلب خليقا بالإكبار. وهي تجد هذه الخصال كلها في الفيلسوف ولا تكره أن تتخذه شريكا في تحقيق هذا الأمل وخلق هذه الطفل. ولكنها لا تريد أن تخدعه ولا أن تغره فهي لا تحبه بالمعنى المألوف لهذه الكلمة وحياتها ليست بالشيء النفيس الذي يحرص الناس على الاشتراك فيه. فهي بائسة تحتاج إلى من يعزيها وهي فقيرة تحتاج إلى من يعولها. وهي لا تحمل لشريكها الا مودة صادقة وإخلاصا لا حد له.
ويقرأ الفيلسوف هذا الكتاب فيجن جنونه وتدور به الأرض ثم تهدأ نفسه، وتشرق في وجهه الدنيا وتبتسم له الأيام. وهل كان يطمع في أن تقبل كلوتيلد منه مثل هذا وترضى أن تكون خليلة وتقاسمه الحياة وتشاركه في خلق إنسان؟ وهو قابل إذا وهو راض وهو سعيد وهو واثق بأن هذه خطوة ستتبعها خطوات وهو يكتب إليها ويمضي كتابه على هذا النحو: زوجك المخلص أجوست كونت.
وتزوره ذات يوم زيارة المستسلمة المستعدة للوفاء بالوعد وإنفاذ هذه الشركة، فيلقاها فرحاً مبتهجا ثم يجلسها ويجثو بين يديها ويقدم إليها صلاة فلسفية حارة. ولكنه عالم لا حظ له من براعة الأدباء ولا من براعة الرجال الذين تعودا عشرة النساء والتلطف لقلوبهن، فصلاته فلسفية، وحديثه بعد ذلك عملي كله وحركاته حين يضطرب في غرفته منظمة قد قدرت تقديراً. فهو لا يرفع شيئاً الا بحساب ولا يضع شيئاً الا على نظام ولا يأتي حركة الا إذا كانت لها علة ظاهرة وتأويل معقول وهو يتحدث عن دخله وعما سيحتاجان إليه من نفقة
وعن ترتيب البيت وعن النظام المادي للحياة. وهو على هذا كله دميم لا جمال في شكله ولا روعة، قصير متقدم البطن مضطرب الوجه. فأين يقع هذا المنظر؟ وأين يقع هذا الحديث؟ وأين تقع هذه الحركات المنظمة من قلب امرأة لم تتجاوز الثلاثين بعد؟ ما أسرع ما ضاقت بهذه الشركة ورغبت عنها، وما أسرع ما ضحكت من نفسها في نفسها، وما أسرع ما استيقنت أنها كانت تحاول أمراً لا قبل لها به ولا قدرة لها عليه، وما أسرع ما نهضت وهي تقول: لقد تقدم الوقت دعني أكتب إليك. وما أسرع ما خرجت من الباب وهبطت السلم وبلغت الشارع ومضت، والفيلسوف ينظر إليها من النافذة. فإذا هي تسرع أمامها لا تلتفت ولا تلوي على شيء وتكتب إلى الفيلسوف بعد ذلك معتذرة متعللة قائلة إنها قد تعجلت الوعد وتبين لها أنها في حاجة إلى التفكير الطويل وأن الخير في أن تمهل نفسها لترى. فلا يكاد الكتاب يصل إلى الفيلسوف حتى يحس أنه قد آذاها بحديثه فيكتب إليها متلطفاً ملحاً. وتمضي هي في إبائها. ويشتد هو في إلحاحه حتى إذا أثقل عليها أجابته في شيء من الشدة والصرامة أنها لا تستطيع أن تبيع نفسها ولا أن تساوم فيها فان كان يقنعك ما أعرضه عليك من المودة الخالصة الطاهرة فذاك ولك أن تلقاني في بيت أسرتي كدأبك من قبل ولا بد لي من ستة أشهر أفكر فيها وأروى وإلا فإني عائدة إلى ما كنت فيه من وحدة وعزلة. هنا يفيق الفيلسوف من ذلك السكر الذي كان قد غمره وملأ عليه قلبه وعقله. ويعود إلى حاله الأولى ليس شديد الرجاء ولكنه ليس يائسا بل هو بعيد كل البعد من اليأس واثق بأن العاقبة له وبأن الفوز لن يخطئه مهما يكن من شيء، سيصبر إذا وسيستأنف حياته الأولى فيلقى الفتاة في بيت أسرتها مرتين في الأسبوع.
وكلاهما سيئ الحال ضيق ذات اليد. أما هي فتبحث عن عمل لتعيش منه أو لترفه به بعض الشيء حياتها الضيقة الخشنة. وهي لا تتردد في أن تشغل مكان السكرتير في مكتب من المكاتب أو عند رجل ذي مال ان ظفرت به. ولكنها لا تظفر بشيء ولا بأحد الا فيلسوفها الذي قد وثقت به واطمأنت إليه. فهي لا تخفي عليه من أمرها شيئاً وهو يعدها بالمعونة ويعرض عليها أن يقرضها ما تحتاج إليه، بل يؤكد لها أن كل ما يملك من المال ملك خالص لها تستطيع أن تأمر فيه بما تشاء. نعم ولكنه هو لا يملك شيئا أو لا يكاد يملك شيئا، أعماله شاقة ونفقاته ثقال والمستقبل أمامه مظلم. هو يلقي دروساً
رياضية في بعض المدارس الحرة ولكن صاحب المدرسة يريد أن يلغي هذه الدروس رغبة في الاقتصاد، وهو يكسب شيئا من مدرسة الهندسة ولكنه في حاجة إلى أضعاف هذا الذي يكسبه. وهو يلح على تلاميذه في إنجلترا أن يرتبوا له رزقا معلوما، ولكن التلاميذ لا يؤمنون لأستاذهم بهذا الحق وهو مضطر إلى أن يرزق امرأته ثلاثة آلاف فرنك في كل عام، ولا بد له من أن ينقص هذا الرزق وأن يختزل منه ثلثه. وهو على هذا كله يعمل، وهو على هذا كله يحب وهو حريص على ألا يقصر في ذات فلسفته ولا في ذات عشيقته. وعشيقته أيضاً تعمل لخدمة الأدب أن أعجزها ان تعمل لكسب المال. لقد نجحت قصتها الأولى بعض الشيء فما لها لا تكتب قصة أخرى وقد بدأت كتابة هذه القصة واتخذت نفسها لها موضوعاً مع شيء من الرمز والإيماء وأخذت كلما كتبت شيئا أرسلته إلى الفيلسوف، فيقرأ ويعجب ويهيم. ويقرظ فيسرف في التقريظ.
ويستأنف زياراته للأسرة محتملا ما يرى من الأعراض يقابله بمثله في كثير من الأحيان. حتى إذا كتب أخو الفتاة رسالة في الرياضة وعرضها على أستاذه ونظر الأستاذ فيها وأطال النظر فلم تعجبه. فيضطر إلى أن يعلن رأيه إلى تلميذ في غير تردد وإلى أن يتحدث إلى الفتاة بأن حبه لها وحرصه على مودة أخيها لن يمنعاه من أن يعلن رأيه في هذا الكتاب الذي لا خطر له. هنالك يزداد سخط التلميذ على أستاذه وهذا هو الذي يدور حول أخته ويشرب القهوة في البيت مرتين في كل أسبوع، ثم لا يشجع تلاميذه ولا يعترف لهم بما يوفقون إليه من فضل.
ويشتد إنكار الأسرة على الفتاة وتثبت هي لإنكارهم، فتجادلهم في أستاذها وتذودهم عنه، وتخرج من عندهم مكدودة متعبة وتؤوي إلى بيتها وقد فقدت أو كادت تفقد الشجاعة والنشاط. فتفكر في الفيلسوف، وفي أنه الرجل الوحيد الذي يؤثرها بالحب، ويصفيها المودة والعطف، فتنازعها نفسها إليه. ولكن نفوراً قوياً يمسكها أن تندفع في هذا الحب. فتكتفي بالشكوى، وتقبل من الفيلسوف عطفه وحنانه، ومعونته المالية أيضاً. وكانت أعراض الضعف قد ظهرت عليها، فأخذت تحس فتوراً وانحلالا. وأخذت تقاوم سعالا متكرراً مضنياً ولم تقدر إلا أن ما تحسه عرض من أعراض هذا الجهد الذي تلقاه. فصبرت واحتملت وجدّت في كتابة قصتها، وجدّت أيضاً في الأنس إلى الأستاذ وأذنت له أن يزورها في بيتها
الخاص، فأحيت أمله، وبالغت في إحياء هذا الأمل حين أهدت إلى الأستاذ باقة من الزهر الصناعي صنعتها بيدها، وأرسلت معه أبياتاً من الشعر لا قيمة لها، ولكن الفيلسوف رآها آية من آيات البيان.
وزارها الفيلسوف ذات يوم فإذا هي متعبة تلقى من الآلام جهداً شديداً فتحدث إليها وأطال الحديث واطمأنت هي إليه اطمئناناً شديداً، فلما نهض لينصرف اختلس قبلة من فمها، ولكنه لك يكد يبلغ بيته حتى كتب إليها كتاباً مشهوراً يعتذر فيه من هذه القبلة، لأنه لم يكن يثق حين اختلسها بأن نفسه كان نقيا طيب النشر. وردت عليه في هذه السذاجة البديعة:(لا بأس عليك فأنا التي منحتك قبلة صديقة مخلصة).
ويشتد المرض والفقر بالفتاة. ويشتد الهيام والبؤس بالفيلسوف، وتزول بينهما الكلفة، وتكثر الزيارة عندها وعنده، ويعرض عليها خادمته لتعينها على الحياة. فتأبى، وتقضي الشتاء وحيدة عاملة لا يسليها عما تجد الا زيارات الفيلسوف لها وعطفه عليها، وقد عرضها على الطبيب فقدر لها مرضاً أخذ يعالجه وهو بعيد كل البعد عما كانت تجد. واشترك الفيلسوف في الأوبرا على فقره ليسلي صاحبته بالموسيقى من حين إلى حين. ولكنه لم ينس الحب ولم يفكر في الأعراض عنه فهو ما زال يلح على الفتاة ويتقاضاها هذه الصلة المادية التي تتوج ما بينهما من ائتلاف العقل والقلب وهي تأبى حتى إذا أثقل عليها فأسرف. كتبت إليه تذعن لما يريد. وهي تقول: إنك تطالب بأجر ما تبذل لي من ود ومعونة فلن أماطل في تأدية هذا الأجر. هنالك استحى الفيلسوف واستكبر فرفض هذا التسليم وأبى الا صلة مصدرها الحب والرغبة.
وزارته ذات يوما وهي مكدودة قد أجهدها المرض، واشتدت بها الحمى فلما انتهت إلى البيت استلقت على وسادة ونظر إليها هو، وأن في عينه لحباً لا حد له، وشهوة لا حد لها. وإذا هو يرى عينيها الزائغتين من الألم وخديها الذين توردهما الحمى فلا يرى الا جمالا مغرياً وحسناً فتانا. وهي مستلقية أمامه لا حول لها ولا طول، وهو قادر عليها؛ ولكنه ليس قادراً على نفسه. فهو يشتهي إلى حد الهيام ولكن عقله ووقاره يأبيان عليه هذا الغصب. فتنحل هذه الشهوة الحادة العنيفة إلى حب وقور، فيه شيء كثير من جلال الدين. والمرض والبؤس يلحان على الفتاة، والحب والفقر يلحان على الفيلسوف وإذا هي قد لزمت غرفتها،
ولزمتها خادمة الفيلسوف. وجاء الطبيب فلم يشك في أنها مسلولة مشرفة على الموت. وكثر تردد أمها عليها وكثر تردد الفيلسوف أيضاً. وكانت بين الأم والفيلسوف حول هذا الجسم الناحل وهذه النفس التي تتأهب لمفارقة الحياة، خصومات مؤلمة ولكنها لا تخلو من فكاهة. فأما الأم فكانت أسيرة الأوضاع الاجتماعية، أسيرة هذا الحب الذي يعطف المرأة على ابنتها. وأما الفيلسوف فكان أسير هذا الحب الفلسفي، ولم يكن يتردد في أن يعلن أنه وحده صاحب الأمر في هذا البيت لأنه الزوج الخالد للفتاة. ولم لا؟ لقد كان ينهض بكل ما تحتاج إليه، ويعرف من تمريضها ما ظهر وما خفي. لقد كتبت إليه مرة تقول: ما أشد حاجتك إلى الرحمة أيها العاشق التعس، فلم تظفر من خليلتك الا بشر ما يظفر به الأزواج. وكان مؤلماً جداً، وباعثاً للابتسام أحياناً أن يرى الفيلسوف جاثياً أمام السرير وهو يصلي إلى الفتاة فيدعوها أخته وزوجه وابنته. ويؤكد لها ويقسم ليعصمنها من الموت، ولأن عبثت الطبيعة بجسمها فليضمنن هو لنفسها الخلود. ولم لا؟ ألست أرقى امرأة عرفتها الإنسانية. لقد لقيت أرقى عقل عرفته الإنسانية، فلن يكون للفناء عليك ولا علي سلطان.
وساءت حالة الفتاة ودعي القسيس ليهيئها لاستقبال الموت فلم تمانع هي ولم يمانع هو. وأقبل القسيس فأدى عمله والفيلسوف يراه ويسمع له ساخطا حتى إذا انصرف أقبل فأنكر هذه العادة الدينية التي تنتزع المريض انتزاعاً من الحياة لتدفعه بين ذراعي الموت.
أقبل عذب الصوت رضي النفس حنون القلب فجثا إلى السرير وحنى على الفتاة وأخذ يحدثها أحاديث عذبة كلها أمل وكلها رحمة. ثم انصرف وعاد فإذا الأسرة كلها مجتمعة وإذا هم يأبون عليه أن يصل إلى المريضة. فتثور ثائرته ويخرج عن طوره ويأبى أن ينصرف ويهم بإخراجهم جميعا لأن المريضة زوجه وخليلته وهي له وحده دونهم، بذلك اعترفت له وعلى ذلك أقسمت له فيجب أن يخلى بينه وبينها. فأما الأم فتنكر وتبكي وتستخذي. وأما الأخ فيقبل على أستاذه منذرا. وأما الأب الشيخ فيقبل هادئا وقوراً يطلب إلى الفيلسوف أن يدع المريضة لأهلها.
فانظر إلى الفيلسوف وقد جثى أمام الشيخ ضارعاً مستعطفاً حتى رق له الشيخ فقال أنصرف الآن ولك علينا أن ندعوك إذا استيئسنا منها. خرج الفيلسوف فلزم داره فلما كان من غد جاءه الرسول فأقبل مسرعاً حتى انتهى إلى البيت. فلما رأته الأسرة انفرجت له
وخلت بينه وبين غرفة الفتاة. فدخل وأغلق الباب من دونه وأرتجه فأحكم إرتاجه. وأقام ساعات طوال لا يخرج ولا يدخل عليه أحد. ويستطيع الخيال أن يذهب كل مذهب في تصور ما قال الفيلسوف للفتاة المحتضرة أو ما عمل أمام هذا الحب العظيم الذي كان الموت يغلبه عليه قليلاً قليلاً. فلما تقدم النهار ودنى المساء فتح الباب وخرج صامتا لا يلوي على شيء. فأقام في داره ولم يشهد الجنازة ولم يشيعها إلى القبر. وماذا يعنيه من الجنازة؟ لقد حاول أن يصل إلى هذا الجسم فلم يجد إليه سبيلا وحاول أن يصل إلى هذه النفس فلم تقاومه ولم تمتنع عليه، وإنما أسرعت إليه فأقامت في عقله وقلبه. لم تمت كلوتيلد وإنما أودعته خير ما فيها فهي إذا في قلبه، هي إذا تقاسمه حياته الذائلة حتى إذا انقضت هذه الحياة الموقوتة امتزجت بنفسه فكانت منها نفس واحدة خالدة. عكف الفيلسوف في داره على هذه الصورة يعبدها ويهيم بها وما هي الا أن استحال حبه لكلوتيلد ديناً وضعت له التقاليد وألوان الصلوات والعبادات. وأغرب من هذا كله أن الحياة الظاهرة للفيلسوف لم تتغير. فدروسه كانت تلقى في نظام ومجلاته كانت تقرأ في نظام ورسائله كانت تقرأ ويرد عليها في نظام أيضاً.
ما أعجب أمر الإنسان تراه ساذجا يسيرا وأن شخصه لشديد التعقيد.
فولتير المؤرخ
للأستاذ زكي نجيب محمود
لبث التاريخ قروناً يتلوها قرون، وهو لا يحسب للشعوب حساباً، ولا
يعنى بحياة الإنسان قليلا ولا كثيراً، إنما ملئت سطوره وأفعمت
صفحاته بذكر الملوك والأمراء، فكان تاريخ الأمة هو تاريخ ملوكها،
أما سائر الطبقات، التي هي في الواقع لحمة الحياة وسداها، وهي
الإنسانية بأسرها، هي مبعث القوى والنشاط جميعاً، فكانت لا تظفر من
المؤرخ بسطر واحد فضلا عن صفحة أو كتاب.
بقيت الحال كذلك ما بقيت الشعوب بعيدة عن دوائر السيطرة والحكم، ثم ما كادت تنهض أوربا نهضة الأحياء، ويستيقظ الناس من ذلك السبات العميق، وتبدأ الديمقراطية الصحيحة تنشر ألويتها، وتجد سبيلها إلى صميم القلوب، حتى انقلب ذلك الوضع الخاطئ، واتخذ شكله المستقيم، وأصبحت الشعوب وحياتها عند التاريخ كل شيء.
ولكل انقلاب رسوله الأمين، ورسول ذلك الانقلاب في كتابة التاريخ هو فولتير، الذي يمثل في شخصه حلقة الاتصال بين العهدين، وجسر التطور بين المنهجين.
كان فولتير كثير القراءة والاطلاع إلى حد النهم، وكلما تقدمت به السن ازداد في ذلك إمعاناً وإدمانا، حتى احتوى في نفسه شطراً عظيما من عصارات الأذهان البشرية التي سبقته إلى الوجود، فلم يسعه أمام ذلك الإنتاج العقلي الغزير، الا أن يكبر العقل الإنساني إلى درجة التقديس، وقد أوحى إليه ذلك الإكبار أن يجرد قلمه للارتفاع بمكانته إلى أعلى عليين. فأخذت تلك اليراعة العبقرية تدبج الفصول التي تظهر فيها عظمة العقل ظهورا واضحاً لا يخطئه النظر، ثم تطورت عنده تلك النزعة فولدت في نفسه عنصراً جديداً، هو حب الإنسانية والفناء من أجلها، فأخذ يسمو بها بمقدار ما يصب غضبه ونقمته على أيدي الجهالة السوداء التي اعترضت سبيل تقدمها، وكانت عثرات في طريقها. هذا التقديس للعقل وللإنسانية، وهذا السخط الذي أراد أن يسحق به عوامل الجمود على اختلاف ألوانها، كان أول عنصر جديد أدخله فولتير في كتابة التاريخ.
ونحن إذا تتبعنا مؤلفاته التاريخية، التي كتبها في مراحل عمره المختلفة، أدركنا على الفور تدرج تلك النزعة في نفسه تدرجاً أدى بها إلى تلك الخاتمة التي ذكرنا.
كانت باكورة مؤلفاته التاريخية (حياة شارل الثاني عشر) الذي كتبه ولم يزل يرسف في أغلال التقاليد، التي أملت عليه مثله الأعلى، فأخرج كتابه للناس آية في تمجيد شارل، وإكليلا من الزهر يتوج به هامة ذلك الملك، الذي سما به إلى مرتبة رفيعة لا يدانيها من البشر إلا الأقلون. وكل عبقريته انه نشر الدماء وبعثر الأشلاء!! وانه خاض في أوروبا من الشمال إلى الجنوب، فاحتواها في قبضته من تركيا إلى السويد!! ولكن نفس فولتير لم تضطرب فيها عاطفة واحدة نحو ذلك الشعب الذي نسج حول مليكه تلك العظمة الحربية بخيوط من أرواحه وما ملكت أيديه، كلا ولم يحسب حساباً لتلك الشعوب التي داسها شارل تحت أقدامه، وأذل أعناقها لتخلي أمامه الطريق!.
يسجل ذلك الكتاب أولى مراحل فولتير الفكرية، ولكنه لم يكد يفرغ من كتابه ويذيعه في الناس، حتى اتجه بسائره إلى دراسة العلوم الطبيعية والرياضية: إلى دراسة ما أكتشفه نيوتن وما أرتاه لوك. وهنا آمن بعظمة العقل الإنساني إيمانا لا تزعزعه الريب والشكوك، وما هي الا أن عاد إلى ميدان التاريخ يجول فيه ويصول، ويبحثه في ضوء إدراكه الجديد ولبه المأخوذ بجلال الإنسان. فأخذ يعالجه بأسلوب لم يعهده التاريخ من قبل، بعيد كل البعد عن الطريق التي انتهجها في كتابه عن شارل الثاني عشر.
بهذه النزعة الناشئة. وفي هذا الضوء الجديد، نشر مؤلفه المشهور عن لويس الرابع عشر، الذي أن قرأته فلن تتجاوز ورقات قليلة، حتى تلمس هذا الأسلوب التاريخي الجديد، وتدرك المدى البعيد الذي انتقلت إليه عقليته في كتابة التاريخ. فبينما هو يسرد عليك في كتابه الأول قصة واحد من الملوك، تراه يصور في كتابه الثاني عصراً بكل ما أحتوى من ضروب الحياة. بل تستطيع ألا تجشم نفسك مؤونة القراءة لتتبين هذا الفرق بين الكتابين، ويكفي أن تلقي نظرة عجلى على عنوانيهما لتدرك ما تناول وجهة نظره من تطور وانقلاب؛ فعنوان الكتاب الأول (تاريخ شارل الثاني عشر) وعنوان الثاني (عصر لويس الرابع عشر) في كتاب شارل أخذ يسرد في تفصيل وتطويل ما طرأ على حياة ذلك الملك من أحداث، وما كان يطبع شخصيته من ضروب المميزات والفضائل، أما في هذا الكتاب
الأخير، فقد تتبع الشعب في نزعاته وميوله وحركاته، وقد ذكر في مقدمته أنه. (لن يصف حياة رجل واحد، بل سيعني بأحوال الشعب جميعاً) فبينما تراه يلم إلماماً سريعاً بأخبار الحروب، تراه يذكر في إطناب نواحي الحياة الأخرى التي لم تحظ قبل فولتير بصفحة واحدة من صفحات التاريخ. فقد عقد فصلا للتجارة والحكومة الداخلية، وآخر للحالة المالية، وثالثاً لتاريخ العلوم، كما اختص الفنون الجميلة بفصول ثلاث. وعلى الرغم من أنه كان يعتقد ان النزاع الديني لا يستحق الا القليل، الا أنه أفسح لأخبار الكنيسة في عصر لويس الرابع عشر من كتابه مكاناً واسعاً، لأنه لم يشك في أنها لعبت دورا خطيراً في شؤون الحياة، التي أراد أن يصورها في مؤلفه هذا تصويرا دقيقاً.
ولكنا يجب أن نلاحظ أن هذا الكتاب، وإن يكن خطوة واسعة وانقلاباً خطيرا في دراسة التاريخ، الا انه لم يخل من شوائب الماضي إذ أطال فولتير (في غير ما موجب للتطويل) في تفصيل حياة لويس الرابع عشر نفسه، وما كان يتقلب فيه من ضروب اللهو والعبث والمجون، ثم حاول بعد ذلك أن يقيم الدليل على سمو مكانته وعظمة مجده، وأن يدفع حراب النقد التي كانت تصوب إلى أسمه من كل حدب وصوب.
كان ذلك الكتاب إذن وصلة التطور بين عهدين، لأنه ثار على القديم من ناحية، وتعلق بأسبابه من ناحية أخرى، ثم ما كادت تنطوي سنوات أربع، حتى طلع على العالم بسفره الجليل في أخلاق الشعوب، الذي يعتبر بحق أسمى ما أنتجه العقل الإنساني في القرن الثامن عشر.
لم يعن فولتير في هذا الكتاب كثيرا بدسائس البلاط، وتتابع الوزارات، وما أصاب الملوك من سعود ونحوس، ولكنه حاول أن يترسم آثار الإنسانية في سيرها وتقدمها مرحلة بعد مرحلة، فهو يقول فيه (أريد أن أكتب تاريخاً للمجتمع الإنساني، غير معني بما نشب فيه من حروب، وأن أبين في جلاء ووضوح كيف كان يعيش الأفراد في حياتهم العائلية الخاصة، وما هي الفنون المختلفة التي كانوا يعالجونها، ذلك لأن الموضوع الذي أنا بصدده، هو تاريخ العقل البشري، فلن أسرد الحوادث التافهة الحقيرة، ولن أعني بأخبار الأمراء والعظماء وما قام بينهم من ملوك فرنسا من قتال وعراك، ولكني سأدرس المراحل التي اجتازها الإنسان حتى انتقل من الهمجية إلى المدنية).
وهكذا ضرب فولتير مثلا أعلى للتاريخ كيف يكون، فاهتدى بهديه المؤرخون من بعده، وأخذوا يدرسون ما هو جدير بالدرس ويسقطون من حسابهم تلك التفصيلات الجافة المملة التي لا تتصل بالحياة الا بسبب واه ضئيل، والتي غصت بها مجلدات التاريخ من قبل.
لم يكن فولتير في تلك الروح الجديدة الا مرآة صافية ينعكس فيها ما تضطرب به نفوس القوم في القرن الثامن عشر، لذلك لم يكن هو الكاتب الوحيد الذي اختط لنفسه هذا النهج، بل عاصره منتسيكو وتيرجوا، اللذان نسجا على هذا المنوال في كتابة التاريخ.
وهكذا بدأ المؤرخون يحولون موضوع الدراسة من أشخاص الملوك والأمراء، إلى حياة الشعوب وما يرتبط بها من مصالح. فأخذوا ينقضون الآراء العتيقة البالية، ويبذرون في النفوس بذور القلق والاضطراب، ثم يحتقرون تلك الشخصيات، التي كانت تملأ عظمتها النفوس من قبل، والتي كانت أقرب إلى الآلهة منها إلى البشر.
وبذلك انقلب التاريخ معولا لهدم الملكية والأرستقراطية بعد أن كان أداة قوية للدعاية لسلطانهم. وأصبح قيثارة تنبعث منها نغمات الديمقراطية، وتقديس الإنسان، وتمجيد الأيدي العاملة؛ ثم أخذت تلك الألحان الجديدة تدوي أصداؤها في جنبات أوروبا عامة وفرنسا خاصة، حتى انتهت بالثورة الكبرى، التي ثلت العروش ودكت قوائم الأرستقراطية دكاً. ولعل ما حدا بفولتير إلى انتهاج هذا الأسلوب في كتابة التاريخ، هو ميله إلى التعميم في دراسته للأشياء. فهو لا يطمئن للبحث في الجزئيات، الا إذا كان ذلك على سبيل الاستشهاد وضرب الأمثلة التي تؤيد قاعدة عامة ومبدأ شاملا. لهذا تراه قد أقام التاريخ على أساس المراحل التي اجتازتها الإنسانية عامة في تطورها؛ أما الملوك ومن إليهم فهم بمثابة الجزئيات من تلك الكتابة الإنسانية؛ فلا يجوز دراستها لذاتها. ولم تقتصر تلك الروح التعميمية على كتابة التاريخ. بل اشتملت روايته أيضاً. فهو لم يحاول أن يصور فيها عواطف أفراد وأخلاق آحاد. إنما قصد إلى إبراز روح العصر الذي وقعت حوادث الرواية فيه.
كان من النتائج الطبيعية لهذه السبيل التي سلكها فولتير في كتابه التاريخ بناء على إكبار العقل الإنساني، وإجلال صفوف الشعب، التي هي نسيج الحياة الاجتماعية ومادتها، انه كان يزهو بحاضره إذا قاسه إلى الماضي، كما كان قوي الأيمان، مزدهر الأمل في مستقبل
الإنسانية، ما دامت جادة في طريقها لا تلوي على شيء، أو على الأصح لا يلويها عن تلك الجادة المستقيمة شيء. لذلك كان يضيق صدرا بمن عاصره من الكتاب الذين كانوا إذا أرسلوا بصرهم إلى المستقبل، ارتد حسيرا إليهم، وإذا جالوا الطرف في حاضرهم، قتلهم اليأس والقنوط؛ فكانوا يولون وجوههم إلى الوراء، يستعيدون صورة الماضي، التي كان يخيل إليهم أنها أقرب إلى الخير والكمال. والشعوب إذا دب فيها دبيب العجز والقعود، التمست في الماضي مثلها إلا على، أما إذا كانت فتية قوية، فهي تنظر إلى المستقبل يحدوها الأمل والرجاء. وليسمح لي القراء أن استطرد قليلا فأقول أنني لا اطمئن إلى هذه اللوعة التي يتردد انينها الحين بعد الحين، أسفاً وحسرة على (السلف الصالح) الذين غيبهم التاريخ في جوفه العميق، سواء أكان هذا السلف من المصريين القدماء أم من العرب. إنما يجب ان نذكر أولئك وهؤلاء كما يذكر الشاب القوي طفولته الضعيفة العاثرة، لا كما يذكر الشيخ المتهدم شبابه الفتي الضائع.
أعود فأقول أن فولتير قد ضاق صدراً بتلك الطائفة من الكتاب، التي كانت تنشد مثلها الأعلى في الحياة الماضية، فلم يتردد في أن يذيع في الناس صورة ذلك الماضي المظلم الغشوم، وأن يطلع أمته على حقيقة العصور الوسطى التي كانت تتخبط في ديجور الجهل والفوضى، حيث كانت أشنع الجرائم ترتكب بغير قصاص، وأشراف الإقطاع يبطشون بالناس بطش العزيز المقتدر بغير حساب؛ وبذلك عرف فولتير كيف يهدم تلك الفئة الضالة المضللة، وعرف كيف يمحو هذا الإعجاب السخيف المصطنع بالماضي البالي العتيق، كما عرف كيف يبسط للناس في الأمل الوارف الظلال؛ وكان المعول الذي اتخذه لتحطيم ذلك جميعا، هو سخره اللاذع وتهكمه القارص بهؤلاء الذين يعيشون في الحاضر بأجسادهم، وفي الماضي بنفوسهم وعقولهم (فليستمع الجامدون!!) وقد أخذ عليه بعض النقاد، انه إنما لجأ إلى السخر عندما أعوزه المنطق الذي يدعم به ما يقول! فأين إذن من هو أقوى من فولتير حجة وأسد منطقا؟! ولسنا نشك في أن من المنطق الا يناقش تلك الطائفة بالمنطق! وإلا فحدثني بربك كيف تجد الحجة العقلية سبيلها إلى نفوس هؤلاء، الذين نبذوا الجديد لأنه جديد، ومجدوا القديم لأنه قديم، مع أن العكس أولى وأقوم، لأنه أقرب إلى سنة الحياة؟!.
لله در فولتير في تلك السخرية التي صادفت أهلها وأصابت مرماها، فقد استطاع أن يسحق
رجال الدين سحقاً، وأن يسقط أعلام الفكر في عصره، الذين أرادوا أن يعودوا بالإنسانية أدراجهاإلى الماضي، وعرف كيف يزلزل عروش هؤلاء وأولئك (وكانت مكينة حينئذ) زلزالا عنيفا، بأن احتقرهم وازدراهم، تارة بالإهمال والحذف، وطورا بتصويرهم في كتاباته في صور تبعث القراء على الضحك.
نعم استطاع فولتير أن يقوض سلطان الكنيسة المخيف، وان يهزأ بالدراسات الكلاسيكية، التي كانت موضع الإعجاب والتقدير حينا طويلا من الدهر. ولكنه لم يكن هداما وكفى، بل أقام على تلك الأنقاض بناءً قويا من الأمل في المستقبل بعد اليأس من الإصلاح، ومن العناية بالشعوب دون الملوك، بعد أن كانت تلك الشعوب في زوايا الإهمال والنسيان وقد استعان على ذلك جميعا بقوة المنطق تارة، وبالسخرية اللاذعة طورا، حتى كتب له النجاح والتوفيق.
هكذا كان فولتير من رسل الديمقراطية في الطليعة، ومن أبطال الثورة الفرنسية في المقدمة، لأنه حطم ذلك التقديس الإلهي الذي كان يحيط بالملوك ورجال الدين، ثم رفع الشعب حتى تبوأ تلك المكانة السامية، فلوح له بمستقبل مزدهر هنيء سعيد، فلعبت تلك الأماني الحلوة بأفئدة القوم، وضاقوا بحياتهم صدرا، وبدأ القلق يساور النفوس. تعجلا لذلك المستقبل الموعود، فأخذ الشعب يتحفز ويتوثب، إلى أن هب في الثورة الكبرى، وحطم ما كان يرسف فيه من أصفاد وأغلال.
لم يعد لويس السادس عشر الحقيقة حين قال، وقد وقعت عينه في السجن على كتب فولتير وروسو:(لقد انقض هذان الرجلان ظهر فرنسا) ويقصد بذلك أسرة البوربون.
ذلك هو فولتير، الذي لم يكن واحداً في عداد الأفراد، بل احتوى في شخصه عصراً بكل ما فيه من عقل وروح، حتى قال عنه فكتور هوجو:(إذا ذكرت فولتير، فقد ذكرت القرن الثامن عشر).
وهذه هي آثار ما كتبه من أدب وتاريخ، واضحة في النعرة الديمقراطية التي تحتوي الأرض من أقصاها إلى أقصاها، فحق له أن يقول:(إن الكتب تحكم العالم).
العلوم
مركز الكون
للأستاذ عبد الحميد سماحه. مفتش مرصد حلوان
في يوم 22 يونيه سنة 1633 وقف العالم الإيطالي الكبير جاليليو جاليلي أمام المحكمة المؤلفة بأمر من قداسة البابا وقتئذ، لسماع الحكم عليه بشأن عقيدته العلمية. وصدر الحكم المشهور فكان لطمة جريئة على وجه الحقيقة العلمية، ليس لها مثيل في التاريخ.
ثبت لدى المحكمة أن جاليليو اعتقد اعتقاداً فاسداً ومنافياً للتعاليم السماوية، بأن الشمس هي مركز الكون وأنها لا تتحرك من الشرق إلى الغرب، وإنما الأرض هي التي تتحرك، وأنها ليست مركز الكون، فحكمت عليه بأن يرتد عن عقيدته هذه وأن يعلن لعنته عليها، واحتقاره لها. ثم بالغت المحكمة في قسوتها، فقضت على جاليليو بالسجن؛ لولا أن تداركته العناية الإلهية، فقد أشفق البابا على الشيخ العظيم، وألغى في اليوم التالي الجزء الأخير من الحكم، ولكنه قضى عليه بأن يلزم عقر داره في الريف، وألا يتصل بأحد الا بأذن خاص.
هكذا جرحت كرامة العلم في شخص واحد من أعز أبنائه. ولم يكن جاليليو في الحقيقة هو صاحب هذه النظرية، فقد زعم بدوران الأرض والقمر والكواكب السيّارة، حول نار مركزية فيلالاوس حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. ومن بعده ارستاركس العظيم أحد علماء مدرسة الإسكندرية في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد؛ فقد قال بأن الشمس والنجوم كلها ثابتة لا تتحرك، وأن الأولى هي مركز الكون؛ وأن الأرض تتحرك حول محورها مرة كل أربع وعشرين ساعة، وحول الشمس مرة كل سنة، فيتسبب عن حركتها الأولى ظاهرة الليل والنهار، وعن حركتها الثانية ظاهرة الفصول. ولكن أرسطو اعترض على ذلك اعتراضا عظيما فقال: لو أن الأرض تدور حول الشمس لتسبب عن ذلك تغيير ظاهري في مواقع النجوم؛ ولما كانت الأرصاد الفلكية لا تحقق هذه النتيجة، زعم أرسطو بأن الأرض ثابتة لا تتحرك، وأنها مركز الكون. وعلى هذا الأساس وضع علماء الفلك التفسيرات المختلفة لحركة الكواكب السيارة في السماء. ومع أن الأرصاد لم تؤيد تفسيراتهم المعقدة لم يجرؤ واحد منهم على الأنداد عن تعاليم أرسطو الفيلسوف العظيم دهراً طويلا؛ حتى كان منتصف القرن السادس عشر، وفيه نشر كتاب للعالم البولندي كبرنكس وفيه
يفسر المؤلف حركة الكواكب السيارة على أساس نظرية أرستاركس القديمة تفسيراً سهلا، تتحقق بواسطة الأرصاد. فيقول بأن الأرض وجميع الكواكب السيارة تدور حول الشمس. ولكن ما كاد ينشر الكتاب حتى قامت قيامة الكنيسة والجامعات على السواء، وأوصدوا أبوابهم من دون نظرية كبرنكس الجديدة، ووضعوا أصابعهم في آذانهم إذ لم يرق في نظرهم أن يكون مهد الإنسانية ومهبط روح الله عيسى عليه السلام على مثل ما يدعيه كبرنكس في نظريته.
ثم كانت حرب طاحنة بين الحقيقة والوهم، كان النصر فيه حليف الحقيقة؛ لأن جاليليو كان قد أبى بالبراهين العملية على صحة نظرية كبرنكس؛ فرأى بمنظاره الجديد كيف أن الزهرة تتشكل بأشكال مثل أشكال القمر. وبرهن على أن ذلك لا يكون إلا نتيجة لدورانها حول الشمس. ثم جاءت البراهين تلو البراهين على صحة نظرية كبرنكس حتى ثبتت وأصبحت مما لا يقبل الشك. وتعتبر هذه الحقيقة الحجر الأساسي في علم الفلك الحديث، بل ربما كانت هي أهم الحقائق العلمية على وجه الإطلاق.
بعد ذلك تقدمت الأبحاث العلمية في هذا الاتجاه فوجد أن الشمس بدورها ليست الا واحدة من مجموعة شموس، أو نجوم مثلها يقدر عددها بمائة ألف مليون وهذه المجموعة تسمى المجموعة المجرية، وهي المحدودة في السماء بذلك السديم العظيم المعروف (بسكة التبانة) وهي تشبه في شكلها عجلة السيارة، وتدور حول محور عمودي على سطحها مار بالمركز، وان الشمس مع ذلك ليست هي مركز المجموعة، بل ولا قريبة منه، ولذلك تدور حول المركز بمعدل مائتي ميل في الثانية.
ولما تقدمت وسائل الرصد، خطت الأبحاث العلمية خطوة كبيرة أخرى في هذا الاتجاه، فوجد أن ملايين عديدة من المجموعات كالمجموعة المجرية، وهي المعروفة بالسدائم الخارجة عن المجرة. فالسديم (م 31) من المرآة المسلسلة مثلا يبلغ قطره ربع قطر المجموعة المجرية، ووزنه يعادل وزن خمسة آلاف مليون شمس؛ وانه كالمجموعة المجرية يدور في الفضاء حول محور عمودي على مستوى سطحه.
وتبدو هذه المجموعات في المنظار مختلفة الأشكال نظراً لتباين أوضاعها بالنسبة إلينا. أما الأبحاث العلمية الحديثة فنسبتها كلها إلى أصل واحد وإلى سلسلة واحدة من التطورات،
فالكروي التام منها مثل (3379 يصبح كرويا ناقصاً مثل السديم (4621 ومع مضي الزمن يصبح كالعدسة المتعصرة من الجانبين مثل السديم (4594 ثم يصير كالقرص أو عجلة السيارة مثل السديم (4565 أو السديم المجري نفسه. وفي منتصف هذه السلسلة من التطورات يبدأ تكون النجوم.
ترى إذن كيف أن مركز الأرض في الكون ضئيل إلى أقصى حد؛ فهي أحد أفراد المجموعة الشمسية تدور حول الشمس (التي هي مركز المجموعة) مرة كل سنة. أما الشمس فهي واحدة من مجموعة عظيمة من نجوم أو شموس تعد بآلاف الملايين؛ وهي الأخرى تدور حول مركز المجموعة. ومثل هذه المجموعة مجموعات كثيرة تعد بالملايين متشابهة في تكونها ومنشئها وتطوراتها.
هذا هو مركز الأرض بالنسبة إلى الأجرام السماوية الأخرى فكيف لو نقيس عليه آمالنا ومطامعنا ومتاعبنا في هذه الحياة؟
الشاي
في عام 543 بعد الميلاد، حضر من الهند إلى الصين ناسك متعبد، يذيع في الناس دينه ويدعو إلى الخير والسلام. وما وطئت رجلاه أرض الصين، حتى نذر أن يصوم عن النوم تسعة أعوام، يتأمل فيها فضائل ربه (بوذا) ويعدد مناقبه، ويسبح بآلائه وحمده، وظل على هذه الحال صاحياً ثلاثة أعوام، ثم غلبه النوم، فلما استيقظ استشاط غضباً من نفسه. ولما كان لكل زلة عقاب، قص أجفان عينيه، وألقى بهما إلى الأرض. ثم أخذ من جديد في التأمل والتعبد خمس سنين أخر، ثم بدأت رأسه تميل للنعاس، ولكن وقعت يده اذ ذاك على شجيرة قريبة، فأخذ يتلهى بمضغ أوراقها، فوجد فيها القوة على مغالبة النوم، ووجد فيها اليقظة المنشودة، فأتم تسعة الأعوام المنذورة في يقظة وتهجد. وكانت هذه الشجيرة تسمى بالصينية (شا).
بهذا تتحدث أساطير الصين. ومهما يكن من الأمر، فلا شك أن الشاي أول ما عرف في الصين، ثم انتقل منها إلى اليابان، وهناك زرعوه تعمداً، ثم انتقل غرباً إلى الهند، فأوربا. ولعل أكثر الأمم الأوربية شرباً للشاي، الأمة الإنجليزية، حتى ليظن ظان أنه نبات متوطن بها، وأن عادة شربه نشأت بداءة في تلك الجزيرة الغربية، ثم تفشت في الأمم مشرِّقة. وليس الأمر كذلك، فان الشاي كان شيئاً نادراً في إنجلترا في منتصف القرن السابع عشر، وكان ثمن الرطل منه نحو عشرة من الجنيهات. وكان شراباً جديداً يسقاه الخاصة في مقاهي مختارة. ولما بدأ يدخل المنازل كانوا يغلونه كما يغلون الخضر، ثم يصفونه، فأما الماء فيصبونه في البلاعة جهلا، وأما الورق فيبسطونه كالمربيات على الخبز المزبود فيأكلونه. وبالطبع صحح هذا الخطأ سريعاً تجار لهم في ذلك مصالح، وزاد المستهلك من الشاي في تلك البلاد عاما بعد عام، حتى أربى في السنوات الأخيرة على 400 مليون رطل بمعدل نحو من ثمانية أرطال للفرد في العام.
والشاي أوراق شجيرات لا يكاد يزيد ارتفاعها على متر ونصف المتر، تظل خضراء طول العام، فلا تعرو في الخريف، تحمل وريقات صغيرة، يتراوح طولها بين خمس السنتيمترات والعشر، لها شكل كسنان الرمح، وحرف ذو أسنان. وتزرع تلك الشجيرات فلا يقطف منها شيء في العام الأول، فإذا حانت السنة الثانية تهيأت وريقاتها للقطاف، ويزداد المقطوف منها بتتابع الأعوام. ولما كانت تزرع لورقها، لا لخشبها أو ثمرها، كان
لا بد من تقليم أفرعها، كي لا تطول مُصعِدَة، وينتج عن هذا خروج أفرع جديدة من جوانب الأفرع المقلمة، أفرع تكتسي كلها بالورق فيكثر المحصول من الأوراق. وبعد قطف الأوراق تنشَّر على حصر لتجف وتذبل، ثم تدرج وتبرم باليد في ضغط على أسطح من الخشب، والقصد من ذلك تكسير الخلايا لتجود بزيتها العطري، فتطيب رائحته. ويعقب ذلك عملية الاختمار فتعرض الأوراق لدرجة حرارة تتراوح بين 35، 40 درجة مئوية، فتتحول من اللون الأخضر إلى الأصفر، ثم يقتم لونها إقتماما، وذلك بسبب الخمائر التي فيها، فهي تؤكسد بعض حامض التنيك الذي بالورق، فتستحيل إلى مادة ذات لون قاتم تكسب الشاي لونه المألوف. وعملية الاختمار هذه من الأهمية بالمكان الأول، وعلى إجادتها تتوقف جودة الشاي.
أما الشاي ذو اللون الأخضر الذي يباع في الأسواق فيحضر بطريقة كطريقة الشاي الأسود الآنفة، غير انه يحمص قبل تخميره في أوعية تسخن بالغاز تسخيناً هيناً، وهذا التسخين يقتل بعض تلك الخماير التي كانت سبباً في أكسدة حامض التنيك، وفي إحداث اللون القاتم، فإذا تخمرت الأوراق بعد ذلك، قامت بالتخمير بقية الخمائر التي لم يقتلها التسخين، ولهذا يظل الشاي حافظاً لشيء من إخضراره الأول وانفتاح لونه.
والشاي يحتوي مواد كيميائية كثيرة، أهمها ثلاثة أصول: أولها الزيت الطيار، وهو الذي يكسب الشاي نكهة تصعد إلى أنف شاربه فتجد منها السبيل إلى قلبه ونفسه. ومقدار هذا الزيت بالغ في القلة، ولعله لو زاد لما طاب الشاي شرابا. وثانيهما حامض التنِّيك، ويسمى التنِّين كذلك؛ وهو مادة صلبة سحيقة بين البياض والسمرة تذوب في الماء. ويبلغ مقدار التنين في الشاي على العادة من 10 إلى 17 في المائة من وزن الأوراق. والتنين قابض شديد، تعرف أثره في لسانك إذا تذوَّقته. وسبب قبضه انه يرسِّب الزلال والمخاط اللذين باللسان والفم، وبأغشية الجسم الأخرى كالتي تتبطَّن بها القناة الهضمية من معدة وأمعاء. فتجف تلك الأغشية وتنقبض وتقل إفرازاتها. ولذلك كان التنين دواء للإسهال، ودواء للالتهابات التي تعتري القناة الهضمية. فانه فضلا عن تقليل الإفرازات، فإن الراسب الذي يحدثه عند التقائه بمخاط جدران الأمعاء الملتهبة، يقي هذه الجدران مس الطعام في سيره واحتكاكها بما فيه من بقايا خشنة مؤذية. ويستخدم التنين دواء للثة الدامية، وفي التهاب
الحلق فيتعاطى غرغرة. هذه كلها لا شك فضائل ولكن في المرض، أما في الصحة فهي مؤذيات يزيد أذاها بالإسراف من شرب الشاي. فمن ذا الذي يحب الإقلال من إفرازاته الطبيعية التي عليها مدار الهضم؟ ومن ذا الذي يحب أن يستعيض عن معدته الطرية الملساء بما فيها من مخاط بمعدة كجلد القرب؟ عرفت سيدة عجوزا يؤذيها الشاي خفيفا، ولكنها تستريح عليه إذا كان ثقيلا كلون الدم السكيب. وكانت تتتعاطاه في بدء كل طعام وفي آخره؛ وما ذاك الا أنها كانت قريحة المعدة لا تحتمل مس الطعام وإن لان. ولكن ليت شعري عمَّ يتساقاه فلاحونا عافاهم الله، فتلك بكارجهم لا تكاد تطفأ من تحتها النار، فيقذفون فيها بالماء فالشاي، فالماء فالشاي، حتى يصبح الشراب أقتم من طالعهم الأسود، أعن أمعدة قريحة يتساقونه فيجدوا فيه شفاء من ألم؟ أم لأنهم لم يجدوا في سوء الغذاء وقلته وفي الامراض الكثيرة المتوطنة بمصر كالبلهارسيا والانكلستوما أداة كافية لهد قواهم فاتخذوا من الشاي في العقد الاخير أداة جديدة تقتل في بطأ وطول؟
وثالث الأصول التي بالشاي وأهمها مادة قلوية تسمى بالكافيين، وإن شئت قلت القهوتين، وإن شئت قلت الشايين، وهذه كلها معناها الأصل الفعّال في الشاي أو في القهوة المتعارفة؛ فالأصلان واحد. وهذا الأصل أهم ما في هذين الشرابين من الأصول الطبية. أما أثره فيظهر في مراكز المخ العليا، فهو يزيد في يقظة العقل عامة، وفي المقدرة على الحكم في الأمور وعلى حسن الاستنتاج، وربط الفِكَر. وهو يذهب بالتعب عقليا كان أو جثمانياً. ولعل شرب الناس له في العصر بعد انقضاء أكثر عمل اليوم، كان لحكمة اهتدى إليها الشاربون بغريزتهم. وهو فوق ذلك يدرّ البول.
وللشاي في الأمم المدنية الحديثة أثر اجتماعي كبير، فقد اتخذت منه تلك الأمم وجبة خفيفة، خفيفة على المعدة وعلى الجيب على السواء، يجتمع عليها أهل الأعمال يتحدثون برهات قصيرة، وأهل المودة يتسامرون ساعات قليلة، ويلتقي عليها الأحباب في برء وعفة، يتجاذبون أطراف الأحاديث الحلوة، ببطون بالطعام خفيفة، وقلوب بالحب مفعمة ثقيلة.
القصَص
يوم عصيب في جبل المقطم
للأستاذ محمد الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات
بوزارة المعارف
كان ذلك في يوم جمعة في شهر فبراير سنة 1919، ولم أكن وقتها حديث عهد بجبل المقطم، أو قليل خبرة بوديانه وطرقاته، ولكنها حالة طارئة من النوع الذي يبتلى به رواد الصحراء. فتودي بهم أو تجعلهم يتخبطون فيها على غير هدى، إلى أن تنتشلهم العناية الألهية (كانت تجربة قاسية ولكن الله سلم)، ولا يظنن القارئ أن هذه التجاريب وأمثالها تصد رواد الجبال والصحراوات عن رحلاتهم، بل هي مما يزيد في خبرتهم وحماستهم ويجعلهم (معيدين) يقدمون غير هيابين أو وجلين.
خرجت من منزلي في هذا اليوم في الصباح الباكر، وبصحبتي أحد الأصدقاء نقصد زيارة الغابة المتحجرة الكبرى بجبل المقطم على أربع ساعات من القلعة بالسير الحثيث جهة الجنوب الشرقي وكان اليوم صحواً، والطقس معتدلا، والهواء ساكناً، وكنا على عزم أن نعود بعد الظهر بقليل، فلم نأخذ معنا ماء ولا طعاما سوى شطيرتين (سندوتش) لكل منا. وكانت ملابسي خفيفة وليس معي من مرافق الرحلات الجبلية سوى عصا قصيرة.
وصلنا المنشية في منتصف الساعة السابعة، ثم درنا حول القلعة من جهة (عرب اليسار) وبعد أن اجتزنا تكية سيدي المغاوري أخذنا نرتقي الجبل؛ وبعد نصف ساعة وصلنا هضبة المقطم السفلى، وبعد أن مررنا بقلعة الجبل ومقام سيدي
الجيوشي أخذنا طريقنا إلى هضبة المقطم العليا، ثم أخذنا نسير في نفس الطريق الذي يسلكه عادة الذي يقصدون (عيون موسى) وبعد ساعة مررنا بعيون موسى، ثم انحدرنا إلى وادي اللبلابة وهو واد متسع قليل الارتفاعات، فأخذنا طريقنا فيه متجهين نحو الجنوب وبعد ساعتين من عيون موسى وصلنا الغابة المتحجرة الكبرى بعد أن قطعنا نحو 18 كيلو متراً.
كانت الساعة وقتئذ العاشرة والنصف. وكنا على أحسن ما نكون نشاطاً وسروراً، وكانت الشمس ساطعة، والهواء دافئاً منعشاً، وبعد أن استرحنا قليلا تناولنا ما كان معنا من الطعام.
ثم انطلقنا نجوس خلال الغابة باحثين مستطلعين. فهذا جذع شجرة ملقى على الأرض تخاله من بعد أنه جذع شجرة حقيقي. فإذا تبينته عن قرب وجدته قطعة من الصخر الرملي. فالرمل قد حل مكان الخلايا النباتية بألوانها وأشكالها وتعرجاتها، وإذا طرقته بقطعة من الصخر أعطى صوتاً له رنين المعدن (وهذا فرع شجرة حل به ما حل بالجذع) وقد قضينا في الفرجة نحو الساعتين، وكان كل شيء حتى الآن على ما يرام، ولكن لم نكد نتهيأ للرجوع حوالي منتصف الساعة الواحدة. حتى شعرنا بأن ريحاً شمالية غربية باردة بدأت تهب في وجوهنا، ثم تلبد الأفق من جهة الغرب بسحب كثيفة، وزادت سرعة الريح. وبعد قليل انتشر في الجو ضباب كثيف وحوالي الساعة الواحدة سقط رذاذ خفيف وبدأت الشمس تحتجب وراء السحب.
فلما تغير الحال كما رأيت عولنا على العودة مسرعين، فاتجهنا نحو الشمال الغربي قاصدين السير في نفس الطريق الذي سلكناه في الصباح ونظراً لتلبد الجو بالضباب واختفاء الشمس. اعتمدنا في تعرف الجهات على هبوب الريح، فجعلنا نسير في الاتجاه المضاد لهبوبه. وبعد أن سرنا نحو ساعة بالسير الحثيث لحظت أن معالم الطريق بدأت تتغير. فلم أهتم لذلك ظناً مني أنه ربما انحرفنا قليلا جهة الشرق أو الغرب، ولكن بعد ساعة أخرى أدركت أني أسيره في طريق لم آلفه من قبل فساورني بعض القلق وأخذ صاحبي يسألني عن موضعنا بالنسبة للقلعة ومتى نصل وهكذا من الأسئلة المتنوعة، كنا قد وصلنا في هذا الوقت إلى واد صخري عميق ظننته لأول وهلة وادي عيون موسى. ولكن بعد أن نزلناه وسرنا فيه قليلا تأكدت انه غيره، وهنا أمطرتنا السماء مدراراً فتبللت ملابسنا وتوحل الطريق فأعاقنا عن السير، ثم برد الجو، فلم نر بداً من الالتجاء إلى مغارة قريبة لنستريح فيها قليلا، فلما خف المطر استأنفنا السير في نفس الاتجاه، وبعد ساعة أخرى أدركت تماماً أني أسير على غير هدى وأيقنت بعد أن تنكر الطريق أني قد ظللت، فتملكني ضيق شديد وساورتني المخاوف وأخذت أندب سوء المصير في هذه المفاوز حيث لا ماء ولا طعام ولا غطاء، ولكني وجدت من الحكمة ان أخفي حالي عن صاحبي، فكتمت كربي وتكلفت الاطمئنان تكلفا وكنت كلما سألني عن القلعة وعن سبب تأخرنا أجبته أنا لابد واصلان إن شاء الله، ولكن بالرغم من محاولتي إخفاء اضطرابي وتصنعي الهدوء لحظ
صاحبي في وجهي شدة الحيرة والقلق، فأخذ يشكو الجوع والبرد والتعب، وزاد الطين بلة أن ثارت في وجهنا في هذه اللحظة زوبعة رملية شديدة وهطل المطر كأنه أفواه القرب فعميت عيوننا وأصبحنا غرقى في لجة من الماء والوحل، وكنا عندئذ نسير على ظهر جبل عال لا يزيد عرضه على عشرين متراً، وعن شمالنا واد عميق جدرانه قائمة كالطور ولا يقل انخفاضه عنا عن مائة متر أو يزيد، وعن يميننا واد آخر كالأول الا أنه أكبر اتساعا وأقل انحداراً، وكان الظلام منتشراً في كل مكان، وريح باردة
عاتية تسفي في وجوهنا الرمل والتراب باستمرار، فتعذرت الرؤية واشتد بنا الكرب وتوقعت في كل خطوة أن نهوى في هوة عميقة أو نسقط على الأرض من الإعياء. طلب مني صاحبي ونحن في هذا الموقف الحرج أن نأوي إلى ملجأ يقينا البرد والمطر وشكا إلى ما حل به من التعب المضني. فطيبت خاطره وشجعته ثم أفصحت له عن حقيقة موقفنا بكلمات قليلة ورجوته أن يصبر، وقلت له أن الليل قد داهمنا وليس لنا من واق في هذه الجبال الا رحمة الله. وأن الوقوف عن الحركة يضر بنا فملابسنا مبللة وبطوننا خاوية والبرد قارص ولا فائدة من التذمر، ثم أردفت ذلك قائلا: ربما كنا أقرب إلى السلامة مما يبدو لنا الآن. فلما وقف صاحبي على ما نحن فيه اضطرب كثيراً ولكن لم يلبث لحسن الحظ أن سلم أمره لله وقال سر بنا وسأتبعك فالله سبحانه يتولانا بلطفه وهدايته. ثم قال: ولماذا لا نسير في عكس اتجاهنا خصوصا وإنا قد جربنا السير في اتجاه مضاد للريح ولم نصل إلى غاية. فقلت له ربما لحظت أني دائما أسير والريح في وجهي وذلك لأني أعلم أن هبوب الريح في مصر في هذا الشهر من السنة يكون عادة من الشمال الغربي أو الغرب، فالسير في هذا الاتجاه أسلم عاقبة ما دمنا لا نملك وسيلة أخرى من وسائل الاهتداء إلى الجهات الأصلية. ولا بد أن يؤدي بنا السير آجلا أو عاجلا إلى وادي النيل. فقال عسى! ثم سكت. وبعد أن قطعنا مرحلة أخرى رأيت من الحكمة أن التجئ إلى الوادي بسبب الظلام الدامس والبرد القارص فاخترت نقطة ظننت أنها ربما تكون أقل خطورة للهبوط إلى الوادي، وأشرت إلى صاحبي أن يتبعني وأن يكون حريصاً منتبها وأن يستجمع كل قواه حتى لا تزل قدمه فيهوى إلى الحضيض، فأومأ بالإيجاب، وفي أقل من نصف ساعة وصلنا بطن الوادي بسلام وبعد أن استرحنا قليلا أخذنا طريقنا متبعين تعاريج الوادي قائلاً
في نفسي إن كتب علينا البقاء في هذه البيداء هذه الليلة فسنجد في إحدى المغاور ملجأ وحماية.
بعد أن سرنا في الوادي نحو كيلومتر فطنت إلى أننا متجهان نحو منبع الوادي من اتجاه الحشائش في أنحائها. فعدنا أدراجنا مؤملا إن نحن واصلنا السير أن نصل إلى مدخل الوادي في وقت قريب، وعندها ربما نهتدي إلى طريق يوصلنا إلى مكان يكون لي به معرفة.
في هذا الوقت العصيب ظهرت بارقة أمل على غير انتظار بددت كثيراً من غمنا وكآبتنا وأعادت إلينا شيئا من الطمأنينة والثقة، كانت الساعة السادسة والنصف مساء عندما أدركت أن لي بالوادي الذي نسير فيه معرفة سابقة من بعض الشواهد والعلامات. وبعد قليل ترجح عندي من تعاريج الوادي ونظامها إنا نسير في (وادي دجلة) ثم لم نلبث طويلا حتى ثبت لي من علامة مميزة في الحائط الجنوبي للوادي، وهي فتحة مغارة لها شكل خاص، من أن الوادي هو وادي دجلة حقيقة، فكدت أطير من الفرح وأخذتني نشوة سرور أعجز عن وصفها ولا يشعر بمثلها الا من كان في مثل موقفنا وحالتنا عندما تنتشله العناية الإلهية من ضيق مهلك إلى سلامة مؤكدة، ثم أخذت أفكر فيما عسى أن يكون قد جرى لنا حتى تحولنا عن وجهتنا الأصلية إلى هذا الوادي.
ووادي دجلة واد طويل يبلغ طوله من مدخله حتى نهايته نحو أثنى عشر كيلومتراً، كثير التعاريج ينتهي بشلال غاية في الجلال. يقصده كثيرون من محبي الرحلات الجبلية للتفرج على مشاهده الفريدة ومناظره البديعة ويقع مدخل الوادي في الشرق من (طره) وعلى بعد ساعة ونصف منها، وتمتد بينهما سلسلة من التلال تخفي مدخل الوادي وتجعل الوصول إليه متعسرا. وعقب الأمطار الغزيرة يترع الوادي بالماء ويخرج منه أحياناً سيل جارف يهدد المنطقة حول طره بالإتلاف والغرق.
وبعد أن بشرت صاحبي بالخلاص من الورطة، وبعد أن انتعش وعادت إليه بشاشته أخذت ونحن نسير في الوادي أقص عليه بعض ما صادفته من المواقف الحرجة في رحلاتي السابقة وكيف كنت أخرج منها في كل مرة سالما بتوفيق الله. وبفضل الاطمئنان ورباطة الجأش وقوة ذاكرتي التي تحفظ كثيراً من العلامات المميزة للجبال والوديان التي أزورها.
المبارزة
للكاتب الروسي اسكندر بوشكين
لا يعبأ الذين يعيشون في العواصم بالحوادث الصغيرة لانشغالهم بما
هو أهم وأخطر. ولا يتصورون ما يكون لهذه الحوادث على ضآلتها
من الخطر والأثر في المدن الصغيرة والقرى البعيدة. . مثال ذلك
وصول البريد، ففي يومي الجمعة والثلاثاء من كل أسبوع تكتظ مكاتب
المعسكر بالناس. هذا ينتظر نقوداً وذاك رسالة وهؤلاء يسألون عن
الصحف. كل يتلقف ما له في شغف واهتمام. وأذكر أن رسائل سيلفيو
كانت تعنون إلى معسكرنا، وانه كان يزورنا وقت وصول البريد
لتسلمها. وفي أحد هذه الأيام تسلم خطابا، فلما لمح اسم الجهة الصادر
منها حتى لمعت عيناه وأسرع بفضه وقراءته في تأثر وحماس.
وبالطبع لم يدرك أحد سواي هذه التغيرات التي بدت في ملامح وجهه
وحركات يديه لانشغال الجميع بقراءة رسائلهم.
وبعد لحظات التفت الرجل إلينا قائلاً (يضطرني العمل إلى مغادرة القرية هذا المساء، وأنا لذلك أدعوكم لتناول الغداء معي اليوم للمرة الأخيرة، وكلي أمل ألا أحرم من لقائكم جميعا) ثم أشار إليّ بالذات وقال (وكم أتمنى أن أراك بينهم!) ثم أسرع بمغادرة المكان كما أسرع كل منا إلى جناحه الخاص بعد أن اتفقنا على إجابة الدعوة.
ووصلت إلى منزل سيليفيو في الساعة التي عينها فوجدت ضباط الفرقة جميعا هناك، ورأيت كل أثاث المنزل قد جمع وربط استعداداً للرحيل، وأبصرت الجدران عارية من أغلفة الرصاص. . جلسنا إلى المائدة وأكلنا هنيئا وشربنا حتى ثملنا، وكنا نكثر من الخمر التي ما أن نصبها في الكؤوس حتى تغرينا بزبدها ورائحتها فنتجرعها، ولما انتهينا (وكنا قد أطلنا الجلوس) لبسنا قبعاتنا وهممنا بالانصراف راجين لمضيفنا العزيز التوفيق في رحلته، فأجاب شاكراً وأخذ يرد تحية ضيوفه واحداً واحداً حتى جاء دوري فأسر إليّ (إنني
أريد أن أتحدث إليك برهة من الزمن!) فلم أر بداً من المكوث بعد انصراف الآخرين.
جلس كل منا قبالة صاحبه وأخذنا ندخن في سكون، وقد كان سيليفيو متعبا شاحب الوجه، وان عجبت لشيء فلم أعجب الا من هذا التغير الفجائي الذي بدا عليه، فقد غاض ذلك السرور الذي أشرق به وجهه ساعة الغداء، واختفى بريق عينيه وضعفت نظراته وأصبح منظره وهو ينظر إلى سحائب الدخان المتصاعدة من غليونه منظر الشيطان!
وبعد بضع دقائق قال: (قد لا نلتقي بعد هذا المساء، ولذلك أرى من واجبي أن أشرح لك بعض أمور لا أشك في أنك تساءلت عنها بينك وبين نفسك. . . وأنا وإن كنت لا أعير آراء الشباب اهتماما سأخبرك عما تريد لأنني أميل إليك وأعجب بك!) ولما رآني أسكت وأتحاشى نظراته أفرغ غليونه وواصل حديثه (لقد دهشت على ما أرى لتصرفي مع الضابط السكير رسيانوف في الليلة التي تذكرها ولا شك، وأظنك عجبت عندما علمت إنني لم أغسل الإهانة التي لحقتني ومع هذا فأنا اعتبر عدم إقدامي على مبارزة ذلك الأحمق كرماً مني، لأني (وقد كان اختيار السلاح لي) أثق بانتصاري عليه وقتله مهما كان السلاح، ومهما كانت طريقة المبارزة، ولكني في الواقع لا أملك حياتي!؟).
نظرت إليه في دهشة واستغراب. . . ومضى يقول: منذ ستة أعوام تلقيت ضربة من شخص لا يزال على قيد الحياة!؟ هنا زادت دهشتي فسألته مسرعا: أو لم تقابله؟. لا ريب في أن ظرفا خاصا منعك من لقائه فأجاب: (لقد قابلته، وهذا ما أسفر عنه لقاؤنا).
وقام وأحضر من صندوق قريب قلنسوة من القماش الأحمر لها زر معقود وضفائر مموهة مثل القبعات التي يسميها الفرنسيون ولما لبسها رأيت ثقبا يدل على أن رصاصة اخترقتها على مسافة بوصة واحدة من الجبهة!
وواصل حديثه قائلا (أنت تعرف أنني كنت في فرقة الفرسان الإمبراطورية، وتعرف خلقي فأنا أحب أن أسود الجميع، ولقد كانت هذه الرغبة في السيادة أيام شبابي قوية إلى درجة الجنون، وكانت لذة الشبان في المشاجرة وقت ذاك، ولهذا كنت شيخ المتشاجرين وزعيمهم في الفرقة، وكنا نفخر بالسكر والعربدة، أما أنا فكنت أفوق في الشراب (ب) الشهير في أغنية دافيدوف. . لي في كل يوم مبارزة أمثل فيها الدور الأول أو الثاني فينظر ألي زملائي نظرة الإعجاب، أما رؤسائي فكانوا يعتقدون أنني كالطاعون الذي لا خلاص منه
ولا نجاة!
(وظللت أعيش وسط معالم الانتصار وعلائم الرهبة حتى نقل إلى فرقتنا شاب غني من أسرة نبيلة، وأنا لا أريد أن أذكر لك اسمه، ولكن ثق أنني لم أقابل شخصاً له حظ هذا الشاب، فيه كل ما تتصور من القوة والنشاط، وكل ما تحلم به من الجمال والرشاقة، وكل ما تتمناه من الذكاء وسرعة البديهة والرقة في الحديث بل كل ما تصبو إليه من الثروة والبذخ. . . فيه كل هذا وأكثر منه: إقدام غريب لا يعبأ بالخطر أو الموت، ولا يفكر في الهزيمة. . . فما أن وصل هذا الشاب فرقتنا حتى تلاشى نفوذي وزالت سطوتي، وقد أراد أول مجيئه مصاحبتي لما رآه من الزعامة المعقودة عليّ، ولكني قابلته بفتور ولذلك تركني دون أن يظهر عليه شيء من التأثر).
(وأقول لك الحق لقد كرهته لما رأيت من شغف الجميع به واحترامهم إياه ولما شاهدته من إعجاب السيدات به وتهالكهن عليه وكم حاولت أن أجره إلى الشجار معي بأسلوبي التهكمي اللاذع وسخريتي المتصلة، ولكنه كان يجيب على ذلك بسرعة خاطره وذكائه وميله إلى السرور. . كنت أجدّ دائما وكان يمزح دائما، وفي النهاية بينما كنا في منزل بولندي نحضر حفلة من حفلات الرقص أسررت في أذنه جملة مهينة لكرامته لما رأيته من شغف ربة البيت به وصدوفها عني مع أنها كانت تعبدني قبل أن تتعرف إلى هذا الشاب الغني الجميل فما كان منه الا أن صفعني، فأسرعت إلى سيفي وأسرع إلى سيفه. . وقامت الدنيا وقعدت. وفقد بعض السيدات صوابهن، واندفع زملاؤنا وحالوا بيننا وبين الشجار؛ ولكنا غادرنا المكان رغبة منا في المبارزة الصريحة حتى يغسل كل واحد منا الإهانة التي لحقته بالدم!
(وذهبت مع شهودي الثلاثة إلى المكان المعهود، وكنت أنتظر غريمي في قلق واضطراب. . طلعت الشمس وأخذت حرارتها تزداد شيئاً فشيئا، وأتى يتهادى في مشيته مرتدياً قميصه واضعاً رداءه الرسمي على كتفه، يحمل في يده قبعته التي ملأها بفاكهة الكريز ولم يكن معه غير شاهد واحد.
أقمنا الشهود في نقطتين تبعد إحداهما عن الأخرى باثنتي عشرة خطوة، وكان من حقي أن تكون طلقتي الأولى، ولكني رفضت لما كنت أخشاه من أخطائه في حالتي العصبية. ورفض هو الآخر ولذلك تركنا المسألة للمصادفة وكانت في جانب هذا الشاب الذي أفسده
الحظ الحسن. أطلق رصاصته ولكنها اخترقت قبعتي ولم تصبني بسوء، وجاء دوري فشعرت أنه تحت رحمتي فأستطيع إذا شئت أن أسلبه نعمة السعادة بل نعمة الحياة. . نظرت إليه في شوق، وكنت أنتظر أن أراه ممتقعاً شاحب الوجه. ولكن خاب ظني لأني رأيته يأكل فاكهته في هدوء واطمئنان ويلقي بالبذور إلى ناحيتي فتتساقط تحت أقدامي).
(فكرت في نفسي ماذا أجني من أخذ حياة هذا الشاب الذي لا يعنى بالحياة! ولمعت عيناي عندما خطر لي خاطر غريب، وأفرغت بندقيتي وقلت له، يخيل ألي أنك لا تهتم كثيراً بموتك أو حياتك في هذه اللحظة، وأنك تعنى بأفكارك أكثر من عنايتك بالمبارزة. . ليكن ما تراه فليس عندي الرغبة في إزعاجك.
فأجاب: أحب أن تلزم عملك فقط، وأرجو أن تطلق رصاصتك ولكن يجب أن تذكر أن لك أن تطلقها في المكان والزمان اللذين تشاء، وأنا رهن إشارتك في كل حين!)
(غادرت المكان وأنا أقول لشهودي أنا لا أرغب في إطلاق رصاصتي في هذا اليوم وانتهت المسألة وقت ذاك على هذه الصورة
ثم أرسلت استقالتي من الجيش واعتكفت في هذه القرية المتواضعة وأنا لا أفكر في غير شيء واحد هو الانتقام، وقد جاء وقته!)
وعندئذ أخرج سيليفيو الرسالة التي تلقاها هذا الصباح من أحد معارفه (ولعله محاميه) يقول له في أن الرجل (المطلوب) سيتزوج في القريب العاجل من فتاة رائعة الجمال. . ثم مضى في حديثه يقول (وليس من شك في أن الرجل المطلوب هو عدوي الذي أريد الانتقام منه. وها أنا ذاهب إلى موسكو. وسأرى إذا كان يقابل الموت وسط أفراح العرس بالفتور الذي قابله به وقت ذاك. وفي يده رطل من فاكهة الكريز)
ولما نطق بهذه الكلمات ألقى بقبعته إلى الأرض. منفعلاً ثم أخذ يسير في الغرفة جيئة وذهاباً كما يسير النمر المحبوس! ولم أعترضه أثناء حديثه فقد ملك لبي واسترعى انتباهي وأثار في أنواعاً متضاربة من العواطف.
ودخل أحد الخدم يقول لسيده. إن العربة قد أعدت، وهنا تناول سيليفيو يدي وصافحني في حرارة، وركب العربة التي كان فيها صندوقان يحتوي أحدهما على أسلحة الرجل وبنادقه ويحتوي الآخر على أدواته وملابسه. . ثم حياني مرة أخرى قبل أن تتحرك العربة، وفي
الحق لقد كان وداعاً مؤثراً. . .
عبد الحميد يونس