الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 602
- بتاريخ: 15 - 01 - 1945
الدين في معترك الشكوك
للأستاذ محمد فريد وجدي بك
حفظ الدين وجوده في العصور الأولى للإنسانية بالغريزة الطبيعية، فلم يجد العلماء في تاريخها كله جماعة مجردة من الدين حتى فيما نقبوا عليه من عهوده الأولى قبل تدوين التاريخ ولما أجال الإنسان فكرة في الوجود المحيط به، ونشأت فيه خاصة النظر والاستدلال، أيد الإنسان دينه بالعقل ولما استبحر علم الكون، وافتتن العقل بالبحوث المادية تحت تأثير سحر المستكشفات الطبيعية في عالم القوى والنواميس، ووضع الدستور العلمي وظهرت آثاره في ترقي المعارف، وتجنب الأخطاء التي كان دليلها مجرد النظر العقلي، لم يعد للمنطق سلطان على الإنسان، وأصبح الدين لا يستطيع البقاء، إلا إذا كان له دليل من الوجود المحسوس. وصرح علماء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأن عهد الدين قد انقضى، وأن بقاءه على الأرض مرتبط ببقاء السذاجة العامية؛ فإذا نشر العلم على العامية رواقه زال الدين كما يزول كل ما ليس له أصل ثابت يقوم عليه.
على هذا كان الإجماع منعقدا في العالم العلمي إلى زمان ليس ببعيد. فهل العقل لا يكفي لإيجاد الإيمان في العهد الذي نحن فيه؟
يكفي إذا كان يستمد من العالم الكوني المحسوس، أما والعقل الذي يعتمد عليه الاعتقادين يقوم على مسلمات لا تزال في نظر العلم مسائل تعوزها الحلول، كنشوة الكون والمادة، وكوجود روح من عالم علوي في الإنسان تبقى بعد انحلال جثمانه في عالم وراء هذا العالم الخ الخ؛ فما يقرره الاعتقادين اعتمادا على أمثال هذه المسلمات لا يراه العلو جديرا بالاعتبار
ومعنى هذا أن الاعتقادين في هذا العصر قد أصبحوا عزلاً من الأسلحة التي تصلح للكفاح في هذا المعترك. فإذا لم يستكملوا هذا النقص فلا يرجى للموضوع الذي هم بسبيله بقاء
وقد بين ذلك الأستاذ (و. ميرس) مدرس علم النفس بجامعة كمبردج في كتابه (الشخصية الإنسانية) فقال.
(كنت مقتنعاً بأنه لو أمكنت معرفة شيء عن العالم الروحي على أسلوب يستطيع العلم أن يقبله، ولن يكون ذلك بالتنقيب في الأساطير القديمة، ولا بالتأمل في علم ما بعد الطبيعة،
ولكن بواسطة التجربة والمشاهدة، وبتطبيقنا على الظواهر التي تشاهد أساليب المباحث المضبوطة، تلك الأساليب التي نحن مدينون لها بمعارفنا عن العالم المرئي المحسوس. هذا المباحث لا يجوز أن تبنى على التأكيدات التي صدرت عن هذا الوحي أو ذاك، بل يجب أن تؤسس ككل بحث على علمي بمعناه الصحيح، على تجارب يمكننا تكرارها اليوم؛ مؤملين أن نزيد عليها غدا، ويكون الدافع إليها هذه القضية وهي:(إذا كان يوجد عالم روحاني ظهر للناس في أي عهد كان، فيجب أن يكون كذلك قابلاً للظهور في أيامنا هذه) اهـ
ونحن نقول: هذا شرط العلم في قبول الأصول الاعتقادية، وهو شرط لا يجوز الاستخفاف به ولا إغفاله، لأن العلم آخذ في الانتشار بخطوات واسعة؛ وأساليبه المحررة، وآثاره الفاتنة، أثرت في العقول ابلغ تأثير، وانتشرت معها شبهات لم تدع محلا للعقيدة في العقول، وضعفت حجة الاعتقاديين أمام هذا التحدي ضعفاً ظهرت نتائجه في الجماعات، وخاصة في البلاد الشرقية، حيث ينتشر العلم، ويصر حفظة الدين على التغاضي مما يستنبعه هذا الانتشار من شيوع ما يلابسه من الشبهات.
وقد ظهرت لذلك آثار خلقية وأدبية لا يحسن السكوت عليها ولم هذا التعرض هذه المخاطر؟ فإذا كنا ننتظر خلاصاً منها باعتمادنا على أساليبنا القديمة، فقد دلت دلالة قاطعة على أنها منيت بالعجز عن وقف هذا التدهور السريع، فإذا كنا نتشبه بالغربيين في جميع أوضاعهم وأتجاهاتهم، فلم نقتصر في تقليدهم في وقف تيار هذا الانقلاب الخطير؟
أن العلم الأوربي يشتغل من نحو مائة سنة بمسألة الحياة الإنسانية على أسلوبه من التجربة والتمحيص وقد اهتدى إلى نتائج كانت غير منتظرة أثارت دهش العالم كانت مثاراً لحركة لم تحدث لاكتشاف قبلها، فاجتمعت لها مجامع علمية للدرس والتحقيق، وتألفت من أجلها مؤتمرات عامة في أوربا وأمريكا اجتمع فيها ألوف من الباحثين، وثارت بسببها مناقشات صحفية لم تثر لغيرها من المسائل العلمية، حتى وصل قادتها إلى نتائج فاقت كل ما كان يتخيله كبار العقول قبل هذا العهد القريب، إذ ثبت للباحثين فيها ثبوتاً علمياً قاطعاً لا يتطرق إليه ريب لابتنائه على التجارب العلمية، أن للإنسان روحاً مستقلة عن جسده استقلالاً تاماً، مما حمل العلماء المجربين أن يقولوا كما قال أحدهم وهو العلامة الفلكي
المشهور (كاميل فلامريون) في كتابه (المجهول والمسائل النفسية):
(إن لدينا اليوم من الأدلة على وجود عالم الروح مثل ما لدينا منها على وجود العالم المادي المحسوس)
اكتشاف خطير في عالم البحوث العلمية يدهش منه حتى الذين يعتقدون بوجود الروح، وهو غير اكتشاف أخرى يثبت مجموعها وجود عالم روحاني وراء هذا العالم لا يمكن التماري فيه وقد بذل أقطاب العلم في جميع أقطار العالم المتمدن ردحاً طويلاً من الزمن في تمحيصها وتحليلها، وانفق أثرياؤهم أموالاً وفيرة لإقامة معاهد تجريبية لها، منها المجمع العلمي لما وراء علم النفس، وقد شيد بناؤه المثري الفرنسي المسي (مييه) ووقف عليه أربعة ملايين فرنك ذهباً تنفق في كل عام، وكان ذلك سنة 1920 وشرط ألا ينخرط في جماعته إلا العلماء.
وفي الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا والنمسا وغيرها أمثال لهذا المجمع؛ ومنها جمعية البحوث النفسية في لندن وقد تألفت في سنة (1882) ولا تزال قائمة للآن يزاول العمل فيها علماء من الطبقة العليا، وقد جمعت مما تقرر تجاربها نحو ستين مجلداً ولا تزال قائمة إلى اليوم.
ذكر هذه الجمعية الأستاذ الكبير وليم جيمس الأمريكي في كتابه (إرادة الاعتقاد) في صفحة 313 فقال:
(أن جمعية المباحث النفسية التي يمتد عملها في إنجلترا وأمريكا قد سمحت بأن يلتقي العالمان العلمي والروحي، فإذا صدقنا الجرائد وأوهام الصالونات، خيل لنا أن الضعف العقلي وسرعة التصديق هما الرباط المعنوي الجامع بين أعضاء هذه الجمعية وأن حب العجائب هو الأصل المحرك لها، ومع ذلك فيكفي أن نلقى نظرة واحدة على أعضائها لدحض هذه التهمة. فأن رئيس هذه الجمعية وهو الأستاذ (سيد جويك) معروف بأنه أشد الناس شكيمة في النقد، وأعصاهم قياداً في الشك بجميع البلاد الإنجليزية، ووكيلها الأستاذين (أرثر بلفور) و (جاب لنجلي) ويمكن التنويه من أعضائها العاملين بالأستاذ (شارل ريشيه) الفيزيولوجي الفرنسي الخطير، وتشمل قائمة أعضائها رجالاً كثيرين آخرين كفايتهم العلمية أشهر من نار على علم. فإذا طلب أبي أن أعين مجموعة علمية
تكون مصادر أخطائها ممحصة بأدق الأساليب فأني أنوه بمحاضر جمعية المباحث النفسية، فأن الفصول الفيزيولوجية التي تنشرها المجلات الخاصة بهذا العلم لا تبلغ في دقة النقد مبلغ دقة المحاضر التي نحن بسبيلها) اهـ
فهذه المجامع العلمية التي تألفت من أكبر رجال العلم في أرقى البلاد المتمدنة، واجتمعت بسببها مؤتمرات عالمية في أكبر عواصم العالم احتشد فيها ألوف من الباحثين المستقلين ووضع فيها مئات من العلماء كتبا مستفيضة، قد أثرت في العالم الغربي أكبر تأثير كان من أثره تغيير وجهة الفلسفة في القرن العشرين حتى نوهت مجلة المقتطف بذلك في عهد شهر ديسمبر من سنة 1918 فقالت:
(من يطلع على ما يكتب وما ينشر من المقالات الفلسفية يجد أن أصحابها مالوا عن الطريقة العلمية إلى الطريقة الروحية. . إلى أن قالت: (ومما يدعو للأسف أن أكثر اهتمام الناس كان موجهًا في السنوات الأخيرة إلى هذا القسم من الفلسفة كما يظهر مما نشرناه من أقوال السير (أوليفر) وإضرابه من المعتقدين بمناجاة الأرواح والتلباثي وما أشبه).
نقول والأمر الذي جعل هذه البحوث جديرة بالنظر والتمحيص أن الجمعية الجدلية في لندن كلفت ثلاثة وثلاثين عالماً من أجل أعضائها ببحثها وضع تقرير عنها، فقامت بما عهد إليها وكان ذلك في سنة 1869، ولبثت تعمل ثمانية عشر شهراً باذلة أقصى ما يتيحه لها العلم من طرق التمحيص والتحقيق، ثم وضعت عنها تقريراً وقع في خمسمائة صفحة، اعترفت فيه إجماعاً بصحتها. فكان ذلك مغرياً للعلماء في كل بلد ببذل الوسع في دراستها؛ وانتهى الأمر بهم جميعاً إلى القول بأنها حقيقة لا مريه فيها.
ولما آنست الكنيسة الإنجليزية شدة اهتمام الناس بها ألفت مؤتمراً دينياً لإبداء رأي الكنيسة فيها. وقد نشرت خلاصة رأيها المجلات المشهورة، فكان مما قالته عنها المجلة العالمية بقلم مديرها الفيلسوف الكبير (جان فينو) فقال:
(في مؤتمر الأساقفة الانجليكانية الذي عقد في قصر (لامبيت) من 5 يوليو إلى 7اأغسطس من سنة 1920، اجتمع مائتان واثنان وخمسون من رؤساء الكنيسة، منهم مطارنة كنتربوري ويورك وسدني وكبتاون والهند الغربية وميلبورن وإمارة بلاد الغال الخ، هؤلاء عدا أكثر من مائة أسقف من أكبر الأساقفة، وتقرر النظر في أمر الاسبرتسم والعلم
المسيحي والتيوزوفية، فاعترف المؤتمرون بقيمة هذه الميول الروحانية التي تكافح المادية نجاح عظيم).
هذه خلاصة ما حدث حول هذه المسالة في البلاد المتمدنة وقد سماها مدير المجلة العالمية بالفيض الإلهي، وقد تسرب إلى الجامعات الكبيرة، فأسست له جامعة كامبردج في سنة 1940 دراسة خاصة، واتخذت جامعة اكسفورد لأمهات مؤلفاته محلاً خاصاً بها، وعينت لمحاضراته عالماً خبيراً به. وأدخلته إلى حظيرتها العلمية جامعات أخرى في أمريكا، فهل نغض نحن الطرف عنه ولا يستفيد منه حفظة العقائد ليصدوا به تيار المادية التي تتسرب إلى عقول النابتة، وتقذف بهم من الإباحة إلى مكان سحيق؟
لقد أدخلنا الفلسفة في معاهدنا العلمية المدنية والدينية مصبوغة صبغة مادية على ما كانت تعرض بها في القرن التاسع عشر في أوروبا، ولم نتبعها بالآراء التي تنازعها السلطان، ولا بالمكتشفات العلمية التي تحد من غلوائها!
نعم قد نشرت بحوث عن العالم الروحي في هذا البلاد ولكنها قوبلت بردود دلت على أن أصحابها لا يدرون عنها شيئاً، وكان أهون ما قالوه ضدها إنها لا تزال رهن البحث، ولم يبت في أمرها بعد، ونحن لا ندري متى تنضح هذه البحوث بعد ما مر عليها قرن برمته، وصدرت في إثبات صحتها ألوف من المؤلفات، وأعلن اقتناعه بها ألوف من العلماء والفلاسفة؟ وهل بعد دخولها أشهر الجامعات يراد دليل على أن البحث فيها قد استوفى حقه استيفاء يؤهلها لأن تأخذ مكانتها الرفيعة بين سائر المعارف المحققة، وتؤدي للمجتمع المهام الأدبية التي لا يمكن أن يقوم بها غيرها؟
محمد فريد وجدي
من مذكرات عمر بن أبي ربيعة
صديق إبليس. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وذهبت صهباء وبقيت أترقبها ثلاث أيام ولياليها وهي لا تجئ، حتى إذا كانت ليلة خرجت أنت إلى الطائف آخر خرجة، جاءتني صهباء في جنح العتمة ودخلت هي وظمياء فقالت: لقد أطاع مولاي في مرضاتك، فإن أذنت جئت به الساعة. قلت لها: لبثي حتى يأوي جوان. فلما كان بعد هداة الليل وفقدنا الصوت، ذهبت صهباء ساعة ثم جاءت ودخل على رجل أسمر طوال نحيل البدن معروف الوجه ابيض اللحية أشعت أغير، كأن عينيه جمرتان تقدان في وقبين غائرين كأنهما كهفان في حضن جبل ونضر في عيني فوالله لتمنيت أن الأرض ساخت بي ولم أنظر في عينيه، فما هو إلا أن سلم حتى سمعت نغمة صوت شجي كحنين الوالهة، فوالله لتمنيت أن يتكلم ما بقيت. ولم أدر ما أقول ودهشت وهلك صوتي، فنظرت فإذا هو يبتسم إلي ثم يقول، (يا أم جوان لقد سعيت إلى بيتك وما سعيت من قبل إلى بيت إلا إلى هذه البنية (يعني الكعبة). وقد جاءتني فتاتي صهباء تحدثني عما كان منها إليك، وقبيح بأمري أفزع قلباً ساكناً أن يدعه أو يطمئن، ولو كنت أعلم أنها مفتوقة اللسان، ما حدثتها بشيء أبدا). قالت كلثم: فكأن الله جعل لي قوة سيل جارف فقلت له: كذبت يا رجل وكذبت بنت الأصفر ووالله لئن لم تأتني ببرهان ما تقول، لتركت شيبتك هذه أباديد في أكف صبيان مكة. ووالله لو صدقت لأسرتك ولأكفينك ما عشت. فقال:(جزاك الله خيراً يا أم جوان! أما إذ كذبتي فآيتي أن تذهبي فتستخرجي من جوف حقيبة عمر الحمراء بين جلدها ومفرشها كتاب عبد الله بن هلال الفاسق بخط يده، قد جعله تميمة لزوجك أن لا يراه أحد إذا خرج إلى مأوى الفتاتين بالطائف، ومعه منديل ابن هلال الأزرق ذو الوشى، يمسح به وجهه قبل أن يرحل). فما كذبت أن طرت إلى ما زعم، فوالله لقد صدق وبر
(قال عمر)، قلت: ما تقولين؟ قالت: صه يا عمر فوالله لقد صدق وبر، وقلت له، أيها الشيخ
أفأنت تعلم أين تجد هاتين الخبيثتين؟ قال: لا. قالت: فما تزعم فتاتك من أن لا شيء يفعله الخبيث ابن هلال إلا كان عندك خبره؟ قال صدقت. قلت: فكيف لا تعلم؟ قال: إنه أخبث والأم وأضل وأدهى وأقرب إلى إبليس وبنته بيذخ ذات العرش من أن أطيق معرفة ما أنقطع بيني وبينه. قلت: وما بيذخ ذات العرش؟ قال: إنها ابنة إبليس التي اتخذت عرشها على الماء، حولها سواد غلاظ يشبهون الزط، حفاة مشققو الأعقاب، ولا يصل إليها من قدم لها القرابين من حيوان ناطق وغير ناطق، وترك لها من الصلاة والصوم، وقدم إليها من ذهب وفضة واللآلئ حتى ترضى، فإذا فعل ما تريد وصل إليها فسجد تحت عرشها، فتخدمه من يريد وتقضى حوائجه. قلت: وما علمك بهذا أيها الشيخ؟ قال: ذاك شيء قد كان والله هو التواب الرحيم. قلت: قد كان! قال: نعم أما اليوم فلا، وما يأتيني بأخبار اللعين الزندبق ابن الهلال إلا صاحب من الجن قد آمن بإيماني، ولكنه محجوب عن الأسرار. قلت: أفلا تكرمني أيها الشيخ فتسأل صاحبك أن يحتال ليعرف؟ قال: لا أدري. ولكن ائتيني بطست أناطق صاحبي.
(فأتيته بطست فكبه، وأخرج من كمه غلالة سوداء فنشرها عليه، وأمر بالفتائل فأطفأت، وطلب جمرات في طبق. فلما تم ذلك اخرج عوداً من المنديل فطير دخانه، وجلس وأختبئ، وإن عينيه لتبصان في الظلماء، وجعل يتمتم ويدندن ويهمهم حتى كدت أنشق، ثم قال: يا زوبعة! فإذا صوت يأتي كأنما يخرج من جوف بثر شطون يقول: لبيك أبا الحسن! قال: أتدري أين أنا؟ قال: بلى دريت! قال: إنه حضرني من الأمر ما تعلم، أفأنت بمدركي بمأوى الخبيثتين قينتي أبن هلال؟ قال: لقد علمت مالي ببيذخ طاقة بعد أيماني بالله ورسوله قال: أفلا تحتال؟ قال: تباً لك من شيخ سوء أترومني أن أرتد إلى الكفر بعد الإيمان؟ قال: مهلاً زوبعة! أما لك من صديق تزفق به حتى تستل منه السر؟ قال زوبعة: هذا فراق بيني وبينك أيها الخبيث. ووالله ما تزكت السحر إلا وفي قلبك رجعة إليه. خسأت أيها الفاجر!). وإذا الطست يتحرك فينقلب فأرى كمثل أم جوان، لقد رأيت، ومالي من حيلة. قلت: احتل لي وقاك الله السوء، ولا والله لا تخرج من هذه الدار حتى تعطيني المواثيق بأن تفعل ما أريد. قال: يا أم جوان، وكيف بعذاب الله؟
(قالت كلثم: فوالله ما أن سمعت مقالته حتى خانتني قدماي فوقعت أبكي ويرفض دمعي
كلاذع الجمر، ورأيت الدنيا قد أطبقت علي، وما هو إلا أن أنشج بالبكاء. فدنا الشيخ وأسر إلى أن أبشرى أم جوان، فوالله ما أدعك أبداً حتى يطمئن قلبك، واصبري غداً تأتيك الصهباء. وما أفقت حتى رأيتني كالمأخوذة وظمياء تنضح وجهي بآلاء. وبقيت الليل كله أطويه ساعة بعد ساعة حتى أصبح الناس، وقلبي يرجف، ودمعي ينهل، وكأنه في سمعي دوى النحل، حتى إذا قام قائم الظهيرة جاءت صهباء فقالت: يقول لك مولاي إنه يبني رفرفين من الديباج، وعشرة أثواب من الإبريسم، وبردين كذابين من الخز، وخمسين لؤلؤة لم تثقب. فما كذبت أن أعطيها ما طلبت. وغابت يومين ثم جاءتني مع المشي وقالت: يقول لك مولاي: لو أطلق أن لا يكلفك لفعل، ولكن الأمر قد استعصى عليه بعد توبته، وأن بيذخ (بنت إبليس) لتتقاضاه كفاء ما عصاه في طاعة الله. وإنها قد طلبت أن يذبح لها من الذبائح ما يسيل على جنبات الغور (مسكن الجن) حتى ترضى. قلت: كم يريد مولاك؟ قالت: بين المائتين والثلاثمائة. فوالله ما كذبت أن أعطيتها. فما غابت إلا يوماً أو بعضه حتى جاءت تطلب المنديل الذي أعصب به رأسي، فما كذبت أن أعطيها. ثم جاءتني من الغد عند الأصيل، فقالت: يقول لك مولاي لا تصلي العشاء الآخرة الليلة حتى يؤذنك. فوالله لقد كبر على ولكني أطعته، وإذا أنا أسمع في سدفة الفجر صوتاً كالمتحدر ما بين جبلين يقول: قومي إلى صلاتك. فقمت فصليت وما كدت حتى أذن الفجر. فلما كان بعد أيام جاءتني صهباء تقول: أبشرى! سيأتي مولاي الليلة. قلت: مرحباً به من ضيف. فلما دخل الليل وسكن الناس، جاء الشيخ لميعاده فسلم وسكت ثم قال: انظري ألي يا أم جوان. فنظرت في عيني كالنار المشعلة في الليلة الدامسة، وجعل يمر يده بين عيني وعينيه، فكلما احتجبتا عني أظلمت الدنيا في عيني، وإذا وقعت عيني في عينيه أضاء ما بيني وبينه كالسراج المتوهج، فوالله ما شعرت إلا وظمياء تنضحني بالماء حتى أفيق. قلت: يا ظمياء أين الشيخ؟ قالت: لقد أذنت له أن ينصرف بعد أن أعطيه من المال ما طلب. قلت: تباً لي أين كان عقلي؟ وكم أعطيته؟ قالت: ألف دينار ذهباً، وواعدك أن يأتيك بعد سبعة أيام بمأوى الخبيثتين.
(قال كلثم: وهذا اليوم ميعاده، ووالله لئن صدقتني يا عمر لقد حفظتك ما عشت في قلبي).
(قال عمر بن ربيعة)؛ (فوالله ما كنت أدري ما أقول، إلا أني قلت لها: أصدقك؟ لقد ضلت
إذن أيتها الحمقاء). (أنا حمقاء أيها الفاجر الفاسق! ثم قامت إلى صوانها فاستخرجت منه شيئاً ونشرته لعيني، فإذا سرقه من حرير أبيض عليها صورتان، فما تأملتها إلا كانتا والله قينتي ابن هلال حيث رايتهما وسمعتهما بالكوفة، ولقد كانتا في السرقة اجمل وافتن وأحب إلي مما كانتا. قلت: إنهما والله يا كلثم قينتا ابن هلال! قالت: وصدق الشيخ أيها الفاجر! أتدع حرائر بني مخزوم إلى الخبيثات الدنيئات من بغايا الكوفة، تخالف إليهن تحت الليل والسحر والكفر وعبث الشيطان بك وبعقلك.
(قال عمر): وإذا جوان بالباب ينظر إلى الصورتين، ثم يتقدم ويقول: ما بك يا أماه: فتقول: هذا الخبيث الفاجر يدع الحرائر من بيني مخزوم ملطمات ويختلف إلي زواني الكوفة يقتادهن إليه الخبيث ابن الهلال بالسح والطلاسم. وهذا منديله يمسح به الغبار وجهه لا يراه الناس ساعياً إلى فجوره.
(قال عمر): وجعلت نقص على جوان قصة ما كان، وهي تنتظر إلى كاللبؤة المجرية ريعت أشبالها، فما كادت تفرغ حتى جاءت ظمياء معجلة تقول: مولاتي، صهباء بالباب. قالت كلثم: إيذني لها. فما كدت أراها حتى فزعت قائماً إليها وأخذتها بغدائرها: (وإنك لأنت أنت أيتها الشيطانة؟) فأنقضت على كلثم تذوذني عنها وتقول: دعها أيها الفاجر! قلت: إنها فتن جارية الخبيث الفاجر عبد الله بن هلال، ولطالما خدمتني الكوفة! أليس كذلك يا فتن؟ قالت: ارحمني يا سيدي فما أنا إلا جارية يائسة مسكينة يركبني هذا الشيطان بخبثه وخبائثه. قلت: وأين أبن هلال صديق إبليس وصاحبه قالت، ما تدركه يا مولاي! فقد أرتحل الليلة وتركني أتبعه والثقل وقلت: وما جئت تبغين! قالت: أرسلني أطلب بع المال من مولاتي.
قالت كلثم: دعها يا عمر الآن، لقد ضللت إذن وبئس ما فعلت، ووالله لقد خدعني الشيطان ابن هلال. أين كان عقلي!
فقال جوان: والله يا أمه! لقد كان فجور أبي بامرأتين خبيثتين من بغايا الكوفة، احب إلى من شركك بالله وكفرك! قومي يرحمك الله مما كان من ضلالك وكفرك. . .)
محمود محمد شاكر
الحياة صادقة!
2 -
العدل الإلهي!
مقدمات لإدراكه واليقين به
(مهداة إلى العقاد الكبير بمناسبة مقاله (تبارك رزاق البرايا))
للأستاذ عبد المنعم خلاف
6 -
لقد وجدت من حسن حظ الإنسانية في هذا العصر نظم صالحة تسمح لدعوات الحق والصلاح أن تتخذ طريقها وتزاحم في أسواق الحياة بدون عوائق غير طبيعية، بعد إن قدست حرية الفكر والقول وسمح لكل فرد أن يقول ما عنده بدون سباب أو أذى.
لقد تيقظت الإنسانية لحياتها وقيمتها، عرفت قيمة الفرد فيها، فأفسحت الأمم الراقية له المجال ليخدمها بالقول والفعل مهما كان ما يدعو إليه جديداً غريباً؛ ومتى أخذ الناس أنفسهم أن يسمعوا لكل قائل ثم يحاكموه إلى العقل فهم في تقدم. فعلى كل مظلوم أن يصرخ! وعلى كل داع أن يتكلم، وعلى الجماعة أن تسمع لهذا وهذا.
والظلم السياسي أو الاقتصادي من القوى أو للغنى للضعيف المحروم هو الذي يجعل الإنسان يكفر أو يشك في العدل الإلهي. . وطبيعي أن الله لا يتدخل في كل شئ بين الناس تدخلا ظاهراً. . وهو قد أقام قوانين الطبيعة حدوداً يتحاكم الناس إليها. . فالنار تحرق من يضع يده فيها سواء أكان صديقاً أم عدواً. . والتردي من شاهق يهلك، والتعرض للمرض يمرض، والماء يغرق. وهكذا كل عمل له نتائجه الحتمية لأنها قوانين طبيعية لا تبديل لها ولا تحويل. . والله يترك لقوانين الطبيعة العقاب الطبيعي على كافة مخالفة يرتكبها الفرد أو الأمة نحو تلك القوانين. ذلك ظاهر واضح في مجال الطبيعة.
وأما في مجال الإنسان. فلاختيار أفسد عنده كثيرا ما كان يجب أن يسير عليه سيرا طبيعياً، إذ قد ملا حياته بالتهاون.
فالظالم يظلم وعلى المظلوم أن يثأر لنفسه، ولو كلفه حياته. ذلك حكم الطبيعة وردها الإيجابي كما ردت بالإحراق على من دس يده في النار. . ولكن المظلوم كثيرا ما يغفل ويهمل الإصرار على أخذ حقه، وكثيرا ما تبطئ الجماعة أو تهمل في رد حقه عليه.
وما دمنا نعيش في جماعة فلابد أن تتولى هي الأخذ بثأر المظلوم في حقه، وإذا فرطت العقد الاجتماعي. . فإذا فرط المظلوم في حقه، وإذا فرطت الجماعة في الإنصاف له كان هنا حينئذ قانون طبيعي اجتماعي اعتدى عليه وخولف ولم يكن له من الإنسان تصحيح ورد لقيمته. وكان وراء ذلك حتما ثلمة في الجماعة يتطرق منها الفساد. فليس الذنب هنا ذنب العدل الإلهي ولكن ذنب الجماعة التي برهنت حين أهملت الاقتصاص من ظالمها أو ظالم أحد أفرادها، مع أنها أقوى من ذلك الظالم، على أنها تستحق الحياة الرشيدة لأنها تعرف قوانين المقاومة، وعلى أنها غثاء وقش يستحق أن تضغطه قوة أخرى أصلح منه للسيطرة على الحياة.
أن الله يقاوم النفس بالنفس كما يقاوم أي قوة طبيعية بقوة مضادة لها ليضمن التناسق والصلاح ودوام كل شيء كما وضعه وجعله يسير في دوراته الأبدية.
وإن حجته الناهضة على عدله أنه لم يجعل لأحد سيطرة على فكر أحد وشعوره القلبي. فلن تستطيع أية قوة أرضية أن تتحكم في فكرك وشعورك، فإذا أحسست بظلم، فأمام نفسك قوة حرة تستعين بها: هي حرية الحركة الفكرية والغضبية لرد الظلم عنك، فلا تغفل حقك في الحياة، ولا ترضى بها غير كاملة الحقوق، ولا ترض بحياة الضعف مهما كلفك السعي للقوة، واستمع لهذا الصوت المتفجر من ضمير الكون يصيح بك:(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً).
7 -
وأول واجبات الجماعة أن تبحث عن أصلح رجالها لتوليه حكمها. أي أن نوسد الأمر إلى أهله، وأن تقيم حدود حياتها ولا تتهاون أن تستثني فيها، ثم تترك لحاكمها أن يحكمها بالعدالة والقوة القاهرة الرادعة.
ذلك هو أسلوب الله في حكم العالم: قوة وإحاطة، وقهر، ويقظة، وعدالة ومجازاة.
وإن الجماعة هي المسؤولة عن كل ظلم أو فساد يتطرق إليها. وأن الله لا يتدخل بتغيير شيء في حياتها إلا إذا أرادت وغيرت ما بنفوسها، أنه جعلها في الأرض صاحبة سلطان يكاد يكون مطلقا في شئون حياتها الاجتماعية وعلى هذا فهو غير مسئول عن توزيع الثروات توزيعا ظالما ولا عن شيوع الجهالة والآثام.
من قال إن لكل إنسان الحق في أن يملك جزءا كبيرا من ثروة وطنه التي جمعها له كثيرون من العمال والفقراء، ثم لا يؤدي حق الفقير والمحروم، ويترك أبنائهم يبحثون عن اللقمة والخرقة في المزابل كما نرى! بينما هو يكاد رأسه يتحطم بعمليات حساب أمواله المكدسة!؟
من الذي أباح للإنسان أن يملك أكثر من حاجات نفسه وكمالياتها في متوسط عمر الإنسان؟ فإذا كفل أن يملا أن مطبخه كل يوم بألوان مختلفة كثيرة، وداره بالفرش والرياش الفاخرة، واصطبله بالخيول المطهمة والسيارات الفخمة، وفناء داره بالأزهار وهكذا. . فما باله يشح على أمته فيما وراء ذلك؟!
فإذا قال الإنسان الغني، أو الفقير: احشد على مائدتك كل مادة مغلظة. . أو كل لحم المريض من البهائم، أو كل ما لا تطيقه أحشاؤك. . أو كل طعام الصيف في الشتاء وطعام الشتاء في الصيف، أو أفرط في السهر وعربد وأطلق لأهوائك وشهواتك العنان وسوف لا يكون من وراء ذلك شقاء ولا هم يحزنون؟!
ومن قال لك: كن قوادا لفلان. . أو ماسح حذاء فلان، أو نماما له لترقي أو تنال درجة أو وظيفة؟
ومن قال لك: بع حريتك واجعل خدك مداسا وقل للكلاب: يا سادتي. . في سبيل الخبز القذر المعجون بدموع الذلة!
ومن قال لك: اترك ابنك قذر الجسم والثوب وعليه التراب والذباب لان العمر بيد الله؟!
ومن قال لك: لا تحافظ على الطفولة (منطقة نمو الإنسانية) وأخرجها ضعيفة جاهلة؟!
ومن قال: أن الحياة آلام ومشقات؟
من قال؟ ومن قال؟ ومن قال؟ الله قال هذا! أم الجماعة الفاسدة هي قالت ذلك وسبته إلى الله، جعلتك تتهجم على العدل الإلهي الذي أقام الناموس الطبيعي بموازين لا تخطئ ولا تحابي؟!
اسمع ما يقول القرآن: (ولو أن أهل القرى آمنوا اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض؛ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون). (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاتقون) والتقوى كلمة
جامعة ينبغي أن يكون لها مدلولها الأول: وهو العمل الوقائي للخير ولدفع الشر. (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) إلى آخر الآية التي مر ذكرها.
8 -
قم إلى جسمك وقوه بالرياضة وحافظ عليه من عوامل الفساد، ولا تأكل إلا ما يسمح لك به الطب، ولا تسرف في الأكل والشرب، ونق جسمك من الأخلاط والفضلات الضارة. . ثم انظر هل يبقى به من سقم أو كلال إلا ما تستتبعه الحياة العادية في الأرض؟!
وقم إلى منزلك ومتعه بهبات الله من الشمس والضياء والهواء والبعد عن العفوفات والرطوبات ثم انظر هل تجد فيه غير بهجة الحياة؟
وقم إلى فكرك وعلمه وهذبه وسلحه بأدوات العصر وقلبه في أعاجيب الكون، ثم انظر هل تجد بعد ذلك سخطاً في نفسك وتشاؤماً؟! وقم إلى حواسك ومتعها بالجمال المباح ولا تحرمها من زينة الله التي أخرج لعباده، وأذهب عنها الملل والسأم وعنت الجد والعمل ببعض اللهو واللعب المشروع، وغن في غير فحش إن كنت حسن الصوت، وأسمع الغناء والألحان في غير إسراف، وأرقص رقص الرجال، رقص الفتوة وطفور القوة الذي لا تخنث فيه ولا شهوة ولا مخاصرة، لتنفض عن كفيك أعباء الهموم في بعض ساعات حياتك. . . واضحك من قلبك كطفل، وأفرح بالشمس والقمر، وأسلم جسمك للنسمات. ولكن أحذر أن تحول الإحساس بالراحة من عنت الأعمال الجدية إلى شهوة تتملكك وتسلبك التحكم في إرادتك وتمنعك من أداء واجباتك. فإن هذه الملاهي والراحات ما حرمت عند بعض المتزمتين إلا لأنها تطغى على النفوس وتمنعها عن الواجبات. وكما أن الماء يحرم إذا أورث شاربه أذى كذلك تحرم هذه.
وقم إلى طفلك وأحذر أن تلقى بذرة إنسانية مسمومة بالخمر أو بالأمراض الخبيثة حتى ينبت وهو صحيح في ظلمة الرحم ثم حافظ عليه وهو حمل جنين فلا تجعل مؤثراً عنيفاً يؤثر فيه حتى يخرج الطل بريئاً من عوامل الالتواء والاعوجاج فتعهده لتنمية حواسه وجسمه وأفتح روحه وثقفه، وكمله وهذبه.
وقم إلى روحك فأعتقد لها العقيدة الصالحة الصحيحة وتعبد بمقتضاها حتى توقظ فيك حياة الاتصال بباري الكون وتجعلك تحيل عليه جميع أمورك وهمومك وآمالك، وتقدم إلى وجهه جهادك وصبرك. ثم إلى الجماعة التي تعيش فيها وأقمتها على المنطق والمصلحة العامة
واحمل الناس على الإنصاف فإنك حينئذ ترى الفردوس المنشود.
9 -
كل هذا قد لا يملكه الفرد لنفسه وذريته وحياته، ولكن تملكه الأمة لأفرادها إن أرادت! وإرادتها حينئذ تكون من إرادة القدر الإلهي. . بل إرادة النفس هي بدء إرادة القدر الذي في حدود قوانين الحياة. أما القدر الذي يأتي من وراء الحدود فذلك أمره إلى الله وحده. وهو قليل ونادر جداً.
إن محمداً رسول الله هزم هو وجيشه في يوم (أحد) ويوم (حنين) لأن فئة من جيشه لم تأخذ بما أمرها به العقل فتركت في أحد أماكنها في الصفوف لشهوة صغيرة، وأعجبتها كثرتها في حنين فلم يحاب قدر الله الجميع ولو كانوا أصحاب محمد لأن القدر لا يحابي من يخالف قوانين الحياة. وفي ذلك إرشاد بالغ للمسلم حتى يعتمد على فكره وإرادته بعد أن يطلب التوفيق من الله.
إنني أتصور في بعض الأحيان أنني ألقيت بنفسي في النيل، أو لم أنحرف عن طريق ترام مقبل أو سيارة شبراً واحداً، فإذا بحياتي تضيع لأني أنكرت قوة من قوى الطبيعة لم أحسب حساباً أو استهزأت بها. وهي ذات بأس الحديد أو صعق النار أو غمر الماء.
إن الذي يقرا القرآن مليون مرة في مواجهة عدو مسلح لا يجديه ذلك شيئاً كما أن ينقذ آية واحدة منه وهي: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. . . الخ)! ذلك لأن اللص لا يجديه شيئاً أن يحفظ أو يتلو قانون العقوبات، لأن هذا القانون لم يوضع للتلاوة والاستظهار بل للتنفيذ.
فالأوامر القرآنية منزلة لتنفيذها وإقامة الحياة بها لا (لحفظها) وإهمال تطبيقها. وتلك حقيقة كثير من المسلمين فهمها مع الأسف.
وطبعاً ليس في هذا وعد بالجنة في الأرض بناء على تنفيذ هذه الوصايا. . ولكن في هذا زحزحة عن النار. . عن جحيم السخط والألم والنكران والجحود والشك في قيمة الإنسان وفي العدل الإلهي وعن النظر إلى التدين كحياة كآبة وضعف وحزن وضنى وألم وسخط وندم.
وبعد (فلنحاسب) الله (ولنحاكم) عدله الإلهي بعقل سام وفكر كبير كفكره تعالى في الطبيعة كلها. . وهذا لا يكون إلا إذا نظرنا إليه نظرة تتمثل فيها الإنسانية كلها لا نظرة أمة أو جماعة يزعمون أنهم شعبه المختار، فهم لذلك يعتقدون انهم أحق بكل ثروات الأرض وقوة
الأرض وجنة السماء! أو نظرة جماعة ذليلة مستبعدة فقيرة يملكون أن يموتوا أحراراً ولكنهم لم يفعلوا ورضوا بمذلات الحياة.
فمن سوء الإصرار وقلة الإنصاف أن نظل نحاسب عدل الله بعقول أطفال النظر يريدون أن يستأثروا بحبه تعالى لهم وحدهم ويحاربوا من عداهم من عياله.
ومن المضحك أن كل شعب يزعم أنه الشعب المختار. . أفراده أبناء الله وأحباؤه! ومن المؤسف أن كل فرد في كل شعب غير مهذب يريد ثروة الحياة كلها لنفسه وحدها!
إننا نستطيع أن نقيم العدل الإلهي في الأرض وأن نحصل على السعادة إذا تحررنا من تاريخ طفولة البشرية الذي لا يزال يصاحبنا ويتمثل في غرائز الإنسانية تمثلاً فظيعاً يحيل حياة كل أمة إلى شقاء. ويجعلنا كلنا نخسر التمتع اللائق بهذه الرحلة السعيدة التي دعانا الله إليها على هذه الأرض، ويؤخر تقدمنا العلمي الذي يفتح علينا بركات من السماء والأرض تطعمنا من جوع وتؤمننا من خوف وتزودنا من طمأنينة اليقين بعدل الله والرضا عن الحياة.
عبد المنعم خلاف
على هامش النقد
2 -
مليم الأكبر
بحث وقصة. . . عادل كامل
للأستاذ سيد قطب
تقدم الأستاذ عادل كامل إذن بقصته هذه التي تحدثنا عنها - على قدر الإمكان في مقال سابق إلى المجمع اللغوي، فلم تمنحها اللجنة الأدبية جائزة القصة المقررة. وقد وافقنا نحن اللجنة في قرارها على أساس أن مثل هذا الاتجاه مهما يحتمل الكاتب تبعه وحده أمام القراء مباشرة، بلا وسيط من الهيئات المسؤولة.
وعندئذ كتب المؤلف تلك المقدمة الطويلة التي بلغت مائة وثمانيا وعشرين صفحة! وكان في ذلك الخير. فقد أصبحت هذه المقدمة بحثاً مطولاً في اللغة والأدب والفن والأخلاق وصارت هي الأخرى عملاً أدبياً مستقلاً بذاته، قابلاً للنقد والجدال!
ولقد تشعبت نواحي هذا البحث، فلابد من الاختصار في مناقشتها. وتيسيرا للأمر سنسلك نفس الطريق الذي سلكه في إيرادها.
فهم الأستاذ عادل أنه كان هناك اعتراض على (مستوى) أسلوب القصة، فأخذ في بيان ما يفهمه عن الأساليب الجيدة والأساليب الرديئة فنفي أولاً بأن هناك فكرة وتعبيراً كلاهما مستقل عن الآخر، وأن هناك فكرة جيدة تعرض في أسلوب رديء.
(هذا رأي النظرة العجلى) فالفكرة لا تخطر للكاتب مجردة، بل تأتيه في صورة ألفاظ، هذه الصورة اللفظية هي أسلوبه الذي تتحكم فيه الفكرة تحكماً تاماً. لهذا فأنت لا تستطيع أن تعبر عن الخاطر عينه بطريقتين مختلفتين. فحتم أن يتغير المعنى إن اختلفت طريقة الصياغة لأن المعنى الذي يوحي به إليك كاتب ما هو خليط غير منفصل من الفكرة واللفظ
(فمن يفهم الأدب فهماً صحيحاً لا يقر بإمكان وجود موضوع جيد مكتوب بأسلوب رديء، لأنك وأن أعجبت بالموضوع، فأسلوب الكاتب وألفاظه هما اللذان أوحيا إليك بالإعجاب، فهما الصلة الوحيدة بينه وبينك.
(ثمة فكرة جميلة سرت إلى نفسك، وأنت تطالع كتاباً كيف يتم هذا! عن طريق لفظ وفي
صورة لفظ. فحتم إذن أن يكون الجمال في اللفظ إذ لو كان الأسلوب رديئاً لما وصلتك الفكرة الجميلة)
وهذا كلام جيد. ونحن نوافق عليه بنصه وفصه. لا بل أنا قد كتبته منذ أشهر في فصل من فصول كتابي (التصوير الفني في القرآن) الذي يطبع الآن. . .
ولكن من الحق أن نرجع الفضل إلى أهله. فلست أنا ولا الأستاذ عادل، ولا النقاد الحديثون في أوربا هم أول من خطرت لهم الفكرة على هذا النحو كما يقرر هنالك رجال ممن كتبوا عن (البلاغة) منذ مئات الأعوام قد اهتدى إلى هذه الحقيقة؛ ولقد عبرت عن هذه الحقيقة في كتابي على النحو التالي
(إنا لنحسب إن (عبد القاهر) قد وصل في مشكلة اللفظ والمعنى إلى رأي حاسم حين انتهى في (دلائل الإعجاز) إلى أن اللفظ وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ، إنما من حيث دلالته على المعنى. وأن المعنى لا يتناوله البحث من حيث هو خاطر في الذهن، ولكن من حيث أنه ممثل في نظم. وأن المعنى مقيد في وجوده بالنظم الذي يؤدي به، فلا يمكن أن يختلف النظمان ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد.
(لم يصغ عبد القاهر القضية هذه الصياغة فنحن نترجم عنه باختصار، وإلا فقد استغرق فيها كتاباً كاملاً لا نستطيع نقله هنا، ولا نقل فقرات منه بذلك الأسلوب المعقد الذي لا ينسق مع كتاب عن (التصوير الفني في القرآن)!
(ولكن (عبد القاهر) له فضله العظيم في تقرير هذه القضية. ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها لبلغ الذروة في النقد الفني. فنقول عنه: أن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى. وأنه حيثما اختلفت طريقة التعبير عن المعنى الواحد اختلفت صورة هذا المعنى في النفس والذهن. وبذلك تربط المعاني وطرق الأداء ربطاً لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ كل على انفراد. فلن يبرز المعنى الواحد ألا في صورة واحدة، فإذا اختلف المعنى بقدر اختلافها. وقد يتأثر المعنى العام في ذاته، ولكن صورته في النفس والذهن تختلف، وهي المعول عليها في الفن، إذ التعبير للتأثير، فإذا اختلف الأثر الناشئ عنه، فالمعنى مختلف بلا مراء!)
هذا ما كتبته يومذاك. وفيه إقرار بالفضل للمفكر الأول، مهما يكن في عرضه للرأي من
تقصير، ذلك أنه يطالب بالكمال في ذلك الزمن البعيد
ثم يستطرد المؤلف إلى أن اللفظ قد أستبد بالأدب العربي وأن آداب اللغة العربية جميعها آداب لفظية، وشيء كثير من هذا صحيح. هو صحيح بالقياس إلى النثر العربي بلا جدال. أما بالقياس إلى الشعر فالأمر قد يختلف. ذلك أن الشعر على ما فيه من عيوب تعرضت لها في مقالين قريبين بالرسالة واقتبس منهما الأستاذ عادل في الاستشهاد على هذا الرأي بعض الفقرات - أقول على الرغم من ذلك فإنه لم يخل من القليل الجيد الحي المعبر عن الحالات النفسية والخلجات الطبيعية، التي تبرز فيه من وراء الألفاظ حتى لتتواري هذه الألفاظ، والمجال لا يتسع هنا لضرب الأمثال، فأنا معجل عنها إلى قضية أخرى تعرض لها الأستاذ عادل تعرضاً لم يرض الكثيرين وذلك حين يقول:
(ولعل ما يلقي بعض الضوء على سر استبداد اللفظ بأدباء العرب ما قاله (موم) بصدد الأسلوب الأدبي في أمريكا. فقي رأيه أن هذا الأسلوب الذي تستمد معظم مقوماته من لغة الجمهور الحية يعتبر - في نماذجه الجديدة - أكثر أصالة وحيوية من أسلوب الكتاب الإنجليز. وهو يرجع علة ذلك إلى أن الكتاب الأمريكيين نجوا من استعباد الترجمة الإنجليزية للتوراة التي وضعت في عصر الملك جيمس) كما أنهم كانوا أقل تأثراً (بالأساتذة) الإنجليز القدماء. والحق إن تحكم كتاب بعينه في أدب شعب من الشعوب - ومثله تقديس كاتب أو نخبة من الكتاب - معناه منع هذا الأدب من النمو والتطور، والوقوف به عند حد معين لا يتعداه إلا بالثورة والثورة تصلح ولكنها تحطم وتفسد في نفس الوقت. ومع ذلك فقد تصبح في بعض الأحيان شراً لابد منه)
فهم بعض إخواننا من هذه الفقرات أنه يشير إلى أسلوب (القرآن) وتحكمه في نمو الأدب العربي وغبوا لهذا الفهم جداً. . .
وأنا أحب أن أعرض للمسألة على هذا الوجه، وأن أحكم الحس الديني في مسألة أدبية
أن هذا الواقعة غير صحيحة في ذاتها ومن أساسها بالقياس إلى الأدب العربي وعكسها هو الصحيح. والأمر الذي اهتديت إليه في كتابي الذي مر ذكره، قد يبدو عجيباً لأول وهلة.
إنني أزعم أن الأدب العربي لم يستفد بعد من أسلوب القرآن طوال هذه الأربعة عشر قرناً من الزمان! بله تحكم هذا الأسلوب في نموه! لقد بقى القرآن مجهولاً - من مناحية الفنية -
طوال هذه القرون من العرب وغير لعرب على السواء. في الوقت الذي نضج البحث فيه عن النواحي التشريعية والاجتماعية والتاريخية واللغوية. . .
أن سر التعبير القرآني قد بقي مغلقاً فلم يتأثر به الأدب العربي في صميمه مجرد تأثر. هناك اقتباسات ومحاكاة لفظية، ولكن الطريقة والاتجاه قد بقيا سراً مغلقاً إلى الآن، ولو قدر للأدب أن يستقي من هذا المعين لمكان اليوم غير ما كان. . .
إن عيب الأدب العربي الأول - كما قلت في مقالي بالرسالة - أنه ضئيل الحظ من الصور والضلال، وأن الذي يغلب عليه هو المعاني الذهنية والحسية، والتعبيرات المباشرة التي لا تلقى ظلاً ولا تشع حياة. وهو في هذا نقيض الأسلوب القرآني الذي يجعل الصور والظلال قاعدة في التعبير، والذي يحيل المعاني المجردة والحالات النفسية صوراً ومشاهد وظلالاً. كما يحيل كل جامد في الطبيعة شخوصاً حية وكل مشهد من مشاهدها جديد كأنما تراه العين أول مرة والذي يصور المعاني الذهنية كما تبدو من خلال نفس حية. . . وهذا ما ينقص الأدب ليبلغ مداه.
ولن أستطيع هنا ضرب الأمثلة، ولأسرد بحث قد أستغرق مني أكثر من مائتي صفحة. ولكنني أستطيع أن أجزم بعد الاستقراء الممكن للشعر العربي أنه لم يستق من معين القرآن. فقد تحكمت فيه - مع الأسف - تقاليد الشعر الجاهلي فترة طويلة بعد وجود القرآن، ثم تحكمت فيه المباحث الفلسفية والذهنية منذ القرن الثالث بل قبل ذلك، فصار في معظمه أدباً حسياً ثم أدباً ذهنياً، وقلت فيه الصور والظلال لأنه أبعد عن معين الصور والظلال. فإذا آن له اليوم أن ترجع إلى هذا المعين، فسيجد فيه الزاد الكثير!. . . إذا كان تحكم كتاب بعينه في الأدب الإنجليزي قد عوق نموه فأننا كنا نتمنى تحكم كتاب بعينه في الأدب العربي ليدفع به إلى الأمام.
وعلى كثرة ما أجاد الأستاذ عادل وهو يتحدث عن عيوب الأساليب العربية في النثر، وعن الحسية والذهنية في الشعر، وعن القصور المعيب في قواعد النقد، فقد كان اندفاعه العنيف في هذا المجال سبباً في تجاوز القصد، ومجانية الصواب في بعض الأحيان، إننا نتفق معه في وجوب أن تملك نحن اللغة ولا ندعها تملكنا بأساليبها التقليدية، وكل ما ذكره في هذا الصدد بالغ غاية الجودة، ولكنه حين يتجاوز هذه المنطقة بأخذ في الغلو.
يقول مرة: (موضوعات الشعر العربي - فيما عدا الغزل - هي الحكم والفلسفة، ثم النقد في صورة هجاء والوعض في صورة المديح فإذا تركنا الغزل جانباً وجدنا أن هذه الأغراض جميعاً أجنبية عن الشعر، لا بوصفه نظماً ولكن بوصفه أداة تعتمد على إثارة الخيال. .)
وفي هذا الكلام غلظة أساسية. فليس هناك موضوع للشعر وموضوع للنثر. إنما العبرة بطريقة تناول الموضوع. ففي بعض حكم المتنبي مثلاً شعر أصيل ينبعث من نفس حية ويوحي بشتى الانفعالات، وفي هجاء أبن الرومي صور فنية بارعة مليئة بالحياة، وفي بعض الوصف للبحتري إيحاءات وظلال شاعرية. . وهكذا.
فمن الخير أن ننظر في الفن دائماً إلى طريقة تناول الموضوع لا إلى ذات الموضوع. فكل موضوع قابل للفن وقابل للعلم وقابل للفلسفة على نحو من الأنحاء.
ورأي آخر في الشعر الغنائي. . فأنني أرى بيننا فتنة لا تنتهي بالشعر القصصي والشعر الروائي. وأنا أزعم أن الأصل في الشعر هو الغناء. الغناء الذاتي الفردي. وأنه حين يتجاوز هذه المنطقة يكاد يتعدى خير مجالاته. وأنه إذا كان الشعر القصصي أو الروائي قد راج في حقب من الزمان، فإنه الآن غير قابل للحياة ألا بمعجزة، وأنه أن للشعر أن يرتد غناء، وغناء فحسب!
أن الشعر العربي لم يتخلف لأنه غناء، ولكن لأنه لم يكن غناء حقاً! فلم يعرف كيف يغني فينطلق من قيود الحس والذهن إلا في القليل منه، وهذا هو اخلد قسم فيه.
ونحن لا نوافق رأي أرسطو الذي يستشهد به الأستاذ عادل: (إن على الشاعر أن يتحدث عن نفسه اقل حديث ممكن وإلا فهو ليس بالمصور والمحاكي للأعمال الرجال كما يفترض فيه)
فلأرسطو أن يقول في هذا ما يشاء. فنقول له: كلا! عن على الشاعر أن يتحدث عن نفسه اكثر حديث ممكن، وله، أولاً يلفت مرة واحدة إلى سواه!
ولدينا مباحث كثيرة قد أثارها الأستاذ عادل عن الطبيعة اللغة العربية وعيوبها الذاتية كلغة، والخلاف بيننا وبينه طويل في هذه المباحث، وإن وافقناه في الكثير منها، فنحن لا نرى النقص في صميم اللغة، ولكن في أساليبها، والأسلوب من يصنع الأدباء وعليهم وحدهم أن
يطوعوه. وعلى كل حال فنحن لا نجد الفراغ الكافي للجدل حول هذه المباحث، لأننا نريد أن نعرض لنقطة أخيرة.
تلك هي مسألة الأخلاق، ومسألة الكتابة عن العظماء، وبينها نوع من الارتباط، ولا نحب أن نطيل القول في هذا المجال فلنرجع به إلى قاعدة محدودة.
أمن الخير للإنسانية أن تنطلق من غرائزها وشهواتها - بلا ضابط ولا قيود - أم من الخير للإنسانية أن تكون هناك كوابح وزواجر في صورة من الصور؟
وبتعبير آخر: أمن الخير للإنسانية أن تظل خاضعة للشهوات. أم من الخير للإنسانية أن تتحرر من هذا الضرورات - ولو بتسامي والتصعيد إذا كانت لم تبلغ حتى اليوم درجة التحرر التام؟
أما نحن فلا نتردد في اختيار الوضع الأخير. وأما الأستاذ عادل فيجعل (جماعة القلعة) في قصته يرون الخير كله في إباحة كل محرم، وفي انطلاق من جميع القيود الأخلاقية، للوقوع في جميع القيود الغريزية!
وهذا هو مفرق الطريق!
ثم إنه ينكر على بعض كبار الأدباء عندنا، ويستشهد في إنكار هذا برأي للدكتور مندور! أن يكتبوا عن محمد وأبي بكر وعمر وعلي. لماذا؟ لأنهم عظماء! وكان الواجب أن يكتبوا عن (رجل الشارع)!
لكان العظمة جريمة يعاقب عليها أصحابها بالإهمال!
أن رجل الشارع ليستحق الحديث، نعم، ولكن العظيم يستحقه - على الأقل كرجل الشارع - والأدب مكلف أن يتحدث عمن يحسن الحديث عنه، من هؤلاء أو من هؤلاء، وكل تحكم في اتجاهه إنما هو مجاوزة للحق ومجنبة الصواب.
وبعد فليس ما ناقشته هنا إلا جانباً ضئيلاً مما طرقه المؤلف من مباحث، وحسبه أن يثيرنا للرد أو الموافقة، فهذا أو ذاك نجاح ولاشك للكاتب.
سيد قطب
أثر الرسالة في الأدب المعاصر
بمناسبة دخولها في السنة الثالثة عشرة
للدكتور سيد حنفي
راودت خاطري طويلاً فكرة الكتابة في أثر الرسالة في الأدب المعاصر. ولم يكن يمنعني عن المضي فيها غير انتظار المناسبة، فأنا رجل بطبيعة منتهى لا أقبل على عمل إلا بميعاد معلوم، ولا أقيم له كياناً إلا بميزان محدود. ثم كانت مناسبة دخول الرسالة في عامها الثالث عشر فتجسمت الفكرة يقيناً فعملا، وأسرعت إلى الكتابة يدفعني عاملان مهمان: الأول ما يضطرب في نفسي من رغبة الإنصاف، والثاني ما يغمرني غمراً من أطايب الرسالة وكتابها وشعرائها شيباً وشباناً.
ليس من شك في أن الكتابة عن أثر الرسالة في الأدب المعاصر تسدي خدمة كبيرة لمحبي الأدب والتاريخ الأدبي خاصة، فليس من الميسور على القارئ في المستقبل أن يلم بأطراف نهضتها الأدبية العظيمة في مجلدات ضخمة قد يتيسر له الإطلاع عليها وقد لا يتيسر. ومن ثم فإن الكتابة المركزة التي ترسم حدود المدارس الأدبية الكبيرة التي نشأت في ظلال الرسالة وكان قادتها من كتابها وشعرائها، إن هذه الكتابة تيسر الأمر الذي يصعب في الحالة الأولى، وتوفر الجهد لمن يريد الإطلاع والمعرفة وإقرار الحقوق لأصحابها.
ولا يهمني هنا أن ارسم الخطوط والظلال كاملة لقادة هذه المدارس، ولهذه المدارس نفسها، فهذا لا يتسع له مقال، وإنما يحتاج إلى كتاب. وحبذا لو نهض بهذا العمل الجليل أديب فاضل من أدباء الرسالة، والذي أريد أن أكشف عنه وأقدمه إلى القراء هو تقسيم أدباء الرسالة وشعرائها إلى مدارس متميزة متباينة لكل منها خصائص واضحة.
وقبل كل ذلك سنقدم أسماء كبار كتابها وباحثيها من شيوخها، وأسماء كبار كتابها وشعرائها ومفكريها من شبابها، وسنضطر إلى وضع اسم واحد في قسمين من تقسيماتنا لجمع احبه بين النثر والشعر مثلاً. وسيرى القارئ أيضاً أننا سنذكر أسماء لا تكتب في الرسالة اليوم، ولكن الحق والغيرة الأدبية يقتضيان أن نذكر فضل الرسالة عليهم وفضلهم عليها ليتم فضلهما معاً على الأدب عامة، فمن شيوخها الأفاضل: الأساتذة الإجلاء: الزيات، وطه حسين، وأحمد أمين، والعقاد، وعزام، والرافعي، ومظهر، ومحمد عوض، وزكي مبارك،
ومحمود البشبيشي، والغمراوي، والنشاشيبي، والرصافي، وأحمد زكي، وعبد المتعال الصعيدي، وتوحيد السلحدار، وتوفيق الحكيم، والأب أنستاس الكرملي، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي، والنشار، وجميل صدقي الزهاوي، وإيليا أبو ماضي، ومحمود غنيم، وخليل بك مطران، وقدري طوقان، ورامي. ومن شبابها العبقرين: الأساتذة الكرماء: علي طنطاوي، وعبد المنعم خلاف، وسيد قطب، وصلاح المنجد، ومحمود الخفيف، ومحمد مندور، ودربني خشبة، ومحمود إسماعيل، وحسين البشبيشي، وأمجد الطرابلسي، وسعيد العريان، وصالح جودت، ومختار الوكيل، ونجيب محفوظ، ومحمود السيد شعبان، وزكريا إبراهيم، وفهمي عبد اللطيف، وعبد الرحمن الخميسي، والعوضي الوكيل، والعجمي، والصيرفي، والدكتور عزيز فهمي، وفتحي مرسي، والجبلاوي، والزحلاوي، وعتيق. ولن أستطيع نسيان السيدة الزهرة، والآنسة فدوى طوقان.
هذه أسماء لامعة في تاريخ الأدب، والفضل في ظهورها في الأفق الأدبي يرجع إلى الرسالة قدمناها بغير ترتيب لتمهد للقارئ السبيل إلى تقاسيمها إلى مدارس تجمعها الرسالة.
رأينا أن بعض هذه الشخصيات قد انفردت باستقلال في شخصيتها، بل إن قوة هذه الشخصية المنفردة قد أثرت في غيرها فكونت مدارس سنعرض لها. ومن هذه الشخصيات الأساتذة: الزيات والرافعي والعقاد، وهؤلاء كان لهم حقاً مدارس ملموسة الأثر في الرسالة. أما طه حسين وزكي مبارك فمع حيويتهما الفائقة فإن أثرهما وإن عظم في الأدب عامة، لا نستطيع أن نجد له خطوطاً بارزة في مدارس الرسالة الأدبية. وسنتكلم عن هذه المدارس.
مدرسة الزيات
ليس من شك في أن للأستاذ الزيات طريقة فذة واضحة التقاسيم، قوية السبك، ولعل ابلغ بيان لها وأقوى دفاع عنها هو ما كتبه في سلسلة مقالاته عن (الدفاع عن البلاغة) ولسنا هنا بصدد توضيح معالمها، وإنما علينا أن نشير إلى تلامذتها وحملة مشعلها. وسنجد أن الأستاذ الزيات وإن كان كاتباً فحسب قد أثر في شعراء كثيرين.
فمن كتاب هذه المدرسة مع تفاوت في القوى والقرب أو البعد عن الأصل: الأساتذة الأفاضل: صلاح الدين المنجد، وشكري فيصل، ودريني خشبة، ومحمد فهمي عبد اللطيف، ومحمد محمد المدني، وعبد الرحمن عيسى، ومحمود عزت عرفة.
أما الشعراء الذين تلمح أثر الزيات فيهم فيمتاز كل منهم بأنه ملك القدرة على الكتابة نثراً رصيناً وشعراً قوى السبك حلو الرنين، وفي مقدمتهم الأساتذة: علي محمود طه وعبد الغني حسن ومحمود الخفيف وحسين محمود البشبيشي وأنور العطار ومحمود السيد شعبان. وكل منهم يحتل مكاناً عالياً في الخلود الأدبي مع اختلاف في المزاج والاتجاه سنعرض له أخيراً عند الكلام عن المدارس الرسالة الشعرية.
مدرسة الرافعي
كون الرافعي رحمه الله مدرسة كبيرة، ولكنها في الحقيقة لم تنجح كل النجاح في تقليده تقليداً كاملاً، وإن كانت قد أحبت نهجه ودافعت عنه وألف بعضهم فيه كتاباً قيماً ولعل صعوبة التقليد للرافعي ناشئة عن خياله الخارق للعادة ودرايته العجيبة بكل شاردة أو واردة في اللغة والأدب. ومن تلامذة هذه المدرسة من لم يتأثر إلا بها، ومنهم الأساتذة الإجلاء سعيد العريان، وعلي الطنطاوي، ومحمود محمد شاكر. ولعل أقرب الشعراء إلى هذه المدرسة هو محمود حسن إسماعيل، ولكننا قد نلمح للرافعي أثراً في بعض الشعراء وسنعرض لذلك بعد الكلام عن مدرسة العقاد.
مدرسة العقاد
أما العقاد فله مدرسته وله شخصيته وهي الآن أشد أثراً، ولم ينجح كل تلاميذه في تقليده وإن نهجوا نهجه في طريق البحث والتفكير ووسائل التقسيم والتفسير. ولقد برز منهم أساتذة أفاضل في مقدمتهم الأساتذة: سيد قطب، وعلي أدهم، والزحلاوي والجبلاوي. وممن تأثروا به في الشعر غير سيد قطب والجبلاوي مخيمر والحملاوي والعوضي الوكيل وخاصة في بدء نشأتهم
وهناك مدرسة شعرية بين المدارس الثلاث: وهم شعراء جمعوا بين القوة الديباجة ورقة الموسيقى من الأستاذ الزيات. وقوة الخيال الشعري من المرحوم الرافعي. وملكوا العمق التأملي في الخفايا الوجدانية من الأستاذ العقاد، وأغلب هذه المدرسة من الشباب وفي مقدمتهم الأستاذ محمود إسماعيل والأستاذ سيد قطب والأستاذ حسين البشبيشي والأستاذ عبد الرحمن الخميس وفي هؤلاء صوفية حبيبة وروح فني وضاء
أما الأساتذة: الوكيل والعجمي وشعبان وعبد الغني حسن وزكي مبارك في شعرهم قوة ديباجة وموسيقية ولكنهم يلمسون المعاني بهوادة.
مدرسة الإعلام الثقاة
ولعلها كلها من شيوخ الرسالة الأمجاد، وأن كل عالم منها لأشهر من أن يعرف في الأقطار العربية، بل إن آراءهم وأقوالهم وتحقيقاتهم الأدبية واللغوية لتحمل القول الفصل، وهم الأساتذة الإجلاء العلماء إسعاف النشاشيبي والأب أنستاس واحمد العوامري ومحمود البشبيشي والزيات والمبارك، وهؤلاء ينظر إليهم كقادة يحافظون على اللغة فوق قيادتهم للأدب.
وبعد فهذه كلمة موجزة تحتاج إلى تفصيل.
دكتور
سيد حنفي
-
شهيد كربلاء!
(بقية المنشور في العدد الماضي)
للأستاذ محمود الخفيف
ويومٍ من الدَّمِ إصباحُه=علَى الأُفْق ذائُبه الأْحُمر
به صُور الهْولِ قبل الوقوع
…
كأنَّ السماء بها تُنْذرُ
كأنَّ الرُّدى شَبحٌ ماثلٌ
…
إليه قُلوبُهم تَنْظُر
من الحَر تُشوَى الوجوهُ ضُحىً
…
كأنَّ الجحِيم بهِ تَزْفُر
بَيْمينِة الصَّف قَامَ زُهَيْرُ
…
وقَام حبيبٌ عَلَى المْيَسرة
تَغَلَغلَ في كُل نَفْسٍ يقينٌ
…
تُلاقي بهِ الموتَ مستبِشرَه
وَكْمَ من كَمى ترى وَجْهُه
…
فَتُبْصر في وجْهه قَسْوَره
مِنَ الجِد تَعْبَسُ تلك الوُجوه
…
ومما ارتَضَتْهُ تُرى مُسِفره
وهذا الْحَسْيُن فَتى هَاشمٍ
…
بقَبْضَتِه سَيْقُه مُنْتَضى
تلألأ في الصف وَْجُه الُحْسَيْن
…
كَصارِمِه الغَضْبِ إذ أَوْمضا
مَخَايُل في وجِهه من أبيِه
…
علَى إمامِ الهُدى المُرْتَضى
يُسَوى الُكماة ويدعو الرُّماةَ
…
وَيخضعُ لله فيما قضى
به غُلةٌ والفُراتُ الدَّفوقُ
…
على قَابِ قَوْسَين أو أَقْربُ
تُلألىءُ شْمسُ الضحَى ماءهُ
…
فلولاؤه للحشَا مُلهبُ
وقد أضرمَ الحُّر أنَفَاسهُ
…
ونارُ الوغى حَوْلهُ تَصْخَبُ
يظلُّ على قَرنِ شَيْطانها
…
نذيرٌ بأهْوالها ينعبُ
أبوُه عَلَى الحوضِ يسقى العِطاشَ
…
إذا الحْشرُ عجَّ بهم وأضطرَمْ
فيَا وُيحهْم يمنعون الحسينَ
…
من الماءِ وهْوَ لديهم عَمَمْ
وكم بلَّ غُلةٌ ذي غُلةٍ
…
حُسَيْنُ وكم كَانَ عَينَ الكرمْ
حياً في الجدوبِ سني في القُطوبِ
…
حمًى في الخطوب غًنى في العدمْ
يُعالجُ كَل فَتَى سَيْفَهُ
…
وقد شَهد ألا كثيرين نفاراً
تَنادوْا وقد أحْدَقوا بالظماءِ
…
إذا التفَتَوا يمنةً أو يسَاراً
وَكَم ظامِئ بينَ تلك الخيامِ
…
إلى الرَّوعِ هز الُحسامَ اضْطراراً
لهيفٍ إلى الماء وهْوَ الذي
…
بكل وغًى من يُطبق اصطبارا
عَلَى فَرس زافرٍ باللهيبِ
…
دعُاهم وفي يدِه مُصْحَف
أصيحوا فإني لكم ُمْنذرٌ
…
ألم يأنِ يا قَوْمُ أنْ تُنصِفوا
لئن كانَ سَفْكُ دمي همكُمْ
…
فأعفوا العطاشَ هنا وارأفوا
أمامكم الظمأُ المستحِر
…
ضُحَى الحَشْرِ إذ يْعُظمُ الموقفُ
ألسْتُ ابنَ فاطمةٍ ويحكْم
…
أجيبوا ألسْتُ ابنَ بنْت النِبي؟
أفيقوا أتْنَسون أنَّ أبي
…
علىُّ وحَمْزةَ عمُّ أبي؟
وَجَعْفَرُ من كان يُدْعي بذي الج
…
ناحْينَ عمى فَتَى يعرُب؟
حذَارِ لكُم أن ترُيقوا دمي
…
فساء لكْم ذَاك منْ مَطْلبِ
وشقَّ الفضاء صُراخُ النساءِ
…
فطنَّ لقُربِ المصاب الجللْ
لقد أحْدقتَ قَارعاتُ الخطوبِ
…
فَما مَسَّه وهنُ أو وجلْ
تعاظمهُ أمرُ هذا الصُّراخ
…
فَمادَ من الُحْزَن ذاك الجبلْ
تَخاذلَ عَزْمُ لهُ صارمٌ
…
وخارَ. . . فوارحمتا للبطلْ!
وعاد الحسينُ ينادي العدو
…
أثارٌ دعاكم لهذا العِداء؟
كرهْتُ لكْم أن تَشُدوُّا علينا
…
جُموعاً، وأن تبطشوا بالنساءِ
لئن كان بيني وبين امرئ
…
دمٌ فَلْيُجب بعد هذا النداء
عَجِبتُ! ألم يَدْعُني قومكْم
…
إليهم ففيم اسأتمْ لقائي؟
وقال له قائلٌ منهُمو
…
إذا رُمْتَ أمناً فبايعْ يزيدا
مقالةُ مُستهزئ شامتٍ
…
يُمنى بوعدٍ ويُخفى وعِيدا
ورَد الحسينُ: أباتَ الكرامُ
…
بنو هاشمٍ صاغرين عبيدا؟
دعَوْتُ ولكن أراكْم ضلَلَتْم
…
بما تطلبون ضلالاً بعيدا
تَداعْوا إلى الطَّعنِ لكنما
…
تَخَلف عن جَمْعِهمْ بَاسِلُ
مَشى في ثلاثين من جُنده
…
أماثلُ ما فيهُمو ناكلُ
فوارسُ خَبثْ بهم خيلهمْ
…
وفيهم أخو الرُّمحِ والنَّابلُ
أصاخوا لقَولِ الُحسين كما
…
يُفيقُ من الغَفلةِ الغافلُ
هو الُّحر ثارتْ به نخوةٌ
…
فَهز بها بعض فرُسانِه
فأقبل مُعْتَذراً للحسين
…
ومنْ حَوْلِه خيرُ أقرانِه
يقولُ بريء أنَا من يزيدَ
…
وآل يزيدَ وأعوانِه
تجبر شيطانُه ابن زيادٍ
…
فَسُحقاً له ولشيطانهِ
وصَاح: ألا يَا خُصوم الحسينِ
…
لأَمكُمو يا لئامُ الهبلْ
أهذا الفراتُ حرامٌ عليه
…
حلالٌ لكل لهيفٍ نزلْ؟
تعبُّ الخنازيرُ منه وما
…
يُرى نابحٌ غلَّ إلا نهلْ
وتَنْهَلُ منه سباعُ الفلَا
…
ويصرعُ آل الحسين الغللْ؟
لك الويلُ ياابن زيادٍ ويا سوءَ ما أنت ماضٍ له يا عُمر
غداً يا بن ذي الجوْشن أصلَ الجحيم
…
فأنْتَ وقودٌ لها يا شْمر
حَلْفتُ لأقتْحَمِن الحتوفَ
…
وما كنتُ فيها امْرَءا ذا خورْ
فإن أنَا متُّ فداَء الحسينِ
…
ففي جنةٍ مقْعَدِي ونهرْ
وغيظ العُدو فشدوا صُفوفاً=ففي زحفهمْ غلطةٌ واحتدامُ
فوا عجباً زلزلتْ جَمْعَهُم
…
من القِلة الظامئينِ سهامُ
وشاءوا مُبارزةً فاثبري
…
لهم مِنْ فريق الحسين عصامُ
فجْندلَ من جمعهم فارسَيْنِ
…
وفي السيف والقلب منْهم ضرامُ
وطالتْ مُبارزةٌ بينهمْ
…
فَكَرَّاتهُم كلها خاسِرَة
فما الَتَقتِ الخيلُ إلا جَرَتْ
…
بفرسانها خيلهم ناَفِره
كأنَّ الحسينَ وأصحابهُ
…
ضَرَاغِمُ مُهتاجةٌ زائره
كرامٌ على قلةٍ صابرونَ
…
بدُنيا هُمو اشْتَروا الآخره
وخافَ المَبارَزةَ الأكْثرونَ
…
فشدُّوا على الظَّامئينَ صُفوفاً
فَكَمْ كرةٍ ردَّها صَفْهُم
…
ومَا وَهَنوا حينَ خاضو الحتوفاَ
وظلَّ الحسينُ لَهْمُ داعياً
…
عطوفاً على المنهكينَ رؤوفاً
وحسهمو ما بهم من أوامٍ
…
فكيفَ وهُمْ يَدَْفُعون الألوفَا
فواجعُ تَغْشَى صميم الفُؤاد
…
وللدم رائحةٌ تُنْشَقُ
وأولُ ما خرَّ منهمْ شهيدٌ
…
وجَمْعُ العدُو بهم مُحْدقُ
دَعَا للحُسينِ وأوصَى بهِ
…
وَجَفْنَيْه كفُّ الرَّدى تُطبقُ
وبشرهُ صَحْبُه بالنعِيم
…
فهشَّ لهُمْ وجْهُه المُشرقُ
بَمْيَسرة الجيش شدَّ الدعىُّ أبنُ ذي الجوشن المستطيلُ الأثيمُ
دَنَتْ خيلهُ مِنْ مكانِ الحُسينِ
…
فآذاهُ لولا كفاحٌ عظيمُ
وزُحزحَ بعد اقتتالٍ مريرٍ
…
ودون الُحسين جهادٌ صريمُ
تكاثلَ من حَوْلِه الذائدون
…
فخيلٌ تَشُدُّ وَخَيلُ تَحُومُ
طغَى وتمادى ابن ذي الجوْشنِ
…
فكلُّ حًمى عندهُ مُسْتَباحُ
تصدَّى ليحرِقَ تلك الخيامَ
…
وكَمْ ملأ السمعَ منها نُواحُ
ولولا فَتى عير ابن الدَّعى
…
لمَا عفَّ وهو السَّفيهُ الوَقاحُ
دعا بالرُّماةِ فَخَفَتْ إليه
…
مئاتٌ غلاظٌ تشدُّ القسيا
بها عقرُوا خيْلَ صَحْب الحسِين
…
فلم يذروا دانياً أوْ قصَّيا
هَوَى الُحرُّ مُرتجَزاً هَاتِفاً
…
أنَا الُحر مَا كُنْتُ إلا الأبَّيا
فإن تَعُقروا فَرَسِي لن أذلَّ
…
سَأقْتَلُ دون الُحسيِن رَضيَّا
وَشدَّ زُهيْرُ وَجُنَّ القتالُ
…
وزُلزلتْ الأرضُ زلزْالها
وأوْمَضتِ البيضُ تَحْتَ الغُبارِ
…
وردَّدتِ الخيل تَصهالهَا
تَهَزأ كُلُّ فَتى بالحتوفِ
…
فحاضَ هنالك أَهْوالها
وَرُد الأثيمُ على رَغْمهِ
…
وقدْ هَاجَتِ الحَربُ أبْطالها
وكرَّ حبيبُ على ألاكثرينَ
…
وكر أباةٌ شدادٌ مَعَهْ
فَقَاتَل فيهم إلى أنْ رَمَاهْ
…
عدوٌ بسَهْمٍ لهُ أوْقَعَه
فهبَّ فعاجلهُ آخرُ
…
بَسْيفِ فأوردهُ مَصْرَعه
وكَمْ هدَّ هذا المصابَ الحُسينَ
…
وأسْبلَ من حَزَنِ أدمُعه
يقول: لقدْ جَل فيه المصابُ
…
فَنَفْسي منْ ساعَتي أَحْتَسب
فشقَّ على الحر قوْل الحُسينِ
…
وهيجهُ دمعه المُنسكِب
فأقبل مُرتجزاً مُنشداً
…
سألقى الردى عَنْك إذْ يقتْرَب
وأضربُ دونكَ لا أستطارُ
…
ولا أستكينُ ولا أنقلِبْ
وَمَا لبثَ الحُر إلا قليلا
…
يخوض الختوفَ وَيَستْقَيلُ
فَخَيلٌ تُحَمْحمُ مُرتدةً
…
وأُخْرى تَصَدى له تصهلُ
وقَدْ شدَّ جمعٌ كبيرٌ عليه
…
ودارَ به وَهْو مُستْبِسلُ
هَوى جَسَداً لا حراك بهِ
…
يُعممهُ الدَّم والقَسْطلُ
وَجَاهَد فيهمْ زُهيْرُ وشدَّ
…
فكانَ القويَّ الجليدَ الفتَّيا
يقول: فَدْيتكُ أقدمْ حُسَيْنُ
…
غداً تلقَ جدك طه النبَّيا
وتلْقَ أباكَ الإمَام الوضئَ ال
…
تقي النقَّي النَّجيد عليَّا
وَسبطَ الرسُولِ أخاك وذا ال
…
جناحَيْن زينَ الشبابِ الكمَّيا
فما زَال يَضْرِبُ دونَ الُحسينِ
…
وَمُذ خَاضَ هَول الوغى ما اسْتَراحاً
تحدى الحتوفَ وقدَّ الصفوفَ
…
وردَّ السيوف وَصَد الرماحَا
أحاط بِه مُثْخَناً فارسان
…
فما كان إلا أشدَّ كفاحاً
وما ماتَ حتى بدا عاجزاً
…
من النزفِ عَن أن يَهُز السلاحا
تفانَي الرجالُ وقلَّ النصيرُ
…
فما للْمُكاثر لمْ يَرْجع؟
ولبسوا إن خرَّ مِنهُم كثيرٌ
…
يُحسونَ بالنقصِ في موضعِ
ويَشعر بالنَّقص جُند الحُسينِ
…
إذا ما شهيدُ إليهِ نُعى
ألا كَمْ تَهَاووا لديِه تباعاً
…
وفي الجو وقدٌ وفى الأضْلُع
بقيتهم حوله يَدْفَعونَ
…
مُشاةً فما فيهمو فارسُ
وماتوا لدْيه فرادى ومثنى
…
وكلٌّ لفُسطاتِه حَارسُ
تكاثَر صَوْبَ الُحسينِ الَعدُو
…
إلى أن تَصَدى لَهُمْ عابِس
فذاق الرَّدى زاحِفاً وَحْدَه
…
وكلُّ فَتى باسِمه هَاِمسُ
يَدُ الموت لم تُبقِ من صحبهِ
…
كميا، وَهْولُ الوغى فاجعُ
تَقَدمَ أخْوتُه يدفعون
…
وما للقضا منهمو دافع
وأبناء أعْمامِه حُومٌ
…
يذودون وَهْوَ لهم دامعُ
يلاقون بين يديه المنون
…
أباةً فما فيهمو جازِع
فواحسرتا كم رمى الباطشون
…
من الأفْرُعِ الشم من هاشمٍ
وَوالَهْفَتا إذا ينادي علىُّ
…
أبي وهو بين يدي غاشِم
فَيَسْعى إليه أبوه الحُسينُ
…
وليس من الموتِ من عاصِم
وَتصَرُخ زَينْبُ: يا بن أخي
…
وتحنو على البطلِ النائِم
بكيت لأمْردُ جرَّ الحُسَامَ
…
وَحيداً يُنافحُ عن عمهِ
غُلامٌ كما أعتدلَ السْمهَريُّ
…
وَعَزمُ المهَّند من عَزمِه
فَتى دِرْعُه البأسُ لمْ يدَّرع
…
بغَيِر الإزار على جِسمِه
هو القاسمُ ابن أخيه الإمام
…
بَقيةُ مَنْ خَر من قومِهِ
فيا هولَ مَصْرَعه إذا أحاطت
…
بهِ الخيلُ وَهْوَ لها صَامدُ
فيهتِف: عماه مُسْتَصرخاً
…
ويهَوِى وقَدْ شَجهُ مَارد
برجْليِه يَفْحَصُ مَّما به
…
وَبَينَ العِدا عَمهُ جاهدُ
على صدرِه أحتمل ابن أخيه
…
ولكُنه جَسَدٌ هامِدُ
وأعيا على الباب فُسْطاطِه
…
يضُم صبيا إلى صدْرِه
فبينا يشمُّ الحُسينُ ابنه
…
ويوصي بهِ وَهْوَ في حجْرِه
بَسْهمٍ تصيدهُ قانصٌ
…
ففار بهِ الدمُ من بحِره
تلقى دم الطفْل مُستَسلماً
…
لما قدَّر الله مِنْ أمرِه
وجاءتْ له امرأةٌ خلسة
…
بماء وَهُمْ حولهُ حُومُ
فما كادَ يَشربُ حتى رَماه
…
بَسْهمٍ أخو خسةٍ مُجْرم
أصابَ بهِ الوغْدُ شدْقُ الُحَسين
…
ففار علي الماء مِنْهُ الدمُ
دَعا ربهُ: رَب خُذْ ظالمِي
…
فأنْتَ بما ظَلُموا أعْلَم
ألحَّتْ على البطل النائباتُ
…
فمن لوحيدٍ ذوي. . . مَنْ له؟
تَوقَد من ظَمأ جوْفه
…
وأصحابه رممٌ حوْلهُ
وَجَمعُ العَدُو محيطٌ به
…
وإنْ خافَ كلُّ امرئ قَتلهُ
تهَيب أن يْقُتلوا ابن النبي
…
شياطينُ كم بطشوا قَبْلهُ
وظل يحرصُ أصْحَابه
…
أضل العدا شمرُ الفاجرُ
وهونَ قَتْلَ الحسينِ فشدُّوا
…
عليه وليس لهم زاجرُ
فهبَّ وصمصامه مصلتٌ
…
كما وثَبَ الضَّغيم الثائرُ
فكَمْ كرةٍ هدَّها بأسُه
…
وزلزلها عَزْمُه الصابرُ
ألحُّوا على البطل المستَميت
…
فشدُّوا شمالاً وشدُّوا يميناً
يقوم ويكبوا وهم يضربون
…
وتأبى عريكتهُ أن تلينا
إلى أن هوى مثخناً بالجراح
…
على وجهه سمةُ الصابرينا
الخفيف
البريد الأدبي
نون النسوة
(قالوا أن النساء قرون في مؤتمرهن الذي انعقد في القاهرة
منذ قليل المطالبة بحذف نون النسوة من اللغة تحقيقاً
لمساواتهن بالرجال، فنظم الدكتور عزيز فهمي هذه الأبيات
في ذلك):
هَلا أتَاكَ حَدِيثُهَّنه؟
…
الُّنونُ ليست نُونَهنَّه
هذا القَرارُ وثيقةٌ
…
أفْصحْ وذَكرْ جَمْعَهُنَّه
النونُ تَخْدُش سَمْعَهُن
…
. . وما أَرقَّ شُعورهنه؟
ظلم الرجالُ نساءهم
…
ما للرَّجال وما لُهنَّه؟
النونُ فَرْضُ كفايةٍ
…
يكفي النساَء فروضُهُنه
والميمُ أَحْسَمُ للخلا
…
فِ فلا تُثيروا كَيْدَهُنه
بَرئ النساءُ من الأنو
…
ثة مُذ مَلَكْن قِيادهُنه
عِفْنَ الخِباَء وما الحيا
…
ةُ إذا لزمْنَ خُدورهُنهَّ؟
عبءُ الأموِمَة فادجٌ
…
حَسْبُ العقائِل حَمْلُهنَّه
حَسْبُ العقائِل ما احْتَمَلنَ وما حَمَلْن من الأجنَّه
ما للغواني والرضا
…
عةِ؟ أنَّ هذا الفرضَ سُنَّه
فإذا صَدَقْنَ فلا جُنا
…
ح وأن عَطَفْنَ فتَلك مَّنه
رُفِعَ العقابُ فلا نقا_بَ لَهُنَّ غَيْرَ حياَئهُنَّه
أسَر الرجالُ نساءهمْ
…
حتى استْحال إسارُهَّنه
وطغى الحليلُ على الحلا
…
ئلِ واسْتباحَ حَريَمُهَنه
عَقد انوثق فما شَكَيْنَ ولا بَرمْنَ بحالهَّنه
ومكَرْنَ مَكْرَ خَديعةٍ
…
وجَذَبْنَ من يَدهِ الأعِنه
الطيرُ راشَ جَناحهُ
…
قَدَرٌ يُنيُر لهُ الدُّجنه
وتَمردَ الحَملُ الوديُع على الذئابِ المُطْمئِنة!
عزيز فهمي
الرصافي وأبو حنيفة
كتب الأديب راشد سليمان تحت هذا العنوان في عدد 598 من الرسالة ينكر على الرصافى قولة أن أبا حنيفة يجير قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة، ويطلب منة نصاً يؤيد ما قاله وأنا بذكر هذا النص فأقول: في كتاب التلويح والتوضيح لصدر الشريعة، بعد كلام طويل في تقسيم اللفظ بالنسبة للمعنى (وقد روى عن أبى حنيفة انه لم يجعل النظم لازمناً في جواز الصلاة خاصة، بل اعتبر المعنى فقط حتى لو قرأ بغير العربية في الصلاة من غير عذر جازت الصلاة عنده، وإنما قال خاصة لأنه جعله لازماً في غير جواز الصلاة لقراءة الجنب والخائض حتى لو قرأ آية بالفارسية يجوز لأنه ليس بقرآن لعدم النظم).
وفي بحث في ترجمة القرآن للإمام الماغي شيخ الجامع الأزهر: (قال الصدر الشهير في شرح الجامع الصغير: وهذا تنصيص على أن من يقرأ القرآن بالفارسية لا تفسد صلاته بالإجماع). وقال شارح الهداية: (والخلاف في الاعتداد ولا خلاف في أنه لا فساد). وقال الزيلعي في شرح الكنز: (ولا خلاف في الفساد حتى إذا قرأ معه بالعربية قدر ما تجوز به الصلاة جازت صلاته). وقال أبو اليسر: (والجواز عند العجز بالفارسية نص على أن القرآن بها لا تفسد الصلاة إنما الشأن في جواز الصلاة بها (كذا في جامع قاضيخان).
وقد تبين من هذا أن أبا حنيفة يجوز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة ولو بغير عذر. وإما الصاحبان فلا يجوز أنها ألا إذا عجز عن العربية لأن القرآن أسم لمنظوم عربي بقوله تعالى: (أنا جعلناه قرأناً عربيا) والمراد نظمه. ولم يكن فيه بهذه اللغة، وقوله تعالى:(إن الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى) وصحف إبراهيم كانت بالسريانية، وصحف موسى بالعبرانية فدل على كون ذلك قرأناً.
عبد الفضيل يوسف رجب
الأستاذ النشاشيبي
عاد إلى مجلسه في (الكنتنتال) أديب العربية وخاتمة أدبائها المحققين الأستاذ إسعاف النشاشيبي. ومجلسه حيث كان متعة للعقل والقلب واللسان: فيه سلاقة النديم، وريحان اللبيب، ونقل الأديب، ونوادر اللغوي، وطرف المؤرخ. وقد زار الأستاذ النشاشيبي دمشق في مهرجان المعري ونزل بأريان بالأس فنزل معه الفضل والعلم وما يصحبهما من كل أولئك. وحضر مجلسه فيه الأستاذ صلاح الدين المنجد فقال يصفه:
(هذا الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي إنه نسيج وحده في كل شيء: في أسلوبه المتين، وفي حديثه المبين، وفي إلقائه النادر، وفي سعة علمه، وكثيرة محفوظة. فلا يشابهه أحد، ولا يجازيه أحد
كانت حلقته في الأريان بالاس مهوى نفوس الذين يتذوقون الفصاحة، ويرغبون في سماع محاسن العربية. ينفض أناس، ويقبل أناس، وهولا يمل، يسمعهم من طريف أدبه، ويروي ظمأهم من روائع علمه، ويأسرهم بتهذيبه وتواضعه
قابلته بعد عودته، أساله عن صحته، أملاً ألا تكون هذه الرحلة الطويلة المتعبة المستعجلة قد أضرت به، فأجابني فرحاً:
- لقد كشفت سراً. . . في معرة النعمان!
- سر؟
- نعم، سر عظيم. . . ما كنا نفطن غليه لولا إن رأينا بلدة أبي العلاء
- وما هذا السر؟
- كان أبو العلاء منقطعاً عن أكل اللحم، وكان يمن علينا بذلك، فلما رأيت أن في المعرة التين، التين الحلو، المشوب بالعسل المصفى، الكبير الحجم، وأن فيها العدس المغذي، اللذيذ المفيد، قلت: ما اللحم أما تين المعرة وعدسها؟ أما لو كان لي معدة قوية كمعدة أبي العلاء وكنت في المعرة آكل من تينها أطعم من عدسها أذن لآليت إلا أذوق ما حييت لحماً. .!
فلا يمن علينا أبو العلاء. . . فقد كشفا السر. . .!
ثم أطرق وقال: الحق أن أبا العلاء شيء عظيم. لقد أحب الحياة، وود لو عاش ألفاً من السنين. وكان متفائلاً كأعظم المتفائلين. وكان يكره الموت إلا موت الأبطال الخالين. وكان مجنوناً. . . جن بالقرآن وجن باللغة العربية، فعرف من شواردها، وفصيحها، وصرفها،
ونحوها، وشعرها، ما لم يعرفه أحد. ورأت هي حبه، فأطاعته فانقادت له فملكها وأكثر من تردد محاسنها لأنه يحبها. . .)
جماعة نشر الثقافة الإسلامية بكلية الآداب
تكونت بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جماعة النشر الثقافة الإسلامية) تحت رئاسة شرف الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام. وغرض الجماعة تبين ملامح الحضارة الإسلامية على أسس علمية وإظهار نواحيها الأدبية والعلمية والفنية ودراسة التاريخ الإسلامي على أسس منهجية تحليلية جديدة والعمل على صوغ التراث العلم الإسلامي في قالب جديد يتمشى مع العلم الحديث ومقتضيات النهضة المعاصرة.
وقد وضعت الجماعة منهاجاً يحقق لها هذه الخطوات، وذلك بأن نظمت سلسلة من المحاضرات يلقيها بالكلية كبار المشتغلين بالفكرة الإسلامية. وستقوم لجان من أعضاء الجماعة وممن يريدون أن يشاركوها في هذا العميل بإنشاء بحوث إسلامية تنشرها بالغة العربية وباللغات الأوربية الحية؛ وتقوم كذلك بتعريب البحوث التي كتبت عن الإسلام بلغات غير عربية وحتى يتكون لدينا من هذا كله فكرة صحيحة عن الإسلام وحتى ترتسم صورته أمامنا غير مشوهة.
وستقوم الجماعة أن شاء الله بإذاعة محاضرتها وبحوثها في نشرات خاصة تتعدد بتعدد نواحي الحضارة الإسلامية فسيكون ثمة مثلاً نشرة علمية وأخرى أدبية. . . وهكذا.
وتبدأ الجماعة نشاطها بإذن الله خلال النصف الثاني من محرم سنة 1364 راجية من الله التوفيق والتأييد.
عن الجماعة محمد علي الليثي
إلى الدكتور زكي مبارك
هل يتفضل أستاذنا الفال الدكتور زكي مبارك ويشرح لنا ما يريدون أن يقول في قصيدته (غرام يوم الثلاثاء) المنشورة بالعدد الأسبق من الرسالة؟ وإذا احسن الدكتور بذلك فليكن شرحه في غير الرسالة؛ لأني اضمن بحيزها الضيق عن أن يتسع لشرح المراد من مثل قوله:
عهد الهوى البكر هل تنساه يا هاجر
…
عهد الهوى البكر هل تنساه يا غادر
عهد الهوى البكر هل تنساه يا قاهر
…
عهد الهوى البكر هل تنساه يا كافر
يا هاجر، يا غادر، يا قاهر، يا كافر
إسكندرية
محمد محمد يوسف
(الرسالة): تلقينا تسع رسائل عن (غرام يوم الثلاثاء) أحضرها أخفتها هذه الرسالة. وقد قسا حضرات الكاتبين في النقد واشتدوا في الخطاب حتى رمونا بالإساءة إلى الرسالة وإلى الدكتور بنشر هذه القصيدة. ولا ادري كيف نسوا أن الدكتور المبارك من مؤرخي الأدب ومن رجال النقد ومن كهنة القريض؛ فلم لا يكون ذوقه توجيهاً للأذواق وشعره تجديداً في الشعر؟ وهو بعد ذلك عاشق فمن حقه أن يئن كيف يشاء.
أساطير شرقية
يعجبني الأدب الذي يطبعه أصحابه بطوابع بلادهم، ويلبسونه حللاً من نسج أرضهم أو يتسقطون أخباره، فما كان منها لصيقاً بهم عطفوا فنونهم عليه، وحنوا بآثارهم إليه. كذلك سرني أن أقرأ الأساطير الشرقية التي ألفها ورودها الأستاذ كرم البستاني وأخرجتها دار المكشوف في بيروت. وللأستاذ كرم ولع قديم بهذه الطرف يحسن عرضها ويجلي في سردها ويعدها للقراء مثل طنفسة ثمينة طرزتها يد صناع، وكنت وأنا أقرأ هذه الأساطير أحس بشرقيتي ويتملكني العجب للأمم التي تعاورت على الشرق في قديم عهوده وكانت هذه الأساطير سفرها وأدبها.
تمتاز أساطير الأستاذ كرم بهذه الشرقية الصافية التي ألقت قدميها على شواطئ لبنان أيام الفينيقيين مثل حسناء بحرية، وداعب شعرها نسيم لبنان العليل وشاقها الغرب بملاحاته وسحره فأحبت بلاد اليونان ودعتها السياحة والمغامرة إلى زيارتها والبقاء فيها.
فعلى أساطير البستاني جمال الشرق وملاحة الغرب كأسطورة قدموس وأخته أوريا؛ فأم هذين الشقيقيين حورية الماء (صور)، وصور مدينة شرقية عتيقة ما نزال إلى هذا اليوم عليها غلائل الأساطير الفينيقية. ثم انظر كيف تمر هذه الأسطورة من مصنع الشرق إلى
سوق الغرب متخذة فن راويها كبساط الريح. فان جمال أوريا أخت قدموس قد استلب لب جوبتير الشبق الذي يلوب على جمال بنات الأرض فيهبط عليهن يغترفهن مثل نسر كاسر ينقض على عصفور. فيرى في حقول صور أوريا ترعى الثيران فيرسل إليها أحد بنية يختطفها إليه ليسبيها فيهب أخوها يبحث عنها في الأمصار حتى يصل إلى اليونان وتجرى له ثمة حوادث تنسيه أخته وتذهله من نفسه.
وهذه الأساطير جرى كاتبها فيها على طريقة علمية اكثر مما يجرى على طريقة فن أدب فقد تحرى فيها المصادر، ودرس آثار الكاتبين عنها قبله في الآداب القديمة والحديثة، وألزمته هذه الطريقة أن يشرح ألفاظاً ويحقق تواريخ تتعلق بالميثولوجيا. والعجب لحوادث أوردها بعضها محقق في الوجود وبعض ورد ذكره وحوادثه في الكتب المقدسة فرواها الأستاذ البستاني على إنها في أساطير.
وليس في وسع التحقيق الأدبي وان شاء الأطراف أن يميل إلى هذا التسامح.
زكي المحاسني