المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 603 - بتاريخ: 22 - 01 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٠٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 603

- بتاريخ: 22 - 01 - 1945

ص: -1

‌رومان رولان

الأستاذ عباس محمود العقاد

في هذا الشهر رحل عن هذه الدنيا قائد الحملة الكبرى على عقائد البغضاء والعصبية النكراء

وفي هذا الشهر ولد قبل تسع وسبعين سنة، قضى أيامها العاملة في حرب دائمة ونضال واصب؛ حرب للحرب في سبيل المطامع والأباطيل، ونضال للنضال على الغنائم والأسلاب

وكان أكبر الرجاء عنده أن تبطل الحروب في العالم بأسرة. فقضى الله أن يشهد الحرب العظمى قبل ثلاثين سنة، وألا يفارق الدنيا حتى يشهد حربا عالمية أخرى أكبر وأهول من الأولى، ويذهب من دنياه وهي قائمة والرجاء في عقباها مبهم مجهول

كتب في مذكراته بعد نشوب الحرب الماضية: (أحس أنني في نهاية مواردي. ليتني قضيت نحبي. فظيع أن يعيش الإنسان والناس قد ضيعوا الصواب انطلقوا مجانين. فظيع أن نشهد الحضارة تنهار. إن هذا الحرب الأوربية أكبر الكوارث البشرية في مدى قرون عديدة. إنها تعصف بأغلى الآمال في الاخوة الإنسانية) وكتب بعد أيام: (ألمي جسيم لأنه يتجمع من ألام شتى ويوشك أن يخنق أنفاسي. . . تخريب فرنسا ومصير أخواني بين المصارع والجراح، والحزن على جميع هذه المصائب، ولواعج الفزع التي تمزق القلوب تعتلج بها صدور الملايين من المبتلين.

يساورني ذلك كله كأنما أنا في سكرات موت أدبي كلما نظرت إلى هذه الإنسانية المجنونة تبذل أغلى ذخائرها. . . تبذل جهودها وعبقريتها وحماستها وبطولتها قرباناً لأرباب الحرب الغبية السفاحة. . . إنني كسير القلب إذ أنظر فلا أرى علامة من العلامات تشير إلى أية رسالة ربانية. . . أية روح سماوية. . . أية زعامة خلقية يناط بها الرجاء في إقامة مدنية الله بعد نهاية المذبحة. . . لقد بلغ يأسي من كل حياتي غاية مداه. فليتني أرقد اليوم رقدة لا يقظة بعدها)

وعلى هذا اليأس البالغ في قرارة نفسه لم يلق سلاحه ولم يتخل عن موقفه في ميدانه: ميدان الحملة على البغضاء، وعلى شياطين القتال

ص: 1

فطفق من صومعته يرسل الصيحة بعد الصيحة مدوية في آفاق الضمائر العالية لا تحول جلبة النيران دون بلوغها. وجعل شعاره تلك الكلمة التي سارت بعد ذلك سير الأمثال بعد أن جعلها صيحة الحرب في سبيل السلام، وهي:(فوق المعركة) مهيبا فيها بعقول المفكرين والمصلحين أن يرتفعوا بضمائرهم فوق هذه الوغى المصمة للآذان. فحسب البغضاء البهيمية أنها تصم السمع فلا ترتفع صعدا حيث لا ينبغي لها أن ترتفع فتصم الضمير

ولم يزل يكتب إلى كل أديب ينساق في دفعه الحرب سواء من صفوف قومه أو من صفوف الألمان: يكتب إليه ليذكره برسالة الأدب وواجب الكرامة البشرية في أمثال تلك الأوقات العصيبات، فيقبل منه من يقبل ويعرض عنه من يعرض. وهو مع يأسه الذي وصفه لنفسه في مذكراته لا يكف بينه وبين الناس عن الجهاد

ذلك هو رومان رولان

ذلك هو الكاتب الإنساني الكبير الذي يغني وصفه اليسير عن تسميته أو الإفاضة في وصفه، لأنه تفرد بغير شبيه من قومه أو أعداء قومه في هذه الشمائل الروحية، وهذه السمات النوادر بين أدباء هذا الزمان

كانت دعوته الفنية قبل دعوته الروحية دعوة رسول إنساني في عصر الفتن والزعازع والخصومات

فكتب عن بتهوفن وهو ألماني، وكتب عن ميكالنجلو وهو إيطالي، وكتب عن تولستوي وهو روسي، وكتب سفره العظيم الذي سماه جان كريستوف ليسرد فيه قصة فنان يحب الجمال الموسيقي حيث رآه الإنسان حيث كان

وقد رأينا أنه كان يناجي نفسه في مذكراته وهو يتلهف على علامة واحدة تبشر بمدينة الله وتؤذن أن تقام في يوم من الأيام بعد رجعة السلام. فما هو إلا أن سمع باسم المهاتما الهندي غاندي وعلم بحرية للحرب وكراهيته للكراهية ووصيته الأقربين والغرباء أن يقابلوا العدوان بالإحسان حتى تفاءل واستبشر وبادر إلى اللحاق بهذا الأمل المقبل من بعيد، فكتب سيرة غاندي وكتب سيرا أخرى لأنبياء الهند وحكمائها، وكان في عطفه على غاندي وقومه لا ينم على نزعة واحدة من نوازع البغضاء لمن يضطهدونه ويسيئون إليه

من أين للأديب الفرنسي هذه الروح السلمية الإنسانية العامة وقد حضر في حياته ثلاث

ص: 2

حروب أصيبت بلاده في كل منها بأفدح الخسائر وأهول النكبات؟

فتح عينيه للدنيا في الرابعة من عمره على حرب السبعين التي منيت فيها بلاده بالهزيمة الجائحة، ثم شهد الحرب العالمية الماضية، وشهد الحرب العالمية الحاضرة في أصعب أدوارها وأخطرها على الأمة الفرنسية

ومن دأب هذه الحوادث أن تذكى في نفوس من يشهدونها عصبية عنيفة للوطن أو تعودهم السخر بكل شيء وقلة الاكتراث لأمر من الأمور، يأسا من الأحلام الجميلة واعترافاً بالوقائع الأليمة التي تبلبل الخواطر وتشتت الأذهان

وقد ظهر في الأمة الفرنسية فعلاً كتاب متعصبون متحمسون كما فيها كتاب ساخرون متهكمون. فلماذا خالفهم رومان رولان في هذه الروح ونزع في حياته وفي كتابته منزعاً آخر غير منزع العصبية ومنزع السخرية بالأحلام الكبار؟

جواب ذلك في الوراثة والنشأة الفنية، وله جواب غير هذا الجواب في أفق التفكير الإنساني كله، سواء منه ما أتجه ذات اليمين وما أتحه ذات اليسار

فالكاتب العظيم قد ورث الحماسة الروحية من أبيه وأمه ومن بيئة أهله بأجمعها

كان أبوه من دعاة حقوق الإنسان في إبان الثورة الفرنسية، وكانت أمه من أتباع جانسن الذين عرفوا بحرارة الأيمان وخلوص العقيدة

فلم يكن للطفل المولود في هذه البيئة غني عن عقيدة تلتهب بها حماسته الروحية وتتعلق بها آماله الكبرى في حياته وحياة الناس كافة

ووافق ذلك أنه نشأ محباً للفن الجميل ولاسيما الموسيقى والمسرحية الخالدة. وشغفه في صباه اثنان من كبار أهل الفن المخلدين في هذين المجالين المقدسين، وهما بيتهوفن وشكسبير

ثم شغف مع بيتهوفن بالموسيقى الألمانية كلها لأنها كانت في صباه غالبة على الأذواق الموسيقية في معظم القارة الأوربية، فلم يستطع أن يبغض الألمان - أعداء وطنه - ومنهم صفوة الأرباب الفنية المحببة إلى فؤاده وضميره، وتمثل فيه من هذا الجانب ما تمثل قبله في (جيتى) الشاعر الألماني الكبير، فإنه كان يقول كلما لامه أبناء وطنه على إعجابه بالأمة الفرنسية: كيف أبغضها وأنا أعيش مع أبنائها في عالم الفن والجمال؟

ص: 3

أما شكسبير فهو شاعر الإنسان في كل زمان: من عرف أبطاله عرفهم أناسي لم تحجبهم صبغة الوطن والعصر، ولم تقيدهم شكول الزمان والمكان، وقد كان من أباطيله دنمركيون وإيطاليون ومغاربة ويونان، وكان الإنجليز منهم آدميين نراهم (أولاً) آدميين ثم نراهم بعد ذلك أصحاب صناعة أو أبناء طبقة أو أتباع دين

وكذلك تحولت برومان رولان وراثته ونشأته معاً إلى الوجهة الإنسانية التي تتجاوز الأوطان والعداوات العصبية. ثم دعته حماسته الروحية الموروثة إلى العمل فلم يجد كفئاً لها في العصبية المحدودة ولا في المطالب الموقوتة، وفتح له أفق التفكير الإنساني أبوابه فمضى فيه قدماً بكل ما وسعته نفسه من شوق وإيمان

فقد كانت الزوبعة الوطنية قد بلغت مداها الأقصى بعد ثورة الطليان وثورة اليونان، وتحرر الأمم من سلطان الكنيسة ذهاباً مع الحرية الوطنية التي كانت ضرورية لها للتمرد على تلك السيطرة الأجنبية، وكانت حروب نابليون قد أعقبت بعدها حنيناً إلى السلم والمؤاخاة، وكانت الحركة الصناعية نفسها قد أنشأت مذاهب الاشتراكيين الذين يدينون بالطبقة أو بالعالم قبل أن يدينوا بالوطن أو التراث العنصري القديم

فتعاقبت الدعوات إلى التحكيم وخلق المحاكم التي تدعي بمحاكم السلام، وسمع الغرب والشرق رسالة تولستوي التي تنكر السطوة وتبشر بالمحبة والإخاء، وشهدت أوربا سلسلة من المؤتمرات السياسية قوامها النفور من الحرب والاجتهاد في حل المشكلات بالمشاورة والمساومة والتوفيق

وكانت هذه الدعوة العالمية أشبه الدعوات بمزاج رومان رولان الذي ورثه من أبويه ونشأ في تربيته الباكرة عليه، فاستهوته حين استهوت غيره دعوة العصبية والبغضاء، واهتم بها حين بطل الاهتمام بالأحلام في النفوس التي افتقرت إلى حماسة الروح، وكان أشجع من دعاة الحرب ومن نافخي النار في الذحول الوطنية والتراث السياسية، لان الداعي إلى اجتناب الحرب كثيراً ما يحتاج إلى شجاعة المقبلين عليها أو المسوقين إليها، حين تغلي الدماء ويثور الضجيج وتخرس الألسنة وتعمى العقول

وعاش الرجل في أفق أعلى من الأفق الذي يرين عليه دخان المعارك، وتوجه إلى قبلة أبعد من القبلة التي يممها اللاصقون بالغبراء، وجمع رسالته كلها في كلمة موجزة هي أصدق

ص: 4

الكلمات التي تقال في هذا الزمان وفي كل زمان، فعلم وقال وعمل بما قال:(إن الأيمان - وليس النجاح - هو غاية الحياة)

سلام على جندي السلام يوم استراح من الكفاح.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الرأي العام

للدكتور محمد مندور

لا يستطيع الناظر في حياتنا العامة أن يطمئن إلى وجود رأي عام بالمعنى المفهوم في بلاد الغرب، وتلك ظاهرة ترجع فيما يبدو إلى عاملين كبيرين: أولهما اقتصادي، وثانيهما ثقافي.

ولسنا في حاجة إلى التدليل من جديد على فساد توزيع الثروة في مصر، وتلك آفة قديمة ستلقى هذه الأمة في علاجها مشقات كبيرة، ولكنها ستعالج يوماً ما. وإنما نكتفي بإيضاح نتائجها فيما نحن بصدده من وجود رأي عام أو عدم وجوده. وأمتنا تنقسم في جملتها إلى طبقتين: أغنياء وفقراء، وأما الطبقة الوسطى فلا تزال في بدء تكوينها، وكبار الأغنياء بطبيعتهم قوم مترفون أنانيون يسخرون من الاهتمام بالمسائل العامة لتي لا تعنيهم إلا فيما يمس مصالحهم المباشرة. وأفراد الشعب تشغلهم مهام العيش ومشقاته حتى لا تترك لهم فراغاً لتفكير الجدي في الأمور العامة؛ والفقر ينال من قوة نفوسهم فلا يستطيعون أن يتحرروا من إرادة الأغنياء. وعندما يكون المرء في قبضة غيره، والحاجة إلى الكفاف من العيش تلاحقه، كيف تريد أن يكون حر الرأي. والملاحظ في الأمم الغربية أن الطبقات الوسطى هي التي تكون الرأي العام وتقوده. وذلك لأنها الطبقة الطموح، ثم لأنها قريبة من الطبقة الدنيا التي تكون جمهرة الأمة، وهي بحكم هذا القرب تعرف آلام الشعب وآماله كما تفهم عقليته. وهي طبقة جادة لا تعرف الاستهتار، تتمتع بقسط من الاستقلال المادي يعطيها القدرة على الصلابة في الرأي ومواصلة الكفاح من أجله. ثم إنها طبقة مستنيرة تستطيع بما لها من ثقافة ألا تقف عند الرضا أو السخط، بل تستنبط الوسائل الكفيلة بتحقيق الخير لعامة الناس، وليس من شك في أن نهاية هذه الحرب ستشهد صراعاً قوياً بين تيارين من التفكير: التيار الاقتصادي، والتيار الاجتماعي. ونحن على تمام الثقة من أن سفسطة الاقتصاديين لن تقف عند حد، فسيحاول إيهام الشعب أن علاج الفقر الصحيح هو زيادة الإنتاج بتنمية الصناعة وحمايتها من المنافسة الأجنبية. والاجتماعيون لا ريب يسرهم أن يزيد الدخل العام للأمة، وهم ليسوا من خصوم الصناعة، ولكنهم سيحرصون على أن تكون وسائل الإنتاج ملكاً للأمة جميعاً ولو بطريق التساهم، لا لفرد من الأفراد. وذلك لأنهم لن يستطيعوا صبراً على التفاوت القائم اليوم، ولابد أنهم سيمنعونه من أن يستفحل بظهور

ص: 6

أثرياء الصناعة إلى جوار أثرياء العقار. وإذا كتب للاجتماعيين الغلبة فلن يتركوا مشكلة توزيع الثروة تغيب عن الأذهان تحب ضباب مريب من الحرص على تنمية الثروة القومية وتعزيز استقلال اقتصادي موهوم، لو حدث ذلك لتحررت عندئذ أرواح ملايين من البشر، وأرتفع مستواهم النفسي، فكان لهم صوت في تكوين الرأي العام.

والعامل الثقافي يطالعك في دور العلم وفي فنون الصحافة. والذي لاشك فيه لا مدارسنا العامة ولا صحافتنا بقادرة في وضعها الحاضر على أن تكون رأياً عاماً. والمدرسة العامة روحها الدرس، وباستطاعتك أن تقلب البصر فيمن تلقى من مدرسين، فما أظنك واجداً الكثيرين بينهم ممن لهم فلسفة خاصة، في الحياة. ولسنا نقصد بالفلسفة الخاصة آراء بعينها في الاقتصاد أو الاجتماع أو الأدب، بل نرمي إلى حالة من النضوج الفكري والعاطفي تمكن صاحبها من أن يتخذ له موقفاً محدداً من الناس والأشياء، فيعتقد مثلاً أن المادة هي عصب الحياة أو أن الروح هي محركها الخفي، ويكون من المؤمنين باطراد التقدم في الإنسانية أو القائلين بتراوحها بين المد والجزر. وقد يعالج مشاكل الحياة بالجد الحار أو بالسخرية الباسمة، وقد يتناولها بالثقة المتفائلة أو الحذر المتشائم، ونحو ذلك من أنواع الفلسفات الشخصية التي لابد أن تتصف بإحداها كل نفس ناضجة. وهذه الفلسفة الشخصية هي التي تمكن المدرس من التأثير في تلاميذه تأثيراً باقياً، وذلك لأنه يستطيع عندئذ أن يعطيهم ضوءاً هادياً في الحياة، وبفضل هذا الضوء يستطيعون بدورهم أن يحكموا على مختلف الأمور. ومن البين أن الرأي العام يتكون من تفاعل مجموعة الأحكام الفردية. وإذن فما دام معلمنا لا فلسفة له، ومادام كبار مفكرينا وأساتذتنا لا يعرفون كيف يزودون هذا العالم بتلك الفلسفة، فما أظننا مستطيعين أن نجعل من مدارسنا بؤرات لتكوين الرأي العام. وأهول ما أخشاه ألا نجد من بين أساتذتنا وكبار مفكرينا أنفسهم نفراً كافياً يصدرون عما نتحدث عنه من فلسفة شخصية، وما على القارئ إلا أن يستعرض الأسماء المعروفة ليحاول أن يحدد فلسفة كل منهم. ولقد يجد لأغلبهم مجموعة من الكتب أو طائفة من الأبحاث، ولقد يكون في تلك الكتب وتلك الأبحاث جمال ومتعة، ولكنه سيجد مشق في أن يستخلص منها روحاً عامة وفلسفة جامعة. وعندما يخرج التلاميذ من المدارس، وليس لكل منهم اتجاه روحي معلوم، لن تجد غرابة في أن يعجزوا عن حمل الصحافة على تقديم غذاء

ص: 7

صالح للشعب.

والصحافة كما هو معلوم صحافة إخبارية أو صحافة رأي. والأولى وإن لم تخل من أثر على الرأي العام بحكم تخيرها لنوع الأخبار التي تنشرها وتلوينها لتلك الأخبار، إلا أنه في نهاية الأمر أثر محدود. وعلى العكس من ذلك صحافة الرأي التي تتكون في بلادنا من بعض الصحف اليومية ثم معظم المجلات الأسبوعية. وما دامت الصحف ملكاً لأفراد أو شركات وكان هدفها الأول هو الربح المادي، فما أظن أننا نستطيع أن نرجو من ورائها خيراً كثيراً في تكوين رأي عام سليم وذلك لأن حرصها على الانتشار يدفعها إلى اللعب على غرائز القراء، فلا تجد فيها إلا فتنا سياسية تدور حول كبار الشخصيات، ولا ترضي في القارئ غير حب استطلاع خبيث، أو تهرجاً ديمالوجياً يولول لآلام الشعب ويلوح له بآمال خادعة دون أن يدرس مشاكله دراسة جدية، ويقترح لعلاجها الوسائل المجدية. وأخيراً ترى إثارة الغرائز الجنسية اعتماداً على ما تنزله حياتنا الاجتماعية بنفوس الشبان من كبت، وإنه وإن يكن من الثابت أن أكثر الصحف انتشاراً في مصر، ليس أكثرها تأثيراً في الرأي العام بحكم أنه كلما ازداد جمهور الصحفية كان جمهور تسلية وتزجية فراغ، إلا أنه مما لاشك فيه أن أمثال هذه الصحف تقوم بعملية هدم كبيرة، فهي تقوض الجدية في النفوس، كما تحتل الأخلاق وتعود العقول الكسل. وأنت إذا وجدتها إلى جوار أمثال الصحف، صحفاً أخرى قليلة الانتشار ولكنها جدية مؤثرة باعتبارها أن قراءها ممن يلتمسون غذاء لأرواحهم، إلا أنك - لسوء الحظ - قلما تجد لا حداها قيادة عامة واتجاهاً روحياً واضحاً، وإنما هي طائفة من الأقلام والمعلومات لا يجمع بينها غير غلاف الصحيفة؛ ولهذا قلما تكون صحيفة منها مدرسة خاصة في الحياة. وإذا كنا لم نصل بعد حتى في مجال السياسة إلى خلق صحافة تعبر عن مذاهب الحكم المختلفة وتناضل دونها، مع أن السياسة أمر يهم الملايين من البشر فإنه لا ريب يكون من تعجل الأمور تعجلاً مسرفاً أن نتطلع إلى صحافة ثقافية موحدة الاتجاه، مع أن الثقافة بطبيعتها ميدان الخواص. ولكنني مع ذلك لا أفهم لماذا لا تكون لدينا مجلات تتحمس لتيارات التفكير المختلفة، وتحاول أن تجمع حولها النفوس. ولكم من مرة يسألك أحد الغربيين عن الاتجاه الذي تتميز به هذه المجلة عن تلك؟ فلا تستطيع جواباً. ونحن لا نقصد بذلك المجلات الخاصة، بل

ص: 8

نصب القول على المجلات العامة، فهذه هي التي تزعم أن من الممكن بل من الواجب أن تكون لها روح عامة برغم تنوع موضوعاتها وعندما تتعدد أمثال تلك المجلات وتتفاعل تياراتها المختلفة سيبدأ الرأي العام في أن يتكون.

الرأي العام وليد لفلسفات فردية تشع في المجتمع. والمجتمع بدوره لا يستطيع أن يتمثلها إلا إذا تركت له الحياة الاقتصادية. من الراحة والفراغ ما يمكنه من تأملها. وتلك الفلسفات لن تنمو إلا عن طريق المعلم أو الصحافة، وإصلاح الأخيرين لا يمكن أن يتم بقرار من قرارات الدولة، بل ولا قانون من قوانينها وإنما لابد لتحقيقه من سنين طويلة تتضافر فيها جهود الأفراد والحكومات. ولابد لنا من أن ننتظر، مع استمرارنا فيما نحن بسبيله اليوم من فتح المدارس والجامعات ومناقشة مناهج الدراسة والتعليم، وحسن القيام على دور التمثيل والسينما ومحطات الإذاعة وما شابهها من وسائل نشر الثقافة بين الشعب. وإن يكن هناك ما نستطيعه لساعتنا فهو تعويد الجمهور أن يتجرع ما ينفعه والصمود له عندما تدفعه غرائزه الدنيا إلى التماس اللذات الرخيصة.

الرأي العام لم ينضح بعد في بلادنا، ولكن لا محل لليأس فنحن سائرون إلى الأمام، وما علينا إلا أن نواصل السير في ثقة وشجاعة.

محمد مندور

ص: 9

‌للضحك أسرار.

. .!

للأستاذ صلاح الدين المنجد

أدولف فيليت، فنان بارع، ومصور مجيد، أوتي من القدرة على الهزل في تصويره وعلى تبيان المعايب في شخوصه، ما جعله سيد هذا الفن، المتفوق المبرز، فانعطفت عليه الصحف الكاريكاتورية في باريس، ليمدها من حين إلى حين بصور فيها إبداع وأصالة.

وصوره ذات طابع خاص بها، وصفة لا تفارقها. فهي تبدو في النظرة الأولى، صوراً ضاحكة مضحكة، يفور ظاهرها بالسرور تثير في نفسك الإعجاب والتقدير. فإذا أنعمت النظر ودققت في تلك الصور، بدا لك أن ما فيها يدفع إلى التأمل والتفكير، وأن أعماقها كآبة تدفع إلى الحزن وعبرة تبعث الألم.

سألته يوماً فنانة باريسية جميلة عن سر ذلك، فأجابها (نعم. إن في كل شيء مهما كان قليلاً من الأسى ويجب أن نزينه بالضحك ليخفي، لئلا يؤذي أحداً، أو لم يؤلم أحداً!. .

وجواب الفنان جدير بالتأمل. فالحزن في الحقيقة لا يفارق الإنسان لأن هذه الدنيا لا تريح. ربما أوتي أحدنا المال، ولازمته الأمراض؛ أو أوتي العافية، وسلب المال؛ أو قعد به الحظ المنكود عن الترقي، وفي نفسه آمال؛ أو نال بسطة من العلم فأهمله ذوو الشأن؛ أو حسده الأصدقاء والأقران؛ أو اشتهى ولداً يوهب له؛ على سعة من غنى، وعلو في الجاه، فلم يوهب له الولد، فتبقى في نفسه حسرة على ما أمله، وحزن على ما فاته، لكن ماذا يفيد إذا أظهر حزنه؟ وما نفع التحسر والوجوم؟ إن الحزن والشكوى والبكاء، أشياء تثير الشفقة علينا، وتدل على ضعفنا، وفي الشفقة علينا حطة لنا، ثم هي قد تدفع الناس للابتعاد عنا، لأنها تؤذيهم، وتؤلمهم، أو تذكرهم، بآلامهم. فالحزن يبعث الحزن، ويذكر بالشجى. والدمع يستدر الدمع، ويجلب الأسى. والناس تكفيهم أحزانهم، وربما نسوها لحظة أو ساعة، فإذا ذكرناهم بها تألموا. والدنيا وما فيها أقصر من أن نقضيها بالحزن. . . ولابد من التجلد فإذا حزنت فأجعل حزنك في قرارة نفسك، وأظهر الفرح. بل أضحك. . اضحك دائماً، فلا تؤذي الناس.

بل إن هذا الضحك يؤدي، ولو كان يخفي وراءه الحزن، إلى إعجاب الناس بك، والى اكتساء رداء من الجمال، واكتساب مناعة، لا تؤثر فيها، على الأيام، المصائب والآلام.

ص: 10

ولولا هذا لما كانت العرب تمدح من كان ضحوك السن، بسام العشيات، طليق الوجه. ولولا هذا، أيضاً، ما كانت تذم من كان عبوساً أو قطوباً، أو حامض الوجه، كأنما وجهه منصوح بالخل

وقد تيقنت، أن الضحك، ولو كان يخفي الحزن، يكسب الجسم مناعة، لا يؤثر فيه معها المصائب بعد حادثة شاهدتها بنفسي

ففي عودتي من القاهرة في يناير الخالي، لقيت في القطار سيدة فرنسية تحدر نحو الخمسين، وما تزال ناضرة الوجه، ريانة الجسم، كأنها احتسبت الشباب في جسمها، ولم تفلته. وكان يزيد في جمالها حديث رقيق يغري، ولطف شديد يغوي. فعجبت منها، وتساءلت في نفسي عن سر احتفاظها بالشباب والجمال؟

وكان بجانبها فتاة لم تختط العشرين من عمرها. علمت أنها ابنتها، كانت ذات وجه ساهم، ونفس مكروبة. تلمح الحزن في نظراتها، ولفتاتها، وآهاتها. فقلت في نفسي: ربما تكون مريضة. . . أو أن داء العشق قد لحقها. . . فلما بدأنا الحديث، شدني من ألام فرحها وضحكها، ومن البنت صمتها وعبوسها. كانت ألام تضحك لكل كلمة. . . فيزهر وجهها ويزيد سحرها.

وكانت الفتاة تعبس، فيظلم وجهها، ويحمض جمالها. وكانت ألام، تلفظ الكلمة، ترافقها بالإشارة، وترادفها بالضحكة؛ ضحكة رقيقة تهيج فرحك وسرورك. والبنت ترسل النادرة، إذا تندرت، بلفظ خشن وجفاء ظاهر. فعجبت، ومازلت حتى سألت ألام:

- إني أراها حزينة. . . أتشكو ألماً؟. . .

قالت: أوه! كلا. إن هذا الجيل لا يعرف كيف يحيا. إن في الحياة سراً، لا يهنأ بها، إلا من عرفه. دعها، إنها لا تسمع مني. الحياة عابسة ولا تغلب إلا بالضحك. قلت لها ذلك فلم تعقل. وهذا ما كنا نسمعه من عجائزنا اللواتي عشن سعيدات. أما اليوم، فالحياة تعبس وهم يعبسون. عبوس يجر الحزن، وحزن يدفع إلى الموت البطيء. أليس الأمر كذلك يا سيدي. . .؟

ثم أطرقت. . . وعادت تقول: (يا أسفا على ذلك الزمان، أيام كانت أمي توصيني أن أضحك دائماً. لقد ضحكت كثيراً، فهنئت. كنت أضحك لأتفه سبب، وفي قرارة نفسي حزن

ص: 11

جاثم شديد. أوه! ماذا أحدثك؟ لقد جعلتني ضحكاتي أجمل فتاة بين صواحبي. ثم وجدت فيها ما يخففن من آلامي، ثم صرت إذا أصابتني مصيبة تعمدت أن أضحك، لأنسى همومي. أتدري أنني رزئت في ابنتي وبنيتي؟ لقد أبتلع البحر ابني وهو في العشرين من عمره، وماتت ابنتي الصغيرة في الألب، وأصابتني في هذه الحرب كوارث تحطم، وكنت أحزن وأبكي، ثم أعود إلى الضحك. . . وأصبر، فيذهب الحزن!.

قلت لها: إنها وصاه جديرة أن تتبع يا سيدتي. لو عرف الناس هذه الإسرار، لضحكوا. . .

قالت: أؤكد كذلك أنهم لو عرفوها لما تركوا الضحك أبدا.

كانت أمي تقول: إن في الضحك أسرار ليست في شيء غيره، ضحكة بل بسمة ترضي زوجك إذا كان مغضباً. وضحكة رقيقة تأسر عقل زائرك ولو كان جافياً. أضحكي، استعيني على قضاء حاجاتك بالضحكات والبسمات. اضحكي، وأنت في نزعك. . فإن ذلك يثير شفقة الناس، ويزيد في دعائهم لك، وحبهم إياك. أضحكي وأنت خانقة مغيظة، فان الضحك يهدئ ويرضي. بل اضحكي إذا أهنت يوما، ولم تستطيعي أن تنتقمي، فإن ضحكك يزيد في غيظ خصمك. فإذا واتتك الفرصة بعد ذلك فانتقمي منه.

لقد أثر حديثها في نفسي. وأنست به. وأدركت هذه النضارة التي تسيل في جسمها وترف على خديها، وهذا النور الذي يتألق في عينيها.

إن الناس جميعاً لا يستطيعون أن يفعلوا كل هذا. ولكن ألا يمكن أن يفعلوه إذا اعتادوه؟

ثم إنه يظهر بعد هذا، أن في الضحك، ولو كان يخفي الحزن، سراً.

وأن هذا السر يقاوم الأمراض، أو يدفع الجراثيم. إن علماء النفس يشيرون إلى النشاط الذي يتدفق في الجسم إبان الفرح. وكأن هذا النور الذي يفيض في الابتسام والضحك، ينشط ويقوي، وأن مادة كهربية تريح الأعصاب، وتزيد في العافية، بل كأن فيه ما يشفي فعلاً من بعض الأمراض.

فقد ذكرت أن (برغسون) الفيلسوف الفرنسي الشهير، أجهد التفكير والعمل، قبل موته بعشر سنين، فضعفت أعصابه، وبدت عليه إمارات النورستانيا، فلجأ إلى الأطباء، فلم ينج بعقاقيرهم مما هو فيه. حتى أشار عليه واحد منهم بأن الضحك. فعجب الفيلسوف، وألح الطبيب: (إن دواءك الفرد هو أن تضحك يا سيدي. فأضحك كل يوم ساعة، أو ساعتين. .

ص: 12

)

وأنطلق الفيلسوف إلى داره يضحك من نفسه، ومن الطبيب. ولكن كيف يضحك ساعة أو ساعتين؟ وتعمد الضحك وتكلفه، ثم لجأ إلى الملاهي، يشهد كوميديات موليير إلى تثير الضحك. فكان يضحك، في أعماق قلبه. ولم تمض غير شهور قلائل حتى شعر أنه شفي: وعندئذ تساءل عن السر الذي يشفي، ووضع دراسته المسماة

فالشفاء هنا، أتى من موافقة الضحك الجسم ومداواته المرض أراحته الأعصاب.

ورأيت من قبل أن بالضحك حفظت السيدة الفرنسية شبابها وبنت لحمها. واعتقد أن الجاحظ العظيم قد فطن لذلك، فقال:(وما ظنك بالضحك الذي لا يزال صاحبه في غاية السرور إلى أن ينقطع عنه سببه. وكيف لا يكون موقعه من السرور النفس عظيماً، ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع، وفي أساس التركيب. لان الضحك أول خير يظهر من الصبي، وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علة سروره، ومادة قوته. . .).

فاضحكوا. . فإن ضحكة واحدة تخرج من أعماق قلبي، فيستريح بها عقلي، ويشفي حسمي، وتبعث في القوة والنشاط، لهي خير مما يجمعون.

دمشق

صلاح الدين المنجد

ص: 13

‌على هامش النقد

في الوظيفة. . .

صور انتقادية. . . عبد الحميد جودة السحار

للأستاذ سيد قطب

حينما ينظر الإنسان إلى (دواوين الحكومة) بعين أخرى غير عين (الموظفين) ويقيسها بمقياس آخر غير عين المناصب والمراكز والألقاب. . . لا تقع عينه إلا على أمساخ ومهازل، ومخلوقات آدمية بائسة، محدودة الآفاق، صغيرة المطامع، حقيرة البواعث. ولا يشد إلا رواية تهريجية هازلة تنقصها كل أصول الفن وكل مقومات الإخراج، ولا يبقى لها من سمات الزاوية إلا عنصر (التمثيل)!.

بهذه العين الإنسانية نظر الأستاذ (عبد الحميد جودة السحار) إلى (الموظفين) وبهذه النظرة الآدمية رأى (الدواوين) وما في الدواوين، فكانت مجموعة (الصور الانتقادية) التي أخرجها بعنوان (في الوظيفة).

وليست تسميتها باسم (صور انتقادية) مجرد عنوان فهي (صور) في حقيقتها: صور سريعة على طريقة التصوير باللمسات الخاطفة. . . لمسة من هنا ولمسة من هناك، فإذا ملامح معينة وسحن محدودة ووجوه معروفة. ولا عليه بعد هذا ألا يعني بالدقائق والجزيئات: هذه سحنة منافق، وتلك سحنة جبان، هذه ملامح دساس، وتلك ملامح لص؛ هذا وجه مراء، وذلك وجه مدلس. . . أما سعة العين وشكل الأنف، وحجم الفم، فتلك تفصيلات لا تزيد شيئاً في دلالة السمات. . .

ومن ناحية أنها (صور) كانت قيمتها الفنية وقيمتها الإنسانية. وإلا فكل ما جاء فيها عن الدواوين وعما يجري داخل الدواوين، معروف ومشهور تلهج به الألسنة في كل مكان ويتندر به كل إنسان، ويشكو منه كل إنسان.

وإنك لتستطيع أن تقول ألف مرة: إن في الدواوين رشوة وسرقة ودسائس ووشايات؛ وإن الأعمال تسير فيها سير الأجهزة البطيئة والآلات الصماء؛ وإن الذي لا يجازي التيار فيها يجرفه ويحطمه، وإن كثيراً من الموظفين يدخل الديوان (إنساناً) فما يلبث أن يصبح

ص: 14

(موظفاً). . . الخ.

ولكنك تكون واثقاً أن هذه الكلمات ستبقى كلمات، فلا تأخذ طريقها إلى النفس ولا تثير الانفعال ضدها والاشمئزاز منها إلا بمقدار. . . ألفاظ تنسى بعد حين كما ينسى كل ضخم من الكلمات.

أما حين تترجم هذه الكلمات إلى حوادث واقعية وصور آدمية كما صنع المؤلف. فعندئذ فقط تلبس ثوب الحياة، وتتخذ لها جسماً ملموساً يوقظ الحس ويثير الانفعال. وعندئذ ترجو لها حياة فنية لاشك فيها، وترجو لها موقظاً اجتماعياً، ربما كان!!.

ولحسن الحظ أن صاحب هذه الصورة الانتقادية موهوب في فن تصوير السريع؛ ومهما أخذت عليه، من عيوب في عمله الفني فإنك لن تخطيء الملامح التي يريدها، والسحنة التي يبغيها، وهذا وحده يكفي. .

إنه ذو عين لماحة تسجل الحركة الحسية، كما تسجل الحركة النفسية. ثم تغلف اللمحة الموسومة بروح السخرية، وتمزجها بعنصر الفكاهة. حتى ليخيل إليك أنه ينظر إلى الدنيا كما ينظر إلى ملهاة كبيرة. تأخذ عينه فيها لمحات التناقض، وتأخذ حسه فيها مواضع السخرية، وتأخذ نفسه فيها مواطن الدعابة!

ولعله أن يكون قد بالغ في إبراز مواضع السخرية، ومواطن التشويه المضحك في هذه الصور، ولعله أن يكون في الدواوين وجوه أخرى لم يلتفت إليها لأنها تغذي في نفسه هذه الحاسة.

ولكن الذي لا مراء فيه أنه وفق في تصوير (جو) الدواوين، وفي تشخيص (روح) الوظيفة. فهذا الجو هو جو الغش والخداع والتهافت والتهالك والرياء والجبن والنفاق والوقيعة. وهذه الروح هي روح البطء والتهاون والإهمال والتواكل والجمود والروتين والسأم والملالة. . . فإذا وجد على هامشه بقايا من الإنسانية السليمة، فهي محاربة منه، ومكروهة من أهله متهمة (بالقنزحة) لا تختلط به ولا تندمج فيه.

من (لمحات) هذه العين الخاطفة صورة محسوسة يراها سكان العاصمة الآن في كل آن. صورة الكتل البشرية التي تتزاحم على الترام. وهي على بساطتها صادقة كاملة فيها عنصرا الفكاهة وروح الدعابة: وهي جزء من صورة يسجل فيه ذهاب الجمال إلى

ص: 15

الورشة:

(تكدست أكوام البشر في داخل الترام وعلى جانبيه، ومن خلفه ومن قدامه؛ واختلطت الأذرع والسيقان، حتى اصبح من المستحيل أن تقع العين على هيئة إنسان. فهذه ذراع، وهذا رأس، وهذا خصر. أما لمن هذا الرأس، ولمن هذه الذراع، وأين صاحب هذا الخصر أو هذه الساق، فهذا مالا يفطن إليه إنسان، وكثيراً ما يخيل للناظر إلى كتل البشرية المتراصة على سلم الترام، أن للجسم الواحد رأسين، أو للرأس الواحد جسمين، وأن أغلب الواقفين على سلم الترام ينافسون (البهلوان). فهذا واضح طرف قدميه على حافة السلم، وقابض على قائم الترام بإصبع، وهذا متعلق في عنق آخر متعلق بسروال ثالث. وهكذا).

ولمحة أخرى تبدأ حسية وتنتهي نفسية، ويتداخل فيها اللونان تداخل الأضواء والضلال، وهي تلي مباشرة صورة الترام:

(وبلغ الترام في أمان مصلحة حكومية، فتساقط الركاب عنه كما تتساقط الأوراق عن الشجر في يوم أشتد ريحه. وكانوا جميعاً من العمال، فساروا يتحدثون، فيحدثون صوتاً كدوي النحل. وراحوا يسيرون في نفس الطريق الذي قطعوه آلاف المرات قبل يومهم هذا، وكانوا يدبون كسلحفاة لا ينظرون أمامهم، ولا يلتفتون حولهم، بل ينطلقون كما ينطلقون كما تنطلق الدواب التي عرفت طريقها من كثرة ما دبت فيه، انطلقوا وما فكروا قط في يومهم، ولم يفكرون؟ فأيامهم جميعاً متشابهة ففي الثامنة صباحاً يدخلون، وفي الحادية عشرة يفطرون، وفي الثالثة ينصرفون، وكان الأمل الوحيد الذي يداعبهم في أثناء عملهم أن تتكرم عقارب الساعة الكبيرة المثبتة في الفناء الواسع الحجم المواجه للورش بالدوران السريع حتى تبلغ الثالثة لينصرفوا شاكرين. ولتستريح بعد ذلك ما شئت لها الراحة، فما أصبح دورانها يعنيهم بعد انفلاتهم من سجنهم، فقد كانوا ينظرون إلى ورشتهم نظرتهم إلى سجن بغيض.

وهكذا لا تخطيء سمة من سمات الصورة الحسية الفكهة؛ لا في الأولى؛ ولا سمة من سمات الصورة النفسية في الثانية. . . وإنك تلمح الآن هذه الجموع تنطلق في طريقها كالدواب. تلمح هذا القطيع يدب، لا يحدوه أمل، ولا تدفعه رغبة. ولكنها لقمة العيش تربطه إلى سجنه، وتكرار الطريق يقوده إلى مربضه في سأم بالغ وملال كئيب

ص: 16

ثم يريد المصور أن يرسم بلمسة سريعة صورة من السرقة أو الاستغلال الذي يناله الرؤساء لأنفسهم بواسطة العمال، فيبرزها كاملة في هذه الفقرات:

(ولمح أحدهم صديقه فناداه وسلم عليه، وقال له وهو يحاوره:

(- لم جئت اليوم؟ هل انتهيت من العمل في بيت المهندس؟

(- لا لم أنته بعد. ولكن جئت لآخذ غراء ومسامير!

(- هل انتهيت نجارة غرفة النوم؟

(- لا. ولم؟

(- لأنه أمرني أن أطليها له!

(- هنيئاً لك؟

(- ستحتسب لك أيام الجمع!

(- أتحسدني على شيء سبقتني في الحصول عليه؟

(- لا أحسدك ولا تحسدني. وهل يدفع لنا شيئاً من جيبه؟ بارك الله في الحكومة!)

فيبلغ بهذا الحوار القصير أن يرسم صورة كاملة لاستغلال مال الحكومة ووقتها، وأدواتها. وليس هذا فحسب. بل يرسم معه صورة للفساد النفسي والخلقي الذي يبثه هذا الاستغلال في نفوس المرءوسين من العمال وغير العمال

حتى إذا شاء أن يسخر من طريقة العمل في الدواوين، ومن طريقة الإشراف والتفتيش، ومن الرؤساء والمفتشين. . . كل ذلك في آن واحد. أختار هذه الصورة السريعة الجامعة لكل ما يريد. والتي هي نموذج لسائر ما يجري في بقية الأعمال وبقية الدواوين إن لم تكن بنصه فبروحه، وإن لم يكن بصورته فبنوعه:

(وخلع العمال ملابسهم النظيفة، ولبسوا ملابس العمل الزرقاء، واتجهوا إلى أماكن عملهم، ووقفوا يتحدثون ولا يعملون، وراح الرقيب يقوم بمهمة الاستطلاع. والرقيب العامل من العمال يجدد انتخابه كل يوم، ويوكل إليه مراقبة الطرق والمنافذ، فإن لمح المهندس أو المدير مقبلاً، أعطى إشارة الخطر، فتدب في الورشة الحياة

(وفي حوالي العاشرة لمح الرقيب المهندس مقبلاً يتهادى في حلته الحريرية البيضاء، وقد ثبت وردة حمراء في صدره، وكان يرفع يده بين الفينة والفينة ليسوى رباط رقبته الجميل،

ص: 17

أو ليرفع أطراف المنديل المتدلي من صدره. . . فصفر صفير الإنذار - وهو صفير طويل ممدود - فهمس من في الورشة: (ميمي. . . ميمي) - وهو ما اصطلحوا على إطلاقه على المهندس الأنيق - فأسرع كل إلى عمله، وأسرع أحدهم إلى الأزرار الكهربائية وضغطها، فدارت لآلات وارتفع عجيجها، وراحت المبارد ترتفع وتنخفض على قطع الحديد المثبتة في (المناجل) والمناشير تتحرك في توافق كأنما هي فرقة موسيقية تعزف لحناً. ودخل المهندس بقامته الفارعة. وملابسه الحريرية النظيفة يتبختر كغادة مدلة معجبة؛ وكان يتحاشى الاقتراب من الآلات أو العمال، حتى لا تتلوث ملابسه. فما تقول خطيبته التي سيقابلها عقب انتهاء العمل أن رأت بقعة زيت تشين لباسه، الذي تفنن في إعداده؟. وأجال بصره فيما حوله، فرأى حركة دائمة، فقرت عينه فاطمأن إلى أن العمل يسير على ما يروم. فانصرفت إلى مكتبه ليمضي به بقية يومه بين شرب القهوة، والمحادثات التليفونية، ومقابلة الأصحاب والأحباب

(ترك المهندس الورشة، فأسرع عمل إلى الأزرار الكهربائية وضغطها، فخرست تلك الآلات التي صدعتهم بصوتها بعض الوقت، وأستأنف العمال سمرهم، وراح بعضهم يبحثون عن مكان هادئ يستسلمون فيه للذيذ الرقاد)

وهكذا ترتسم تلك الصورة الحقيقية الهازلة لجو العمل في المصالح الحكومية الذي يشترك في خلقه الصغير من الموظفين والكبير!!

عشرات من هذه الصور الخاطفة تأخذها العين اللماحة، وتصورها الريشة السريعة. ولست أزعم أنها جميعاً في هذا المستوى البارع الذي ضربت منه الأمثال. فالمؤلف يظل موفقاً ما ظل يستخدم موهبته الأصلية: موهبة التصوير السريع باللمسات الخاطفة؛ وما ظل يدع الحادثة توحي بالمعنى، والحركة تدل على الانفعال. ولكنه يهبط وبجانبه التوفيق، حين يستخدم الوصف المجرد للتحليل النفسي؛ فليس هو موهوباً في التحليل. ولهذا تستحيل تلك الأداة في يده أداة معطلة لا تصور ملامح، ولا ترسم هيئات، ولا تبلغ في تشخيص النفسيات إلا أن تصفها وصفاً لا حياة فيه (ويضيق الفراغ هنا عن الاستشهاد)

ولحسن الحظ أنه لم يجنح إلى التحليل بالوصف إلا في قليل من هذه الصور. أما أغلبها فجنح فيه إلى التشخيص بالحادثة والتعبير بالحركة على النحو الذي ضربنا منه الأمثال

ص: 18

نتلفت إلى ما بين أيدينا في المكتبة العربية من مؤلفات، لنقرن إليها هذا المؤلف الجديد، فلا نجد إلا (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم

ولكنهما لا يلتقيان إلا في المادة التي يتناولها للتصوير: مادة الشخصيات الآدمية في العمل الحكومي، والجو الرسمي، وإلا في جانب من الروح التي يتناولان بها الموضوع: جانب الفكاهة الساخرة على وجه العموم

ثم يختلفان بعد ذلك في طريقة التناول وفي نوع الإخراج، وفي مستوى التفكير:

ففي (يوميات نائب) تبدو سمة العمل الفني الموحد الكبير الذي تضطرب في مجاله الشخصيات كلها وترتبط برباط واحد من الحبكة الفنية ومحور واحد من التنسيق. و (في الوظيفة) تبدو اللمحات السريعة واللمسات الخاطفة، وتتفرق الشخصيات في الصور المتعددة فلا يربطها إلا عنصر التصوير

وفي (يوميات نائب) إشاعات فكرية، ولمحات فلسفية وومضات شاعرية لا يحاولها مؤلف (في الوظيفة) لأنه موكل بالتصوير الخاطف لا بالتأمل العميق وباللمحة الحاضرة لا بالغايات البعيد

ولكن كليهما جدير بأن يوجد في كل مكتبة، وأن يقرأه كل محب للإصلاح الاجتماعي أو للعمل الفني على اختلاف في المنهج والمستوى والطريق.

سيد قطب

ص: 19

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد أسعاف النشاشيبي

610 -

هذا حسن، هذا مستوفي

في (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي:

جرى ذكر حديث الذكور والإناث، فقال الوزير: قد شرف الله الإناث بتقديم ذكرهن في قوله عز وجل: (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) فقلت: في هذا النضر؛ فقال: ما هو؟ قلت: قدم الإناث - كما قلت - ولكن نكر، وأخر الذكور ولكن عرف، والتعريف بالتأخير أشرف من النكرة بالتقديم. قال: هذا حسن قلت: ولم يترك هذا أيضاً حتى قال: (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) فجمع الجنسين بالتفكير مع تقديم الذكران، فقال: هذا مستوفي.

611 -

وإلا فغير ذلك الاسم واشرب

في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) لياقوت:

قال أبو الفضل جابر بن زهير: كنت عند أبي محمد القاسم الحريري البصري بالمشان أقرأ عليه المقامات، فبلغه أن صاحبه أبا زيد المطهر بن سلام البصري قد شرب مسكراً، فكتب إليه:

أبا زيدٍ أعلم أن من شرب الطلا

تدنس فأفهم سر قولي المهذب

ومن قبل سميت (المطهر) والفتى

يصدق بالأفعال تسمية الأب

فلا تحسها كيما تكون مطهرا

وإلا فغير ذلك الاسم وأشرب

فلما بلغته هذه الأبيات أقبل حافياً إلى الشيخ أبي محمد، وبيده مصحف، فأقسم به ألا يعود إلى شرب مسكر. فقال له الشيخ: ولا تحاضر من يشرب.

612 -

فما تم إلا والغمام قد انقضا. . .

قال المحسن بن التنوخي في معنى طريف لم يسبق إليه:

خرجنا لنستقي بيمن دعائه

وقد كاد هُدب الغيم أن يبلغ الأرضا

فلما ابتدا يدعو تقشعت السما

فما تم إلا والغمام قد انقضا

613 -

حاجة الأديب إلى كل علم

ص: 20

في (وفيات الأعيان): حكى أبو محمد إسماعيل بن موهوب الجواليقي (الأديب للغوي) وكان أنجب أولاده قال: كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر والناس يقرءون عليه، فوقف عليه شاب: وقال: يا سيدي قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما وأريد أن تسمعهما مني وتعرفني معناها، فقال: قل، فأنشده:

وَصْلُ الحبيب جُنان الخلد أسكنها

وهجره النار، يصليني به النارا

فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة

إن لم يزرني وبالجوزاء إن زارا

قال إسماعيل: فلما سمعهما والدي، قال: يا بني، هذا شيء من معرفة علم النجوم وسيرها لا من صنعة أهل الأدب. فأنصرف الشاب من غير حصول فائدة، واستحيا والدي من أن يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام وآلي على نفسه ألا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر فنظر في ذلك وحصل معرفته ثم جلس.

ومعنى البيت المسئول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في آخر الطول لأنه يكون آخر فصل الخريف؛ وإذا كانت في آخر الجوزاء كان الليل في غاية القصر لأنه آخر فصل الربيع. فكأنه يقول: إذا لم يزورني فالليل عندي في غاية الطول، وإن زارني كان الليل عندي في غاية القصر.

614 -

الأشراف والعقلاء تعجبهم الملح

في كتاب (التطفيل) للخطيب البغدادي أنشد محمد بن عمران قاضي المدين، وكان من أعقل من رئي من القرشيين:

يا أيها السائلُ عن منزلي

نزلت في الخان على نفسي

يغدو على الخير من خابر

لا يقبل الرهنَ ولا ينسى

آكل من كيسي ومن كسرتي

حتى لقد أوجعني ضرسي

فقال لمنشدها: اكتبني هذه الأبيات فقال له، أصلحك الله، أن هذه لا تشبهك. فقال له: ويحك! أن الأشراف والعقلاء تعجبهم الملح.

615 -

اسمع يا شيخ

قال أبن الباقرجي: بت ليلة متفكراً في قلة حظي من الدنيا فرأيت مغنياً يغني فالتفت إلي

ص: 21

وقال يا شيخ.

أقسمت بالبيت العتيق وركنه

والطائفين ومُنزل القرآن

ما العيش في المال الكثير وجمعه

بل في الكفاف وصحة الأبدان

616 -

ما قطعت شيئاً قط

في (تاريخ بغداد) للخطيب: قال أحمد بن أبي طاهر: كنت يوماً عند علي بن عبيدة الريحاني فورد عليه كتاب: (أم محمد ابنة المأمون) فكتب جواب الكتاب، ثم أعطاني القرطاس فقال: أقطعه.

فقلت: وما لك لا تقطعه أنت؟!

فقال: ما قطعت شيئاً قط.

617 -

توجه إلى ثيابك. . .

قال رجل لبعض الفقهاء: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل، أتوجه إلى القبلة أم إلى غيرها؟

قال: توجه إلى ثيابك التي نزعتها لئلا تسرق. . .

618 -

غري بذا من ليس ينتقد

قال يحيى بن حكم الملقب بالغزالي:

قالت: أحبكَ: قلت: كاذبة

غرْي بذا من ليس ينتقد

هذا كلام لست أقبله

الشيخ ليس يحبه أحد

سيان قولك ذا وقولك (م)

أن الريح نعقدها فتنعقد

أو أن تقول: النار باردة

أو أن تقول: الماء يتقد

619 -

. . . دعهم

في (إعلام الموقعين عن رب العالمين) لأبن قيم الجوزية، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية (قدس الله روحه ونور ضريحه) يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن صلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي

ص: 22

الذرية وأخذ الأموال فدعهم. . . . . .

620 -

ولع النساء بخطوط العظماء

في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) سأل أمير المؤمنين عبد المؤمن بن حفصة بنت الحاج الزكوني يوماً أن تنشده، فقالت ارتجالاً:

يا سيد الناس يا من

يمل الناس رفده

أمنن علي بطرس

يكون للدهر عُدَّه

تحظ يمناك فيه:

الحمد لله وحده

أشارت بذلك إلى العلامة السلطانية فإن السلطان كان يكتب بيده في رأسي المنشور بخط غليظ (الحمد لله وحده) فمن عليها وكتب لها بيده ما طلبت

621 -

كرديد ونكرديد

في (شرح النهج) لابن أبي الحديد: كان سليمان من شيعة علي عليه السلام وخاصته، وتزعم الإمامة أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رؤوسهم وأتوا متقلدي سيوفهم في خبر يطول وليس هنا موضع ذكره. وأصحابنا لا يخالفهم في أن سلمان كان من الشيعة وإنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك. وما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفة:(كريد ونكريد) - محمول عند أصحابنا على أن المراد صنعتم شيئاً وما صنعتم: أي استخلفتم خليفة ونعم ما فعلتم؛ إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت، فلو كان الخليفة منهم كان أولى والأمامية تقول: أسلمتم وما أسلمتم، واللفظة المذكورة في الفارسية لا تعطي هذا المعنى وإنما تدل على الفعل والعمل لا غير. ويدل على صحة قول أصحابنا أن سلمان عمل لعمر على المدائن فلو كان ما تنسبه الأمامية إليه حقاً لم يعمل

622 -

وإن أبغضها أنصفها

قال رجل للحسن (البصري) إن لي بنية فمن ترى أن أزوجها؟

قال: زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها، وأن أبغضها لم يظلمها.

وقال: بعضهم، وهو يشبه قول الحسن - لا تزوج كريمتك إلا من عاقل، فإن أحبها أكرمها وأن أبغضها انصفها.

ص: 23

623 -

ما خطر العدل على بالكم

يحيى السرقسطي:

نسبتم الظلم لعمالكم

ونمتُم عن قبح أعمالكم

والله لو حُكمتُمُ ساعة

ما خطر العدل على بالكم

ص: 24

‌هذا العالم المتغير!

للأستاذ فوزي الشتوي

يجتاز العالم الآن ثورة تنبئ بقلب نظم الصناعة والزراعة والطب وكل ما له صلة بالحياة الإنسانية، فأن الحرب الحالية قفزت بالعلم خطوات واسعة فذللت كثيرا من العقبات التي طالما وقف أمامها الإنسان حائراً

وعندما يعود السلام وتعلن أسرار الاكتشافات العلمية سيجد الناس أنفسهم في عالم غير الذي عرفوه. وفي هذا الباب سنقدم إلى القارئ العربي بعض أنباء هذه المكتشفات الحديثة

قاتل الميكروبات

أي حياة نعيشها إذا تخلصنا من المكروبات والحشرات التي تفتك بنا وبمتاعنا؟ إنك إذا تركت كوبا من اللبن ساعات تراه تجبن واصبح غير صالح للاستعمال. وإذا تركت أناء طعام مدة من الزمن تجد الفساد يدب فيه، وعلة هذا الفساد تلك الأحياء الصغيرة التي نسميها مكروبات أو جراثيم تهاجمنا في عملنا وفي نومنا فتصبغ حياتنا بلون خاص من التحفظ. فنحرص ألا نشرب من كوب شرب منه غيرنا، ونغلي طعامنا لنقتل ما يحتوي من جراثيم نحرص ألا تتسرب إليه مع الهواء

إننا نظن أننا عرفنا كيف نتقي الجراثيم، فينكر علينا الواقع حسن ظننا: فالحقيقة إننا تعودنا الاستسلام لفتك الأمراض المختلفة بأجسامنا، فان أصبنا بالتيفود أو التيفوس أو الملاريا أو غيرها من الأمراض أدركنا أن اللص وجد منفذا إلى أجسامنا فهل من سبيل إلى الخلاص من هذا العدو الذي لا يهدأ؟

كان هذا حلماً، فاصبح الآن حقيقة. وأمدنا العلم بأسلحة تقضي على المكروب الذي يسبح في الهواء، ويندس بين طيات ملابسنا، ويلتصق بفراش نومنا. فقد وصل إلى اكتشاف مركب كيميائي نغمر فيه ملابسنا وفراشنا وندهن به حوائط منازلنا وأرضياتها فيقتل كل مكروب يتصل بها. وتحتفظ هذه الأشياء بقدرتها على قتل المكروب سنة أو أكثر مع الغسل المتواصل

فان أضيف هذا المركب إلى أدوات البناء وشبعت به سجف منازلنا وآثاثاتها ضمنا خلو منازلنا ومكاتب أعمالنا من الميكروبات، ووفرنا أيضاً متاعنا فلا تستطيع الحشرات إتلافه

ص: 25

تمت أركان هذا الحلم في أحد معسكرات الجيش الأميركي منذ أسابيع قليلة بعد تجارب طويلة استمرت سنوات. فكر أطباؤه أول الأمر في إيجاد طبقة رقيقة تنشر على الأثاث والفراش والأرض، فإذا مر بها ميكروب امسكته إلى أن يموت. فلا يتطاير في الهواء كلما نظفت الغرف أو أثارت غبار أرضها مكنسة أو قدم.

واختير لهذه التجربة معسكران يعيش فيهما 16 ألف جندي قسموا إلى جزأين متساويين. فعاش ثمانية آلاف منهم في معسكرات عولجت بمادة زيتية تقبض على الجراثيم، وعاش الآخرون الحياة العادية. فكانت النتيجة أن قلت المكروبات المتطايرة 97 في المائة في المعسكر الأول، وقلت إصابات الجهاز التنفسي بمقدار الثلث عن زميلتها. ولم يرض الأطباء عن هذه النتيجة؛ فان الجنود لا تعيش داخل معسكراتها إلا فترة قليلة من الزمن. فليس المطلوب هو اصطياد الميكروب بل قتله

وأقبلت هذه الحرب فأوجبت ميادينها في الشرق الأقصى بين الغابات والمستنقعات حل هذا المعضل بكل سرعة. ولم يكن العلماء مجردين من كل الأسلحة بل كانوا يحتفظون بمركب من القار والنحاس ولكنه كان كريه الرائحة مهيجا للجلد يستحيل غمر الملابس به حتى لا تؤذي الجلد. فكان من الضروري الحصول على مركب عديم اللون والرائحة لا يؤثر احتكاكه بالجلد وتبقى خواصه في الأنسجة سنوات برغم غسلها وتنظيفها

وعهد بالفكرة إلى فريقين: أولهما كيميائي بلجيكي اسمه ليورامبل ويساعده ابنه جاي؛ وثانيهما علماء معمل الكيمياء التابع لشركة جالهور. وقدمت التجارب الأولى إلى الفريقين لتهذيبها أو استنباط ما هو أفضل منها. فاستمرت التجارب عدة شهور توصلوا في نهايتها إلى مركب أساسه الزئبق. وتقدر قابليته للفتك بالمكروبات بخمسة عشر ضعفا لحامض الفنيك ومع ذاك لا يهيج الجلد ولا يتلف الملابس

واختير المركب الجديد فجاز اختيارا دقيقا أثبت به أنه خير قاتل للمكروبات. فهو لا يستطيع أن يقتل فأراً صغيراً، فإن غمست فيه قطعة قماش ونشفتها ثم وضعتها في أناء به مكروبات التيفوس مثلا ثم سحبتها منه وحفظت الإناء في مكان مظلم وعدت إليه بعد أيام لتختبره تجد أن الميكروبات لم تتكاثر، وأن البقعة التي هبطت فيها قطعة القماش ظلت منطقة حرام خالية من الميكروبات. ولولا هذا المركب لتكاثرت ميكروبات التيفوس

ص: 26

وغيرت لون سائل الإناء

وغمرت قطع النسيج في المركب القاتل للميكروبات ثم غسلت مرات وعرضت للهواء ولأشعة الشمس فوجد أن المنسوجات الصوفية احتفظت بقتلها لكل ميكروب يقترب منها بعد عشرين غسلة. وغمرت فرشة أسنان في المركب فاحتفظت بخواصه 700 غسلة.

وأراد الكيميائي رامبل أن يجرب تأثير مركبه على الجروح، ولكن المستشفيات رفضت أن تجعل من مرضاها حقل تجارب؛ فلم يجد مفرا من جعل نفسه هذا الحقل. فاحدث في كل من ذراعيه جرحا. ورطب إحداهما بمنديله المشبع بمركبه. وعالج الثانية بالقماش المعقم والقطن بالطرق الطبية، فشفيت الأولى بسرعة، وظلت الأخرى مدة طويلة التهبت فيها مرات لان المكروبات هاجمتها.

وليعرف رامبل تأثير مركبه على المنسوجات غمر نصف قميصه الأيمن في المركب الزئبقي. وبعد مدة طويلة من الاستعمال المتواصل خفت أنسجة الجزء الأيسر بشكله ومتانته. فان المكروبات والبكتريا التي تحب العرق إلا نساني كانت تهاجم الجزء الأيسر وترعاه، ولكنها لا تقرب من الأيمن فلم تستطع التأثير في أنسجته

فان عولجت كل الحاجات التي يتناولها الإنسان أو يستعملها بهذا المركب فأنه يأمن شر المكروب والبكتريا. فلا يكون وسيلة لنقل الأمراض في مناديله وملابسه وأحذيته أو في فراشه، بل يوفر على نفسه كثيرا من النفقات بحماية تلك الحاجيات من البكتريا فلا يتعفن طعامه أن هو أهمله يوما أو بعض يوم. فمن تجارب رامبل أنه عمد إلى برتقالتين غطى إحداهما بمركبه الزئبقي، وترك الأخرى للطبيعة، وتركهما ستة أسابيع فوجد الأولى كما تركها ولكن مقوسة لتبخر مائها، أما الثانية فوجدها خرابا تفوح منها رائحة العفن.

فوزي الشتوي

ص: 27

‌حولي عينيك.

. .

للشاعر عبد الرحمن الخميسي

حَولي عَيْنَيكِ، إني لا أُطيقْ

ما تَصُبانِ بنفسي من حريقْ

حَولي عني سُطوعاً فيهما

قد أراني الجُرْحَ في غَوْرى السحيقْ

حَولي عني سماءً فيهما

طَيْرهَا قلبي، ونجواهاُ خُفوقْ!

حَولي عني لهيباً فيهما

لَفْحُه يُوغْل في مَسرىَ العروقْ

إنما تَرسُبْ عيناكِ إلى

قاع روحي. . . كالرَّدى المْنَعِقِد

إنما تختَرقْ النفس بما

فيهما من لهبٍ مُتَّقِد!!

إنما تثُقبُ ما أنسجُه

مِنْ غِشاءِ الكْبرِ مُنْفَرِدى

إنما تَجْذِبنِي. . . مُنْطرِحاً

تحتَ إقدامِك، مَغُلول الَيْدَ!!

لَيْتَ لي القُوَّةَ، أَسْتَنزفُها

في مُعاَناَةِ المَنايَا منهما!!

لَيْتَ لي الُقَّوةَ، لكنْ ما نجاً

في احْتِماَلِي رَمَقٌ أو سَلِماً

ما نجا لي رَمَقٌ يُسْعدُني

أن أُضحيِه ذبيحاً لهما

حَولي عَيْنَيكِ يا قاهرتي

واسمعي القصةَ تَنْدَى بالدماءْ

قد نبشْتُ القبرَ، فأصْحُ الآن يا

ماضِيَ الحب، قتيلَ البُرحَاءْ!

وأغْتَفِر لي أنني قد هَتَكَتْ

قبضتي الُحرْمَة في وادي الفَناء

أيها الماضي. . . أفِقْ وأخْطُر كما

شئتَ بالأكفَانِ في هذا الفضاء

أيها الماضي. . . أفِقْ واقذِفْ بما

فيكَ من هَوْل إلى مَرْأى العُيُونْ

كلُّ يوم فيكَ كأسٌ مِلْؤُها

دَمُ قلبٍ، وَنُفَاثَاتُ طَعِينْ!!

وَثَوانيكَ شُجونٌ رَزَحَتْ

تَحَتَها مُهْجَةُ غِريدٍ أمين

سقَرٌ أنْتَ وقد كابدْتُهُا

في نعيم الحب فياضَ الشئون

أيُّها الماضي أفِقْ واجْهَشْ بما

فيك من رعْدِ البلايا والعذابْ

كي تُريها ما بأياِمك من

حُرقاتٍ وَدُمُوعٍ وَسَرابْ. . .

جُثةٌ أنْتَ. . . وقد مزَّقَها

سَوْطُ حِرْمَانِ شبابٍ من شبابْ

إسْلَخِ الأيامَ من ظلمتها

تتساقَطْ حولها فوق التراب!

ص: 28

أنْتَ يا ماضِي. . . أطْلِقْ نحوها

كلَّ أوقاتِكَ من قَيْدِ الزمن

تتنزَّى في خُطًي تَلْقَفُهَا

عثراتٌ وشكوكٌ ومحنْ. . .

وانشُرِ الآن ليالِي التي

تنزفُ السعدَ وتستبقي الشجنْ

لترى ظالمتي السهد الذي

طالما سايَرني فوق الدمَنْ!!

ابعثِ الآن دفين الذكَرِ

لتُريها كيف ولي عُمُري

في هلاك اليأس قد طاردتني

خوْفُ قلبٍ باللظى مُدَّثِر

خوف حرمان تَرَدَّيْتُ به

وارتوى من نابعات الفكرِ

وتلوَّى في ضلوعي نَهِماً

يغتذِي بي في شقاء السهرِ

كم حنين قصّ وجُداني وما

كفّ حتى صبغَتْ ليلِي الدماء

وعذابٍ طحن النفس فلم

يُبْقِ منها ما يُذَريه الهواءْ

وبكاءٍ كنت أَسْتدَنْي به

في خيالي رحمة لي وعزاء

وأحرُّ الدمع ما تبذُله

عين مظلوم شديد الكبرياء

هذه الغيلان عَبَّتْ من دمي

فانتشت تقصف في هَوْلَ الظلامْ

نهَشَتْ لحمي فَدَوَّت من فمي

صرخات الذعرْ والناس نيام

وأنا وحديَ دكَّتْ أعظُمي

رهبة المُشْفى على مهوى الحِمام

هذه الغيلان غيلان الأسى

أكلَتْ راحة قلبي المستهام

هذه الغيلان لم تُبْقِى سوى

هيكل من جسدي مرتعد

وعظامٍ زلزلتها في الدُّجى

سَطْوَةُ الحمىَّ التي لم تُعْهَدِ

طلَلٌ أسعى وزادي لم يعد

غَير أشواق أضاءت معبدي

طلَلٌ أسعى وفي أركانه

روح آمالي التي لم تُلْحَدِ

طلَلٌ مُنْتَفِضٌ يمشي وقد

قصمَتْ أضلاعَه فأْسُ القضاء

خَرِبُ الأنحاء يستوطنه

من معدات المنايا ألف داء

شاحب الجلد كأني مَيتٌ

طرد اللحدُ رُفاتي في الخلاء

إن تجده العين لا تُنكره

إنما تمطرهُ سَيْلَ بكاء!!

يَغْتَد الأحياء في قبضته

رحمةً، لو يستَدِر الرُّحماءْ

ص: 29

إنما يعينه قلبٌ واحدٌ

هو في صدركِ يا نَيْلَ الرَّجاء

انظري كيف استحالت نضرتي

صُفرة يُنكرُها حتى الفناء

غائر العينين، مَعرُوقُهما

أطفأتْ سحرهما ريح الشقاء

أيهاَ المَاضي ألا تَعْرفُني؟

شَدَّ مَا أَلْقَاك قَد أنْكَرتني!

أنْتَ مني قطْعَةٌ كَفّنْتُها

بِسِنيِني وَطَوَاهَا زمَني!

أنْتَ بُنْياَنٌ أَقَمَنا فَوْقَهُ

حَاضِراً. . . يَا لَيَته لم يكُنِ!

حَاضِراً يَمْتَصُّ أَعْصابِي ولا

يَنْثَني بالوَيْل يَسْتنزِفني

أَنْتَ سَيْلٌ عَارِمٌ مُنحْدَرٌ

منْ حَيَاتَي في مَصَبَ الأَزَلِ

هَلْ لأمْوَاهِكَ أنْ تَرْتَدَّ في

نَهْرِ عُمْرِي، مُرْجِعاتَ أوَّلى؟

ثُم هَلْ للريح أنْ تَقْتَادَني

في اتجاهٍ غير ما قُدرَ لي!

كيْ أُوَقيك الذي حُملْتَهُ

مِن رُكامِ النُّوبِ المُتَّصل!

أين تمضي أيُّها الماضي وفي

أي كهفٍ تختفي باْلعُمُر؟

بعد موتي هل ستلقاني وَهَلْ

سَوف ألقْاكَ كَميِلَ الصُّورِ؟

أمْ ستنساني وأنساكَ وما

عُدْتَ تحيَا نَابِضاً في ذِكَرى

شَدَّ ما أرْهَبُ لُقْيَاكَ إذا

حانَ حَيْني وانتَهى بي سَفَرِي

أنْتَ رَجْعٌ للأَغاَرِيد التي

كُنْتُ أَسْتَودِعُها قلَبْ الزمانْ

عُدْ إلى ساحِرتَي واقْطُر بما

فيكَ من شَجْوٍ لَدَيْهَا وهَوانْ

واحْتَفِر لي مَسلكاً في قلبها

يحتويني مرَّةً مِنهُ الحنَانْ

أيُّها الماضي وطَهرْ كْعَبةً

حولهَا تُعْبَدُ فيها وتُصَانْ

كم نهارٍ فيكَ أَسْتَوْقُفُه

في هُوى الزمَنِ المُنْصِرمِ

كُنْتُ أَسْتَوْقُفه مُستَرْحماً

أن يُعيد الكَر حَولَ الأنُجمِ

عَل في أوقاتِه لي مَوْعُداً

تَائِهاً يُشْرى بِرُوحي ودمي

كم غُروبٍ كُنْتُ أَسْتَلُهمه

في اجْتياحِ الهْادِرِ الُمْنصِرفِ

فَزعاً أَجْارِ في تَيَّارِه

بضمير راعدٍ مُرْتجفِ:

أيُّها التيارُ لا تَطْرَحْ لقى

خلفَ أنوارِكَ نَهْبَ السُّدُفِ

ص: 30

أنني أخشى الدُّجَى، يا سُمه

لُفِؤادِ الصب من مُغْتَرفِ!

كم مَساء كُنْتُ أَسْتَل به

زَفْرَتي كالْخِنجَر المُنْغَرس

صُغْتُ أنفاسي بهِ أُنْشُودةً

للْهوى رَفَّافةً كاْلقَبَسَ

كم تمَاثِيلَ بأحْضانِكَ قَدْ

شِدتْهُا بالأمَلِ المُنْدَرسِ

شِدْتُها لِلحُب تَسَتْعبِدنُي

وهْي مِنْ صُنْعِي سَوادَ الْغَلَسِ

كم ظلامٍ فيكَ قد مَزَّقُته

عن صباح مُكْفَهر الْجبهِة

باعثاً طيرَ فُؤادي نحوها

ضارعاً بالشوق يَفْرِي مُهجتي

آملاً تمنحهُ رحمتهَا

فُيغَني فَرحاً في أيكتي!

وإذا الأيقاظ ركْبٌ هائِلٌ

قَاصِفٌ يسخُر من أُمْنِيتَّي

كم نسيمٍ فيكَ قد حَرَّرْتُه

من نِطَاق الْحَّيزِ المُخْتَلجِ

شَرَبْتُه أذُني واسْتَعْرَضَتْ

ما به من همسات المُهَجِ

عَلهَّا تظفرُ في طَيَّاتِه

بَصدًى من صوتها المُنْبِلجِ

بصدًى يُبْرقُ في رُوِحي كما

تُبرقُ الأنوارُ فوق الثّبَجِ

كم ربيع فيكَ قد رَوَّيْتُ من

روْضُه بالدمْع زَهْرَ الأملِ

وخريفٍ عاطفيٍ غالَ ما

أَنبت الساقي بماءِ المُقَلِ

كم ربيع فيكَ داهمني

بشتاءِ في ضميري مْوغِل

بَرْدُهُ يَصْطَكُّ منه قَفَصَي

وَرَدَاه زاحفٌ في أجَلي

هكذا وَّلتْ حياتي فانظُري

أي مَوت جَرعَتْنِيِه الحياة

أنقِذنِي قلبي ففي دقَّاتِه

هتفاتٌ لكِ يا كلَّ مُناه!

هتفاتٌ شَقّتِ الصَّدْرَ لها

من سِنانِ الصدْقَ حدُّ لا أراه

فاسمعيها وارحمي مُرْسِلها

فَهْوَ يهواكِ ولو كنتِ رَداهْ!

(القاهرة)

عبد الرحمن الخميسي

ص: 31

‌البريد الأدبي

إلى معالي الدكتور عبد الرزاق السنهوري بك

يا وزير الحقَّ والعدل ويا

منهلاً يَغْرف منه كل غارفْ

// لك في العلم مكانٌ سابقٌ

وتليد في القوانين وطارفْ

كنت كالصخرة لا تَعْيَا على

صَخَبات الموج والتَّيارُ جارفْ

العصامية فيك انكشفت

عن ضليع وقدير في المواقف

هذه (دجُلة) قد روَّيتها

فهي ظلُّ مِنْ جَنَى علمك وارفْ

فاجعل العلم بمصرٍ قبلةً

يلتقي في كعبتيها كلُّ طائفْ

قد شَدَدَتْ العدل في دارته

فأَقْمُه اليومَ في دار المعارفْ

م. ع. ح

نشيد العرب

(اختار إمام العربية الأستاذ إسعاف النشاسيبي هذه الأبيات من قصيدة للشريف بهذا العنوان في كتابه (البيتمان) واقترح بعض الأدباء في مجلسه أن يلحنها أحد الملحنين لتكون النشيد العام لـ (جامعة الدول العربية) وكان الأستاذ سامي الشوا حاضراً فأخذ على نفسه أن يلحنها وتلك الأبيات):

أما كَنَتَ مَع الحي

صباحاً حينَ ولينْا

وقد صاحَ بنا المجدُ

إلى أينَ إلى أينا؟

لنا كلُّ غلامٍ هُّم

هُ أن يَرِدَ الحْينا

لنا السَّبْقُ بأقدامٍ

إلى المجدِ تساعَينا

ترى زَمْجَرَة الآسا

د همساً بين غابَيْنا

مَلَكَنا مَقَطَع الرزِق

فأقْفرنا وأغنَيْنا

وحُزنا طاعةَ الدهرِ

فأغْضَبْنا وأَرْضينا

إذا ما ثَوَّبَ الداعي

إلى الموتِ تَدَاعَيْنا

تصويب

ص: 32

وقعت أخطاء مطبعية في مقالي الثاني عن مليم الأكبر بالعدد الماضي من (الرسالة). وكثيراً ما وقع مثلها في مقالاتي فلم أنبه إليه اعتماداً على ذكاء القارئ، وتوفيراً للوقت والورق!

ولكني يعنيني اليوم تصحيح خطأ يقلب قضية كاملة، فقد سقطت كلمة (لا) من جملة، فأحالت المعنى إلى نقيضه في موضع شديد الحساسية!

قلت عن المؤلف (مليم) بعد اقتباس فقرات من كتابه: (فهم بعض إخواننا من هذه الفقرات أنه يشير إلى أسلوب (القرآن) وتحكمه في نمو الأدب العربي، وغضبوا لهذا الفهم جداً. . .)

ثم قلت:

(وأنا لا أحب أن أعرض للمسألة على هذا الوجه، ولا أن أحكم الحس الديني في مسألة أدبية)

وهذا هو التصحيح بنفي الجملة، وهذا ما اتبعته في كتابي (التصوير الفني في القرآن) الذي أشرت إلى منهاج البحث فيه على هذا الأساس في نفس المقال. فقد أردت أن تكون نظرتي للقرآن نظرة فنية بحتة مجردة عن كل تأثر ديني في دراستي لطريقته التصويرية المبدعة.

سيد قطب

تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية

أصدرت لجنة التأليف هذا الكتاب بقلم معالي مصطفى عبد الرزاق باشا، وهو يقع في 359 صفحة من الحجم الكبير، والكتاب قسمان وضميمة: القسم الأول مقالات الغربيين والإسلاميين في الفلسفة الإسلامية وتحته فصول: الأول في مقالات المؤلفين الغربيين، والثاني في مقالات المؤلفين الإسلاميين، والثالث في تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين، والرابع في الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين. وعنوان القسم الثاني (منهجنا في درس تاريخ الفلسفة الإسلامية)، وتحته ثلاثة فصول: الأول في بداية التفكير الفلسفي الإسلامي، والثاني في النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه، والثالث في الرأي وأطواره. وخاتمة الكتاب ضميمة في علم الكلام وتاريخه

ص: 33

هذا الكتاب هو أهم وأعظم المؤلفات خطراً من الناحية الثقافية في العصر الحاضر، ولا ترجع أهمية الكتاب إلى أن صاحبه وزير من وزراء الدولة، بل لأن المؤلف كان الأستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة، وانه صاحب مدرسة لها شأنها في مصر والشرق. وليست هذه المدرسة داراً ذات جدران يختلف إليها المدرسون والطلاب في أوقات معلومة، بل هي مدرسة روحية تعتمد على الطريقة والمذهب، والأسلوب والفكرة. وهي مدرسة قديمة زعيمها جمال الدين، ثم تلميذه محمد عبده، ثم تلميذه مصطفى عبد الرزاق.

منهج المدرسة الحرية في البحث، والتثبيت والتحقيق، والاعتماد على الثقافة الإسلامية الصحيحة، ومذهبها النهضة والإصلاح في العلم والدين.

والحرية أهم ما يميز منهج هذه المدرسة. ومن آيات ذلك أن زعماءها لم يجدوا حرجاً في الاطلاع على آثار الغربيين والمستشرقين، والأخذ بما في آرائهم من صواب، ونبذ ما جاء على لسانهم من أخطاء، ولاشك أننا استفدنا من طرائق الغرب في البحث، كما أننا نأخذ عنهم إلى جانب العلوم الحديثة كالطبيعة والكيمياء وعلم الحياة، التاريخ الإسلامي وعلوم الدين. ذلك أن المؤلفات الإسلامية في التاريخ والدين التي كتبت في عصور قديمة لا تلائم روح العصر الجديد ولا يتذوقها المحدثون الذين درجوا في دراساتهم على مناهج الغربيين الحديثة. ومن الخطر الشديد أن نستقي تاريخنا عن الغرب، ولا حيلة للشباب إلا الرجوع إلى هذه المؤلفات الأجنبية، لأن الطبيعة نشأتهم في الدراسة تدفعهم إلى ذلك. وقد كان مصطفى باشا رفيقاً في خطاب هؤلاء المستشرقين فقال:(أما بعد، فان الناظر فيما بذل الغربيون من جهود في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها لا يسعه إلا الإعجاب بصبرهم ونشاطهم وسعة اطلاعهم وحسن طريقتهم. وإذا كنا قد ألمعنا إلى نزوات في الضعف الإنساني تشوب أحيانا جهودهم في خدمة العلم، فأنا نرجو أن يكون في تيقظ عواطف الخير في البشر، وانسياقها إلى دعوة السلم العام، والنزاهة الخالصة والإنصاف والتسامح، مدعاة للتعاون بين الناس جميعاً على خدمة العلم باعتباره نوراً لا ينبغي أن يخالط صفاءه كدر)

فأنت ترى أن المؤلف اطلع على مقالات المستشرقين، ثم ناقشتها، ثم عاد إلى الأصول التي استقى منها الشرقيون نتائج أبحاثهم وهي الكتب والمخطوطات الإسلامية، ودرسها

ص: 34

بنفسه وذوقه واستعداده وروحه أو روح المدرسة التي وصلت زعامتها إليه، ينشد الحق والخير، وينبغي النهضة والإصلاح.

وفي الكتاب ظواهر كثيرة جديرة بالتسجيل والالتفات أولاها أن المنهج الذي جرى عليه المؤلف منهج حديث سليم، يتذوقه أولئك الذين درسوا على مناهج الغربيين

والظاهرة الثانية هي الدقة في تحري الحقائق في مظانها، ورد الأقاويل إلى مصادرها، مع الإحاطة بأغلب المصادر من مطبوع ومخطوط.

والثالثة الوضوح التام، والتمييز بين المعاني المختلفة والآراء المتباينة، وإيراد الحجج لأنصار الرأي ومخالفيه، والخروج بعد ذلك بالنتيجة الصحيحة.

وعنوان الكتاب (تمهيد لدراسة الفلسفة الإسلامية)، يشير إلى الغرض الذي يرمي إليه صاحب الكتاب، وهو دعوة المفكرين والطلاب إلى السير في هذا الطريق، واستيفاء البحوث التي أثارها وفتح أبوابها فكانت موضع النظر والتفكير الطويل

وأبرز الآراء وأكثرها خطراً القول بأن الفلسفة الإسلامية الصحيحة ينبغي التماسها في بفقه الإسلامي

هذه القضية تناقض تمام التناقض ما يقول به المستشرقون بأن المسلمين عارون عن الفلسفة، وأن الفلسفة التي دخلت إلى ثقافتهم يونانية.

ومنهم من يعتبر أن علم الكلام هو أصل الفلسفة الإسلامية وأن علم الكلام عند المسلمين مستمد من الفلسفة اليونانية متأثر بها.

ومنهم من يرد بعض الفلسفة الإسلامية إلى الفرس والهند

أما أن الفقه هو اصل الفلسفة الإسلامية، فنظرية جديدة لاشك أنها ستفتح باباً جديداً للبحث والجدل والمناقشة.

ويرى مصطفى باشا بعد الاستشهاد بأقاويل المؤرخين الإسلاميين أن الشافعي هو (أول من وضع مصنفاً في العلوم الدينية على منهج علمي)؛ ومصنف الشافعي هو (الرسالة).

ونحب أن ننقل إليك ما كتبه مصطفى باشا عن (مظاهر التفكير الفلسفي في الرسالة) بعد أن حللها تحليلاً وافياً:

(ورسالة الشافعي كما رأينا تسلك في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسقاً مقرراً في ذهن

ص: 35

مؤلفها، قد يختل اطراده أحياناً ويخفي وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض، ولكنه على ذلك كله بداية قوية للتأليف العلمي المنظم في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى.

وإذا كنا نلمح في الرسالة نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية العناية بضبط الفروع والجزيئات بقواعد كلية. . . فأنا نلمح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخرى.

منها هذا الاتجاه المنطقي إلى وضع حدود والتعاريف أولاً، ثم الأخذ في التقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم.

ومنها أسلوبه في الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه وحتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث حواراً فلسفياً على رغم اعتماده على النقل أولاً.

ومنها الإيماء إلى مباحث من علم الأصول تكاد تهجم على الإلهيات، أو علم الكلام، كالبحث في العلم. . .)

هذه هي جملة ما ذكره المؤلف خاصاً بمظاهر التفكير الفلسفي عند الشافعي صاحب الرسالة. ولم يستطع أن يجزم بأنها فلسفة بمعنى الكلمة؛ فاستعمل ألفاظ الترجيح كقوله (نلمح للتفكير الفلسفي مظاهر أخرى) وكقوله (حتى لتكاد تحسبه).

ومهما يكن من شيء، فهذا الكتاب يفتح آفاقاً جديدة، وبحثاً لا يزال بكراً، سيدفع المفكرين إلى الاتجاه إلى الثقافة الإسلامية اتجاهاً جديداً، يلتمسون فيه الخصوبة الأصلية للإسلام، والقوة العقلية التي سادت في مدينتها قروناً طويلة من الزمان.

دكتور أحمد فؤاد الاهواني

ص: 36