الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 600
- بتاريخ: 01 - 01 - 1945
الرسالة في عامها الثالث عشر
لاحت في جوانب العالم المنصرم تباشير السلم كما تلوح في هوادي
الليل تباشير الفجر الكاذب، فانبعثت رواقد الأماني هنا وتحلب أشداق
المطمع هناك، وابتهل العالم العربي إلى الله أن يوقيه ويلات السلم كما
وقاه ويلات الحرب، فأوحى إليه أن يتحد - ومن طباع العالم العربي
الذي يؤمن بانقطاع الوحي إلا يعمل إلا بوحي - فوفد إلى القاهرة وفود
الدول العربية خفافاً وثقالا، واخذوا ينظرون في الصورة التي تكون
عليها الوحدة، وفي الألوان التي تتألف منها الصورة. ولا يزال أقطاب
(الجامعة العربية) يديرون الرأي فيما بينهم استعداداً لجمع (المؤتمر)
وعقد (الميثاق)
وذلك وحي الضرورة نزل على قلوب الساسة فصعدوا به وعملوا له. وهنالك وحي الطبيعة أوحته القرابة الواشجة، واللغة الواحدة، والوطن المشاع، والتاريخ المشترك، فتجلي في المجمع اللغوي، وفي التعاون الثقافي، وفي مؤتمر الأطباء، ومؤتمر المحامين، وفي مهرجان أبي العلاء، وفي مؤتمر النساء، وفي بعوث الأقطار العربية في معاهد مصر العلمية، وفي الدعوات والرحلات، وفي الكتب والمجلات، وفي الأصوات المتجاوبة تزأر بالدفاع عن فلسطين المهددة، وفي الجماعات المتزاورة تتساقي المودة حيناً على النيل وحيناً على بردى وحيناً على دجلة
تلك وحدة الروح والهوى، لا خلاف فيها على زعامة، لأن زعيمها الخالد بالإجماع محمد. ولا خوف منها على استقلال، لأنها كدين الله لا تعرف الحدود ولا تقبل الحصر. ولا مثار لعصبية، لأنها كعروبة الإسلام لا تفرق بين أحد من الناس لدين أو جنس. والرسالة تحمد الله وتشكره على أن وفقها في سنيها الثلاث عشرة لتكون جندياً صادق البأس خالص العقيدة من جنود هذه الوحدة. وكان الرجاء أن تصدق نبوءة المتنبئين بانطفاء هذه الحرب في عامنا الذاهب، لتستعيد الأرض قرارها المطمئن، وتستأنف الحياة سيرها الأمن، وتستقبل
الرسالة عامها الجديد وهي على حال من القوة والفتوة والجدة توافق هذا الجهاد وتطابق هذه السن. ولكن الشياطين ما برحوا يحتلون مختبرات العلماء ومكاتب الزعماء ورءوس القادة. وراس الشيطان كنفس الإنسان لا يسبر غورها ولا يحد مداها، فإذا خبت نار، ذكت نار، وإذا سكن إعصار ثار إعصار، وكلما أنكشف سر تلاحقت أسرار. فالخطة تنسخ الخطة، والعدة ترفد العدة، والاختراع يتبع الاختراع. وليس يعرف لهذه القوى الجبارة أمداً تخور عنده إلا الخبير القدير الذي شاء أن يطامن من كبرياء الإنسان ويكسر من غروره، فسلط هواه العارم على عقله القاصر ثم وكله إلى نفسه، فاعتل ادراكه، واختل توازنه، وأنطلق في ضراوة الوحش، ورعونة العاصفة، يدمر ما عمر، وينقض ما أبرم، ويقتل ما ولد!
ليست هذه الحروب مقصورة على جهاتها المادية بين الجيوش المتحاربة في أوربا واسيا إنما هي زلزلة اجتماعية عامة هزت كل وطن، وبلبلت كل نفس، وزعزعت كل نظام، فمن لم يجدها في جيشه أو على أرضه وجدها في نفسه وفكرة وعقيدته وأحزابه وتقاليده ونظمه. والأسلحة والوسائل تختلف باختلاف البواعث النفسية في كل محارب؛ فقد تكون، إذا تحركت في الجماعة حوافز السمو ونوازع الكمال، ثورة على قيد يعوق نهضتها، أو على حكم يلغي إرادتها
وقد تكون، إذا اضطربت في قرارة هذه الجماعة كدورة الطين وشهوات البهيم، اعتداء على حرم الناس بالدس والسباب، أو بالسرقة وإلاغتصاب، أو بالغدر والحيلة؛ أو تمرداً على الأوضاع الطبيعية، فيرغب الفقير الكسول في ثروة الغنى المجد، ويتشوف العاجز الكل إلى منصب القادر الكفء، وتطلب المرأة الخرقاء مساواة الرجل في الحق دون الواجب.
ستنطفئ ثائرة هذه الحرب في وقت ما؛ وستأتي نتائجها بالطبع منطقية مع أسبابها التي بعثها على صورة من هذه الصور. فأما الذين أنفقوا فيها من أنفسهم وأموالهم، في سبيل أمجادهم وأمالهم، فسيجدون الكمال في هذا النقص، والحياة في هذا الموت، كالشعر يغزر ويقوى بالقص، وكالشجر يغلط ويرف بالتقليم. وعقبي مثل هذه الحرب على الغالب والمغلوب وثبة إلى الرقي الإنساني والعمراني يفتتح بها عصر ويبدأ تاريخ الإنشاء
وأما الذين أنفقوا من فضائلهم وأخلاقهم، في سبيل مناصبهم وأرزاقهم، فقد خسروا كل شيء خسروا ما لا كفاء له ولا عوض منه، وربحوا ما لا بقاء له ولا فضل فيه وهل تغني المادة
ذا ذهبت الروح، أو تحيا الأمة إذا مات الخلق؟
لقد نجا العالم العربي من حرب الإنسان التي تهدم لتجدد، وتقلم لتثقف، وتبيد لتزيد، فهل نجا من حرب الحيوان التي تقتل لتأكل، وتغلب لتلذ، وتغصب لتحتكر؟ أنك يا سيدي أبصر من أن بصر. والنتن يتم على وجوده، والشر يدل على نفسه. ومن لا يرى يسمع. ومن لا يسمع يشم. ومن أعوزه الدليل في نفسه وجده في غيره. فليت شعري ماذا أعد سادتنا وزعماؤنا للسلم التي تعقب هذه الحرب؟ أن أقطاب العالم الثلاثة قد استعدوا من اليوم لتعمير ما أندثر من المدن، وتجديد ما رث من النظم، فهل يستطيع أقطابنا الثلاثون أن يستعدوا لتعمير ما خرب من الضمائر، وتجديد ما رث من الأخلاق وتوثيق ما وهى من العقود؟
احمد حسن الزيات
في عيد المعري
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذا قطار فلسطين، يحمل ذكرى البلاد التي نحبها، وييمم بنا مهوى أفئدتنا، ومثار أشواقنا من بلدان وجماعات طالما حننا إليها، وسعدنا برؤيتها، ورددنا الفكر بين ماضيها وحاضرها، ووجهنا العزائم والآمال إلى مستقبلها. وأن حز في نفوسنا الألم لها فأنه الألم الذي يحفز الهمم، ويمضي العزائم، ويعد العدد، ويجمع الكلمة، ويؤلف القلوب، ويؤكد الآمال
وهذه قناة السويس تسيل مع مائها العبر، ويجري التاريخ، ويزخر الحاضر بما عبرها من الجنود والخطوب. وليس هنا مجال الحديث عنها. ليس بها من جديد إلا جسر من حديد جمع عبريها ليمر القطار بركابه لا ينتقلون من قطار إلى آخر، ولا يشق عليهم العبور بأمتعتهم ليلاً على معديات القناة. ووقف القطار على القنطرة الشرقية وقفته لجوازات السفر وما يتصل بها.
ثم سار حين كاد ينتصف الليل في بيدائه، وعبرناها مضطجعين، تجيش بنا هموم لا تنام ولا تنيم. ولاحت فلسطين مع الضحى، والعين تتقرى ما يسر وما يسوء، والفكر يضرب في الماضي والحاضر، ثم يرى مستقبلاً تكفله القلوب المجتمعة والعزائم الموحدة
وبلغ القطار حيفا ظهراً متأخرا عن موعده ساعتين أو ثلاثا. ولم نتلبث بها إلا ريثما أعددنا لاستئناف السفر. وهذه سيارتنا تغور وتنجد، وتتوغل الجبال وتنحدر السفوح، وتقطع الأودية، وتقف عند حدود لم يخلقها الله، ولم يعرفها التاريخ ولم يقرها الحق ولم تقبلها الأوطان ولا الأوطان. . . فلنطو المسافات، ونقتحم العقبات، مسرعين إلى دمشق الجميلة الجليلة أدركنا الليل ونحن نغذ السير على مقربة من دار الأمويين فطمحت الأبصار، وهفت القلوب، وغشى الأنفس ما غشيها من جلال الذكر، ومن الاغتباط والابتهاج بالعود إلى المدينة التي ما دخلتها ولا خرجت منها ولا غبت عنها إلا محبا لها مشتاقاً إليها معجباً بها مفكرا فيها أملاً لها كثير الخير، داعياً لها بما هي أهله من الأمن والرخاء والمجد والعظمة. المدينة التي ما دخلتها ولا أقمت بها إلا منشرح الصدر، قرير العين، على رغم الخطوب والركوب، والتي قلت فيها وقد عاودت الشعر بعد طول العهد، من اجلها:
أحيت دمشقُ رميم الشعر في خَلَدي
…
لا غرو أن تبعث الأشعار أشعار
أقصر أيها القلم فأني متهم بالعصبية لدمشق، والمغالاة فيها. وما حملتك بناني الآن لتكتب عن دمشق، ولكن عن عيد أبي العلاء المعري
بلغنا دمشق بعد الغروب بساعة ونزلنا عند فندق أمية. وقد تعودت أن أنزل به وذكرته في بعض رحلاتي، فلم نجد به مكاناً فنزلنا بفندق دمشق - وكنا نزلنا به في بعض أسفارنا مع طلاب الجامعة المصرية ونزل رفقاء لنا في غيره. ففخر فريقنا عليهم بأن تسموا بالدمشقيين
ولم يستقر بنا المقام قي الفندق حتى جاء بعض إخواننا المشرفين على مهرجان أبي العلاء، فرأينا وجوها معروفة محببة ألينا. ولا اذكر أسماء خوفا من التطويل أن ذكرتها كلها والعتاب أن ذكرت بعضها. وأصبحنا في دمشق يوم الجمعة خامس شوال سنة 1363 وقد بقى المهرجان ثلاثة أيام، واجتمعنا هذا اليوم نحن جماعة من علماء الشام وأدبائها أعضاء المجمع العلمي العربي في دار المجمع، وهي المدرسة الاشرفية التي بناها الملك الأشرف الأيوبي.
وكان العمل يسرع في صحنها لتشارك في حفلات أبي العلاء، ولكن وافي المهرجان ولما يفرغ من الترميم. وجلسنا مع رئيس المجمع وبعض أعضائه حينا. وقدم ألينا من مطبوعات المجمع: كتاب التبصر بالتجارة لأبي عثمان الجاحظ. صححه وعلق عليه السيد حسن حسني عبد الوهاب التونسي
تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة لأبى المنصور الجواليقي.
صححه وعلق عليه الأستاذ عز الدين التنوخي
ديوان الوليد بن يزيد جمعه المستشرق الإيطالي جبريالي وكتب مقدمته الأستاذ خليل مردم بك
بحر العوام فيها أصاب فيه العوام لحمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي نشره الأستاذ عز الدين التنوخي
الجزء الثامن من جامع التواريخ للتنوخي
وعدنا إلى دار المجمع مرة أخرى بعد أيام، فزرت ضريح الملك الأشرف، وقد اتخذ حجرة
الضريح خزانة كتب. ثم خرجنا إلى البناء المقابل وهو المدرسة الظاهرية التي بناها الملك الظاهر بيرس، وزرنا القبة التي فيها قبره، ووراينا فيها بدائع النقش والفسيفساء فيها. وقد جعلت هي وحجرة متصلة بها خزانتان لبعض كتب المكتبة الظاهرية. ورأينا حول قبر الظاهر طائفة من الكتب المكتوبة بأيدي علماء معروفين فرأينا سلسلة من خطوط كبار علمائنا في عصور متطاولة. منها:
مسائل احمد بن حنبل بخط الذهبي
كتاب بخط سبط ابن الجوزي
أنباء الغمر لابن حجة بخطه
كتاب بخط ابن تيمية
كتاب بخط ابن الفوطى
كتاب بخط ابن عبد الهادي
كتاب بخط ابن عساكر
كتاب بخط الغزي
كما ورأينا كتبا أخرى قديمة نفيسة
وأمضينا سحابة يوم السبت قي الربوة دعانا إليها اثنان من كرام تلاميذنا: الدكتور اسعد طلس والأستاذ شكري فيصل، فاجتمع هناك الأساتذة طه الراوي ممثل العراق في مهرجان المعري، والأساتذة احمد امين، وعبد الحميد العبادي، واحمد الشايب ممثلو جامعة فؤاد الإنسان وجامعة فاروق، والمجمع اللغوي
والربوة مكان جميل نزه يحار فيه الطرف والفكر بين ماء يجري على السفح، وآخر في بطن الوادي وآخر في العدوة الأخرى وآخر فوقه. هناك تجري شعب سبع من هذا النهر المبارك العجيب نهر بردى، في القمم والسفوح وبطن الوادي واصلها واحد
والماء هناك تتجلى به الحياة قوة وبهجة وزينة ولعباً، يسقط من السماء على السفح شلإلا، ويجري على السفوح وفي الوادي أنهاراً، ويستسر تحت الشجر والعشب، يومض بينها أحيانا ويختفي، ويفجؤك منبجساً من صخراً أو صاعداً من نافورة، أو سائلاً من جدار، وتسمع خريره أحيانا ووسوسته حيث لا تراه. فما تزال بين الفكر والنظر والسرور
والتعجب والمرح والوجوم. ولا تدعك هذه المرائي الجميلة العجيبة تفلت من بهجتها إلى التفكير فيما يحزنك من هموم العيش، ولا يخليك الجمال والجلال من نظر سادر، وخيال حائر، ووجوم سار ولذة يشوبها حزن.
ولا يمكنك هذا الجريان الذي هو أشبه بالزمان أن تحس مضي الوقت. ولا ينبهك طول الزمن من التمادي مع هذا الجريان وما احسبني جلست على هذه الربوة فقدرت الجلوس بالطول والقصر، والساعات والدقائق، ولكنها أفكار متوالية، ونظرات متمادية، وصور متتابعة، لا يدري الإنسان بينها أهو في فراغ الأمريكي أم في شغل، وفي تفكير أم في غفلة، وفي جد وفي لهو، يدعوه صحبه إلى الكلام أو القيام فيتكلم مشغولاً بها، ويقوم وملء عينيه التلفت إليها، وفي جوانحه الحنين إلى معاودتها. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
دراسة اللغة العربية وآدابها
للدكتور محمد مندور
لا أستطيع أن أصور للقارئ مبلغ دهشتي عند ما وصلت إلى باريس وسألت في السربون عن لسانس الأدب الفرنسي فاخبر أن هذا شيء لا وجود له. فأنت لا تستطيع أن تحصل من الجامعات الفرنسية على ليسانس في آدابهم وإنما هناك شيء اسمه ليسانس الكلاسيكي، وهو يتكون من أربع شهادات عليا كل منها منفصلة عن الأخرى تمام الانفصال. ولك أن تبدأ بالتقدم لأيها شئت وفي أي سنة تريد بعد تمضيتك للسنة الأولى بالجامعة. وهذه الشهادات هي: اللغة اليونانية القديمة وآدابها، وشهادة اللغة اللاتينية وآدابها، وشهادة اللغة الفرنسية وآدابها، وأخيرا شهادة فقه هذه اللغات النحوي وإذن فلا يستطيع أن ينال ليسانس، أي إجازة التدريس في الأدب إلا من يعرف اللغتين اليونانية واللاتينية وفقههما اللغوي، وذلك إلى جوار اللغة الفرنسية وأدبها وفقهها وفي الجامعة تلقي الدروس والمحاضرات التي تعد لكل من هذه الشهادات، ولك أن تحضر منها ما تريد، وتتقدم إلى الامتحان عند ما تحس أنك قد وصلت إلى المستوى المطلوب وهو مستوى رفيع جداً لا نصل إليه هوناً؛ حتى أن قليلاً جداً من الأجانب من يستطيع أن يجازف فينافس الفرنسيين في هذا الميدان العويص. وذلك لأن الفرنسيين لا يتقدمون إليه إلا بعد إعداد طويل بمدارسهم الثانوية حيث تلك اللغات جميعا دراسة متينة مفصلة. وكاتب هذا المقال يستطيع أن يتحدث عن يقين عن جدية هذه الدراسات وقد تقلمت فيها أظفاره. ولقد يدهش القارئ عندما نخبره أن الامتحان في شهادة الآداب الفرنسية شيء بالغ البساطة في صورته بالغ المشقة في جوهره. فالامتحان التحريري عبارة عن سؤال واحد تعالجه في أربع ساعات، فإذا نجحت تقدمت إلى الامتحان الشفوي أمام ثلاث لجأن: اثنتان منها لقراءة وشرح نصين أحدهما قديم والآخر حديث، وأمام اللجنة الثالثة تسأل في مسألة من نظريات الأدب أو مدارسه أو كتابه. وهم لا يتطلبون منك في التحريري أن تدل على تحصيل فحسب، بل لا بد أن تثبت إلى جانب ذلك مقدرة حقيقية على النقد الشخصي والفهم العميق. ثم لابد فوق كل شيء من أن تملك هبة الأسلوب وجماله، وذلك لإيمانهم أنه لابد أن تكون إلى حد ما أديباً لتصطلح مدرساً للأدب، وعندهم أن الأدب في المجالات التي لا يغنى فيها شيء عن مواهب النفس
غادرت مصر بعد أن درست الأدب العربي بجامعتها وعدت إلى مصر فدرست الأدب بجامعتيها، ولقد كنت منذ عودتي شديد التبرم بمناهجنا وطرق فهمنا لآدابنا. ولقد جاهدة في سبيل إصلاحها ما استطعت حتى تركت الجامعة، ولكن تركي لها لن يمنعني أن أواصل الجهاد في خارجها. وذلك لإيماني بأن دراسة الأدب هي المدرسة التي يتخرج منها قادة الرأي قي البلاد. فهي مدرسة الثقافة العامة ومدرسة فن الكتابة وما أريد أن تعترض سبيلنا نزعات مغرضة فنحارب بتعصب لمناهج الغرب التي تكونا بين أحضانها. ولي أمل كبير في أن يولني القارئ الثقة حيث أنني قد بلوت مناهجنا ومناهجهم في نفسي وأطلت فيها التفكير بعد أن استطعت أن استلقي بالحكم؛ ومن واجبنا أن نأخذ الخير حيث نجده
وفي دراستنا للغة العربية وآدابها عيبان كبيران، يشتق على من لم يدرس اللغات والآداب الأخرى أن يدركهما أو يجد لهما علاجاً. ولابد إذا أريد القضاء عليهما من إعداد جيل جديد من الذين تثقفوا بأوربا بالنهوض بتلك المهمة الشاقة، مهمة تدريس اللغة العربية وآدابها، وبغير ذلك لن تكون أي محاولة غير ضجة عميقة، وهذا ورأي يؤمن به من كبار أساتذتنا المصريين استطاع منهم لرحابة عقله وتخلصه من الهوى الشخصي أن يدرك الحقائق في شجاعة ونبل
أما العيب الأول فهو فهم معنى الأدب: فالأدب مقصور عندنا على الشعر والنثر الفني. ومن الملاحظ أن الشعر قد غلبت عليه ابتداء من القرن الثالث الهجري روح المحاكاة حتى أن التجديد فيه لم يعد إلا بمقدار. وأما النثر فأنك إذا قصرته على الفني لم إلا بمحلول ضئيل: خطب ورسائل ومقامات وتوقيعات وأمثال. ولقد كان ظهور النثر المرسل الخالي من الصنعة المتكلفة قصيرا إذ لم يلبث أن طغي البديع ابتداء من القرن الرابع فجرد الكتابة من صدق الإحساس وجوهر الفكر. والإحساس والفكر هما المادة التي إذا خلت منها كتابة فقدت الكثير من قيمتها. ويا ليت الأمر قد وقف عند هذا الحد، فمعنى الأدب حتى على النحو الضيق الذي ذكرنا قد تغير في عصرنا الحاضر، وذلك لأن العرب لم يعرفوا الحقيقة غير الشعر الغنائي والنثر القصير الباع، وأما الأدب المسرحي وأدب القصة ذلك ما لا نستطيع أن نقول على نحو جدي إنهم قد عرفوه. فالبون شاسع بين أنواع الحوار التي خلفوها من أمثال حوار وفود العرب عند كسرى وغيرها وبين المسرحية بالمعنى الحديث.
وكذلك الأمر في البون بين أيام العرب وما شابهها من قصص وبين القصة بالمعنى المعروف اليوم. وهنا نحن منذ اتصالنا بالغرب أخذنا القصص والمسرحيات، وهذا يضعنا في موضع فريد بين الأمم، فالجامعات في أوربا لا تتناول عادة بالدراسة الأحياء من الكتاب. وفي فرنسا كلها لا يدرس الأدب المعاصر فيما أعلم، ولا تعطي عن دراسته درجة علمية إلا في جامعة استراسبورج، وأما السربون فتقف مناهجها عند أواخر القرن التاسع عشر. ولو أننا في مصر حذونا حذوهم كما نفعل الآن لكان موقفنا عجيباً. فسيخرج الطالب وهو لا يعرف عن أدب القصة وأدب المسرحية، وأصولهما ونقدهما شيئاً. ومعنى ذلك هو أن جامعة لن تساعد على خلق بيئة أدبية ورأي عام أدبي، ينمو فيهما أدبنا الحديث، ويتجه وجهه جدية تساير تيارات الأدب العالمي، وتدخلنا في ثناياه. وأمعن من ذلك في الدلالة ما نلاحظه من أن الشعر الغنائي، بل وكافة أنواع اشعر حتى المسرحي منه اخذ في التقهقر أمام النثر في كافة بقاع العالم حتى لأذكر أنه لم يعد في فرنسا كلها غير مجلة واحدة متخصصة في الشعر هي (اجدرازيل) وهي مجلة شهرية. وعلى العكس من ذلك النثر فقد احتل موضع الصدارة. ومن بين فنون النثر كلها اصبح للقصة بأنواعها المكان الأول. ومع ذلك فجامعتنا لا تزال عنايتها بالشعر فوق عنايتها بالنثر، وهذا أمر يفسر ما ذكرنا من قصرها لمعنى النثر على الفن منه. وباستطاعة القارئ أن يتناول أي كتاب في تاريخ أي أدب أجنبي كالأدب الفرنسي أو الإنجليزي أو الألماني وأن يقلب فهرسة ليد فصولا ممتعة عن التاريخ والمؤرخين والفلسفة والفلاسفة، وعن كتاب الأخلاق والاجتماع والباحثين في فلسفة العلوم. ونحن لدينا أمثال هؤلاء: لدينا المؤرخون والفلاسفة والمتصوفة وعلماء الكلام، وفقهاء التشريع، ورجال الأخلاق والاجتماع. فلماذا لا نوسع من معنى الأدب كما يفعل الغربيون فندخل دراسة هؤلاء الكتاب جميعا في مناهجنا وندرسهم بروح العلم الحديثة وننقد مواضع الضعف عندهم وسبل الكمال على ضوء ما وصل إليه الغرب، وبذلك يخرج طالبنا بمادة فكريه لها قيمتها بدلاً من قصره على الدراسات اللفظية التي نأخذ بها اليوم؟
ولكننا إذا أردنا أن نفهم الأدب بهذا المعنى الواسع وإذا أردنا أن ندخل فيه أدبنا المعاصر الذي نأخذ ألوانه عن الآداب الغربية، تبين عندئذ صدق ما قلناه من قبل من أنه لن يستطيع عندئذ استقلال بتدريسه إلا من ثقف ثقافة الغربية وتشبع بمناهج الغرب على نحو واسع
متين
والعيب الثاني قائم في منهج الدراسة فهو لا يزال المنهج التقريري كما عرفته القرون الوسطى مع أن مناهج الدراسة في كافة الجامعات أصبحت المنهج التاريخية ومن واجبنا أن نسلك مسلكهم فنوفر على أنفسنا قرونا من الزمان ولو أننا فعلنا لتغير دراساتنا كلها رأساً على عقب، فالنحو عندئذ لن ندرسه على أساس معايير للصحة والخطأ، فتلك دراسة مكانها في مدرسة الثانوية وإنما نتناوله كتطور تاريخي للغة منذ أصولها السامية إلا أنها انتهت اليوم باللهجات العامية، وهذه دراسة لا تعرف الخطأ والصواب وإنما تعرف التحول الطبيعي الخاضع لاعتبارات عضوية واجتماعية ونفسية. والبلاغة علم سنحذفه أصلا من برامجنا كما حذفته جميع الجامعات وتحل محلها دراسة الأساليب وتاريخ تكوينها والتميز بين اتجاهات الكتاب المختلفين وتحديد خصائصهم الروحية باعتبار أن الأسلوب صورة لملكات الرجل لا وسيلة من وسائل الأداء اللفظي فحسب. . .
وسوف نفطن عندئذ إلى شيء لم نسمع بوجوده بعد في جامعتنا وهو تاريخ اللغة، ففي كل الجامعات تجد كراسي لأساتذة كبار مضطلعون بهذه المهمة الشاقة وقد أتيح لي أن اتبع سنوات دراسة الأستاذ فرديناد برينو لتاريخ اللغة الفرنسية بالسربون. وكم كان يشجيني أن أستمع إلى هذا الشيخ الجليل وهو يقص تاريخ لغته، فإذا به يكشف لنا بهذا التاريخ عن العقلية الفرنسية كلها وقد رسبت على طول القرون في مفردات اللغة وتراكيبها ولقد كان يخيل إلى عندئذ أن هذا الرجل لا يلقي إلينا بعلم، وإنما يقص ذكريات حياته الخاصة، وذلك لطول معاشرته لتلك اللغة وإلفه لها ولقد أودع الرجل رحمه الله محصول عمره فيما يقرب من عشرين مجلداً في كل مجلد ما يقرب من ألف صفحة من القطع الكبير، واجمع الفرنسيون على أن هذا الشيخ الوقور قد أقام لفرنسا بكتابة هذا عن (تاريخ اللغة الفرنسية) تمثال مجد لن يفنى أبد السنين. وكم كان رائعاً يوم وفاته أن تحمل جثته إلى ساحة السربون ويأتي الوزراء ورجال الدولة ومعهم فصائل من الجيش وموسيقاه ليحيوا رفاته الطاهرة في مشهد وطني رسمي كان من أكبر ما اثر في نفسي إذ كشف عن عظمة هذه الشعوب التي كيف تقدس الفكر البشري.
والمنهج التاريخي كما سيجدد تدريسنا للغة، سيجدد أيضاً تدريسنا للأدب، فللأدب كما نريد
أن نفهمه هو مستودع الحضارة، وما أظن أننا نستطيع أن نفهم الحضارة العربية فهما صحيحا ما لم نكشف عن أصولها ومصادرها الإنسان ولك أن تقلب الرأي كيفما شئت فستنتهي إلى نتيجة حتمية هي أن الثقافة العربية مزيج من عناصر ثلاثة: العنصر العبري، والعنصر الفارسي، والعنصر اليوناني. ففي القرآن وفي الإسلام مالا يحصى من مبادئ التوراة وقصص التوراة وأصول التوراة التشريعية، وفي الحضارة العباسية الكثير من وسائل الحياة الفارسية ببذخها المادية، بل وتياراتها الأخلاقية والفكرية في بعض الأحايين، وأما اليونان فأظن أن تأثيرهم في الفلسفة الإسلامية والمنطق الإسلامي وعلم الكلام بل وفي العلوم اللغوية كالنحو والبلاغة وغيرها أوضح من أن يذكر.
والآن لو وسعنا من معنى الأدب وزدنا من عنايتنا بالنثر وأدخلنا في دراستنا إلى جوار الأدب القديم الأدب المعاصر، ولو أصلحنا مناهجنا فجعلناها تاريخية كيف تظن أننا نستطيع عملياً أن ننظم تلك الدراسة. أليس من الخير لنا أن نأخذ بالنظام الفرنسي فلا نقيد دراسة الأدب العربي بسنين بل نجعله شهادات يحضر الطلبة ما يريدون منه، حتى إذا أحسوا بنضوجهم تقدموا إلى الامتحان! ونوع هذه الشهادات أمرها واضح فهي لا يمكن أن تكون أن تكون إلا: 1 - شهادة اللغة العبرية وآدابها. 2 - شهادة اللغة الفارسية وآدابها. 3 - شهادة اللغة اليونانية وآدابها. 4 - شهادة اللغة العربية وآدابها. وبذلك يخرج الطالب مثقفاً ثقافة حقيقية تمكنه من أن يفهم التراث العربي فهما صحيحاً وأن يستطيع مقارنته بغيره من الآداب. .
ومن البين أنه يجب أن يصلح نظام التعليم في المدارس الثانوية بحيث توجد به فروع تعد إعداداً صحيحاً لهذا النوع من الدراسة الجامعية بحيث الطالب ولديه العناصر الأساسية لمواصلة دراسته.
ولست أجهل ما في مثل هذه الدراسة من مشقة، ولك الأوربيين يعالجون مثلها في دراسة آدابهم اللاتينية واليونانية، ولقد تغلبوا على تلك الصعوبات، فلماذا يقعد بنا نحن الكسل عن مواجهة الطرق الجدية والسير في السبل الصحيحة؟
محمد مندور
المحامي
الحياة صادقة!
العدل الإلهي!
مقدمات لإدراكه واليقين به
(مهداة إلى العقاد الكبير بمناسبة مقاله (تبارك رزاق البرايا))
للأستاذ عبد المنعم خلاف
1 -
لاشك أن (العقل) هو المميز والخصوصية الأولى للإنسان، فواجبه أن يثق به ويقيم حياته جميعها عليه، وهو محاسب عليه اشد الحساب. لأنه ميزان الحساب في كل شيء وهو الذي وطد الحياة الاجتماعية التي يحياها الإنسان الآن، واليه يرجع كثير مما في الحياة الإنسانية من اثر الرفاهة والسعادة والخدمة المشتركة بين الناس، فلماذا لا يصمم الإنسان على إلا يحيد عنه حتى يرتاح دائماً؟
ولماذا لا يعرف أن عقله روح من العقل الأعلى الذي يدير الكون بالتدبير والدقة والاطراد وعدم الإخلال بشيء؟
إن الغرائز يجب أن تكون ملجمة بحدوده حتى يتأنى تقدم الإنسان دائما وعدم ارتداده وانتكاسه
وعقلنا هو نتيجة تلاقي المؤثرات المختلفة التي في الطبيعة على كياننا، فيجب أن يكون تلاقي هذه المؤثرات موزونا بنسب معينة تقريباً من جميع الجهات، حتى يخرج العقل منسوقاً موزونا. . . فإذا صار لشيء من الطبيعة زيادة تأثير على ناحية من كياننا، كان في هذا اختلال لمركز التجمع الفكري العام.
ومهمة التربية والتنشئة أن توازن بين تسلط هذه المؤثرات الطبيعية جميعها على الإنسان، فلا تجعل مؤثرا أو عددا من المؤثرات يطغي أو يستأثر بالتسلط عليه، بينما المؤثرات الأخرى تكون معطلة
فأنسأن الصحراء وحدها قد خضع لمؤثراتها وحدها، فله عقل معين؛ وإنسان المزارع وحدها متأثر بها وحدها، فله عقل آخر. وإنسان المدن الصناعية له عقل ثالث. وهلم جرا
وإنسان الفن وحده له عقل معين، وإنسان العلم وحده له عقل آخر، وإنسان الأعمال
التجارية له عقل ثالث وهلم جرا.
فلكي نتحاشى أن تكون الفروق بين العقول فروقاً فاحشة بحيث لا يمكن تلاقيها الإنسان يجب أن نجعل الفرد تتقلب عليه شتى المؤثرات وتتداول فكره، حتى تكون أثارها فيه بنسب موزونة تعطيه سعة النظر إلى الحياة وتقدير آفاقها جميعاً
وأني لأعجب للدولة الواحدة التي افرادها، وبينهم من التفاوت في النشأة العلمية الاقتصادية والخلقية ما لا يمكن أن يتصور معه لقاء منهم على شيء!
فكيف يتصور هؤلاء الأفراد الأوزاع المشتتون الذين لا رابطة تجمعهم معاني العدالة الإلهية أو الإنسانية؟!
لاشك أنهم معذورون إذا لم يستطيعوا أن يتصوروا تلك المعاني الكلية الجامعة التي تحتاج إلى إعداد وتهذيب وتمرين خاص لإدراكها
2 -
وأول نظرة يدركها العقل الذي يتعرف وجهات الحياة والاعتراف بجميع الأمم والشعوب، المتحرر من التأثر بالمخلفات ومواريث التاريخ، توحي أن الإنسانية أسرة واحدة، وأن الأرض وطن واحد لهذه الأسرة
وثاني نظرة توحي أن الله وضع الإنسان في الأرض موضعاً عظيماً هو موضع السيد المتصرف، على الأقل في الظاهر
وثالث نظرة توحي أن الله أطلق للإنسان قدرة وأعطاه اختياراً لتكييف حياته كما يشاء. .
ورابع نظرة توحي أنه يكاد لا يكون في الطبيعة فساد ولا آلام تجعل وجه الحياة كريها مشوها، لا يعاشر إلا على غضاضة ومضاضة إلا بفعل الإنسان الذي نسبة الشرور التي يرسلها هو على الحياة وعلى بني جنسه اعظم بكثير من الشرور التي من الطبيعة مباشرة كالبراكين والزلازل والطوفان والصواعق. . . الخ، وخصوصا في هذا العصر الراهن. . . ومن المشاهد المعروف أن الإنسان لا يضيق صدره بقضاء الله وقدره المباشر، ولا يثور غضبه وحقده، ويتحول إلى عامل دمار وخسار إلا في مقاومة الاعتداء والشر الإنساني الذي يأتيه من الناس، لأنه يجد نفسه في قدرة على دفاعهم والانتقام منهم، فيقدم على ذلك ليرضى حزازات نفسه. أما شرور الطبيعة، فيتألم منها، ولكن لا يثور عليها، لأنه لا يملك أن يثور عليها، فهو يجد أن احسن وسيلة للقائها هو الصبر والاحتمال ومحاولة مقاومتها
بادراك أسباب الوقاية أو المعالجة
فإذا أردت أن (تحاكم) الله، وتعرف واجبه الذي فرضه على نفسه، فلا تنظر نظرة ضيقة متأثرة بالأنانية الشخصية أو القومية. . . لا تنظر إليه من مكانك أنت في أمتك ولا من مكان أمتك في الأمم، بل أنظر إليه وأنت تمثل الإنسانية الواحدة الهائلة. . .
ثم إذا أردت أن تنظر إلى الإنسانية في الأرض، فأنظر إليها من السماء نظرة الله. . . أنك حينئذ تراها هكذا: أسرة واحدة منوعة أفرادا وجماعات وأمماً. . كل جماعة استأثرت بمكان ومنعت غيرها عنه. وكان اقتسام الأمكنة غير عادل فأخذت أمة السهول الممرعة ونالت أخرى الأجادب، فزاغت عيون المحرومين وجاءوا إلى الضروريات فلم يلب لهم رجاء، ولم يخف المترفون الأغنياء لنجدتهم، فهاجموا وقاتلوا واستولوا وأذلوا وصار بعضهم بموج في بعض. .
وحقيقة الحقائق الاقتصادية التي يجب أن تقوم عليها فلسفة الحياة المادية، أن ما في الأرض من خيراتها ومناجمها وموارد الأرزاق كاف لجميع سكانها. . ذلك أمر تولى الله تقديره وتدبيره (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها).
كان الواجب العقلي المجرد من الغرائز أن يسرع المتخوم بإسعاف المرحوم، وأن يقتسم معه ما عن كمالياته، وأن تقوم حكومة عادلة تتولى ذلك. . فأن الأرض كلها ميراث للإنسانية كلها كما يرى الله وكما قدر ودبر. . .
3 -
وعقيدتي أن كل ظلم واقع على المستضعفين فمسئوليته أمام الله واقعة على كاهل الأمم القوية، وكل أمة جاهلة مسئولية جهلها واقعة علة الأمم العالمة. . وكل أمة فقيرة مسئولية فقرها واقعة على الأمم الغنية. فالله تعالى ترك القاصرين منا للراشدين، كما يترك الأب أولاده الصغار لرعاية الكبار. . ذلك قياس العقل الإنساني وذلك منطقة قي الأسرة الواحدة. فلم لا يكون قياسنا في الأمة الواحدة، ثم في الأمم المتعددة؟!
ولذلك كانت النفس العربية في أول نهضتها برسالتها تحس ذلك الإحساس المتمثل في قول رسول الله: (كلكم راع وكلكم مسئول).
وقول أبي بكر: (لو أن عقال بعير ضاع بالعراق لحسبت أني مسئول عنه أمام الله).
وقول عمر حينما رأى شيخاً قبطياً يسأل الناس على باب مسجد (لقد أضعناك صغيراً ولم
نكفك كبيراً) وأجرى عليه رزقا يكفيه. .
وقد قام العرب أول الأمر بمقتضيات هذا. فكانوا يعتقدون أنهم مسئولون عن إصلاح الناس جميعاً، ورعاة لهم جميعاً. . فتنقلوا كالسحب لا يبحثون عن الأمكنة الخصبة للاستعمار، بل يبحثون عن عباد الله الإرشاد والإنقاذ والتعليم، فكان أحدهم يخرج من جنات الشام والعراق ومصر إلى صحاري الشرق والغرب يبحث عن النفوس الضالة والعقول الشاردة. . فلما ركنوا إلى المكث في الرياض وتركوا الهجرة لمثلهم الأعلى وفقدوا التبشير به قبل دخول الناس في دينهم إذ وجدوهم مثلهم. . تجار دنيا. .
4 -
أن العقل إذا أهمل ضلت الإنسانية وتحولت أسباب حسناتها إلى سيئات. . والمسئول عن ذلك ليس الله، بل الإنسان في مجموعه، ولم يخل عصر من العصور التاريخية من إمبراطورية عظيمة كانت تسيطر على اغلب مقدرات الأمم، وتستطيع أن تقيم العدالة بينها لو أرادت، ولكن الأنانية والجهل وعدم الانتباه إلى مسئولية الأخلاق في الأرض هي التي ملأت الأرض بالظلم والفساد. .
والدليل على ذلك أن الإنجليز مثلا أو الجرمان أو الروس البلاشفة أو الأمريكان حين أقاموا دولهم على الشعور بالوصاية العامة وتوزيع العدالة بالتساوي ارتفعت نفوس الأفراد وصت لأجسام وسمت عقائد الحياة وتقدم العلم وكفيت حاجات النفوس إلى حد ما. مع أن كل أمة من هؤلاء مكونة من عدد كبير. . بينما أمة صغيرة من الهمج وأشباههم لا يزيد عددها على بضعة آلاف ولا تزيد مساحة بلادها على بضعة أميال، تعيش في فوضى واضطراب وفساد وجهالة وذلك لعدم الإحساس بالمعنى الإنساني في كل فرد، وعدم الإحساس بالوصاية وعدم تدبير الأمر بينهم.
وأن حياة السوء التي تحياها الأمم المتأخرة هي التي تبلبل عقائد المفكرين منا والجهال. وتجعلهم يحملون الله مسئولية ما يقترفون هم. . . . أنهم يعترفون بالأقدار ويحملونها متاعب ومسئولياتهم حين يكونون متأخرين متقاعسين، ولا ينظرون إليها ويعترفون بها حينما يكونون قادرين.
وأنك لو فكرت وقدرت لوجدت أن جرائم القادرين والأغنياء هي التي سببت ملء الأرض بجرائم الفقراء كالسرقة والقتل وحمل أسباب الأمراض وآثار الفقر المدمر. .
(للكلام صلة)
عبد المنعم خلاف
على هامش النقد:
مليم الأكبر
بحث وقصة. . . عادل كامل
للأستاذ سيد قطب
أيها القارئ!
هذا كتاب يجب أن تقرأه. لا لأنك ستوافق على كل ما جاء فيه. ولكن لأنه سيثير انفعالك بالرضى مرة وبالسخط مرة؛ ولأنه سيدعوك إلى التأمل والتفكير في كثير من القضايا المسلم بها في الأدب والفن والأخلاق والنظم الاجتماعية الاقتصادية، لتنبذها وتحطمها، أو لتذود عنها وتتمسك بها. . .
وأيما كتاب استطاع أن يستجيش انفعالاتك على هذا النحو، فهو كتاب قد وهبت له الحياة، ولو قذفت به في النهاية إلى الجحيم!
وقد كان الكتاب في أول أمره (قصة) تقدم بها الأستاذ (عادل كامل) إلى (المجمع اللغوي) لتنال جائزة معينة، فرأت لجنة المجمع الأدبية لاعتبارات خاصة إلا تمنحها الجائزة. . . ومن هنا نشا (البحث) الذي يرد به المؤلف على هذه الاعتبارات، فيتناول فيه نواحي في اللغة والأدب والفن والأخلاق، لا تقل في قيمتها، ولا فيما تثيره من انفعالات السخط والرضي عن القصة ذاتها
ونحن نؤثر أن نسير في مناقشة هذين الكتابين، حسب وجودهما في عالم الحياة فهذا هو الترتيب الطبيعي للأشياء
قصة (مليم الأكبر) هي قصة الصراع بين الطبقات، مصبوبة في قالب فني. فهي على هذا الوضع من أدب (الوعي الاجتماعي) الذي يدعو إليه جمهور من المفكرين في جميع أنحاء العالم، وتدعو إليه الاشتراكية والشيوعية بشكل خاص!
ولهذا النوع من الأدب قيمته - وبخاصة في هذه الفترة من حياة العالم - ولكن الذي يثير الانتقاد هو غلو الداعين إليه ومبالغتهم في فرضه على جميع الفنانين، بوصفه ضريبة إنسانية على كل فنان. . . هذا الغلو غير مفهوم من الوجهة الفنية - بل من الوجهة
الإنسانية - فالإنسانية ليست هي هذا الجيل وليست هي بضمة الأجيال المقبلة. . . إنما هي الأجيال الماضية منذ الأزل، والأجيال المقبلة طول الأبد. وهذه وتلك لا تنكمش في هذا الحيز الضيق، حيز جيل من الأجيال. ثم أن هنالك مطالب الإنسانية التي لا تنحصر في ضرورات الطعام والشراب؛ ولا في حيز الضرورات على الإطلاق؛ وإنما تتطلع إلى آفاق ارفع وارحب؛ وتهفو حتى في اشد حالات الضرورة إلى ألوان من الفن المطلق الرفيع
وإذا صح أن أدب الوعي الاجتماعي ضريبة على كل فنان، فلتكن نسبته هي نسبة الضرائب إلى مجموعة الإيراد! بل ليكن فرض كفاية على الفريق المهيأ له من بين جموع الفنانين، فالتجنيد قد يصلح في كل بيئة إلا بيئة الفنانين!
ثم أبادر إلى تصحيح وهم ربما يكون قد سبق إلى ذهن القارئ حين وصفت هذه القصة بأنها من (أدب الوعي الاجتماعي). . . إن انحصار القصة في هذا الحيز لم يسلبها السمة الفنية الأصيلة. وأن المؤلف ليبدو في قصته هذه صاحب موهبة فنية لا سبيل إلى الشك فيها. موهبة العرض والتنسيق ورسم الملامح والشخصيات، وإدارة الحوادث والمفاجآت. . . فهي من هذه الناحية تستوفي صفات القصة الجيدة على وجه العموم.
ثم هي تحمل طابع مؤلفها بوضوح في نواحي النقص فيها ونواحي الكمال. فالمؤلف صاحب طريقة مطبوعة وأسلوب مرسوم. وهذا يقرر وجوده الفني في عالم القصة بلا جدال
يعمل المؤلف في جو متماوج مخلخل، جو (الضباب والرماد) فتمر الحوادث والشخصيات والملامح والانفعالات مرا متأرجحاً متماوجاً. وتبدو للعين كما تبدو الناظر وراء الضباب. . . ليست هناك مواقف حاسمة، ولا انفعالات صارمة، ولا حركات عنيفة، ولا ضجات توقظ الإحساس. وحينما تنتهي القصة تحس أنك في حاجة لأن تقراها من جديد لتتثبت من ملامحها التي مرت من قبل مر السحاب! وربما خطر لك أن تسأل، ماذا يريد؟ ثم تتوارى الشخصيات والحوادث لتجد في نفسك انفعالات غامضة متماوجة تثير القلق والتأرجح والاضطراب
. . . يخيل إلى أن هذا كل غرض المؤلف من عمله الفني - أن كان له غرض -: أن يثير القلق الغامض والتأرجح المضطرب، وأن يغمر اليقين الهادئ ويطلق في النفس
الإنسانية عنصر الاضطراب ويسلبها الثقة والاطمئنان لأي شيء في الحياة! وما الحوادث والشخصيات إلا أدوات فقط للوصول عن طريقها إلى الهدف الأخير
إنه - من وجهة نظر المذاهب الاجتماعية التي تدعو إليها - يعد ناجحاً إذا هو قد هز في النفس الإنسانية عنصر الاستقرار! فهو إذن من خيرة من يصلون لهذه الدعوة، لا بما يلقيه هنا وهناك من توجيهات ظاهرة، ولا بما يغمز به النظام الاجتماعي والاقتصادي من غمزات موحية. ولكن - قبل ذلك كله - بما يطلقه في النفس الإنسانية من التأرجح المضطرب الذي لا يقر على قرار!
(قال مليم
- بلا جدال. . .
ثم حمل عدته وأنطلق في الطريق دون التفات، وهو يضرب الأرض في عزم وإصرار كأنه مقدم على فتح عكاء. أما رفيقه فقد وقف يشيعه بابتسامة سآخرة؛ فلما أن صار منه على مرمى حجر، صاح في إثره قائلاً:
- سنرى. . .
وقهقه ضاحكاً ثم انكفأ إلى طريق غير الطريق)
(بلغ النقاش أقصاه بين خالد وأبيه كعادتهما كلما دار بينهما حديث - أي حديث -. ومهما يكن الموضوع تافها، فإنه يتطور على الدوام إلى اصطدام عنيف بين الأب وابنه. أما الأب فداهية مراوغ، يلذ له شعور القوة الذي يدفع بالقط إلى العبث بفريسته قبل التهامها، فهو يطيل من النقاش ويدير دفته إلى وجوه من الرأي يعرف أن ابنه يضيق بها ذرعاً، ثم يرقب في سعادة أثيمة ما يختلج في صدره من ثورة، وما يلوح على وجهه من اضطراب وضيق
(وقد كان. فما لبث أن اربد محيا الفتى، فأنفجر يرد علي تساؤل أبيه قائلا:
- بلا جدال. . .
ثم انثنى إلى حجرة المكتب، وغلق من خلفه الباب، ولو أنتظر لرأى بسمة السعادة الأثيمة ترتسم على شفتي احمد باشا خورشيد، ولسمعه يتمتم قائلاً:
- سنرى)
هكذا يبدأ المؤلف قصته فيرسم - منذ الصفحة الأولى - الخطوط الأولى في ملامح هذه الشخصيات الثلاثة التي هي محور القصة جميعا: مليم، خالد، احمد باشا خورشيد؛ ويرسم لهذه الشخصيات الثلاثة طريقها كذلك - لا طابعها وحده - فمليم (ينطلق في طريقه دون التفات وهو يضرب الأرض في عزم وإصرار) تلك طريقته أيضاً في جميع أدوار القصة! وخالد (يريد محياه ثم ينفجر وهو يرد على أبيه، ثم ينثني إلى حجرة المكتب ويغلق من خلفه الباب) تلك أيضاً طريقته في مستقبل الحياة: انفعال وانفجار ثم انزواء واعتزال، واضطراب دائم بين هذين الخطتين حتى ينتهي الصراع). وخورشيد باشا (داهية مراوغ يلذ له شعور القوة الذي يدفع بالقط إلى العبث بفريسته قبل التهامها. . وهو يرقب في سعادة أثيمة ما يختلج في صدر ولده من ثورة وما يلوح على وجهه من اضطراب وضيق) تلك طبيعته وهذه طريقه في القصة وفي الحياة!
هو استهلال بارع - كما ترى - وهي ريشة ملهمة تضع الخطوط الأولى فتشير إلى الخطوط الأخيرة. . . وقد يبدو أن القصة لم تسر في جميع مراحلها بهذه القوة وبهذا الوضوح. . . فيجب أن نلتفت إلى أن القوة والوضوح ليسا من أهداف المؤلف. . . وأن التموج والاضطراب هما قوام طبيعته وقوام طريقته. وقوام أهدافه المقصودة أو غير المقصودة ولكنا هي التي تتحقق على كل حال!
جعل المؤلف (مليم) هو بطل القصة وبه سماها. أما نحن فنرى (خالد) هو الشخصية الأولى فيها. فخالد شاب نشأ في طبقة الأثرياء - ابن خورشيد باشا - ولكنه سافر إلى إنجلترا وطاف بالبلاد الأوربية حيث كانت المذاهب الاجتماعية الحديثة، تصطرع مع الأوضاع التقليدية القديمة. ثم عاد فوجد نفسه غريبا بين أهله، غريبا كذلك في مجتمعه. أن رأسه محشو بالنظريات الحديثة وإنه لمتحمس لها كل الحماسة. ولكنه لم يكن ذا طبيعة عملية، تنفذ في عالم الواقع ما يجيش في نفسه من نزعات. كان خليطاً عجيباً من رجل الواقع ورجل الخيال. كانت تصطرع في نفسه وراثات مختلفة وتيارات متعارضة. كان صوفياً وشهواناً. كانت نفسه حلبة صراع بين شتى الاتجاهات. (ولو أتيح لأحد أن يكشف عن رأسه لوجد فيها حجرتين إحداهما يتربع فيها القرن العشرين بآلاته ومعادلاته. والثانية يمرح فيها القرن الثامن عشر وسط غابة يخترقها جدول) كما يقول مؤلفه
تصطدم هذه الشخصية المخلخلة المضطربة الثائرة الحائرة بشخصية خورشيد باشا القاسية الجاثية الماكرة اللئيمة. ذلك الرجل الذي يجد طعم اللذة الأثيمة وهو يحاور ابنه الطيب القليل الحيلة ويداوره حتى يشعره بآلام والضيق. والذي يتهمه المؤلف بأنه قاتل أبيه ليرثه. وبأنه يشعر بسعادة أثيمة وهو يؤذي فلاحيه ويطلق عليهم كلبه ليعقرهم. . . الخ، أنه نموذج لتلك الطبقة الأنانية الجشعة (التي تسرق أموال الفقراء!) والتي افلح المؤلف في أن نمقتها كل المقت ونزدريها كل الازدراء
يصطدم خالد بابيه انتصارا لمليم (صبي النجار) المتهم من الباشا بالسرقة جزاء أمانته، وهنا نجد جميع القوى مجندة في صف المال. وما إجراءات العدالة إلا مظاهر جوفاء كمراسيم التضحية بالفريسة في مجتمع متوحش. ويسلم مليم للسجن جزاء أمانته!!!
أما مليم فمهمته الحقيقية في القصة أنه محورها الفني. . لقد فهمنا أن المؤلف يريد أن يرمز إلى (رجل الشارع) ذي الفضائل الفطرية والطبيعية المستقيمة والعزيمة العلمية. . . ولكننا فوجئنا وهو ينحرف به في منتصف القصة فيكلفه القيام بعمل لا يقوم به (الرجل الشريف) ثم يجعله في نهايتها أحد أغنياء الحرب المعروفين!
ترى افلت الزمام من يد المؤلف؟ الأمريكي هي طبيعته طبيعة الضباب والرماد؟! هنا تستوي الغلطة والإصابة في الدلالة طبيعة المؤلف وطريقته!
وفي القصة غير هذه الشخصيات الرئيسية الثلاثة شخصيات أصيلة هي الأخرى. أطلق عليها اسم (جماعة القلعة) أولئك جماعة من الحالمين المنحلين. يصنعون كل شيء في أحلامهم الممتزجة بدخان النرجيلة! أنهم ينشئون مجتمعاً جديداً مطلقاً من جميع القيود والتقاليد، ولكن (في المنام)! هذه الجماعة تمثل حيرة فريق من شباب الجيل في مفرق الطريق!
وهنا يجتمع خالد ومليم، فيقوم مليم بعمله الذي لا يقوم به (الرجل الشريف!) يحتال على الرجال باسم (هانيا) الفتاة إحدى شخصيات جماعة القلعة!
ويقوم خالد بدور من أدواره كذلك. حتى إذا انتهت القصة وجدنا هذه الجماعة النحلة الحالمة وقد تفرق شملها ولم تصنع شيئاً. ووجدنا (خالد) يعود إلى طبقته ومجتمعه وقد انحلت نفسه وفرغت طاقتها وسقط صريعاً في حومة الصراع الذي دار في داخل شخصيته أعواما.
ووجدنا (مليم) وقد من أغنياء الحرب. . . ثم وجدنا الحوادث والشخصيات كلها تتوارى ليسال كل منا نفسه: ماذا أراد؟ وماذا كان يريد؟ وقبل أن يسال الجواب على سؤاله يجد نفسه تتأرجح وتتماوج في هذا الضباب الذي أطلقه المؤلف، وكأنما يطلقه بغير تدبير!!!
في أحلام (جماعة القلعة)، وفي تصرفات خالد ومليم. وفي حوادث القصة نزوات وفلتات خلقية وجنسية، أخشى أن تكون جميعها وحي مزاج منحرف شاذ!
مقياس الجماعة لصلاحية الفرد للجيل الجديد، إلا يجد غضاضة في معاشرة أخته معاشرة الأزواج! ذلك هو الدليل الذي لا يخطئ على أنه طليق من جميع التقاليد!
أحد أفراد الجماعة ينظر إلى مليم بإعجاب ويقول: إنه (زوجنا) جميعاً!
خالد يتحسر - بعد وفاة أمه - على أنه لم يوقظها بقبلاته كل صباح كأنها (زوج) له!
مليم يعثر على لفافة في بيت خورشيد باشا وهو يصلح النافذة، فيعطيها لخالد. فيتوقع خالد أن تكون غرامية تخص والدته الحاجة. ويبتهج لهذا الخاطر ويستريح!
بنت عمة خالد أنثى تتهالك عليه في أوضاع مخجلة عارمة البهيمة. لهذا ولأمثاله دلالته. ولعل هذه الدلالة كانت أهم الاعتبارات التي منعت لجنة المجمع من منح الجائزة للقصة. واللجنة محقة - لا من الوجهة الفنية - ولكن من وجهة أن مثل هذه الاتجاهات مما يجب أن يلقي به صاحبة رأسا إلى الجو الأدبي الطليق فيرى فيه ورأيه بحرية. لا مما تحتمل اللجان الرسمية تبعة تقديمه إلى القراء.
أما الكلام في المقدمة فموعدنا به قريب.
سيد قطب
القضايا الكبرى في الإسلام
11 -
قضية المؤامرة على المهاجرين
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة، فلقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، وحاربهم حتى هزمهم وقتل من قتل منهم، وبينما هو على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له جهجاه ابن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه، وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف ابن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين. فسمع ذاك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال دعوها فإنها منتنة
وقد وقف الخصام بين الرجلين عند هذا الحد، ولكن عبد الله بن أبي بن سلول أراد أن يتذرع بذلك إلى إحداث فتنة بين الجيش، وتأليب الأنصار على المهاجرين بعد أن ألف الإسلام بينهم، وجعل منهم أمة واحدة لا اثر فيها لعصبية من عصبيات القبائل العربية، فجمع عبد الله رهطاً من قومه، وكان فيهم غلام حدث يقال له زيد بن أرقم، فقال لهم: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم اقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، احتللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديهم لتحولوا إلى داركم
فذهب زيد بن أرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره بهذه المؤامرة، فقال له: لعلك أخطأ سمعك، لعلك شبه عليك. فأصر على شهادته ولم يرجع عنها، وما أظن إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض له بالرجوع عن شهادته، حتى لا يمضي في تحقيق هذه القضية الشائكة، لما كان لعبد الله من المنزلة بين قومه، وقد كان الإغضاء عنه وعن غيره من المنافقين مما يقضي به حسن السياسة في أول الإسلام، لأنه كان ضعيفا لا يحتمل الفتن، فكان من حسن السياسة أن يسالم أولئك المنافقين الذين يسالمونه في الظاهر، وأن
يتحمل مثل ذلك منهم، إرضاء لمن حسن إسلامه من قومهم، واحتقاراً لأمر أولئك المنافقين، لأنهم كانوا يقولون ما لا يفعلون، وقد قال عمر لنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك من زيد بن أرقم: دعني يا رسول الله اضرب عنق هذا المنافق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه
ثم أرسل إلى عبد الله وأصحابه ليسألهم عن تلك المؤامرة التي اخبره بها زيد بن أرقم، لأنه لم يجد بعد إصراره على شهادته إلا أن يمضي في تحقيق ما نسبه إليهم، حتى تأخذ قضيته حظها من التحقيق، ولا يهمل أمرها، فيطمعهم ذلك في المضي في مؤامرتهم
فلما حضروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخذهم ضعف النفاق، فأنكروا ما نسبه إليهم زيد ابن ارقم، وحلفوا ما قالوا شيئا مما نسبه إليهم زيد بن أرقم، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم حقيقة أمرهم، وكذب زيد بن أرقم وهو يعلم صدقه وإخلاصه ولكن المصلحة العامة قضت بأن يكتفي منهم بذلك، فأهملت قضيتهم خوفاً من أحداث الفرقة بين المسلمين. وما كان للنبي أن يؤثر أمرا من الأمور على أمر الوحدة بينهم، وقد كان عبد الله في قومه شريفاً عظيماً، فلما حلف بالله ما قال شيئاً مما نسبه إليه زيد بن أرقم، قال من كان بالمجلس من الأنصار: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد اوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فاظهروا بذلك حدباً على عبد الله، وعطفاً عليه ودفعاً عنه، وإهمال هذه القضية بهذا الشكل هو ما يسمى حفظ القضية في القضاء الحديث.
ثم بادر النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فلما ارتحل لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح في مثلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبي. قال: وما قال؟
قال: زعم أنه أن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. قال فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها أن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فوالله قد جاءنا الله بك وأن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً
وإن في هذا لدليلاً على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اهمل هذه القضية وهو يعلم صحة تلك المؤامرة، ولكن زيد بن أرقم أصابه من ذلك هم لم يصب مثله قط، فجلس في بيته لا
يظهر لاحد، ومكث مختفيا عن الناس حتى أنزل الله في شأنه - إذا جاءك المنافقون - الآيات إلى قوله (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون، يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)
فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن أرقم فقراها عليه، ثم قال له: أن الله قد صدقك. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشأ بعد هذا أن يثير تلك القضية، وآثر أن يمضي في إهمالها. وقد قالوا أن في مثل هذه القصة من الفوائد ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلا ينفر اتباعهم، والاقتصار على معاتبتهم وقبول أعذارهم وتصديق إيمانهم وأن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك الإنسان لما في ذلك من التأنيس والتأليف
وأني أرى أن ما حصل من أولئك المنافقين لا عقاب عليه في الدنيا، لأنهم تآمروا على شيء وبلغ عنهم قبل أن يشرعوا فيه، ولا مؤاخذة على مثل هذا في كثير من الشرائع القديمة والحديثة، وإنما تؤاخذ الشرائع بعد المضي في الفعل، واقتراف الجرم، رافة بالناس ورحمة بهم، وجمعا بين الشدة واللين، والعقاب والعفو، لأن أمر الناس لا يصلح الشدة الخالصة كما لا يصلح باللين الخالص، وفي أخذهم بالعزم على الجرم قبل اقترافه قسوة يأباها العقل، وقد عفا الله عن الهم بالسيئة، وجعل لمن هم بها ولم يفعلها حسنة.
عبد المتعال الصعيدي
فرقة التمثيل
للأستاذ زكي طليمات
المدير الفني للفرقة المصرية سابقاً
يسرن أن يتجه الجدل بيني وبين الأستاذ حبيب الزحلاوي إلى ما يفيد منه القارئ ويعلي جانب الحق.
في مقاله الأخير، تحت هذا العنوان، يزعم السيد الزحلاوي أنه مثالي في نظرته إلى أعمال الفرقة المصرية، ولهذا كتب ما سبق أن كتب. وهذا الزعم إنما هو بادرة شعورية من جانبه لخلجة لا شعورية في خبيئته الباطنة، أقامها عقله الواعي تبريرا لما حاوله من تجريح أراده بي فلم يفلح.
بيد أن المثالية الحقة العادلة في مهمة فرقة للتمثيل إنما تستمد عناصرها مما هو عليه المزاج السائد والمستوى الثقافي العام في البلد الذي تعمل فيه هذه الفرقة. فما هو مثالي في مهمة فرقة تعمل في لندن وباريس لا يمكن أن يكون كذلك من جانب فرقة تعمل بين القاهرة وجرجا وكفر الشيخ. اقرر هذا باعتبار أن دور التمثيل للجمهور أولاً وأخيراً. فإن لم يقبل عليها فلا فائدة من قيامها، وأن فن التمثيل ثقافة اختيارية لا إجبارية، وأن السواد الأكبر من المسرحيات التي تقدم يجب أن تكون في متناول فهم واستساغة السواد الأعظم من الجمهور.
ولا أتدخل في هذا الصدد في (المثالية المطلقة) لأن تحقيقها فيما نحن فيه يقف جامدا عند حد القولة الفرنسية ? ومفادها شتان ما الإزماع والإنجاز!!
فمثالية المسرح المصري في الوقت الحاضر - والأسف لا يحسه سواي - لا يمكن أن يكون اكثر من الأخذ بالتوسط والاعتدال بين ما يجب أن يقدم وما يمكن أن يقدم وما يمكن أن يقدم من المسرحيات بحيث يكفل ما يقدم في مجموعة إقبال الجمهور على دور التمثيل، هذا الإقبال الذي يبرر وحده قيام هذه الدور وفتح أبوابها.
عرفنا هذه المثالية على ضوء التجارب، وليس على هدى النظر، وأخذنا بها على احسن وجه، وأشرنا إليها في البيان الذي تصدرت به برامج مسرحيات الفرقة في كل عام، فقد جاء فيها بالحرف الواحد (ورسالة الفرقة وهي أدبية وفنية تهدف إلى المستوى الرفيع في
الأدب ولكن من غير تعال على ما يستسيغه الخاصة من الجمهور، ومن غير إسفاف إلى مجاراة العامة، وهي رسالة سامية بأغراضها متواضعة بوسائل تحقيقها).
وإخراجنا (شهرزاد) و (يوم القيامة)، كل واحدة في بداية كل عام فحسب، يحقق القسم الثاني من رسالة الفرقة وهي الموسيقى باعتبار أنها (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى) فلا لوم ولا تثريب علينا.
وفوق هذا فليس في هاتين المسرحيتين الغنائيتين ما يخرج على شرعة النوع الذي ينتميان إليه وهو (الأوبريت) وأن كنت أسف على شيء في إخراجهما على المسرح فلأنه لم يتيسر لي عناصر الرقص الاجتماعي الذي هو ركن رئيسي في هذا النوع من المسرحيات.
ومن التعسف والحيف أن نطالب هذا النوع بمعالجة مشكلات المجتمع، عن حنايا النفس البشرية بالتحليل النفسي الدقيق، وأن تنبسط أطرافه إلى الفلسفة والأخلاقيات واللاهوت.
ومسرحيات (كلنا كده) و (سلك مقطوع) و (قطر الندى) و (شارع البهلوان) ليس في تقديمها ضير ولا إفساد ولا انحراف عما يجب أن تكون عليه المسرحية الباسمة، لأنها كلها فكاهيات ظاهرها هزل وباطنها جد، تخفي كل واحدة منها وراء مظاهرها المفرحة موضوعا له أثره في التبصير والتقويم الخلقي. فمسرحية (كلنا كده) توحي بأن الحياة للخطأ والتوبة. والثانية تلوح بأن التمادي في توخي القصاص من جانب المرأة لرجل فيه مداعاة إلى تعقيد الأمور والتردي في أخطاء أخرى. والثالثة تقرر أن الجريمة إلى قصاص وأن الشر لا يكون طريقا إلى خير. والرابعة، على إغراقها في الهزل، إنما هي سخرية من الغيرة العمياء. مسرحيات باسمة تثير الضحك في وقت عز فيه الابتسام بفعل ضائقة الحرب
وكلها للردع وللإيحاء بما يجب أن تكون عليه جوانب من الحياة ليسعد الناس ويستريح القاضي. فأين في هذه المسرحيات ما يشين؟ ومن أين جاء للسيد الزحلاوي أنني اعترفت بأنها مشينة ومقالي السابق بين يدي القراء؟؟
أما مثالية الأستاذ الزحلاوي، ومفادها (أن تكون الفرقة مائة في المائة للمسرحيات الرفيعة، ولا يهم أن يحضرها الجمهور أو لا يحضر) فأقول عنها أنها ضرب من الاجتلاب شف عما وراءه، ولون من التعالم النظري، ومحاولة للسطوع واللمعان من ضوء غيره.
واعجب مما تقدم أن يبرز الأستاذ مطالبته بهذه المثالية بزعم أن الفرقة المصرية (حكومية بكل معاني الحكومية) وكان الحكومية في روعه مدعاة إلى أن تغير الأشياء من طبائعها وتتردى في مهاوي الفشل والخيبة لخروجها على محاور ذاتيتها، فتكون الفرقة هيئة لا يحسها إلا المقعدون ولا يأبه لها إلا الحالمون، تعيش على هامش الحياة كالتكابر وملاجئ العميان. . .
(وحكومية) الفرقة، وهم من أوهام الأستاذ الزحلاوي، لأنه من أولى مستلزمات هذه (الحكومية) أن تدفع الحكومة أجور الممثلين وكافة مصاريف الفرقة، وهذا غير ما هو واقع في الفرقة، وقد سبق أن قررت أن الفرقة هيئة تشملها رعاية الحكومة كما تشمل هيئات أخرى تمدها بالإعانة، وأن الإعانة التي تدفعها لا تفي بأجور الممثلين فحسب.
لندع الأوهام ولنواجه الحقائق. . أن مسرحنا المصري كائن كما يستحق كل مصري أن يكون، وكما نكون نحن يكون مسرحنا. ونحن نستطيع أن نقدم مسرحيات لشاكسبير وموليير وديماس الابن واوسكار وايلد وايملي برونتي إلى جانب فكاهيات ومحاولات من وضع أقلام مصرية لم يصل إلينا خير منها، نقدمها على مضض لتغري الجمهور على غشيان مسرحنا وتذوق مسرحيات من ذكرت من صفوة المؤلفين العالمين، ونحن فيما نفعل نرقص على إيقاع الزمان ونصدر عن مثالية المسرح في بلد لا أود أن اذكر النسبة المئوية في متعلميه. فإذا كانت هذه الحال تمض السيد الزحلاوي حقا فليجرد قلمه على الجمهور يوجهه ويستحثه على مشاهدة النفيس من المسرحيات، فهذا أجدى به، وبنا ابر واكرم. أما أن يوبس الثري بيننا وبينه مسوقاً بنطحات عاطفية وشطحات شخصية لا ترتكز على الروية والاعتبار فأمر أرجو أن يعاود النظر فيه.
زكي طليمات
أيتها الابتسامة!
للأستاذ محمود الخفيف
اتَوقَّاكِ مَا رَأيُتكِ جُهدِي
…
وأَعافُ الوَضِئ مِنْ لَمَحَاتكْ
مِثْلُ لَمْح السَّرابِ لَمْحُكِ عنْدِي
…
لَيْسَ غَيْرَ السَّرابِ أَصْلُ صِفِاتِكْ
أتَوَقَّاكِ، لا أَسِيُغكِ. . . أني
…
مَنْ سَقَاهُ العَذَابَ لَمْحُ السَّرابِ
أَبَّدا فِيكِ لَيْسَ يُخْطئُّ ظني
…
بَلْ يَزِيدُ الِيَقينَ فيكِ ارْتَيابيِ
أَتَوقَّاكِ! كَمْ سَحْرتِ خيالي
…
بأَفانيَن من بُرُوقِ الخِداع
يَوْمَ كان الفُؤَادُ غَّر الليالي
…
لَمْ تُذِقْهُ الحياةُ لُؤْم الطباعِ
أيُّ مَعْنىٍ لِلخَيْرِ أَطْمَعُ فيِه
…
مِنْ معانِيكِ في وجوه الرجال؟
أيُّ طَيْفٍ لِلسحْرِ لا أَتقِيهِ
…
في وُجُوهٍ تُزْهي بِسِحْرِ الجمال؟
صُورٌ أنتِ من ضلال الحياةِ
…
وطيوفٌ بَغِيضةٌ أَتقَّيها
عِفْتُ حتى ما حارَ من بَسَماتي
…
بين سُحْبٍ من الأسى تَحَتَويها
أَتَوقَّاك. . . كَمْ لَمَحْتِ طِلَاء
…
يَحْجبُ الافْكَ في حنايا الضُّلوع
يَحْملُ الِحْقدَ ما يريدُ انْطِفَاء
…
والعَدَاواتِ مَالهَا من هُجُوع
أَتَوقَّاك صورةٌ للِتَّشَفي
…
سَوْأَةً مَيَّزتْ سَليلَ التُّرابِ
أيُ وَصْفٍ لهذه أيُّ طَيْفٍ
…
غَيْر ظُفْرٍ تَحْتَ الطلَاء وَنَابِ؟!
أَتَوقَّاك مَرْآكِ في وَجْهِ حُرٍ
…
باسِم وهوَ لا يُطيقُ ابِتْسَامَا
وَجْهِ غرٍ ما كان يَوْماً بِغرٍ
…
غَيْرَ أن الرّشادَ أن يَتَعامى!
أَتَوقَّاكِ في مُحيا دَعِي
…
في ابْتِسَاماَتهِ أرَى الخُيلَاء
يَتبَّدى يا وَيْحهُ من غِبيٍ
…
في عُبُوسٍ وفي ابِتْسَام سواء
وَكَريهٌ مرآك بَسْمَة ذُلٍ
…
في وُجُوهٍ ذَلِيلةٍ القَسَمات
تَتَّقى عَصْفَ كلّ عَاتٍ مُدلٍ
…
بكلام من ضارِع البَسَماتِ!
وشَجَىً للنفوسِ مَرْآك مَعْنًى
…
من مَعَانِي مُغَالبٍ لَهِوَانِ
حَطهُ الدهرُ ما ارتدى بك لَوْناً
…
من تأسٍ يشفُ عما يُعَاني
أَتَوقَّاكِ آيةً لِلوْفاءِ
…
رُكبتْ من تَمَلُقٍ ودَهاَنِ
يا لَزُلْفَي في صُورَةٍ نَكْراءِ
…
ذَكرتَنْي ضَآلة الإنسانِ
جَمْرَةً في الحشا وَرَشْقَةُ سهمٍ
…
في صميمِ الفؤادِ مَرْآك حِيناَ
إذ يَرْى العَاشِقون في غَيْر وَهْمٍ
…
أن هَجْسَ الظنونِ أَمْسى يَقِيناً
إذا يَرْوَنَ الخِداعَ أَبْغَضَ وَمْضَا
…
من شُعَاعَاتِ خِنْجَر مْشُهورِ
هوَ منْ حَدهِ آخر وأَمْضى
…
إنَّ أَنْكى الْجَراحِ جُرْحُ الشُّعُورِ
أَتَوقَّاكِ مَا لَمَحْتِ لِعَيني
…
لَمْحَة الكأس ضَوّأَتْ بالسُّلافِ
رُبَّ كأْسٍ يَغْلو إليها التَّمَني
…
مُزِجَتْ حَمْرُها بِسُمٍ زُعَافِ
أَتَوقَّاك!. . . شدَّ ما أتوقَّى
…
صُوراً مِنْكِ عفَّ عنها بياني
إن يَكُنْ عَاَفَها حَيَاء ورِفْقا
…
رُبَّ ضَمْتِ حَوَى بليغ المعاني
أَيْنَ يَا قَلْبُ؟ أَيْنَ تُبْصِرُ عُيَنْي
…
بَسْمَةً لا يكون مِنها عَنائي
وَْيك يَا قَلْبُ قَدْ سَئمِتُ التمني
…
وأراني كَرِهْتُ فَقْد الرَّجاءِ!
قدْ أحبُّ ابتسامَةَ الطفْلِ لولا
…
خاطِرٌ ساَء وقعهُ في خيالي
لَنْ تراهُ الغداةَ عيناىَ طِفْلَا
…
إن فيه الغداةَ لؤَم الرجال
وأُسِيغُ ابتسامةَ الزَّهرِ لولا
…
سوءُ مرآهُ ذابِلاً في المساء
ويحَ نفسي كم يملاُّ النْفسَ هَوْلاً
…
كلُّ حُسْنٍ تطويه كفُّ الفناء
أبهَجَتْني ابتسامَةُ الأُم طِفْلَا
…
وهْيَ أُنْسِى وبهجتي في شبابي
أهٍ! مَنْ لي الغداةَ يا قلبُ ألاَّ
…
يملأُ القلبَ ذِكرها بالعذاب؟
لْيسَ غَيْرَ ابتسامَةِ الفَجْر فَارْقُبْ
…
طَلْعةَ الفَجْرِ إذ يَشُقُ الظَّلامَا
ومِنَ اللْيلِ رَوْعَة البَدْرِ فاطُلبْ
…
وْجَههُ إذ يزيحُ عنهُ اللثَاما
مِنْ بني آدم اشْمَأزَّ فُؤادِي
…
وابتسامِاتهم عَذَابٌ لنفسي
كلَّ يَوْمٍ كُرْهِي لهم في ازْدِيادِ
…
لَيْتَ لي في غَدٍ سَذَاجةُ أَمْسى
الخفيف
في سبيل العرب
سيف العروبة
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
سَيْف العروبة في كفيكَ مُنصلتٌ
…
فاضربْ به في رقاب الحادثِ الَجْلل
فأين منه سيوفُ الهند ماضيةً؟
…
فللعروبة سيفٌ غيرُ منخذل
وشَّته أيدي القُيون الصيدِ من مُضَرٍ
…
وجلّلتْه يدُ الأبطال بالحلل
نَمَتهْ للبيضِ من عَدْنانَ آصرةٌ
…
وأنبتتهُ مع الخطية الذُّبل
سلِ الوقائَع عما كان من أَجل
…
في صفحتيه وعما كان من عمل
تُديره كفُ غلابين عمرُهُمو
…
في ضربة السيف أو في طعنة الأسَل
لا يسكُتون على ضيمٌ يرادُ بهمْ
…
ولا يَقرُ لهم قلبٌ على ذحل
يجيب كل فتى منهم مُسائلة
…
بالسيف لا بعبارات ولا جُمل
من كل حُرٍ عزيزِ النفس ممتنعٍ
…
كالشمس ممنوعةً إلا على المُقل
سيف من الجْبل العالي بذُروته
…
المستطيلِ على القْمات والقُلل
يُهدي إلى السهل من مصرٍ ولا عجبٌ
…
ما قيمة السهل إلا في ذَرا الجبل؟
لبنان لم يُلْقِ هذا السيفَ عن وهَنٍ
…
من الضرابِ ولا خوفٍ ولا وجل
لكن لبنانَ أهداهُ إلى بطلٍ
…
(لا يعمل السيف إلا في يد بطل)
يا سيفَ عدنانَ لا يُرجى لطائفة
…
شأنٌ بغير حديدِ النَّصلِ معتدل
ما قيمةُ الحق أن لم يَحْمِ جانَبه صوتُ الأسَّنة لا صوتٌ من الجدل
قل للضعيف بلا سيف يؤيده
…
أما سَمعت حديث الذئب والحَمل؟
يا أمةَ العُربِ هُّبوا من مراقدكم
…
ولا تكونوا عن الأحداث في شُغل
ضموا الصفوف بقلب غير منقسمٍ
…
على الزمان وحبلٍ غيرِ منفصل
ولا يكن وُدُّكم يوماً على خَبَثٍ
…
ولا يكن حبكم يوماً على دَخَل
قد وحَّدت بينكم دنيا موزَّعةٌ
…
من الجراحاتِ والآلام والعِلل
يا قوم إن سبيل الخُلد واحدةٌ
…
فيم الخلافُ علي الغايات والسبل؟
لا يؤكل الشرقُ إلا وهو مُنعزلٌ
…
وليس يُرهبُ إلا غير منعزلِ
محمد عبد الغني حسن
البريد الأدبي
الكشف الأثري في منطقة حلوان
زار صاحب الجلالة الملك منذ سنتين المنطقة الصحراوية الواقعة جنوبي حلوان، فأدرك قيمتها الأثرية وتوقع جلالته أن يعثر الباحثون فيها على آثار ذات شأن، فاصدر أمره الكريم بمزاولة الحفر فيها على نفقته الخاصة، وتفضل فعهد بذلك إلى الأستاذ زكي يوسف سعد كبير مفتشي الآثار في منطقتي القاهرة والجيزة، فبدا العمل في يوليو سنة 1942 ولم يكد ينتهي موسم الحفر في تلك السنة حتى كشف عن 735 مقبرة يرجع عهدها إلى الأسرة الأولى (3000 قبل الميلاد) وفي عام 1943 كشف عن 1266 مقبرة، ولا يزال يتابع الحفر والكشف، والمأمول لن يصل إلى نتائج عظيمة. وقد دل المكشوف منها على حقائق تاريخية هامة أشار إليها أتحد أستاذة الآثار البريطانيين في جريدة الصنداي تايمز قال (إن لهذا الكشف ميزة خاصة لمن يريد دراسة تاريخ العصور الأولى في مصر؛ وذلك لما له من أهمية تاريخية لا تتوفر دائما في الآثار العظيمة الأخرى كالتي وجدت في مقبرة توت عنخ آمون، لأن هذه المقبرة لم تلقي أي ضوء على أمر جديد، بل أيدت ما كان معلوماً من فبل عن طريق إلاستنتاج، كما أنها أمدت المتحف بقطع ثمينة، في حين أن هذا الكشف الجديد يرجع بنا إلى عصر من اقدم العصور، وقد يجلو للعلماء الذين لم تتوفر لديهم البيانات ما يعينهم على الوصول إلى ما يبتغونه من النتائج.
وثمة أمر آخر وهو أن في هذا الكشف ما يثبت قيام أسرة ملكية قبل عهد الأسرة الأولى.
أنا نعلم أنه هناك ملوك حكموا مصر فبل عهد الأسرة الأولى، وأن الحفائر التي قام بها العلامة ايمري مدة عشر سنوات فبل عام 1939 قد برهنت على أن الأدوات المصنوعة من الأحجار والتي ترجع إلى عهد الأسرة الأولى هي ابعد في القدم مما كنا نظن، ولكن هذه الآثار الحديثة التي كشف عنها الأستاذ زكي يوسف، قد أظهرت حقائق جديدة مدهشة عن عصور اشد قدماً. على أنه ينبغي أن ننتظر ما ينشر عن هذه الاستكشافات، قبل أن نبدي فيها رأيا).
وقال الدكتور دريتون مدير مصلحة الآثار المصرية: (إن هذا الكشف ذو أهمية كبيرة من الناحية التاريخية فضلا عن أنه عنصر جديد لتاريخ المصاطب القديمة التي يرجع تاريخها
إلى عهد الأسرتين الأولى والثانية، وهذا ما يدعو إلى إعادة بحث تاريخ المصاطب الأثرية من جديد).
عرب ومسلمون
حضرت المهرجان الذي أقامته مراقبة النشاط المدرسي، واشهد أنه دل على تقدم عظيم في حياتنا المدرسية في النواحي الفنية والرياضية والاجتماعية، ولهذا تفصيل ستتحدث عنه الجرائد في الغد، فأنا اكتب هذه الكلمة بعد الانصراف من المهرجان.
أنا أدون ملاحظة لن تدونها الجرائد، ملاحظة تلخصها السطور الآتية:
مثل طلبة المدرسة الإبراهيمية رواية عمرو بن العاص، وفي رواية أن قسيساً قبطياً عرض على اثنين من قواد الروم أن يجتمعوا بالدير القبطي إذا دهمهم العرب الفاتحون، وأن القائدين قالا: وماذا نصنع إذا أخذا العرب من الدير؟
فقال القسيس: العرب يحترمون المعابد.
والخطأ هنا في كلمة (عرب)، والصواب أن يضع المؤلف كلمة (مسلمين)، فهي الكلمة التي يعرفها تاريخ ذلك العهد، فمصر فتحت باسم الإسلام لا باسم العرب.
وفي الرواية أن فلاحاً مصرياً احضر الضريبة للروم وفيها خمر، ثم كان من حظه أن يلقي عمرو بن العاص، فقال له عمرو: نحن العرب لا نشرب الخمر.
والخطأ في كلمة (عرب)، فالعرب كانوا يشربون الخمر، والصواب أن يقول المؤلف (نحن المسلمين لا نشرب الخمر)، لأن الذي حرم الخمر الإسلام.
وإذن المؤذن فإذا هو يصيح: (الله أكبر، الله أكبر، اشهد أن لا اله إلا الله، اشهد أن لا اله إلا الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة).
وأنا أتذكر جيدا أن الأذان فيه (أشهد أن محمدا رسول الله، اشهد أن محمدا رسول الله).
فأين ذهبت هذه الشهادة؟ أين ذهبت؟
أن الرواية تاريخية، فيجب حتما أن يراعي فيها الصدق في رواية التاريخ.
أنا عاتب على المؤلف وعلى المخرج وعلى المراقب، فما يجوز بتر الأذان بهذه الصورة، ولا يجوز أن نضع كلمة عرب في مكان كلمة مسلمين، لأن في هذا تزييفا للحق والتاريخ.
لم يبق إلا الثناء على الممثلين، وهم طلبة نجباء سيكون لهم بإذن الله مستقبل مرموق.
زكي مبارك
الجبال الجرداء وكيف تعشب
جاء في كتاب (منزل الوحي) صحيفة 298 لصاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا ما يلي:
(وعجيب أن تظل هذه الجبال جرداء على رغم ما ينحط عليها من سيول وأمطار فلا تنبت الأشجار في قنها وعلى سفوحها. أيرجع السر في ذلك إلى أنه لم يعن أتحد باستنبات هذه القنن والسفوح فظلت جرداء إذ لم تبذر فيها بذور ولم يغرس بها شجر. ما اظن، ففي صحاري تهامة وأوديتها ألوان من الشجر تنبت بذاتها منها السلم والعشر والطلح، ولعل هذه الألوان لا ترقي إلى سفوح الجبال وقننها، ولذلك ظلت جبال اليمانية جرداء رغم المياه التي تنحدر عنها).
والحقيقة أن لا عجب هناك، فالحيوانات التي ترعى وخصوصا الماعز منها هي السبب في هذا كله، فإذا دامت الحيوانات في هذا الرعي سنين عديدة فأنها لا تلبث أن تقضم كل طلق من النبات من شأنه أن يحفظ التربة من أن نجرف إلى الوادي بسب تهاطل الأمطار فلا تلبث أن تتكشف الصور وأن ينقل التراب الذي يغطيها إلى الوادي ولا يعود بعد ذلك بالإمكان أن ينبت الشجر لا في القنن ولا في السفوح. وعندنا في فلسطين مثل هذه الجبال الجرداء، والسبب واحد وانجراف التربة معضلة من أكبر المعضلات في الزراعة، والحكومات تعني بهذا كثيراً وطرق العلاج عديدة منها (الدورة في الرعي) كان تقسم المراعي إلى أقسام عديدة يسمح للحيوانات أن ترعى في قسم منها في السنة الأولى ثم تنقل إلى القسم الثاني في السنة الثانية وهكذا فما ترجع الحيوانات للرعي في القسم الأول بعد خمس أو ست سنين إلا ويكون القسم الأول قد اينع نباته وغلط وتعاظم. وقد زرت في هذه السنة هذه الجبال الواقعة بين السيل الكبير والزيمه، وأرى أن احسن علاج لها هي الدورة في المرعى، فإذا اتبعت هذه الطريقة في تلك المساحات الشاسعة وحوفظ عليها من الحيوانات فلا تلبث البذور أن تنتشر وأن تتكاثر من نفسها. ولا بأس من استعجال ذلك بأن تنثر البذور باليد في المساحات التي لم يبق فيها من الأشجار ما تستطيع أن تنثر بذورها.
لواء غزة - فلسطين
صبحي الشهابي
كبير مفتشي الزراعة
أساطير الحب والجمال عند الإغريق
عزيزي الأستاذ دريني خشبة
أخرجت للناس باكورة كتبك فكنت راويا لروايات إغريقية عاشت عصورا وهي أملوحة الآداب، ومجلبة الإطراب، وألهية الفكر، فقراؤك نظارة، وصفحاتك مشاهد، وفي آخر كل قصة من قصصك يسدل الستار.
وشئت أن تطرف ببراعة استهلال، فقدمت بين أيدي القراء أروع هاتيك القصص عن بسيشيه وإله الحب، فإذا بك تعرض فينوس أم هذا الإله الطفل في معارض الحسد الذي ما سلمت منه امرأة، وفي دواهي الكيد وهو الصق الصفات بالنساء. فينوس تنصب شباكها لبسيشيه، فهي تغار منها وتحسدها على عرش الجمال، فترسل إليها ابنها بقوسه ونشابه ليرميها في جحيم الهوى، وبسيشيه فتاة لعوب غريزة الدلال، اصدق حليتها السذاجة والتصديق. فؤادها ما شق شغافه ولا خفقت بالهوى سويداؤه. فهي تخاف من الحب، والخوف منه هو الوقوع فيه. أما كوبيدون هذا الرب الصغير، فقد جاء الإغريق من قبلك عليه، فحملوا الشطط وركبوا به على غوارب الظلم وهو طفل ما شب عن الطوق، ولا أنشق له باب، ولا ترك التسلي واللعاب. فأنى له الحب وعذابه، والغرام ولظاه. وقد أبه لهذا الخطل في الفن مصورو القرون الأخيرة فكان دولاكروا اسبقهم إلى الصواب فصور كوبيدون في صورة شاب مراهق وهو يقبل بسيشيه من على الجبين. وأني لأعجب، كيف جاز في الشجون أن يهوى بسيشيه كوبيدون. فهل يحب نفسه الحب كما يجن الجنون.
وخلبتني بأسطورة نرجس وقد عشق جماله وهام على وجهه في حب محاسنه، فكان يطل على صفحة الينبوع وهو ظامئ، فيشغله الغرام عن الأوام فيهوى بفمه على فمه. ولكن يتكسر الماء دون الارتواء. ولمامات طلعت مكانه على ضفاف الغدير زهرة النرجس فهي تطل أبدا على صفحة الماء، تتمرى عليه، وتهفو إليه.
ونقلني النرجس من هيامه بحال، إلى هيام بجماليون بتمثاله. فيا لله إبداعك وأنت تصف بجماليون الحيران في مصنع تماثيله ينقش بمنقاشه تمثال غالاتيا، فيسكب عليه كل مفاتن فينوس. وكان قلمك كمنقاشه فجمعت كل حلاوات المرأة، ثم وزعتها واحدة فواحدة على جوارح غالاتيا وقسماتها الحسان.
وشغف تمثال الرخام حباً بجماليون فمر بيديه اللامستين على مرمره البارد المسنون، وما راعه إلا حرارة الحياة تدب فيه، فإذا هو من لحم ودم وإذا غالاتيا تناجيه فيه بصوت فينوس.
وقد أولع رواة الأساطير بهذه القصة فافتنوا في سردها الفنون حتى كلن يراعك فسلك هذا المهيع الجميل.
ولا آتي على أساطيرك كلها، فهي زهرات مغريات تكفي واحدة منها أن تملا شمي بعطورها القبرصية حينا من الدهر القي فيه عن كتفي عبء الهموم. والأساطير يا صديقي منحة أدب غال. قد ابتكرتها الأمم القديمة لترفع الإنسان الفاني من حمأة الأرض إلى ملكوت السماء. ولم يك الأولمب عند الإغريق إلا سلما علويا لأولئك الآلهة الذين احبوا وابغضوا، وناحوا وضحكوا، وسلاهم عن كآبة الفناء لن كتب لهم الخلود، فذاقوا الحب الذي هو أقوى من الموت كما تقول التوراة. ولكنهم ما دنسوه بالمفاسد بل كان محور حياتهم: أنزع الحب منهم تفرغ الأساطير من الجمال، وتصبح صحراء سبسباً في لوافح الهجير. ونحن على الأرض منحنا حباً ولكن ما عرفنا حلاوته، ولا وعينا نبالته، ولقد دنسناه ثم دسناه.
كذلك رفعتي أساطيرك من هذا العالم حين قراءتها. ولا تعجب لأمري، فقد تمنيت لو كنت أحدها، لا إلها فما سموت إلى مقام الأرباب وعروشها، ولكن إنسانا أعيش في أكناف الأولمب كسادن في هيكل الفنون. وما رواية حياتنا يا صديقي بعد ألف عام إلا أسطورة كهذه الأساطير.
ثم هات حديث الأدب عنها، فقد أفادت فنون الغربيين فمزجوها في شعرهم ونثرهم، وحكمتهم وعظاتهم. فكانت فينوس ريحانه الشعور، وميزفا لسان الحكمة. وصورها المصورون، فألواحهم الخالدة من ألوانها غميسة. وترنم بها القيان وأصحاب اللحون،
ورقص في إهابها الرقصات، فواتن لفتات.
فعلى شعر هوغو بل نداها، وفي ليالي موسيه أنفاسها وشذاها. وأنظر إلى الشاعر أندره شينيه، فقد كان حبيساً ينتظر ضرب العنق علة مقصلة روبيسبيير، فنظم في السجن ديوان (المراثي) شكوى مزامير بأنغام الأساطير.
ولم يفد منها أدبنا القديم، كما تقول في مقدمتك، تعلة الرميتين وقد آن يفيد على يديك ويدي أندادك من رواة هذا القصص الإغريقي البديع.
بعد هذا بقى على حسابك، فكيف أجزت لنفسك أن تجعل من أسطورة السطرين صفحتين. والأسطورة يا أديبي نص تاريخي عتيق، تفاوت في ادعائه سبع مدن. وأنا عذيرك في التزيد عند الأوصاف والبدائع، دون الصفات والوقائع. وهذه منك سابقة إبداع في العربية في أن تجري على غرار من كتب السيرة بأسلوب الأدب وطريقة الفن، لا بتحقيق التاريخ ونقد الحوادث. فخرجت بالأساطير من خمائل عتيقة إلى أفواف جديدة عربية، بأسلوب حر الكلام، مبين المعاني. وإن شئت في الختام وصفاً لروعات إنشائك في هذا القصص؟؟؟؟؛ قلت لك إني لا أراه أسطورة أحلى من الأساطير.
(القاهرة)
زكي المحاسني