الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 601
- بتاريخ: 08 - 01 - 1945
اذكروا يا زعماء العرب!
اذكروا وأنتم اليوم بسبيل التشاور في تجديد وحدة العرب أن الركن الأول من أركان دينكم هو التوحيد، وان العمل الأول من أعمال نبيكم كان المؤاخاة
اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً؛ واذكروا إحسان النبي إليكم إذ كنتم أشتاتاً فجمع شتيت شملكم فأقمتم على وحدته ملكاً وسلطاناً.
اذكروا لماذا نذكر صاحب الهجرة في كل أذان وفي صلاة من كل يوم. هل نذكر اسمه مع اسم الله تعبدا به؟ معاذ الله فما يكون الشرك غير هذا؛ إنما نذكر الله ونذكر بعد محمداً كما تذكر القاعدة ومعها المثل، أو النظرية وبعدها العمل. لان الله يوحي والرسول يبلغ، ويأمر وهو ينفذ، ويشرع وهو يطبق. فنذكر الله استحضار لأوامره ونواهيه وتلك هي القدرة؛ وذكر الرسول استحضار لأفعاله وأقواله وتلك هي القدرة
اذكروا أن الوحدة هي التي أمكنت العرب في الأمس البعيد من تراث كسرى قيصر، وهي وحدها إلى تستطيع في الغد القريب تنقذهم من وراث (موسو) و (هتلر)
قولوا للمعوقين منكم والمخلفين عنكم: إن العصبية التي توسوس في بعض الصدور بالرياسة والسيادة والعزة إنما كانت في تاريخنا الحافل بالأحداث والعبر علة العلل في انشقاق العصا، وانقسام الرأي، وانحلال العقدة، وانتشار الأمر، وتعديل الدول. هي النعرة التي قالت يوم السقيفة: منا أمير ومنكم أمير. وهي الهامة التي خرجت من قبر عثمان وظلت تصحيح على دار الخلافة: نحن هاشميون وأمويون! نحن قيسيون ويمنيون! نحن علويون وعباسيون! نحن عرب وشعوبيون! نحن اثنتان وسبعون فرقة تتقاطع في الدين، وتتعادى في الدنيا، وتزعم كل فرقة منها أنها الناجية! نحن ثلاثة خلفاء في وقت واحد: عباسي على عرش بغداد، وأموي على عرش قرطبة، وفاطمي على عرش القاهرة، ولكل خليفة منهم شأن يغنيه، وعدوان مع الباغين على أخيه!
اذكروا كل أولئك يا زعماء العرب واستاروا بسيرة نبيكم في السياسة، واستنوا بسنته في الحكم، فإن محمد بن عبد الله الذي اثر أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكاً قد ساس الناس في عهده سياسة دينية بين علي وبلال، ولا بين قريش وباهلة. لم يسسهم عليه السلام سياسة وطنية، لأن الوطن محدود والدين لا حد له. ولم يسسهم سياسة قومية، لأن القوم جماعة متميزة لا تعرف العموم، والدين إنسانية شاملة لا تعرف الخصوص. ومن كان
مدينا بزعامته لربه لا لحزبه كان خليقا أن يساوي بين الناس جميعا في عدله وفضله. أما وقد استشرت العصبية ففرقت شعبنا فرقا لكل فرقة طرز ورسوم، ومزقت وطننا مزقا تفصل بينها مكوس وتخوم، فإنا أحرياء بأن نصلح الأمر بما صلح عليه أو له: نخفت في نفوسنا صوت الاثرة، ونسكن في رءوسنا عصف الهوى، ونجدد في أذهاننا ما طمس من معاني الإيثار والإخاء والفداء والمروءة، ونحدد في إفهامنا ما أنبهم من هذه المبادئ الإسلامية الصريحة:(إنما المؤمنون اخوة)، (وأمرهم شورى بينهم)، (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، الناس سواسية كأسنان المشط.
وتلك هي المثل العليا للسلام والنظام والحكم تطلبها الشعوب المكروبة المسخرة بالثورة بعد الثورة، وبالحرب عقب الحرب فيحول بينها وبينها تصادم القوى وتعارض المنافع.
لا نطمع في أن نجعل من الوطن العربي الذي قطعه الغاصبون الآكاون دويلات أو لقيمات يسهل ازدرادها، وحدة كاملة. ذلك فوق الطاقة الآن، لأنه عمل لم يقو عليه من قبل غير محمد، ولن يقوى عليه من بعد غير رجل من رجال محمد. هو الرجل الذي ينتظره العرب انتظارهم رجعة الربيع، ثم لا ينفكون النظر إليه في الأفق النائم يرجعون أن تنشق الحجب عن ظهوره. وبحسبنا اليوم أن نمهد أمامه الطريق ونهيئ له النفوس بهذه (الجامعة العربية) التي تتوافدون إلى عقد ميثاقها في القاهرة. فإذا أقمنوها يا زعماء العرب على الإيمان الصادق والنية الخالصة كانت إرهاسا لظهور ذلك الزعيم العظيم الذي يجمع الله لكم فيه الراعي الذي يطرد الذئب، والنظام الذي يجمع الحب، والدليل الذي يحمل المصباح، والقائد الذي يرفع العلم، والأستاذ الذي يعلمكم أن تصنعوا الإبرة والمدفع، وتشقوا المنجم والحقل، وتوفقوا بين الدين والدنيا، وتلائموا بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة، ويومئذ تعودون إلى منزلتكم من صدر الحياة ومكانتكم من قيادة الناس.
احمد حسن الزيات
وحي الهجرة في سياسة الأمم والشعوب
لصاحب الدولة الدكتور احمد ماهر باشا
قال صاحب الدولة الدكتور احمد ماهر باشا وهو الرجل الذي ندبه العون الإلهي ليكون الوزير الأول لمصر في تلك الحقبة من تاريخ يموج بالهول، وتفور أرضه بالحمم، وتمطر سمائه بالصواعق - ومصر - قلب العربية، وأمل شعوبها، تضطلع بأعبائها وأعباء جيرتها، وقد أخذتها الاحداث، واحاطت بها التبعات، وتقاذفتها الأهواء، فإذا (بالفاروق) اعزه الله يجعله على شؤون البلاد، يقيم الميل ويرد على الوطن هيبته، ويسير في المعترك العالمي على بصيرة من الأمر، وعلى هدى من الحق
قال هذا الرجل، وهو يتحدث عما (توحيه الهجرة) في وجدان الرجل السياسي:
(يوحي يوم الهجرة انه لا حياة للأمم ولا للشعوب، إلا بالجهاد الدائم، والكدح والداب المتواصل. وليس الجهاد قاصراً على مكافحة الاعداء، بل اشد الجهاد، واعنف الجهاد، مكافحة الشهوات والأهواء
فلقد رجع محمد رسول الله من بعض غزواته المظفرة فقال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر - جهاد النفس والهوى -
تذكرنا يوم الهجرة بأن الإنسان لا يحمي إنسانيته - بل عقيدته - إن هو أقام على الهوان راضياً، وإنما حق إنسانيته وواجب عقيدته أن يكافح الطغيان، ولن يصرخ في وجه الظلم، فإذا أعجزه أن يحمي عقيدته وإنسانيته فليهاجر بهما حتى يبلغ مأمنه، ثم يستأنف جهاده ونضاله
وإن الله لن يرضى أبدا عن الذليل المستضعف في الأرض، وهذا كتاب الله يحقر المستضعفين ويؤنب الأذلاء يقول تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. قالوا فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها. فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)
يوحي يوم الهجرة، يصور لأولئك الذين أنجبهم الإسلام، وهذبتهم فضائله، فاحسنوا القيام علة أممهم وشعوبهم، وقدروا الأمانة التي ائتمنهم عليها حق قدرها الإنسان فلم يقربوا إلا لوجه الحق، ولم يبعدوا إلا في سبيل الحق
وهذا عمر الفاروق يقول لولاته: اجعلوا الناس في الحق سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم
إياكم والرشا - فإنها السحت - وإياكم والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب)
وإني إذا ما رويت في الأمر الإنسان وفكرت لم كان اختيار الهجرة بدا للتاريخ الإسلامي؟ لا البث أن اقتنع - على بينة من الأمر - انه يراد أن يكون المسلمون دائما على ذكر من الحقيقة الخالدة، وهي أن سبيل الرفعة وطريق العزة - الجهاد للحق الخالد والعدل السرمدي
وانه لمن يمن الطالع أن يكون على عرش مصر الملك المفدى الإنسان (فاروق الأول)؛ فهو الأسوة الحسنة لشعبه وللشعوب الإسلامية. اعز الله ملكه، ونصر عهده وحقق في أيامه مجد الإسلام وعزة المسلمين.
(م)
طوالع الإسلام
للأستاذ عباس محمود العقاد
اسم كتاب ألفه الدكتور لورنس براون أستاذ مقارنة الأديان بجامعة مانشستر، ونشره في أوائل السنة الماضية 1944 وعرض فيه لحركات التجديد والإصلاح التي ظهرت منذ القرن الماضي في أنحاء العالم الإسلامي من الهند إلى إيران ومصر الإنسان وما يليها من الأقطار الأسيوية والأفريقية
وقد خرج من هذا العرض بخلاصة يسهل على الباحث من غير المسلمين أن يقبلها، ولكن لا يسهل قبولها على المسلم الذي يؤمن بدينه ويعرف ما فيه من قوة على بعث العزائم وإحياء الأمل ومزج الحديث بالقديم أو التقريب بين العقيدة والمعرفة وبين الأصول الدينية والأصول العلمية. فان الخلاصة التي خرج بها الدكتور براون من عرضه أن الأمل في نهوض دعوة إنسانية تنفع البشر كافة من أعماق الروح الإسلامية ضعيف، وانه لا يرى في العصر الحاضر زعيم من الزعماء الروحانيين في الأقطار المحمدية خليق أن يحمل أعلام النهضة المروجة، أو يقود بني الإنسان في طريق الصلاح والتهذيب، ليحل لهم المشكلات الروحية والاجتماعية التي تواجههم عند كل خطوة يخطوها في حياتهم العصرية
وتعليل هذا اليأس من مستقبل الإسلام عند الدكتور براون - أو من طوالعه كما سماها - أن الإسلام يعزل الدنيا عن الروح الإلهية، ويجعل الوحي الذي يقود الأنبياء والملهمين عملاً خارجاً عن الإنسان يهبط عليه من السماء بين حين وحين وقد انقطع هبوطه على البشر بعد خاتم المرسلين. ويزعم الدكتور براون أن شأن الإسلام في ذلك غير شأن المسيحية والموسوية، لان روح الله تمتزج بالإنسان في العقيدة المسيحية، ولان الموسوية أخرجت كثيراً من الأنبياء ونصت بعض آيات كتابها على تمني النبوة لجميع بني إسرائيل ليستمعوا من داخل سرائرهم إلى صوت الله. ويقول الدكتور براون إن الشعائر المادية في الموسوية والمسيحية إن هي إلا كناية عن المعاني الإلهية أو الروحانية التي ترمز إليها، وليست هي كذلك في الإسلام كما يقول
والذي فات الدكتور أن المسلم الذي يعتقد أن الله خلق آدم على صورته لا يمكن أن تعوزه الروح الربانية ولا أن يجرد الإنسان من هذه الروح، وأن الآيات التي وردت في القران
عن روح الله والروح عامة اكثر من نظائرها في الكتب الأخرى التي قلما تعرض لكلمة الروح بالمعنى الذي يستفاد من نصوص القران
وقد فات الدكتور براون شيء أهم من ذلك كان ينبغي ألا يفوته لان الدليل عليه قائم من أطوار الحركات الإسلامية التي أشار إليها في كتابه، وذلك الشيء المهم الذي فاته هو أن الإيمان بنصيب الإنسان من الربانية أو بحلول المعاني الإلهية في الإنسان لم يكن قط مسالة نصوص مكتوبة وشعائر ملموسة، وإنما هو مسالة فطرة تمتاز بها الأمم كما تمتاز بها الأفراد، وقد نشأت عقائد الروحانية أو الإلهية في المسيحية من تفسير الفلاسفة والأحبار الذين آمنوا بالدين ولم تنشأ من الكلمات التي يقراها كل إنسان في هذا الكتاب أو ذاك
وإن الدين الواحد لتؤمن به امتنان هذه غالية في الوقوف عند المحسوسات، وتلك غالية في المزج بين عالم الحس وعالم الغيب، أو في المزج بين الجسد والروح. وإن الكتاب الواحد ليقراه الرجلان في مدينة واحدة - بل في بيت واحد - فيفهمه أحدهما على طريقه المتصوفة أو القائلين بوحدة الوجود ويفهمه زميله كما تفهم الأوامر العسكرية كلمة كلمة وحرفاً حرفاً بغير تعليق ولا تأويل
ولو شاء الدكتور براون لفطن لهذه الحقيقة الواضحة من التفرقة بين الحركات التي اجمل الكلام عليها في الهند وإيران ومصر والحجاز، وهي حركات القاديانية والبهائية ودعوة الإمام محمد عبده والإمام عبد الوهاب. فكل هذه الحركات تجديد أو إصلاح نشأت في الإسلام وبين المسلمين واعتمدت على الكتاب الذي يدين به كل مسلم وهو القران الكريم، ولكن الفرق بينها في الواقع هو الفرق بين فطرة الهند وفطرة الفرس وفطرة المصريين وفطرة العرب، أو بين الأمزجة والعادات الذهنية التي تعودتها هذه الشعوب من موروثاتها القديمة وبيئاتها الفكرية والإقليمية
ففي الهند ظهر غلام احمد القادياني فبشر بمذهبه الجديد وزعم أنه هو عيسى بن مريم وهو المهدي وهو الإمام المنتظر في مذهب الشيعيين، وادعى فيما ادعي انه تلبس بروح مريم العذراء ثم تلبس بروح المسيح على نحو لا تدركه العقول، وصدق نفسه وصدقه أناس من مريديه حين خيل إليه أنه روح الله حلت بجثمان إنسان لإنقاذ المسلمين والمسيحيين من السواء من الضلال
ومن اليسير جدا أن يلمس المرء في هذه الحركة بقية من بقايا البيئة الهندية التي نشأت فيها عقيدة تقمص الأرواح وتجدد الروح في جثمان بعد جثمان، تارة جثمان ذكر وتارة جثمان أنثى، ومرة رسم حيوان ومرة رسم إنسان
وفي البلاد الإيرانية ظهر مرزا علي محمد الشيرازي، وزعم أنه الإمام المنتظر، ثم انتحل عقيدة الإسماعيلية في ما يشبه القول بوحدة الوجود ووثب من ذلك إلى القول ببطلان الشريعة الظاهرة والأخذ بالحقيقة الباطنة التي تبيح أصحاب - حلول الإله في الإنسان - أن يتصرفوا في الأحكام والقواعد الدينية تصرف الوحي الجديد لأنهم يستوحون مشيئة الله فيما يقولون ويعملون، ثم جهر بإلغاء بعض الشعائر المقدسة التي اتفق عليها المسلمون سنيين وشيعيين حيثما صرحت بها نصوص القرآن
ومن اليسير جدا أن يلمس المرء في هذه الحركة نزعة البيئة التي نشأت فيها طلائع الباطنية والإسماعيلية، بل نزعة البيئة التي نشأ فيها الإيمان بحلول أو رمز في جسد (مترا) رسوله الأمين في حربه الأبدية لإله الشر أهرمان
وفي الجزية العربية ظهرت الدعوة الوهابية والتي تنكر الترف في الكساء والبناء، يقع عليه الحس من جماد أو ذي حياة ومن اليسير جدا على المرء أن يلمس فطرة الصحراء في هذه الصرامة الخلقية وهذا الفصل الحاسم بين عالم الحس وعالم الغيب، خلافاً لتلك الأقاليم الهندية أو الفارسية التي امتزج فيها الحس بالتخيل واتصل فيها عالم الأرض وعالم السماء
وفي مصر ظهرت دعوة الإصلاح على يدي الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله فكانت تعليماً جديداً في المدرسة قديمة، أو كانت تفسيراً للقوانين الإلهية لا يخرج بها عن نصوصها ولكنه يحفظها في تلك النصوص ويقتبس منها المعنى الذي يوافق معارف العصر الحديث
ومن اليسير جدا على المرء أن يلمس في هذه الدعوة روح مصر التي عرفت نظام الحكم منذ ألوف السنين، وتعودت أن تدين بنصوص الأمر والنهي من ملك بعد ملك وأسرة بعد أسرة، فليس فيما تعلمه أو تدين به إلا ما هو نص محفوظ أو مستمد من تفسير النص المحفوظ بالمعنى الذي لا يخرج عليه، أو هي روح مصر التي عرفتها منذ قام فيها بالنبوة فرعونها إخناتون، وهي الأمة الوحيدة التي تلقت نبوتها من عرش وصولجان
فالحركات التي تتمثل فيها روح التجديد أو الإصلاح بين المسلمين حركات أقوام وطبائع تختلف بينها في العقائد الروحانية والربانية على حسب الفطرة التي طبعت عليها، ولا تعوقها النصوص والكلمات عن اقتباس المعاني التي تتهيأ لها بفطرتها
وقد وقع خلاف كهذا الخلاف بين المسيحيين والموسويين يرجع إلى أسباب كهذه الأسباب من اثر البيئة الإقليمية أو البيئة الثقافية أو البيئة السياسية
فلسي في الإسلام إذن ما يمنع نشوء الحركات الروحانية أو يمنع الاتصال بين روح الإنسان ورح الله، وان كان المسلمون يأبون أن تلغى نصوص كتابهم كما يأبى الكتابيون من المسيحيين والموسويون أن تلغى نصوص التوراة والإنجيل
وإنما أصاب الدكتور براون في رأي واحد وهو كلامه عن حاجة النهضة الروحانية إلى زعيم قدير ينفخ في الأمم الإسلامية وغير الإسلامية من روحه القوية فينفعها وينفع البشر كافة من طريق نفعها
وقد شوهد أثر هذا الزعيم حين وجد، فإذا هو اثر عظيم قلما يشبه أثر الزعماء المصلحين في الأمم الحديثة، فكان جمال الدين الأفغاني باعثا لنهضات الإصلاح في الهند وإيران ومصر وتركيا وسائر الأقطار الإسلامية، وقد يخلفه زعيم مثله فيقترب الأمل الذي استبعده الدكتور براون لأنه لم ينظر إليه بعين المسلم الذي يستمد العزيمة من هذه الآمال
ومما لاشك فيه أن الإسلام اليوم قوة مانعة لكثير من الشرور التي تهب على الناس كافة من قبل المذاهب الهدامة التي تبنى على أساس المادية العمياء، وفي وسع هذه القوة المانعة أن تنطلق في سبيل الإصلاح قوة روحانية دافعة إلى الخير العميم، إذا قيض لها الزعيم العظيم
عباس محمود العقاد
سر الخلود في الشريعة الإسلامية
للأستاذ محمود شلتوت
إنما شرعت الأديان لتصفية الارواح، وتخليص العقول من شوائب العقائد الفاسدة، لتؤمن بالله خالق الكون ومدبره، وتذعن لعظمته، وتعترف بوحدانيته، وتسلم من الخضوع والعبودية لكل ما سواه، وتتبع هداه وتسلك صراطه السوي فلا تضل ولا تشقى.
هذا هو الجوهر الذي قامت عليه سائر الأديان منذ عرفت الأرض هداية السماء، وهذا هو (الإسلام) الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وهذا هو الوحي الذي أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى به إلى نوح والنبيين من بعده، وهذه هي الوصية التي (وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون).
تختلف الشرائع وراء هذا الجوهر في التفاصيل: فصور العبادات ليست واحدة، وأنواع التكاليف متعددة، ودرجات التثقيل أو التخفيف متفاوتة، كل ذلك باختلاف الأمم والأحوال والأزمان (لكل جعلنا منكم شرعه ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم).
وقد قضت حكمة الله أن يضل هذا التدرج بالناس عصرا بعد عصر، ورسالة بعد رسالة، حتى تصل البشرية إلى مرتبة من النضوج الفكري والسمو العقلي، تتهيأ معه للاستقبال شريعة كاملة باقية، لا تنسخ بغيرها، ولا يأتيها الباطن من بين يديها ولا من خلفها، فكان ذلك في عصر محمد صلى الله عليه وسلم: اصطفاه الله لهذه الرسالة الكبرى بعد أن دعاه ورباه وصنعه لا عينه، ثم انتزعه من بيت الشرك والوثنية والكبر والعنجهية والثبات على الباطل الموروث إلى بيئة أخرى فيها صلاحية ولها استعداد لقبول دعوة الحق، فهاجر إليها مع صفوة من أهل الإيمان الراسخ، والولاء الثابت، يحبون الله ورسوله حبا لا تشوبه شائبة من أغراض هذه الدنيا، ويتسابقون إلى السمع والطاعة مخلصين راضين.
في هذا الجو الملائم وبين الأنصار والمهاجرين، اخذ الوحي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بتفاصيل هذه الشريعة في العبادات والمعاملات والأخلاق، وأخذت جماعة المسلمين تتركز ويتكون قانونها العام، واستمر ذلك بالتدرج مدة عشرة أعوام هي حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة حتى اصبح العالم أمام دولة ناشئة قوية لها
أحكامها الشاملة، ومبادئها القوية في كل شان من شئون الحياة من بيع وشراء، ونكاح وطلاق، وميراث وهبة ووصية، وزكاة وصدقة، وقضاء وعقوبات وحرب وسلم وغير ذلك.
يومئذ أعلن القران في وضوح أن هذا الدين قد كمل كمالاً مطلقاً، وان نعمة الله به قد تمت، وانه قد ارتضاه لعباده فلا بنهل منهم سواء (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا)، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
بهذا تقرر، واصبح من العقائد الإسلامية، أن هذا الدين خالد، وانه بعقيدته وشريعته طريق الصلاح والنجاة للناس في دنياهم وأخراهم، وان العالم مهما طال بهم الزمن وامتدت به الحياة لا يحتاج في صلاحه إلى شيء وراء الاستظلال بظل هذا الدين، والعمل بمبادئه، ومن هنا استقر في الأذهان أن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان.
ولكن ما سر الصلاحية التي استحقت بها شريعة الإسلام أن تكون هي الشريعة الخالدة؟ وهل في استطاعت الباحث أن يثبت ذلك في صورة علمية واضحة يستوي في النظر إليها جميع الناظرين؟
ذلك ما نريد في هذا المقال:
ليس الباحث أن يستقصي جميع الأحكام التي جاءت بها الشريعة المحمدية حكما حكما، ويتتبع ذلك كل جزئية من الجزئيات ليختبر مبدأ الصلاحية ويعرف مداه، فإن هذا شيء يطول ولا يكاد يقف عند حد.
ولكن حسبه أن ينظر إلى مبدأ واحد هو المحور الذي تدور عليه سائر الأحكام مهما تعددت وتنوعت، وبيان ذلك: أن من يتأمل حالة العالم في عصوره المتعاقبة وأطواره المتتابعة يعرف حق المعرفة انه كان يتردد بين طرفين من إفراط وتفريط،
وكان ذلك شانه في كل شيء: في العقائد في الأخلاق، في صلة الإنسان بالحياة، في علاقة الفرد بالمجتمع، في علاقة الأمم بعضها ببعض، في طريقة التشريع، إلى غير ذلك من سائر الشئون، وقد جاء الإسلام فأدرك أن العالم لا يصلح بواحدة من هاتين الخطتين، وانهما منافيتان للفطرة الإنسانية والطبيعية البشرية، منافيتان لسنن الاجتماع التي تقضي
بالوقوف عند الحد الوسط في كل شيء لضمان البقاء والصلاح، وعدم التعرض للانحلال والفساد. أدرك الإسلام ذلك فجاءت شريعته وسطا لا إفراط فيها ولا تفريط، ووقعت أحكامها ومبادئها مهما تنوعت وتشعبت في هذه الدائرة التي رسمها كتاب الله عز وجل (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله):
هي في العقيدة وسط بين الذين ينكرون الإله، ويزعمون ان هذه الحياة الدنيا ليست إلا وليده المصادفات والتفاعلات المادية (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) وبين الذين يقولون بالتعدد، ويتخذون مع الله أنداداً: تقرر في صراحة وجلاء أن الله إله واحد، وأنه المعبود الذي لا يعبد سواه (قل هو الله اتحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)، (وقال الله: لا تتخذوا الهين اثنين إنما هو إله واحد فأياي فارهبون)، (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
وهي في الأخلاق وسط بين الذين يتحللون من كل الفضائل وبين الذين يشتطون في تصور الفضيلة والتزام طرف التشديد فيها: تقرر أن الفضيلة وسط بين رذيلتين: لا جبن ولا تهور، لا بخل ولا تبذير، لا استكبار ولا استخذاء، لا جزع ولا استكانة. وأساس ذلك كله قوله تعالى:(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً)(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما).
وهي في صلة الإنسان بالحياة وسط بين المادية والبحت الإنسان التي لا تعرف شيئا وراء ما يقع عليه الحس من طعام وشراب ولذات وشهوات وغلبة وبطش وجمع للأموال وتكاثر وتفاخر، وبين الروحية البحت التي تزهد بالحياة وتعرض عنها إعراضاً تاماً، فلا زواج ولا سعي ولا عمل، ولكن تبتل مطلق وإهمال للأسباب! يقرر الإسلام في ذلك الوسط أيضاً فيقول (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)، (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)، (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطبيات من الرزق).
وهي طريقة التشريع ووضع قوانين الحياة وسط: لم تدع الناس يشرعون لا نفسهم في كل
شيء، ولم تقيدهم بتشريع من عندها في كل شيء بل نصت وفوضت: نصت فيما لا تستقل العقول بإدراكه، كالعبادات زمانا ومكانا وكيفية ونحو ذلك، وفيما لا تختلف المصلحة فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، كالمواريث وأصول المعاملات من بيع وشراء وتحريم لأكل أموال الناس بالباطل ونحو ذلك، وفوضت فيما يدرك العقل الخير فيه وتختلف المصلحة فيه بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ومن هنا وجد الاجتهاد وكان ركنا من أركان الشريعة الإسلامية حفظ الله به للعقل الإنساني كرامته:
وهي في تحديد علاقة الفرد بالجماعة وسط أيضاً: لم يترك الفرد طليقا يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء ولم تدعه كالوحش في الفلاة يجري ويمرح ويعبث ويفترس ما يقدر عليه، ويتحكم فيه الأقوى منه، ولم تلغ شخصه، وتنس اسقلاله، وتضيعه في غمار الجماعة لا يعمل إلا لها، ولا يفكر إلا فيها، ولا يعرف لنفسه وجودا غير وجودها، كأنه جزء من آلة يتحرك بحركتها ويسكن بسكونها، ولكنها اعتبرته ذا شخصية مستقلة، وفي الوقت نفسه اعتبرته لبنة في بناء المجتمع، فأثبتت له، بالاعتبار الأول، حق الملكية لماله ودمه والهيمنة على نفسه وولده، ومنحته في هذه الدائرة حق التصرف بما يراه خيرا له وسبيلا لسعادته في حياته، وأوجبت عليه بالاعتبار الثاني، حقا في نفسه بالخروج للغزو والجهاد في سبيل رد العدوان عن الوطن، وحقا في ماله في بالبذل والأنفاق في سبيل الله، وأوجبت عليه إرشاد الأمة وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وأوجبت عليه أن يعمل لا نجاب النسل الصالح وتكثير سواد الأمة به فيختار الولود ذات الدين والخلق، لتقوى بذلك الأمة ويعلو شانها
وفي مقابل هذه الحقوق التي قررتها الشريعة على الفرد للجماعة، أوجبت على الجماعة للفرد حقوقا لا سعادة إلا بها: كفلت له دمه وماله وعرضه، وشرعت لحمايته حق القصاص وحق الحد والتعزيز، وجعلت له حق في لن تعينه بمالها إذا افتقر، وبذلك تبادل الفرد مع المجتمع الحقوق والواجبات وجعلت سعادة الحياة منوطة بالتعادل بين الجانبين، وعدم طغيان أحدهما على الآخر: فلو ضن الفرد بنفسه أو ماله أو لسانه على المجتمع ساءت حالته وأدركه الضعف والانحلال، ولو ضن المجتمع بقوته على الفرد فلم يكفل له سعادته، ولم يحفظه في ماله ونفسه وعرضه، ولم يعنه في حال فقره أضعفه وعرضه للهلاك، وبهذا
وذاك تصبح الحياة عبئا ثقيلا لا يحتمل، بل جحيما لا يطاق!
وكذلك كان شأن الشريعة الإسلامية في تحديد علاقة الأمة بغيرها من الأمم: لم ترض للمسلمين بحياة الضعف والذلة وان يكونوا عزلا من القوة ينتظرون حظهم، ويترقبون مصيرهم، وما تقرره الأمم الأخرى في شأنهم، ولم ترض لهم كذلك بحياة الظلم والاستبداد والفتك بالضعفاء والاعتداء على الآمنين في أوطانهم وأموالهم، ولكنها أمرت المسلمين بالاستعداد والتقوى بالعدد والعدة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وأمرتهم أن يدعوا الله بالحجة والبرهان لا بالإلجاء والقهر (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)
ونظرت إلى الحرب وأسبابها الداعية إليها والمفضية إلى شب نيرانها نظرة تتفق وغايتها من الصلاح العام والمساواة بين الناس والسير فيهم على سنن العدل والرحمة، فحصرت أسبابها في دائرة معقولة تتناسب مع كونها ضرورة من الضرورات: دفع الظلم والعدوان، وإقرار حرية التدين، والدفاع عن الأوطان، وإن القرآن الكريم ليرشد إلى ذلك في عدة مواضع إذ يقول:
(وقاتلوا في سبيل اله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة اعلموا أن الله مع المتقين)(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)
وأساس الدستور العام في ذلك هو قوله تعالى (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)
وقد أباحت الشريعة الإسلامية أن ينشئوا ما شاءوا من العلاقات بينهم وبين الذين لم يعتدوا عليهم في الدين أو الوطن من كل ما يرونه عونا لهم على حياتهم في شئون التجارة والصناعة والعلم والسياسة والثقافة، ينظمون ذلك كله على الوجه الذي يتبين صلاحه، والذي تقضي به سنن الاجتماع والفطرة، والذي لا يتعارض مع دستورهم الخاص، وقد أجازت الشريعة أن تصل هذه العلاقات إلى حد البر بهم والإحسان إليهم
وأساس الدستور العام في ذلك هو قوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين،
ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين)
هذا هو الصراط المستقيم، والمبدأ، الوسط، الذي تسير عليه الشريعة الإسلامية في جميع أحكامها، والذي صلحت به لكل زمان ومكان، واستحقت به الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
محمود شلتوت
وديعة مدينة سالم
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
محمد بن أبي عامر شاب عربي آباؤه من مسافر، وخؤولته في تميم. دخل جده عبد الملك بن عامر الأندلس في جند طارق بن زياد وارتقت بأسرته الأمور حتى عدت في اسر الوزارات في الأندلس.
نشأ محمد نجيبا طموحا هماما تبشر مخايله بنباهة شأنه، وتعد همته بعظيم مستقبله، بل تكفل آماله سؤدده، ويضمن عزمه مجده. سهر ليله وهو طالب علم يفكر فيمن يوليه القضاء إذا ل إليه أمر الأندلس. والمرء حيث يضع نفسه.
صار من أعوان قاضي قرطبة محمد بن السليم، ثم وكيلا لولي العهد هشام بن الحكم المستنصر، وتداولت كفايته وحزمه المناصب إلى أن ولي شرطة قرطبة سنة إحدى وستين وثلاثمائة فضبط الأمور وقمع الأشرار ثم دعاه الغزو فلبى، فاجتمعت له الشرطة وقيادة الجيش.
فإما حزمة في الشرطة فقد قال صاحب البيان المغرب:
(فضبط محمد المدينة ضبطا أنسى أهل الحضرة من سلف من الكفاة وأولي السياسة. ولقد كانوا قبله في بلاء عظيم يتحارسون الليل كله. ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو. فكشف الله عنهم بمحمد بن أبي عامر وكفايته وتنزهه فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات؛ حتى ارتفع الباس، وأمن الناس. وأمنت عادية المتجرمين من حاشية السلطان حتى عثر على ابن له فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدا مبرحا كان فيه حمامه، فانقطع الشر في أيامه جملة).
وأما الغزو فكان قائده المظفر، وبطله المحبب. وسيأتي حديثه.
ما زال ابن أبي عامر يرقي منصبا إلى منصب، ويعلو مجدا إلى مجد كالنسر يعلو مرقبا إلى مرقب حتى يوفي على القنة. فلما توفي الحكم المستنصر وآل الأمر إلى طفله هشام اجتمع له الأمر كله وظفر بأعلى مناصب الدولة، حجابة الخليفة. ثم وكله إلى ابنه عبد الملك وجعل له القيادة العليا وسائر مناصبه وجعل ابنه عبد الرحمن وزيرا. وسما هو إلى
السلطان الأعلى. وتسمى المنصور. وأمر أن يكتب عنه (من المنصور ابن أبى عامر وفقه الله) ثم كتب إليه باسم (الملك الكريم).
- 2 -
ملك ابن أبى عامر الأندلس ستة وعشرين عاما، يدبر شؤونها بعدله وعزمه ويعمرها ببره، ويجملها بأبنيته، ويضرب احسن الأمثال في البأس الذي لا يخالطه جور، والعدل الذي لا تشوبه هوادة، والأنصاف الذي لا يميز قريبا من بعيد، والحكم الذي لا يعرف إلا النصفة والمساواة والنفاذ على كل الناس في كل الأحوال.
ولم تكن سياسته العادلة الحازمة، اعظم من قيادته المظفرة. حتى لقد جاوزت غزواته أقصى غزوات الناصر، وحارب حيث لم يحارب قبله أمير من أمراء الأندلس.
غزا خمسين غزوة كانت الثامنة والأربعون منها إلى شنت ياقوب على البحر في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، ولم يحاولها قبله ملك عربي في الأندلس.
قال صاحب البيان المقرب:
(ومن أوضح الدلائل على سعده انه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهراً غالباً على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما احسب شركة فيها اتحد من الملوك الإسلامية. ومن اعظم ما أعين به سعة جوده، وكثرة بذله، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان).
- 3 -
هذه سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة من الهجرة والمنصور بن أبى عامر يعزم على غزو جليقية في أقصى الشمال والغرب وهو مريض ولكنه كما قال أبو الطيب:
وقد علمت خيله أنه
…
إذا هم وهو عليل ركب
سار من طليطلة إلى قشتيلة فأبعد الغارات فيها، ودوخ بلاد شانجه زعيم الأمراء المناوئين هناك.
وازداد بالبطل مرضه، (فاتخذ له سرير خشب ودع عليه أعضاءه وسوي مهاده متطاول
الشكل يمكنه الاضطجاع عليه متى خارت قواه، وكان يحمل سريره على أعناق الرجال وسجفه منسدل عليه، وعساكره تحف به وتطيع أمره. . .
وكانت تحمل سريره السودان الرقاصة للين مشيهم. بذلك قطع أربعة عشر يوماً حتى وصل إلى مدينة سالم)
- 4 -
المنصور في قصره من مدينة سالم قد استولى على الأمد من مجده، وأوفى على الغاية من عمره. بنظر إلى الحوادث الجسام قد اتخذها درجا إلى المعالي، ويتمثل الزمان رخاءه وشدته وسلمه وحربه. ويرى الأندلس كلها وأصقاعا من المغرب طوع حكمه، وتحت أمره، ويشفق من تبعات هذا التاريخ المتطاول وأعباء هذا السلطان العظيم ويرى كل شيء وراءه ولا يرى أمامه إلا الموت. يقول:
(إن زمامي يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما فيهم أسوا حالا مني. وددت أن أفال زلتي، وأنا كبعض هؤلاء السودان الحاملين لسريري).
وأخذ الرجل العظيم يوصي أمراءه وجنوده. وخلا يولده عبد الملك يوصيه ويودعه ويقبض على يده، وكلما ذهب عنه استرده مستدركا بوصيته. وعبد الملك يبكي فينكر عليه ذلك ويقول هذا أول العجز والفشل).
أوصى عبد الملك وصية الخبير المحنك، الأريب المجرب. وافرغ في أذنه وقلبه تجاريب عشرات السنين. ولم يترك عظيماً من أمور مملكته وأسرته إلا بينة.
ثم أمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر ويعود هو إلى قرطبة ليتدارك أمور الملك.
- 5 -
ابن أبى عامر في مدينة سالم في أقصى الجزيرة الأندلسية، كالأسد ابعد في مساره، والنسر غالي في تحليقه، يختم مجده مجيداً، وينهي جهاده مجاهداً، ويختم قصيدة ظفره ببيت رائع، وسجل مجده بسطر بليغ، قصيدة مطلعها الطموح ومقطعها الظفر وسائر أبياتها الهمة التي لا تقهر، والعزيمة التي لا تنثني، وسجل مقدمته طموح طالب علم في قرطبة، وخاتمته ملك
حازم، وقائد مظفر، ومجاهد غاز في أقصى الثغور.
ليلة الاثنين لثلاث بقين من رمضان عام ثلاثة وتسعين وثلثمائة وألف في مدينة مات سالم الرجل النابغة والعبقري الداهية. ودفن في قصره هناك. وكان أوصى أن يدفن حيث يقبض ولا ينقل تابوته. وأراد أن يجعل قبره في هذا الثغر القصي دعوة إلى الجهاد دائبة، ومثلا في المجد سائراً، وحرزاً على الثغور حريزاً، ورباطاً على الحدود مشهوداً.
ليت شعري أين قبر المنصور من قصره من مدينة سالم؟ بل ليت شعري أين تاريخ ابن أبى عامر من صدور شبابنا، وكتب مؤرخينا، وأقلام كتابنا، وقصائد شعرائنا؟! يا شعراء العربية من ينظم القصيدة الرائعة التي عنوانها:(وديعة مدينة سالم)؟
عبد الوهاب عزام
الله اعلم حيث يجعل رسالته
للأستاذ محمد محمد المدني
لا يكفي لنجاح أي نظام من النظم ولا تمام أي برنامج من البرامج أن يكون هذا النظام قوياً، أو يكون هذا البرنامج صالحاً، فكم من نظم قوية، وكم من مبادئ سليمة، وكم من برامج صالحة، صرعها الدهر وعفى عليها الزمان! ولكن أهم ما توطد به دعائم الإصلاح إلى منفذين صالحين يفقهونه ويدركون أسراره ويعرفون مراميه واغراضه، وتساعدهم صفاتهم وطبيعة نفوسهم على تحمل تكاليفه، والنهوض بتبعاته.
لذلك قضت حكمة الله، وقد طبع شريعته الخالدة بطابع الوضوح والصفاء واليسر والرحمة، أن يختار لها منفذاً ومطبقاً يكون له من الصفات النفسية ما لا يتنافر مع هذه الطبيعة، بل ما يستطيع به أن يجاري روحها ويمضي على سننها، وينفذ إلى صميمها، فاختار لها (محمد) صلى الله عليه وسلم، و (الله اعلم حيث يجعل رسالته).
تمتاز هذه الشريعة بالصفاء والوضوح والصراحة في مواجهة شؤون الحياة، ومجانبة التعقيد والتكلف في كل شيء:
عقيدة سهلة لا تستدعي من العاقل اكثر من النظر في ملكوت السماوات والأرض، بل لا تستدعي منه اكثر من النظر في نفسه ليعلم أن له إلها قادرا حكيماً مبدعاً أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. عقيدة واضحة يدركها العامة والخاصة في كل زمان، وليست في حاجة إلى فلسفة المتفلسفين، ولا إلى تكلف المتكلفين، لأنها (فطرة الله التي فطر الناس عليها).
عقيدة تفتح أمام صاحبها آفاق الحياة، وتجعله واثقاً من نفسه، غير مستعين إلا بخالقه، لا يعرف الخضوع والذل إلا لله الذي لا رب سواه.
وأحكام قوامها العدل والرحمة والتيسير على الناس، وبث روح التعاون فيهم، واقتلاع أسباب الشر والخصومة من بينهم، وتهيئة الحياة السعيدة لهم.
هذا الطابع الذي تمتاز به الشريعة الإسلامية، والذي هو مزاج من الصفاء والوضوح، والسهولة والتيسير، والرحمة والعدل، والصراحة في مواجهة شؤون الحياة، ومجانبة التعقيد والتكلف في كل شيء هو بعينه الطابع الذي طبع الله نبيه ومصطفاه: نفس صافية. مزاج سليم. قلب رحيم. لسان عف صدوق. صراحة في مواجهة شؤون الحياة. بغض شديد للنفاق
والمنافقين. ترفع عن أساليب الختل والمواربة والخداع والدوران حول الأمور. تصرف عادل رحيم يبعث على الثقة، ويوحي بالطمأنينة، ويغري بالقدوة، ويحمل على الحب والإجلال!
كذلك كان رسول الله صلى اله عليه وسلم.
كان صافي النفس، وقد ظهر أثر هذا الصفاء في نواح متعددة من خلقه الكريم: فهو لا يحمل الحقد لاحد، ولا يحب أن يفسد عليه أحد هذا الصفاء النفسي فيقول:(لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني احب أن اخرج إليكم سليم الصدر).
وهو طبيعي في صلاته بأصحابه يمازحهم ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذرين، ويبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة، ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسماءهم إليهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وما دعاه اتحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال له لبيك!
وكان يكره التكلف، وينهي عن التشدد والتزمت (ويأخذ العفو ويأمر بالعرف ويخفض جناحه للمؤمنين، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل الناس بالتي هي احسن، ويميل إلى اليسر والسهولة في كل شيء: ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن آثما، وما سئل شيئا عنده إلا أعطاه، وما انتقم لنفسه قط، وما نهر خادما ولا مملوكا).
وكان سهلا إذا اخذ، وسهلا إذا اعطى، متلطفا في ضروب الإحسان: يقترض فيرد اكثر مما اقترض، ويشتري فيعطي أكثر من الثمن، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأضعافها، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكانت الصدقة احب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه اعظم من سرور الآخذ بما يأخذه. وكان إذا عرض له محتاج أثره على نفسه تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان من خالطه وصحبه ورأى هدية لا يملك نفسه من السماحة والندى.
ولقد ظهرت آثار هذه الصفات الشريفة في سائر أحواله وتصرفاته صلى الله عليه وسلم، وظهرت في سياسته الحكيمة التي ساس بها قومه، وجعلها نهجا للحكام والرؤساء من بعده.
وظهرت في تطبيقه لكتاب الله، وتنفيذه لأحكامه. وظهرت فيما أوصى به أمته مما يتصل بالعبادات أو المعاملات أو الأخلاق:
سامه أعداؤه سوء العذاب، واضطهدوه في نفسه وفي أصحابه، ورموه بكل منكر من القول وزور، وكانوا يضعون في طريقه الأشواك والأقذار، ويطرحون عليه وهو يصلي جلود الإبل والبقر؛ ويمنعونه وأصحابه أن يبيعوا لأحد شيئاً أو يبتاعوا، بل كانوا يتآمرون عليهم، ويدبرون المكائد لهم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلقي ذلك كله منهم صابراً محتسباً نقي الصدر من الحفيظة، سليم القلب من الموجدة؛ بل كان يلقاه بالدعاء لهم فيقول (اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون!)
ولقد خضبوا وجهه بدمه، وكسروا رباعيته، وهو مع ذلك عليهم، ولا يسأل الله تعذيبهم. ويقول:(أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً).
ولقد أخرجوه من مكة وطنه الحبيب إلى قلبه؛ وأخرجوا معه كل من اعتنق دينه، فلما أظفره الله بهم وفتح له مكة حطم أصنامها، أو زال أوثانها ثم خطب أهلها فقال:(يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟) قالوا: خيرا. أخ كريم وابن أخ كريم. قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)
ولقد كان الرجل من العرب الجفاة الغلاظ يدخل عليه غبر مستأذن، ويناديه باسمه مجرداً يسأله عن شيء أو يقتضيه حقاً، فيحلم عليه ويجيبه متلطفا في خطابه، قاضيا حقه، فإذا غضب له أحد من أصحابه رده عن غضبه، وهدأ من ثورته. وقد أفضت هذه السياسة الرشيدة بكثير من أهل الكفر إلى الإسلام، واصبحوا بها من خيار المؤمنين!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم المعلم لأصحابه: يردهم إذا أخطئوا في رفق وأناة، ولا يعنف عليهم، ولا يؤنبهم، بل يبتسم لهم، ويبش في وجوههم. حدث معاوية بن الحكم السلمي قال: كنت اصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل من القوم، ولم اكن أعرف أن الكلام يفسد الصلاة، فقلت له يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم يتعجبون مما فعلت، فقلت: واثكل أماه! ما شانكم تنظرون الي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم وينظرون إلي متعجبين، فلما رأيتهم كذلك سكت حتى انتهى رسول الله صلى اله عليه وسلم من صلاته، فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلما قبله ولا بعده احسن
تعليما منه! فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني ولكن قال: أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفق حتى على أهل الكبائر من امته، وقد أقام الحد على رجل فمات فلعنه الناس وسبوه، فقال لهم: لا تلعنوه ولكن قولوا: اللهم اغفر له. اللهم ارحمه! وكان رجل يؤتي به إليه كثيراً وهو سكران بعد تحريم الخمر فلعنه الناس مرة فقال: لا تلعنوه فانه يحب الله ورسوله. فكشف لهم عما يعرفه من حقيقة نفسه ودخيلة قلبه لما رفضوه لظاهر فعله، وإنما ينظر الله إلى القلوب!
وجاءه مرة رجل وهو يصلي، فلما انتهى من صلاته قال له: يا رسول الله. إني أصبت حدا فاقمه علي، فسكت عنه، ثم عاوده الرجل بعد حين فقال له مثل ما قال فسكت عنه، ثم عاد إليه بعد صلاة الغداة فقال ليس: يا رسول له إني أصبت حدا فأقمه علي. فقال له: أصليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: فاذهب فإن الله غفر لك حدك!
وليس ذلك تهاونا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحدود، وحاشاه، وهو القائل في حادثة المخزومية التي سرقت وشفع لها أسامة:(والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها!) وإنما ذلك رجل قد تاب قبل أن يعلم به أحد، أو يقدر عليه أحد، ومن تاب تاب الله عليه (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا بأهله، سهلا في معاشرتهم: روى انه كان يسرب إلى عائشة بعض بنات الأنصار يلعبن معها. ومر يوما جماعة من أهل الحبشة يلعبون، فقال: يا عائشة تعالي فانظري! فقامت فوضع لحيها على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت تنظر إليهم في سرور واهتمام، ثم قال: أما شبعت؟ أما شبعت؟ وهي تقول له لا، انتظر. . انتظر!. .
ومن آثار صفائه النفسي وفائه صلى الله عليه وسلم، فهو لا يعرف الغدر ولا النكث ولا التنكر مع الزمان، لأنه لا يتقلب مع المنفعة، ولا تبطره النعمة:
كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد، فأرسلوا إليه رجلا منهم يفاوضه في أمر من الأمور، وهو أبو رافع، فلما رآه وحدثه أخذته عظمته وراعه حديثه، وألقى الله في قلبه الميل إلى الإسلام، وحينئذ نسيه الرجل انه سفير لقومه، وانه جاء
للمفاوضة عنهم، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له في لهجة ضارعة: يا رسول الله؟ لا أحب أن ارجع إليهم فأبقني عندك! فماذا فعل الرسول؟ هل نسى عهده الذي بينه وبين المشركين؟ كلا. ولكنه قال: لا. لا. إني لا أخيس بالعهد ولا احبس البرد، ولكن ارجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع إلينا. قال أبو رافع: فذهبت ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقا صدوقا لم يعرف عنه أنه كذب مرة واحدة في حياته لا فبل مبعثه ولا بعد مبعثه، ولذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين ويرضون حكمه، وينزلون على قضاءه.
أن الكذب علامة من علامات النفاق، والنفاق لا يكون من أخلاق العظماء، ولا يخالط نفوس الأباة الشرفاء، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ثلاث من كن فيه فهو منافق وان صام وصلى وحج واعتمر وقال أني مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا أوتمن خان).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يشدد على أمته ويسال الله دائما التخفيف عنهم، وكان يوصي أصحابه بألا يكثروا من سؤاله لئلا يشددوا على أنفسهم، ويقول (أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يكن حراما فحرم على الناس) ويقول (دعوني ما تركتم. إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقصد إلى تعذيب نفسه وحرمانها من طيبات الحياة كما يفعل المتشددون الذين يتكلفون الزهد والورع قصدا إلى الشهرة بالصلاح، وإنما كان يأكل الطيب إذا وجده، وكان يحب الحلواء والعسل، ويعجبه لحم الذراع، ويستعذب له الماء.
وكان يأمر بالتبشير، ويكره التنفير. وقد بعث معاذا وابنه إلى اليمن فقال لهما:(تنفرا، ويسرا ولا تعسرا).
وكان يكره المبالغة في العبادة بما يشق على النفس، وقد دخل المسجد مرة فوجد حبلاً ممدوداً بين ساريتين فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا حبل لزينب: تصلي فإذا كسلت أو فترت
أمسكت به! فقال: لا حلوة، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد.
وقال لأحد أصحابه (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إليك دين الله. لا أرضاً قطع ولا ظهراً ابقي).
وقد نزه الله رسوله الكريم حتى قبل بعثته عن كل ما كان يأتيه أهل الجاهلية من المباذل والمفاسد، وفي ذلك يقول صلوات الله عليه وسلامه عليه:(ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به إلا مرتين. كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته: قلت ليله لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى ادخل مكة فأسمر كمل يسمر الشاب. فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة فسمعت عزفا بالدفوف والمزامير فجلست انظر وأسمع، ولكن النوم غلبني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت ولم اقض شيئا، ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك، ثم لم أهم بعدها بسوء!).
لهذه الحلال وأمثالها فطنت خديجة رضي الله عنها، فلما جاءه الملك لأول مرة بالوحي، وذهب إلى بيتها يقص عليها ما رأى، ويذكر لها ما يساوره من خوف على نفسه، قالت له:(كلا، والله لا يخزيك الله أبداً. انك لتصل الرحم، وتحمل الكل الإنسان وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق) عرفت من شريف صفاته ما اتخذته دليلا على نجاحه في مستقبل حياته.
هذه درس وعبر وآيات بينات تشرق واضحة في سيرة محمد صلوات الله وسلامه عليه، وتدل على خلاله الكريمة التي وافقت بها طبيعته طبيعة دعوته، فيها ما يفيد الناس جميعاً على اختلاف مراتبهم، وفيها ما يفيد العظماء والمصلحين بوجه خاص. إنها تقول بلسان فصيح:
يل دعاة الإصلاح: ليس الإصلاح أقوالا ثقال، ولا مذكرات تكتب، ولا مبادئ ترسم، لتخطف بها الأبصار، وتؤلف القلوب، وتقضي على حساب ذلك اللبانات. إنما الإصلاح أفعال تتحقق بها الأقوال. إنما هو تنفيذ حازم لما رسم من الخطط ووضع من البرامج. إنما هو مثل تضرب للناس يبدو فيها الإخلاص لله، والإيمان بالدعوة، والغيرة على الفكرة، والفناء في سبيل المبدأ.
(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون)
اسأل الله أن يعمر قلوبنا بالاخلاص، وان يشرح صدورنا للحق، وان يفتح لهدى الرسول أبصارنا، وينير به بصائرنا. إنه على ما يشاء قدير.
محمد محمد المدني
اعترافات مؤمن
للدكتور محمد مندور
لا يستطيع مثلي أن يتنكر لجلال الفكر البشري، وهو منبع شقائنا وعزائنا على السواد، ولكنني احسب أن هناك أنواعا من ذلك الفكر، فالمرء قد يفكر بخياله وقد يفكر بقلبه. والتفكير بالعقل هو ما ينفر منه طبعي وذلك لأنه ما لم يحلق الفكر إلى عالم الصور الجميلة بخيال قوي أو يرسب إلى أعماق القلب بحرارة حية لم تهتز له نفس ولا اطمأن إيمان، وإن كنت لسوء الحظ مضطراً كغيري من البشر أن أكسر في بعض الأحايين جنح الخيال وان أطفئ حرارة القلب حين لا يكون بد من أن نتناول الأمور ببرودة العقل اللصيق بالأرض.
منذ أزمة الإيمان التي صادفتني في اليفاعة كما أحسبها صادفت غيري وأنا دائم التفكير في حقيقة ذلك الإيمان. ولقد مرت بي عقب تلك الأزمة مباشرة أعوام كنت أناقش فيها كل من القي عن المشاكل التي يثيرها العقل عن وجود الله وكيف كان ذلك الوجود وعن علاقته بهذا العالم وما فيه من خير وشر. ولاشك أنني كنت ابحث عندئذ على غير وعي مني عن يقين اطمئن اليه، ولكني اعترف في بساطة أنني ما قرأت ولا سمعت ما يوجب ذلك اليقين، حتى أصابني ما يشبه الملل فلم أعد أطيق الحديث في هذه الأمور، وأصبحت كلما سألني عنها سائل أو تحدث بها متحدث بها متحدث رميته بالتفاهة وذلك بوعي مني أو غير وعي، ولكنها تفاهة لا يمكن أن أعفيه منها مهما بلغ سؤاله أو حديثة من عمق أو أصالة. ولقد حاولت غير مرة أن أتبين السر في موقفي هذا فوجدته، أو خيل إلى أني قد وجدته، في أمرين: أولهما أن العقل نفسه نشاطه الأكبر موجه إلى تقويض ذاته، فهو لا يزال يبحث عن حدود قدرته ويتناول بالشك ما يصل إليه من آراء ونظريات يعاود فيها البحث فيقوضها حتى اصبح نقده لنفسه خليقاً بأن يهدم ثقتي فيه. وثانيهما أني كنت أحس دائما في غموض أن تطاول العقل إلى ما لا يستطيعه دليل ضعف فيه لا قوة، ولهذا كم كانت فرحتي يوم سمعت عميداً لكلية الطب بباريس يقول: إن من إمارات الضعف العقلي أن نبحث بعقولنا عما لا نستطيع أن ننفذ إليه، والعقل القوي هو الذي يغرف حدود قدرته). لقد خيل إلى عندئذ أن هذه الألفاظ قد أضاءت مظلماً في نفسي، فرأيت بوضوح ما كنت أحسه غامضاً. ومنذ ذلك الحين آمنت بتفاهة من يناقشني في الإيمان بعقله فهذا رجل ضعيف
العقل مبدد لنشاطه هدراً
أنا إذن لا احب الحديث عن الإيمان ولا أؤمن بالدعوة اليه، ولكنني مع ذلك مؤمن إيماناً راسخاً، وليست لي في الحياة قوة غير هذا الإيمان، فقد تهب أعاصيرها ومن الممكن أن تتنكر لي يوماً عناصرها ذاتها، ولكن ذلك لا أظنه ينال مني شيئاً، وذلك لا اعتزازاً مني بعروض حياة أو مواهب نفس، ولكن لأنني مؤمن باله عادل اطمأنت إليه نفسي بحيث لا اذكر أنني قد اتجهت إليه يوماً فلم أجد تأييده، وعند ما أدعوه يسكت في نفسي طنين الفكر فلا أحس غير الصمت الساكن ولا أفكر حتى في وسائل القوة التي ابغيها، وإنما أساق بعد ذلك في غير وعي إلى تلك الوسائل كالآلة المسيرة وهي تعرض لخاطري في لمحات خاطفة فأسير إليها دون أن أتبين حتى مواقع اقدامي، وإنما اكتفي بما استشعر من ثقة من أنني ما دمت قد تركت السكون إلى الحركة فإنني في سواء السبيل. ومهما تكن بعد ذلك من صعوبات، فلا يمكن أن يساورني شك في أنها ستذل ولو في اللحظة الأخيرة وذلك هو الإيمان الهادي
من أين لي بهذا الإيمان وقد لقيت ضروبا من الناس وقرأت ألوانا من الكتب، ودرست أنواعا من اللغات والثقافات، بل وخبرت الحياة هزلها وجدها في كافة الأجواء وتحت مختلف السموات. أستطيع اليوم بعد أن نضجت ملكاتي أن أقول إنني لم يقنعني أحد به، ولا اكتشفته في بطون كتب، ولا تلقيته من أفواه بشر، بل ولا غرسته بمواصلة القيام بشعائره كما نغرس في النفس مختلف العادات بدوام مزاولتها، وإنما هو إحساس قديم مكنت له في نفسي حوادث صغيرة كانت بيني وبين أبي
ولا أرى ضيرا من أن أقص طرفاً منها على القراء فتلك تجارب بشرية قد تكون أجدى في إلقاء بعض الضوء على مشكلة خطيرة هي مشكلة الإيمان من كثير من موسوعات علوم التوحيد والكلام، ولها على الأقل ميزة الصدق النابض بالحياة، وهي صادرة عن نفس فيها من القوة ما لا يصرفها عن أن ترد كبار الأمور إلى صغائر الأشياء عند ما تؤمن أن تلك الحوادث الصغيرة هي الأسباب الحقيقية التي تتضاءل إلى جوارها كبرياء العقل ومغالطات الإحساس
عندما أخذت أدرك علمت أن والدي قد بنى بأحد حقوله (خلوة) لا منفذ لها غير الباب وانه
قد هجر زوجته وأبناءه أربعين يوماً ليقيم في تلك الخلوة يعبد الله فيها آناء الليل وأطراف النهار لا يرى أحدا ولا يراه أحد، وإنما يحمل له الطعام من خصائص الباب. ولقد أثار هذا الخبر خيالي فكنت ألاحق أبي بالسؤال عنه ولكنه رجل كتوم لسره فلم احظ منه بجواب غير أن دافعه كان عبادة الله وكفى. ثم علمت أن الشباب كان قد ساقه في مهاويه فلم يجد عصمة خيراً من معاهدة أحد علماء الدين على التوبة إلى الله. وكان هذا العالم نقشبندي المذهب وكان رجل خيراً، فلم يعد تأثيره على والدي حد توجيهه نحو تجنب الإثم، وعبادة الله، والإحسان إلى الناس، وقراءة كتب الدين ولكم من مرة حاولت ان اعرف شيئا عن هذه الطريقة فكان أبي يرفض الإدلاء بشيء، مكتفيا بان يخبرني بان تلك أسرار لا يجوز أن تباح، ومن غريب الأمر أنني علمت منذ ثلاثة أشهر فقط أن لفظة نقشبند معناها النقش على القلب. واستنتجت من ذلك أن سر هذه العبادة هو أن يستشعر الفرد دائما أن اسم الله منقوش على قلبه. ولقد لاقيت والدي منذ أيام فأخبرته فرحا مسرورا أنني قد عرفت معنى الفظة دون بحث عنه، ولكن بتوفيق من الله ساقه إلى سوقا. فدهش الرجل وقال:(هو هذا وهو سر العبادة) وإذن فقد خلا أبى لعبادة الله أربعين يوما، وتحرك خيالي لتلك الخلوة، ولكنني لم يكشف لي عن سرها، واقتنعت بأنه لا يجوز لي لن أتطاول إلى معرفة هذا السر، ولقد آمن أبي سنين طويلة بأنه قد نقش اسم الله على قلبه واتخذ من هذا النقش سبيلا إلى حمده منعما وسالباً، وسمعت بذلك، ولكني أيضاً لم أكشف سر هذا الحمد، وآمنت انه لا يجوز لي لن أتطاول إلى كشفه، وهكذا تهيأت نفسي إلى الإيمان بالمجهول والاطمئنان إليه والثقة به، وأكبر ظني أن الخير ما أراد الله. فلو أن أبي بصرني بما أردت لخلت نفسي من الأسرار ولا أصابها العقم. واتفق أن أبي لم يستطع أن يتم حجه في بعض المرات إذ أصيب بنقرس شديد في السويس وأنا عندئذ في السادسة من عمري، والزمه المرض الفراش عامين كاملين قاسى فيهما من الألم ألوانا حتى لا أزال حتى اليوم كلما ذكرت أنينه اقشعر جلدي. ولست ادري لأي سبب ارتبط هذا المرض في نفسي بالإيمان حتى لا احسبه ثمن ما افاض الله علي والذي منه، ولا زلت منذ ذلك أؤمن بأنه لابد أن يبتلي الله المؤمن ليختبر إيمانه وان المرء لابد تاج ما سلم الإيمان في قلبه
وعندما اختارتني الجامعة لبعثها حدث حادثان صغيران كان لهما في نفسي ابلغ الأثر:
أولهما أنني قبل سفري رتبت كتبي في صندوق كبير وبغير وعي مني وضعت (المصحف) على قمة الكتب، ورأى والدي ذلك عرضا فسر سرورا لم اقصد اليه، ولربما جاء توفيق من الله. وحدث اخوتي عما رأى قائلا (إن أخاكم فلان سيكون الله دائما معه وسيوفق في كل ما يعمل) فسألوه (ولم ذلك) فأجاب (لأنني لاحظت انه وضع كتاب الله فوق كل كتاب) ثم أنني في يوم السفر فوجئت بهدية من والدي أوصاني أن احتفظ بها مدة غيبتي وان أعود بها إليه، وكانت تلك الهدية عبارة عن منديل للشيخ العالم النقشبندي الذي عاهده والدي على الهدى. ولقد أخذت المنديل واحتفظت به تسعة أعوام التي مكثها بأوربا وعدت وهو لا يزال إلى اليوم بين ملابسي. ولا أستطيع أن ازعم أنني قد علقت به أيمانا خاصا أو قوة معينة بل ولا فكرت في ذلك، ولكنه نوع من الاطمئنان السلبي المريح. وقد اختلطت في نفسي قيمة الهدية بمحبتي لمهديها وإيماني به، وكان لهذين الحادثين فضل دائم في ردى الإيمان كلما تجهمت لي الحياة.
ولقد اتخذ الإيمان في نفسي وجهة الإحسان إلى الغير، حتى لأحسب أنني عاجزاً عجزاً أصيلا عن بغض واحد، قد يقسو قلمي وقد يلذع لساني، ولكنني ما عدت إلى نفسي إلا أحسست بفيض من التسامح لا أستطيع دفعه. وأكبر ظني أن هذا الاتجاه كان أيضاً لا شعاع من والدي، وليسمح لي القراء أن أقص حادثا عائليا كان له في هذا الاتجاه أكبر الأثر كان لوالدي تسعة أخوة وكان يحبهم جميعاً حباً قلبياً صادقاً حتى لقد كان يذهلني عندما يموت أحدهم أن أراه هو الشيخ الكتوم لسره يبكي بدمع حار، وكان اصغر اخوته رجلاً كريماً متلافاً، وكان والدي يهتز في دخيلة نفسه لكرمه وان أحزنه إتلافه لماله، ولقد هدد هذا الإتلاف ثروته حتى أوشكت أن تضيع، وكان والدي يحرص على أن يستنفذ من تلك الثروة ما يستطيع، وحدث ذات يوم أن ألح الدائنون بالمطالبة وكان الوالد يستطيع عندئذ أن يسكتهم ببعض ماله الخاص ولقد فعل وكنت عندئذ في السابعة عشرة من عمري وكانت والدتي ككافة الأمهات تحرص على أن يستبقي الوالد أمواله لأبنائه، وكان أخي الأكبر يناصرها في الرأي فانتحى بي والدي في الليل ناحية واسر لي بنيته طالبا إلى أن اخفي الأمر عن والدتي وأخي. ولقد رأيت في هذه الحركة ثقة بي برغم حداثة سني أثرت في نفسي ابلغ الاثر، فتحمست منذ ذلك اليوم لعمل الخير وآمنت انه جزء من الإيمان حتى
استقر بي الرأي إلى أن عون الملهوف وإسداء المعروف إلى الناس لابد يخلفه الله بالخير إلى صاحبه، ولا زلت حتى اليوم اعتقد أن بركة الله قد حلت بمال والدي منذ الحين. وذلك لأنه مال لم يطهره بالزكاة فحسب، بل زكاة بالإحسان.
هذه هي عناصر الإيمان في نفسي، اطمئنان إلى المجهول، وعدم تطاول بالعقل إلا ما لا يستطيعه، وربط للأخلاق بالإيمان، وتسامح مع الناس، وعمل للمعروف حيث نستطيعه. وأما منابع ذلك الإيمان فهي كما ترى لم تنك محاجة عقلية ولا إثارة عاطفية، ولكنها حوادث صغيرة كانت ابلغ في تمرسه بالنفس من كبار الموسوعات وطوال الخطب
محمد مندور
المحامي
من مذكرات عمر ابن أبي ربيعة
صديق إبليس
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر بن أبي ربيعة): (لم أزل أرى كلثم (هي بنت سعد المخزومية زوجة عمر) اجزل النساء رأياً وأصلبهن مكسراً، وأقواهن على غيرة قلبها سلطاناً، حتى إذا كان منذ أيام رأيت امرأة قد استعلن ضعفها، وتهتك عنها جلدها، وعادت أنثى العقل يغويها الذي يغريها.
(وإن انس لا انس يوم احتلت عليها حتى دخلت إليها، وقد تهيأت لي أجمل هيئة وزينت نفسها ومجلسها، وجلست من وراء الستر، فلما سلمت وجلست، تركتني حتى سكنت، ثم رفعت الستر عن جمال وجه يخطف الابصار، ثم رمت في وجهي تقول: أخبرني عنك أيها الفاسق! ألست القائل كذا وكذا؟ تعني أبياتاً لي، فما زلت أفتل في الذروة والغارب، وهي تند علي وأنا مقيم عندها شهراً لا يدري أهلي أين أنا، ولا ادري ما فعل الله بهم. ولا والله ما مر على يوم إلا حسبتها امرأة قد خلقت بغير قلب، لما ألقاه من عنادها وامتناعها، وأني لآتيها بالسحر بعد السحر من حديث تحن عليه العوانس المعتصمات في مرابي الزمن، وأنا يومئذ شاب تتفجر الصبوة من لساني، ويتلألأ الغزل في عيني، وهي يومئذ غادة غريزة لو نازعها النسيم، فيما أرى، لاستقادت له من دلها ولينها وغضارة العيش. ولبثت شهراً أقول واحتال واستنزل عصمها برقي السحر، حتى إذا قلت قد دانت، انفلتت مصعدة قد تركتني شاخصاً أنظر إلى صيد قد طار، ثم اطرق ناظرا إلى سحر قد بطل فلما اشتد ذلك على أستاذاتها في الخروج إلى اهلي، وقد يئست منها ومن هواها، فما سمعت حتى قالت: (يمين الله أيها الفاسق! بعد أن فضحتني؟ لا والله لا تخرج أبدا حتى تتزوجني!) فتزوجتها وهي احب النساء إلى أن أتزوج، وما زلت معها وأنا لا أنكر منها شيئاً، وأقول الشعر تأخذه الألسن لتشيعه إلى الآذان، وادخل بيتي فألقاها فلا أسمع منها قلت وقلت! فيكربني إغفالها لما يبلغها من الشعر، فألح على النسيب، واذهب كل مذهب في التشبيب، واتبع النساء بعيني وقلبي، وأقول، فلا والله ما نبض لها قلب ولا تحركت لها جارحة، ولقد ادخل عليها فإذا هي تلقاني ضاحكة لاهية، حتى أقول: لعلها لم تسمع! فأنادي مولاي وأملي عليه، وهي بحيث تسمع ما أملي، وأتخلل الإملاء بالشكوى والحنين وارفع بهما صوتي، ثم انهض
ألقاها فما أرى وجهها يربد أو يتمعر، فكان ذلك غيظي وشقوتي، لا تزيدهما الأيام إلا اتقاداً. ويلمه كيلاً بغير ثمن! كم ذا أغيرها فلا تغار!
وأقبلت ذلك اليوم، بعد مرجعي من الكوفة بشهر أو اكثر، فاستقبلني جوان (هو ولد عمر من كلثم) فقال:(يا أبه. امي، ما فعلت بها؟) قلت: (أمك! بخير يا بني وعداها السوء). قال: (كلا يا أبه، وما ادري ما بها، غير أني ظللت أياما أستخبرها، وهي خالية، عما بريبها أو يؤذيها، فلا أسمع منها إلا ما تنشده من شعرك
كُمَّا كَمثل الخْمرِ كان مِزَاَجَها
…
بالماء، لا رَنْقُ ولا تكديرُ
فإذا وذلك كان ظِلَّ سَحَابة
…
نَفَحَتْ به في المُعْصراتِ دَبورُ
(ثم تنظر إلي وتقول: يا جوان، امض لشأنك، ولا تنسني في صلاتك، فورب هذه البنية، لقد حملتك ووضعتك وأنا أدعو الله أن يجنبني الشيطان، وان يجنب الشطيان ما يرزقني، فكنت أنت يا بني دعوتي، فادع ربك يا جوان لامك التي حملتك وهنا على وهن.
فابْكَ ما شئتَ على ما انقضىَ
…
كل وَصْلَ مُنْقَض ذاهبُ
لو يردُّ الدمعُ شيئاً، لقد
…
ردَّ شيئاً دمعُك السِاكبُ
فأقول: (يا أماه لقد أفزعتني!) فتقول: (اذهب يا بني (لو ترك الفطا ليلاً لنام). ثم تشيح وتنصرف، ولا والله ما قدرت منها على اكثر من أن أسألها فتجيبني بمثل ما أخبرتك. فبالله، يا ابه، لا تدع أمي تموت بحسرة تتساقط عليها نفسها! ارحمها يرحمك الله.
ويذهب جوان ويدعني لما بي، ويأخذني ما حدث وما قدم، وكيف ولم أنكر منك يا كلثم شيئاً منذ رجعت من غيبتي بالكوفة؟ وأني لأدخل عليها فتداعبني وتضحك لي وتذهب بي في لهوها مذاهب، ولا والله أن وقعت منها على مساءة تضمرها أو هم تكتمه، وكأن الحياة قد منعت دونها غير النفس فهي لا تتغير. وهذا جوان يقول، فلئن صدق لقد كذبتني عيناي وكذب على قلبي، وان كلثم لتلهو بي وتتلعب وأنا في غفلة عن كبر شأنها وأساها! وأذهب من ساعتي أدور في الدار انظر، فإذا كل شيء أراه قد لبس من هم نفسي غلالة سوداء نشأت بيني وبينه، وإذا أيامنا المواضي قد بعثت في أسمال هلاهيل تطوف متضائلة في جنبات البيت وهي تنظر إلى نظرة الذليل المطرد المنبوذ، وإذا كلثم قد خرجت إليهن كاللبؤة المجربة ربعت أشبالها، وإذا أنا اسمع همهمة كأنين الجريح تنفذ في أذني من حيثما
أصغيت، وما هو إلا أن أراني في فراشي قد توكأت علي مرفقي، والغشية التي أخذتني تتقشع عني شيئاً بعد شيء. وبعد لأي ما ذكرت ما كان من حديث جوان كما كان، فنهضت من مكاني اطلب كلثم في غرته حيث هي من البيت.
وقصدت مقصورتها فإذا هي قد اجافت الباب، فذهبت أفتحه وان يدي لتأبى على أن تمتد خشية أن اطلع منها على ما يسوءني، وهي أحب إلي من أراها مغمومة أو مكروبة، على غير ما عودتني وعودتها. فأستأذنها من ورائه فقالت:(مهلا يا أبا الخطاب، وبخير ما جئت). فقلت لنفسي: (كذب والله جوان وما كان كاذباً). فلما فتحت لي الباب رأيت سنة وجه كالسيف الصقيل يبرق شباباً ورضي، وقالت: (مرحباً يا عمر، لو رأيت الساعة جارتي وهي تدخل على ساعية تجري تقول: سيدتي أدركي مولاي فقد سمعت الناس يتناشدون من شعر قاله اليوم، وإذا فيه
ليسُ حبٌّ فوق ما أحبَبْتُها
…
غير أن اقتل نفسي أو أَجّنْ
فاحفظيه يا سيدتي من روعة المصيبتين. فقلت لها: لقد وفى مولاك السوء أن ليس بينه وبين الناس إلا لسانه! ولا يقتل مولاك نفسه أو يجن حتى يقتل الحمام نفسه على هديله أو يجن)
لم ادر ما أقول، فقد كانت كلمات جوان قد تشبحت لعبني ودوت في أذني، فما أطقت صبرا أن أسألها:(ما يقول جوان؟ زعم انك لا تزالين مهمومة لأمر يستخبرك عنه فلا تخبرينه، ولقد مضت السنين بيني وبينك، ولا والله ما علمت إلا خيراً ولا رأيت إلا خيراً، وما قال إلا ما يجعلني آسى على ما كان مني إليك مما ساءك أو رابك). وما كدت أتم حتى رأيتها تنتفض كالرشا المذعور أفزعته النبأة، وبرفت فتخاذلت وغرق صوتها فما تنطق، فخاصرتها ومشيت بها إلى مجلس في البيت وجلست أتحفى بها حتى تهدأ. وبعد قليل ما قالت:(أما إذا كان هذا يا أبا الخطاب فوالله أن كتمتك شيئاً).
ثم أطرقت ساعة، وأنا أنفذها ببصري اطلب غيب ضميرها، ثم رفعت إلى بصرها ونظرت نظرة المرتاب ثم قالت (إني محدثتك يا أبا الخطاب عما كان كيف كان. هذه جارتي ظمياء تدخل علي كالمجنونة منذ أيام تقول:(آمنت يا ظمياء! ما يروعك؟) فتقول: (لا والله ما يروعني إلا أن ادع مولاتي توصم بين نساء قريش وبني مخزوم، ويتحدث
أهل مكة أن أم جوان قد لقيت من البلاء كذا وكذا). فأقول: (ويبك يا ضمياء! انظري ما تقولين!) فتقول: (لا والله أن هو إلا الحق، أرأيت إلى تلك البيضاء الصهباء ذات العينين التي ما زالت تجيئني منذ أيام، لقد قالت لي في عرض حديثها: يا ظمياء لقد جئت مكة من بلاد بعيدة، وإني لأسمع الناس على الطريق يذكرونها ويذكرون بيت الله الحرام، فما ازددت إلا شوقاً أن أرى بيت الله الحرام، وان أرى الناس يجاورون هذا البيت العتيق، وما وقع في قلبي إلا أن أرى دنيا لم أراها، وقوما كتب الله لهم أن يكونوا أطهر واتقى الناس لله. ولقد خرجت من بلادي وهي ابغض إلي لما أرى من فجور أهلها وانغماسهم في كل إثم وباطل، وكنت أرى اشد أهلنا فجورا ولجاجاً أولئك الشعراء. ثم دخلت بلادكم وطوفت فيها ما طوفت حتى إذا انتهت إلى أرضكم هذه، لم أزل اعرف الشعراء فيكم افجر وافسق وأضل).
(فما أطقت أن اصبر يا مولاتي حتى قلت: (مه ياصهباء، وكذبت. وأين بنو الأصفر من بني يعرب؟ فإن شاعر العرب ليقول، وأن قلبه لاطهر من أن يدنسه ما يدنس به شعراؤكم أنفسهم يا بني الأصفر. وهذا مولاي وهو اغزل العرب لساناً، وما علم أحد عليه سوءاً. قالت صهباء: ما أحسن ما رباك أهلك يا ظمياء! وأحسني ما شئت ظنك في مولاك قلت: تبا لك. وإنك لتريغين إلى مولاي منذ اليوم، فلا والله لقد كذبت وخسأت أيتها الصهباء الطارئة التي لا مولى لها. فقالت صهباء: كذبت وخسأت! ما اصدق ما قال مواليك (من دخل ظفار حمر) وإنك لغريرة يا ظمياء، وأنا الصهباء الطارئة من بنات الأصفر لأخبر منك بغيب مولاك عمر. قلت: كيف قلت؟ قالت: انه الحق، وإن لمولاك غيباً عميت عنه عينك وعين مولاتك، وهو أحرص عليه من أن يطالع على خبئه اتحد قلت وأني لك أيتها الغريبة؟ قالت: دعي عنك، فهو الذي أحدثك.
(ثم دنت مني كالتي تسر إلي وقالت: ما كذبتك أيتها الحلوة الغريرة، فهذا مولاك قد ذهب إلى الكوفة منذ زمن، ألم يكن ذلك؟ وهذا مولاك قد نزل يا فسق خلق الله وأخبثهم عبد الله بن هلال الحميري الذي يزعم انه صديق إبليس وختنه وصاحب سره، وإذا هذا الفاجر يخرج إليه فينتين من أجمل خلق الله وأحسنه يغنيانه بشعرة حتى ذهب عقله، وإذا هو يدير مولاك يوما بعد يوم على أن يفتتن بهما، حتى إذا بلغ منه ما أراد ضمن له أن تكونا
بالطائف بحيث لا تراهما عين بشر. لا تنظري ألي كالمرتابة، فهذا الخبيث ابن هلال قد ألقى الطاعة إلى إبليس حتى عظم أمره عنده فهو يخدمه ويناطقه، وحتى لقد ترك له الصلاة العصر تقرباً إليه، وحتى أباحه إبليس أن يأمر الشيطان تتلعب ببني آدم ومن شرطه عليه أن لا يزال أبدا يجمع بين الرجال والنساء في الحرام. وهو رجل كما يقول مولاي. . .) قالت ظمياء: وان لك لمولى يا صهباء؟ قالت صهباء: دعيني حتى أتم يا ظمياء. . هو رجل قد أوتى من القوة على السحر والقدرة على تلبيس أنظار الناس ما لم يجتمع لأحد من شياطين السحرة قبله، فلو هومس وجه امرئ بمنديله الأزرق ذي الوشي لم تأخذه عين بشر. وهكذا هو يفعل بمولاك وصاحبتيه حتى لا يراهم الناس. قالت ظمياء: وان هذا يكون؟! قالت صهباء: نعم! وليس في الأرض أحد يطيق أن يدر أشر هذا الشيطان الخبيث إلا مولاي. فقالت لها ظمياء: ولكن أني لمولاك يا صهباء أن يكون عرف الذي خبرتني به إن كان ما تقولين عن مولاي مما سمعته منه؟ قالت ظمياء: فدنت مني ونظرت في عيني بعينين مذعورتين يخفق فيهما مثل شقائق البرق، ثم قالت: ما من شيء يفعله هذا الخبيث ابن هلال حيث كان إلا كان عند سيدي خبره. فقالت لها ظمياء: ويبي! أحقاً قلت يا صهباء؟ قالت: وي، أو كنت كاذبة عليك وما أنا وأنت إلا من هذه الجواري الغريبات المستضعفات؟ ومالك تكذبيني وان عندي من برهان ذلك ما لا قبل لك برده. قالت ظمياء: بالله! قالت!: بالله، فاذهبي إلى صوان سيدك في هذه الغرفة التي إلى جوارنا، واخرجي من بين المطرف السابع والثامن من ثياب مولاك ما تجدين!
(قالت كلثم امرأة ابن أبي ربيعة):
(فهبت ظمياء فدخلت إلى صوانك (تعني عمر) فأخرجت شيئاً رجعت به إلى صهباء. ثم إذا هي تدخل علي وتقص قصة ما كان، فأمرتها أن تأتيني بصهباء لأسمع ما تقول، فروت لي كل ما حدثتك به يا أبا الخطاب.
(قال عمر بن أبي ربيعة):
(فما تمالكت أن قلت لكثم: ما تقولين؟ وأي شيء هذا الذي كان بين مطرفي السابع والثامن؟ فقالت كلثم رويدك يا عمر، أما أن تدعني أتم وإلا والله لأسمعت مني شيئاً حتى يقطع الموت بيني وبينك. قلت: ويحك، فأتمي:
قالت كلثم. (ثم إني سالت صهباء عن سيدها ومولاها، فقالت انه رجل صالح يسيح في الأرض، وانه قد جاء فحج حجته وهو على سفره بعد قليل يضرب في البادية حيث يشاء الله. قلت لها: أو يعلم مولاك من أمر ما تحدثيني عنه أكثر مما قلت؟ قالت: لا ادري يا مولاتي، فإنه ربما دعاني ويجعل يحدثني حتى أقول لن يسكت، وما هو إلا كخاطفة البرق حتى يقطع فلا يتكلم. فربما عدت فسألته فلا والله ما يزيد على أن ينظر إلي ويبتسم. قلت لها. أو تستطيعين يا صهباء أن تأتيني بمولاك، ولك عندي مائة دينار؟ كلا لا نلت من مال مولاتي شيئاً، ولكني سأديره حتى يأتيك لما أرى في وجهك من الخير والسعد
(البقية في العدد القادم)
محمود محمد شاكر
نظام الشورى في الإسلام
بين الكثرة والقلة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كم في السيرة النبوية من أسرار التشريعية لو رجعنا إليها لأغنتنا عن الاستعانة بغيرها من التشريعات المنحرفة، في عصر ظلت فيه السياسة ظلالا بعيداً، وطغت فيه التعصبات الحزبية حتى أعمت الأمم عن النظر في مصالحها العامة، وآثرت عليه النظر في مصالحها الحزبية، وحتى ثارت في كل أمة خصومات وخلافات خطيرة تفرق كلمنها، وتقضي على الأخضر واليابس فيها، لأن الحكومة تكون فيها على أساس الحزبية، فكل حزب يعمل كل ما يوصله إلى الحكم، ويرى مصلحته في هذا فوق غيرها من المصالح
وقد أخذنا نظمنا الحديثة في الشورى على تلك الأمم، وقلدناها في تلك السياسة الحزبية العمياء، فظللنا وجه الصواب كما ظلت، وأخذنا نتخبط في حكمنا مثلها تخبطا معيبا، حتى اضطربت أمور الحكم فينا، وحررنا من الاستقرار الذي لتفرغ فيه لمصالحنا
ولو رجعنا إلى السيرة إلى السيرة النبوية لوجدناها سنة نظام الشورى على وجه يسود فيه التسامح، ولا يغلو في التعصب للرأي إلى ذلك الحد المعيب، فسارت سياسة الحكم في هدوء، واستقرار الأمر استقراراً ظهر فيه الحق بوضوح، فلم يعمه عن أعين الناس تعصب للرأي ولم يصرف الأمة من مصلحتها العامة مثل ذلك التغالي في الخلاف
وقد تم ذلك في غزوة أحد من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في السنة الثالثة من الهجرة، فقد وقع فيها خلاف بين المسلمين انقسموا فيه إلى فريقين: أحدهما يمثل الكثير، وثانيهما يمثل القلة، فحل الخلاف بينهما على وجه لا اثر فيه للتعصب ولا يمكن أن يكون هناك أتم منه في وجوه الشورى
وكان ذلك الخلاف أن رجالاً من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، لمل كانوا يسممونه من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بفضل من شهدها، وعظيم ثوبه فكانوا يودون غزوة ينالون فيها مثل ما ناله أهل بدر وإن استشهدوا، فلما سار المشركون في غزوة اتحد إلى المدينة رأوا أن يخرجوا منها لقتالهم، وعرضوا رأيهم هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فنام النبي صلى الله عليه وسلم ليلته فرأى رؤيا، فلما اصبح قال: والله إني قد رأيت خيراً: رأيت بقرة تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة. فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل، وإني رأيت أن تقيم بالمدينة وتدعوهم ينزلون حيث نزلوا، فان أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم ورموا من فوق البيوت
وكانوا قد شبكوا المدينة بالنبال من كل ناحية، وجعلوا فيها الآطام والحصون، فكانت حصنا قويا لأهلها، وكان الرأي أن يقيموا فيها، كما فعلوا بعد ذلك في غزوة الأحزاب فلم يقو المشركون على اقتحامها على المسلمين، وكانت جموعهم فيها أكثر من جموعهم في غزوة أحد
فقال أولئك القوم الذين أسفوا على ما فادتهم من مشهد بدر، وغالبهم أحداث لم يمكنهم أن يشهد تلك الغزوة الكبرى، فاحبوا لقاء العدو وطلبوا الشهادة فأكرمهم الله تعالى بها: يا رسول الله، إنا كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا
وقد رأى عبد الله بن أبي رئيس المنافقين تلك الرغبة الصادقة في القتال من أولئك الشبان، فساءه هو ذلك منهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا إلى عدو لنا عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فأن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا خائبين كما جاءوا
ومال هذا لا يحمد من عبد الله بن أبي وإن وافق فيه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الحق ليس في كلمة القتال، ولا في فعل يظهر بين الناس، بل لابد من هذا من صدق النية، وحسن المقصد، وقد عول الإسلام على النية في الأقوال والأفعال اكثر من التعويل على الأقوال والأفعال في ذاتها، حتى أثر قي ذلك القول المشهور: نية المرء خير من عمله
فلما سمع أولئك الشبان ذلك القول من عبد الله بن أبي لم يأبهوا له، واجتهدوا في حمل النبي صلى الله عليه وسلم على رأيهم، وقال حمزة وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك وطائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن أعداؤنا أنا كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جراءة منهم علينا. وزاد حمرة: والذي انزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم
طعاما حتى أجالدهم بسقي خارج المدينة. وقال النعمان: يا رسول الله، لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلناه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: له. فقال: لأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت. وقد استشهد رضي الله عنه في هذه الموقعة
وقد نظر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الذين يرون من أصحابه رأى أولئك الشبان أكثر من الذين يرون رأيه، فنزل طائعا على رأي ذلك الفريق الذي كان أكثر عدداً، وترك رأيه إلى رأيهم، وهو الرئيس الأعلى والرسول المبعوث إلى الناس كافة، لأنه رأي أن من يوافقه في الرأي اقل عدداً من الفريق الأول، فلم ينظر إلى شخصه في ذلك الخلاف، وإنما نظر إلى التشريع الذي يجب أن يسن في تلك الحادثة من الشورى التي شرعها في الإسلام، ليستقيم للمسلمين أمرهم فيها، ولا يقعوا في ذلك التعصب الأعمى للرأي، فتنقلب نعمة الشورى نقمة، ويضل الناس بها سبيل الحكم الصالح، وبهذا علم المسلمون أنه يجب عند اختلاف الرأي في الشورى أن ينزل الفريق الأقل عدداً على رأي الفريق الأكثر عدداً، وإن كان يرى انه رأيه هو الأرجح، لأن مخالفة الكثرة اشد ضرراً، وكما يجب تقديم النافع على الضار، يجب تقديم الأخف ضرراً على الأشد ضرراً ولما نزل النبي صلى الله عليه وسلم رأى تلك الكثرة صلى بالناس الجمعة، وثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد في التأهب للقتال، واخبرهم بأن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس لذلك فرحا شديداً، ثم صلى بهم العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي وهي القرى حول المدينة من جهة نجد، فدخل حجرته ولبس عدته، وتقلد السيف، وألقى الترس وراء ظهره
وقد اصطف الناس ما بين حجرته إلى منبره ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد بن معاذ واسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، وقلتم له ما قلتم والوحي ينزل عليه من السماء فردوا إليه الأمر
ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته، وتقلد سيفه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، وفي رواية - ما بدا لك - وفي أخرى - فإن شئت فاقعد
وإنه لا يثار جميل من تلك الكثرة، ولم يحملهم عليه إلا بدء النبي صلى الله عليه وسلم
قبلهم بإيثار رأيهم على رأيه حفظا للوحدة، وحذرا من الفرقة، وإذا كانت فضيلة الإيثار جميلة فيما يملك الإنسان من مال، فكم يكون جمالها فيما يعتز به من رأي، والرأي عند الإنسان اشرف من المال وكم ضحي بالمال في سبيل الرأي، ولكن فضيلة الإيثار كانت ظاهرة ذلك العهد النبيل، فلا غرو أن تبادل تلك الكثرة النبي صلى الله عليه وسلم إيثار بإيثار، وأن تترك رأيها إلى رأيه طائعة مختارة، بعد أن جاهدت في تأييده ما جاهدت، وناضلت في الدفاع عنه ما ناضلت
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن رأيه كان هو الأرجح قبل أن يؤثر رأيهم على رأيه، وقبل أن يلبس لامته ويتقلد سيفه، فأما بعد ذلك فقد أتفق رأيهم جميعاً على الخروج، فإذا عنه لم ير الأعداء إلا انهم جبنوا عن قتالهم، فيحملهم ذلك على الطمع فيهم، ويعطيهم قوة معنوية يكون لها أثرها في قتالهم
فقال لأولئك الذين تركوا رأيهم إلى رأيه في القعود بالمدينة: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. وفي رواية - لا ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب، وأذن في الناس بالخروج إلى العدو، أن يرجع حتى يقاتل. فياله من عهد كريم بلغ فيه حكم الشورى غاية الكمال، ولم تتفرق فيه الأمة إلى أحزاب متخاصمة على الحكم، بل ظهرت فيه كتلة واحدة، إذا اتفق أفرادها فرائدهم المصلحة العامة، لا مصلحة حزب من الأحزاب، وإذا اختلف أفرادها فرائدهم تلك المصلحة أيضا، لأنهم لا ينقسمون إلى أحزاب ينافس بعضهاً بعضاً، ويحملهم التعصب لها على نسيان مصلحة الأمة في نبذ التفرق، وإيثار الوفاق على الخلاف
وإذا فخر في عصرنا قوم بنظام الشورى عندهم، فهذا نظام الشورى عندنا قد بلغ غاية الكمال، وخلا من العيوب التي يرمي بها حكم الشورى في عصرنا، وتجعل بعض الناس يفضل عليه الحكم الاستبدادي، وأين تشريع البشر من تشريع الله تعالى؟ فلا تشريع أكمل من تشريعه، ولا حكم أعدل من حكمه، فتبارك الله اعدل الحاكمين، وأحسن الخالقين
عبد المتعال الصعيدي
التصوير الفني في القرآن
للأستاذ سيد قطب
التصوير هو الطريقة المفضلة في تعبير القرآن فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، وعن الحادث والمشهد المنظور، كلها سواء في طريقة التعبير المحسوس. وانه ليرتقي بالصورة التي رسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد والقصص، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يخيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول، الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى ومثل يضرب، ويتخيل انه منظر يعرض، وحادث يقع، وأمر يكون:
فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتتم عن الأحاسيس المضمرة. . .
إنها الحياة هنا. وليست حكاية الحياة
فإذا ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المروي، إنما هي ألفاظ جامدة لا ألوان تصور، ولا شخوص تعبر. . . أدركنا سر الإعجاز في تعبير القرآن.
والأمثلة على هذا الذي نقول هو القران كله، حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرناها: حيثما شاء أن يعبر عن معنى مجرد أو حالة نفسية أو صفة معنوية أو نموذج إنساني، أو قصة ماضية، أو مشهد من مشاهد القيامة، أو حالة من حالات النعيم والعذاب، أو حيثما أراد أن يضرب مثلا في جدل، بل حيثما أراد هذا الجدل اطلاقا، واعتمد فيه على الواقع المحسوس، أو المتخيل المنظور.
وهذا هو الذي عنيناه حينما قلنا: (إن التصوير هو الطريقة المفضلة في تعبير القرآن).
فليس هو حيلة أسلوب، ولا فلتة تقع حيثما اتفق. إنما هو مذهب مقرر، وخطة موحدة، وخاصية شاملة. يفتن في استخدامها على طرائق شتى، وفي أوضاع مختلفة. ولكنها ترجع في النهاية إلى هذه القاعدة الكبيرة. قاعدة التصوير.
ويجب أن نتوسع في معنى التصوير حتى ندرك آفاق التصوير في القرآن. فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة - عن طريق التخيل - كما انه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيرا ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، وإيقاع الجمل، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين والاذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان. وهو تصوير حتى من عالم الأحياء، لا لوان مجردة وخطوط جامدة تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات. فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد طبيعية تخلع عليها الحياة. . والآن نأخذ في ضرب الأمثال
1 -
يريد أن يعبر عن معنى: أن الذين كفروا لن ينالوا القبول عند الله ولن يدخلوا الجنة إطلاقاً)، وان دخولهم فيها مستحيل. وهذه هي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة، ولكن أسلوب التصوير يعرضها في الصورة الآتية:
(إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها، لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) ويدعك ترسم بخيالك مشهدا لتفتح أبواب السماء، ومشهدا أخر لولوج الحبل الغليظ في ثقب الإبرة الصغيرة. (ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم (الجمل) خاصة في هذا المقام!). ويدع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالمشهدين ما شاء له التأثير، ليستقر معنى (القبول) ومعنى (الاستحالة) في أعماق النفس، وقد ورد إليها من طريق العين والحس - تخييلا - وعبرا إليها من منافذ شتى، لا من منفذ الذهن وحده، في سرعة الذهن التجريدية.
2 -
ويريد أن يوضح حالة نفسية لتزعزع العقيدة، حيث لا يستقر الإنسان على يقين، ولا يحتمل كل ما يصادفه من الشدائد غفي سبيل عقيدته القوية، مبتعدا بها عن ملابسات الحياة اليومية، مرتفعا بها عن مقاييس الربح والخسارة. فإذا هو يرسم لها هذه الصورة المحسوسة.
(ومن الناس من يعبد الله على حرف، فأن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب
على وجهه. خسر الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين)
إن الخيال ليكاد يجسم هذا (الحرف) الذي يعبد الله عليه هذا (النموذج) من الناس. انه يتخيل الاضطراب المادي لهم وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب، وإن هذه الصورة لترسم حالة التزعزع النفسي، بأوضح مما يؤديه وصف التزعزع لأنها تنطبع في الحس، وتتصل منه بالنفس
وإني لأذكر الآن تلك الصورة التي ارتسمت في خيالي وأنا طفل صغير، أقرأ القران في المدرسة الأولية حينما وصلت إلى هذه الآية. لقد خيل لي رجل على مكان مرتفع ذي حرف؛ وهو قائم يصلي، ورجلاه لا تثبتان على حرف المكان، فهو يتأرجح في كل حركة، وهو معرض للسقوط في أي لحظة!
ترى يبعد تصوري الآن كثيرا عن هذه الصورة الساذجة؟ ما أظن. فالاختلاف الذي طرأ، وهو مجرد علمي اليوم، بأن هذا مثل يضرب لا حقيقة تشهد.
وذلك هو إعجاز التعبير، الذي تتقارب في إدراكه شتى المدارك، ويصل كل منها إلى صورة حية مع اختلاف الإفهام!
3 -
ويريد أن يرسم نموذجاً إنسانيا للمكابر المعاند في كل زمان ومكان. فإذا هو يرسمه في يسر وسرعة ودقة على هذا المنوال:
(ولو فتحنا عليهم باباً من السماء، فَظَلوا فيه يَعْرُجوُنَ. لقالوا: إنما سُكرَت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون)!
أو:
(ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس، فلمسوه بأيديهم. لقال الذين كفروا: إنْ هذا إلا سحر مبين)!
فيبرز من خلال هاتين الصورتين، نموذج إنساني معهود. لهؤلاء الذين يلجون في المكابرة على الرغم من كل برهان. ولكن القرآن لا يقول كهذا الذي نقول: يلجون في المكابرة على الرغم من كل برهان - انه ليرسم لهم صورة شاخصة أوضح من كل تعبير، لأنها تلمس الحس والضمير.
4 -
ثم هاهو ذا يصور حادثاً وقع: مشهداً من مشاهد الهزيمة. فيرسم المشهد كاملاً تبرز
فيه الحركات الظاهرة، والانفعالات المضمرة، وتلتقي فيه الصورة الحسية بالصورة النفسية كأنما يمثل الحادث من جديد، ويقع مرة أخرى كما وقع في المرة الأولى، دون أن يغفل منه قليل ولا كثير:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنود لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً. إذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقين، والذين في قلوبهم من مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم، فارجعوا. ويستأذن فريق منهم النبي يقولون: إن بيوتنا عورة
- وما هي بعورة - إن يريدون إلا فراراً).
فأية حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة، وأية سمة من سمات الموقف الكثيرة، لم يسجلها هذا الشريط الدقيق المتحرك المساوق لحركة الموقف الأصيل؟
5 -
وهذا مشهد واحد من مشاهد القصص الكثيرة، مشهد في قصة الطوفان.
(وهي تجري بهم في موج كالجبال) وفي هذه اللحظة تتنبه في نوح عاطفة الأبوة. فان هناك ابنا له يؤمن، وانه ليعلم انه مغرق مع المغرقين. ولكن هاهو الموج يطغي، فيتغلب (الإنسان) في نفس نوح على (النبي) ويروح في لهفة وضراعة ينادي ابنه:
(ونادى نوح ابنه - وكان في معزل - يا بني اركب معنا، ولا تكن من الكافرين).
ولكن البنوة العاقة لا تحفل هذه العاطفة، والفتوة المغرورة تعتمد على القوة الشخصية.
(قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد في تعبير خاطف، يصور الموجة العاتية تطغى على كل شيء:(وحال بينهم الموج. فكان من المغرقين).
إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار: (وهي تجري بهم في موج كالجبال؛ ونوح الوالد الملهوف، يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور، يأبى إجابة الدعاء، والموجة العاتية تحسم الموقف في لحظة، فكان من المغرقين).
وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية - بين الوالد والمولود كما يقاس بمداه في
الطبيعة، حيث يطغي الطوفان، على الذري والوديان وإنهما لمقياسان متكافئان!
6 -
والآن فإلى مشهد من مشاهد القيامة:
(يوم يدع الداع إلى شيء نكر. خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر. مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر).
فهذا مشهد من مشاهد الحشر مختصر سريع، ولكنه شاخص متحرك، مكتمل السمات والحركات: هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة كأنها جراد منتشر - ومشهد الجراد المعهود يساعد على تصور هذا المشهد العجيب - وهذه الجموع، تسرع في سيرها نحو الداعي، دون أن تعرف لم يدعوها، فهو يدعوها إلى (شيء نكر) لا تدريه (خشعا أبصارهم) وهذا يكمل الصورة ويعطيها السمة الأخيرة. وفي وسط هذا التجمع والإسراع والخشوع (يقول الكافرون: هذا يوم عسر).
فماذا بقى من المشهد لم يشخص بعد هذه العبارات القصار؟
7 -
فإذا طرق القرآن موضوع الجدل حول إحياء الموتى مثلا، صاغه في قالب التصوير المؤثر، ولمس به الحس والوجدان، فيما ترى العين وفيما يستشعر الضمير:
(الله الذي يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيبسطه في السماء كيف يشاء ويحمله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله؛ فإذا أصاب به من يشاء من عباده، إذا هم يستبشرون. وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لَمُبْلِسين. فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها. إن ذلك لمحي الموتى، وهو على كل شيء قدير).
هكذا مشهد بعد مشهد: إرسال الرياح. إثارة السحاب. بسطه في السماء. جعله متراكما. خروج المطر من خلاله. نزول المطر، استبشار من يصيبهم بعد يأسهم إحياء الأرض بعد موتها. . . لينتقل من هذه المشاهد المتتبعة ببعد استعراضها للعين والخيال، وبعد تركها تؤثر في النفس على مهل إلى:(إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير) في انسب اللحظات النفسية بهذا التقرير
هذه نماذج قليلة لطريقة القرآن العامة في التعبير عن جميع الأغراض، سواء كان الغرض تبشيراً أو تحذيرياً. قصة وقعت أو حادثا سيقع. منطقا للإقناع. أو دعوة للأيمان. وصفا للحياة الأخرى. تمثيلا لمحسوس أو ملموس. إبرازا لظاهر أو لمضمر. بيانا لخاطر في
الضمير أو لمشهد منظور.
هذه الطريقة الموحدة. هذه القاعدة الكبيرة. هي: (التصوير) في أرقى آفاق التصوير.
سيد قطب
شهيد كربلاء
للأستاذ محمود الخفيف
خَفَضْتُ اليراعَ لذكِرى الشْهيدِ
…
وأشْفَقَتُ مِنْ ذلك المطْلَبِ
وَحَيَّرَ شِعْريَ هذا الجَلَالُ
…
فَهَلْ من سَبيلٍ إلى مأْرَبي؟
لِذكْرَى الُحْسَيْنِ خَفَضْت اليراعُ
…
وأَكْبَرْتُ ذِكْراهُ مِنْ مَلْعَبي
لِذكرْىَ الأبىِ النّجيِد الفَتى
…
الكَرِيمِ الزَّكِي ابنِ بنْتِ النْبي
هَلال المحرمِ، لَوْنُ السَّماء
…
على جَانَبْيِك خياَلُ الدَّمِ
تَرَقْرَق في الأُفْقِ هذا النْجيُع
…
وأَلْقَى الخِضَابَ على الأَنْجُمِ
وَجر عليه السَّوَادَ الدُّجى
…
فَبَات به الأُفْق في مأْنَم
طيوفٌ تَرَددُ في خَاطرِي
…
لكل معَاني الأسَى تَنتَمِي
خَيَالٌ يَؤَرقُني في الدُّجى
…
وأصْحو الغَداةَ على ذِكرهِ
تَفِيضُ له أدْمُعي الغالياتُ
…
ويَذْهَل قَلْبِي عن صَبْرهِ
وإني لَجلدٌ أقُل الخُطوبَ
…
بِعَزْمٍ تَخَاذلُ عن قَهْرهِ
وأَحْبسُ دَمْعي فكَمْ داهَمَتْني
…
صُروفُ الزَّمانِ فلمْ أُجِرهِ
فَتَى هاشمٍ يَا غليلي له
…
جَرَى دَمُه أنْهراً وانتثر
وقُطعَ كالشاةِ سِبْطُ الرَّسُول
…
وبَشَّرَ قاتِلُه وافْتَخَرْ
وهَاَمُته مثل رأسِ الجُزورِ
…
على كف جَازرهِ تُنْتَهَرْ
عَلى فَمِه قُبلَاتُ النبِي
…
وفي مْحَجَريْه الرضا بالقَدرْ
عَلى الدَّهرِ رُزءٌ لعمري جديدٌ
…
وإنْ قَدُمَ الَعْهُد بالواقعةْ
غليِلي له وقْدَةُ في حَشَاي
…
وَعْيَنايَ كالمُزْنِة الهَامِعَه
قَليلٌ له مَا تُريقُ الجفونُ
…
وَمَا تَحْمِلُ الأنْفُس الجازِعَةْ
دَعَوْتُ القَريضَ فَحَارَ القَرِيضُ
…
وَحارَتْ يراعَتَي الخاِشعَةْ
تئسَّ وهَات حَديثَ الشْهيدِ
…
حَبيسَ الدُّموع كَظيمَ الألَمْ
فَما في البطولَاتِ يحلو البكاءُ
…
وَلكنْ معَاَني الفِدا والشَّمَمْ
سَتُطْوى العُصُور وذِكْرَى الُحَسْينِ
…
على الدَّهْرِ تَخْفِقُ خَفْقَ الَعلمْ
إمامُ الُهدَى زِيَنُة المّتقِين
…
مَنارُ الْحِجازِ الَعلُّي الشيَمْ
مَناَطُ الِخلَافَة مِنْ هَاشمٍ
…
دَعَا باْسِمِه نَفرُ بالعِراقِ
أبَوْا أنْ يطيعوا يَزيدَ وقالوا
…
أُميَّةُ في النّاسِ أصْلُ الشقاقِ
ألم يَدْعُ في الشَّامِ جَهْراً أبوه
…
إلى فْتَنٍة بَعْدَ سُوء احْتلَاق؟
ولما نالَ ما نالهُ مِن عَلي
…
يَغْيرِ الأذى والخنى والغفاقِ!
ولما قَضَى نَحْبُه غِيلةً
…
عليٌّ وطَاحَ الردَى باَلحْسَنْ
وسَاسَ مُعاَويةُ المسلِمِينَ
…
تَكشَّفَ من أمِرِهِ ما بَطن
فأَنْكر في الُحْكَم شُورَى الأمُورِ
…
ودَلَّ بِسلْطانِه وافْتتَنْ
وَمَهَّد مِنْ بَعْدِهِ لاْبِنِه
…
فَنَالَ الُعهودَ بكل ثَمنْ
وبَات عَلى الضغنِ أهْلُ الحجازِ
…
يُسُّرونَ سُخْطاً عَلى الظَّالم
فَلْلَمَوْتُ أَيْسَرُ مِنْ طاعَةٍ
…
لَسْيفِ مُعاويةَ الغَاشم
أُبَاهٌ فَما عَرَفوا زُلفَةً
…
ولا رَهَبوا سَطْوَةَ الحاكمِ
يَرَوْنَ الخلَافَةَ شورَى فَفي
…
أمَية بالرَّأي أو هَاشمٍ
دَعَاهُ إلى الكوفَةِ الثائِرون
…
يقولونَ أنَّا عصينا يَزيدا
نَرَى في تَرديِه بُرْدَ النبِي
…
عَلى المسْلمِينَ بَلاءً جَدِيدا
مِنَ العُصْبَة الباطِشينَ الغِلاظِ
…
إلى الجْورِ يْحمِلُ قلباً حَدِيداً
إمامٌ لنا؟ ساَء هذا إماماً
…
يرى النّاسَ إلا ذويهِ عبيدا
إمامٌ لنا في مَكانِ الُحْسَيْنِ
…
يقومُ عَلَى الأمْرَ دُنيا ودِينا؟
فأيْنَ من النَّجمِ بَعْضُ الحصى
…
وما كانَ إلا التُّرابَ المهينا
وهَلْ كابْنَ فاطمةً في الرجالِ
…
إذا قُلبَ الطَّرْفُ في المسلمينا؟
أشدُّ الرجالِ يَداً في الجهادِ
…
وأَضْوأُهم في المصَلى جَبِينا
إلينا. . . إلينا؟، فَتَى هَاشمٍ
…
إلينا فَلَيْسَ سِواكَ الهُدَى
سَنَهْزَأُ إنْ جِئتنا بالخطوبِ
…
ونَضْربُ حتَّى يخافَ الرَّدى
وَيْفديكَ آلافنا الدَّارِعون
…
وهَلْ ثم غَيْرُكَ منْ يُفْتدي؟
ويَفْزَعُ خَصْمُك يابن الإمامِ
…
ويطَّرحُ الخْوفَ مَنْ أبدا
وَلبَّى الُحْسَيْنُ ومَا مِثْلُه
…
إذا همَّ بالعَوْنِ من يَسْتَريبُ
لهُ هَّمِةُ إن تَداعَي الرجالُ
…
وسَبْقٌ إلى المَكْرُماتِ عجيبُ
إذا اسْتَصْرخ الَحْقُّ يَوْماً بهِ
…
فكلُّ عَناَء إليهِ حَبيبُ
وما كانَ عَنْ نَزَقٍ إذ أجابَ
…
ولكنهُ الشَّمَمُ المْسَتجيبُ
وكائِنْ بمكةً مِنْ ناصِح
…
يُعذبهُ أنَّهُ راحلُ
يظُّنون شراً بأهْلِ العِراقِ
…
فكلٌّ هُناكَ لهُ خاذِلُ
وكم ذا احتواهُ فأوْحى لهُ
…
ليَصْرفَهُ مَجْلٌس حافِلْ
يُردَّدُ نُصْحَهُمُ الناصحونَ
…
ولِلْقَدرِ الكلمْ الفَاصِلُ
تَخَيرَ من أهله (مُسْلِماً)
…
إليهِمْ يَجُوبُ ويَسْتَطْلُع
قُلوبُ العِراقِ حُسَينيةٌ
…
فَلَيْتَ سيوَفُهُم تَتْبَعُ
يزَيدَّيةٌ تتوقى يَزيدَ
…
فَهُنَّ لِسُلْطَانِه أطْوَعُ
إذا حَملَ الإمَّعاتُ السُّيوفَ
…
فمِنْ حَطَبٍ هُن أو أضْيَعُ
قَضى نحَبُه ابنُ عَقِيلٍ فَما
…
تَسَامَع أهلُ الحجاز به
تَبرّأَ مِنْهُ الذينَ دَعَوْا
…
ومَنْ عَاَهْدُوا الله من حِزْبهِ
وأَسْلَمهُ الناسُ لابن زيادٍ
…
رَسُول يَزيدَ إلى حَرْبِه
فَسَارَ الرجالُ بهِ مُوثقاً
…
ومِنْ قمِة القَصْر أَلقوا بهِ
مَضى الرَّكبُ يطلبُ أرض العراقٍ
…
فيا حادي الرَّكبِ أبطِئ بهِ
تمهَّل برَكْبكَ إن الزَّمانَ
…
عَجُولٌ بمَا ساقَ مِنْ خَطْبِه
رُويدكَ يا حاديَ الرَّكبِ قفْ
…
ومِلْ بالسَّوابِقِ منْ نُجْبِه
أدِرْ وجْهُه أيُّهذا الدَّليلُ
…
وَعْد بالحُسيَن. . . إلا عُدْ بِه
سُكَيْنةُ في الرَّكبِ تُخفي الدُّموعَ
…
وُتخفي هَواجِسَها زَينبُ
تَقُول لَئنْ أسْلمتنا الرجالُ
…
فأينَ منَ الفاتكِ المْهَرب؟
يَزيد من الصَّخر قَلْبٌ له
…
وأكْبَادُ أَصحابِه أَصلبُ
فوا حَرَبا إن هذا المسِيَر
…
إلى غَيْهَب خَلْفَهُ غَيْهَبُ
أتبرزُ في قلةٍ الرجالِ
…
ونبغي بهِ ثم أمراً جليلا؟
فمنْ لِلْبنينَ غداً وللبناتِ
…
إذا خَرّ فينا الحُسَيُن قتيلا
وَمَنْ للإْمامِة من هاشمٍ
…
إذا قتلوهمْ هُناكَ قبيلا
عذابٌ لنفسي هذا الرحيلُ
…
ألا ساَء هذا لعَمْرِي رحيلا
مَضى الرَّكْبُ عَجْلان صْوب الُفراتِ
…
فهلاَّ انثنَى الرَّكبُ عن وِردِهِ؟
مَضى بالحُسين وآلِ الحُسْيَنِ
…
وَشُمٍ ثمانينَ مِنْ جُنْدِه
ثمانينَ باعوا لديهِ الحياةَ
…
سَمَاحاً وساروا على عَهْدِهِ
إلى حَيْثُ لا يَسْتَقرُّ امْرؤ
…
ولا يَقْرُب السَّيفُ مِنْ غمِدهِ
عَلَى فَرْسَخينَ تَراءى الفُراتُ
…
وأوْمأ للكوفة السَّالكونا
تَلفّتَ للنَّهر مُسْتَوحشاً
…
حُسَينُ ورَاحَ يظن الظنونا
فأيْن الدعاة وأيْنَ الحماةُ
…
وأين الكُمَاةُ بها الدّارِعرنا
رأى القْلبُ ما لا تراُه العُيونُ
…
وَبَاحَ الفضاءُ بما يُضْمِرونَا
تَصَدَّى له (الُحْرُّ) في عَسْكرٍ
…
فَسدَّ عليه مجازَ الطريقِ
فمالَ عَنِ الكوفِة ابنُ الإمامِ
…
وفي النفس ضيقٌ بها أي ضيقِ
تَغشَّتْ مُحيَّاهُ سُحْبُ انْقبِاض
…
وفي القلب وَسواسُ حُزْن عميقِ
نُكولٌ ولؤْمُ وَمكْرٌ وَغدْرٌ
…
وخُلفٌ عَلَى أثر وعدٍ وثيقِ
يُسايُرهُ (الُحْرُّ) في جيشهِ
…
ورَكبُ الحُسينِ يجُوب الفَلا
غَفا غَفْوَةً فرأى أنهُ
…
يسيُر إلى حتفِه مُعْجَلا
تَسايَر في سيرِه جاهداً
…
فَحَطَّ بهِ الَجْهُد في كربلاء
هُنالكَ حيثُ أحاط به
…
غلاظٌ يُسُّرون أنْ يُقْتَلا
وكاثُره وهْوَ في قلةٍ
…
عَلَى الشَّط من حَوْلِه عَسْكَرُ
وسَدوا إلى النَّهْر عنه الطريقَ
…
فَتْدْمَع عيناهُ إذ ينظُر
ففي مَخْدعٍ بين تلك الخُدور
…
صغارٌ عن الماءِ لا تَصْبُر
وفي خَيْمَةٍ حَجَبَتْها السُّتورُ
…
جُفونُ مُقَرَّحة تُمْطِرُ
ألا كم تطاولَ هذا العذابُ
…
وكم لَمحَتْ نُذر الغاشَية
وكم أرْمض الْحرُّ من مهجةٍ
…
وقرَّحَ مِنْ كبدٍ صَاديْه
سعيرٌ يُحَرقُ أحْشاءهْم
…
إذا أبصروا حَوْلهْم آنية
وما شرِبوا غيرَ ماءِ سَخينٍ
…
تظلُّ الجفونُ به هَامَيه
بنفسي صبيُّ ذَوَي عودُهُ
…
كرَيْحَانةٍ غَضَّةٍ تَذْبُل
تظلُّ تُعللٌه أمُه
…
وفي قلبهَا واعلٌ يأكلُ
فلوْ طلبوا ناظِرَيهْا معاً
…
ليَشْربَ خَفتْ بما تَبْذلُ
بمُهَجِتَها تشتري جُرْعةً
…
وماءُ الفُراتِ لهم سَلْسَلُ!
تَقدَّم مُحْبَياً بالحسامِ
…
حُسَيْنُ وقال إلى: اسمعوا!
دَعَانَي لنُصْرتهِمْ قَوْمُكم
…
وأني إلى الحق مَنْ يُسْرِع
فأما ألاقي بنُصحي يزيدَ
…
هُنالكَ بالشَّامِ أو أرْجِعُ
فإن تَكْرَهوا تَيْنِك الخَصْلتَيْن
…
إلى التُّرك أَفْتَحُ أو أصْرَعُ
أَبوْها عليه فما عنْدَهمْ
…
سَوى أن يُبَايع مُسْتَسلما
أصَرُّوا عَلَى لؤمِهْم مُوعِدِين
…
وقد عرَفوا شْيَخُهم ألاما
وكم صارخٍ فيهمُ العَداء
…
جبانٍ تَعَودَ أنْ يُحْجمَا
سُيوفُهو حَوْلَه تُنْتَصي
…
كفاهُ الأسى والضنَّى والظمأ!
ولكنُه عائفٌ ذلةً
…
وريحُ الرَّدى حولهُ تَعْصفُ
صَبُوٌر عن الماء في مَوْقفٍ
…
تُرَى الأرض من هَوْله ترجفُ
ولَو كان في نصفِ تلكَ الجموعِ
…
لما كان عَنْ بطشِه مَصْرِفُ
ولولا عقائلُ بين الخدورِ
…
تَصَدى لهم وحْدَهُ يَزحَفُ
تَدبَر حينَ احتواهُ الظلامُ
…
فَزَيَّن للتَّابعينَ النَّجاء
خذوا البيَد منَجْاتكَم واجعلوا
…
سواد الدجى في سُراكُمْ غِطاء
فما طلبوا اليومَ إلا دَمي
…
فإن تسلموا الَسْتُ أخشى الفداَء
وليس عليكم لعَمَرْيَ عارٌ
…
ولكن عَلَى طالبكُمْ ظماَء
تتابَعَ أصحابُه يُقْسِمون
…
لَيَلقْونَ بين يديهِ الرَّدى
إذا بذل النفسَ منَّا غداُ
…
شهيدٌ ففي الحق ما اسْتُشهدا
وقال بنو عَمِه: مَنْ يخوضُ
…
سوانا فِدَاكَ الحُتوف غدا؟
قليلٌ إذا ما لفظنا النفوسَ
…
سَماحَاً لَعَمرْ أبيك الفدا
ورَددَ في الدهر أرْجُوزَةُ
…
وكيف يَسومُ الكرِامَ الهوانَا
بكتْ أخْتُه وأتَتْ بابه
…
تُشقُّ الثياب عليه حَنَانَا
فَهَدْهَدهَا ونهَاهَا الُحَسينُ
…
وقال: رَضيتُ بهذا امتحاناً
فيا أخْتُ لا تأثمي أنْ قُتلْتُ
…
وإلا امَتَهْنتِ مَقامي امْتهانَا
وباتت خيولُ العدا حَوْلهم
…
تدُورُ فَتَقْرُبُ أو تبعدُ
لدَى كل رُكْنٍ حَديدٌ يرنُّ
…
وفي كل زاوية مرصدُ
وَجْمُع يروحُ وجَمْعُ يجيءُ
…
ويسخر ذاكَ وذا يوعِدُ
ومن خلف أستارِهِ في الخباءِ
…
حُسَيْنُ لخالقه يَسجدُ
(البقية في العدد القادم)
الخفيف
ثورة الإسلام
للأستاذ حسن جواد الجشي
كان الإسلام ثورة هائلة من ثورات الطبيعة الكبرى على جمود العقل البشري وتحجره، فأطلقه بعد أن كان موثقا في قيود الأوهام والخرافات، وأشعره بقيمته بعد أن كان فانيا في تفاهات الحياة وصغارها، وقلب أوضاع تلك الحياة رأساً على عقب وأبدلها بأوضاع أجدر بشرف الإنسان وكرامته. وتلك هي ظيفة الثورة الإصلاحية في كل زمان.
وإذا كانت الثورة كما يعرفها أحد كتاب الغرب (هي سقوط وتهدم يحدثان في قترة صغيرة لجميع ما كان يعد إلى ذلك الوقت أصلا للحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية في الأمة) فما أحرانا ونحن بصدد التحدث عن مبادئ الثورة الإسلامية أو عن ثورة الإسلام أن نلقي نظرة خاطفة على بعض النظم التي جاء الإسلام لمحاربتها والقضاء عليها لا بين العرب فحسب، وإنما في غيرهم من سائر الأمم أيضا، وإنما شمل أمما غيرهم ولو في الشكل دون الجوهر.
يقول الكاتب إنجليزي هـ ج. ولز في كتابه (موجز تاريخ العالم) عند تحدثه عن تلك الحقبة من تاريخ البشر ما ترجمته: (لو أن متنبئاً من هواة التاريخ استعرض العالم في ستهل القرن السابع لكان من المحتمل أن ينتهي إلى الحكم بأنه لن تمضي إلا بعد قرون حتى تصبح قارتا أوربا وآسيا خاضعتين للحكم المغولي القائم في الصين، إذ لم يكن هنالك ما يدل على وجود أي نظام أو اتحاد في أوربا الغربية؛ أما الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية فقد كانت كل منهما منطوية على هدم الأخرى وتحطيمها؛ وإذا التفت إلى الهند فإنه يجدها منقسمة على نفسها خاوية. . .) ثم يقول: (والخطأ الذي كان من المحتمل جدا أن يرتكبه متنبؤنا هذا في استعراضه هو تجاهله للقوي الأصيلة الكائنة في الصحراء العربية).
وفي هذا القول دلالة واضحة على أن العالم كان حين ذاك بتخطيط في غياهب الفوضى ودياجير الانحلال، وانه إذا كان ثمة بصيص أمل لإنقاذه فآفاق الصحراء العربية هي التي كان يتخايل على حواشيها هذا البصيص، لا لان سكانها كانوا في يقظة عقلية تؤهلهم للقيام بدور المنقذ، كلا بل لان أرواحهم كانت نقية لم تدنسها شوائب المدينة أو يدب إليها وهن
النعيم. فما هو إلا أن تستثيرها وتوجهها الجهة الصالحة حتى تأتي بالعجائب في ميادين الثقافة والتقدم.
وعلى خلاف ذلك كانت بيزنطة وفارس، فقد كانتا في حروب متواصلة تنتصر هذه مرة وتفوز تلك أخرى؛ وبرغم ذلك لم تكن الحالة السياسية الداخلية في كلتا الإمبراطوريتين لتعرف الهدوء والاستقرار. أما الأخلاق فقد بلغت منتهى التدهور والانحطاط حتى عادت النفوس ولا مهما زلها يدفعها ويثير فعاليتها غير الشهوة الجنسية، وإلا فما معنى ذيوع مذهب مزدك في ذلك العصر - وهو مذهب إباحي هدام - لو لم تكن النفوس مستعدة لقبوله؟!
والى جانب ذلك كان يقوم في اكثر أنحاء العالم تقريبا نظام من الاسترقاق الفظيع الذي لا يعرف غير العنف والقوة في معاملة الأرقاء والمستعبدين، فكان مباحا للسادة أن يتصرفوا في حيوات أرقائهم كما يتصرفون في سائر أمتعتهم، فإن شاءوا ابقوا وان شاءوا أبادوا ودن أن يسألوا أمام قانون أو عرف. وإذا عاقبوهم فبالك على الجباة والجلد بالسياط إلى آخر ما هنالك من ضروب القسوة.
وقد يخطر لأحد القراء أن يسأل: وأين إذن تعاليم المسيحية لتعتكف من غرب هذه الشهوات ونجد من جموحها النفوس إلى نقاوة الفطرة وطهارة الإيمان. . والجواب على ذلك أتركه للمؤرخ الإنجليزي (جيبون) إذ هو خير من توفر على دراسة هذا العصر: قال جيبون (إن النصرانية في القرن السابع للميلاد قد استحالت وثنية، فقد أصبحت الوجوه تولى شطر الأصنام والأنصاب التي حلت محل الهياكل والمعابد واخذ مكان عرش الله وعظمته القديسون والشهداء، وحارت الإفهام في معنى التثليث والاتحاد والحلول وعموا عن التوحيد).
أما في مكة والطائف فلم يكن الوضع أحسن منه في بيزنطة وفارس؛ فقد فشا فيهما الانحلال الخلقي وسلفت مكانة المرأة حتى وأد الآباء بناتهم، وجاس المرابون خلال الشعب يمتصون دمه مستغلين فقره وحاجته، حتى أكره بعض المحتاجين بناتهم على البغاء ليستطيعوا وفاء ما ركبهم من ديون؛ فلما جاء القرآن نهاهم عن ذلك (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).
شرور تتلوها شرور! وظلمات فوقها ظلمات! فلابد من النور! لابد من النور! وإلا تاه القطيع وتردى في هاوية الفناء!
وشع النور! وتلالا واستفاض! وإذا بصوت محمد يتعالى في شعاب مكة وبطاحها منادياً: (قولوا لا اله إلا الله تفلحوا وتنجحوا).
وكان تلك الدعوة شرارة الثورة الكبرى، الثورة قلبت الأوضاع الجائرة، ومحت النظم البائرة، ونقلت العالم من حال إلى حال، والإنسانية من ضعة إلى جلال.
لقد استهل الإسلام ثورته بالدعوة لتوحيد الله وقرن النجاح بهذا التوحيد، فما معنى ذلك؟ معنى أن الإسلام يعتبر وهي الروح أصلاً لوعي العقل؛ معناه أن الأمم مهما وفر حظها من ثقافة العقل، فان هذه الثقافة لابد لها من عقيدة روحية تسندها وتنير لها المسالك وتأخذ بيدها نحو صالحها وصالح الحياة الإنسانية، وإلا هدمت ما شيدت واقتلعت ما زرعت وتلبست طبائع الهر فأكلت ما أنجبت؛ ولهذا وجه محمد أول ما وجه جهود نحو غرس هذه العقيدة الروحية، فعمل على تطهير الأرواح مما علق منها من أدران الشرك واستبطنها من عقابيل الوثنية، ونادى أول ما نادى أن اله إلا الله، فلا الشهوات بعد اليوم ولا القوة ولا المال ولا الأصنام هي التي تعنو لها الحياة، وإنما تعنو لله الأحد الصمد خالق الخلق ومدبر كل ما في الكون. وبهذا مهد السبيل الإنسانية لتفلت من قيودها الثقيلة المرهقة وتتصل حرة ببارئها تستلم منه العون والهداية على مواصلة الكفاح وسلوك أقوم السبل دون لجوء لوساطة كاهن أو شفاعة ولي (وإذا سألك عبادي عني فأني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعانِ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
هذا التسامي بالنفس الإنسانية والتعالي بها عن ضلالات العقول وزيغ البصائر هو الذي يفتقده الباحث في كثير من تاريخ الثورات البشرية، فالفرنسيون مثلا بعد أن ثاروا ثورتهم الكبرى وحطموا معاقل الظلم وزلزلوا معالم الاستبداد وأعلنوا حقوق الإنسان الطبيعية التي تستند إلى مركزه في الحياة، ساق الثائرون أنفسهم اكثر من ألفين من خيرة رجال الثورة إلى المشانق ثم عمدوا إلى اجمل فتاة في باريس ووضعوها في إحدى الكنائس واخذوا يقدمون لها فروض العبادة، ومراسيم الخشوع باسم (ربة العقل)، ناسين ما أعلنوه قبل ذلك من حرية البشر وتساويهم؛ وما كانوا في مثل هذا الهوس والتطرف، لو أن ثورتهم استندت
إلى وعي روحي شامل كثورة الإسلام.
والحقيقة أن هذا الوعي الروحي الذي يقدر الشخصية الإنسانية ويحدد صلة هذه الشخصية بالروح السارية في هذا الكون ثم صلتها بسائر الأحياء والكائنات، نعم هذا الوعي هو الذي صقل النفوس المسلمة وهيأها لسائر الانقلابات الاجتماعية والعقلية لأنه وجهها وجهة واحدة وقضى على شعور الخضوع الرائن عليها فتنتج عن ذلك إحساس قوي بكفايتها وقدرتها على الفهم والتدبر.
ومن هنا ذلك الانقلاب العظيم الذي أحدثه الإسلام في تقدير العقل واحترام أحكامه باعتباره هادئ البشر - بعد الروح - في جهادهم نحو الكمال. فلقد كان الناس قبل ذلك أسرى موروثاتهم وتقاليدهم لا يصدقون إلا ما كان عليه آباؤهم، وما كان عليه آباؤهم هو الجهل والجمود، فدعاهم الإسلام إلى التفكير والتأمل وشبه الذين لا يعقلون منهم بالأنعام بل أحط منزلة (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم كالأنعام بل أضل سبيلاً)، ولذلك كان سلاح الإسلام الوحيد لغزو النفوس هو الحجة العقلية والبرهان الاقناعي. . . ويوم سال الكفار الرسول أن يأتيهم بما عددوا من المعجزات أجابهم دهشاً:(سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً!).
أليس في ذلك إيذان بأن البشرية قد بلغت طوراً لا يليق بها فيه أن تقنع بغير ما يميله العقل، وان الإسلام يتمشى مع هذا العقل؟ ثم ما قولنا في دين يجعل تفكر ساعة خيراً من عبادة ستين سنة؟ إنه - وربي - لدين يجدر بالبشرية أن تحوطه برعايتها وتجد في تفهم أغراضه ومراميه، لأنه كان فاصلا بين عصرين مختلفين من عصورها: عصر السحر والخرافات وعصر العقل والعلم، وبذلك نقلها نقلة وسعت آفاق وعيها وألهبتها شوقاً للمعرفة والاطلاع، كان ذلك إرهاصا لكل التطورات الثقافية والعلمية التي نعم بها العالم بعد ذلك.
وعلى أساس هذا الوعي الروحي والعقلي نقل الإسلام مبدأ التوحيد من منطقة العقيدة إلى مجال الاجتماع فثار على جميع الفواصل المصطنعة بين الأفراد والأمم، وحارب كل فكرة من شانها أن تجر إلى التنابذ التنافر، وقرر أن البشر وحدة لا تتجزأ كلهم من آدم وآدم من تراب، وان أكرمهم عند الله اتقاهم، واتقاهم إبرهم عملاً وأخلصهم سعياً، لا أكثرهم تهجدا وأطولهم عبادة، وإذا كان الناس قد خلقواً شعوباً وقبائل مختلفة فلكي يتعارفوا ويتعاونوا
لتستفيد كل أمة من مواهب الأمم الأخرى وخصائصها لا أن يتخذوا هذا الاختلاف ذريعة للتناحر والتباغض (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم). والأمم والأفراد يختلفون طبعا في استعدادهم للتقوى وللتعاون مع الغير باختلاف بيئتهم وظروف حياتهم.
وتطبيقاً لهذا المبدأ من المساواة والتوحيد الاجتماعي اخذ الإسلام بيد المرأة ورفعها من مراغة المهانة والاستعباد إلى ذروة الشرف والكرامة مقررا حقها الطبيعي في الحياة: (ولهن مثل الذي عليهن). وإذا التفتنا بعد هذا إلى الثورة التي أحدثها الإسلام في حياة البشر الاقتصادية وجدنا عجباً من العجب، وجدنا نظاما اقتصاديا لو اخذ به البشر وتمسكوا بأهدابه لكفوا كثيرا من ويلاتهم الاجتماعية والخلقية لأنه يكفيهم الفقر، والفقر منبع اكثر الشرور والمصائب.
لقد كان النظام الطبقي بالغاً اشده قبل الإسلام فكان الأغنياء والأشراف يستغلون شرور الشعب ويبتزون ثمرات اتعابه
- كما يفعلون اليوم - ويثقلون كاهله بمختلف الأتاوات والضرائب دون أن يستطيع دفع ذلك أو مناهضته. والى جانب هؤلاء كان المرابون الجشعون يعتصرون ما تبقى من هذه الجهود غير راحمين ولا مشفقين. فلما جاء الإسلام قلب هذه الأوضاع وأعاد الحق إلى نصابه فحرم الربا وجعل في أموال هؤلاء الأغنياء حقا معلوما للمحرومين ملزمين شرعاً وقسراً بأدائه لهم، بعد أن كان هؤلاء المحرومون ملزمين بتقديم ثمرات أتعابهم للأغنياء دون مقابل. . وبهذا التشريع أقام الإسلام العامة الثالثة التي هي التوازن الاقتصادي؛ وهو كالتوحيد الاجتماعي عامل ضروري في هناء البشر وتقدمهم كما انه نتيجة حتمية لمبدأ التوحيد.
هذه أقباس من تلك الشعلة العظيمة التي تفتح عنها قلب الغيب فتقلتها القلوب العربية المسلمة، وسهرت على تغذيتها وتلهب ضرامها، حتى إذا تم لها ذلك الداحت بها في أطراف الدنيا تزرع جذواتها في كل نفس تتصل بها فتذيب أرجاسها، وتنفث فيها الإيمان والقوة. . فيا ليت شعري ما الذي حل بالمسلمين اليوم - وهم أحفاد أولئك المغاوير - حتى خمدت هذه الشعلة في نفوسهم وعادوا غرضا لكل طامع وهدفا لكل مريد!؟
إن في الأمر لسرا، على أن السراجلي من أن نجد في الكشف عنه. . السر أن المسلمين (وقد طال عليهم العهد وتنكروا لبيئتهم الصحراوية الأولى). نسوا مبادئ دينهم وتمسكوا بالأعراض والقشور، وانقسموا بينهم شيعاً وأحزاباً يتنابذون ويتهاترون.
فيا قلب الغيب شعلة كتلك الشعلة! عساها تحرك هذه النفوس الهوامد عساها!
(القاهرة)
حسن جواد الجشي
عضو الهيئة البحرانية
مؤامرة تخيب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
الأشخاص: أبو جهل. أبو سفيان. الشيطان. أمية بن خلف. جماعة من قريش
المكان: وتربص قرب دار النبي عليه السلام
الزمان: ليلة مظلمة من ليالي محرم. . .
أبو جهل:
هذا الفتى ضلَّ عن دُنيا أبوته
…
وراح ينُشر في آبائه دِينا
إني لأخشى عليكم من تخُّبطه
…
مسَّا ويحسبُه هدياً وتبيينا
قالوا أمين، فقلنا ما أمانته؟
…
ما كان حتى على الأصنام مأمونا
لا كان من هاشم فينا حكومُته
…
إن صار هذا الفتى مستحكما فينا
أبو سفيان:
أيا بني هاشم لم تكف إمْرتكم
…
ولا سدانتكم للبيت والغلبُ
حتى يجيء نبُّي بين أظُهركم
…
دَعْوى ولكنها يا هاشمٌ كذب
رجل من بني أمية:
إن السدانة فيكم
…
عَادتْ فَصارت نُبوهْ
بئس النُبوة ممن
…
لم يَرْعَ حق الأبوة
أبو جهل:
لا كنتُ يوماً من بني مَخْزوم
…
السائدينَ الناسَ بالُحلوم
والبالغين المجد في الصميمٍ
…
إن لم يكن محمدٌ غريمي
الشيطان يهمس:
هذا مجالُ الدس والتفريق
…
بين الصديق الُحر والصديقٍ
لا كنت من نارٍ ومن حريقِ
…
إن لم أسِرْ فيهم على طريقي
ثم يجهر فيهم:
هذا الفتى يهَذي بكل وساوسٍ
…
ويُذيعها ما بينكم قُرآنا
أن كان ربُّكم يخصُّ بفضله
…
لمَ لمْ يخصَّ بفضله عدنانا؟
أبو سفيان:
دَعُوا عدنان والماضينَ فالميتُ لا يحيا
أمَا في البَّفر الأحيا
…
ء من يَستقبلُ الوحْيا؟
أبو جهل مخاطباً أبا سفيان:
لعلك أولىْ به من فتىً
…
أقامَ على الفَقر يَرْعَى الغنمْ!
الشيطان مقهقها:
ومن عجبٍ أنه مُدع
…
بإعْدَادِه كيف يَرْعَى الأمم
أبو سفيان:
نحن لسنا في حاجة لرعايةْ
…
ما لهذا الفَتَى يزيدُ غَواية
قد دعوناهُ للهداية لكن
…
ليس في مثله تصحُّ الهدايةْ
إذا سئمتم من فتًى
…
فأسْلموه للرَّدى!!
كيف يَبيتُ قائماً
…
في حيكُم وما اهتدى؟
الشيطان:
إني أرى صحابةً
…
من حوله وَعَددا
فإن تركتم أمره ال
…
يومَ فقد يَعْلو غدا
ناشدتكم أصنامَكْم
…
أن تُعْملوا فيه المدى
وأن تُريحوا العصر م
…
نه والمدَى والأبدا. . .
أبو جهل:
ما كنتَ شيطان إلا
…
رَجْعَ نفسي والصدى
لم تَعْدُ ما في الرغ
…
بة وُقيتَ الهدى. . .!!
قصدتُ بالأمس الفتى
…
وكان يغشي المسجدا
أردت فَضْخَ رأسِه
…
بحجر. . . فما بدا. . .
أمية:
لعله قد سحر ال
…
عينين منكَ واليَدا!
عجيبةٌ تُخْطئ كف
…
اك الفتى محمدا
وليس أقوى منك كف
…
اً أو أشد عضدا
أبو جهل:
أنا في الضرب لا أخيب ولكن
…
خانني ساعدي غَداة قصدتُه
عجباً فأنني بفَحل من النو
…
ق ولو كان لَهْذَماً ما فُته
حجر في يدي تيبَّس لما
…
كدتُ أهوى عليه حتى قذْفُتْه
إن يكن أمس قد تولى فهذِى
…
لحظات الرَّدى وذلك وقْتُهْ
أبو سفيان:
فلنتربصْ للفتى
…
وهو على وساَدِه
حيث الظلام في رُبي الح
…
يَّ وفي وهاده
فلا يرانا أحد
…
يا قوم من آحاده
فنستريحَ من تحد
…
يه ومن جهاده
أمية:
الليل أرخى على الدنيا ذوائَبه
…
وفيه للبطش أوطارٌ وآراب
لعل جبريلَ يحميه إذا هبطت
…
عليه منا بجنح الليل أسرابُ!
هَبناً رأيناهُ في المحرابُ مستوياً
…
فهل يكفُّ أذانا عنه محرابُ؟
أبو سفيان ينظر من ثقب إلى مخدع النبي:
أراه في البُردة الخضراء مضطجعاً
…
وسوف نَصُبْغها بالدم حمراء
إذا الصباح تجلى عن تآمُرِنا
…
فسوف يحمل أخباراً وأنباء!
أبو جهل:
أقضَّ هذا الفتى بالأمس مضَجْعَنا
…
فليس نذْهَبُ فيه اليوم آراء
ألم يسخفْ لنا دُنيا مورثةً
…
وأمةً ودياناتٍ وآباء. . .
إني لأعْجبُ من أحوال صاحبكم
…
أجاء يهدمُنا أم جاء بَّناء!؟
قريشي لزميله:
انظر إلى رأسي تجدْ تُراباً!!
رميلة:
أواهماً أراكَ أم مُرتاباً؟!
زميل آخر:
أرَى أمامَ نَاظري ضَبَابا
…
يعقدُ دَون رُؤيتي حجابا!
زميل رابع:
ليس ضباباً ما أرى. . . وإنما
…
كأنما أصيب لَحْظي بالعمى
فلا أرى المضيء إلا مُظلما. . .
أبو سفيان:
أواهمون كلكم؟
…
لعل جنا مسكم
ما الرأي يا أبا الحكم
…
فأنتَ خيرُ محتكَمْ. . .
أبو جهل متطلعاً إلى مخدع النبي:
محمدُ لما يزل هاًهنا
…
قرير الوسادة في مَضْجَعِه
ينام ولم يدر أن قُريشا
…
تهيئ للبت في مصرعه. . .
واحد منهم يقول:
محمدُ قد فَّر من بيننا
…
وما كانْ لحَظِيَ بالكاذبِ
محمدُ أفلت من كفنا
…
فيا حسرة الأمل الذاهب!
آخر يقول:
وما كان في مَضْجع الهاربِ
…
نزيلٌ سوى علي ابن أبي طالب. . .
محمد عبد الغني حسن
العقل في القران والحديث
للأستاذ قدري حافظ طوقان
العقل أساس الدين ومنبع العلم ومطلعه، وهل تقدم علم وازدهر فن إلا على أساس العقل؟ وهل يستقيم بلا عقل؟ وهل يعرف إنسان ما أمر الله به وما نهى عنه إلا بالعقل؟
وعلى أساس العقل شرعت الشرائع وسنت القوانين وقامت الحضارات وامتدت المدنيات. لهذا لا عجب إذا ورد ذكره في كتاب الله وعلى لسان نبيه الكريم. فقد شرف الله العقل وأعلى مكانته، وعظم الرسول العقل وقدس حرمته. ومجده الفلاسفة والحكماء والعلماء فصرفوا جهودهم إلى إعلاء شانه بالبحث فيه والرجوع إليه
لقد احل القرآن العقل منزلاً سامياً وجعله نوراً يهدي به الناس وطالبهم باستعماله والتحاكم إليه وسماه نورا في قوله تعالى (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة. . .) وسمى العلم المستفاد منه روحاً ووحياً فقال تعالى: (وأوحينا إليك روحاً من أمرنا. . .) وقال: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس. . .).
وحين يجادل القرآن الماديين والدهريين وأرباب الملل والنحل إنما يجادلهم بل البرهان ويدعوهم إلى إنعام النظر والفكر، يتجلى ذلك في قوله تعالى:(لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الغافلون.) وقد حمل القرآن على المقلدين الذين يعطون عقولهم ولا يستعملونها، فقال في موضع (إن شر الدواب عند الله الصم البكم العمى الذين لا يعقلون) وقال في موضع آخر. (أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون) وكثيراً ما وردت آيات تنتهي بهذه الجوامع (بل أكثرهم لا يعقلون)(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، أفلا تسمعون؟ إنما يتذكر أولوا الألباب، وفي أنفسكم أفلا تبصرون. . ولم يقف القرآن عند هذه الحدود، بل أمر بإحسان استعمال السمع والبصر والعقل حتى يهدي الإنسان عن طريقها إلى الحق والحقيقة، ويكون الحق واضحا عنده والحقيقة ثابتة لديه: قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك من علم أو إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولا. . .)
وفي هذه الآية الجامعة الكريمة أصول رئيسية في المتعبة في أصول النظر العلمي، فلقد أمر بالمشاهدة الصحيحة والتفكير الصحيح، وأن على الإنسان أن يتمسك بما يصل إليه من
حق أو حقيقة عن هذين الطريقين، المشاهدة والتفكير.
ولسنا بحاجة إلى القول بأن الإسلام أكبر العقل إكباراً دونه أي إكبار، ودعا إلى تعظيم وجلاله والرجوع إليه دائما قال تعالى:(وآتيناه حكما وعلماً) أي فقها وعلما. وقال: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي آتيناه الفقه والعقل وإصابة القول في غير نبوة. وقال: (فاتقون يا أولى الألباب. وإن في ذلك لعبرة لأولى الألباب) وقال: (واشهد ذوي عدل منكم) أي ذوي عقل. (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) أي عقل، (لينذر من كان حيا. . .) أي عاقلا، (ولقد بيننا الآيات لقوم يعقلون، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
وهناك آيات جامعات تدعو الإنسان إلى النظر في الكون والبحث في روائعه، وإلى جعل العقل أساسا للتحكيم والتفكير في الطبيعة على جلالها وعظمتها تستحثه على إطلاق تفكيره في السموات والأرض والوجود وما على الأرض ومن عليها. ولفت إلى السماء كيف رفعها، وإلى الأرض كيف سطحها، والجبال كيف نصبها، وإلى الإنسان كيف خلقه، والأنعام كيف أوجدها، والى النباتات كيف أنبتها فقال تعالى:(وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقال جل وعلا (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، والى السماء كيف رفعت، والى الجبال كيف نصبت، والى الأرض كيف سطحت) وقال: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقال (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما انزل الله من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون). وقال (ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً. .) وقال (فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً، ثم شققنا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعاً لكم ولأنعامكم. . .)
وقال (أو لم يرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي) وقال (وآية لهم الأرض الميت وأحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون)
ولاشك أن هذا النمط من الآيات الجامعات والأقوال البينات مما يرشد الناس إلى التفكير من الكون وخبايا الأرض وأسرار الحياة والتطلع على خفايا الوجود. وبهذا ينطلق العقل البشري باحثاً منقباً متطلعاً مما يؤدي إلى الوصول دقائق الحقائق في الوقوف على نظام هذا الكون وموجوداته على تعددها وتبيانها وتعقدها. كذلك كان الرسول ينظر إلى العقل نظرة كلها تعظيم وإجلال، فقد رأى فيه أصل الدين وأساسه، وأن لا دين لمن لا عقل له قال عليه السلام حين يسأله على عن سنته:(. . . والعقل أصل ديني) وأمر بالتواصي بالعقل والرجوع إليه ففيه النجاة وفيه الآمان. قال عليه السلام: (اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه. واعلموا أنه ينجدكم عنده ربكم (وبين أن الله يأخذ بالعقل ويعطي بالعقل ويثيب به ويعاقب على أساسه، وما تم دين أحد بالا بالعقل، وما عبد الله بشيء أحب إليه من العقل وبمثل العقل.
روى لقمان بن أبي عامر عن أبي الدرداء أن رسول الله قال: (يا عويمر ازدد عقلاً تزدد من ربك قرباً، قلت: بأبي أنت وأمي ومن لي بالعقل؟ قال اجتنب محارم الله وأد فرائض الله تكن عاقلاً، ثم تنفل بصالحات الأعمال تزدد بالدنيا عقلا وتزدد مع من ربك قرباً وبه عزاً. . .) وروى أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: (أثني على رجل عند رسول الله بخير فقال كيف عقله؟ قالوا يا رسول الله إن من عبادته. . . إن من خلقه. . . إن من فضله. . . إن من أدبه. . فقال كيف عقله؟ قالوا يا رسول الله نثني عليه بالعبادة وتسألنا عن عقله، فقال رسول الله: (إن الأحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر، وإنما يقرب الناس من ربهم بالزلف على قدر عقولهم) ويرى الرسول لن الحياة من مستلزمات العقل فلا يكونان إلا مع العقل ولا يسيران إلا في كنفه.
والعقل نور جعله الله للدين أصلا وللدنيا عماداً به ميز الحق من الباطل وتعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات وعليه يقوم النجاح ويكون الفلاح. قال عليه السلام (العقل نور في القلب يفرق به بين الحق والباطل) وقال (أفلح من رزق لباً) أي عقلا.
قدري حافظ طوقان