المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 60 - بتاريخ: 27 - 08 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٦٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 60

- بتاريخ: 27 - 08 - 1934

ص: -1

‌من فضائل الأزمة

المصري يكتشف بلاده

من صفات الأزمات الاقتصادية أنها تعلم الناس الاقتصاد. وتحملهم على الاعتدال في كثير من مواطن الإسراف والتطرف، وقد دهمتنا الأزمة الاقتصادية منذ أربعة أعوام، فقضت على كل أسباب الرخاء والسعة، وألقت على ذوي البذخ والترف دروساً قاسية؛ ولكنها علمتنا من فضائل الاقتصاد ما لم نكن نعلم، وفتحت عيوننا إلى أمور كثيرة كانت دعة الرخاء تحملنا على إغفالها، وبثت إلى الأعصاب المضطرمة كثيراً من عوامل الهدوء، وإلى النفوس الجامحة كثيراً من عوامل الاعتدال.

وكان الاصطياف من الأمور التي كشفت لنا الأزمة بعض أسرارها؛ ففي أعوام الرخاء والسعة، كان المصريون في كل صيف يهرعون ألوفاً إلى عواصم أوربا ومصايفها، وينفقون مئات الألوف في فنادقها ومنتدياتها وملاهيها، ثم يعودون وقد استنفد التجوال الممتع كل ما في جيوبهم؛ وكان ما ينفقه المصريون كل عام في الاصطياف خارج القطر يبلغ زهاء المليونين، تذهب كلها إلى يد الأجانب. فلما حلت الأزمة، وذهبت بالدخل الفياض، قبع كثير من المترفين السابقين الذين كانت تجذبهم (موائد) دوفيل وبيارتز ومونت كارلو في دورهم، وذكر كثيرون أن هنالك مصايف مصرية يمكن انتجاعها، ولا تكلفهم ركوب البحار وإنفاق المئات والألوف، وذكر كثيرون أيضاً أن هنالك مصايف شرقية قريبة لا بأس بها.

كان للأزمة فضل هذا الاكتشاف. فبالأزمة وحدها اكتشف المصريون بلادهم، وعرفوا بعد فوات كثير من الوقت أن إنفاق الملايين خارج القطر على هذا النحو سفه لا يغتفر، وانهم يستطيعون بقليل من المال أن ينتجعوا الراحة والعافية في مصايف بلادهم كالإسكندرية وبور سعيد ورأس البر؛ وكان لما بذلته مصلحة السكك الحديدية لتسهيل الاصطياف أحسن الأثر، فقد شعر الناس أخيراً أن الاصطياف ليس ترفاً، وليس وقفاً على الأغنياء، ولكنه ضرورة صحية، وأنه في متناول جميع الطبقات.

وأتجه كثير من المصريين، ممن شاءوا الاصطياف خارج القطر، إلى مصايف البلاد الشرقية القريبة التي لا تجشمهم كبير نفقة، فأموا فلسطين والشام ولبنان، واستطاعوا أن

ص: 1

يتصلوا عن قرب بإخوانهم في تلك البلاد الشقيقة، وأن يعملوا على توثيق الروابط المشتركة بينها وبين مصر، وكان ذلك من فضائل الأزمة أيضاً.

نذكر إنه لما وقعت كارثة النقد في فرنسا سنة 1925، وهبط الفرنك إلى نحو نصف قيمته، بادرت الصحف الفرنسية إلى نصح الشعب الفرنسي بأن يقلل من شراء العملة الأجنبية جهد الاستطاعة، وأهابت بالفرنسيين الذين اعتادوا السفر والسياحة أن يبقوا داخل فرنسا حتى لا تبدد ثروات البلاد وقت المحنة النقدية في بلاد أجنبية، وأهابت بهم بالأخص أن يحاولوا أن يكتشفوا فرنسا أولاً، فيجدوا فيها من بدائع الطبيعة وساحر النره، وتنوع المناظر في البر والبحر، ما يخفف من شغفهم بارتياد مواطن السياحة والنزهة الأجنبية. فاستمع الفرنسيون إلى هذا النداء القومي، وكانت فرصة اكتشفوا فيها بلادهم على نحو ما قالت صحفهم يومئذ، واقتصدت فرنسا يومئذ مئات الملايين، وازداد الفرنسي شغفاً بالتجوال في بلاده، وتفضيلها على غيرها في قضاء فترات العطلة والراحة.

ولما وقعت الأزمة الاقتصادية الحالية، واضطربت أحوال النقد في كثير من البلاد الأوربية، وضعت ألمانيا والنمسا والمجر ويوجوسلافيا وغيرها قيوداً شديدة على شراء العملة الأجنبية لتحول دون تسرب أموالها إلى الخارج، ولتمنع مواطنيها جهد الاستطاعة من السفر خارج بلادهم وإنفاق أموالهم في بلاد أخرى. ووضعت دول أخرى قيوداً شديدة على شراء المنتوجات والحاصلات الأجنبية، واشترطت أن يكون الدفع بعملتها أو من منتوجاتها، وكان للقيود الأولى أثرها في ركود موسم السياحة المصري، وكان للثانية أثرها في كساد سوق صادراتنا.

ولكننا في مصر نغفل هذه الاعتبارات دائماً، ومال المصري مباح أبداً، وعرض للتبديد خارج القطر حتى في أحرج الأزمات؛ ولم توفق الحكومة المصرية حتى اليوم إلى أن تضع لها أية سياسة أو تقاليد ثابتة في مثل هذه الشئون؛ فهي لم تفكر مطلقاً في اتخاذ أية إجراءات للمحافظة على أموال المصريين الذين لا يحملهم أي وازع على حفظها، وللحد من حريات ذلك النفر الذي ما زال في كل صيف يحمل الأموال التي يعتصرها من عرق الفلاح إلى (موائد) العواصم والمصايف الأوربية، وإلى مراقصها وفتياتها.

يقولون إن لمصر موسم سياحة، وإنها تغنم من ذلك الموسم مالاً لا بأس به؛ فلماذا لا ينفق

ص: 2

المصريون مثل هذا المال في مواطن السياحة الأوربية. والحقيقة أن مصر تظلم بهذا القول أيما ظلم، ففي مصر موسم سياحة حقاً، ولكن معظم الغنم في هذا الموسم لا يعود إلى مصر والمصريين، وإنما يعود إلى الأجانب: إلى شركات السياحة الأجنبية، وإلى شركة الفنادق الأجنبية؛ وما بضع عشرات الألوف التي تعود على خزينة الحكومة من أجور السكك الحديدية وتذاكر الآثار، ثم على بعض المصريين المتصلين بهذا الموسم، إلا فضلات ما يجنيه الأجانب باسمنا.

لقد بدأ المصري يكتشف بلاده، وعلمته الأزمة شيئاً من الاقتصاد والاعتدال؛ فهل سيعتبر بهذا الدرس دائماً، ويذكره أيضاً أيام الرخاء، فيظن قدر الاستطاعة بماله أن ينفق في غير بلاده؟ أم هو درس الساعة فقط، يزول أثره بزوال الظرف الذي ألقاه؟

وعلى أي حال فإنه يبقى للأزمة فضل التذكرة وفضل العبرة.

(ع)

ص: 3

‌الشخصية

للأستاذ أحمد أمين

أعجب ما في الإنسان شخصيته، وقد تنوعت الشخصيات بعدد ما على ظهر الأرض من إنسان؛ فترى الشبه الكبير بين الحجر والحجر، ويصعب عليك أن ترى بينهما فرقاً، وترى المطبعة تخرج آلافاً من الكتب تتشابه وتتماثل، ولا تميز بين أحدها والآخر؛ وترى الشبه الكبير بين الوردة والوردة في رائحتها ولونها وكل شيء فيها؛ وترى الحيوانات من فصيلة واحدة تتشابه وتتقارب حتى ليلتبس عليك بعضها ببعض - أما الإنسان والإنسان فلا، حتى ليكاد يكون كل إنسان فصيلة وحدها - فإن كان علماء (الأثنولوجيا) استطاعوا أن يقسموا الإنسان إلى أنواع، وأن يضعوا لكل نوع خصائصه ومميزاته، فذلك عمل تقريبي محض؛ أما إن أرادوا الدقة التامة فلابد لهم أن يضعوا كل فرد في قائمة وحده، له مميزاته الخاصة في جسمه وعقله، وروحه وخلقه؛ فإذا أردنا أن نحصي الشخصيات في هذا العالم فعلينا أن نحصي عدد الناس فنضع ما يساويه من عدد الشخصيات - وكانت اللغة عاجزة كل العجز عن أن تضع لكل شخصية اسماً خاصاً، فاكتفت في الجسم بأن تقول: طويل أو قصير، وسمين أو نحيف، وأبيض أو أسمر؛ مع أن كل كلمة من هذه تحتها أنواع لا عداد لها، فهناك آلاف من أنواع الطول، وآلاف من أنواع القصر، وآلاف من الألوان؛ ولكنها عجزت فقاربت، ولو حاولت أن تضع اسماً خاصاً لكل نوع من أنواع العيون وحدها، على اختلافها في الألوان واختلافها في النظرات، واختلافها في السّحر، واختلافها في السعة والضيق لوضعت في ذلك معجماً خاصاً، وهيهات أن يغنيها.

وعجز علماء الجمال فاكتفوا بقولهم جميل وقبيح، مع أن هناك آلافاً من درجات الجمال، وآلافاً من درجات القبح، بل إنك لا تستطيع أن تنزل إنسانين في منزلة واحدة من الجمال والقبح، فلما أعياهم الأمر قنعوا بقبيح وجميل، واكتفوا بالإجمال عن التفصيل.

وعجز علماء الأخلاق فوقفوا في ذلك مثل موقف إخوانهم علماء الجمال، فقسموا الأعمال إلى خير وشر، وقسموا الصفات إلى فضيلة ورذيلة، وسموا الإنسان خيّراً أو شريراً، وهيهات أن يكون ذلك مقنعاً، فالخير والشر يتنوع بتنوع الأفراد، ولو كان للأخلاق ميزان دقيق لاحتاج إلى سنج بعدد ما في العالم من إنسان.

ص: 4

الحق أن علماء كل علم عجزوا عجزاً تاماً عن يجاروا الشخصيات في كل مناحيها، وأن يسيروا وراء تحديدها تفصيلاً، ووجدوا العمر لا يتسع لهذا ولا لبعضه، فعنوا بوجوه الشبه أكثر مما عنوا بوجوه الخلاف، وعنوا بالموافقات أكثر مما عنوا بالفروق، وفضلوا أن يضعوا مسميات شاملة وإن شملها الخطأ، وأن يضعوا قواعد عامة وإن عمها الغموض والإبهام، وقالوا ليس في الإمكان أبدع مما كان.

هذه الشخصية لكل فرد هي التي ميزته عن غيره من الأفراد، وجعلتني أنا أنا، وأنت أنت، وهو هو، ولولا هذه الشخصية لكان أنا وأنت وهو شيئاً واحداً - هذه الشخصية هي مجموع صفاتك الجسمية والعقلية والخلقية والروحية، تتكون من شكلك ونظراتك ونبراتك وطريقة حديثك، ودرجة صوتك من الحسن أو القبح، وإيمائك وإشارتك كما تتكون من عقليتك وكيفية قبولك للأشياء، وحكمك عليها ومقدار ثقافتك - كما تتكون من تصرفاتك وموقفك نحو المال ودرجة حبك له؛ وعلى الجملة كل علاقتك بالحياة، وكل علاقة الحياة بك - وإذ كان الناس مختلفين في هذا كله اختلافاً يسيراً أو كثيراً كانت الشخصيات كذلك مختلفة، وبين بعضها وبعض وجود شبه في بعض الأشياء، ووجود خلاف في بعضها، وكانت بعض الشخصيات تتجاذب وتتحاب، وبعضها تتباغض وتتنافر - وفي الواقع إن معنى أحبك أو أبغضك، وأعرفك أو أنكرك، أن شخصيتي تحب شخصيتك أو تكرهها، وتعرفها أو تنكرها وصَدَق الحديث (الأزواج جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) وليس معنى حب الشخصية لشخصية أخرى أن الشخصيتين من جنس واحد، وإن ميولهما متقاربة، بل إن ذلك يرجع إلى قانون أكثر تعقيداً مما نظن، فقد يتحاب الشخصان لأن ميلهما العلمي في اتجاه واحد، أو ميلهما إلى كيف من الكيوف متحد، وقد يتحاب الشخصان لأنهما مختلفان ويكمل نقص أحدهما الآخر، كما يحب أحياناً كثيرُ الكلام قليلَ الكلام، وكما يحب الساكن الهادئ المتحفظُ المَرِحَ النشيطَ المتحرك، وكما تتعاشق الكهربائية السالبة والموجبة - على كل حال ليس قانون تجاذب الشخصيات وتنافرها قانوناً بسيطاً سهلاً يمكن الفصل فيه بكلمة.

هذه الشخصيات الإنسانية تختلف قوة وضعفاً واختلافاً أكثر مما بين الآلات الميكانيكية والمصابيح الكهربائية، فهذه شخصية عاجزة ضعيفة ذليلة، لا يكاد يتبينها الإنسان إلا

ص: 5

بعسر، ولا يكاد يراها إلا بمنظار، ولا يكاد يحسها إلا بمجهود، هي (كاللمبة) قوتها شمعة واحدة، بل هي فوق ذلك مغبشة لكي تضعف قوتها، هي من جنس ما يستعمل في حجر النوم، نور كلا نور ووجود كعدم، لا تتعب نظر النائم لأنه لا يشعر لها بوجود، ولا تستهلك مقداراً يذكر من التيار لأنها كامنة الحياة، مسكينة في فعلها وانفعالها، ضعيفة في تأثيرها وتأثرها، وهذه شخصية أخرى قوتها ألف شمعة أو ألفان أو ما شئت من قوة، تضئ فتملأ البيت نوراً، بل هي أكبر من أن تضاء في بيت إنما تضاء في شارع كبير أو ساحة عامة، إذا وضعت في بيت أقلقت راحة أهله بقوتها، وأعشت الناظر بضوئها، وعُد وضعها غير ملائم لجوها، وكان مثل ذلك مثل من وضع (فناراً) في بيت، أو أشعل أكبر وابور جاز ليصنع عليه فنجان قهوة - وبين اللمبة الأولى الضعيفة الخافتة، والثانية القوية الباهرة درجات لا تحصى، فكذلك الشخصيات، بل أكثر من ذلك - ولكن هناك فروقاً بين الشخصيات واللمبات، أهمها أن اللمبة الكهربائية لا يمكنك أن تنقلها من قوة إلى قوة، فاللمبة التي قوتها شمعة واحدة هي كذلك أبداً، والتي قوتها مائة أو مائتان هي كذلك أبداً، وكلما تستطيع أن تفعله أن تنظف اللمبة وتجلوها حتى لا يضعف غبش من قوتها، ولا يقلل غبار من ضوئها - أما الشخصية الإنسانية فقابلة للتحول، بل هي قابلة للطفرة صعوداً وهبوطاً، علواً وانحطاطاً - فبينا هي خاملة ضعيفة إذ اتصل بها تيار قوي أشعلها وقواها حتى كأنها خلقت خلقاً آخر، وكأنه لا اتصال بين يومها وأمسها، هي اليوم مخلوق قوي فعال يلقي أشعته إلى أبعد مدى، وكانت بالأمس لا يؤبه بها، ولا يحس بضوئها - كذلك ترى شخصيات أخرى يخبو ضوءها، فإذا هي مظلمة بعد نور، وضعيفة بعد قوة، ليس لها من حاضرها إلا ماضيها - وكذلك شاء الله، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويخلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم يرده أسفل سافلين - وتأريخ الإنسان مملوء بالأمثال، فكم من نابغ بعد خمول، وخامل بعد نبوغ، وميت في الحياة الأدبية والاجتماعية حي، وحي مات، وهكذا شخصيات الناس في مد وجزر دائماً.

وهذا التغير المستمر في الشخصيات هو الذي أبقى على أمل المصلحين في إصلاح الناس، وباعد بينهم وبين اليأس.

وكل شيء يواجه الإنسان في حياته يؤثر في شخصيته أثراً صالحاً أو سيئاً فالغنى بعد

ص: 6

الفقر، والفقر بعد الغنى، واليأس بعد الأمل، والأمل بعد اليأس، وما يعتريه من شدائد وكوارث، وما يبذله في صراع الحوادث، وما يلاقيه من رخاء ونعيم، وما يبعثه ذلك من هدوء واطمئنان - كل هذا وأمثاله له أثر في تكوين الشخصية يختلف ضعفاً وقوة؛ وأهم غرض للتربية الصحيحة في نظري أن تجعل ممن تربيهم شخصيات هي أقوى ما يمكن أن يكون الأشخاص من حيث استعدادهم وأهليتهم، فأنجح مرب هو الذي يستطيع أن يصل بطلبته إلى أقصى ما في استعدادهم من رقى، ويبلغ بشخصياتهم إلى آخر حدودها الممكنة - ولكن بجانب هذا التأثير العادي اليومي تحدث حوادث بارزة في تاريخ الإنسان وخاصة العظماء يكون لها الأثر البالغ والتغير الخطير - وهذه الحوادث يصعب ضبطها وتعليلها وحصرها - فقد تنقلب شخصيات الأفراد فجأة على أثر عقيدة دينية تملأ نفوسهم حماسة وقوة وعظمة كما رأينا في فعل الإسلام في رجاله أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد، فلولا الإسلام ما كانت لهم هذه الشخصيات البارزة، ولكانت عظمتهم محدودة محصورة، ولو سبقوا زمنهم بسنين لماتوا كأمثالهم من عظماء الجاهلية، وقد يكون بروز الشخصية وظهور النبوغ في الإنسان على أثر مقابلته عظيماً، فيحس بعدها كأن عود ثقاب أشعل في نفسه فألهبها، وأضاء ما بين جوانبه وحفزه للعمل، وهون عليه الأخطار، بل قد تكون العظمة نتيجة لشيء أتفه من ذلك، فقد يقرأ جملة في كتاب، أو يسمع عبارة من خطيب، فكأنها كانت مفتاح عظمته، وكاشف حيرته، بل قد تكون العظمة لم تأت من شيء خارجي بل أتت من تفكير الشخص في نفسه وتحليلها وتبين موقفها في العالم، وموقف العالم منها، وتساؤله لها ما رسالتها في العالم وكيف تؤديها - فإذا هو يشعر بعد طول التفكير كأن قبساً من نور إلهي ألهب نفسه، وأضاء العالم أمامه، فهو يسير على هدى، ويؤدي رسالته كما بُلّغ، إلى كثير من أمثال هذا مما لا يستطاع حصره.

ويظهر أن النفوس إذا نضجت تلمست الوسائل المختلفة لبروزها، وظهور عظمتها، والصوفية يقولون:(صاحب الخصوصية لا بد أن يظهر يوماً ما) ولكن كم في العالم من شخصيات كامنة لو هيئ لها عود الثقاب لاشتعلت، ولو أتيح لها القبس لأنارت، وكم من بذرة صالحة قوية لم تجد تربتها اللائقة بها، فغلبتها على الحياة بذرة فاسدة، وكم من زهرة بدأت تتفتح فأصابتها ريح هوجاء عصفت بها - وعمل المصلحين والشخصيات القوية في

ص: 7

كل أمة أن يستكشفوا هذه الكوامن فيقدموا لها الغذاء ويتعهدوها بالنماء.

أحمد أمين

ص: 8

‌الإنسانية العليا

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، ليس بالجافي ولا المَهين، يعظّم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئاً، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تُعُدّيَ الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، وكان خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول، من نظره إلى السماء، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، ولا يطوى عن أحد من الناس بشْرَه، قد وسع الناس بسطُهُ وخُلقُه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء، يحسن الحسنَ ويقويه، ويقبّح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، وكان أشد الناس حياء، لا يثبت بصره في وجه أحد، له نور يعلوه، كأن الشمس تجري في وجهه، لا يؤيس راجيه، ولا يخيب فيه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها أو بميسور من القول، أجود الناس بالخير.

صلى الله وسلم على صاحب هذه الصفات التي لا يجد الكمال الإنساني مذهباً عنها، ولا عن شيء منها، ولا يجد النقص البشري مساغاً إليها، ولا إلى شيء منها، ففيها المعنى التام للإنسانية، كما أن فيها المعنى التام للحق، ومن اجتماع هذين يكون فيها المعنى التام للإيمان.

هي صفات إنسانها العظيم، وقد اجتمعت له لتأخذ عنه الحياة إنسانيتها العالية، فهي بذلك من براهين نبوته ورسالته.

ولو جمعت كل أوصافه صلى الله عليه وسلم، ونظمتها بعضها إلى بعض، واعتبرتها بأسرارها العلمية - لرأيت منها كوناً معنوياً دقيقاً قائماً بهذا الإنسان الأعظم، كما يقوم هذا الكون الكبير بسننه وأصول الحكمة فيه، ولأيقنت أن هذا النبي الكريم إن هو إلا معجم نفسي حي ألفته الحكمة الإلهية بعلم من علمها، وقوة من قوتها، لتتخرج به الأمة التي تبدع العالم إبداعاً جديداً، وتنشئه النشأة المحفوظة له في أطوار كماله.

ولن ترى في الإنسانية أسمى من اجتماع هذه الصفات بعضها إلى بعض، وإني لأكاد كلما تأملتها أحسب هذا السمو قضاء وقدراً بإنسان على الإنسانية كلها. وهي دليل على أنه

ص: 9

الإنسان الذي خلق للدنيا لا لنفسه، فهو لا ينمو بما يكون له على الناس من الحق، ولكن بما يكون للناس عليه من الواجبات، كأنما هو حقيقة كونية تعيش عيشها، فما تكون في الوجود إلا لتقرر وجودها هي، ولا تنتهي حين تنتهي بذاتها إلا لتبدأ معانيها في غيرها، فهو صلى الله عليه وسلم إنسان غُرِسَ في التاريخ غرساً ليكون حداً لزمن وأولاً لزمن بعده، وما كانت حياته تلك إلا طريقة غرسه، وهو أبداً قائم في مكانه الاجتماعي، إذ كان الزمن كلما تقدم زاد في إثباته. وقد أصبح في الدنيا كأنه جهة من الجهات لا إنسان من الناس، فلن يتغير أو يمحى إلا إذا تغير أو مُحي المشرق والمغرب.

ونحن حين نقرأ تلك الصفات وما فاضت به كتب الشمائل من أمثالها - لا نقرؤها أوصافاً ولا حلية، بل نراها صفحة إلهية مصنفة أبدع تصنيف وأدقه، ومن وراء تأليفها تفسير طويل لا يتهدّى الفكر البشري لأحسن منه ولا أصح ولا أكمل، فقد اجتمعت تلك الصفات في إنسانها اجتماع الأجزاء في المسألة الرياضية لا ينبغي أن تزيد أو تنقص، إذ كان في مجموعها ما وجد له مجموعها.

ويكاد الارتباط بين أجزاء هذه المسألة يكون هو بعينه صورة للارتباط بين أجزاء تلك الصفات الشريفة، فان كل جزء منها موضوع وضعاً لا يتم الكل إلا به، حتى لا موضع فيها لقلةٍ أو كثرة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:(أدبني ربي فأحسن تأديبي) وأنت إذا دققت في هذا الحديث أدركت من معناته أن هناك طبيعة أخلاقية مفردة تجري على قانونها الذي وضعه الله لها وأحكمها به.

وأعجب ما يدهشنا من مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم أن فيها دليلاً بيناً على أنه مخلوق خلقة متميزة بنفسها كخلقة القلب الإنساني، نظامه حياته وحياته نظامه، وكأنما اعترته حالة نفسية كالتي تعتري القلب في استشعار الخطر فتخرجه من طبيعته إلى أقوى منها، فلا يزال يمد أعضاء الجسم بمدد لا ينفد - من القوة والصبر يجعل الحياة فيها على أضعافها كأنها حياة كانت مخبوءة وظهرت بغتة؛ وفي هذه الحالة تتجه غرائز النفس كلها إلى جهة واحدة كأنها مقدرة بميزان، مضبوطة بقياس؛ فترجع على تناقضها واختلافها متعاونة يؤازر بعضها بعضاً، وكان قانونها الطبيعي أن تتجاذب وتتساقط وتفسر الواحدة منها عمل الأخرى، فيجيء بها الشيء وضده معاً: كالصدق والكذب، والطمع والقناعة،

ص: 10

والشهوات الثائرة والخمود الساكن، إلى آخر ما تعد من هذه الغرائز؛ ولكنها في استشعار الخطر تكون كالأشباه لا كالأضداد، فيشد بعضها بعضاً، ويتمم النقيض منها نقيضه، وتجري كلها في قانون واحد: هو الدفاع بأجزائها عن مجموعها؛ فترى النازع منها وإنه لمستقر في أشد من القيد، وكأن فيه غير طبيعته.

وهل ينبئك مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم إلا أنه يعيش معيشة القلب إذا اختلف ما حوله وفجأته بغتات الوجود فتجاوز أن يكون منبعاً للحياة إلى أن يكون حافظاً للحياة في منبعها. وتلك الحالة - كما مر بك - تجعل وجود الإنسان هو وجود إرادته وعقله، لا وجود شهواته وغرائزه؛ وبذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو مدة حياته في وجود إرادته لا غيرها، حتى ليس عليه سبيل لغميزة أو لائمة، كأنه خُلق تشدّه نية مستيقظة قد نبهها ما ينبه النفس من الغرر والخطر. ولعل هذا الشعور في نفسه صلى الله عليه وسلم هو التفسير لقوله:(نيةُ المؤمنِ خيرٌ من عمله) إلى أحاديث كثيرة مما يجري في معنى هذه الكلمة الجامعة؛ يريد بها: أن نية المؤمن لا تنطوي إلا على الخير الكامل، فهو ما دامت نيته على صلاحها، وسرُّه على إخلاصه - لا يعد اليسير من الشر يسيراً، ولا يرى الكثير من الخير كثيراً؛ فالأصل القائم في تلك النية المؤمنة ألاّ يبدأ الشر كي لا يوجد، وألاّ ينتهي الخير كي لا يفنى؛ فالمؤمن من ذلك على الخير والكمال أبداً، في حين أن عمله بطبيعته الإنسانية يتناول الخير والشر جميعاً، ثم لا يكونون إلا عملاً إنسانياً على نقص واضطراب والتواء.

وقد لا يستطيع المؤمن أن يأتي الخير في بعض أحواله، ولكنه يستطيع دائماً أن ينويه ويرغب فيه ويعزم عليه ليحقق ضميره الطيب في كل ما يهم به، ويحصر أفكاره في قانون نيته المؤمنة. وهذا هو الأساس في علم الأخلاق، لا أساس من دونه.

والنية من بعد هي حارس العمل، فكل إنسان يستطيع أن يذعن وأن يأبى، ومن ثم تكون هذه النية رداً ومدافعة من ناحية، واستجابة ومطاوعة من الناحية الأخرى؛ فهي على الحقيقة متى صلحت كانت استقلالاً تاماً للإرادة. وكانت مع ذلك ضبطاً لهذه الإرادة على حال واحدة هي التي ينتظم بها قانون المبدأ السامي.

ثم إنه لا ضابط لصحة العمل واستقامته إلا النية الصحيحة المستقيمة؛ فالتزوير والتلبيس

ص: 11

كلاهما سهل ميسور في الأعمال، ولكنهما مستحيلان في النية إذا خلصت.

وهي كذلك ضابط للفضائل توجه القلوب على اختلافها وتفاوتها اتجاهاً واحداً لا يختلف، فيكون طريق ما بين الإنسان والانسان، من ناحية الطريق ما بين الإنسان وبين الله.

وأشواق الروح بطبيعتها لا تنتهي، فيعارضها الجسم بجعل حاجاته غير منتهية، يحاول أن يطمس بهذه على تلك، وأن يغلّب الحيوانية على الروحانية، فإذا كانت النية مستيقظة كفّتْه وأماتت أكثر نزعاته، ووضعت لكل حاجة حداً ونهاية؛ وبذلك ترجع النية إلى أن تكون قوة في النفس يخرج بها الإنسان عن كثير مما يحدُّه من جسمه، ليخرج بذلك عن كثير مما يحده من معاني الأرض.

وهي بعد هذا كله تحمل الإنسان أن ينظر إلى واجبه كأنه رقيب حي في قلبه، لا يرائيه ولا يجامله، ولا يخدع من تأويل، ولا يُغر بفلسفة ولا تزيين، ولا يُسكته ما تسول النفس، ولا يزال دائماً يقول للإنسان في قلبه: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظّم الحياة من حولك الفوضى في قلبك.

وجملة القول في معاني النية أنها قوة تجعل باطن الجسم متساوقاً مع ظاهره، فتتعاون الغرائز المختلفة في النفس تعاوناً سهلاً طبيعياً مطرداً، كما تتعاون أعضاء الجسم على اختلافها في اطراد وسهولة وطبيعة.

وكل صفات النبي صلى الله عليه وسلم مما ذكرناه وما لم نذكره - متى اعتبرت بذلك الأصل الذي بيّناه انتظمها جميعاً، فجاء بعضها تماماً على بعض في نسق رياضي عجيب، وظهرت حكمة كل منها واضحة مكشوفة، ورأيتها في مجموعها تصف لك عمراً هندسياً دقيقاً قد بلغ الغاية من الكمال والروعة والدقة، لا يُعَدُّ جزءٌ منه جزءاً، بل كله أجزاؤه، وأجزاؤه كله؛ كالوضع الهندسي؛ إما أن يكون بكله، وإما ألا تكون فيه الهندسة كلها.

وليس مجموع تلك الصفات في معناه إلا صنعة الإنسان صنعة جديدة تخرجه موجوداً من ذات نفسه، وتكسر القالب الأرضي الذي صب فيه وتفرغه في مثل قالب الكون، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسمه، فلا تخضعه المادة، ولا يؤتى من سوء نظره لنفسه، ولا تغرّه الدنيا، ولا يمسكه الزمان؛ إذ كانت هذه هي صفات المستعبَدِ بأهوائه لا الحر فيها، والخاضع بنفسه لا المستقل بها، والمقبور في إنسانيته لا

ص: 12

الحي فوق إنسانيته. ومثل هذا المستعبد الخاضع المقبور لا وجود له إلا في حكم حواسه، فعمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله؛ ويتصل بكل شيء اتصالاًُ مبتوراً ينتهي في هوى من أهواء الحيوان الذي فيه.

ومن المقابلة العجيبة أن يكون في الإنسان الاجتماعي حيوان تقابله الحكمة في الحيوان الأليف بإنسان؛ وحكمهما واحد ومنطقهما لا يختلف. فلو أنك سألت حيوان الأعصاب عن صاحبه الإنسان لقال لك: هو غلّتي ومزرعتي. ولو سألت كلباً عن حبّه صاحبه ومبلغ هذا الحب في نفسه لما زاد في جوابه على أنه يحبه حبّ اللقمة والعظمة. . .

ومتى كان الإنسان في حكم حواسه لم تعد الأشياء عنده كما هي في نفسها بمعانيها الطبيعية المحدودة، وانقلبت كما هي في وهمه بمعان متفاوتة مضطربة، فلا يشعر المرء بائتلاف الوجود وتعاونه، ولكن باختلافه وتناقضه، فمن ثم لا تكون أسباب اللذة إلا من أسباب الألم، ويدخل في كل حب بغض، وفي كل رغبة طمع، وفي كل خير شر، وفي كل صريح خبئ، وهلم جراً؛ إذ لابد من هذا كله متى غلب الفاني على الباقي، ولابد من كل هذا في تمثيل رواية الحواس الخادعة التي أساسها التغّير والتقلّب، حتى لكأن النفس إنما تعيش بها في ظاهر من الحياة لا في الحياة نفسها.

وهذا الخداع جاعل كل شيء من أشياء النفس لا يبدأ إلا لينتهي، ثم لا ينتهي إلا ليبدأ؛ فما تزال هذه النفس طامعة فيما لا تناله، ولا يزال من ذلك مصدر لآلامها الحسية؛ ثم إذا هي نالت منالها سئمت، فلا يزال من ذلك مصدر آخر لآلامها المعنوية. ولن يجئ الصحيح من غير الصحيح، فالكون كله ليس إلا كذباً في النفس الكاذبة بحواسّها.

ولذا كان أخص أوصافه صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى خروجه من سلطان نفسه، فلا يغضب لها، ولا يطلقها من الدنيا فيما تذمه أو تمدحه، ولا يحب فيها، ولا يبغض من أجلها، ولا يهاونها، ولا يستلين لها في مأكل ولا ملبس، ولا يأخذها إلا من ناحية الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية؛ فأفراحها أحزانها، وآمالها أشواقها، وأملاكها أعمالها، وحسابها في طبيعتها، وحوادثها من العقل لا من الحواس، وعظمتها إثبات ذاتها في غيرها، لا إثبات غيرها في ذاتها؛ وغايتها في الباقي لا الزائل، وفي الخالد لا الفاني. وما دام الحاضر متحركاً فهو طارئ عابر أو شكُ أمورِ الدنيا زوالاً، والعمل له على مقداره في قلة لبثه

ص: 13

وهوان أمره، والاهتمام أبداً بما وراءه لا به.

فأول النفس النية العاملة لآخرتها، وآخر النفس ما تؤدى إليه أعمال هذه النية؛ فليس في إنسان الدنيا إلا إنسان العالم الآخر؛ وبهذا يقدّر صمته وكلامه، وحركته وسكونه، وما يأتي وما يدع، وما يحب وما يكره؛ إذ كل شيء منه على الاعتبار إنما هو صورة الحقيقة العاملة فيه.

وجماع الأمر ألا يكون مستقبل الإنسان علامة استهزاء بجانب ماضيه، ولا علامة استفهام، ولا علامة إنكار.

وتدل صفات النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعها وتساوقها على حقيقة عظمى لم يتنبه إليها أحد؛ وهي أن جميع خصائصه النفسية مرهفة متيقظة، وهذا مما يندر وقوعه وإمكانه؛ فان الرجل من الناس ليكون حياً بالحياة، ولكن جوانب كثيرة من نفسه قد طاح بها الموت، أو هي مريضة، وذلك أول الموت؛ أو غافلة، وذلك شبه الموت. أما الحيّ العظيم فهو الذي يحيا بأكثر خصائص نفسه، وأما الحي الأعظم فهو الذي يحيا بجميع خصائصها، تملؤه الحياة فيملأ الحياة، ويتمدد السر فيه ليريه حقائق الأشياء، ويهديه ويدلّه، فيكون بنفسه رؤية للناس وهداية ودلالة؛ ومثل هذا يعظم ثم يعظم حتى ليرى الفرق بينه وبين غيره كالفرق بين نور لبس اللحم والدم، وبين تراب لبس الدم واللحم.

وذلك لا يكاد يتفق إلا في مراتب أعلاها الامتياز في النبوة، ثم النبوة؛ ثم تنزل إلى الامتياز في الحكمة، ثم تهبط إلى عبقرية الشعر. فأكبر الشعراء قاطبة كالنبي في معناه إلا أنه نبي صغير، وإلا أنه في حدود قلبه.

وهذه القوى الثلاث هي التي أبدعتها الحكمة الإلهية لتحويل الحياة والسموّ بها؛ فالشاعر يستوحي الجمال إذا تألّه الجمال في قلبه، والحكيم يستوحي الحقيقة إذا تألّهت في نفسه، والنبي يستوحي الألوهية نفسها.

(كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان) ولكنها أحزان النبوّة تكسو الحياة فرح النفس الكبيرة، وهو فرح كله حزن وتأمل، وفكرة وخشوع، وطهر وفضيلة. وما فرح أعظم الشعراء بطرب الوجود وجمال الموجودات إلا شيء قليل من حزن النبي.

(وكان دائم الفكرة ليست له راحة) إذ هو مكلّف أن يصنع الإنسان الجديد وينقح الآدمية

ص: 14

فيه. وفكرة النبي هي معيشته بنفسه مع الحقائق العليا، إذ لا يرى أكثرها تعيش في الناس. وهي الفردية واستقلالها وسموّها لأنها إطاقة النفس الكبيرة لوحدتها، بخلاف الأنفس الضعيفة التي لا نطيقها، فدأبها أبداً أن تبحث عما تستعبد له، أو تنسى ذاتها فيه، أو تستريح إليه من ذاتها. ومتى كانت النفس فارغة كان تفكيرها مضاعفة لفراغها، فهي تفر منه إلى ما يلهيها عنه. ولكن العظيم يعيش في امتلاء نفسه، وعالمه الداخلي تسميه اللغة أحياناً: الفكرة، وتسميه أحياناً: الصمت.

(وكان صلى الله عليه وسلم طويل السكت لا يتكلم في غير حاجة) ومن الصمت أنواع، فنوع يكون طريقة من طرق الفهم بين المرء وبين أسرار ما يحيط به؛ ونوع يغشى الإنسان العظيم ليكون علامة على رهبة السر الذي في نفسه العظيمة، ونوع ثالث يكون في صاحبه طريقة من طرق الحكم على صمت الناس وكلامهم، ونوع رابع هو كالفصل بين أعمال الجسد وبين الروح في ساعة أعمالها؛ ونوع خامس يكون صمتاً على دويٍّ تحته يشبه نوماً ساكناً على أحلام جميلة تتحرك.

على هذا النمط يجب أن تفسر كل أوصافه صلى الله عليه وسلم؛ فهي بمجموعها طابع إلهي على حياته الشريفة يثبت للدنيا بكل براهين العلم والفلسفة أنه الإنسان الأفضل، وأنه الأقدر، وأنه الأقوى.

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 15

‌بضع كلمات

خير زمام لمطية الشجاعة الحلم

لا تستقل أمة نفوس أفرادها غير مستقلة

لا يخرج أبو الهول من صمته حتى نتكلم

الحياة كأس تحلو وتمر، ثم تتحطم

لا تنهر السائل فقد ينهرك غداً

العفاف كالمعدة يشبع ويجوع، فإذا لم يجد ما اعتاده من طعام الزوجية الطيب انصرف إلى غيره من خبيث الطعام

المرأة شيطان جميل

السكير يملأ في آخر أيامه قواريره عقاقير

ما رأيت أستاذاً يعلمني الحلم خيراً من زوجتي وأولادي

شباب التاريخ يتجلى في آثاره القديمة

الطبيعة الجميلة ليست ملكي ولكنها ملك عينيّ، فلم لا أتمتع بها؟

الأولاد مصابيح البيت

المرأة كالطفل، نفر منه فيتبعنا، ونتبعه فيفر

أعمى البصيرة أعمى مرتين

المخدرات كالمرابي، ولكنها تتقاضى ربحها من صحتك

محمود خيرت

ص: 16

‌شخصية نسوية أندلسية

صبح أو صبيحة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتمة

تولى محمد بن أبي عامر مقاليد الحكم مع الحاجب جعفر بمعونة صبح وتدبيرها كما بينا، وبدأ الصراع بين الرجلين على الاستئثار بالسلطة. وكان أبن أبي عامر هو القوى بلا ريب، سواء بمواهبه وقوة نفسه أم بمؤازرة صبح له. ولم تكن هذه المؤازرة ترجع فقط إلى ذلك الحب القديم الذي تضطرم به جوانح صبح نحو ذلك الرجل القوي، ولكنها كانت ترجع أيضاً إلى ثقة صبح في مقدرته وبراعته، وفي أنه هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يحمي ملك ولدها الفتى، وأن يوطد السلام والأمن في المملكة. فكان ابن أبي عامر في الواقع هو السيد المطلق، وكانت صبح تفوض إليه كل سلطة وكل أمر، فكان يدير الشئون كلها بمهارة تثير إعجاب خصومه وأصدقائه على السواء.

وكان الأمير الفتى، هشام المؤيد بالله، ميالاً بطبعه وسنه إلى اللهو والدعة، ولم يكن له شيء من تلك الخلال الرفيعة التي تهيئ الأمراء للاضطلاع بمهام الملك، فكان يلزم القصر والحدائق، ويقضي كل أوقاته في اللهو واللعب بين الخصيان وآلات الطرب. وكان أبن أبي عامر يشجع هذا الميول السيئة في نفس الأمير ويراها ملائمة لمقاصده؛ ومذ ولى هشام، حجر عليه أبن أبي عامر؛ ولم يسمح لأحد غيره برؤيته أو مخاطبته، وكان يحمل صبحاً بدهائه وقوة عزمه على أن تخلق الأعذار لحجب ولدها، حتى غدا هشام شبه معتقل أو سجين في قصره لا يعرف شيئاً من العالم الخارجي إلا ما يسمح له من ضروب اللهو واللعب. وفي ذلك يقول لنا مؤرخ أندلسي:(حجر المنصور بن أبي عامر على هشام المؤيد بحيث لم يره أحد مذ ولى الحجابة. وربما أركبه بعض سنين وجعل عليه برنساً فلا يعرف، وإذا سافر وكل من يفعل به ذلك). ويروي كوندي أن سيداً فارسياً يدعى سابور كان من أمناء القصر أيام الحكم، جاء من ماردة إلى قرطبة يوم البيعة لهشام ليؤدي يمين الطاعة، وحاول رؤية الأمير فلم يستطع. وفي الفرص النادرة التي كان يسمح فيها للأمير بالخروج

ص: 17

كان ابن أبي عامر يتخذ أشد التحوطات، فيحيط موكب الأمير حين يخترق شوارع قرطبة بصفوف كثيفة من الجند تمنع الشعب من رؤيته أو الاقتراب منه. وكان الحجر على هشام عماد ذلك الانقلاب العظيم الذي اعتزم ابن أبي عامر أن يحدثه في نظم الدولة لتمكين سلطانه وطغيانه وجمع سلطات الخلافة كلها في يده.

ولا يتسع المقام للإفاضة في شرح الوسائل والإجراءات المتعاقبة التي تذرع بها ابن أبي عامر لتحقيق مشروعه؛ ولكنا نقول فقط إنه سار إلى غايته بسرعة مدهشة، ولجأ في تحقيقها إلى أشد الوسائل؛ واستطاع بعزمه وصرامته وبراعته أن يستحق كل عقبة، وأن يروع كل منافس ومناوئ. وفي ذلك يقول لنا ابن خلدون:(ثم تجرد (أي ابن أبي عامر) لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه، فمال عليهم، وحطهم عن مراتبهم، وقتل بعضهم ببعض، كل ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقيعه حتى استأصل شأفتهم ومزق جموعهم). وكان أشد ما يخشى منافسة الحاجب جعفر، ودسائس الخصيان الصقالبة بالقصر؛ فبدأ بالتخلص من الصقالبة وحمل جعفر على نكبتهم وتشريدهم، فقتل منهم عدد كبير واعتقل الباقون أو شردوا؛ ولبث بعد ذلك حيناً يتربص بجعفر، ويحرض صبحاً عليه، وينوه كلما سنحت الفرص بقصوره وسوء تدبيره، ثم اعتقله أخيراً وأودعه السجن حتى مات؛ وجدّ بعد ذلك في مطاردة كل من يخشى بأسه من بني أمية أو غيرهم من زعماء القبائل، وسحق كل من يصلح للولاية والرآسة. وفي ذلك يقول ناقم منه:

أبنى أمية أين أقمار الدجى

منكم وأين نجومها والكوكب

غابت أسود منكم عن غابها

فلذاك حاز الملك هذا الثعلب

وعمد ابن أبي عامر إلى الجيش فنظمه من جديد ليؤكد عونه وإخلاصه، وأبعد عنه كل العناصر المريبة، وملأه بصفوف جديدة من البربر والمرتزقة؛ وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أنشأ مدينة جديدة في ضاحية قرطبة على ضفة الوادي الكبير وسماها بالزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة والدواوين؛ وأنشأ له حرساً خاصاً من البربر والصقالبة؛ واتخذ سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والأوامر باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر، ونقش اسمه في السكة؛ وتم بذلك استئثاره بجميع السلطات والرسوم، ولم يبق من الخلافة الأموية سوى الاسم.

ص: 18

ماذا كان موقف صبح إزاء ذلك الانقلاب؟ لقد كانت أكبر عون لابن أبي عامر على إحداثه؛ وكان حبها المضطرم لذلك الرجل الذي ملك عليها كل مشاعرها وعقلها يدفعها دائماً إلى مؤازرته والإذعان لرأيه ووحيه؛ وكان إعجابها الشديد بمقدرته وتوفيقه يضاعف ثقتها به، ويعميها دائماً عن إدراك الغاية الخطرة التي يسعى إلى تحقيقها؛ هذا إذا لم نفترض أن تلك الفرنجية المضطرمة الجوانع كانت تذهب في حبها إلى حد الائتمار بولدها وتضحية حقوقه ومصالحه. والظاهر أن علائقها بابن أبي عامر، أو المنصور كما نسميه فيما بعد، انتهت بالخروج عن كل تحفظ، وغدت فضيحة قصر ذائعة، شهر بها مجتمع قرطبة وتناولها بلاذع التعليق والهجو؛ وظهرت في ذلك الحين قصائد وأناشيد شعبية كثيرة، في التشهير بحجر المنصور على هشام، وعلائقه بصبح. فمن ذلك ما قيل على لسان هشام في الشكوى من الحجر عليه:

أليس من العجائب أن مثلي

يرى ما قل ممتنعاً عليه؟

وتملك باسمه الدنيا جميعاً

وما من ذاك شيء في يديه؟

ومن ذلك ما قيل في هشام وأمه صبح؛ وقاضيه ابن السليم:

اقترب الوعد وحان الهلاك

وكل ما تحذره قد أتاك

خليفة يلعب في مكتب

وأمه حبلى وقاض. . .

وهذه المقطوعات اللاذعة وأمثالها تعبر عن روح العصر، وتدل على ما كان يثيره موقف صبح وسمعتها من الحملات المرة. وتتفق الرواية الإسلامية في الإشارة إلى هذه العلائق الغرامية بين صبح والمنصور، وإن كانت تؤثر التحفظ والاحتشام؛ ولم نجد ما يعارضها سوى كلمة لكاتب مغربي يدافع فيها عن المنصور ويدفع عن صبح تهمة شغفها به، ويرمي أولئك الشعراء بالتحامل والكذب.

ولم يخمد جذوة هوى صبح زواج صاحبها المنصور، بل كان موقفها من هذا الزواج دليلاً جديداً على إخلاصها ووفائها، وكانت زوج المنصور أسماء ابنة غالب مولى الحكم وصاحب (مدينة سالم)، وهي فتاة بارعة الجمال والخلال؛ زفت إلى المنصور سنة 376، في حفلات كانت مضرب الأمثال في البذخ والبهاء؛ ونظم الاحتفال في قصر الخليفة ذاته بإشراف الخليفة، وبعبارة أخرى بإشراف أمه صبح؛ وأغدقت صبح على العروس رائع

ص: 19

الهدايا والتحف؛ وكان زواجاً سعيداً موفقاً لبث مدى الحياة وإن كان غالب قد خرج بعد ذلك بأعوام قلائل على صهره المنصور، ووقعت بينهما حرب هزم فيها غالب وقتل.

لبث المنصور زهاء عشرين عاماً يقبض بيديه القويتين على مصاير الأندلس، ويسير من ظفر إلى ظفر، ويثخن في ممالك أسبانيا النصرانية؛ ولم تبلغ أسبانيا المسلمة ما بلغته في عهد المنصور من القوة والسؤدد، ولم تبلغ أسبانيا النصرانية ما بلغته في عهده من التمزق والضعف؛ وقد غزا المنصور زهاء خمسين غزوة، وجاز إلى أمنع وأنأى معاقل أسبانيا النصرانية، ومع ذلك لم يشغله تعاقب الغزو عن مهام السلام؛ فكانت الأندلس في عهده تتمتع بفيض من الرخاء والأمن؛ ووطد أيضاً سلطة حكومة قرطبة في المغرب الأقصى، وكان قد فُتح في عهد الحكم المستنصر؛ ولكن المنصور كان يفرض على الأندلس حكماً من الطغيان المطبق، وكانت وسائله العنيفة الصارمة، الدموية في أحيان كثيرة، تذكى من حوله أوار البغض والتربص؛ وكان اجتراؤه بالأخص على مقام الخلافة واستلاب سلطاتها، والحجر على صاحبها الشرعي، تقدمه دائماً إلى الشعب في ثوب الطاغية المغتصب، فكان الشعب يعجب به ولا يحبه. على أن المنصور كان يسير دائماً في طريقه، معتمداً على قوته ووسائله، لا يحفل برأي الزعماء أو الشعب؛ فلما استتب له كل أمر، واجتمعت في يده كل السلطات ثاب له رأي في الاستئثار بما بقى من رسوم الملك ومظاهره، فبدأ بالتخلي عن لقب الحاجب، وخلعه على ولده عبد الملك، وهو فتى في الثامنة عشرة؛ وتسمى بالمنصور فقط؛ ثم أصدر أمره بأن يخص دون سائر أهل الدولة بلقب (السيادة) في المخاطبات، وتسمى عندئذ (بالملك الكريم) وكانت هذه دلائل واضحة على حقيقة الغاية التي يعمل لها المنصور ويرجو أن ينتهي إليها، وهي أن ينسخ الخلافة الأموية حكماً كما نسخ سلطانها فعلاً، وأن ينشئ دولة عامرية تتمتع بمراسيم الملك والخلافة.

ولم تك ثمة معارضة يخشى بأسها المنصور؛ وكان هشام المؤيد قد أشرف على الثلاثين من عمره، ولكنه لبث خاملاً ضعيف العزم والإرادة، لا تسنده أية قوة؛ وقد سحق المنصور كل زعامة وكل قوة خصيمة، وجمع حوله الجيش. ولكن كانت ثمة قوة لم يحسب المنصور حسابها: تلك هي صبح أو (أورور) صاحبته القديمة، وعونه السابق في الوصول إلى ذرى الحكم، وفي الحجر على الخليفة واستغلال ضعفه. ثارت صبح لما تبينته من نيات

ص: 20

المنصور وغايته، وكانت صبح يومئذ في نحو الخمسين من عمرها، وقد تضرم ذلك الحب الذي شغفها بالمنصور دهراً، وأضحت تبغض ذلك الرجل الذي سلب ولدها كل سلطة؛ وأخذت تبث في نفس ولدها هشام مثل هذه العاطفة، وتدفعه بكل ما وسعت إلى مناوأة المنصور ومنازعته واسترداد سلطانه، وتولى مقاليد الحكم بنفسه؛ وأذاعت بواسطة أعوانها من الناقمين على المنصور دعوة شديدة، واتهمته بأنه يسجن الخليفة الشرعي ويحكم رغم إرادته ويغتصب سلطته. ولم تقف عند هذا الحد، بل فكرت في القيام بمحاولة عملية لمقاومة المنصور وإسقاطه، ففاوضت زيرى بن عطية حاكم المغرب الأقصى من قبل المنصور وأرسلت إليه الأموال سراً ليحشد الجند وليتأهب للعبور إلى الأندلس؛ وكان زيرى بن عطية أقوى زعماء المغرب، وكان مخلصاً لبني أمية يقوم بدعوتهم ويؤيدها، فلبى دعوة صبح، وأخذ يشهر بالمنصور وسياسته وحجره على الخليفة. ولكن المنصور فطن إلى المؤامرة قبل نضجها فبادر برؤية هشام المؤيد سراً، وتفاهم معه، وانتهى بأن أخذ منه تفويضاً كتابياً جديداً بالحكم؛ ونقل الأموال من القصر إلى الزاهرة حتى لا تمتد إليها يد خصومه. ثم تحول إلى زيرى بن عطية فعزله من منصبه وقطع رواتبه؛ فرد زيرى بأن محا اسمه من الخطبة وطرد عماله بالمغرب، وتأهب للحرب. وبعث المنصور إلى المغرب الأقصى جيشاً ضخماً بقيادة مولاه واضح فهزمه زيرى وارتد إلى طنجة؛ واستمرت الحرب حيناً بين الفريقين، وسار المنصور بنفسه إلى الجزيرة الخضراء وبعث إلى المغرب جيشاً كثيفاً بقيادة ولده عبد الملك، ونشبت بين الفريقين معارك شديدة هزم في نهايتها زيرى ومزق جيشه وفر إلى الصحراء الداخلية (388هـ - 997م).

وهكذا فشلت صبح في محاولتها، ولم يسفر ذلك الصراع المتأخر إلا عن توطيد سلطان المنصور وسحق البقية الباقية من خصومه ومعارضيه. ولم تك صبح في الواقع أهلاً لمقاومة ذلك الرجل القوي، خصوصاً بعد أن مكن له في كل شيء، ولم يكن الخليفة الأموي سوى شبح فقط. ونستطيع أن نقول إن الدولة الأموية بالأندلس قد انتهت فعلاً بانتهاء عهد الحكم المستنصر، ولم يكن استمرارها صورة على يد هشام المؤيد، أيام المنصور، ثم تجددها بعد ذلك على يد الزعماء الثائرين من بني أمية، إلا مرحلة السقوط النهائي. ولما أيقنت صبح أن المقاومة عبث، وأنه لا منقذ لولدها من ذلك النير الحديدي، لجأت إلى

ص: 21

السكينة والعزلة؛ فلا نسمع عنها بعد ذلك في تأريخ الأندلس؛ ولا نعرف تأريخ وفاتها بالتحقيق؛ ولا نعرف إن كانت وفاتها قبل وفاة المنصور (سنة 393هـ - 1002م) أو بعدها، وكل ما تقوله الرواية الإسلامية في ذلك إن وفاتها كانت أيام ولدها هشام. والظاهر أنها توفيت قبيل وفاة المنصور حوالي سنة 390هـ، لأننا لا نعثر باسمها بعد ذلك في حوادث الأندلس. وقد أورد صاحب يتيمة الدهر للشاعر الأندلسي أبي عمر بن محمد بن دراج القسطلي قصيدة يرثى فيها صبحاً (أم هشام المؤيد بالله) نقتطف منها ما يأتي:

هل الملك يملك ريب المنو - ن أم العز يصرف صرف القضاء

ألم تر كيف استباحت يدا - هـ حريم الملوك وعلق النساء

هو الرزء أودى بعزم الملو - ك مصاباً وأودى بحسن العزاء

وحاشا لرزئك أن يقتضيه

عويل الرجال ولدم النساء

لبيض أياديك في الصالحا

ت تمسك وجه الضحى بالضياء

فتلك مآثرها في التقى

وبذل اللهى ما بها من خفاء

جزاك بأعمالك الزاكيا

ت خير المجازين خير الجزاء

ولقيت من ضنك ذاك الضريح

نسيم النعيم وطيب الثواء

(تم البحث)

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 22

‌في السعادة

للورد افبري من كتابه (فائدة الحياة)

ترجمة الأستاذ بشير الشريقي

لا تسير الرفاهية مع السعادة دائماً، وإن كثيراً من الناس بؤساء وإن كانوا يملكون في الظاهر كل ما من شأنه أن يجعلهم سعداء.

يمكن أن تقدم الطبيعة إلى أحب عشاقها الغنى والقوة والشهرة والحياة الطويلة، ولكنها لا تستطيع أن تجعله سعيداً. إذ يجب أن يعتمد في ذلك على نفسه.

إذا لم تكن عناصر السعادة موجودة في نفس الرجل فإن كل ما في العالم من جمال ومشاهد وملذات ومبهجات لن تستطيع أن تهبها له.

أكثر ما تتوقف عليه السعادة إنما هو ضبط الرجل لأفكاره وقيادته لها متجنباً ما هو مؤلم، مستعيداً أجمل الذكريات.

يقول (شوبنهور) - يرى أحدهم العالم قاحلاً مظلماً حقيراً، ويراه الآخر غنياً مبهجاً مملوءاً بالمعاني.

السعادة شيء يحتاج إلى المران كالعزف بالناي.

إذا سرنا على الصراط المستقيم وصلنا إلى ما تصبوا إليه نفوسنا ولكن حذار أن نبحث عن هذا الصراط باهتمام شديد.

يقول (فرانكلن) - اتبع السرور يتبعك.

لا تفكر كثيراً في نفسك، أنك لست الوحيد في هذا العالم،

يقول (راسين) - لا تفتش عن اللهو، ولكن كن مستعداً دائماً أن تلهو.

إنه من الصعب أن تجعل الحياة تعاقب لذائذ،

يقول (تشفورت) - إن أضيع يوم في حياتنا هو اليوم الذي لا نضحك فيه.

إذا كان اليوم مظلماً فأضئه.

يقول أحد القساوسة - إن البشاشة هي تسعة أعشار المسيحية.

يحتاج النزاع إلى شخصين فلا تكن أنت أحدهما.

لا تدع الشمس تغرب على غضبك.

ص: 23

إن أنت فكرت في نفسك كنت تعساً، وإن أنت فكرت في غيرك كنت سعيداً.

يتذمر بعض الناس دائماً، ولكنهم مساكين لم يدركوا أنه لو قدر لهم فولدوا في جنات عدن لوجدوا هنالك أشياء كثيرة يتشكون منها ويتذمرون.

الغبطة مقوٍ أخلاقي عظيم، وكما أن الشمس تفتح الأزهار وتنضج الأثمار، كذلك الغبطة.

الشعور بالحرية والحياة يبعث فينا كل بذور الوجود.

ما دام الإنسان محافظاً على بشاشته فهو محافظ على قوته وشبابه.

يظن بعض الناس أن السرور دليل عدم التفكير وهذا خطأ، إذ ليس من علاقة ضرورية بينهما.

لا نستطيع أن نمنع آلام هذه الحياة عنا، ولكننا - إذا أردنا - نستطيع أن نسمو فوقها؛ ولذلك يجب أن نعلق على جدران غرفة ذكرياتنا صوراً جميلة ضاحكة. وكما يلأم الزمن الجراح يشفي الزمن الأحزان.

يقول (كوكريتوس) يخاف بعض الرجال في النور بقدر ما يخاف الأطفال في الظلام.

إن العقل المثقف، ولا أعني بالمثقف عقل الفيلسوف، بل كل عقل فتحت له منابع المعرفة فعرف كيف يمرن قواه، سيجد في كل ما يحيط به منابع للسرور والتسلية لا ينضب معينها؛ سيجد في بدائع الفن غبطة، وفي جمال المرأة راحة، وفي خيال الشعراء وحوادث التأريخ سلوة، وفي عقائد الناس تفكهة.

الطبيعة نعمة لمن لا يكفر النعمة.

لا الغنى ولا الجاه بضامنين لك السعادة.

قد تكون غنياً وعظيماً وقوياً من غير الحب والإحسان والاطمئنان، ولكنك لن تكون سعيداً.

لقد اتفق أحكم الحكماء على أن السعادة لا يمكن أن تشترى بالمال ولا أن تنال بالقوة.

يقول (هريو) لسيمونيدس: لقد أغرت مفاخر الأمارة وعظمة الملوك ورفاهيتهم السواد الأعظم من الناس؛ أنا لا أعجب من ذلك، لأن الناس كما يظهر لي يحكمون على بعضهم بمجرد الظواهر فقط؛ إنني أؤكد لك باسيمونيدس أن الملوك يملكون أقل نصيب من (المسرات العظيمة)، وأعظم سهم من (البلايا العظيمة).

لا ينبغي أن نخاف الموت، فالموت كما يقول (باسكال) هو المصيبة الوحيدة التي لا نشعر

ص: 24

بها.

ما دمنا كائنين فما ثمة موت. وإذا جاء الأجل فما ثمة وجود.

يجب ألا ننشد السعادة في الخارج بل في نفوسنا، في عقولنا.

الجنة فيك، فإن أنت لم تستطع أن تكون سعيداً على الأرض فكيف تنتظر أن تكون سعيداً في السماء؟

يقول (سقراط): (خير الرجال من يسعى لضبط نفسه، وأسعدهم من يشعر بأنه ضابط لها).

خذ الغبطة إلى بيتك

واسمح لها أن تنمو ودارها.

إنها ستخفف من آلامك وأحمالك

وتغني لك وأنت تجاهد في حراثة أرضك.

إنه لعمل عادي أن تكون مسروراً.

(شرقي الأردن)

بشير الشريقي المحامي

ص: 25

‌حول كتاب (هتلر)

قضية طريفة أمام القضاء الباريسي

نعرف أن للهر أدولف هتلر رئيس الحكومة الألمانية الحالية، وزعيم الحزب الوطني الاشتراكي الألماني، كتاباً كتبه أيام المحنة، وقت أن كان زعيم جماعة صغيرة وحزب ناشئ، وكان وقتئذ معتقلاً في إحدى القلاع يقضي حكماً صدر عليه لاشتراكه في مؤامرة دبرت في ميونيخ لقلب الحكومة. ولم يكن لهذا الكتاب الذي صدر في سنة 1925 بعنوان جهادي أهمية سياسية أو أدبية، وفيه يقص هتلر سيرة حياته، ويعرض برنامج حزبه، وآراءه السياسية في أسلوب عادي لا يمتاز بشيء إلا بما يتخلله من المبادئ، والآراء المتطرفة. فلما تطورت الحوادث، وغدا هتلر زعيم أعظم الأحزاب الألمانية، واستولى على مقاليد الحكم، اتجهت الأنظار إلى كتابه، وتخاطفته الملايين، وطبع مراراً عدة، وترجم إلى عدة لغات، واتخذ أهمية جديدة يسبغها عليه مركز مؤلفه وما انتهى إليه من السلطان والنفوذ.

وقد رأى أحد الناشرين الباريسيين أن يخرج الكتاب باللغة الفرنسية لما للكتاب من خطر في نظر الجمهور الفرنسي بعد أن غدا مؤلفه أعظم خصم لفرنسا، فأرسل إلى شركة فرانز أيهر الألمانية التي فوضت جميع حقوق النشر يستأذنها في الترجمة، فأجابت بالرفض المطلق. والظاهر أن ذلك يرجع إلى أسباب سياسية أكثر مما يرجع إلى أسباب مالية، لأن الهر هتلر لم يشأ أن يطّلع الشعب الفرنسي على ما كتبه، وفيه كثير مما لا يدعو إلى الطمأنينة. ولكن الناشر الباريسي لم يعبأ بهذا الرفض؛ وأخرج لكتاب (جهادي) ترجمة فرنسية بديعة كاملة بقلم ثلاثة من الكتاب المعروفين. فبادرت شركة فرانز أيهر الألمانية إلى رفع الأمر إلى القضاء الفرنسي، واستصدرت أمراً بالحجز على النسخ المطبوعة لدى الناشر الباريسي، ورفعت عليه دعوى تطلب مصادرة النسخ المحجوزة، والحكم عليه بغرامة قدرها ألف فرنك عن كل نسخة، والحكم عليه فوق ذلك بتعويض مالي كبير.

وكانت نظرية الشركة الألمانية أمام المحكمة أن نشر الترجمة دون إذن يعتبر اعتداء واختلاساً، وقانون سنة 1793 الفرنسي الذي يحمي الملكية الأدبية يعتبر ذلك (تزويراً) تترتب عليه جميع حقوق التعويض والمصادرة.

ص: 26

ولكن الناشر الباريسي أجاب على لسان محامييه الأستاذين جاييه وفيليب لامور أن هذه الحالة لا يشملها قانون سنة 1793. ذلك أنه لا يمكن أن نشبه كتاب هتلر بكتاب عادي أو رواية لمؤلف عادي؛ والواقع أن كتاب (جهادي) إنما هو كتاب عمومي لرجل من الرجال العموميين، ورؤساء الحكومات الذين تغدو كتاباتهم ملكاً للجميع على نحو ما يغدو تصريح وزاري أو خطبة عرش؛ فلكل إنسان الحق، بل ومن واجب كل إنسان يهمه الاطلاع على الشئون العامة أن يعرفها وأن يقرأها. هذا إلى أن العقد الذي تزعم الشركة الألمانية أنها حصلت بمقتضاه على حقوق النشر لا يوجد ولم يقدم، وليس لديها غير تصريح شفوي من (الزعيم) هتلر. ورفع الدعوى بهذه الصورة باطل، وكان واجباً على هر هتلر، إذا شاء أن يحمي حقوقه أن يتقدم بنفسه، وعلى أساس الاعتبارات السياسية التي هي جوهر القضية؛ ولكنه لم يكن لديه من الشجاعة أو الصراحة ما يحمله على اتباع هذا الطريق، ولهذا آثر أن يتقدم بواسطة شركة للنشر وعلى أساس الاعتبارات التجارية.

وقد أثارت هذه القضية اهتماماً كبيراً في الدوائر القضائية والأدبية، ولا تزال منظورة أمام محكمة السين التجارية، رهن صدور الحكم فيها. على أنه يرجح منذ الآن أن يأخذ القضاء الفرنسي بنظرية الناشر الباريسي في اعتبار كتابات الرجال العموميين وأقوالهم ملكاً مباحاً يسوغ لكل إنسان أن يحصل عليه وأن يذيعه.

ص: 27

‌صورة من صدر الإسلام

عبد الله بن مسعود

بقلم محمد طه الحاجري

أخذ الناس في مكة يحسّون شيئاً جديداً يداخل روح الحياة عندهم، وينشر ظلالاً خفيفة من حولهم، ويبعث في أنفسهم شعوراً شديد الغموض لا يتبينون كنهه ولا يتحققون أمره، شأن الجماهير في فجر الأحداث الخطيرة. وكأن لهم من وراء الحواس الظاهرة حساً باطناً لا يستند إليها فيما يدرك، ولا يدرك إلا المعنى العام الذي لا يحدد. وكان الجو في تلك المدينة المقدسة يزخر بشتى التيارات، ويموج بلمحات النبوة ونفحات السماء، كما يموج الأثير بأمواج الكهرباء: تحمل في أطوائها معاني القوة دون مظاهرها، وتخفى في أثنائها الصوت المجلجل، والضوء الساطع، كامنة كمون الروح، خفية خفاء القدر، حتى تتاح لها الظروف المواتية، والحالات الملائمة، فتجهر وتستعلن وتؤدي رسالتها. . . وكذلك كان الأمر في الأيام الأولى للبعثة: تنزل الملائكة وتصعد، ويترادف الوحي ويمتد، ويزخر الجو بنفثات الرسالة، والناس مستمرون في شأنهم، لا يحسون شيئاً إلا حفيفاً لا يعبئون به، ولمحات خفيفة لا ينظرون إليها، حتى تصادف قلباً أعد لها، و (جهازاً) صالحاً لقبولها، فتجهر وتستعلن وتؤدي رسالتها. . .

وفي يوم من هذه الأيام، خرج الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، ومعه صاحبه وصفيه أبو بكر، وأخذا يسيران في ظاهر مكة، على نجوة من العيون، وأمنة من الأسماع. يتناجيان نجوى المودة الصادقة، ويتحدثان حديث العقل المتزن، وقد أقبل الرسول على صاحبه ليجد عنده راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، لقاء ما ألقى عليه ربه. وبيناهما كذلك لقيا شاباً في نحو العشرين، ضئيل الجسم، ضعيف المنة، آدم البشرة، تلمع عيناه ذكاء وعزيمة وصفاء سريرة يرعى قطيعاً من الغنم، هو ذا عبد الله أبن أم عبد الهذلي، مولى أخوال الرسول من بني زهرة، يرعى غنماً لأبن أبي معيط أحد السادة المتجبرين من بني أمية. فوقفا عليه واستسقياه بعض اللبن فسقاهما، حتى إذا ما فرغا من شرابهما أقبل بدوره عليهما، وأخذ يسائل الرسول عما سمع بعض الناس يهمسون به، من كلام بدع تتضاءل أمامه كل صنوف الكلام، وأمر جديد يتنزل عليه من السماء، يدعو إلى عبادة الله وحده ونبذ الأصنام.

ص: 28

فهش له الرسول ومسح على رأسه، وجعل يقرأ عليه، وإن صوته ليتجاوب بين قلبه وعقله، وجعلت كلمات التنزيل تتنزل على نفسه، كما تتنزل قطرات الماء على حلق يتحرق ظمأ، حتى شرح الله صدره للإسلام. ومضى الرسول وصاحبه، رضى النفس مغتبط الضمير. وخلفا عبد الله وقد ملكته نشوة هذا الأمر، وقد جعلت كلمات الرسول يتردد صداها بين سمعه وقلبه، وهو يحسب أنه قد ظفر بسعادة الأبد. وما يزال كذلك حتى يقبل الليل، فينطلق إلى دار الأرقم، يلفي الرسول وصحبه يتذاكرون آيات التنزيل، ويضرعون إلى الله أن يسدد خطاهم ويمكن لهم دينهم.

أي رجل هذا؟ شاب يافع محروم من أسباب القوة ووسائل المنعة، ليس له عشيرة يلجأ إليها، ولا عصبة يعتمد عليها. ضعيف في ذاته الجسمية، قضيف العظام مترهل العضلات مجرد من وسائل الحياة المادية، يعتمل نفسه لأشراف مكة في الخدمة ورعى الغنم، لقاء ما يحفظ عليه روحه ويمسك عليه الرمق. ثم لا يعبأ بعد هذا أن يخرج عليهم، وهو يعلم مقدار حميتهم لدينهم، وتعصبهم لأنفسهم، ولا يأبه لما لابد أن يصيبه في هذا السبيل من تصرم وسائله، واستهداف حياته في تعرضه لعداء سادته وهم من هم: سدنة البيت الحرام، والقوام على ميراث إسماعيل عليه السلام، والخيرة المتخيرة من أبناء العرب، وأصحاب الحول والطول في كل أنحاء الجزيرة.

ولكن عبد الله كان يملك من أسباب السماء بقدر ما حرم من وسائل الأرض. كان قوي النفس، متين الخلق، بقدر ما كان هزيل القوام ضعيف الجسد. كان يشعر بالسؤدد الروحي يوجهه ويملي عليه، وإن كان يضطرب في أسمال الخدمة وأهدام الحاجة. فلم تكن الضرورات المادية لتخضع روحه أو تغلب ضميره، وما كان للخوف أن يغشي بصيرته فيخلد إلى الأرض. وكذلك أنطلق مع روحه فاعتنق الإسلام وأخلص له، وأحب محمداً إلى غاية ما يبلغه الحب الروحي، فاصطفاه الرسول ليكون تابعه الأمين، وخادمه الذي ليس من دونه حجاب، فكان يرى وكأنه واحد من آل بيته، مما كان يركن إليه ويطمئن له ويتلطف معه ويحسن عشرته، فأخلص للرسول الإخلاص كله، ووصل حبه له إلى قرارة قلبه، حتى صار جزءاً من حياته، بل لقد اصطبغت حياته كلها به، وتأثر به في مخبره ومظهره، فكان أقرب الناس له سمتاً، وأدناهم إليه دلاً، وأشبههم به في سكينته ووقاره.

ص: 29

مضت الأيام والإسلام نجوى الضمائر، وحديث القلوب، وهمس الشفاه. والقرآن لا يعدو بيت الرسول ودار الأرقم وأطراف مكة القاصية. ثم جاء أمر ربك فأتيح للخافية أن تظهر، وللسر أن يستعلن، وللدعوة أن تأخذ سبيلها في وضح النهار؛ واجتمع ذلك النفر من المسلمين يتدبرون الأمر، وكانوا يعرفون موضع الإحساس الدقيق في نفس العربي، وموطن التأثر البليغ من قلبه: إنما هي تلك الحاسة البيانية المرهفة التي أمسكت بقياده، وسيطرت على حياته؛ وجاء القرآن وافياً بها متحكماً فيها؛ فكان من الطبيعي أن يكون سبيل الدعوة. فقالوا من لقريش يسمعها هذا الكلام؟ فانبرى عبد الله يقول: أنا لها. وهو يعلم مقدار ما يستتبعه هذا من الأذى، ولا عاصم له من قوم ولا عشيرة. فراجعوه في هذا الأمر، وبصروه بعاقبته، وذكروه ضعفه ووحدته؛ فأبى أن يفوته هذا الشرف، أو أن يرده عنه اعتبار لا قيمة له في ميزان المجد. فاعتصم بإيمانه القوي، ويقينه الثابت أن لا إله إلا الله، فلا نافع ولا ضار إلا الله، وأن لو اجتمعت الجن والإنس على أن ينالوه بشيء ما استطاعوه إلا بقضاء الله وقدره، وأحبب به أذى في سبيل الله وإعلاء كلمته. ثم تخير غداة الغد حين تكون قريش مجتمعة في أفناء الحرم حول الكعبة، يدبرون أمورهم، ويتحدثون عن أموالهم، ويتكهنون بمقادير أرباحهم ويتراهنون على ما يدور بخواطرهم، وتذهب إليه مطامعهم وتراوحهم به مخاوفهم. فلما كان موعده أقبل إلى البيت الحرام، واستقبل الكعبة بوجهه، وأخذ يتلو من كتاب الله:

(بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).

أي صوت رهيب دوى في أرجاء الحرم، فالتفتت إليه أسماعهم، ودهشت له قلوبهم، واستطارت منه ألبابهم، وأذهلهم عماهم فيه من حجاج ولجاج في تجارتهم وحياة أموالهم؟! فانصرفوا إليه يقولون: ما شأن ابن أم عبد وماذا يقول؟ فلما علموا أنه يتلو بعض ما جاء به محمد أقبلوا عليه يضربونه في وجهه ويدفعونه في صدره، ما شاءت لهم الحمية ونخوة الجاهلية، حتى نالوا منه وتركوا آثار الدم في وجهه. ثم عاد إلى أصحابه وهو يقول:(ما كان أعداء الله قط أهون على منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً) فقالوا له: حسبك.

ص: 30

وتم لهم ما شاءوا.

استشرف عبد الله إذن لعواصف النكير والاستهزاء، واستهدف لسهام التنكيل والاعتداء. إن كان في بيت الرسول فهناك جيرانه: أبو لهب وعقبة بن أبي معيط والحكم بن العاص وعدي بن حمراء الثقفي يترصدون له وينالون منه. وإن كان في السوق فما شاءت جماهير قريش من أذى وتجهم وسخرية، وإن كان في المسجد، وقد جلس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في المستضعفين من أصحابه فكذاك؛ وما يفتأ القوم يمرون بهم، فيتغامزون عليهم ويسخرون منهم، ويقول بعضهم لبعض:(أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا، ولو كان خيراً ما سبقونا إليه).

وهكذا مضت الأيام بعبد الله، وما يزيده هذا إلا صفاء في نفسه، وصلابة في يقينه، واستشراقاً لهدى الله جل شأنه، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وصنعت منه هذه الخطوب ما تصنع حرارة الأرض وضغطها من الماس وكرائم الأحجار، فأصبح كالماسة الصافية صلابة وإشعاعاً.

فلما اعتدل ميزان الأمور، وتمت كلمة ربك الحسنى على المسلمين، وأصبحت القوة في جانب الحق، وأصبح الإسلام في يثرب صاحب الكلمة، كان عبد الله سيفاً قاطعاً ونجماً ساطعاً، فشهد المشاهد كلها مع رسول الله، لم يقعد به ضعفه. ولم يخلفه هزال جسمه، إذ كان قوي القلب ثابت الإيمان. وكانت بصيرته في الدين قوية الإشعاع دائمة السطوع، حتى لقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بعهده، وشهد له كبار الصحابة كعلي وحذيفة، ومكانهما من هذا الأمر ما نعلم، وكان من العلم بالقرآن في المكان المرموق: ما من سورة في القرآن أو آية من سورة إلا وهو يعلم سبب نزولها، ومكان مجيء الوحي بها، لا ينكر عليه ذلك منكر. ولقد كان إيمانه يتلألأ في قراءته كما كان يتألق في جبينه؛ حتى كان يحبب إلى رسول الله أحياناً أن يسمع القرآن منه. فقال له مرة: اقرأ عليّ سورة النساء. قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عليه حتى بلغ قوله تعالى مخاطباً رسوله: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً) فبلغ التأثر من الرسول مبلغه، وفاضت عيناه بالدموع.

ص: 31

وحين نذكر فصاحة منطقه، وخلوص لسانه، لا ننسى أنه هذلي الأصل، مع عرق فيه يمت إلى زهرة؛ ثم هو مع هذا قرشي المولد والمربى؛ فلا غرو أن كان جيد الأداء حسن القراءة، بعد أن اجتمعت له مقومات لسانه ونصاعة إيمانه.

انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، فانتقلت الدعوة إلى الشمال، تكافح بالسيف ولاة فارس وعمال الروم، فما كان أسرع عبد الله إلى الجهاد في سبيل الله، وقد مكن له فقهه وبصره وورعه أن يتولى أمر الأنفال، فكان لا يفتأ فيما بين هذا يعلم القرآن، ولا يترك فرصة دون أن ينتهزها لتفهيمه والتبصير به، وإنه لجالس ذات مرة في حمص وقد جيء إليه بسبائك من الفضة، فجعل يذيبها، وإنها لتتلون ألواناً، فرأى في ذلك صورة بينة للمهل الذي جاء به القرآن، فالتفت إلى أصحابه يقول لهم: أتدرون ما المهل؟ هذا أشبه شيء به. لله أنت يا ابن مسعود! ما كان أبصرك بكتاب الله وأحرصك عليه!

ثم بعثه عمر إلى أهل الكوفة معلماً حين بعث عماراً عليهم أميراً، وكتب إليهم هذه العبارة التي تدل دلالة واضحة على قيمة ابن مسعود في نظر أصدق الصحابة بصراً، وأنفذهم رأياً، وأعرفهم بقيم الرجال:(إني بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله ابن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي) وكفى بهذه الجملة الأخيرة شاهداً بمكانة الرجل.

فلبث فيها ما لبث قيما على بيت المال، قائماً بتعليم القرآن وبث تعاليم الإسلام، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان فوق هذا يضرب بخلقه وورعه خير الأمثال، حتى كان أصحابه يقولون:(ما رأينا رجلاً أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعاً من ابن مسعود). فكون فيها مدرسة تحبه وتتعصب له، فلما كان عثمان وأخذ يقلب بين الولاة والعمال، بعث إلى ابن مسعود يستقدمه إليه، فجزع أصحابه أيما جزع، واستشعروا أثر النازلة، إذ يوشك أستاذهم الذي وهبهم قلبه وألهمهم حبه أن يفارقهم، فاجتمعوا إليه يرجونه أن يقيم بينهم، وله عليهم أن يمنعوه مما عسى أن يصل إليه من مكروه، ولكن عبد الله ما كان ليعبأ بالمكروه يصيب شخصه، فما أهونه في ذات نفسه لقاء الخير يصيب أمته، ولكنه كان يرمي ببصره إلى ما وراء الشخوص الماثلة أمامه، فيرى

ص: 32

بوادر شر تتربص بالأمة الدوائر، ودلائل فتنة توشك أن تنقض. وما كان له أن يفتح بعصيانه ثغرة في بناء المسلمين، فصرف القوم عنه وهو يقول:(إن له على حق الطاعة، وأنه ستكون أمور وفتن، فلا أحب أن أكون أول من فتحها) فمضوا عنه وهم يشدون على قلوبهم، ثم أخذ أهبته وسار إلى المدينة.

وقد لبث فيها وإن الفتن لتموج بالناس من حوله وهو قارّ ساكن، يسأل الله العصمة وإطفاء الثائرة، ولا يكاد يلفته شيء إلا كتاب الله الذي تلقاه عن رسول الله، فهو موضع عزته، ومناط كرامته.

ولم يطل به العهد حتى اصطفاه الله لجواره، رضي الله عنه.

محمد طه الحاجري

بكلية الآداب

ص: 33

‌القضاء عند قدماء المصريين

بقلم حامد أسعد محمد عاشور

قبل أن نطرق هذا الموضوع يجب أن ألفت نظر القارئ إلى أن مصر كانت على درجة عظيمة من الرقي والحضارة، وأن العدالة كانت مستتبة الأركان موطدة الدعائم؛ وأن النظم الديمقراطية التي يدعي الأوربيون اليوم أنها من بنات أفكارهم أو مما ورثوه عن الإغريق والرومان، لم تكن إلا وليدة النظريات السياسية الفرعونية في عصور سحيقة؛ وأن الحريات المدنية والسياسية وحماية الملكية الفردية التي يباهي بها القرن العشرون بعد الميلاد، عُرفت في مصر وتوطدت أركانها في القرن العشرين قبل الميلاد تحت حكم ملوك مصر وفراعينها العظام.

كذلك قبل أن أبدأ الكلام أرى لزاماً عليّ أن أذكر أنني استقيت معلومات هذا المقال من مصادر تأريخ مصر المعروفة من كتابة على جدران القبور والمعابد إلى ما كتب في أوراق البردي، ثم من محاضرات أستاذي الدكتور زكي عبد المتعال في كلية الحقوق، ثم من كتاب (وصف مصر) الذي وضعته الحملة الفرنسية بعد رجوعها من مصر.

يرجع أصل سكان البلاد إلى بعض العناصر الآسيوية التي غزت مصر من الشرق، ثم امتزجت بعناصر أخرى من السود آتية من الجنوب.

أما تكوُّن الإقليم فهناك رأيان فيه: الأول يقول إن البلاد كانت تتكون من قبائل اتحدت فكونت مدناً، ثم اتحدت هذه فكونت أقاليم ومقاطعات، ثم تكونت مصر العليا مستقلة عن مصر السفلى إلى أن وحد سكوربيون ملك نخعة (مصر الوسطى) قسمي الإمبراطورية، ومن بعده جاء مينا فأتم ما بدأه سلفه.

أما الرأي الثاني فيقول: إن مصر لم تمر بهذا التطور التدريجي بل أنها من يوم أن دبت الحياة فيها وهي أمة موحدة، ويستند أصحاب هذا الرأي الأخير إلى أن نهر النيل هو منبع الثروة الوحيد في البلاد، فلا يمكن إلا أن توحد جهود السكان في سبيل الغرض المشترك وهو حب البقاء، والدفاع عن أموالهم ومورد رزقهم؛ هذا إلى أن الوثائق وأوراق البردي لم تذكر أن البلاد مرت بالدور التطوري السابق ذكره.

ولما تكون الإقليم وجدت الأسرات. ففي عهد الأسرتين الأولى والثانية كان الحكم مطلقاً،

ص: 34

فكان المُلكُ قائماً على الحق الإلهي. وبذا كان الملك ممثلاً للسلطتين الزمنية والدينية، فكان يصدر القوانين بنفسه وبمساعدة كتبة خصوصيين.

وفي عهد الأسرة الثالثة كان الملِكُ مصدر جميع السلطات، يستعملها بمساعدة موظفيه المدنيين لا الدينيين، وكان خاضعاً للقوانين التي يصدرها وتسري على شعبه، وبذا كان الحكم مطلقاً مشبعاً بروح العدالة والإنصاف، فالجميع متساوون في الحقوق لا فرق بين أمير وحقير أو غني وفقير، وكانت الدولة إذ ذاك زمنية لا دينية أي لم يكن للكهنة نفوذ كبير فيها.

وفي عهد الأسرة الرابعة أصبحت الدولة دينية، وأصبح الملك ممثلاً لرع وهاتور الإلهين، وقدمت الديانة الملكية على الإدارة الحكومية، والكهنة على الموظفين، وكانت هناك إدارات حكومية كثيرة، منها (إدارة الري ومياه النيل، وإدارة الحربية، وإدارة الإحصاء والضرائب، وإدارة المالية، وإدارة العقائد والتموين.) وكل هذه الإدارات كانت تحت إشراف مجلس العشرة الملكي، وهو يقابل مجلس الوزراء الآن، وكان الوزير الأكبر هو الذي يرأس هذا المجلس.

هذه نظرة عامة عن اختصاصات السلطة التنفيذية، أما فيما يتعلق بالتشريع والقضاء - وهو موضوع هذا المقال - فإن القوانين عرفت ودونت في مجموعات عندما اخترعت الكتابة في القرن الخمسين قبل الميلاد، فوضع (نحوت) إله القانون مجموعته القانونية في سنة 4241 قبل الميلاد.

وقد شملت هذه المجموعة الالتزامات والأموال وجميع العقود الأخرى، والزواج والطلاق. وكان مما نص عليه في هذا الشأن أن الزواج يتم بعقد مدني بطريق الشراء، ثم يجري بعد ذلك احتفال ديني. أما العلاقة المالية بين الزوجين فكان يتفق عليها في مشارطة الزواج على أحد بأمور ثلاثة:(1) فصل مال كل من الزوجين عن الآخر فيكون للزوجة في هذه الحالة حق التصرف في مالها بدون إذن الزوج (2) تخصيص جزء من مال الزوجة لمساعدة الزوج على المعيشة العائلية، ويكون للزوج في هذه الحالة حق الانتفاع بأموال الزوجة وعليه ردها عند الانفصال (3) اشتراك الزوجين في بعض الأموال أو جميعها. وكان للنساء امتيازات كثيرة عللها المؤرخ ديودور الصقلي باحترام المصريين للآلهة

ص: 35

إيزيس.

أما الطلاق فقد أجازه الشارع الفرعوني كما أباح للمرأة أن تتزوج، بشرط أن يكون لها الحق في فسخ الزواج كما كان لها حق الرهن العام على أموال زوجها ضماناً لعدم تعرضها لخطر الطلاق منه.

ويترتب على البيع الصحيح (باليمين والشهود) التزام البائع بتعهدين: الأول وموضوعه تسليم سندات الملكية - والثاني وموضوعه ضمان كل تعرض للمشتري. وينقسم عقد البيع إلى عقدين أحدهما اتفاقي والآخر عيني وبه تسلم العين المبيعة.

وقد أخذت سائر العقود الأخرى صورة عقد البيع، حتى أن الوصية كان يكتب لها عقد اتفاقي بين الموصي والموصى له بشرط ألا يتم استلام الأخير للوصية إلا بعد وفاة الموصي وتسلم الوارث العقد العيني من باقي الورثة.

ولما تشتت مجموعة نحوت جاء بو خوريس مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين وجمع شتاتها وعدلها في مجموعة نظم بها جميع المعاملات المدنية والأحوال الشخصية في مجموعة قوانين سميت باسمه كما سماها اليونانيون بمجموعة العقود.

ولما جاء أحمس أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين أصدر مجموعته المسماة باسمه. ثم جاء من بعده الملك نفريت فأعاد العمل بمجموعة بو خوريس بعد أن نقحها، واستمر العمل بها حتى نهاية العهد الفرعوني. ثم طبقت على المصريين فقط في العهد الإغريقي حتى جاء الرومان فمنحوا ممتلكاتهم الرعوية الرومانية في عهد الإمبراطور كراكلا، وبذا طبقت في مصر القوانين الرومانية.

هذه نظرة عامة عن تطور التشريع في عهد قدماء المصريين حتى الفتح الروماني، والآن نستعرض نظام المحاكم واختصاصاتها وسلطة القضاء في الدولة.

كانت سلطة القضاء العليا في يد الملك يباشرها إما بنفسه أو بواسطة موظفين مدنيين أو دينيين تبعاً لازدياد نفوذ الكهنة في الدولة. وفي حالة ازدياد نفوذ رجال الدين (كما كانت الحال في عهد الأسرة العشرين) كان يجري العمل على استفتاء الإله آمون في القضايا الجنائية والمدنية، فكان يقدم المتهم أمام تمثال الإله فيقر بذنبه، وإذا أنكر أعيد إلى السجن، وفي حالة تعدد المتهمين كان الإله يشير بيده إلى السارق مثلاً قائلاً هذا هو السارق، فإذا

ص: 36

أنكر أعيد إلى السجن حيث يلاقي أشد أنواع العذاب، إذ لا يمكن تكذيب الإله، ثم يعاد إليه فيقر بذنبه ويؤمن التمثال على كلامه، ومن ثم يقدم إلى المحكمة بعد أن يقسم اليمين الآتية:

(أقسم بآمون والملك أن أقول حقاً، ولئن كذبت فلأعودن إلى السجن ولأسلمن إلى الحراس) ثم تأخذ المحكمة بأقواله وتحكم عليه.

وكان القضاة يقسمون يميناً أمام الملك بعد تعيينهم يتعهدون فيها بعدم طاعته إلا فيما يوافق العدالة. وكان يرجع إليه كثيراً عند تعذر الحكم في بعض القضايا الهامة.

أما المحاكم فكانت على أنواع كثيرة: محاكم جزئية بالقرى والمدن، ومحاكم ابتدائية في عواصم الأقاليم، ومحكمة استئناف عالٍ بعاصمة الدولة، ثم محاكم عسكرية للجند، ومحاكم عائلية تفصل في المسائل المتعلقة بالأسرة، ثم محكمة للأموات يقوم الكهنة بتكوينها ومحاكمة كل ميت أمامها، فإن كان سيئ السيرة قضت بحرمانه من الدفن.

أما المحاكم الجزئية فكان يرأسها حكام المدن، وقد أعطي لرئيس مقدري الضرائب اختصاص الفصل في المنازعات التي تقوم بين دافعي الضرائب والمقدرين.

أما المحاكم الابتدائية فكان يرأسها حاكم الإقليم وأعضاؤها الأعيان، وكانت مختصة بالفصل في المنازعات المدنية فقط، وترفع أمامها عريضة دعوى وجميع الإجراءات أمامها كتابية.

أما المحكمة العليا فقد كان يرأسها رئيس أسرار الملك وأعضاؤها كتمة الأسرار. وكان الملك يقوم بالقضاء فيها بنفسه، وعلى الأخص في القضايا الجنائية.

وكانت هذه المحاكم ترجع في اختصاصها إلى الإدارة القضائية وهي تشبه وزارة الحقانية الآن.

وقد وجدت وظيفة النائب العام في عهد الأسرة الثانية عشرة، وكان يسمى إذ ذاك (لسان الملك) ولكن كان له بجانب سلطته القضائية، وظيفة أخرى يقوم بها بصفته مدير شئون السراي الملكية وكبير الأمناء، وكان له وكلاء في الأقاليم يباشرون الدعوى العامة أمام المحاكم الجنائية.

وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة قسم القضاء إلى مدني وجنائي منفصلاً كل منهما عن الآخر، وكان للجميع حق رفع الدعوى المباشرة الجنائية.

هذا فيما يتعلق بالقضاء الجنائي العادي أي الذي يتعلق بأفراد الشعب، أما القضاء الجنائي

ص: 37

غير العادي الذي يتعلق بشخص الملك أو الدولة، فقد كان موكولا إلى محكمة خاصة تشكل من أثنى عشر قاضياً بعضهم من رجال الجيش، وكان النائب العمومي هو الذي يختارهم بناء على أمر من الملك ذاته، فتتكون المحكمة وبمجرد انعقادها تنقسم إلى هيئتين تفحص كل منهما الدعوى على حدة، ثم تجتمعان، وكانت محاضرها مختصرة وسرية، فكانت تصدر الأحكام دون نشر الأسباب، وبالرغم من أن النائب العمومي هو الذي يختار هؤلاء القضاة فقد كان لا يتدخل مطلقاً في عملهم حتى أن اسمه كان يأتي بعد أسمائهم وقبل أسماء كتاب الجلسة.

هذا ما كانت عليه حال القضاء في عهد قدماء المصريين، ومنها يرى القارئ أنها كانت على درجة عظيمة من الثبات والاستقرار، وأن العدالة كانت مستتبة الأركان قوية الدعائم. وقد ظلت كذلك حتى انتهى العهد الفرعوني السعيد، ودخل الإغريق البلاد فأفسدوا نظمها، وقد كان للبطالسة شأن كبير في طرد العدل من البلاد، إذ أدخلوا امتيازات أعطوها للإغريق دون المصريين في القضاء وفي الضرائب، فكان على المصري الغُرم ولهم الغنم، ومما يدل على صحة ما قلت تقسيم المحاكم في عهدهم إلى إغريقية ومصرية، وكانت الإجراءات أمام الثانية معقدة تتبع شكل القانون الضيق دون التوسع فيه، بعكس المحاكم الإغريقية التي كانت طبقاً لقواعد العدالة والإنصاف والقانون الطبيعي. وكان نظام المحاماة معروفاً في المحاكم الإغريقية بعكس المصرية حيث كان الخصوم ملزمين بالدفاع عن أنفسهم كما كانت تقدم الوثائق والمستندات أمام المحاكم المصرية، فإذا لم تكن كافية مُزقت علانية في الجلسة.

حامد أسعد محمد عاشور

ص: 38

‌فصول مدرسية في الأدب الدرامي

3 -

الرواية المسرحية في التاريخ والفن

بقلم أحمد حسن الزيات

أجزاء العمل

العمل الروائي كالعمل الحكائي يتألف من العرض والتعقيد والحل.

فالعرض فكرة عامة مجملة عن العمل الروائي يتقدم بها الكاتب في الفصل الأول، ليهيئ الأذهان إلى الحادث، ويشوق النفوس إلى المتأخر، ويعرف الظروف والأمكنة والأشخاص إلى المشاهد. وهو في الرواية أصعب منه في الملحمة، لأن أداءه لا بد أن يكون بالعمل، ولأن الأشخاص وهم مشغولون بأعمالهم الحاضرة وأحوالهم القائمة، ملزمون بتقديمه إلى المشاهدين في معرض حديثهم الخاص دون أن يظهر عليهم أنهم يريدون ذلك. فالطبيعة إذن هي الصفة الجوهرية للعرض. وهناك صفة أخرى لا تقل عنها خطورة، وهي أن يكون العرض وسطاً بين الغموض والوضوح: فيكون واضحاً بقدر ما يدلك على أدوار الأشخاص الأساسيين، ويضع يديك على الخيوط التي سيحيك العمل منها عقدته؛ وغامضاً بقدر ما يخفى عنك الحل ويدخر لك سرور المفاجأة.

ولقد كان عرض المأساة في الفن القديم بائن الطول، قوي الفعل، شديد الأثر؛ ولا تزال عروض اسخيلوس وسوفوكليس مضرب الأمثال في ذلك. فأصبح في الفن الحديث سريع الحركة، ضعيف التأثير، ولكنه أدق وأبلغ. إذ من القواعد الأولية المقررة في فن المسرح أن تتدرج الجاذبية في أجزاء الرواية، فتبدو ضعيفة في العرض، ثم تنمو على التدريج رويداً رويداً حتى تبلغ الغاية في النهاية. فإذا ما بدت قوية في صدرها فأسالت العيون من الرحمة، وخلعت القلوب من الرعب، كان من الصعب على الكاتب أن يُدرج المواقف الروائية ويرتبها في الفصول. لذلك تجد كتاب العصر لا يضعون الجاذبية في العرض، وإنما يكتفون بالتهيئة لها والدلالة عليها.

إن العرض يسهل بناؤه ويخف أداؤه كلما اشتهر موضوع الرواية أو كان مما ألفه الناس في اجتماعهم، وعرفوه من طباعهم. ولذلك كان في الملهاة أسهل منه في المأساة، لأن العمل

ص: 39

فيها قريب العلاقة محدود الفكر، لا يخرج في معظم الأحوال عن دائرة الجماعة أو الأسرة. والمآرب والأخلاق، والعادات والأهواء، في هذه الدائرة معروفة مألوفة، توضحها كلمة وينبئ عنها منظر. ومع ذلك فلبعض الملاهي عروض بلغت حد الإعجاز من الفن كعرض ترتوف، والمريض المتوهم، والنساء العوالم لموليير.

والتعقيد هو الجزء الذي تشتبك فيه الظروف والوقائع والمنافع والمنازع والأخلاق في اعتراضها طريق البطل، فينشأ عن اشتباكها الشك والتطلع والقلق وفروغ الصبر وبذلك تقوى الجاذبية. وأفضل التعقيدات وأجدرها بالفن ما نشأت فيه العوائق من أخلاق الأشخاص وأهوائهم، لا مما يصدر عن غير طبيعتهم ولا إرادتهم، كالأخطاء القهرية، والحوادث الخارجية. ولا بد أن يسر التعقيد على سنن الطبيعة حتى يسهل على المشاهد أن يتصور وقوع الحوادث كما يراها. ولحوادث الطبيعة كما تعلم نتيجة وعلاقة وتسلسل، فينبغي إذن أن يكون التعقيد سلسلة من الحوادث بينها من التواصل والتفرع ما بين الحلق.

لم يكن للتعقيد في المآسي القديمة ماله اليوم من شأن وخطر. فقد قسم أرسططاليس الموضوع تقسيماً كمياً إلى أربعة أقسام. وهي المقدمة والوقائع والنتيجة والخورس. (والقسم الأخير قد حذف اليوم)، ثم تكلم عن التعقيد دون أن يُعنى به، وقسم الموضوع إلى بسيط وهو ما كان العمل فيه مستمراً متحداً ينتهي من غير انقلاب ولا تعرف، ومركب أو معقد وهو ما اشتمل على هذين الموقفين أحدهما أو كليهما. فالقاعدة التي وضعها أرسططاليس للنوعين جميعاً هي أن تستمر سلسلة الحوادث متصلة، وألا يكون تسلسلها تعاقبياً، بل يتوالد بعضها من بعض على غير ما يترقب المشاهد حتى تنتهي إلى الحل. والحق أن أرسططاليس لم يكن محتاجاً إلى غير هذا مادام كل ما يبغيه هو حادثاً يبعث في القلوب الرعب والرحمة. فهو لا يشغل باله إلا بالحل، أما التأثير الداخلي للموضوع فذلك مالا يحفل به كثيراً. فأنت ترى أن المسرح الإغريقي كان يعتبر الموضوع الذي يتمخض عن الفاجعة الأليمة المحزنة بسيطاً. وما كانت تلك البساطة في الواقع إلا فراغاً في عمل عقيم بطبعه، وكيف يكون في مثل هذا الموضوع الساذج محل لتناقض الأخلاق وتصادم الأهواء، وأسباب حوادثه خارجة عن إرادة الأشخاص أو سابقة للعمل الروائي نفسه؟ ففي رواية أوديب الملك ماذا ترى؟ ترى كل شيء قد وقع قبل ابتداء العمل. (فلبُّوس) قد قتل،

ص: 40

وأوديب قد تزوج من (يوكاست)، فلم يبق إذن بين البطل وبين الشقاء إلا أن يعلم أنه زانٍ بأمه قاتل لأبيه، فرويداً تنكشف الحجب وتنجل الحوادث، ويستيقن أوديب أنه نفذ إرادة الآلهة فيعاقب نفسه. تلك هي رائعة الأدب الإغريقي وكل ما فيها انكشف عن جريمتين وقعتا قبل عملها، فكان ذلك الكشف الرهيب الأليم كافياً لشغل المسرح وملئه. فكيف استطاع الإغريق إذن أن يشغلوا خمسة فصول بحادث محتوم لا حيلة للأشخاص فيه ولا منجى لهم منه؟ كانوا يمثلون على التتابع مآسي كثيرة في يوم واحد، وكان الخورس يقتل جزءاً من الزمن، وما بقي من الفراغ كانوا يملأونه بالشكاوي والوعظ والوصف والإنشاد والمجادلات في الفلسفة والسياسة.

تلك حال التعقيد الروائي في الفن الإغريقي، وهو كما ترى ضئيل الخطر قليل الأثر، لا يقوى الجاذبية ولا يزيد التشويق، وإنما كان سبيلهم إلى ذلك هو التعرف وحده، وكان شعراؤهم يؤثرونه ويرونه أنجع الوسائل لإيقاظ المسرح وإحياء الرواية. ولولاه لما كان لمعظم روائعهم الفنية شأن يذكر كأوديب وإيفجيني وفيلوكتيت.

أما التعقيد في الفن الحديث فهو جسم الرواية وروح العمل، وكان سبب ما أحله تلك المكانة هو امتداد نواحيه، وتشعب أطرافه، وحرية وجهه، فقد تخلص من ربقة القضاء والقدر والكهانة، وأصبح مظهراً للعواطف المؤثرة المنتجة، وصدى لأصوات الحياة الصاخبة المزعجة، وصورة للبيئة الحاضرة المعقدة؛ وصارت جاذبية المسرح معقودة بما يحدثه اصطدام الأهواء واضطرام النفوس وتباين الأخلاق وتعارض الأطماع من خير أو شر، وأخذ الحب والبغض والانتقام والطمع والغيرة تحل من حياة الإنسان محل الأقدار والحظوظ، وتعقد العمل بتفاوت الشعور وتنازع النفس واختلاف الهوى وثورة العاطفة فبعث في المسرح الحديث حركة شديدة وروحاً قوية كان القدماء يجهلونها كل الجهل، لأن مسرحهم كان يقوم على حكم الضرورة، ومسرحنا يقوم الآن على نظام الطبيعة، والضرورة عامل قاهر، ومتسلط مستبد، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. أما الطبيعة فلها مبادئ وقوانين تُصدر عنها وتسير عليها، فكل حادث لعلة، وكل غاية لأصل، حتى في اضطراب الأهواء وفوضى الميول تجد نظاماً خفياً لا تستطيع أن تقلبه دون أن تصرخ الطبيعة في نفسك بأنك خرقت قانونها وانتهكت حماها، لذلك كان بناء المأساة الحديثة من أدق الأمور

ص: 41

وأشقها على الكاتب: فالحوادث تتدرج في الصعوبة بحكمة، والجاذبية تتوزع في الأجزاء بدقة، والعمل يتسلسل بعضه من بعض في حدود الطبيعة سواء أكان منتزعاً من جوهر الموضوع أم من خلق الأشخاص. ولو شاء ربك أن يبعث الآن أرسططاليس فرأى كيف نسجت العقدة في أمثال بُلْيُكْتَ وألزِيرَ لملكه الدهش وأخذه العجب، ولاعترف أن هناك فناً آخر أسمى وأبلغ من فن أوربيدس وسوفوكليس يدور العمل فيه على الأخلاق والعادات، لا على الضرورة والخرافات.

بقى الحل وهو الجزء الذي تنتهي به الرواية وتتحلل فيه العقدة بزوال الخطر أو قضاء الوطر أو تذليل العقبة أو حلول الكارثة. وبراعة الحل أن يدبر دون أن يظهر. فتدبيره يكون بوضع العمل على طريقة تجعل اللاحق ناتجاً عن السابق. فإن بين الحوادث المتوالدة والحوادث المتعاقبة بوناً بعيداً كما قال ارسططاليس، وبذلك يكون الحل طبيعياً منطقياً متفقاً مع أخلاق الأشخاص وأعمالهم؛ وعدم ظهوره هو أن يكون فجائياً ولا سيما إذا كان ساراً، لأن الجاذبية إنما تقوى بتعاقب الرجاء والخوف على قلب المشاهد، ولا مصدر لهذا التعاقب إلا الشك، فإذا علم من قبل أن الحل سيكون ساراً انتفى سبب الرجاء والخوف، وسكن بانتفائه محرك الجاذبية. حتى في الموضوعات المعروفة يجب أن يخفى الحل. وخفاؤه إنما يرجع إلى براعة الكاتب في سوقه العمل على وجه ينسى المشاهد ما يعلمه من قبل. وتلك هي قوة الوهم وعبقرية الفن، ولولاهما لما رأينا ذوي الحساسة من المشاهدين يبكون للمأساة الواحدة عشرين مرة.

إن معنى فجائية الحل هو انتقاله طفرة من حالة مبهمة إلى حالة واضحة. وتقريب ذلك أن حظ الأشخاص في سياق العمل أشبه بسفينة تناوشتها الأمواج واصطلحت عليها العواصف - وتلك هي العقدة - فأما أن تغرق وإما أن تبلغ الساحل - وذلك هو الحل -

ثم إن الحل قد ينتهي إما بالتعرف إذا تعقد العمل على أساس الجهل والتناكر، ثم تحلل بجلاء الموقف وتعارف الأشخاص؛ وإما بالانقلاب إذا حدث تغيير فجائي فقلب حال البطل من نعيم إلى بؤس أو من بؤس إلى نعيم، وفي الحالة الأولى يسمى الحل محزناً وفي الحالة الأخرى يسمى ساراً. وكان أرسططاليس يفضل الحل المحزن ويقول بإبعاد الفضيلة المطلقة والرذيلة المطلقة من المسرح، ليكون لأشخاص الرواية نصيب من كلتيهما

ص: 42

بارتكابهم جرائم عن غير عمد فيعاقبون عليها جميعاً في النهاية. أما سقراط وأفلاطون فرأيهما على خلاف رأيه: يريان أن المأساة لا بد أن تتفق مع القوانين فتقف البريء على المسرح إزاء المجرم ثم تحكم للأول على الثاني. وعلى الجملة فالحل عند القدماء كان يعوزه اجتماع التأثير والمغزى وهما قوامه وكماله، لأن الحوادث التي تؤدي إلى الحل كانت خارجة عن إرادة البطل صادرة عن سواه، والشقي إذا أشقته أخطاء غيره لا يكون مثلاً، وإذا أشقته أخطاء نفسه لا يستحق عطفاً. أما الحل في الفن الحديث فمن السهل اجتماع هاتين الخلتين فيه، لأن الرجل إذا أضله الهوى وأعماه الغي فتردى في هوة الشقاء وهو طيب القلب نبيل النفس، كان مثلاً قوي التأثير شديد الروعة جليل المغزى، يشعر قلبك الخوف دون أن يفزعك بالبلاء، ويثير في نفسك الرحمة دون أن يثيرك على القضاء. وليس الكاتب في حاجة إلى أن يغمس يد أشخاصه في الجرائم ليهز النفوس ويبكي العيون، فانه يجد لهم في صميم أفئدتهم العدو الكاشح، والطاغية المستبد، والسياف القاسي، وإذن يكون عذابهم ومصابهم من طريق الهوى المضل أبلغ مثلاً وأقوى أثراً وأفظع صورة. وفي ذلك يتجلى فضل الطريقة الحديثة على القديمة في الحل المحزن. أما فضلها عليها في الحل السار فهو أظهر وأكبر، لأن هوى النفس مقروناً بسلامة القلب لا يقابل على المسرح بما تقابل به الدناءة الغريزية والشر الصادر عن روية من الزراية والمقت. وإذن يستطيع الكاتب أن يجد للبطل الذي أضله هواه مخرجاً من شقوته ومخلصاً من ورطته، وهو جازم بوقوع هذا الحل السار من نفوس المشاهدين موقع الرضا والمسرة، لأنهم طالما ابتأسوا لبؤسه، وشقيت نفوسهم لشقاء نفسه.

ويجمل بنا قبل أن نفرغ من الحل أن ننبه الكتاب إلى عيب أصلي من عيوبه وهو الطول.

ومنشأ ذلك العيب سوء توزيع العمل على خمسة فصول، فيجعلون الفصل الأول للعرض، والثلاثة التالية للتعقيد، والخامس للحل. وطبيعة ذلك التقسيم تقضي بأن يبلغ الخطر أقصى درجته ومنتهى قوته في الفصل الرابع. فإذا جاء الفصل الخامس وجد الكاتب نفسه مضطراً أن يحل العقدة ببطء وتدرج ليملأه، فيطول بذلك الحل ويفتر، والجاذبية إذا انتهت في الزيادة بدأت في النقص، أو هي كالنار تغذى بالوقود فإذا ما سكت عنها انطفأت. فينبغي الإسراع فيه على شرط ألا تضر السرعة بالإمكانية، ولا الإمكانية بالشك. أما حل الملهاة

ص: 43

فهو بحكم العادة كشف خديعة وإزالة غرور وفضيحة خبث وقطيعة سخرية. ويغلب أن يكون الحب محور التعقيد الهزلي فينحل بالزواج. وهو يشارك حل المأساة في ترتبه على ما قبله وانتزاعه من نفس الموضوع وتولده من تسلسل الحوادث. ويختص دونه بعدم المفاجأة، فقد يزداد هزله كلما وضح أمره. وفي المأساة يخدع المشاهدون، أما في الملهاة فيخدع الأشخاص.

(يتبع)

(الزيات)

ص: 44

‌من الشعر المنثور

موعظة الحكيم

للأستاذ خليل هنداوي

وسمعته وقد جمع إليه تلاميذه في الساحة يودعهم ويشجعهم، وقد لمعت بوارق الأمل في وجوههم، وكأنما كل واحد منهم رسم على صفحة وجهه ما يوارى له الغد.

قال لهم: يا أبنائي، إنكم داخلون في أقطار تعرفونها وتجهلونها، وحاملون إليهم ما يعرفونه ويجهلونه، فابذلوا تعاليمكم في سبيل الحياة، لأن من يعمل للحياة تضمه الحياة إلى صدرها. لا تكونوا كأولئك الحكماء الدجالين الذين يسخرون من جهل الناس وما عرف جهلهم إلا أنفسهم، يقولون للناس: هلموا الينا، إننا أتيناكم بالحياة، وما يحملون إلا الموت. لتعط ألسنتكم من خزائن قلوبكم، وليخرس اللسان إذا أراد القلب ألا ينطق.

الكلمات المنثورة - من غير صدق اعتقاد - تمضي كما تمضي الأصداء، وتنقش في الصدور، كما تنقش على الرمال السطور!

أريد أن أسمع كلماتكم في عزلتي، وأريد أن ترسخ على وجوه الجبال وصفحات البحار. ولن تقدروا على تخليدها إلا إذا اعتقدتم بخلودها.

اذهبوا كما تذهب السوافي من البحر مبشرة بنعمة البحر. لا تمدحوا عذوبتها قبل أن تذكروا ملوحته. البحر يوزع الحياة على الأرض، ويُعطي بلا نفاد، لأن لذة حياته لم يقفها على الأخذ دون العطاء.

تذهب السافية من البحر لتعود إلى البحر نقية طاهرة لامعة تؤوب كما ذهبت. لأن الأرض لا تقابل يد الطاهر إلا بجسدها الطاهر، ولا تقابل الرجس إلا بالطهر.

اذهبوا أنتم وعودوا إليّ أنقياء طاهرين كما تذهبون طاهرين، أما الطاهر فلن يعود إلا طاهراً كالسافية النقية تذهب حبلى بأسرار البحر، وتعود حبلى بأسرار الأرض! وأما الدنس فانه لن يعود إليّ كالسافية التي خبثت نفسها فعرجت على بطون الرمال تتهادى فيها ولا تنفع الحقول. فهي إلى موت لا حياة بعده، وهي موطن لا ترتقب فيه ساقية ثانية تحملها إلى مستقرها.

كونوا كالسافية الأولى، تذهب مرنمة على أجنحة الغيوم، وتعود كرّارة ثرثارة بين تعاريج

ص: 45

الجبال والوديان.

الماء لا يحيا إلا إذا كان يغني، وإذا سكن هديره فهو آسن قد فقد الحياة.

الماء يغني في صدر البحر والجداول والأنهار، ولا يسكت إلا في الغدران الراكدة، وأية حياة في هذه الغدران؟ غنوا إذاً، وليكن غناؤكم في سبيل الحياة كما يغني كل حي من أجلها. وعلموا الناس أن يبتسموا لأن غاية الحياة هي أسمى من أن توجدنا لنشقى ونتألم، ومتى علمتموهم أغنية الرجاء هان عليكم تعليمهم غريها من الأغاني:

ما أكفرك أيها الإنسان!

كل شيء يضحك للحياة إلا أنت

(بيروت)

خليل هنداوي

ص: 46

‌13 - أعيان القرن الرابع عشر

أحمد باشا تيمور

بقلم حسن عبد الوهاب

والده المرحوم إسماعيل باشا بن محمد كاشف تيمور بن إسماعيل، تقلب في الوظائف الكبيرة إلى أن كان رئيساً للديوان الخديوي في عهد المغفور له إسماعيل باشا.

جده محمد كاشف تيمور كان ضابطاً في جيش محمد علي وساعده على إبادة دولة المماليك وترقى حتى كان والياً على الحجاز وتوفي سنة 1262 هـ (1847م)

مولده

ولد في 22 شعبان سنة 1288 هـ 1871م وقد تلقى دروسه الأولية على مدرسين خصوصيين، ثم تلقى اللغة العربية على المرحوم العلامة الشيخ رضوان محمد العالم الشهير في علمي القراءات والرسم

ودرس اللغة الفرنسية بمدرسة كليبر وعلى الأستاذ عبيد بك حتى نبغ فيها مع نبوغه في اللغتين التركية والفارسية.

وتلقى علم المنطق وعلوماً أخرى على الأستاذ الكبير الشيخ حسن الطويل، ثم تلقى علم اللغة على اللغوي الثقة الشنقيطي الكبير، فحضر عليه شرح المعلقات وغيره، فكان يذهب إليه الفقيد في منزله ويتلقى الدرس عليه وهو جالس، فكان حينما يشعر بألم ويبدل رجلاً بأخرى يقول له لا تتألم يا أحمد فقد كنا نقطع بالراحلة شهوراً وراء البحث والاستقصاء عن مسألة علمية.

وظل مثابراً على الدرس ومجالسة العلماء والأخذ عنهم حتى أصبح الحجة في اللغة بعد الشنقيطي في عصره والوحيد بعده.

ناديه بسراي درب السعادة

يرى السائر الآن في شارع درب سعادة بجوار مسجد آسنبغا فضاء كبيراً هو سراي تيمور، وقد كانت منتدى يؤمه شيوخ الأدب واللغة في القاهرة للبحث والمناقشة في المواد العلمية والأدبية، أمثال المرحومين الشيخ أحمد مفتاح والعلامة الشيخ طاهر الجزائري الحجة الثقة

ص: 47

في المؤلفات العربية، والمرحوم الشيخ محمد عبده، ويحيى أفندي الأفغاني وأصدقاؤه الأجلاء السيد رافع والسيد محمد الببلاوي والشيخ حسن منصور والشيخ محمد شاكر أطال الله بقاءهم، وغيرهم كثيرون ممن يضيق المقام عن سرد أسمائهم، وقصارى القول أن تلك الدار كانت كعبة العلماء والأدباء في مصر والأقطار العربية، وما كتبه في الصحف والمجلات من مباحث علمية وتنقيب عن حضارة العرب بأسلوب شيق وتمحيص للحقائق أكبر دليل على ماله من أدب ونظر سديد فيما يعانيه من الأبحاث. وقد جمع خزانة كتب هي مفخرة مصر بل والشرق.

الخزانة التيمورية

بدأ في تكوين خزانته سنة 1319هـ (1901م) وقد كان لديه نواة صغيرة لها من جمعه أيضاً، وظل طوال تلك السنين ينقب عن النوادر من المخطوطات القيمة ويشتريها بأغلى الأثمان حتى اجتمعت لديه نوادر يندر وجود مثلها في خزائن أخرى، بل انفردت بتحف كثيرة.

ويبلغ عدد كتبها 15000 كتاب في نحو 20000 مجلد غالبها خط، جميعها مجلدة تجليداً متقناً، واستنسخ في عهده الأخير مجموعة صالحة من مكاتب أوروبا بالفوتوغرافيا. وبها القليل من المؤلفات الفرنسية والإنجليزية مما له علاقة بحضارة العرب أو تاريخ مصر ونشرات المجمع العلمي الفرنسي.

وتمتاز هذه المكتبة بوفرة كتبها الخطية وخاصة في التاريخ واللغة، ولعل القارئ يعجب إذا أكدت له أن هذا العدد من الكتب قد اطلع عليه رحمه الله وعلق عليه ملاحظات له ما بين وفاة مؤلف، أو بيان ذيول وضعت على الكتاب، أو الإشارة إلى قوة المؤلف والاعتماد عليه في النقل. هذا ما يتعلق بالكتب المطبوعة.

أما الكتب الخطية وهي أكبر قسم فيها، فقد استنفدت منه مجهوداً لا يقدر عليه أشخاص. ومن يطلع على جميع الكتب الخطية يجدها مبتدأة بترجمة المؤلف ومنمرة، ثم فهارس بالتراجم الواردة فيه، والموضوعات المهمة، وآخر بأسماء البلدان والأماكن. وبيان الكتب الواردة فيه، ومن حبه للعلم ومساعدته على نشره لم يبخل على من أراد طبع بعض هذه الكتب بالترخيص له بطبع فهارسه، وهذا مشاهد في كتاب الطالع السعيد للأدفوي المطبوع

ص: 48

سنة 1914 فانه محلى بالفهارس التي أشرت إليها، وكما حصل أخيراً من إعطائه مفتاح الخزانة، وهو مجموعة الفهارس التي وضعها لكتاب الخزانة للبغدادي إلى المطبعة السلفية لدرجها في الطبعة الجديدة، وفعلاً طبعتها، وأمثال هذا كثير.

ومن اللطيف في هذه المكتبة تدقيقه رحمه الله في انتقاء كتبها، فإذا اطلع مطلع على نسختين من كتاب فلا بد وأن يكون هناك فرق بينهما، وكأن تكون هذه كتبت في عصر المؤلف أو قرئت عليه، والأخرى طبعة بمصر أو أوربا أو الهند.

أما المجاميع الخطية فقد وضع لها فهارس بمشتملاتها، وكل هذا المجهود بخطه.

وكثيراً ما أعار المكاتب والمستشرقين أو استنسخ لهم لحسابه هدية منه، كما أنه أعار دار الكتب الملكية بعض نفائس خزانته لتصوير نسخ منها مثل الأجزاء التي كانت تنقصها من كتاب عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي، وما لديه منه بخط المؤلف. وأخيراً أعارها الجزأين الأول والسابع من كتاب الضوء اللامع للسخاوي، وتاريخ ابن الفرات الذي استنسخه من فينا بالفوتوغرافيا، وسمح للدار بتصوير الفهارس التي وضعها لكل جزء في أوله، وعدد أجزائه سبعة عشر جزءاً.

أما النفائس التي امتازت بها المكتبة فكثيرة ولا تسعها تلك العجالة، ومن مميزات تلك المكتبة النادرة وجود تواقيع مئات من أكابر العلماء في القرن السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر الهجري، وقد حصرها جميعها، وبعد وفاته رحمه الله أهديت مكتبته إلى دار الكتب المصرية، فأفردت لها مكاناً خاصاً بها.

مقالاته ومؤلفاته

كان رحمه الله دقيقاً في البحث والتمحيص، وقد نشر مقالات كثيرة في المؤيد والضياء والمقتطف والمقطم والأهرام والهلال والهندسة والزهراء والهداية الاسلامية، وكلها في حضارة العرب وتحقيقات تاريخية.

فمن مقالاته الممتعة (الخلافة والسلطنة) نشرت في المقطم سنة 1922 ومنها (المهندسون الإسلاميون) نشرت تباعاً في السنة الثانية 1922 والثالثة 1923 من مجلة الهندسة، وأيضاً خص تلك المجلة بفصول قيمة من كتابه (التصوير عند العرب) نشر منها (التصوير على الجدران) في العدد الأول والعدد الثاني من السنة الثامنة يناير وفبراير سنة

ص: 49

1928 (التماثيل المتحركة والمصوتة) في العددين 3و4 مارس وأبريل سنة 1928 - وسبق أن نشر بمجلة الهلال الغراء مقالات عن التصوير عند العرب.

وقد انفردت مجلة الزهراء بنشر قسم كبير من مقالاته نذكر منها: بئر الثنيتين - حول تصحيح القاموس - شعر يزيد - دار ابن لقمان بالمنصورة - انتشار المذاهب الأربعة - الكرات العربية الأرضية والفلكية - الكتابات الدقيقة، غرائب أخرى في الكتابة - لقب الطواشي - الطربوش وتاريخه - وصف ساعة المدرسة المستنصرية - المشتهى وتحقيق موضعه بالروضة.

ومن مقالاته التي كان يوافينا بها أخيراً (الآثار النبوية) خص بها مجلة الهداية الإسلامية ونشر منها تسع مقالات في الأعداد محرم، وربيع ثاني، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب وشعبان، ورمضان، وشوال، وذي القعدة سنة 1348 وظهر المقال العاشر في عدد الحجة بعد وفاته رحمه الله، تكلم فيه عن الآثار النبوية في الأقطار الإسلامية بإسهاب لم يسبق، وتحقيق وتمحيص نادر، وباقي هذا البحث معد للنشر أيضاً.

وكلها مباحث تدل على سعة الاطلاع والتعمق في البحث، بل هي خلاصة معلوماته وعصارة أفكاره، وآثار تنقيبه في خلال السنين الماضية.

والحق أنها رسائل فريدة وليست بمقالات، وذلك لغزارة مادتها ودقة مباحثها التي لم تطرق من قبل.

مؤلفاته

هذه المؤلفات قسمان: ما نشر وما لم ينشر. أما ما نشر فهو:

1 -

تصحيح لسان العرب نشر القسم الأول منه سنة 1334هـ.

2 -

القسم الثاني من تصحيح لسان العرب نشر سنة 1343هـ.

3 -

تصحيح القاموس طبع سنة 1343هـ.

4 -

نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة وانتشارها طبعت سنة 1344.

5 -

قبر الإمام السيوطي وتحقيق موضعه مزين بالصور طبع سنة 1346.

6 -

اليزيدية ومنشأ نحلتهم طبع سنة 1347.

7 -

تاريخ العلم العثماني مزين بالصور. طبع سنة 1347

ص: 50

أما مؤلفاته التي لم تطبع فهي:

1 -

الأمثال العامية: وقد رأيتها بعيني تملأ مجلدات كبيرة وكلها معدة للطبع صرف في جمعها زهرة شبابه، حتى أنه رغم جمعها بنفسه أعد جوائز لمن يأتي بمثل لم يدونه.

2 -

التصوير عند العرب: اطلعت على قسم كبير منه وجميعه معد للنشر، ومن يطلع على ما نشر منه في مجلة الهندسة يعلم مقدار حاجتنا إلى مثل هذا المؤلف بعد أن رأينا ما ظهر من مؤلفات الغرب في هذا الباب وجلها اقتصر على ما عثر عليه من التصوير الفارسي وكلها لا تسمن ولا تغني من جوع بجانب هذا السفر القيم العديم المثال.

3 -

معجم تيمور في العامية المصرية: وهو بمثابة إصلاح للأخطاء الدخيلة على العربية فيذكر الكلمة وأصلها الصحيح، وبيان التحريف الذي طرأ عليها ومنشأه. وقد اطلعت على قسم كبير منه فإذا هو مجهود مضن لا يستطيع المضي فيه إلا من أوتي بسطة في العلم مثل تيمور رحمه الله، وقد نشر منه قطعاً في مجلة المجمع العلمي بدمشق، ونقلت البلاغ الغراء قطعتين منه في العددين المؤرخين 25 و 26 مايو سنة 1926.

4 -

السفن الإسلامية وأسماؤها.

5 -

شرح التبرّي من معرّة المعرّي.

وهو كتاب لطيف جمع فيه أسماء الكلب بمناسبة ما قرأه في ترجمة الإمام أبي العلاء المعري من أنه دخل على أبي القاسم المرتضى فعثر برجل فقال من هذا الكلب فقال له أبو العلاء الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً.

6 -

ولديه أيضاً مجموعة كبيرة من الوفيات منذ العصر الذي يلي العلامة الجبرتي إلى عصرنا هذا، ويكاد يكون منفرداً بها أيضاً.

هذا قليل من كثير، ولديه أشياء لم يطلع عليها أحد ومقالات لم أشر إليها في عجالتي هذه.

أعماله ومآثره

كان عضواً في مجلس الشيوخ منذ تكوينه حتى أوائل دورة العام الذي توفى فيه واستقال لانحراف صحته.

وكان عضواً بلجنة حفظ الآثار العربية. والمجمع العلمي العربي بدمشق. والمجلس الأعلى لدار الكتب الملكية، ومن مؤسسي جمعية الشبان المسلمين وجمعية الهداية الإسلامية، ومن

ص: 51

مؤسسي جمعية نشر الكتب العلمية، وفي سنة 1924 أهدى إلى المجمع العلمي بدمشق مجموعة من الموازين (الصنج) الزجاجية مع قسم كبير من الكتب.

وأهدى إلى دار الآثار العربية خنجراً مرصعاً بالأحجار الكريمة وسيفاً كان لجده تيمور كاشف وأهدى إلى جمعية الشبان المسلمين كتباً قيمة وأيضاً منح جمعية الهداية الإسلامية في شهر أبريل سنة 1930 120 كتاباً.

ولو لم يكن من مآثره إلا مكتبته النادرة لكفى.

أخلاقه

كان رحمه الله مثلاً عالياً في الأخلاق. حلو المعاشرة هادئاً حليماً، على دين متين ولهجة صادقة، وسمت حسن، وعقل وافر ووقار، محباً للخير لا يصل إلى الشر مطلقاً.

وقد كان محسناً متواضعاً لا يحب الظهور ولا المباهاة، وانظر إلى تواضعه الملموس في مقدمة كتابه تصحيح لسان العرب وهو أكبر كتاب في اللغة حيث يقول:

(ولسنا في ذلك بمدعين عصمة أو متبجحين بفضل)

وما أجمل تواضعه حينما يصف لنا مقالاته (التصوير على الجدران) و (التماثيل المتحركة) بأنهما من رسالة التصوير عند العرب، يمين الله أن المقال الواحد منهما حري بأن يكون رسالة وافية فما بالك بكتاب ضخم يصفه لنا برسالة.

وكان مثلاً عالياً في التقوى والغيرة على الإسلام والمحافظة على العوائد القومية.

خاتمته

لقد كانت حياته حافلة بجلائل الأعمال قضى معظمها في البحث والتنقيب والذود عن الإسلام، وجمع نفائس الكتب، حتى نكب بوفاة نجله المرحوم محمد بك تيمور في أوائل سنة 1921 فكانت صدمة قوية لم يقو على كفاحها، فأثرت في صحته، ومن ذلك الحين أصبح يميل إلى العزلة.

ومع أن مصيبته بفقد نجله هذا من أكبر المصائب فإنها لم تنته عن المثابرة على الكتابة والبحث، غير أن نوبات المرض كانت تنتابه بين آونة وأخرى، وخاصة في أعوامه الأخيرة وهو لم يرحم نفسه ولم يشفق عليها.

ص: 52

وفاته

في الساعة الرابعة من صبيحة يوم السبت 27 ذي القعدة سنة 1348 - 26 أبريل سنة 1930 انتقل إلى رحمة الله تعالى فانطوى ذلك العلم الخفاق، واندك ذلك الركن الركين، وكان لنعيه رنة حزن وأسف جزعت لها القلوب وفاضت بالبكاء العيون إنا لله وإنا إليه راجعون. ودفن وقت الغروب بمقبرة عائلته المجاورة لقبر سيدنا الإمام الشافعي، رحمه الله وطيب ثرى تربته.

حسن عبد الوهاب

ص: 53

‌في المعلقات أيضاً

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

. . . وكنت عازماً على العودة إليها بتكملة رأيي فيها، وأقول رأيي وإن حاول بعضهم أن يجعله رأي عالم أوربي سبقني إليه فلا يكون لي جديد فيه، وقد اشتغلت بالكتابة في العلم والدين والأدب والتاريخ من نحو خمس عشرة سنة، ولى في ذلك بفضل الله آراء كثيرة جديدة خالصة جِدتها لي، ولم يحاول أحد في رأي منها ماحوول في رأيي الجديد في المعلقات، اللهم إلا ما كان من الأستاذ الجليل أنطون الجميل فيما كان بيني وبين الأستاذ زكي مبارك في نقد تسمية العصر الأدبي قبل الإسلام باسم العصر الجاهلي، لأنها تسمية دينية لا أدبية، وكان بيننا في ذلك جدال فيمن هو صاحب ذلك الرأي مني ومنه، فذكر الأستاذ الجميل أن هذا الرأي ليس لي ولا له وفلاناً مسبوق به، فأما أنا فذهبت إليه فلم أجد عنده في ذلك شيئاً فاكتفيت بذلك منه، وأما الأستاذ زكي فإنه سكت على ذلك، وهو من عادته ألا يسكت عن شيء، وألا يرضى بالهزيمة وهو منهزم، ولعله رضى من ذلك بما رضيت به إحدى المرأتين اللتين تنازعتا في ولد عند سليمان عليه السلام.

وكذلك هذا الرأي الذي أذهب إليه في المعلقات ليس هو رأي الأستاذ نولدكه، ولا رأي الأستاذ كليمان هيار، وإنما هو توجيه جديد لتسمية هذه القصائد باسم المعلقات أصح من توجيههما لها، فإني أرى أن المعلقات اسم مفعول مشتق من التعليق بمعنى الحفظ أو الشرح أو الحب والتتبع كما قال الشاعر:

علقتها عرضاً وعلقت رجلا

غيري وعلق أخرى ذلك الرجل

وكما يقولون فلان علق علم أي يحبه ويتبعه، وعلق شر كذلك.

وأما الأستاذ نولدكه فيحاول أن يحمل اسم المعلقات معنى علق، وهو الشيء النفيس فتعني هذه التسمية عنده أن هذه القصائد قد سمت إلى درجة خاصة مجيدة، وهي محاولة خاطئة، لأن العلق بمعنى الشيء النفيس صفة مشبهة لا يشتق منها اسم مفعول هكذا (معلقات)، وإنما يشتق اسم المفعول من المصادر وما في معناها، ولم يقل أحد إن اسم المعلق يطلق على الشيء النفيس، وإنما الذي يطلق عليه اسم العلق فقط فاخذ أحدهما من الآخر خبط وخلط.

ص: 54

وأما الأستاذ كليمان هيار فيرى أن المعلقات جمع معلقة بمعنى القلادة بدليل أنهم يسمونها أيضاً السموط بمعنى العقود أو القلائد وهو أيضاً توجيه خاطئ لأن كلمة معلقة تطلق على التميمة وعلى المرأة المعلقة وهي التي ليست بذات زوج ولا مطلقة وعلى غير ذلك من أمور كثيرة وهي أشهر في المرأة المعلقة من التميمة والقلادة وغيرهما من كل ما يعلق ولو كانوا يريدون هذا المعنى في تسمية هذه القصائد بالمعلقات لسموها باسم القلائد كما سموها باسم السموط حتى يكون هذا الاسم نصاً في ذلك المعنى ولا يحتمل معنى التميمة أو غيرها مما يصح أن يطلق عليه اسم المعلقات. وقد جاء في الأساس أنه يقال أعلقت المصحف جعلت له علاقة يعلق بها واشتقاق اسم المعلقات لهذه القصائد من نحو هذا أجدر من اشتقاقها من المعلقة بمعنى القلادة. وقد ذكر بعض شيوخ الأدب ما يقرب من هذا في سبب تسمية تلك القصائد باسم المعلقات فقال إن العرب لم تكن تكتب في دفاف ولم تكتب قبل القرآن كتاباً مدففاً، وإنما كانوا يكتبون في رقاع مستطيلة من الحرير أو الجلد أو الكاغد يوصل بعضها ببعض ثم تطوى على عود أو خشبة وتعلق في جدار الرواق أو الخيمة بعيدة عن الأرض حرصاً عليها من قرض فأرة أو عث أو نحو ذلك من دواب الأرض، وذلك تأويل قوله تعالى (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) إذ يظهر أن السجل ومعناه الصحيفة أو الكاتب الذي كان يعلق الكتب أو يطويها لعله كان يستعمل مثل هذا العود في طي الكتاب وتعليقه.

فهذا هو رأيي في المعلقات مع رأيي الأستاذين نولدكه وكليمان هيار وهذه ميزته عليهما ولا أقول الفرق بينهما، لأنه من الوضوح بحيث كان يغني ذلك الناقد عن نقده، ويغنيني عن هذا الرد عليه إلى ما هو أنفع عندي منه. ولا أثقل على نفسي من أن يقول ناقد رأيي إنني أغفلت مناقشة ونقض رأي القائلين بأن هذه القصائد سميت بالمعلقات لأنها كانت تكتب بالذهب وتعلق بأستار الكعبة فيلجئني إلى أن أعيد له ما ذكرته في نقض هذا الرأي عن أبي جعفر النحاس من أنه لا يعرفه أحد من الرواة، فكيف أكون مع هذا قد أغفلت مناقشته ونقضه.

ولا أثقل على نفسي من أن يذكر ناقد رأيي أن أبا جعفر النحاس أطلق الملك الذي كان يأمر بتعليق هذه القصائد في خزانته إطلاقا وأني أنا الذي حملته على النعمان بن المنذر ليتأتى

ص: 55

لي نقض رأي أبي جعفر فيلجئني إلى أن أعيد له ما قلت من أن أبا جعفر لم يذكر من هو هذا الملك الذي كان يأمر بتعليق هذه القصائد في خزائنه وأن بعض علماء الأدب هو الذي رجح أنه النعمان بن المنذر، فلم أكن أنا الذي حملته عليه ليتأتى لي بذلك نقض رأيه، ثم إني لم أكتف بهذا في نقض رأيه بل ذكرت ما ينقضه، ولو كان ذلك الملك ملكاً آخر قبل النعمان بن المنذر وأشرت إلى الأسباب المعروفة التي قيلت المعلقات من أجلها والى الأمكنة التي قيلت فيها وهي أمكنة غير تلك الأسواق التي يقول أبو جعفر وغيره أنها كانت تقال فيها.

ولا أثقل على نفسي من أن لا يطلع ناقد رأيي على النص الذي أخذت منه أن سوق عكاظ أنشئ بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة. ثم يطلع على نصوص أخرى قد تخالف ذلك فيمضي فيها إلى أن يعود فيسألني عن النص الذي اعتمدت عليه في أمر قيام تلك السوق بعد عام الفيل، فيلجئني إلى أن أدله في ذلك على كتاب المتداول مشهور هو كتاب (الوسيط) للأستاذين الفاضلين الشيخ أحمد الإسكندري، والشيخ مصطفى عناني، وإني أذكر لناقد رأيي نصاً أقدم مما ذكره من النصوص التي ذكرها في إثبات قدم سوق عكاظ.

قالوا في تفسير المثل المشهور (الحديث ذو شجون) إنه يضرب في الحديث يتذكر به غيره، أي ذو طرق يتصل بعضها ببعض ويؤدي بعضها إلى بعض، والواحد شجن قاله ضبة بن أد ابن طابخة بن إلياس بن مضر، وقد نفرت إبل له فطلبها أبناء (سعد وسعيد) فوجدها سعد فردها، ومضى سعيد فلقيه الحارث بن كعب فأخذ منه برديه وقتله واختفى خبره على أبيه إلى أن وافى عكاظ فرأى بردي سعيد على الحارث فسأله عنهما فأخبره بأنه رآهما على غلام فطلبهما منه فأبى فقتله بسيفه، فقال له ضبة: أعطينيه أنظر إليه فإني أظنه صارماً، فأعطاه له فهزه في يده وقال:(الحديث ذو شجون)، ثم قتله به، فقيل له يا ضبة: أفي الشهر الحرام؟! فقال: (سبق السيف العذل) فذهب أيضاً مثلاً.

ولا شك أن عصر ضبة أقدم بكثير من عصر عبد شمس بن عبد مناف، ولكنها نصوص قد تحمل على الاشتباه وان ذاكرها يريد سوقاً أخرى غير سوق عكاظ فاشتبهت عليه لشهرتها، وهكذا يغطي كل مشهور على كل شيء سواه، فيبقى النص الذي يعين قيام سوق عكاظ بعد عام الفيل غير قابل للتأويل ويقدم على غيره من النصوص الأخرى لأنه نص سيق لبيان

ص: 56

تأريخ بدء هذه السوق ونهايتها، وتلك نصوص في حكايات أخرى ذكرت هذه السوق عرضاً فيها، فيمكن حملها على الاشتباه كما ذكرنا.

وإذا أراد ناقد رأيي بحثاً في وثاقة رواية هذه القصائد وأمثالها فيمكنه أن يجد ذلك في بحث صحة أشعار امرئ القيس من كتابنا (زعامة الشعر الجاهلي) فلعله يقتنع بأنّا قد نحسن هذا النوع من البحث، وأراني بعد هذا قد أطلت، ومنعني الأستاذ الحاجري من العود في هذا المقال إلى تكملة رأيي في المعلقات فليكفه هذا منى وليتركني في سبيلي وجزاه الله خيراً.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 57

‌من طرائف الشعر

على الشاطئ

للأستاذ محمود خيرت

أنظر الشاطئ البهيَّ الرّواء

ضاحكاً كالخميلة الغنَّاء

كل غصنٍ به تمثَّلَ قَدّاً

أنبتَتْ وَردَه خدُودُ الضباء

فاتناتٍ وقد خَطرن سَكارى

برحيقٍ من الرِّضى والصَّفاء

سافراتٍ وكيف يحتبس الحُس

ن وقد كان من فيوض السَّماء

عارياتٍ كأنما قد تسترْ

نَ عليه بحُلَّةٍ من رياء

باسماتٍ والابتسامةُ تحيي

في قرار النفوس ميْت الرّجاء

فتَرَى أعيُنَ الشباب عليه

نَّ خفافاً من كل قاصٍ وَنَاء

وتراهنَّ آمِناتٍ بمنأى

عَن تَجَنٍّ أو نُفرَةٍ أو جَفاء

قد تأكّدْنَ أنَّها نظراتٌ

أرسلَتها العيون بالإطراء

والغواني يهزُّهنَّ كما قد

قال شوقي العظيم سحر الثناء

وانظر البحر هل ترى لمداهُ

آخراً. رائعاً كرحب الفضاء

وهو حيٌّ له نصيبٌ من الحِ

س وحالاتُ فتنةٍ والتِواء

فإذا مسَّه النَّسيم عليلاً

كان مثل الصحيفة الزَّرقاء

وتراه كأنما الرّعدُ يَدوي

حول أمواجه من الأنواء

قام يُزجي مياهَه صاعداتٍ

نحو أقدامهنَّ في إغراء

فتواثَبْنَ كالعرائس لكن

كنَّ فيه عرائساً من ضياء

وتناثرْن كالدُّمى سابحاتٍ

في انحرافٍ عن سطحه واستواء

هادياتٍٍ لقاعِه غائصاتٍ

ثم يظهرْن عند سطح الماء

ثم يأخُذْن في التَّراشُق بالما

ء رشاشاً وهنَّ في ضوضاء

هكذا ينعَمُ الملاح على الشَّا

طئ حتى يرفّ ظلُّ المساء

(الإسكندرية)

ص: 58

محمود خيرت

بقسم قضايا المالية

ص: 59

‌ليلة الأهرام.

. .

مَوثِقُ الحبِّ الذي صِحْنا به

شَهِدَ الأهرامُ والبدرُ عليهِ

شقَّ كلٌّ صدرَهُ عن قلبه

ومضى يبعثُ بالعهدِ إليهِ

ومَضَتْ أعيُنُنَا تروي الغَرَامْ

وتَبُثُّ الوَجدَ وحياً خالدا

رَفرَفَ الأمنُ عليها والسلام

وضياءُ البدرِ يسري هاجداً

آهِ من فرصةِ لثمٍ وعِناقْ

لم تُتَح إلاَّ لِسكَّان الجِنان

اختلسناها، وعُدنا في احتراق

نَحقُرُ الدنيا، ونُزرِي بالزمان. .!

ثغريَ الصديانُ كم لاذَ بثغركْ

يرشفُ النورَ الذي رَفَّ وحام

وذراعي كم هوتْ تعطف خَصْرِكْ

والهوى الصادقُ في الأعْيُنِ نام.!

لا تقولي ما مضى فاتَ، فما

يَطَّبِينِي غيرُ ماضي الذكريات

أنا أهواك جَبينَاً وفَماً

وضياءً شاع في كلِّ الجهات

قُلتِ لي، والبدرُ للأهرامِ يرنو،

وأنا في سَكرَةٍ مِمَّا أرَى:

(أتُرَى أحبَبْتَنِي أم أنت تحنو

مُشفِقاً، أم ذاكَ حُلمٌ في الكرى؟)

قلت: (أهواكِ ولا أهوى سواكِ)

ثم لاذَ الثغرُ ضمآناً بِثَغْرِكْ

وطعِمْتُ الحُبَّ حلوى في لَمَاكِ

وشربتُ الضوء من جاماتَ سِحْرِكْ!

ثم قثمنَا، وانحدرنا في الطريق

مِثلَ مخمورَيْنِ لَجّا في الغبوق

ضَمَّ صدرانا من الوجدِ حريق

وثوى في ثغرها حُلْوُ الرحيق!

مختار الوكيل

ص: 60

‌في الريف

للشاعر محمود غنيم

عشقوا الجمال الزائف المجلوبا

وعشقتُ فيكَ جمالك الموهوبا

قدست فيك من الطبيعة سرها

أنعم بشمسك مشرقاً وغروبا

ولقد نزلتك فادكرت طفولتي

وتمائمي. طوبى لعهدك طوبى

زعموك مرعى للنبات. وليتهم

زعموك مرعى للعقول خصيبا

فهي القرائح أنت مصدر وحيها

كم بت تلهم شاعراً وخطيبا

حييتُ فيك الثابتين عقائداً

والطاهرين سرائراً وقلوبا

والذاهبات إلى الحقول حواسراً

يمشي العفاف أمامهن رقيبا

سلبت عذاراك الزهور جمالها

فبكت تريد جمالها المسلوبا

كست الطبيعة وجه أرضك سندساً

وحبت نسيمك إذ تضوع طيبا

بسط تظللها الغصون فأينما

يممت خلت سرادقاً منصوبا

وحنت على الماء الجذوع كأنها

أم تضم وليدها المحبوبا

وبدا النخيل غصونه فيروزج

يحملن من صافي العقيق حبوبا

أرأيت عملاقاً عليه مظلة

أو مارداً ملء القلوب مهوبا؟

يا رب ساقية لغير صبابة

أنَّت وأجرت دمعها مسكوبا

وحمامة سمع الفؤاد هتافها

فحسبته بين الضلوع مجيبا

والغيد تغمس في الغدير جرارها

فيظل يضحك ملء فيه طروبا

سربان من بط وبيض خرّد

يتباريان سباحة ووثوبا

وترى الجداول في الأصيل كأنها

من فضة فيها النضار أذيبا

يا بدر أنت ابن القرى وأراك في

ليل الحواضر إن طلعت غريبا

نشر السكون على القرى أعلامه

فتكاد تسمع للفؤاد وجيبا

بدت الحياة هناك في ريعانها

ولو أنها سارت تدب دبيبا

ولقد ينام القوم ملء العين في

زمن يقض مضاجعاً وجنوبا

وهي السعادة كم أوت كوخاً وكم

هجرت أشم من القصور رحيبا

ص: 61

قالوا الحضارة قلت أسفر وجهها

وبدت محاسنها فكن عيوبا

ما ضر أهل الريف ألا يحفلوا

بالطب أو لا يعرفوا (الميكروبا)

ضمنت سلامتهم سهولة عيشهم

وصفا هواؤهمو فكان طبيبا

رضعوا رحيق السائمات ومادروا

غير النمير وغيره مشروبا

وسرى شعاع الشمس في أبدانهم

فجرى بأوجههم دماً مشبوبا

شمس القرى كست الوجوه نضارة

أرأيت وجهاً في القرى مخضوبا؟

سر في الحقول تر الرياضة عندهم

فناً. وخطاً عندنا مكتوبا

أكبرت في القروي صحة عزمه

وحسبته في صبره أيوبا

ورأيت طيب النفس فيه سجية

ووداده سهل المنال قريبا

فيه ترى الخلق الصريح ولا ترى

ضحك النواجذ بالخديعة شيبا

أنا لا أقول: تشينه أميَّة

كن خيِّراً لا كاتباً وحسيبا

كم ضل من أهل الحواضر قارئ

فاغتال أعراضاً وشق جيوبا

في الريف فتيان تسيل جباههم

عرقاً فيصبح لؤلؤاً مثقوبا

لا فتية مرد بأيد بضة

في كل يوم يلبسون قشيبا

بذلوا لمصر فوق ما في وسعهم

ورضوا بما دون الكفاف نصيبا

محمود غنيم

ص: 62

‌العلوم

البراكين

بقلم نعيم علي راغب

دبلوم عال في الجغرافيا

هي ظاهرة من أهم الظواهر التي تدل على حرارة الأرض الباطنية. وأنه لمن المدهش حقاً أن نجد حتى الآن وبين مدرسي الجغرافية من يخطئ في تعريف هذه الظاهرة، ولذلك سأبدأ بحثي بتعريف البركان ووصف أجزائه بالتفصيل، ثم أختتمه ببيان الغلطات الشائعة في تعريف البركان ووصفه:

البركان عبارة عن شق يصل باطن الأرض بظاهرها، فهو بمثابة قصبة تخرج عن طريقها المواد المنصهرة من باطن الأرض إلى سطحها إذا كان البركان ثائراً. فإذا ما همد لسبب ما وخمدت ثورته سدت القصبة إما بتجمد المواد المنصهرة فيها، أو تجمع المواد المفتتة بها.

أجزاء البركان

يتكون البركان عادة من أقسام ثلاثة هي: -

1 -

القصبة واسطة الاتصال بين باطن الأرض وسطحها. تخرج منها المواد المنصهرة ومقذوفات البركان وهذه القصبة تظل مفتوحة ما دام البركان مستمراً في ثورانه حتى إذا ما سكنت ثورته أو خمدت تجمدت فيها المواد الذائبة وتراكمت في الفتحة الصخور والأحجار فتنسد.

2 -

الحوض تجويف يقع في نهاية القصبة البركانية يختلف في اتساعه تبعاً لقوة ثوران البركان. ففي البراكين الصغيرة يصغر مقدار قطر الحوض كما في بركان كوتابكس وفزياما.

3 -

المخروط عبارة عن تراكم المقذوفات على جوانب الفتحة أو القصبة. والمخاريط على أنواع فهي إما لابية كمخروط بركان ترابية كما في بركان (الواقع على الساحل الغربي لجمهورية بيرو) أو أن يكون المخروط جامعاً بين النوعين وهذا شائع الوجود. وقد تتجمد المواد المنصهرة هنا بين الطبقات الترابية والحجرية وتكون عروقاً صلبة يطلق

ص: 63

عليها اسم السدود أما ارتفاع المخروط البركاني فيختلف باختلاف قوة البركان وقد يبلغ ارتفاعاً كبيراً: فمخروط فيزوف يبلغ ارتفاعه 4000 قدم واتنا11000 وكوتابكس18876.

ثوران البركان

إذا ما ثار البركان جمع الشياطين معه ليقوموا سوياً بعملية الهدم والتخريب فيقذف من فوهته بالحمم ويلقي في الجو بالصخور مكوناً سيلاً من مواد منصهرة مخربة ينحدر على المدن والقرى القريبة ليدمرها. ينحدر إليها ببطء حقيقة ولكنه ينحدر بلا تردد.

ويسمع للبركان الهائج دمدمة تصم الآذان وينتشر مع الثوران دخان يعمي العيون، فتذبل الأزاهير وتتحطم الأشجار، وتعود الأماكن التي كانت كالجنان جحيماً ثارت فيه الشياطين، ويغدو الجو الذي كان عطراً بالأريج خانقاً لا يحتمله الصدر ولا مجال للتنفس فيه.

ويغلب أن يحدث الثوران البركاني بعد مقدمات تسبقه بدقائق معدودات لوحظ منها: -

أ - ارتفاع صوت كصوت الرعد يرتفع منقطعاً لكنه لا يلبث حتى يزداد شدة فتصحبه هزات أرضية شديدة تتعاقب بسرعة كبيرة.

ب - انخفاض مستوى الماء في الآبار المجاورة وذلك ناشئ من تسرب المياه في الشقوق الحادثة في باطن الأرض.

ولو أنه قد يثور البركان دون إنذار سابق كما حدث في بركان فيزوف عام 1853 ميلادية. ويجب أن لا نظن أن البركان إذا ثار اندفعت منه المواد المنصهرة دفعة واحدة فهذا غير حقيقي لأن للمقذوفات البركانية ترتيباً يقرب من الترتيب التالي حين الثوران:

1 -

يبدأ الثوران البركاني بخروج الأبخرة والغازات قاذفة معها أثناء خروجها أتربة كثيرة وفتات الصخور التي كان قد سبق أن تجمدت في فوهة البركان. ويعلو في الجو إلى ارتفاعات عظيمة بخار الماء المتصاعد وما معه من الغازات الأخرى (بلغ ارتفاعه في بركان كركاتو 17 ميلاً) وعلى أثر ارتفاع الأبخرة المائية إلى هذه الارتفاعات العظيمة تتكاثف وتنهمر على شكل أمطار غزيرة تمتزج بالأتربة الكثيرة فتكون أنهاراً طينية

2 -

يتلو ذلك الأتربة والأحجار المفتتة التي تندفع على أثر البخار والغازات وتنشأ عن انفجار الصمامات البركانية والتصدع الناشئ في الجوانب الداخلية للمخروط بفعل الاضطرابات البركانية وقد ميزوا بين أنواع مقذوفات الدور الثاني بالنسبة للحجم فهناك

ص: 64

أ - التراب البركاني وهو عبارة عن فتات رفيع يتراوح حجمه بين حبة الرمل والدقيق.

ب - القنابل البركانية وهي عبارة عن كتل حجرية مستديرة أو بيضاوية أصلها صخر منصهر قذفها البركان وهي في حالة السيولة فتجمدت واستدارت أثناء وجودها في الهواء وتكون مسامية غالباً.

جـ - وهي كتل لابية الأصل تخرج من البركان جامدة.

3 -

يأتي بعد ذلك خروج المواد المنصهرة وهي ما يطلق عليها اسم اللابة من القصبة المركزية أو من الفتحات الجانبية. وهي آخر ما يقذفه البركان، وبخروجها يتعين هدوء الاضطرابات البركانية. وهذه تخرج في درجة حرارة عالية ثم تبرد تدريجاً بتعرضها للجو الخارجي، ويقتم لونها إذا ما بردت كما أنها عندما تتجمد تصير كثيرة الثقوب.

وتختلف سرعة سير المادة اللابية باختلاف درجة سيولتها وانصهارها كذلك تبعاً لانحدار الأرض ولذلك تكون سرعتها في المبدأ كبيرة نسبياً تقل تدريجاً كلما بعدت عن فوهة البركان. وقد يحدث أن تحتفظ هذه الأنهار المكونة من المادة اللابية بسيولتها لمسافات طويلة فمثلاً في سنة 1783م ثار بركان في جزيرة الجليد خرجت منه مقادير عظيمة من المواد المنصهرة ملأت مجاري الأنهار والبحيرات والفتحات المجاورة لمكان البركان لمسافات كبيرة فبلغ امتدادها في إحدى هذه الجهات 28 ميلاً وفي الأخرى 50 ميلاً وارتفاعها 100 قدم وعرضها 15 ميلاً. وليتصور القارئ الكريم معي بعد ذلك مجرى بهذه المقاييس مكوناً من مواد منصهرة تشع حرارة وتصعد أبخرة وغازات خانقة.

ومما يدل على عظم مساحة الأراضي التي كانت تغمرها المواد اللابية المنصهرة ما هو مشاهد الآن من وجود مساحات كبيرة على الأرض، طبيعة تكوينها لابية تكسوها مادة لابية إلى أعماق كبيرة خرجت من باطن الأرض في عصور جيولوجية حديثة. أشهرها هضبة الدكن وكولومبيا والحبشة.

ويميز عند ذكر كلمة بركان بين ستة أنواع للبراكين.

1 -

البراكين الثائرة وهي دائمة الثوران كسترامبولي، ومتقطعة الثوران كفيزوف.

2 -

البراكين الساكنة وهي التي تهدأ لمدة من الزمن ثم لا تلبث أن تثور فتهدم ما يقوم بجانبها من مدن أو مساكن كما حدث في فيزوف سنة 69م.

ص: 65

3 -

البراكين المتآكلة أو ما يطلق عليها اسم نسبة إلى بركان بهذا الاسم سكن وأثرت عليه عوامل التعرف فتآكل مخروطه ولم يبق منه إلا فتحة تخرج منها الغازات.

4 -

البراكين الهامدة أو المائية وهي ما ينعدم فيها كل أثر للثوران ولا يبقى منها إلا المخاريط على شكل تلول كتلك التي وجدت قرب أسوان ومثل براكين أوفيرون في هضبة وسط فرنسا.

5 -

البراكين الطينية وهي نوع تخرج منه كميات كبيرة من الماء مختلطة بالأتربة فيسيل الوحل على الجانبين مكوناً أنهاراً طينية، وتوجد هذه الظاهرة في كثير من المناطق البركانية وتعين آخر مظهر للثوران البركاني مثل براكين صقلية ونيوزلند وباكو وجنوب بلوخستان.

6 -

البراكين المائية. وفيها لا يخرج سوى الماء كما في الينابيع الحارة والنافورات.

أسباب البراكين

سبق لي القول في العدد 53 من هذه المجلة الغراء الصادر بتأريخ 9 يوليو الماضي، أن القشرة الظاهرة للأرض عرضة لعامل الانكماش بفعل انخفاض حرارة الباطن وانكماش الجزء الداخلي فتلتوي القشرة الظاهرية لكي تتلبس على الباطن الذي نقص حجمه. وقد يكون الالتواء الحادث من الانكماش في بعض الجهات أكثر منه في جهات أخرى، ولذلك فإنه حيث ينظم الالتواء تنكسر الطبقات الأرضية، وتشقق مكونة مناطق ضعف في القشرة الأرضية

ولما كانت مناطق البراكين في توزيعها على العالم تتبع هذه المناطق الضعيفة فإننا لا نشك لحظة في أن السبب الرئيسي لحدوث البراكين هو تكوين هذه الشقوق أو العيوب التي تستفيد من وجودها المقذوفات البركانية والمواد المنصهرة، فتندفع خلالها، وتخرج منها إلى السطح الخارجي.

على أن هذا السبب يحتاج لبعض التفسير، فهناك قوة البركان القاذفة، وتكرار الثوران بين كل آونة وأخرى، وهذان يمكن تفسيرهما بوجود الشقوق البركانية مجاورة للمساحة المائية العظيمة، ولذلك فإن الماء المتسرب إلى الباطن يتحول إلى بخار بتأثير الحرارة، يجتمع مع الغازات الأخرى التي في الباطن، ويكوّن منها قوة دافعة عظيمة تقذف بالمواد المنصهرة

ص: 66

وغيرها إلى السطح.

هذا وهناك من يرى أن المادة المنصهرة التي تخرج في نهاية الثوران مصدرها (جيوب) في أسفل القشرة الظاهرة، وتوجد هذه بكثرة في الجهات المرتفعة حيث يكون الضغط قليلاً.

غلطات شائعة

لا زلت حتى الآن، وأنا أكتب هذا المقال، أذكر كيف كنا نحفظ تعريف البركان بأنه (جبل يخرج ناراً ودخاناً) ولعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت إن هناك اليوم من لا يعرف إلا هذا التعريف للبركان.

البركان ليس جبلاً. وقد جاء في تعريفي الأول للبركان، أنه فتحة أو شق في ظاهر الأرض يوصل بينه وبين الباطن، وليس الشكل المخروطي الذي هو حقيقة شبيه بالتل أو الجبل إلا المقذوفات والأتربة التي قذفها البركان، فتساقطت وانحدرت حول الفتحة البركانية مكونة هذا الشكل المخروطي.

وليس البركان جبل نار. إذ أن ذلك الذي يراه الناس فيحسبونه ناراً ليس إلا خطأ أو خداعاً نظرياً لأن انعكاس لون باطن البركان المتوهج على الغازات المتصاعدة يوحي إلى الناظر أن المتصاعد نار. ويجب أن نعرف أن هناك بين النار والتوهج فرقاً عظيماً فقد تكون قطعة من الحديد تتوهج احمراراً من الحرارة ولكن لا يصلح أن نطلق عليها اسم نار.

وهناك من يقول بأن البركان يخرج دخاناً وليس هذا القول صحيحاً، لأن ذلك الذي يطلق عليه اسم الدخان ما هو في الحقيقة إلا بخار الماء المتصاعد من باطن الأرض بفعل حرارتها عند ثوران البركان. كذلك لا يشترط في ثوران البركان أن يحدث الانفجار من أعلى المخروط أو بمعنى آخر أن تكون الفوهة في أعلى المخروط، لأنه يحدث كثيراً أن تكون الفتحة جانبية وأن يكون للبركان الواحد أكثر من فوهة واحدة.

ويحسن بي الآن قد انتهيت من الكلام على البراكين أن أذكر ظاهرة طبيعية تقترن بثورانها، وهي الاهتزاز الذي يحدث في المنطقة المحيطة بالبركان الثائر، وهذه يطلق عليها اسم الزلزال البركاني، وهذا النوع من الزلزال ولو أنه محلي إلا أنه عنيف، وقد يحدث تلفاً وأضراراً عظيمة كما حدث في زلزال جزيرة (في خليج نابلي) سنة 1388 الذي أهلك ألفي نسمة.

ص: 67

نعيم علي راغب

دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافيا

ص: 68

‌القصص

القابلة

للأستاذ محمود خيرت

تقيم تلك القابلة مدام دوبوا في ركن عند ملتقى شارع سان لازاك وشارع روشفوكولد حيث كتبت اسمها على باب منزلها بخط كبير.

وهذا المنزل أو تلك (العيادة) التي لا تقتصر في اريس على مساعدة الحاملات عند وضعهن. . . لا تجرؤ الفقيرات على الدنوّ منها، لأن مدام دوبوا تشتطّ في الأجر فلا تستقبل فيها إلا طبقة السيدات الغنية التي ترى في الحمل عبثاً ثقيلاً.

وفي ذات يوم نزلت من العربة أمام تلك الدار فتاة رشيقة ثم صعدت إلى الطابق الثاني. وبعد أن استقبلتها الخادمة وأدخلتها عند سيدتها أخذت هذه تطيل النظر فيها كأنها تستطلع أمرها، لأن الزائرة كانت مع حسنها وصباها يشق جبينها من وقت لآخر خط ينم عن تفكيرها وتكتّمها حالتها.

على أن القابلة لم يخْفَ عليها من أول نظرة أن هذه الفتاة حامل، ولكنها مع ذلك تجاهلت أمرها، وسألتها عن سبب زيارتها وقد عادت إليها حالتها العصبية السالفة:

(لقد اقتضى مجيئي إليك كثيراً من الشجاعة يا سيدتي لأنني لم يعد في وسعي الأحجام بعد ذلك الصبر الطويل الذي غلبني. بل إنني لا أدري كيف قدرت على كتمان أمري إلى الآن. لذلك قصدتك وأنا أرجو السلامة على يديك فما أنا بذات بعل ولا أنا مخطوبة، حتى إنني لأخشى أن يفتضح أمري فيلحقني العار ويلحق بأهلي)

وعند ذلك عادت القابلة تسألها: لماذا لم توحي لأمك بذلك فلعلها كانت تهيئ لك أسباب السفر إلى مكان قصي تضعين فيه حملك. ولكنها كانت يتيمة من أمها، وما كانت لتجد شجاعة على مكاشفة أبيها بأمرها وإن كان يحبها ويُعزّها خشية أن تنغص حياته وتكدر صفوه.

وقد علمت منها القابلة أن عشيقها مات قبل أن تشعر بهذا الحمل الذي مضى عليه أربعة شهور، فلامتها على إهمالها شأن نفسها إلى تلك اللحظة قائلة إنها لو كانت قصدتها قبل ذلك فربما كانت وُفّقت إلى الأخذ بيدها. أما بعد هذه المدة الطويلة. . .

ص: 69

وعند ذلك سقطت الفتاة باكية عند قدميها تستصرخها وتتوسل إليها صائحة: أنقذيني يا سيدتي فإنك قديرة على ذلك. على أنني ما قصدتك إلا بعد أن هدتني إليك إحدى صاحباتي.

أما القابلة فتجاهلت تلك الصاحبة قائلة إنها ما أقدمت مرة على عمل ممقوت كهذا، فأخذت الفتاة تنوح وتستعطفها وتنشد مروءتها إن لم يكن إكراماً لتلك الصاحبة فشفقةً بها، ثم قالت إنني لن أبخل بما تطلبين، وأقسم لك أيضاً أنني لا أخرج من هنا إلا صمّاء فلن يعرف أحد شيئاً من أمرك وأمري.

ولقد هدّأت هذه الأقوال من روع القابلة سيما بعد أن اطمأنت على أجرها، ولذلك قالت لها إني أعرف هنا جرّاحاً شهيراً في وسعه أن يخلصك من هذا الحمل بغير عناء ما دمت تدفعين له ما يطلب، ولكنه لا يقبل أقل من ثلاثة آلاف فرنك. فلما قبلت المسكينة أوصتها بالعودة إليها في صباح اليوم التالي.

وفي الموعد وقفت عربة الدكتور تيسو عند باب منزل خلوي كان يعدّه لعملياته الجراحية المحرمة. وكان قد علم من القابلة بأمر هذه الفتاة وأنها جاءت كما أوصتها، وناولته الأجر الذي اتفقت معها عليه. وعند ذلك سألها ما إذا كانت قد عرفت من هي أو من هم أهلها، فقالت له إنها لم تشأ أن تذكر لها شيئاً من ذلك، ولكنها سلمتها خطاباً أوصتها أن لا تفضه إلا إذا كتب لها أن تموت لا قدر الله.

وعند ذلك هز الطبيب كتفيه ثم قصد إلى معمله قائلاً، إذهبي أنت فخدريها بينما أغسل أنا يدي وأعقم سلاحي.

وبعد لحظة كان الطبيب بغرفة العملية، والفتاة نائمة عارية إلا أن وجهها كان مختفياً تحت حجاب المخدر.

وعند ذلك شرع في عمله بغير شفقة على هذا الشباب المنطرح أمامه، ولكنه فوجئ بمضاعفاتأخطأ حسابها، وقطع القطن تتساقط من يديه فوق الأرض وقد صبغها الدم بينما القابلة تراقب تأثير المخدّر في ضربات القلب، وكان قد مضى على بدء العملية عشرون دقيقة. غير أنه صاح فجأة: ما هذا؟ لقد ثقبت الجدار. فصرخت شريكته، إذن هلكنا.

ولقد اضطر الطبيب إلى اتباع آخر وسيلة كانت أمله الأخير فأخذ يقتطع من لحم الفتاة، والغضب والاضطراب باديان على وجهه ولكن القابلة صاحت فجأة صيحة مزعجة: لقد

ص: 70

وقف قلبها. ماذا تعمل الآن. وكيف ندفع عنا شر هذه الخاتمة المشئومة. ثم أخذت تستر جسم الفتاة بغير أن تنزع عن وجهها ذلك القناع.

أما هو فبعد أن غسل يديه كما يغسل القاتل يديه من دم قتيله صاح: كيف حصل هذا؟ وما عسى أن نفعل بعد ذلك؟ لقد قضى الآن علي وعلى اسمي وشهرتي، وابنتي التي تعلم أنني رجل شريف ماذا يكون الآن حكمها عليّ؟ ثم تحقيق النيابة ثم محكمة الجنايات. . اسمعي يا دوبو: قولي إذا سئلت أنها لم تكن حاملاً وأنها. . ولكن القابلة أفهمته أنه لن يصدّقها أحد ثم ذكرته بأهلها الذين قد لا يسكتون أيضاً. وعند ذلك تضاعف يأسه وتذكر ذلك الخطاب الذي نوهت له به فطلبه منها لعله يهتدي منه إلى مكان أهل الفتاة، وربما إذا غمرهم بالمال اكتفوا ووقفوا عن الشكوى.

ولكن ما كادت تقع عيناه عليه وأصابعه ترتجف وعرقه يتصبب حتى صرخ صرخة دوت لها الغرفة ثم أسرع فنزع ذلك القناع، فإذا بتلك الفتاة ليزا ابنته!

ولا تسل بعد ذلك عما حلّ به فقد أخذ يلطم خديه ويدق صدره ويدفع رأسه دفعاً شديداً في الحائط كمن جُنّ. وأخيراً جحظت عيناه فأخذ مبضعاً قريباً منه وغيبه في صدره حيث سقط ميتاً بعد أن جر ابنته إلى جانبه عند سقوطه.

محمود خيرت

ص: 71

‌سحر المرأة

بقلم محمد عبد الحميد

وأنت يا أمين ألا تتزوج؟

أنا؟ لا. لن. . .

بهذا الرد القاطع أجابني (أمين) يوم سألته وكنا في رفقة من الزملاء، نقطع الوقت بالحديث، وأغلب ما يدور حديث الشباب حول المرأة.

كان ذلك في أوائل سنة 1930، وكان (أمين) معاوناً في وزارة الأوقاف، مات والده قبل أن يبدأ مرحلة الدراسة الثانوية، وهو ما يزال صبياً لم تثقله الحياة بهمّ أو تصبه بكارثة، فشاء أو شاءت له الظروف أن يختصر طريق التعليم، فلم يكد يقطع شهوراً في مدرسة مشتهر الزراعية، حتى لحقت أمه بأبيه.

قضى أمين زهرة حياته محروماً من عطف أبيه وحنان أمه، لم تكد تتفتح نفسه، ويلمع بريق الحياة في عينيه، حتى ألفى نفسه وحيداً، لا تضمه إلى صدرها أم، ولا يتولاه بالإرشاد أب. لم ينسكب في نفسه هذا النور الذي تشعه عيون الأمهات حناناً ورحمة، وخرج إلى الحياة بقلب صلب لم تصهره قبلات الأم الحارة البريئة، ونفس جافة لم ترفقها شفقة الوالد ورعايته. كذلك أخوته الثلاثة قطعت الحياة بينهم وبينه، فلم يلمس حنان الأخوة، ذهب أولهم في بعثة إلى أوروبا لدراسة الطب، والتحق الثاني والثالث قبل وفاة أبيهما بوظائف الحكومة، وعاش كل منهما مع زوجته في منزل وحده.

وكذلك عاش أمين وحيداً أكسبه جفاف حياته خشونة لم تكن تروق في أعين الذين يحتكون به، فكان صريحاً جافاً، لا يفكر في أحد من الناس، ولا يفكر في الاتصال به أحد من الناس.

غير أنه كان يضم في كيانه قلباً حياً نائماً لم يتح له أن يثور، فرقت بيننا ظروف العمل، فنقل إلى مأمورية الأوقاف في طنطا، وهناك ولأول مرة بعد وفاة والديه اتصل برجل من أهله. فقد كان له في هذه المدينة (خال) لم يتصل به منذ صباه. زار منزل خاله، فرحب به أهل الدار: خاله وزوجته وابنه وابنته (زينب)، وهي عذراء، أتمت السادسة عشرة من عمرها.

ص: 72

مضت الأيام وتوالت الشهور دون أن يعنى كثيراً بزيارة أقاربه حتى أحسّ يوماً بالمرض يسري في جسمه، وإذا هي الحمى، وإذا هو مضطر أن يستريح كما أشار عليه الطبيب، ولكن أين يجد الراحة وهو (أعزب) ليس في منزله من يعنى به أو يهتم بأمره، وهو مضني لا يكاد يستطيع الوقوف على قدميه. إذن لتكن دار خاله ملجأه اليوم في مرضه، لعله يجد فيها بعض الراحة مما يعاني.

لقيه أهله في عطف، وأحاطوه بقلوبهم، ووقفت إلى جوار سريره (زينب) لا تكاد تخرج من بين شفتيه كلمة حتى تسعفه بما يبغي، وتقوم له بما يحتاج، وما تكاد الساعة تدق حتى تسرع إلى الدواء تسكب له منه بالقدر الذي أشار به الطبيب، وهي ما تفتأ بين الحين والحين، تضع يدها على جبينه تجس بها حرارته. كانت تقضي النهار إلى جواره، وتقطع الليل أو أغلبه حول سريره، ما يكاد يلمع ضوء الفجر حتى تهب إليه تسأله في كلمات رقيقة عذبة، ألم يشعر بتحسن؟ ألا يزال يمقت ماء الشعير؟ أتستطيع أن تحضر له مقداراً يغذي جسمه وتستريح به معدته؟ وهي إلى جانب هذا لا تنقطع كلما صحا من نومه المتقطع تعمل على راحته وتسعى جهدها لتغتصب الابتسامة من بين شفتيه اغتصاباً، واشتدت به العلة يوماً فارتفعت درجة حرارته، وأغمض عينيه، ووقف حوله أهله يبتهلون إلى الله من أجله، حتى إذا كان الليل وهدأت الحياة، واستسلم الجميع للنوم، أفاق أمين قليلاً وارتفع جفن عينه المغمض فإذا هو يواجه (زينب) إلى جواره تنظر إليه بعين قد التهبت من البكاء.

ماذا؟ هل تبكين؟ ثم انهمرت من عينه دمعة لعلها أول دمعة تفيض بها عينه منذ وفاة والدته.

توالت الأيام وزال عن (أمين) ما كان قد أقعده فعاد إلى عمله يستعيد مع الأيام الطويلة بعض الذي فقده.

لم يكن يعيش مع أقاربه في مدينة واحدة، بل كان يعمل في (منطقة) من مناطق الأوقاف القريبة من طنطا فلم يكد يقطع اليوم الأول في مقر عمله حتى أحس في أعماق نفسه شعوراً قوياً يدفعه إلى العودة.

إنه يحن إلى طنطا، بل هو يحن إلى منزل أهله. طغى على قلبه شعور قوي لم يكن يدركه

ص: 73

قبل اليوم يدفعه إلى العودة.

إلى أين؟ إلى منزل أقاربك. ولكن لماذا؟ لقد شفيت ولم تعد لي بالعودة حاجة، وأنا لم أقض بعيداً عنهم يوماً كاملاً؟ لقد كانت هناك حاجة قوية تدفعه، وشعور جبار يغريه.

نام ليلته الأولى بعد تفكير طويل لم يكد يتبينها واضحة جلية، فإذا هو يقطع الليل في أحلام متقطعة رأى فيها أشباحاً بيضاء رقيقة تدور حوله، فلما حاول أن يتعرفها لم تتمثل له غير (زينب).

زينب العذراء الحلوة الفاتنة، زينب الجميلة الساحرة، هذه عيونها تلمع بفتنة الحياة، وهذا قوامها البديع، وهذه يدها الرقيقة تمتد إليه في دلال ولين، وهذا صوتها العذب يتدافع إلى أذنيه حلواً سائغاً.

هب من نومه مع الصباح الباكر فألفى السماء ساكنة صافية وهذه الأشجار لا تزال تلمع بقطرات الندى، والقرية ساكنة إلا من أصوات أفراد قلائل يصل إليه وقع أقدامهم وهم في طريقهم إلى المسجد يؤدون فريضة الصباح، غير أنه يشعر بوحشة ويحس بالهم والحاجة. . .

لا بد أن يكتب إلى خاله يشكره على عنايته به في مرضه، فإذا هو يختتم خطابه في حرارة لم يكن يحسها قبل اليوم، وإذا هو يحاول أن يختص زينب بتحية يقنع نفسه أنها ستدركها رغم أنها صادرة للجميع.

لقد أحب أمين.! أمين الجامد الصلب قد تفجر قلبه فإذا اللهب يكاد يحرقه، وإذا العاصفة التي ثارت في أعماقه تكاد تسحقه، فإذا هو يعود إلى منزل أقاربه، وإذا هذه الزيارة تتكرر في الاسبوع الواحد مرات، وإذا هو لا يصمد لهذه الثورة المجتاحة.

لقد نفذت العاطفة الحارة إلى قلبه فألهبته وصهر العطف نفسه فإذا هو يرى في الحياة ألواناً جديدة، هو يهواها ويفني نفسه في سبيلها. لقد لمسته المرأة بالعصا السحرية فانبثق النور في أعماقه، فإذا هو مفتون.

كانت الأيام قد توالت، وكنا على وشك أن نختتم عام 1932 فإذا أنا أتسلم منه كتاباً لم يزد فيه على كلمات:

عزيزي محمد:

ص: 74

لقد أدركت سر الحياة لأول مرة، في عيني المرأة، سأتزوج.

أخوك. أمين

لقيته بالأمس فإذا هو كالعصفور يكاد يطير. ينطلق في حديثه فإذا هو ينساب في رقة وعذوبة، وينقطع عنه، فإذا ابتسامة مشرقة تنشر على صفحة وجهه نوراً لامعاً جذاباً.

أتذكر يا أمين يوم سألتك عن الزواج، فأجبت في لهجة الواثق أنك لن تتزوج؟ لا يصديقي. لقد كانت الحياة إذ ذاك قاحلة جدباء. هيا هيا نشتري معاً (تربية الطفل) لزوجتي تقطع به الوقت، وتخفف به عن نفسها عبء الحمل، ونشتري لعبة مما أعده للمستقبل لابنتي المرتقبة (كامليا)

محمد عبد الحميد

ص: 75

‌4 - سافو

لأوجييه اميل

ترجمة الأستاذ محمود خيرت

المنظر الثاني

(غرفة بدار حنا بها دولاب ومائدة فوقها شمعة موقدة وحنا وحده ينزع من الدولاب ملابسه بيدين مرتجفتين ويضعها في حقيبة)

حنا - (كارهاً الحياة) نعم أفر من وجه هذه المدينة فلعلي لا أعود أشعر بآلامها وأقصد إلى قريتي فلعل نسميها ينسيني مرارة هذا الحلم.

(يعثر في الدولاب على علبة من صنع اليابان فيتأملها)

علبتها. والحفيظة على ذكرياتها. لم تعيدين لخاطري أيتها العلبة صورة ذلك الماضي القذر (تظهر فنى)

فنى - (جازعة وهي تراه يستعد للرحيل) حنا. لا ترحل.

حنا - قضى الأمر

فنى - لقد كذبوا عليك حسداً. ثم كيف أصغيت إليهم وكيف صدقتهم.

حنا - سافو. (متعمداً لكي تفهم أنه يعلم ما تخفي من أمرها) يا لها من خيانة. أنت التي أبحتك قلبي، واتخذتك معبودي تقدمين على خيانتي. أهكذا في وسع امرأة أن تعبث بنفس هادئة مطمئنة وأن تحطم قلباً لم ينغمس في إثم. ليتك تشعرين بما أشعر به الآن من مرير الألم. ولكني أرحل فلعلي في وحدتي أنسى وأنا أستنزل غضب الله ولعنته عليك. لقد بلغ من جهلي أن أكرمتك واتخذتك امرأتي، حتى انكشف لعيني ماضيك الذي سترته عني. وبلغ من نفاقك أن أعميتني فتمكن سلطانك من إيماني، ولكن الحمد لله فقد نضب الآن معين حبي ووقف من دونك شبح كراهيتي ومقتي. فعودي إلى ما كنت سافو الخليلة العاهرة الفاجرة.

فنى - (وقد صدعها الألم والفضيحة) هب كل ما سمعت صحيحاً أفنسيتَ أن المصادفة هي التي جمعتني بك. ثم ألم تقم هذه المصادفة سداً بين سافو الغابرة وفنى الحاضرة. أقسم لك

ص: 76

أن سافو ماتت من يوم أن عرفت فنى.

حنا - كما أقسمت لغيري

فنى أنا ما أحببت سواك يا حنا

حنا - تكذبين

فنى - (مضعضعة) بل إني لصادقة وإني لأعبدك.

حنا - إذن لم احتفظت بهذه العلبة؟

فنى - (مفكرة) أو علمت بها؟

حنا - (مشيراً إلى الدولاب) إنها لا تزال هنا. أنظري

فنى - ولكنها لا تحوي شيئاً. . .

حنا - أبداً؟ (يتناول العلبة بين يديه ليفتحها)

فنى - (بصوت خائر خافت) ما هذا الجنون

حنا - إنها تحوي الشواهد الناطقة بفجورك

فنى - مهما جرعتني من القسوة فما زلت أحبك

حنا - (بخشونة) أين مفتاحها؟

فنى - لا أدري

حنا - (مهتاجاً يعالج فتحها بالقوة) سأعرف كيف أحتال على فتحها.

فنى - (تحاول منعه ويكون قد فتحها) ولكنك تعالج النار بالنار.

حنا - ها قد أفلحت. أنظري. إنها هنا مكدسة منكمشة خشية أن يفوح نتن عارها.

فنى - أحرقها إن شئت فهي لك.

حنا - لي أنا يا سافو. . .

فنى - لم أعد سافو يا حنا (تتناول بيد مرتجفة بعض رسائل سقطت على الأرض) نعم أحرقها أو فمزقها لتصدق أنني أصبحت لك وحدك (بلطف) بالله لا تجر خلف شكوكك ودع ما أقاسي يتصاعد في دخانها. إنها ما كانت غير سحب بعيدة فلا تحجب الآن بها سماء طهارتي.

حنا - (ببطء وألم) كنت أود أن أقف على ما فيها.

ص: 77

فنى - إذن أنت تريد أن يصل الهم إلى قرار نفسي (تقترب وإحدى يديها إلى ظهرها حيث تمسح بيدها اليمنى خده كما كانت مع كاوودال)

حنا - (منفجراً) إنك بهذه الحركة تعيدين إلى ذهني صورة ما اعتدته مع سيدك كاوودال.

(تأخذ بحالة عصبية لفافة وتشعلها)

وعلى هذه الصورة أيضاً كنت تدخنين لفافاتك معهم. إنك لا زلت تكلمينني بلغة المصنع وأسلوب العاهرات حتى كأني بين عشاقك أسمعهم وأراهم.

فنى - (تلقي اللفافة بغضب وتفركها بقدمها) ما أقساك.

حنا - كل هذه الرسائل على ما بها من صفرة القدم وتأثير الزمن. . .

فنى - (تقطع حديثه) دعني أنا أشعل النار فيها.

حنا - بعد أن أتبين ما بها (يقرأ إحداها): (ليتك يا سافو تعلمين كم أحرقت من دمي لأجري الحياة في المرمر الذي نعم بتصوير جسمك الغض. . .)

فنى - (معترضة) بالله عليك (تخطفها وتحرقها)

حنا - (يتناول كتاباً آخر) إنه شعر هذه المرة.

سافو لقد ذقت الهوى

من مقلتيك فذقت أنسا

لكن بُعدك شفني

وجنى علي فكيف أنسى

(متأثراً) ماذا فعلت معهم حتى تركتهم على هذه الحال.

فنى - (حزينة) ليتني أدري.

حنا - (يقرأ رسالة أخرى ورقها وردي اللون): أنا بانتظارك الليلة في دار التمثيل (تطرق فنى خجلاً. أما هو فيحرقها ولكنه يحس كأن سهماً مسموماً أصابه حين يقع بصره على تخطيط يصورها عارية)

وهذا الرسم؟ إذن كانوا يصورونك عارية (ثم يقرأ ما هو مكتوب تحته): (حبيبتي سافو. . .)

فنى (متحببة إليه) إنني ما استبقيته إلا لشهرة مصوره.

حنا - (يلقيه إليها) احتفظي به.

فنى - (ترده إليه) بل احرقه واحرق كل ما بقى معه (بحزن) كفى يا حنا وارحم ألمي

ص: 78

(يشتد حزنها) وليتك تعلم كيف نشأت، فلقد كنت وأنا طفلة على ما يُروى زهرة القرية أمرح في الطرقات وقد تيتمت من أمي وربما أيضاً من أبي، وما كان يعود إلا آخر الليل يترنّح من السُكر، وكان شديد القسوة معي حتى إذا ما بلغت سن الخامسة عشرة، وأنا أجمل فتيات الناحية فررت إلى هذا المصنع. أما أولئك الفنانون فانتهزوا فرصة احتياجي وبؤسي فعبثوا بطهارتي، ولكنهم مع ذلك لم يهتدوا إلى طريق قلبي ولا تركوا في نفسي من الأثر غير الحقد واللعنة، فهذا القلب ما كان لهم يوماً ما فحطّمه إن شئت فانه لك.

حنا - وما هذه الرزمة المخبأة.

فنى - (تصرخ متألمة) لا إلا هذه يا حنا.

حنا - وما الفرق بينها وبين أخواتها.

فنى - حنا. دعني أحرقها. أتوسل إليك.

حنا - إنك تحيرينني.

فنى - قلت لك دعها (تحاول اختطافها فيتغلب عليها) إذن ليكن ما يكون.

حنا - (متهكماً) طابع السجن! (ينظر إلى الإمضاء) فرومان! فرومان المزور؟

فنى - بل فرومان القدير. أما التزوير فما يعيبه، وما دفعه إليه غير فقره.

حنا - (باحتقار) إنه مجرم.

فنى - (متلطفة به) بيبي.

حنا - (يستيقظ غضباً) هذه الكلمة كنت تداعبين بها أيضاً ذلك اللص.

فنى - ليكن، ولكن مالك به وأنا لك.

(يتبع)

محمود خيرت

ص: 79

‌الكتب

صلاح الدين الأيوبي

لمؤلفه الأستاذ محمد فريد أبو حديد

بقلم عبد الحميد حفني الشواربي

لجنة التأليف والترجمة والنشر، هي بلا ريب في مقدمة الجمعيات العلمية الحديثة، التي ساهمت - إلى حد كبير - في النهوض العلمي والإنتاج الفكري في الشرق العربي، الذي يقاسي فوق فقره المادي من أثر الاستعمار الأوروبي فقراً أشد فتكاً وأبعد خطراً، هو غزو اللغات الأجنبية له، فقامت هذه اللجنة في جهد الجبابرة، تنشر وتترجم وتؤلف بلسان عربي في مناح مختلفة في الفلسفة والعلوم والآداب والاجتماع.

والذي يحز في قلوبنا وينال من إحساسنا القومي، أن تنهض هذه الجمعية على أكتاف أفرادها، دون أن نمكن لها من مال الدولة أو الأمة بالقدر الكافي، أو ما يوازي على الأقل ما حصلت عليه الجمعيات العلمية الأجنبية مع ما فيها من مكمن الخطر التبشيري وما تحمله من نزعات الشر والكراهية لمصر والمصريين.

هذه الجمعيات قد منحت من أملاك الدولة، في الصميم من قلب المدينة وخير بقاعها، فضلاً عما تمدها به حكوماتها وشعوبها، بينما ترى مركز لجنة التأليف والترجمة والنشر، في ركن متواضع من أركان بيت ضج بالسكان، أو المرضى من الناس في شارع الساحة. هذا فضلاً عن حرمانها من امتيازات لو منحتها لدرت من أنواع الثقافات أفضلها وأعظمها قدراً.

وأذكر أن المرحوم ثروت باشا قد أشار إلى وجوب إصدار سلسلة معارف عامة تعين على ثقافة الشعب، فكانت هذه اللجنة هي أول من لبى أمنية وزير مصر الكبير.

وكان أستاذنا النابه (محمد فريد أبو حديد) أول من وقع اختيار اللجنة لرسالته كسلسلة معارف عامة في صلاح الدين الأيوبي. والمؤلف غني عن التعريف لولا ما تأخذنا به أصول التحليل والنقد. فهو أستاذ تخرج في المعلمين العليا، وفي مدرسة الحقوق المصرية، وتقلب في مناصب عدة في التعليم الثانوي، على أن هذه العناوين ليست كل شيء في

ص: 80

الرجل، فإن كثيرين قطعوا مراحل التعليم منفعلين لا فاعلين، ومروا بها مر امتحانات متأثرين لا مؤثرين، ولكن هذا الرجل وقد عاشرته عن كثب - تجد فيه الابن المصري البار الذي كلف نفسه حمل رسالة النهضة من وجهتين: أخلاقية وعلمية - ليؤديها إلى الناس في نفس كبيرة وجسم ضئيل.

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسام

أنظر إليه وهو يلقي عليك هذا السؤال في مؤلفه صلاح الدين ما الحياة؟ فانك لتستشف من جوابه على هذا السؤال ناحية أبية من نواحي النفس المصرية النادرة، أو قليلة العدد على الأقل، التي يغتبط بوجودها، بل ويفتقر إليها المجتمع المصري، وهاك جوابه:(أليست تلك الأنفاس التي تتردد في تلك الفترة المحتومة ما بين واجب البلاد وواجب الموت؟ ألا إنها فترة مملة مسئمة إذا لم يكن بها ما يهز النفوس).

ثم هاك كتابه وقد تناول بالبحث الشيق بطلاً من أبطال العالم الإسلامي تقف فيه على خير عصر من عصور التاريخ عانى من غشاوة الجهل والتعصب التي اكتنفت أوروبا في القرون الوسطى. وترى كذلك كيف تكون السياسة الحكيمة يمليها رجل الشرق فترتفع الحواجز وطلاسم الحياة التي بيننا وبين أية أمة بالغة ما بلغت من العظمة والسلطان، اسمعه يقول في تقدير صلاح الدين (والناس إذا تولى أمرهم عظيم تساموا إلى مستوى عظمته فأتوا بالعجب) وهاكم رجل الساعة مصطفى كمال مصداق لما ذهب إليه المؤلف الجليل. والكتاب في جملته وتفصيله حافز للهمم دافع للعزم الصادق في نفوس شباب طغت به مدنيات الاستعمار حتى ماع، وبهره سراب خلّب حتى هوى واستسلم إلا من عصم ربك، فبعث فينا من يعاني النظر في أمراضنا والبحث في وسائل علاجها.

ولولا مغالاة المؤلف في أسلوبه العلمي وتوخيه البحث على نمط مدرسي وهو يكتب للشعب، لكان مؤلفه قد بلغ الغاية وأوفى حتى انتهى إلى درجة الكمال. ولكم نشكره على جهده وما بذل في وسط كوسطنا المصري يعاني ذكرى مؤلمة لمجدنا السالف، ومحنة راهنة بسبب فقرنا العلمي.

قليوب البلد

عبد الحميد حفني الشواربي

ص: 81

يوم 11 يوليو سنة 1882

للدكتور محمود النشوي

استقبلت صباح اليوم وهو ينبلج عن عامل البريد يزدلف نحوي ويحمل بين أعطافه هدية ثمينة، بل منة خالدة من الأمير الأكبر (عمر باشا طوسون) تلك هي كتابه الذي طوق به جيد مصر وأسماه (يوم 11 يوليه سنة 1882) ولم أكد أتصفحه حتى ذكرت الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية مشرع الترجمة ومبتكرها في الأمة العربية وإبان فجر المدنية الإسلامية. ثم انتقلت بي الذاكرة إلى أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وجالت في خيالي صورته وهو يهيب بالإمام مالك رضوان الله عليه أن يؤلف الموطأ فيأبى، ثم يرضى متأثراً بإلحاح المنصور. ثم يرسم له خطة التأليف حتى يقول إمام دار الهجرة لقد علمني المنصور التأليف.

ثم تذكرت الرشيد ومجالسه الأدبية وشعره الرقيق. وانتقل بي الخيال إلى المأمون وحدبه على العلماء وعلى العلم. وتفرده بكثير من مسائله ثم ذكرت قابوس بن وشكمير وشعره العالي الرصين، وعضد الدولة بن بويه، وسيف الدولة الحمداني، وأبا فراس بن عمه. وتلك الحلقة من الأدباء والشعراء والمؤلفين التي كانت تحف بهؤلاء الملوك والأمراء فتستمد منهم ومن مشاركتهم في الشعر والعلم روحاً تبعثها للأمة قوة ونهوضاً. ذكرت ذلك كله، وعهداً ساهم فيه الأمراءوالملوك في العلم. فكان عصر العلم وكان عصر النهوض. وعلمت أن مؤلفات الأمير هي تباشير الصباح، وبواكير النهضة العلمية في مصر وفي غير مصر.

. . وإنك لتواجهك الوطنية المخلصة في كل حرف من حروف كتاب الأمير الجليل حتى في اسم الكتاب، وفي مقدمته.

فاسم الكتاب يذكر باليوم المشؤوم. يوم الاحتلال. ومقدمته لا أصفها. بل أذكر فقرات من أولها. وأدعها توحي للقارئ بالغيرة على الوطن. وبالتفاني في حب مصر. فاستمع للأمير الجليل حين يقول.

(يقبل علينا شهر يولية في كل سنة فيذكرنا باليوم الأسود يوم 11 يوليه ذلك اليوم الذي

ص: 82

داست فيه إنكلترا المعاهدات الدولية وتعلقت بأوهى الأسباب. وضربت مدينة الإسكندرية فاقترفت بذلك سبة الاعتداء على أمة لم يكن بينها وبينها إلا السلام واجترحت إثم التهجم على بلاد لم تناوئها الحرب. ولم تبادئها بالعدوان والخصام). ثم نراه يرسل زفرة الأسى محيياً أبطال مصر وضحايا يوم 11 يوليه فيقول (فحيا الله أولئك الأبطال الذين راحوا ضحية الدفاع عن الأوطان، وتغمدهم برحمته ورضوانه)

وكذلك ترى حدب الأمير على مصر يحدو به أن يذكر شهادة الأعداء ببطولة مصر فيحدثنا عن الماجور تلك أنه دهش من بطولة جنود مصر حتى وثب إلى حافة السفينة ورفع يده قائلاً: لقد أجدت العمل أيها الجندي المصري.

ثم يروى عن الأميرال سيمون قائد الأسطول إذ يقول في تقرير يرفعه إلى سكرتير الأميرالية (ولقد قاتل المصريون قتال الأبطال بأقدام ثابتة). ثم يختم أميرنا الجليل شهادة الأعداء لأبطال مصر بالأسف على الشهداء، وعلى الوطن فيقول رحمهم الله وعزانا وعزى هذا الوطن الأسيف) ذلك قل من كثر. وغيض من فيض من الوطنية في كتاب الأمير.

وإن في الكتاب من وراء ذلك لضبطاً ونقلاً عن مصادر لا تلين قناتها لغير الأمير حين يعتمد دار المحفوظات المصرية، وحين ينقل عن تقرير القائد الأمريكي (جون دريتش) الذي قدمه لحكومته، ثم نرى الأمير ينقل عن الإثبات، فيروى عن ابن عبد الحكم مما ذكره في كتابه (فتوح مصر)، وعن خليل شاهين الظاهري مما سطره في كتابه (كشف الممالك)، وعن صاحب الخطط التوفيقية، وغير هاتيك المراجع التي ذكرها الأمير وذكر صفحاتها، فأرانا كيف يكون الضبط، وكيف يكون البحث العلمي الدقيق. فلتهنأ الأمة بأميرها.

وليهنأ العلم بمؤلفات الأمير.

محمود النشوى

دكتور في الآداب

ص: 83