المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 606 - بتاريخ: 12 - 02 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٠٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 606

- بتاريخ: 12 - 02 - 1945

ص: -1

‌الاتجاهات الحديثة في الأدب العربي

للأستاذ عباس محمود العقاد

شاعت في الأدب العربي اتجاهات حديثة منذ أوائل القرن الحاضر لم تكن شائعة في عصوره الماضية. ولكنها على هذا لم تزل على اتصال بعناصر الأدب العربي من أقدم عصوره

ومن شأن هذا الاتصال أن يحوط التجديد بشيء من الأناة والتريث، لأن الأدب العربي متصل باللغة كجميع الآداب في الأمم كافة، ولكن اللغة عند العرب خاصة متصلة بكتاب الدين الإسلامي وهو القرآن الكريم، ومن هنا كان الانقطاع بين الاتجاهات الحديثة والعناصر القديمة أصعب وأندر من المعهود في آداب الأمم الأخرى، وأمكن أن تقاس درجة المحافظة، أو درجة التجديد، في كل قطر من الأقطار العربية بمقياس التراث الإسلامي فيه. فحيثما تمكن هذا التراث في جوار الأماكن المقدسة، أو المساجد الكبرى، أو المعاهد العلمية العريقة، فهنالك تزداد الأناة في تلبية الاتجاه الحديث، ويشتد الحرص على دوام الصلة بين القديم والجديد، كما يشاهد في أطوار حركة التجديد بالحجاز والعراق والشام وفلسطين وبلاد المغرب ومصر ولبنان إلى جانب هذا العامل القوي من عوامل الأناة المقصودة، يعرض للأدب العربي سببان آخران غير مقصودين، يعوقانه عن الاسترسال مع كل حركة جديدة وكل اتجاه حديث. وهما غلبة الأمية وقلة القارئين، ونقص وسائل النشر لتوزع القراء بين الأقطار العربية وصعوبة توحيد النشر فيها

وقد يظهر اختلال وسائل النشر حتى في القطر الواحد الخاضع لحكومة واحدة، كما نرى في الديار المصرية، حيث أوشكت القاهرة أن تنفرد بوسائل النشر المنتظم وتعذَّر قيام المكتبات الناجحة في غير العاصمة الكبرى

فالاتجاهات الحديثة في الأدب العربي تخضع لهذه العوامل التي تحدها عن قصد وروية، أو عن ضرورة لا قصد فيها، وهي عوامل يندر أن تجتمع نظائرها في أدب أمة واحدة، ولهذا يلاحظ أن الاتجاه الحديث في أدبنا العربي يجري في مجراه بداءة ثم لا يبلغ أقصى مداه الذي يتاح له أن يبلغه في الأمم الأخرى، ولا يخلو هذا الحد من بعض الخير، حين يمنع الاندفاع والاعتساف في اتباع الدعوات الطارئة، ولكنه خليق أن يعالج في جانب التعويق

ص: 1

منه، كلما كان هذا التعويق عارضاً من عوارض النقص والاختلال

وعلى هذا كله قد اتجه الأدب العربي في أوائل القرن العشرين وجهات محسوسة لم تكن شائعة في عصوره الماضية بعيدها وقريبها، سواء في مبناه أو في معناه، أي سواء في الألفاظ والعبارات، أو في المطالب والموضوعات

ففي اللفظ تتجه الكتابة العربية إلى التصحيح والتبسيط، وتنجم في العالم العربي من حين إلى حين دعوات جدية إلى إعادة النظر في قواعد اللغة، لتيسير الكتابة بها وتعميم فهمها. وتصدر هذه الدعوات عن نيات مختلفة لغايات متباينة. ولكنها قد تنقسم في جملتها إلى قسمين اثنين: أحدهما يراد به تغليب اللغة الفصحى، والآخر يراد به تغليب اللغة - أو اللهجة - العامية وإحلالها محل الفصحى في الكتابة والخطابة وأحاديث المعيشة اليومية.

وكل ما يبدو من مصير هذه الدعوات أن الأمر لا ينتهي بانفراد اللغة الفصحى ولا بانفراد اللغة العامية في الكلام المكتوب. وإنما يدل الاتجاه الظاهر - إلى يومنا هذا - على إمكان العزل بين الموضوعات التي تُستخدم فيها كلٌ من اللغتين. فتستخدم العربية الفصحى في الموضوعات العامة الباقية، وتستخدم العربية العامية في الموضوعات المحلية الموقوتة، ومنها لغة الكثير بين الروايات التمثيلية سواء في المسرح أو في الصور المتحركة، وكأنهم يحسبونها بهذه المثابة من الكلام المسموع الذي نمر به في المسرح كما نمر في الأسواق والبيوات، ولا يشعر من يسمعه بالانتقال من بيئة المعيشة اليومية إلى بيئة التعليم والثقافة، وقد يساعد على الترخص في لغة التمثيل أنها لا تكتب الآن ولا تؤلف للبقاء الطويل، وإنما تؤلف لموسم بعد موسم، وقلما تعاد بعد انقضاء مواسمها

أما موضوعات الكتابة العربية، فأول ما يلاحظ فيها غلبة المنثور على المنظوم، خلافاً لما كان معهوداً في معظم العصور، قبل بداية القرن العشرين. .

ولابد من انتظار الزمن قبل الحكم بدوام هذه الحالة أو زوالها وارتهانها ببعض الأسباب الموقوتة. ولكننا نستطيع أن نلمس منذ الساعة، سببين بارزين يفسران لنا هذا الاتجاه الجديد في تاريخ العصور الأدبية: أولهما أن الشعر كانت له في العصور الماضية طائفة نافذة السلطان تشجعه وتتكفل بقائليه، وهي طائفة الممدوحين من العظماء والسراة وأصحاب المصالح السياسية، ولاسيما في الزمن الذي كان النظم مفضلاً فيه على النثر في

ص: 2

الدعوات السياسية لسهولة حفظه على الأميين وغير الأميين. وثانيهما أن الشعر قد شورك مشاركة قوية في بواعثه ودواعيه عند جمهرة القراء من غير طبقة السادة والعظماء. فإن جمهرة القراء يجدون اليوم منافذ كثيرة للتعبير عن العاطفة والترويج عنها في الروايات الممثلة والروايات المقروءة وما يذاع من الأغاني أو يحفظ في قوالب الحاكي ويردد في المحافل العامة، فضلاً عن الصحف والمجلات وسائر النشرات. وكل أولئك كان ميداناً للشعراء يوشك أن ينفردوا فيه.

ويلاحظ بعد هذه الملاحظة العابرة عن الشعر والنثر، أن نصيب القصة في الكتابة المنثورة آخذٌ في الازدياد والانتشار، وأن فن القصة العربية قد تقدم في الربع الثاني من القرن العشرين تقدماً لم يعرف له مثيل في ربعه الأول ولا في القرن الماضي الذي ازدهر فيه فن القصة بين الآداب العالمية. وفي بعض القصص التي تؤلف في هذه الفترة نزوعٌ إلى ما يسمى بالأدب المكشوف ترتضيه طائفة من قراء الجنسين، ولا يقابل بالرضى عنه من جمهرة القراء

ثم يلاحظ مع هذا أن الترجمة تنقص في هذا الربع الثاني وأن التأليف يزداد ويتمكن في كثير من الأغراض.

ولعل مرجع هذا إلى نمو الثقة بالنفس في الأمم العربية، وإلى ظهور طائفة من الكتاب يستطيعون الكتابة في موضوعات مختلفة، كانت وفقاً على الترجمة قبل ثلاثين أو أربعين سنة.

وهنا أيضاً يحسن بنا أن ننتظر أطوار الزمن قبل الحكم بدوام هذه الحالة أو زوالها وارتهانها ببعض الأسباب الموقوتة

لأن نشاط التأليف في السنوات الأخيرة قد يرجع إلى عوارض مستحدثة في الحرب العالمية الحاضرة، ومنها قلة الوارد من الكتب والمطبوعات الأجنبية، واتساع الوقت للقراءة واللُبث بالمنازل في الليالي التي قيدت بها الإضاءة ومواعيد السهر في الأندية العامة، ومنها ضمور حجم الصحف والمجلات وفرض الرقابة على المنازعات السياسية التي تشغل طائفة كبيرة من القراء، ومنها حالة الرواج التي يسرت أثمان الكتب لمن لم تكن ميسرة لهم قبل سنوات

ص: 3

فإذا استقرت هذه الأسباب جميعها في قرارها بعد تبدل الحال وضحت الحقيقة في حركة التأليف ووضحت كذلك في حركة الترجمة، لأن الترجمة قد تعود إلى رجحانها بعد تدفق المؤلفات الأجنبية التي تعالج مشكلات العالم في منابتها الأولى، وقد يكون تدفق هذه المؤلفات موجباً للكتابة في موضوعاتها والتعقيب عليها دون ترجمتها

أما أغراض الأدباء من موضوعاتهم وكتاباتهم، فالربع الثاني من القرن العشرين حقيق أن يشهد فيها أنشعاباً لم يسبق إليه قط بين المدرستين الخالدين على مدى الزمان، ونعني بهما مدرسة الفن للفن، ومدرسة الفن لخدمة المصالح الاجتماعية أو المصالح السياسية

فمنذ وُجد الأدب وجد الأدباء الذين يكتفون بالتعبير لجماله وإعرابه من سرائر النفس الإنسانية، ووجد الأدباء الذين يعبرون ليرجّحوا دعوة على دعوة، أو يقنعوا الناس بمذاهب من مذاهب الإصلاح ويحركوهم إلى عمل مقصود.

ولكن الآونة التي نحن فيها تجنح بالناس إلى التفرقة الحاسمة بين المدرستين الخالدتين، لأنها ليست تفرقة بين رهطين من الأدباء وكفى، ولكنها تفرقة بين حكومية وطبقات اجتماعية ودعوات فلسفية لا تزال عرضة للمناقشة في صدد المعيشة اليومية وصدد التفكير والدراسة. إذ كان من قواعد الاشتراكية المتطرفة أن الطبقة الاجتماعية الغالبة على الحكم في حل من تسخير الآداب والفنون والعقائد لخدمة مصالحها وتمثيل عاداتها وآمالها. فإذا أضيف القائلون بهذا الرأي لأنهم يدينون بالاشتراكية إلى القائلين به لأنهم ينكرون مذهب الفن للفن عامة، فقد أصبحت الآونة الحاضرة في الحقيقة آونة النظر في المدرستين الخالدتين على وجه من الوجوه.

وقد ظهر في اللغة العربية بعض القصص، والدراسات التي تتناول المسائل الاجتماعية، وتصور الغني والفقير، والرجل والمرأة في صورة تستحث النفوس إلى طلب الإصلاح والتغيير. ولا تزال تظهر فيها قصص ودراسات تصور الحالة في صورتها الفنية وتترك العمل المترتب على ظهورها في هذه الصورة لشعور القراء. ولكننا نعتقد أن مصير الخلاف بين المدرستين، كمصير الخلاف بين دعاة الفصحى ودعاة العامية، فلا تنفرد مدرسة الفن للفن بالميدان، ولا تنفرد به مدرسة الفن لخدمة المقاصد الاجتماعية، لأن أنماط الكتابة والتفكير لا تفرض بالإملاء والإيحاء، وإنما تفرضها على الأديب سليقته ومزاجه.

ص: 4

فمن غلبت فيه سليقة المصلح على سليقة الفنان ظهرت الدعوة في كتابته عامداً أو غير عامد، ومن غلبت فيه سليقة الفنان على سليقة المصلح لم يفده إكراهه على الدعوة، إلا أن يقتسر طبعه على غير ما يحسنه ويجيد فيه، ولن تخلو الدنيا من أصحاب السليقتين.

وقد أسلفنا في صدر هذه الكلمة أن درجة المحافظة - في كل قطر من الأقطار العربية إنما تقاس بمقياس التراث الإسلامي فيه؛ فحيثما تمكن هذا التراث في جوار الأماكن المقدسة أو المساجد الكبرى أو المعاهد العلمية العريقة فهناك تزداد الأناة في تلبية الاتجاه الحديث.

ولا تصدق هذه الملاحظة على شيء صدقها على الدعوات الاجتماعية التي تمس قواعد الدين. فأن درجة النفور منها تكاد تتمشى في الترتيب بين الأقطار الإسلامية على حسب المعاهد العريقة التي فيها وحسب منزلتها في القداسة والرعاية الدينية، وذلك هو شأن الأقطار العربية في كل تجيد له علاقة بالعقيدة الإسلامية من قريب أو بعيد.

وإذا أردنا أن نوجز القول في وصف الاتجاهات الحديثة فجملة القول في وصفها، بعد هذه اللمحات عن مبناها ومعناها، أننا نعبر الآن فترة البداية في الاستقلال والثقة بالنفس. وأن هذا الاستقلال يتجلى حيناً في التحرر من القديم ويتجلى حيناً آخر في التحرر من الجديد.

فقد مضى زمان كان يكفي فيه أن يكون الشيء قديماً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، ومضي بعدهُ زمن كان يكفي فيه أن يكون الشيء أوربياً أو حديثاً ليحكي بلا تصرف ولا مراجعة، فهذا الربع الثاني من القرن العشرين قد عرف أنانساً يأبون التقيد بكل قديم لأنه قديم، كما يأبون التقيد بكل جديد. ومن الناس اليوم من يوصف بالابتكار والجرأة لأنه يتمسك بقديم كان الاستمساك به وقفاً على الجامدين، ومنهم من يوصف بالجمود والمحاكاة لأنه يعجل إلى الجديد الذي يستحب على سنة التقليد. ولعل الحقيقة المقبلة هي التي يكتب لها أن نثبت قدم الاستقلال وتطلق الآراء من حجر القديم والجديد على السواء.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌أبو العلاء المعري

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيي

- 3 -

التشاؤم والمتشائمون

لما شاء الله أن يثب قَبيل من نامية الله تلك الوثبة، أن يطفر الطفرة، وليست الطفرة على ذي القدرة والحول بمحال، واعتدلت القامات و (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وتحركت الألسنة بعد حين من الدهر طويل بتلك اللهجات البينات، وكرّم الله أناسيّ كثيراً على سائر المخلوقات بالذي دعته اللغات (العقل) وهو نعمة الله الكبرى، وفضيلة الإنسان على غيره العظمى

(ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطبيات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)

(اللبابُ أهلُ الألباب، ولكل حيوان حس ولكن الله فضل الناطقين)

لّما كان الذي سمته الإفرنجية وصرنا إلى أفق الإنسانية الذي ذكره ابن خلدون ووضحه وفصَّله النشوئيون تفضيلاً (وقد خلقاهم أطواراً) ونجم في الأدمغة ذلك (الفكر) المضيء، وهو خير ما في الدنيا، بل هو كل ما في الدنيا

- كما يقول العلامة بوانكريه - ومحلُّ العقل (الدماغ) كما ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأرنست هيكل لا القلب - كما يقول الشافعي - واستنبط الحجى معاني للأشياء كانت خافية قبل ذلك (الارتقاء)، وهشت النفوس وبشت بما ترى العيون، وأقبل (الإدراك) وأتى (الفهم) فادرِك المحسوس أو المحس، وفُهم المنظور، والحس البحث والنظر الصرف كما يشعر غير الناطق ويلمح من دون فكرة وفهامة هما كلا شيء، كونُهما مثل العدم، إنَّ الهناءة والسعادة في البصيرة لا البصر،

لمّا ارتقينا وعقلنا وعلمنا وبنينا وحفرنا وغرسنا وتلونا:

(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)

(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)

ص: 6

وقال الشيخ في (الفصول والغايات):

(إن شاء الملك قرَّب النازح وطواه حتى يطوف الرجل في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر، طوفه بالكعبة حول قاف ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما همت بالأسحار، ويسلم بمكة فيسمعه أخوه بالشام، ويأخذ الجمرة من تِهامه فيوقد بها ناره في يبرين وقاصية الرمال) فخفَقْنا قوله، وطار في الجو أو في السُّمَّهى مثل الطيور الطائرون، وسمعنا في دمشق سرار القوم بله الطنطة في برلين وفي لندن وفي باريس وواشنطن، وبله العَطْعطه في ميادين القتال. وأورى (مركوني) ما أورى وهو في سفينته في بحر الروم فأضاءت (سدني) في أقصى الأرض (ويخلق ما لا تعلمون)،

لما قطعنا ما قطعنا، وبلغنا ما بلغنا، ومشينا اليّقدُميَّه، وحمدنا وشكرنا و (الحمد لله رب العالمين) طلعت علينا أجواق تذم الوجود، وتهجو الحياة، وتُطرى العدم، وتلعن الدنيا، وتكنبها بأم دَفْر وأم دَرَن، وتصفها بأنها دار قُلْعة، منزل قُلَعة، ونسمي خيراتِها حُطاما. وجاء فوج أنكر كونها، ولم يجد لها مثلاً؛ (قيل لبعضهم: كيف ترى الدنيا؟ قال: وما الدنيا؟ لا أعرف لها وجوداً) (وقيل لآخر: ما مثل الدنيا؟ قال: هي أقل من أن يكون لها مثل) وتمادى محمد بن واسع في استحقارها بل جاز المدى (قيل له: فلان زاهد، قال: وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها؟) وأقبل الحجاج بن يوسف متقرئاً متحنثاً فقال في إحدى الخطب: (والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا بمعامتي هذه؛ ولمَا بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء) وتالله لولا أنه الكُهاكه - وكان الحجاج قصيراً أصفر كهاكها - أيدي إلى العربية تلك اليد، وتقرب إلى (الكتاب) ذاك التقرب الكريم المشتهر، وولع بالقرآن ولعاً كبيراً حتى قال عمر بن عبد العزيز:(ما حسدت الحجاج على شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله) لولا كل ذلك لسخطنا وأطلنا القول فيه وبدا (الوليد) متحذلفاً متفلسفاً في هذه المقطوعة التي أخرجته من بغداد:

أخَّي، متى خاصمت نفسك فاحتشد

لها، ومتى حدثتْ نفسك فاصدق

أرى علل الأشياء شتى ولا أرى التجمع (م)

إلا علة للتفرق

أرى الدهر غولاً لنفوس وإنما

يقي الله في بعض المواطن من بقي

فلا تتبعْ الماضي سؤالك لم مضي؟

وعرج على الباقي وسائلهِ لِمْ بقى؟

ص: 7

ولم أر كالدنيا حليلة صاحب

محب متى تحسن بعينيه تطلق

تراها عيانا (وهي صنعة واحد)

فتحسبها صنعَي لطيف وأخرق

ومن قول يذم جميع الناس:

إن الزمان زمان سوْ

وجميع هذا الناس بوْ

وأطل علينا أحمد بن الحسين الكندي مجهورا هذا الكلام:

إذا كان الشباب السكر والشيب (م)

هما فالحياة هي الحمام

هل الولد المحبوب إلا تعلة

وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل

وما تسع الأزمان علمي بأمرها

وما تحسن الأيام تكتب ما أملي

وما الدهر أهل أن تؤمل عنده

حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل

يقول ابن الأثير في كتابه (الوشي المرقوم في حل المنظوم):

(كنت سافرت إلى مصر سنة (566) ورأيت الناس مكبين على شعر أبي الطيب المتنبي دون غيره، فسألت جماعة من أدبائها عن سبب ذلك، فلم يذكروا لي في هذا شيئاً، ثم إني فاوضت عبد الرحمن بن علي البيساني (القاضي الفاضل) في هذا فقال لي:(إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس) ولقد صدق فيما قال) فهل نطق المتنبي بتلكم الأبيات عن خواطر الأناسين، أم لغابها عن سوانح الشياطين، إنهم الشعراء يفتلتون (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) و (الشعر للخَلَد مثل الصورة لليد، يمثل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره). (وإذا رُجع إلى الحقائق فنطقُ السن، لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان)

ودهمنا ابن الشبل البغدا_دي هتاتا جدافاً يردد هذا الشعر:

صحة المرء للسقام طريق

وطريق الفناء هذا البقاء

بالذي نفتذي بموت وتحيا

أقتل الداء للنفوس الدواء

قبح الله لذة لأذنا

نالها الأمهات والآباء

نحن لولا الوجود لم نألم الفقد (م)

فإيجانا علينا بلاء

ليت شعري وللبلى كل ذا الخلق (م)

بماذا تميز الأنبياء

موت ذا العالم المفضل بالنطق (م)

وذا السارح البهيم سواء

لا غويٌّ لفقده تبسم الأرض (م)

ولا للتقيِّ تبكي السماء

ص: 8

إنما الناس قادم إثر ماض

بدُ قوم للآخرين انتهاء

يربك أيها الفلك المدار

أقصد ذا المسير أم اضطرار؟

مدارك قل لنا في أي شيء

ففي أفهامنا منك انبهار

وعندك ترفع الأرواح أم هل

مع الأجساد يدركها البوار

ودنيا كلما وضعت جنيناً

غذاه من نوائبها ظؤار

هي العشواء ما خطبت هشيم

هي العجماء ما جرحتُ جبار

نعاقَب في الظهور وما وُلدنا

ويذبح في حشا الأم الحوار

وننتظر الرزايا والبلايا

وبعد فبالوعيد لنا انتظار

ونخرج كارهين كما دخلنا

خروج الضب أحرجه الوجار

فماذا الامتنان على وجود

لغير الموجّدين به الخيار؟

وكانت أنعماً لو أن كوناً

نُخَيَّر قبله أو نستشار

لقد استأسد ابن الشبل على الحق، وبالغ في العفلطة والعسلطة، ولقد عجبنا إذ سمعنا المفترح، وأطلنا الكركرة والقهقهة. إنَّ على مبدعنا أن يستشير تلكم الذريرات (أعني الأناسية) في الكون أو في العدم، ويقول لها:(أنت علي المتخير) أنت بالمختار، أنت الخيار. ولها أن تنعم أو تُلالي

(وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيَرة، سبحان الله وتعالى عما يُشركون)

ذريةَ الأنس لا تُزهوا فإنكم

ذَرًّ تُعدون أو نملا تضاهونا

إنَّ الأناسي لم يتمثلوا بشراً أو أبشاراً أسوياء إلا من بعد آلاف من الحقب ومن بعد أطوار مختلفات كثيرات لا يعلم عددها إلا الله. ومثل ابن الشبل إنما نشأ ذريرة لا تكاد ترى بالمجهر (ثم أنشأناه خلقاً آخر) درَّجته سنة الله إلى حيث انتهى أو ارتقى. وكان لا يحس في وقت ولا يسمع وما عقل - إن عقل - إلا بالأمس، ففي أي طور وفي حين يُخيّر أو يستشار؟

(إن الإنسان لَيطغى أن رآه استغنى) أو رآه قد احتسى من بحر علم الله حسوة!

إنَّ قوماً يريدوا أن يكونوا، وما أحبوا أن يكون غيرهم، فذموا الدنيا ذاك الذم، وصبغوها للناظرين بأردأ صبغ، بأبشع صبغ:(غرارة ضرارة، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكالة غوالة)

ص: 9

كما يقول قطري، أن كان قال هذا. وهجوا قطين الأرض، أهل الدنيا شر هجاء:

خذ جملة البلوى ودع تفصيلها

ما في البرية كلها إنسان

أتمنى على الزمان محالاً

أن ترى مقلتاي طلعة حر

زمان يمر، وعيش يمر

ودهر يكر بما لا يسر

وحال يذوب، وهم ينوب

ودنيا تناديك أن ليس حر

وإذا سمعوا المتفائلين الخلص يقولون: (ليس في الإمكان أبدع مما كان) تحدوهم صائحين: (ليس في الإمكان أقبح مما كان) وما النجاة عندهم لمرتجى خلاصه مما يقاسي ويرى إلا في الانتحار

كفى بك داء أن ترى الموت شافياً

وحسب المنايا إن يكن أمانيا

ولهم في قتل الناس نفوسهم وتزبينه أقاويل، شرحها طويل. وهؤلاء القوم الذين سماهم المصطلح العربي بالمتشائمين واسمهم بالفرنجي بسيمست. إما أن يكونوا إلهيين، وإما أن يكونوا دهريين.

(وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يُهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من عِلم، إن هم إلا يظنون)

ودان أناس بالجزاء وكونِه

وقال رجال: إنما أنتم بقل

ضل الذي قال: البلاد قديمة

بالطبع كانت والأنام كنبتها

وأمامنا يوم تقوم عجوده

من بعد إبلاء العظام ورفتها

فإن كانوا من الأولين فهل يحق إلا الإيقان كل الإيقان بأن ليس ثمة إلا الحكمة التامة والإتقان

(ما ترى في خَلق الرحمن من تفاوُت)

(صنع الله الذي أتقنَ كلَّ شيء)

(الذي أحسن كل شيء خلقه)

(صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة؟)

والله أعلم من كل عليم وأحكم من كل حكيم

(أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً)؟

ص: 10

وخلقُك من ربنا حكمة

لقد جلَّ عن لعب أو عيث

وإن كانت برهمية وبوذية تريان الكون شراً، فليست البرهمية والبوذية على شيء، ولا يُحتسب بمثلهما. وإن عدهما (أرثر شوبنهور) أكمل الأديان طرأ من أجل هذا المعتقد

نعم (ما الدنيا إلا عمرَي ولا خلود إلا في الأخرى)

و (الدنيا قنظرة) قنطرة الآخرة؛ لكن هل علينا أن نقعد في القنطرة نشهق ونزعق، ونخمش الوجوه، ونلطم الخدود، ونلدِم الصدور حتى يجيء الأجل، حتى يجي وقت النقلة، و (الكتاب) يقول:

(ولا تنس نصيبك من الدنيا)

ونطق (الكتاب) فصل الخطاب

وإن كان القوم المتشائمون من الآخرين فسوف يُسألون: هل علمتم كيف كنتم؟ هل علمتم كيف كانت داركم؟ إنها كانت داراً تستعر استعاراً، ولم تزل بقايا خبايا في الزوايا تضطرم. فاقرءوا تاريخها، واقرءوا تأريخكم، وفتشوا صحائف الأنساب

(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً)

وانظروا كيف عادت (محْلة) كيف عادت هذه (الغبراء)، وانظروا كيف عدتم بشراً، وكيف سدتم أقربين وأبعدين. وإن تأخر من عترتكم متأخرون إذ تقدم متقدمون، فتعلموا أن السابقين والمتوقفين المتمكثين لم يبرحوا في البدء، لم يبرحوا في أول الطريق، لم يبرحوا في الطور الشنبنزي كما قال توماس أدسن:

تشبه بعض ببعض فما

تزال الشمائل قرديه

فأجد بالدهريين الذين ينشدون:

اجتنب ما سخرت جه

لاً له هذى الخليقة

رغبوا في باطل زور

يزهد في الحقيقة

ليس إلا ما تراه

أنا أدري بالطريقة

خذ من الدنيا بحظ

قبل أن ترحل عنها

فهي دار لا ترى من

بعدها أحسن منها

فلا يرون أن هناك دارين، وأن هناك معنيين: معنى هذى، ومعنى تلك، بل يقولون: كل

ص: 11

شيء معناه ومنتهاه فيه - أجدر بهؤلاء ألا يكونوا من المتشائمين في حين. ومقالهم هذا المقال.

إن الفتى بكونه سعيد، بكونه حسب، قد سعد بما وجد - كما يقول الإنكليز - فذروا التشاؤم في الحياة يا أيها الناس، وابهجوا أنفسكم، واجتذلوا لعلكم لا تحزنون. كونوا من المتفائلين، من أهل الفؤول، ولا تشاءموا ولا تطيروا وتمثلوا بهذا البيت وقد تمثل به رسول الله كما ذكر الشيخ في رسالة الغفران:

تفاءل بما تهوى يكن فلقلما

يقال لشيء كان إلا تحققاً

وكان صلى الله عليه وسلم كما روت أحاديث - يتفاءل ولا يتطير

وكونوا إيثاريين أثريين في هذا الوجود كيما تقوا أنفسكم، وكي تصونوا جنسكم، وتسعدوا وترتقوا. إن الأثرية والإيثارية هما الفضيلتان العظيمتان متحدتين لا مفترقتين، وأولى لأثري كفر بالإيثارية ثم أولى! وأولى لإيثاري لم يؤمن بالأثرية ثم أولى. إن الأول شرير شيطان من الشريرين، وإن الثاني - إما كان - لذو جِنة في المجانين

واستمعوا لما يقول شيخنا أبو العلاء، فقد أعلنت أقواله الحقيقة وهدت إلى الطريقة، وعززت شريعة المتفائلين. وفندت مذهب المتشائمين، وبينت للناس كيف يحيون، وكيف يقوون، وكيف يسيرون في هذا الوجود.

ص: 12

‌علل المجتمع المصري

للدكتور محمد صبري

أحمد بن طولون - أو سمه ما شئت - باشا بن باشا، له جاه ومال، درس القانون وحاز الليسانس ثم وثب في المناصب واصبح رئيس مجلس شيوخ ثم عضواً فيه، فإذا كتبت إليه خطاباً وقلت:(حضرة صاحب السعادة أحمد باشا بن طولون عضو مجلس الشيوخ) ثارت ثائرته وصخب بل زأر وبربر وقال (أنا رئيس مجلس شيوخ سابق ووزير سابق فيجب أن تذكر ألقابي). . . حتى في العنوان الذي لا يقرؤه إلا ساعي البريد وغيره من (سعاة)

وقد بلغ بنا التعلق بالألقاب الجوفاء أن المجمع اللغوي وهو هيئة محترمة اشتهرت بالدقة في التعبير قد رشحت أخيراً لرئاستها رسمياً سعادة (الدكتور) أحمد لطفي السيد باشا، ولطفي باشا ليس دكتوراً، ولكنه أستاذ الأساتذة ومربي قادة الفكر الحديث، وكان يمضي مقالاته في الجريدة (أحمد لطفي السيد) وهذا الاسم في غنى عن كل لقب وتعريف. وقد يجهل الكثيرون أن أحمد لطفي السيد كان الكاتب الأول لرسائل الوفد المصري إلى مؤتمر السلام إبان الثورة، وأن مجموعة هذه الرسائل كانت توازي بدقة أسلوبها السياسي وبراعته واتزانه خير ما حادت به القرائح من أمثالها في الغرب

ولو كانت العبقرية المصرية عبقرية بناء لا عبقرية هدم، لعرف القاصي والداني هذه الحقيقة، ولكان التفاخر بشخصياتنا وآثارهم عاملاً من أكبر العوامل التي تساعد على تجديد كياننا وتدعيمه. ولو عرف شبابنا أن هذه الشخصيات المنزوية في جلالة الصمت وأبهة الشيخوخة - لأنها لا تعرف التهريج - لم تتكون إلا بعد جهد مضن وحياة مملوءة بالتضحية والتعلق بالمثل العليا، لخففوا من غلوائهم وعلموا أن الوظائف والدرجات ليست هي كل غايتنا في الحياة، وأنه ليس مما يشرفنا أن تقوم من أجلها في هذا البلد الطيب ثورة اجتماعية أصبح ضجيجها على الأبواب

ولكن شبابنا قد اندفع في تيار الديماجوجية الصاخبة فأصبح يضرب عن تلقي العلم ويتلمس لذلك أو هي الأسباب، وأصبحت الوظيفة مطمحه الأسمى في الحياة. وقد ساعد بعض قادة أمورنا على انتشار هذه الروح لأنهم يريدون تأييد السواد الأعظم لهم شقيت البلاد أم سعدت (وبعدي الطوفان. . .)

ص: 13

وقد أصبح سلطان الوظيفة عظيماً في مصر حتى أن بعض كبار الموظفين المجردين من كل ثقافة يصيرون أعضاء في لجاننا العلمية (بحكم الوظيفة) وحدها، ولو أقصتهم اللجان عنها لحاربوها. .

ومن البينات على سلطان الوظيفة أن بعض الوزراء ووكلاء الوزراء لا يكادون يتركون الحكم حتى تترامى الشركات الأجنبية على أحضانهم وتعرض عليهم المناصب الكبرى الصورية أو غير الصورية في إدارتها. والواقع أن هناك سياسة عامة متصلة الحلقات متساندة يشد بعضها بعضاً ترمي إلى أغراض واضحة معينة.

وقد كانت الوظائف مستقرة إلى حد قبل الثورة ثم صارت قلقة مقلقلة كأنما أصابها مس من الشيطان، ولاشك أن الثورة والاضطراب الطبيعي الذي نفثته في الحياة العامة، ولاشك أن تكاثر الأحزاب وتعددها ووجود الحياة البرلمانية كان لها أثرها في (تفاعلات) الوظيفة وتقلب الوجوه عليها من وصوليين ومرائين واللاعبين على الحبل وماسكي العصا من الوسط. .

وقد أخبرني رئيس حزب كبير في سويسرا مرة أن مصيبة الأحزاب أنها تفتح ذراعيها لكل من هب ودب من أنصارها (وكل يدعى حباً لليلى. .) فإذا كانت هذه حال الأحزاب في أوروبا فكيف تكون حالها في مصر؟ في أوروبا يجد الحزب بفضل كثرة (الرجال) نقطة توازن لحياته، أما في مصر حيث الرجال قليل، وإن تكاثر الطغام، فان حياة معظم أحزابنا الداخلية مرسح تُمثَّل عليه في مضطرب ضيق ألوان المهازل والمآسي والمطالع التي لا تربطها رابطة بمبادئ الحزب وأغراضه

فالثعابين والذئاب والأفاعي نكاد نجدها تسعى حثيثاً صباح مساء، وتزحف وتدب، وتتزاحم، وتجتمع وتتفرق، وتنطوي وتنتشر في كل حزب وفي كل ناحية من نواحي المجتمع ولكن من خلف ستار

محمد صبري

ص: 14

‌الصراع بين الإسلام والوثنية

صراع من أجل تقديس المبادئ دون الأشخاص

للدكتور محمد البهي

الوثنية عبادة المحسوس المشخص، وعبادته تنطوي على تعدد المعبود أيضاً، لأن المشخص بحكم تشخصه محلى يحدده زمانه ومكانه. والأمكنة مختلفة والأزمنة متتابعة، ولهذا كانت آلهة الوثنيين متعددة. والجماعات الوثنية وإن اتفقت في عبادة ما في الطبيعة من أنهر وجبال وكواكب وأفلاك وغير ذلك إلا أن معبوداتها مع ذلك كانت مختلفة. لأن ما في طبيعة إقليم لجماعة يختلف بالشخص عما في طبيعة جماعة أخرى.

هاجم الإسلام الوثنية، وهاجم تعدد الآلهة ودعا الإنسان إلى عبادة إله واحد لا يعرف شخصه ولا نحد حقيقته، لأنه فوق الطبيعة وفوق ما فيها من أشخاص وجزئيات محددة. صنع الإسلام ذلك لأنه أراد للإنسان هدفا أسمى مما في عالمه. أراد أن يكون خضوعه وأن تكون طاعته لغير من يجوز عليه التغير والفناء. والمتغير الفاني ليس إلا أشخاص هذا العالم الذي نعيش فيه. أراد له هذا لأن خضوع الإنسان للمتغير الذي يعتوره الفناء معناه التقلب في الانقياد على نحو يجعل الإنسان مضطرباً في التوجيه في حياته، ومضطرباً في الغاية، وأخيراً مضطرباً في دوافع العمل والسلوك. فضلاً عن أن تشخيص المعبود يؤدي إلى تقليل قداسته أو التضييق من تعظيمه. وذلك بتوالي انكشافه وتعرفه. وإذا قلت القداسة وضاق نطاق التعظيم ضعفت الطاعة أيضاً أو تلاشت، وعندئذ لا تصلح القيادة أو لا توجد. ولذا كان غير المحدد هو وحده محل تعظيم الإنسان ومحل خشيته، وبالتالي إذا عبد نال من التقديس والطاعة بقدر خفائه وعدم الوقوف عليه من الإنسان

الوثنية وتعدد المعبود إذا متلازمان. والوثنية وتشخيص المعبود أيضاً وتشخصه، إلى عبادة إله وراء ما اتخذته من آلهة في الأرض أو السماء غير مشخص وغير محدد وقد تلقبه برب الأرباب أو بخالق السموات والأرض. وهي إن أفضت إلى هذا عدت شركاً لأنها أشركت مع الإله الذي يجب أن يعبد وحده، وهو الإله الطبيعي، آلهة أخرى تعد في ملكوته وتصرفاته؛ أشركت مع الإله الذي لا يحد ولا تدرك حقيقته آلهة أخرى محددة مشخصة.

فمهاجمة الإسلام للوثنية ومهاجمته للشرك، ومهاجمته لأهل الكتاب الذين حرفوا الكلم عن

ص: 15

مواضعه وقالوا إن الله ثالث ثلاثة وأشركوا مع الإله الطبيعي إلهين آخرين مشخصين هما عيسى ومريم؛ ومهاجمته هذه كانت لأجل أن يرفع الإنسان من عبادة الشخص المحدد المتغير الفاني إلى ما وراء ذلك مما له الدوام والاستقرار. وإذا كان له الدوام والاستقرار كان حتماً له الكمال لأنه يعلو عندئذ الأحداث وتقلباتها، أو لأنه لا يخضع لها كما يخضع المتغير. والخضوع في ذاته نقص، والاستقلال والاستغناء في ذاته كمال.

وإذا كان المعبود كاملاُ، وإذا كان دائم الكمال، شرف الإنسان بالخضوع له، لأنه أعلى قيمة منه. وبقيت كذلك وجهته في الحياة ثابتة لا نبدل فيها وهي وجهة الكمال المطلق

وكفاح الإسلام ضد عبادة الأشخاص أو الذوات المشخصة قصد به إذا إشعار الإنسان بكرامته وبقيمة ذاتية له لأنه جعل خضوعه فحسب لمميَّز عنه وعما في الكون كله، كما قصد به توجيهه في حياته إلى هدف باق هو الكمال الذي لا يتغير أو الخير الذي لا يتبدل. والصراع إذا بين الإسلام والوثنية أيضاً صراع من أجل تقديس المبادئ دون الأشخاص. إذ ليست المبادئ إلا المعاني العامة، ولعمومها هي باقية في كل مكان وزمان لا تخضع للتغير والتقلب.

وفي طي مكافحة الإسلام للوثنية مكافحته انقياد الفرد لفرد آخر لذاته دون رعاية لما يحمله من مبادئ أو فكر مثالية. وكان انقياد المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم لا لأنه محمد بن عبد الله، بل لأنه رسول الله، أي لما يحمله من رسالة ربه وليس لذاته كفرد من الأفراد (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله). وكذلك كان انقياد المؤمنين حقاً لرسلهم. ولهذا لم يكن من المنطق في شيء أن يدعو الرسول لعبادة نفسه من دون الله أو مع الله، لأن الدعاء لعبادة نفسه على العموم يتناقض مع دعوى الرسالة التي تنطوي على أن قيمة الرسول في صلته بالله. (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون. ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)

وما عاب الإسلام على أهل الكتاب من المسيحيين تأليه عيسى وإشراكهم له مع الله في معنى الألوهية إلا لأن في تأليه عيسى معنى التبعية للشخص دون المبدأ. والذي دعاهم إليه ليس إلا التجاوز بالعبادة من الشخص إلى ما هو أسمى منه وهو الباقي الذي لا يتغير ولا

ص: 16

يفنى. وبهذا إذا استمعوا لدعائه، التقوا مع المسلمين في هدف واحد. (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. .)، (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها خيراً لكم إنما اله إله واحد. . .).

وما الاستمرار الذي طلبه القرآن من المسلمين في الدعوى إلى الخير بقوله: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. . .) إلا وسيلة للمحافظة على فصل الإنسانية بين المبدأ والشخص كما طلب الإسلام، وإلا خشية من أن يؤول الأمر، إذا أهمل المسلمون إلهاب شعور الفصل هذا عند الإنسان، إلى الوثنية في صورةٍ ما، وهي الانقياد للمشخص لأمر آخر غير المعاني العامة الثابتة التي مرد جميعها إلى الخير المطلق والكمال الدائم. ومن السهل، إذا لم تستمر الدعوة لما وضعه الإسلام من هدف، أن ينجذب الإنسان إلى الانقياد للمشخص لأن التشخص ناحية مادية، والمادة أرجح كفة ما وراءها في نظرة الإنسان الأولى.

والأديان السماوية كلها، وفي مقدمتها الإسلام، متفقة على توجيه الإنسان نحو المبدأ دون الشخص، أو متفقة على أن تكون عبادة الإنسان لما هو وراء المادة، وما وراءها هو غير المتغير. ولعدم تغيره كان وحده إذا قورن بالمادة كاملاً. وتعدد الأديان لا يقتضي اختلافها في هذا التوجيه، بل لأن الإنسانية لم تحرص في فترات متفاوتة عليه. ولذا كان لابد من تجديد إيقاظ هذا التوجيه عندها. والدين اللاحق إذا هو بمثابة تجديد لدعوة الدين السابق. وإن وجد اختلاف جوهري بينها فمنشؤه إذا رجال الدين أنفسهم لأنهم بإصرارهم على إفهامهم في الدين وقد تكون بعيدة عن هدفه العام وبمرور الزمن على هذا الإصرار يختلط ما أصروا عينه بما للدين في الأصل إذا نقل عنه. وتحريف الكلم عن مواضعه الذي ينسب إلى رجال أي دين من الأديان منه هذه الإفهام البعيدة التي أصروا على أنها لدين. (إن الذين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم. . .).

وليس الإلمام بمعارف الإسلام أو أداء رسومه الظاهرة هو عنوان سيطرة الإسلام على

ص: 17

الفرد أو الجماعة أو على نسبة الفرد أو الجماعة إليه، بل عنوان ذلك وحده هو الفصل على نحو ما ذكرنا بين الانقياد إلى الشخص أو إلى المبدأ. كما أن هذا الفصل نفسه عنوان رقي الفرد أو الجامعة لأنه ينطوي على شعور الفرد أو الجامعة بالكرامة أو بالقيمة الذاتية وعلى ما يسمى بالسمو الروحي أو النفسي، كما أن العكس وهو رواج الانقياد للشخص أكثر من الانقياد للمبدأ دليل على عدم سيطرة الدين وبالتالي على عدم نضوج الفرد أو الجامعة.

ويخطئ إذا من يفرق بين الدين وضروب الثقافات الإنسانية الأخرى في توجيه الإنسان، فيجعل الدين منزلة ثانية، لأن هذه الضروب من الثقافة إن كانت موصولة لرقي الفرد والجماعة؛ موصولة لتهذيب الإنسان وإشعاره بكرامته وموصلة لتحقيق معنى الصالح العام في الجماعة التقت مع الدين في هذا الغرض وامتاز الدين عنها يتجرده المطلق عن التحيز لجماعة إنسانية دون جماعة أخرى. وعلامة الصالح العام في الجماعة تقدير المبادئ العامة التي لا تخضع للتغير والتي تتسلسل جميعها في النهاية إلى مبدأ أعلى للوجود كله وهو الله.

ولأن الدين، وبالأخص الإسلام، له هذه المنزلة لا نكون مغالين إذا حكمنا بأن خلو التوجيه منه في الجماعة نقصٌ في التوجيه نفسه، لأن الثقافة الإنسانية التي تستخدم في التوجيه عندئذ مهما أكدت معنى المبادئ والمثل العليا فإضافتها للإنسان توحي تشككاً في أبدية ما فيها من مبادئ ومثل، أو يؤول أمر نسبتها للإنسان إلى تقديس الإنسان دون اعتبار حمله هذه المبادئ.

ولا نبعد عن الصواب كثيراً إذا حكمنا على بعض علماء الدين بأنهم لم يفهموا الإسلام إذا جعلوا من قوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) ثلاثة أنواع من الطاعة، لأن الهدف الأخير للإسلام وهو طاعة الله وحده ممثلاً في الرسول باعتبار كونه حاملاً لرسالته، وفي أولي الأمر باعتبار كونهم قوّامين على تنفيذ ما ورد في هذه الرسالة في الجماعة الإنسانية. وفي هذا قوله تعالى:(من يطع الرسول فقد أطاع الله) والحديث الشريف: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله).

ولا نبعد أيضاً عن الصواب كثيراً إذا ذكرنا أن الوثنية التي حاربها ويحاربها الإسلام ليست

ص: 18

هي وثنية العرب التي كانت قائمة على تقديس الأصنام وبعض الكواكب فحسب، بل هي وثنية الإنسانية على العموم، وهي تقديس المشخص دون رعاية للمبدأ والمثال. وهي لا تزول من هذا الوجود ما دام للإنسان ناحية مادية وأخرى روحية، وما دام للوجود كله أيضاً جانبان: جانب ظاهري هو الجانب المادي، وآخر مستتر وهو الجانب المثالي أو المعنوي، وما دام انجذابه إلى الجانب الآخر. ولسهولة انجذابه إلى الجانب المادي كان هو في حاجة على الدوام في الكفاح ضد هذه الوثنية أو كانت الإنسانية كلها - إذا ابتغت الرقي - في حاجة أبداً إلى دين سماوي هو الإسلام. لأن الإسلام آخر مظهر للأديان السماوية على طبيعتها صانه الرشد الإنساني في التدوين والرواية عن أن يختلط ببعض الإفهام المنحرفة فيه. فكلمة لم يحرف عن مواضعه كما حرفت الديانات السابقة عليه. إذا الإنسانية وقتئذ أي وقت تحريف هذه الديانات لم تملك الشجاعة الكافية في كتابة التاريخ حراً دون التأثر برأي رجال الدين ودون رعاية لسلطانهم، فكان الدين المؤرَّخ هو رأي رجاله وكان رأي رجاله هو التعبير عن الدين.

وإذا كانت الإنسانية منذ القدم في حاجة إلى معونة الدين في مكافحة الوثنية، وكانت حاجتها هذه قائمة على طبع فيها وهو ميلها النفسي إلى الصفحة الظاهرة من الوجود وهي الصفحة المادية، فالدين إذا ليس لعهد دون آخر. إنما الذي يخلع عليه البلى أو يجعله للماضي فقط هو فهم رجاله وعمل الدعاة باسمة، أو هو غرور الإنسان بالإنسان. إذ منذ قيام العهد الإنساني وهو منذ عصر النهضة الأوربية أخذ الإنسان يؤمن بنفسه ثم بالغ في هذا الإيمان حتى طغى أو حال دون إيمان له نتيجة عملية لشيء آخر في هذا الكون. ومنذ قيام هذا العهد أيضاً كان عمل رجال الدين بعيداً عن مقصد الدين. وبذا كانت فجوة بين الاتجاه الجديد في الحياة الإنسانية وبين تمثيل الدين في رجاله: الاتجاه الجديد في الحياة الإنسانية يؤمن بالقيمة الذاتية للإنسان، ويؤمن بالمساواة بين الأفراد لا عابد ولا معبود بينها، ورجال الدين يعلمهم يصورون الدين منحرفاً عن هذا الاتجاه.

ونفع الجماعة الإنسانية الحاضرة إذا بالدين متوقف إلى حد كبير على حاجة رجال الدين أنفسهم إلى الدين في مكافحة هذا الانحراف؛ متوقف على أن تكون الدعوة باسم الدين إلى الله وحده لا لإنسان آخر غيره مهما عظم ومهما كان له من سلطان. وهكذا أرباب الدعوة قد

ص: 19

يحتاجون أنفسهم إلى الدعوة، ولكن على يد من لا ينسبون أنفسهم إليها.

محمد البهي

ص: 20

‌هذا العالم المتغير

للأستاذ فوزي الشتوي

بخار البصل يقتل الجراثيم

تقرر الأبحاث العلمية الأخيرة أن البصل والثوم وكل نبات قوي الرائحة من أفتل المواد للجراثيم، وأكثرها وقاية لجسم من الأمراض

تجاهل جميع الباحثين أمر البصل مئات السنين برغم أن فلاحي اسكتلندا اعتقدوا أنه يقضي على الزكام والبرد، وبرغم أن الأوربيين والمصريين علقوه على أبواب دورهم ليقيهم شر الحميات. ولفتت الظاهرة نظر الدكتور توكين وأتباعه الروسيين، فأجروا تجاربهم ووجدوا أن البصل والثوم وغيرهما من النباتات القوية الرائحة تحتوي على زيوت أساسية تقتل البكتريا والجراثيم، وبويضات بعض الحيوانات الصغيرة. فأطلقوا على هذه المادة القاتلة اسم (فيتونسيد). ولم يوقفوا بعد إلى معرفة تركيبها الكيماوي، وإن عرفوا أنها سريعة التبخر، فإن تعريض عجينة من الثوم أو البصل للهواء من 10 إلى 15 دقيقة يفقدها كل قدرتها على قتل الجراثيم والبكتريا، ولهذا كان من الضروري استعمالها عقب تحضيرها مباشرة

وتختلف الطريقة العلمية لاستعمال عجينة البصل عن طريقة جداتنا اختلافاً يسيراً. فبعد أن يدق البصل لا يوضع على الجرح، بل يوضع في وعاء من الزجاج بسعة الجرح، وعلى فوهته يوضع لوح ليتلقى بخاره لمدة عشر دقائق على فترتين كل منهما خمس دقائق. وتستمعل عجينة جديدة في كل فترة.

بدأ الأطباء الروسيون تجاربهم على 25 مريضاً. ولكن قلة البصل عندهم اضطرتهم إلى قصر التجارب على 11 مريضاً فقط. منهم 7 بترت أذرعتهم، وواحد ساقه وثلاثة أقدامهم، واختير المصابون ممن ظهرت في جروحهم حالات التسمم والصديد؛ وكانت رائحة بعض الجروح منتنة، وأنسجة الأعضاء متورمة يصرخ أصحابها من الألم.

وعولج المصابون ببخار البصل فترتين متتاليتين كل منهما خمس دقائق. فتوردت كل الجروح بدل أن يطغى عليها اللون الرمادي. وأحس المرضى بآلامهم تزول. وفي المرة الثانية قلت كمية الصديد واختفت الرائحة النتنة. ومرت خمسة أيام بدأت فيها الأنسجة

ص: 21

نموها الطبيعي. ولم تحدث مضاعفات في أية حالة، فاقتنع الأطباء بما في زيت البصل والثوم (فيتونسيد) من قدرة على التغلب على تسمم الجروح.

واستمر الدكتور توكين ومساعدوه 14 سنة يدرسون خواص الفيتونسيد القاتل للميكروبات والجراثيم، فدرسوا 150 نباتاً وأثبتوا أن البصل والثوم من أغنى النباتات في هذه المادة الوافية التي تستطيع قتل جراثيم خطرة مثل جراثيم حمى التيفوس

على أنهم وجودا أن نسبة تركز هذه المادة في أجزاء النبات مختلفة، فأكثرها وأقواها في قلب النبات وجذره ثم تتدرج في القلة إلى أن تكون على أقلها في الأجزاء الخضراء. ولعل هذا يفسر تعفن البصلة (تصنن) عند فصل الجذر عنها.

ووجدوا أيضاً أن بصل وثوم الخريف والشتاء أوفر في مادتهما القاتلة من مثليهما في الصيف والربيع. وتقل مادة (الفيونسيد) فيهما كلما طال بهما التخزين. فإن كانت عملية التخزين رديئة فقدا مادتهما الثمينة وصار أوساطاً جيدة لنمو الجراثيم مما نشاهده من تعفنهما إن طال بهما الزمن.

وأوصى باحثان باستعمال عصير البصل والثوم كعلاج منزلي عند الإصابة بالبرد. فنصحا بمضغ الطازج من النباتين من ثلاث دقائق إلى ثمان. وربما أنتج مضغهما لمدة دقيقة واحدة ، فإنهما وجد أن هذا المضغ يؤدي إلى القضاء على جراثيم الغشاء الداخلي للوجنتين والفم، أو إلى توقف إفرازاتها.

وهناك ظاهرة أخرى يلفت إليها العلماء الأنظار من حين إلى آخر، وهي قدرة عصير البرتقال أو الطماطم أو غيرهما من النباتات الصنوبرية (المخروطية) على شفاء الجروح. وعزوا هذه النتائج في بعض الحالات إلى احتواء العصير على كميات من الفيتامينات.

على أن العلماء الروسيين يخالفون الآخرين في اعتقادهم ويعزون قدرة هذه الأنواع من العصير على قتل الجراثيم إلى احتوائها على مادة الفيتونسيد التي عرفناها في البصل والثوم. فهل لعلمائنا وأطبائنا أن يولوا البحث نصيبه ويقولوا كلمتهم فإن وصفاتنا البلدية أكثر من أن يحدها حصر؟

الغذاء كعلاج لضغط الدم

تمكن أحد الأطباء من تخفيض حالات الإصابة بضغط الدم في 60 % من مرضاه بواسطة

ص: 22

التغذية. وضغط الدم من الأمراض الشديدة الوطأة وخصوصاً على كبار السن، ويتعذر شفاؤه في كثير من الأحيان. وقد درس هذا الطبيب حالات المرض والأغذية الملائمة له فوفق إلى تحديد غذاء من الأرز وعصير الفاكهة والسكر والفيتامينات ومواد حديدية. وهي تفيد المصابين بضغط الدم وبالكلى.

ويرى الدكتور كمبنر صاحب هذه النظرية أن الكلى تتعطل عن تأدية إحدى وظائفها فتعجز عن تحويل بعض المواد الزلالية إلى بول بسبب قلة الأوكسجين مما يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم. فلجأ إلى الأرز ليخفف كمية الزلاليات عن الكلى، فتقل المواد الضارة التي تسبب ضغط الدم.

ومع أن نجاح هذه التغذية لم يكن كاملاً مع جميع المرضى فإنها لم تؤثر عليهم تأثيراً ضاراً، ولهذا يفكر بعض الأطباء في استنباط نظام تغذية له نفس التأثير على مرض السكر

أثر التغذية في الجهد العضلي

لأول مرة في التاريخ البشري يجري أحد أطباء جامعة مانيسرتا تجربة غذائية على الناس، والغرض منها دراسة تحول السكر إلى مواد غذائية، وعلاقته بالفيتامينات ومدى تأثيره على جسم الإنسان في نومه وفي نشاطه. وكانت مثل هذه التجارب تقتصر على الحيوانات لخطورتها. ولكن العمليات الحربية في المحيط الهادي دفعت إلى إجراء هذه التجارب على الناس، فعلى ضوئها تصرف وجبات الطعام للجنود.

ويعيش المتطوعون في هذه التجربة في عنابر نوم تابعة لمعمل الطبيب، ويتيسر فيها رفع درجات الحرارة والرطوبة إلى أن تصل إلى مثيلاتها في المناطق الحارة، أو خفضها حتى تصبح جزءاً من المناطق القطبية.

وتعطى جميع وجبات الطعام في المعمل، فيوزن كل غذاء يتناوله المتطوع، ويؤخذ جزء مساو له في الوزن ليحلل كيماوياً لكي تعرف قيمته الغذائية. ويمنع المتطوعون بتاتاً من تناول أي طعام خارجي. ولوحظ من يحرمون من تناول المواد المحتوية لفيتامين (ب، ا) يفقدون كل شهية للطعام، ويعجزون عن إبقاء أي طعام في بطونهم. وأحياناً يتعذر عليهم برغم كل ما يبذلون من جهد الاستمرار في تناول وجبات معينة.

ومن المعروف أن النشاط الذهني أو البدني شديد الصلة بالتغذية، ولهذا يقاس مدى نشاط

ص: 23

المتطوعين في مختلف الوجبات بأنواعها، كما يفحص تأثير البيئة أو الحارة أو الرطبة على الحالة الغذائية، وحتى في أوقات الرياضة في الهواء الطلق تؤخذ عينات من دم المتطوعين لتحليلها ودراستها بالنسبة لكمية الهواء.

ويقول الدكتور كايس الذي يشرف على هذه التجربة: إن كثيراً من الأبحاث دار حول تحول المواد السكرية إلى مواد حية في جسم الإنسان، ولكن قليلاً منها طبق بمثل هذه الدقة. فإن أضفنا إلى هذه التجارب معلوماتنا المتزايدة عن الفيتامينات فانه يعتقد أنه قد حان الوقت لكشف تفاصيل تحويل المواد النشوية والسكرية إلى أنسجة حية في الجسم، كما أننا سنعرف الظروف التي يجب توفرها للفيتامينات للانتفاع بالسكر كوقود إنساني.

فوزي الشتوي

ص: 24

‌القصص

الجارم البريء

للأستاذ حبيب الزحلاوي

تتمة

لقد انقلبت طفلاً ولا بستني حالة جيدة ليس في وسعي تصويرها. صرت أرعى زوجي الحامل كرعاية الأم رضيعها، واحرص على القرش الواحد كما لو كان ديناراً ذهباً. كنت اصدف عن الصحاب وازور إذ ألقى في منزلي، وددت لو أحتاز خيرات العالم أقدمها هدية لوالدي العزيز. قلت لصاحبي في شيء من الباسطة بغية إقشاع السحب المنتشرة - فوق نفسه، يخيل إلى أن (العامل الخفي) في زوجتك هو الذي جعلك لجوجا وثابا تقدير الأشياء بمقدار التخيل والتصور. وقد لا يؤذيك إذا قلت لك بصراحة الصديق الصادق إن بلوغك (سر المرأة) ابتعث فيك الشهوة عنيفة حادة. اطرق قليلاً وأجاب (الشهوة حيلة إرادة الحياة الكبرى على البقاء) نحن يا صاحبي نخلق الجمال ونعطي المعاني للأشخاص والأشياء. فالمعنى الصحيح لسر المرأة الراحة والطمأنينة. صمت هنيهة ثم أردف (أن رجلاً مثلى مفطور على العناد - والمغالبة والكبرياء لا يرضيه الاستسلام والليونة والركون شأن أكثر الأزواج. . . ثم تابع قوله كانت زوجتي. . . فقاطعت كلامه قائلاً: انتقال من الموضوع بارع ثم تقول. كانت زوجتي، وكانت هذه تدل على فعل ماض، فأومأ أن أتريث وتابع الكلام، كانت زوجتي، أجل كانت زوجتي على شيء عظيم من عزة النفس والكبرياء والمغالبة، وأنا أنا الذي أنميت فيها هذه الصفات وتعهدتها بدراية وحكمة، كان يلذ لي أن تعلو حجتها على حجتي فأرضخ للحق، وان يصدم عنادها عنادي فتنتهي إلى الرضا. ولم يبلغ كبرياؤنا في ظرف من الظروف حد الغرور، بل كنا نخلق الخصومة نوري بها الذهن فنستصبح بومضات الروح منبثقة من ظلمات المجهول، من هذا التناسق والانحاد جعلنا مواد بناء حياتنا الزوجية، وقد استخلصنا من ضروب أنواع الحب في فوضى الحياة خيطاً لنا بمثابة (الهارموني) من نشيد العمر، يرتفع بفرحة الغاية من الوجود الإنساني إلى أسمى مقام، أما خيط حياتي هذا فقد انقطع، أنا الذي قطعته بيدي، أجل يا صاحبي أنا الذي قطعته

ص: 25

بيدي. لقد حطمت جرة السمن فاندلقت أحلامي، أنا الراعي الغبي، وانساح أملي في الرمل، أنا الحي الضائع!! نظرت إلى عينيه فإذا بنورهما قد ناص كمصباح نضب زيته، وأجفانهما تكسرت وجمدت فيهما دمعتان، وعندما أخذ يتابع الكلام توهمت - الصوت آتياً من بعيد قال، ذهبت وزوجتي ذات عشية إلى وادي العرايش، وما كدنا نأخذ مكاناً قرب النهر حتى توافد الصحاب، فاتسعت الدائرة، واتسقت صفوف الأقداح وشعشعت النفوس فانطلقت الأسنة. لم تهدأ جلبة السكارى إلا حين ارتفع صوت المغنى يشدو (العتابه) برنين شجي وصوت رخيم تشترك مع معاني العتاب في تطريب النفس - وإثارة ما فيها من حزن وفرح وقد استفاض صدري بإحساس مضطرب إذ سمعت المغنى ينشد (غربوا أحبابي) وشعرت كأن أحبابا تناديني، لقد فاض الدمع من عيني وانهمر، لاشك أنه دمع حنان النفس التي تضطرب فيها الآلام جميعاً!!!، في هذه اللحظة تلاقت نظراتي بنظرات زوجتي، فاعتلج في صدري شوق مفاجئ يدعوني بالحاح إلى العودة إلى أميركا حيث أموالي المتروكة في بلاد الناس، وعندما عدنا إلى البيت سألتني زوجتي متى نسافر إلى أميركا؟ في تلك الساعة عقدت النية على العودة إلى الوطن الثاني، وفي تلك الليلة المشؤومة انتهى كل شيء!!، أجل يا صاحبي في تلك الليلة الملعونة انتهى كل شيء في وجودي وبقيت وحدي كحروف رسالة بليدة بقبضة متصلبة وقال أنت تعرف أبنية زحلة متلاصقة ومنازلها متلاحمة لا يفصلهما من الجيران فاصل، قلت أعرف ذلك، قال: كنت أسكن بيتاً من هذا الطراز القديم لأنه أقرب إلى إحساسي وألصق بذكريات طفولتي، هذا البيت الذي كنت أخاله بقعة اقتطعتها الملائكة من فراديس النعيم قد انقلب بلحظة واحدة إلى قبر في الجحيم تحوطه نيران قلبي وألسنة الناس، قلت: اكتشاف خيانة؟، نظر إلي نظرة استخفاف خلتها تهز مكمن كبريائي فحجلت، واستطرد قائلاً: في هدأة الليل حيث كل شيء هادي إلا عيون السماء، دوي الوادي أو توهمت أنه دوي بصوت استغاثة قريب صادر عن قلب هلوع، الحرامي، الحرامي. . . النجدة. . . النجدة! وتلاه ولولة امرأة مخلوعة اللب وعويل أولاد. . . استيقظت بلا وعي أترنح من الذعر أو من الشجاعة، تناولت مسدسي من تحت الوسادة وهرعت لاقتنص السارق، لم يكن في وسعي ترتيب التصورات المتداعية والخيالات التي تراكمت في ذهني وازدحمت فيه مبلبلة مشوهة، توهمت السارق

ص: 26

عميداً من عمداء الجبابرة سلطته قوى مجهولة تتربص بي لتنتزع مني زوجتي أم ولدي، وارث أموالي ومخلد ذكرى. لقد جن جنون أنانيتي وثارت في فطرة، فطرة الإنسان، أو غريزة لبوة بكرية اقتحم وحش ضار عرينها فهبت تدافع عن أشبالها، كنت أروح وأجيء وأتوهم أني أقفز من سطوح إلى سطوح، أدور حول نفسي كاللولب، أنادي السارق بصوت متهدج أجش، اختلط صوتي بعجيج أصوات عشرات الشبان الذين خفوا مسلحين للفتك بالسارق، إن السطو على منزل في رحلة عروس مدن لبنان إنما هو تحد لكرامة أهلها واستهانة بتقاليدهم ونخوتهم، لمحت شخصاً ماثلاً قبالتي فتصورته عملاقاً من الجن ينقض علي، أحسست بالعملاق الجبار يرفع يديه ليسحقني. . . أطلقت رصاصة أو انطلقت من المسدس رصاصة ردد الوادي صداها. أصابت الهدف فسقط الجسم بدون حراك، أيقظني الانتصار من غفوة الذهول، فتنبهت إلى نفسي وادا أرى حولي طائفة من الجيران أقبلت على صوت الطلق الناري، سمعت صراخاً وعويلاً وحسرات فيها كل معاني الألم والحزن والشفقة. . . أشعلت الأنوار، تجمع الناس، تبينت الوجوه، فإذا بالعيون - تحدجني بنظرات أسى وحيرة ملتاعة مضطربة، دهمنا الجند فإذا بهم يطبقون على القاتل يجردونه من سلاحه وقد دل الجيران عليه. يا للأجناد الأجلاف! بالرجال التحقيق ما أطيب قلوبكم لقد منوا علي - تكرماً منهم بإطلاق حريتي ريثما أرافق زوجتي فأواريه التراب؟!!!، ويلاه لقد جمد جسمي في تلك الساعات وتلبد شعوري وراغت نظراتي، كنت اعتصر عيني، استجدي قلبي قطرة من دمه، ولساني كلمة واحدة انطلق بها، كنت أرى جثمان (يمني) مسجًي في النعش على رأسها أزهار الليمون الذي زانته بها يوم اكليلنا وقد غطى الود ثوبها الأبيض الغارق بالدم، وكنت كقمة الحبل الشاهق جموداً وبرودة. وهأنذا أحس بالوقائع ماثلة أمامي أصورها لك وفق الرؤى والشعور، أحسست الأرض تدور بي والآلام تنساب في نفسي تنهب وتنوش أعصابي. أما محدثي فقد اعتدل في جلسته واشتدت نبرات صوته وقال: من السخرية الاستعانة بالعدل الإلهي واحترام شرائع الناس؟!! أليس رعونة أن تبرأ ساحة القاتل ويطلق من عقاله ولما يجف دم المقتول بعد؟ أليس ظلماً أن تعاد إلى حريتي أنا القاتل الأثيم؟ أين القصاص من حياة؟ أمن العدل أم من الظلم أن أجوب الأرض، أتسكع في الشوارع، أطوف حول الذكريات أتلمس آثار الحياة وأنا ميت القلب

ص: 27

والروح؟؟ اسمع يا صاحبي ليس العدل والشرائع والقوانين والأديان نفسها تستطيع أن تشفى أدواء الناس، إنما الذي يستطيعها هو الضمير،. وسأنفذ أحكامه التي أرتضيها لنفسي حاكماً محكوماً. استلمنا كلانا للصمت: توهمت صاحبي المسكين لا يواصل رحلته إلى أميركا بل يترك الباخرة عند أول ميناء يتطوع للحرب حتى الموت ولكن سرعان ما استلمح هذا الخاطر يتوارى في طيات كلامي حتى قال لي ضاحكاً: أتحسب الموت يقضي على الموت؟ قلت لا أفهم ماذا تعني. قال: ولا أنا أيضاً أفهم كيف أقضي بيدي على حياة ألقيتها في غيابات العدم، بل أفهم أني سأبقى في فراغ يتساوى والعدم، وسأستمهل الموت حتى القي في كل ساعة ميتة تكفر عن جنايتي، طفرت دمعة كبيرة من عيني المسكين فتلقاها بمنديله، وعندما هم - بالنهوض تخاذل وخانته قواه، تأبطت ذراعه وأسندته على كتفي حتى بلغ غرفته في الباخرة، وإذ كنت عائداً لقيت الطلعة من الأميركان وقد تهيبوا سؤالي وانصرفوا بتتبع بعضهم بعضاً.

حبيب الزحلاوي

ص: 28

‌وديعة مدينة سالم

(اقترح صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام في العدد الممتاز

من الرسالة على شعراء العربية أن ينظموا ملحمة البطولة من

حياة المنصور بن أبي عامر، وهذه محاولة أولى تقتطف منها

هذه الأبيات):

قل للحجيج، إذا ما ناله التعب

يا أيها الركب: هل أديت ما يجب؟

وهل إلى (سالم) خبَّتْ ركائبكم

وهل هداكم إليها المجد والحسب؟

وهل رأيتم على آثارها (جدثا)

تطوف من حوله الأفلاك والشهب؟

هذى الحجارة - وهي الآن جامدة -

كم ذا تفجَّر منها السلم والحَربَ

استخبروها حديث المج تخبركم

فرُبَّ أخرسَ تَعْيا دونَه الخُطَبُ

قولوا لها: يا بنات الصخر ما صنعت

بصفحتيك بنات الدهر، والنُّوَبُ؟!

هيا صلينا بآباء لنا نُجُبٍ

قد أنجبتهم جدود سادة نُجُبُ

مًدُّو على البحر ظلاً من مراكبهم. .

والنصر من فوقهم قد قاد ما ركبوا

حتى أتوا شاطئ الأسبان واختلطت

على رباه رماح القوم والقُضُبُ

فأشعلوا البحر ناراً من سفائنهم

كيلا يكون لهم من خلفهم سبب

وأصبحوا ولواء النصر مُنْعَقِدٌ

من فوقهم، والمنى حولهم طُنُبُ

حتى إذا أرخت النعماءُ ساعدهم

واستنوقوا ما يشاء اللهو والطرب

ذابت مهابتهم من عين واترهم

كما يذوب بكأس الشارب الحبَبُ

لولا (محمدُ) وافاها على عَجَلٍ

والريحُ عاتية، والموجُ يضطرب

لغيَّر الريح مجراها، ولارتطمت

ألواحها بصخور شادها العطب

فتى كبير الأماني من حداثته

قد كان يحلم بالعليا، ويرتقب

خمسون وقعة قاد الجيوش بها

مُظَفَّراً، فائزاً، للنصر يصطحب

لم يثنه عن لقا أعدائه مرض

ولم يثبَّطْهُ عن نَيْلِ العُلا نَصَبُ

قد يخمد الجسمُ من كْدٍ ومن تعبٍ

وجمرة الروح تبقى فيه تلتهب

ص: 29

لم يحمل (الزنج) منه غير هيكله

وروحه احتملتها السبعة الشُّهُبُ

فأنت يا (سالم) للمجد قاعدةٌ

تقوم من فوقها الأعلام والنُصُبُ

قد أودعتك العلا أغلى جواهرها

واستأمنتك على تاريخها العرب؟

(كلية اللغة)

يوسف زاهر

ص: 30

‌البريد الأدبي

بيت الكميت

العلامة الدكتور طه حسين تمثل في كلمة له في (المصور) الأغر، عنوانها (عشير الأدباء) ببيت جاء في هذه الصورة

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا

فلا رأي للمضطر إلا ركوبها

وقد يخال قارئ البيت أن (كان) هنا ناقصة و (الأسنة) اسمها و (مركبا) خبرها، وإنما هي في هذا الكلام تامة ومركب فاعلها، فالرفع واجب، والأسنة بدل من مركب قُدْم فنصب على الإستثناء، ويرفع بعضهم مثله، والبيت للمكيت.

أزهري

الحضارة المصرية القديمة وأثرها في الحضارات الشرقية

ألقى الأستاذ ستروف أحد أعضاء الأكاديمية الروسية، خلال شهر ديسمبر الماضي، طائفة من المحاضرات العامة في لنينجراد وموسكو، كشف فيها عن عظمة الحضارة المصرية القديمة. كانت المناقشات التي تعقب محاضراته تدل على اعتراف المستشرقين الروس بالدور الذي قامت به مصر في تكوين الحضارات الأوربية والأسيوية

وقد تناول الأستاذ ستروف في إحدى المحاضرات موضوع الأسبقية بين حضارتي مصر وبابل مشيراً إلى وجوب إعادة البحث في هذا الموضوع على ضوء ما ظهر من بيانات أثرية جديدة.

ومما قاله الأستاذ، أنه يؤيد الرأي القائل بأن عصر الدولة الوسطى في تاريخ مصر القديمة يعد سابقاً لعصر الأسرة الأولى في بابل. وذلك لا يدع مجالاً للشك في أن الثقافة التي ازدهرت بمصر في عصور الدولة الوسطى قد انتقلت إلى فلسطين وسوريا وبدا أثرها في الحياة الاجتماعية بأرض الجزيرة

وكان مدار بحث الأستاذ ستروف في هذه المحاضرة، أثر المدنية المصرية القديمة في ثقافة بلدان حوض البحر المتوسط وآسيا الصغرى، فابان أن مصر كانت ميداناً لأول حركة شعبية ترمي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. ثم قال: ونحن نعلم مدى الأثر الذي خلفه

ص: 31

المهندسون والرسامون والمثالون وأرباب الصناعات من المصريين في مختلف الفنون، سواء في سوريا أو بلاد الحثيين، وان هذا الأثر انتقل إلى الآشوريين. كذلك امتدت حضارة مصر إلى اليونان فكان من نتائج هذا أن تهيأت الأسباب لتطور الفن اليوناني

وأشار بعد ذلك إلى القصص والأساطير التي شاعت في عهد الدولتين الوسطى والحديثة وما كان لها من عظيم الأهمية في حضارة العالم، قائلاً: إنه لا يسع المرء مثلاً عند قراءة قصة (السفينة الغارقة) التي كشفها الأستاذ جولينيشيف العالم الروسي في الآثار المصرية في متحف الرهبان بلنينجراد، إلا أن يذكر بطل قصة الأوديسة الإغريقية أو السندباد البحري. ومن الواضح أن مجموعة القصص التي تتضمن ما كان يقوم به السحرة المصريون من الأعاجيب تعد أعرق في القدم من كتاب (ألف ليلة وليلة) ذي الشهرة العالمية

ونوه الأستاذ ستروف بمدينة مصر من الناحية العلمية، ذكر أن الأطباء المصريين كانوا أول من كشف عوامل مسببة للأمراض، وأول من سجل في تاريخ الطب البشري لفظة (المخ) وان هذا الجزء من الجسم إذا اختل أدى إلى خلل أجزاء أخرى

ثم قال المحاضر، إن المصريين قد تمكنوا من قياس مسطحات الأجسام المستديرة، واستطاعوا قياس السطح الكروي، قبل أن يهتدي ارخميدس إلى ذلك بزمن بعيد. كما نوه بفضلهم في وضع التقويم الذي أخذه عنهم يوليوس قيصر، فأصبح بعد ذلك أساساً لحساب الزمن عند الشعوب الأوربية وانتهى من هذا إلى قوله: أن من واجبنا أن نعترف اليوم بما كان للثقافة المصرية من أثر في حضارتنا الحالية.

إلى الأستاذ حبيب الزحلاوي

(تهنئة بعيد ميلاد ولده نبيل)

أنجبتَ للدنيا نبيلاً أوَّلا

فالله يحبُوك غُلاماً أنبلا

لم نره لكنَّنا نعرفه

لما رأينا منك فيه مثلا؟

إنا رأينا فيك فضلاً واسعا

فلا يَضِرْكَ أَن يكون أفضلا

ترجو له عمراً مديداً سابغاً

وَغَدَه المأمولَ والمستقبلا

ص: 32

أَلا تَرى فيه الرجاَء المرتجى

ألا تَرى فيه الضياَء المجتلى؟

يُشعُّ في البيت سناءً وسنيً

ويملأُ الدنيا لديك أملا

يسألك الشيَء فلا تلبث أَنْ

تجيبَه حالاً إلى ما سألا!

ينالُ بالدُّموع كلَّ ما ابتَغى

وبالصياح كلَّ مَا قَدْ أمَلا

خَيَالهُ قد يَسَعُ الدنيا وما

فيها فلا تكفيه أَغراض الفلا

وقد يَرُومُ في السَّماءِ مَصْعَدا

ويَبتَغي بين النُّجومِ مَنْزِلاً

براءة الأمْلاكِ فيه اجتمعتْ

والطهرُ في صفاته تمثَّلا

لا يحمل الحقدَ ولا يعرف من

دنيا الأنام آفةً أو عِلَلاً

ولا يَدُوسُ بالنفاقِ حَمأً

ولا يَخوضُ بالرِّياء وَحَلا!

سبحان من قد صوَّر الطفلَ على

خَير مِثالٍ في الحياة شُكِّلا

قد صاغه من السلام مَلَكا

مجسَّداً وَبَشَراً ممثَّلا. .

لكنه غداً يقود عالماً

إلى القتال أو يسوقُ جحفلا. .

وقد يقيم للدمار مدفعا

وقد يمد للقتال مُنْصُلا

وقد يَفُضُّ بالسيوف مُشْكلا

ولا يَحُلُّ بالكلام مُعضلا

فإن أصاب جعلوه غازيا

ولقَّبوه فاتحاً وَبَطَلا. . .

مَنْ عَلَّم الإنسان أَن ينمو على

طبائع الذئبِ وكان حملا؟؟

علِّمْهُ بالله المطايا صعبةً

ولا تعلِّمْه المطايا ذُلُلا

علِّمه أن الحربَ دكَّتْ أُمما

وزلزلت ممالكاً ودُولا

علمه أن الحق لا يُحمي إذا

كان الفتى من السلاح أَعزلا

علمه في النقد المرارة التي

ليست تحابي لتكون عسلا!!

علمه في القول الصراحة التي

عرفتها فيك تهز الجبلا

علمه في الحب الحرارة التي

تجعل من قلب المحب شُعَلا

علمه أوْلا! فهو شِبْل ناشئٌ

هل تنجب الأسُود إلا أشبُلا؟

محمد عبد الغني حسن

من كتاب الرسالة أيضاً

ص: 33

كتب الدكتور سيد حنفي في العدد في العدد 602 من مجلة الرسالة الغراء مقالاً تحت عنوان (أثر الرسالة في الأدب المعاصر) ولما طالعته وجدته أغفل ذكر بعض الكتاب الأعلام الذين كانت لهم جولات في ميدان الرسالة وكانوا في مقدمة كتابها الكرام. فالأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني هو أحد الكتاب الأعلام الذين كانوا يحررون مجلة الرسالة، وكذلك المرحوم عبد العزيز البشري، وكانت أبحاث الأستاذ محمد عبد الله عنان التاريخية في مقدمة المقالات التي تنشر في الرسالة، ومن الذين كانوا يكتبون في الرسالة أيضاً الأساتذة: زكي نجيب محمود، وخليل هنداوي، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد عطيه الإبراشي، وحسين شوقي؛ ومن الشعراء الذين كانوا يخصون الرسالة بما تنتجه قرائحهم الفياضة الأساتذة: علي أحمد باكثير، وفريد عين شوكة، وفخري أبو السعود؛ وكل هؤلاء الكتاب والشعراء لم يتطرق الدكتور إلى ذكرهم في مقاله.

(بغداد - أعظمية)

عبد الباسط يونس رجب

ص: 34

‌الكتب

في عالم الكتب

الشوامخ

خصائص الشعر الجاهلي وأعلامه

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

خيل إلي وأنا أقرأ هذا الكتاب الطريف الممتع أنني أقرأ لشيخ من شيوخ اللغة والأدب لا لرجل عل من الثقافة الأوربية ونهل، وغاص في بحار المحفوظات والأضابير والوثائق التاريخية يسترخ منها تاريخاً لإمبراطورية محمد علي الكبير، أو يكتب بالفرنسية كتاباً عنوانه: ? أو يؤرخ بالعربية للثورة الفرنسية ونابليون

ولكن الدكتور محمد صبري يستوي عنده التاريخ والأدب ما دام في ذلك رضي لحاسته الفنية الرفيعة، أو ترضى لقوميته المصرية العريقة، أو رضى لحاسته للغته العربية وأدبها الغني السمين.

وعجيب أن هذا الرجل الذي يقرأ في الفرنسية، ويكتب قادراً بالفرنسية، ويؤرخ لأحداث العصر الحديث يطوي القرون القهقري حتى يأتي (امرأ القيس) في أموره وخمور؛ ويأتي (طرفة) في رحلته وناقته، ويأتي (زهير بن أبى سلمى) في حكمته ومدائحه وفي المهاة التي شبه بها ناقته. ثم لا يكتفي بذلك فحسب، بل تراه ضارباً مع الجاهليين في الخيام، هائماً معهم في كل دوِّية، يلاحظهم وهم يشدون الاكوار على الرحال، أو يلعبون المقايلة في الرمال، أو يطاردون بالكلاب المضرَّاة الثيران: أو حين تخرج الأرامل الشُّعثُ يحملن المناقع إلى رجل كريم فتح بابه للسؤال، وتهلل وهو يبث النوال. . .

والحق أن في الشعر الجاهلي كثيراً من غريب الألفاظ باعد الزمن بيننا وبينها، فتغيرت على أذواقنا وتوعرت على أسماعنا. ولكن الدكتور محمد صبري - جزاه الله أحسن الجزاء - قد ألف بيننا وبين هذه الثروة المذخورة من الألفاظ؛ فقد عرض الشعر الجاهلي عرضاً متبوعاً بشرح غريبه؛ فلا تلبث حتى ترى نفسك أمام شعرٍ خَلعَ التفسير عليه جمال الوضوح، فبدا رائعاً في شرحه، رائعاً في متنه. وإذا بك ترى هذه الألفاظ المهجورة

ص: 35

الموحشة مأنوسة مألوفة؛ وإذا بك تجد الحسَّ بينك وبين العربي مشتركاً، وتجد التجارب بينكما متبادلاً. فتقف أمام البيت من الأبيات وأنت تكاد تحس فيه قلب الشاعر أو همس الخاطر. . .

والمؤلف نفسه متأثرة بالأسلوب العربي الرصين؛ ويخيل إلى أنه عنده حاسة يتخير بها اللفظة الملائمة مهما كانت غريبة؛ ولعله واثق إن إعادة استعمالها قد يضفي عليها الحياة من جديد. ولعله ناجح فيما هو بسبيله من ذلك. فقد وصف في صفحة 58 مناظر الصيد والطرد بأنها (مرعبلة) ثم عاد في ص63 فشرحها في بضعة أسطر شرحاً يجذبك إلى استعمالها ويحملك على الأخذ بها.

الدكتور صبري محب للشعر الجاهلي، ولا نغالي إذا قلنا إن حبه إياه قد جرى مجرى الدم في مفاصله. وفي كل صفحة من الكتاب برهان ذلك ومصداقه. ولكنه أعلن ذلك الحب وجاهر به مصرحاً في ص71 حيث يقول (وإني أحب الشعر الجاهلي وأحب أسلوب الجاهليين). ولو أنا وجدنا بيننا من يحب الأسلوب الجاهلي كما أحبه صبري ماشكونا الآن من (ميوعة) بعض الكتاب والشعراء المعاصرين الذين لا يبالون بلفظ ولا يحفلون بأسلوب. ولكن همهم من القول أن يرصوا الكلام رصاً. من غير أن تكون لتلك الألفاظ التي يستعملونها دلالة خاصة - تلك الدلالة التي تجعل الأديب المعرق يؤثر لفظاً على لفظ أو أسلوباً على أسلوب.

وفي الشعر الجاهلي لوحات فنية كثيرة لم يغفلها المؤلف، ولكنه أبرزها في خير أُطرها غير مغفل جمال اللوحة نفسها وهو معنا ناقد غني بصير. ولا تقوية من حين إلى حين الموازنة بين صورة ناطقة لشاعر وصورة صامتة لمصور. فصورة (طرفة) التي يقولب فيها:

وجالت عذارى الحي شتى كأنها

توالى صوار والأسنة ترعف

تذكِّره بصورة لرافائيل الإيطالي كانت موضع نقد من النقادة الفرنسي ص110

وقولة حميد الراجز في صفة القلب عند وشك الفراق تذكره ببيت للشاعر (فرلين) ص111. ولوحات الشعر الجاهلي الحيوانية تذكره بالمثَّال المصور الحيواني (باري) ص57.

ص: 36

وإذا كان أبو نواس لم يفطن إلى نعت الإبل وناعتها فأن المؤلف يلومه على هذا الإغفال لحقيقة فطن إليها الجاهلي في شعره - ص70.

وهكذا ترى المؤلف فطنا إلى ما في دقائق الشعر الجاهلي من تمثيل وتصوير، حتى كاد كتابه يكون قائماً كله على هذه الناحية، وهو على ذلك متن عليه أطيب ثناء. إلا أنه - في بعض مواطن من الكتاب - قد يعدل عن الرسم الصحيح للشعر. وكان خيرا لو راعى الوزن في الرسم كما راعى التقصي في البحث. ففي صفحة 72 البيتان السادس والثامن من شعر البحتري لم يرسما على نهج صحيح.

وفي صفحة 48 ذكر البيت المشهور:

تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم

وجارتكم غرثى يبتن خماصا

والصواب (يبتن خمائصا) على وزن فعائل كما ورد في الأمالي ج2 ص158 طبع دار الكتب. وفي صفحة 47 نسب البيت المشهور: -

أبا شجر الخابور مالك مورقاً

كأنك لم تجزع على ابن طريف

إلى الشاعرة ليلى الأخيلية. وقد نسبه ابن خلكان في وفيات الأعيان إلى الفارعة أخت الوليد بن طريف وقيل فاطمة وقيل ليلى. ولكنها على كل حال غير ليلى الأخيلية - راجع وفيات الأعيان ج2 ص231 الطبعة الأميرية البولاقية

وفي صفحة 87 (قال أبو الهندي. . . . . يصف أباريقا). ولعلها أباريق ممنوعة من الصرف. وفي صفحة 69 (ترى المصور أو الشاعر مولع) وهي من أخطاء الطبع. وفي صفحة 54 (إذ نظرت إلى الجمل. . . . لتبينت). واللام لا تقع جواباً لاذا الشرطية وإنما تقع جوابا (للو) في حالة الإثبات غالباً

وفي صفحة 65 (فيمكن للمصور تجريدها) واللام هنا لا محل لها.

وفي صفحة 72 (حاول الأدباء. . . . تحديد مراتب وطبقات الشعراء) والأولى أن يقال (تحديد مراتب الشعراء وطبقاتهم). فقد أولوا قول الفرزدق (بين ذراعي وجبهة الأسد) على تقدير مضاف إليه محذوف أي بين ذراعي الأسد وجبهته - المفصل للزمخشري مطبعة الكوكب الشرقي ص50 وفي صفحة 123 وردت الآية الكريمة هكذا (فما بكت عليهم الأرض والسماء). وصحة الآية (فما بكت عليهم السماء والأرض).

ص: 37

تلك مآخذ شكلية لا تمس لباب هذا الكتاب القيم الذي نتوقع له من الرواج ما يتفق وإخلاص المؤلف في نيته وتحمسه لفكرته وافتخاره بعربيته - حفظ الله به الأدب.

محمد عبد الغني حسن

ص: 38