المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 607 - بتاريخ: 19 - 02 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٠٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 607

- بتاريخ: 19 - 02 - 1945

ص: -1

‌الرباط المقدس

للأستاذ عباس محمود العقاد

الرباط المقدس هو اسم رواية جديدة من قلم صديقنا الكاتب الفني الموهوب الأستاذ توفيق الحكيم

والرباط المقدس هو رباط الزوجية

والتقديس يقترن في الذهن بالتحريم، والتحريم يقترن في الذهن بالإغراء، وهذا هو المعنى الذي فصله الأستاذ الحكيم في هذه الرواية أجمل تفصيل، وانتقل به خطوة خطوة بل همسة همسة من الوفاء إلى الإباحة فانساق معه القارئ في رحلة نفسية طبيعية لا فجوة فيها، لأنه لم يسه فيها من لمحة واحدة من اللمحات التي تتحول بها النفس من شعور إلى شعور ومن عزم إلى عزم ومن عمل إلى عمل، فإذا هي بدايات تنتهي إلى غاية بعيدة لمن ينظر إلى الطرفين الأقصيين، ولكنها لا تلوح للقارئ المتتبع إلا بداية بعد بداية لا يفرقهما قيد شعرة من خطرات الضمير.

وخلاصة الرواية أم فتاة تزوجت رجلاً يكبرها ولكنه يناسبها في عمرها، وكان الرجل من قراء الكتب وعشاق الثقافة، فأحب أن تشاركه زوجته في مسراته الفكرية، وحبت هي أن يرضيه فقصدت إلى كاتب معروف - راهب الفكر - لتسترشده في تربية ذوق القراءة والأدب عندها، وشعر زوجها بأثر هذه الزيارة - وإن لم يعلم بها - فذهب إلى راهب الفكر أيضاً ليشكر له إقبال زوجته على قراءة كتبه ومشاركته في متعة فكره، ثم انقطع ما بين راهب الفكر وبين الزوجين حتى خطر لراهب الفكر يوماً أن يعتزل الناس في بعض الفنادق الخلوية فإذا به يلقي الزوج مع ضابط من أقربائه وهما قلقان مضطربان، ثم يعلم جلية الأمر فإذا بالزوج قد عثر في بيته على كراسه حمراء تنطوي على مفكرات خاصة كتبتها زوجه واعترفت فيها بعلاقة غرامية بينها وبين ممثل من ممثلي أدوار الغرام على اللوحة البيضاء، وأشارت فيها إلى غوايات فتاة أخرى هي زوجة ذلك الضابط القريب. فأخذ الضابط القريب يشك في ذريته من تلك الفتاة ويستعيد حوادثها التي كانت في أوانها موضع ريبة لا يفهمها. ثم توسط راهب الفكر بين الزوجين فأخفقت الوساطة وأوشك الراهب أن يقع في الفتنة لولا دقات جرس التليفون، ثم افترق الزوجان وضاقت الدنيا

ص: 1

بالضابط فأطلق النار على نفسه، وثاب الراهب إلى صومعته كما كان.

هذا مجمل سريع للقصة لا يعني شيئاً عن تفصيلها، لأن هذا التفصيل هو المقصود وليست الحكاية لذاتها، وفي هذا التفصيل تتجلى قدرة الكاتب الفنان على تصوير لفتات النفس ووساوس الضمير والانتقال بها من عصمة الوفاء إلى إباحة الخيانة في خطوات قصار لا يشعر بها المتتبع لها إلا وقد شارفت نهايتها القصوى

وأقوى ما يكون هذا التسلسل في ضمير بطلة الرواية وفي ضمير راهب الفكر نفسه، ثم في ضمير الرجلين المتزوجين.

فالزوجة - بطلة الرواية - مثل صادق للفتاة العصرية التي تنعم بدفء الزوجية فلا يستقر لها قرار أو تحترق بالنار، لأنها تلمح وهج النار حولها في كل مكان فلا تصير على النظر إليها والدفء بها دون الوقوع فيها.

وراهب الفكر - ولعله مؤلف الرواية - مثل صادق للرجل الذي يعيش بين الصومعة والحياة فيأخذ من الحياة للصومعة ويأخذ من الصومعة للحياة، ولكنه يجفل من هذه كلما حرفته عن تلك، ولا يرى في إحداهما غني عن الأخرى.

وأصوب ما يقال في شرح هاتين النفسين أنهما دراسة فنية تحليلية من الطراز الأعلى، ولو لم تكن في القصة إلا هذه الدراسة لكفي بها مادة حية وزادا شهيا لمن يولع بدراسات الفن والتحليل.

أما وضع القصة فهو تشويقه واستطراده تقل فيه الروابط الطبيعية التي تمسك أجزاءها وتحل في محلها روابط من عمل التأليف تأتي بها المصادقة ولا يستلزمها السياق.

مثل ذلك أن الفتاة - بطلة الرواية - تقصد إلى المؤلف لأنها مغلقة النفس من ناحية الأدب والتفكير، قد عيت بطبعها وعيّ بها زوجها في رياضتها على القراءة فضلاً عن الكتابة.

ولكننا نسمع إلى حوارها مع راهب الفكر فإذا هي تساجله فكرة بفكرة وفطنة بفطنة وبراعة ببراعة. فتقول له مثلاً إذا تمنع من رؤيتها في ملعب التنيس: (. . . يجب أن تهبط إلى ملعبي لترتفع بي. هكذا يفعل الأنبياء دائماً. يهبطون إلى الناس حتى يستطيعوا بعد ذلك أن يصعدوا بهم إلى المساء. ولم يحدث قط غير ذلك. ولا تنتظر أن أصعد أنا إليك توا بغير أن تهبط أنت إلي ونأخذ بيدي. . .)

ص: 2

ثم نقرأ كلامها في الكراسة الحمراء فإذا هو كلام أديب وصافة لا تفوته خلجة من خلجات الوهم ولا لفتة من الفتات الملاحظة، ويبدو عليها أنها أستاذة في هذا الفن وليست بالتلميذة الناشئة التي تتعثر فيما تحس وفيما تقول.

فمناسبة اللقاء هنا بينها وبين راهب الفكر ضعيفة، وأضعف منها سبب التعارف بينه وبين زوجها، لأنه ذهب إليه يشكره على اهتمام زوجته بقراءة كتبه، ولم تكن بينهما رابطة تدعوهما إلى اللقاء غير هذه الرابطة، ومنها استحكمت الصلة بينهما حتى أطلعه الزوج فجأة على سر بيته وبيوت أقربائه.

وفي الرواية صفحات طوال عن النساء اللواتي يحسبن مثلاً في التاريخ للزوجات الوفيات. وكل مناسبتها في سلب الرواية أن راهب الفكر كتبها إلى طيف الفتاة بعد لقائها واشتغاله بأمرها وهو ينوي أن يطويها عنها ولا يطلعها عليها. وقليلاً ما يخطر على البال المشغول بامرأة في عصمة رجل آخر أن يجعل أحلامه كلها بقديسات الوفاء الزوجي. وهو يكتبها لنفسه ولا يقصد بها عظة الفتاة وتعليمها.

وتشع في الرواية مناسبات المواقف ومداخل الشخصيات من هذا القبيل، ولكنها ملاحظة على الشكل لا تنفذ إلى جوهر الموضوع، ويبقى بعد ذلك أن صفحات الرواية جميعها مادة قراءة فنية تحليلية قليلة النظير في أدبنا الحديث، بل في كل أدب حديث، وهي مما يعرض للمقارنة بينه وبين ثمرات الأقلام التي تجود بها قرائح الممتازين من أدباء الغربيين في هذا الجيل.

ويلحق بهذه الملاحظة الشكلية هفوة هنا وهفوة هناك من هفوات اللغة المطروقة كمساق في موضع سوق ويسوي في موضع نشوة وتعدية الأفعال بغير حروفها أو في غير مواضعها، وهي حد قليلة في أكثر من ثلاثمائة صفحة من الحرف الدقيق.

ولكن الملاحظة التي تدخل في جوهر الموضوع هي الملاحظة التي تدور على حدود الوصف (المكشوف) في الروايات والكتب عامة.

فالأستاذ توفيق الحكيم من أغنى الكتاب القاصين عن إثارة التشويق والتطلع بالإفاضة في تصوير الغرائز التي لا حاجة إلى تصويرها، لأنه يملك زمام التشويق بوصفه لأنزه خواطر الفكر وأرفع سبحات الروح، فلا حاجة به إلى تنبيه الغرائز في زمن شكواه الكبرى

ص: 3

فرط التنبه في غرائز أهله.

ولهذا وددنا لو خلت الرواية من صفحتين أو ثلاث لا يضطرنا السياق إلى إثباتها، وإن ذلك لخليق بالكاتب المتحرج الذي وصل إلى الفتنة فدق للنجاة منها جرس التلفون. . . لكيلا يسمح لغريزته أن تنطلق إلى مداها.

على أن صديقنا الأستاذ كما أسلفنا متردد بين عتبة الصومعة وعتبة الحياة، ولم يزل متردداً بين العتبتين من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة.

ففي هذه الصفحة الأخيرة يقول عن راهب الفكر: (أما هو فقد رجع إلى عاداته السابقة. . . يفض رسائل قرائه في الصباح باسم الثغر هادئ الأعصاب. وإذا هو بعد زمن قليل قد رقعت في يده رسالة بين البريد ارتجف لها: إنها من امرأة تسأله أن يحدد موعداً للقائها لأنها تريد أن تحادثه في شأن الأدب والفكر!. فصاح في نفسه: لا. لا. كفى. . . ألم يعرفهن؟. .

وضغطت أصابعه على الرسالة يردي أن يمزقها. . .)

هكذا كتب الأستاذ توفيق في الأسطر الأخيرة من الصفحة الأخيرة عدا سطرين اثنين

ولو ختم الرواية بعد ما تقدم لأحجم الأدبيات عن سؤاله وعلمن أن التمزيق العاجل نصيب تلك الرسائل التي يكتبها إليه. . .

وهو يريد ولا يريد.

وهو يتردد بين الصومعة والحياة

ولهذا اتكل على الله وختم الرواية معتصماً بالشجاعة فقال أن (الشجاعة ليست في تجنب مزالق الجسد وتحاشي مواطن الزلل. بل في مواجهتها بمصباح الحقائق ونور المثل العليا)

ومصباح الحقائق إذن هو الكفيل بانتظام البريد في مجراه، وليكتب إذن من يكتب فإن راهب الفكر شجاع!

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌أبو العلاء المعري

التفاؤل والأثرية عند الشيخ

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 4 -

الأمل:

لي أمل، فرقانه محكم

أقرأه غضاً كما أنزلا

أجرى من الخيل آمال أصرفها

لها بحِّثي تقريب وإخبابُ

لا تقنطن أيها الإنسان، فإن بلغتك عند الله الكريم، والرزق يطلبك وأنت تبصر الأحلام. لو أن للزرق لساناً هتف بمن رقد، أو يدا لجذب المضطجع باليد، أو قدماً لوطئ على الجسد، لا يزال الرزق مرنقاً على الهامة ترنيق الطير الظماء على الماء المطمع.

سم الهلال إذا عاينته قمر

إن الأهلة عن وشك لأقمار

وقد يخمل الإنسان في عنفوانه

وينبه من بعد النهي فيسود

أحسبت الخير ليس بمثنمر؟ بلى. إن للخير ثمرة لذت في المطعم، وتضوعت لمن تنسم، وحسنت في المنظر والمتوسم، وجاوزت الحد في العظم، فما ظنك بثمرة هذه صفتها؟!

هون عليك:

الأمر أيسر مما أنت مضمره

فأطرح أذاك وهون كل ما صعبا

إذا تفكرت فكراً لا يمازجه

فساد عقل صحيح هان ما صعبا

العلم كالقفل، إن ألفيته عسرا

فخله ثم عاوده لينفتحا

دع ما ضر وصعب، إلي ما نفع وهان. واترك المضلة إلى المرشدة فإن طرقات الخير كثير.

لا طيرة:

الأيام كلها لله، وربما ساءتك عروبة، وسرك الخميس. وإذا نزل بك نازل في يوم فلا تمقته لذاك.

ص: 5

بركات الله ورحمة:

يبعث الله في نهار وليل

بركات من رزقة مدروره

غشيت رحمة الله كل الحيوان، وتكفل بالرزق لكل المتغذيات.

فرح الملأ بالكلأ، وحق لهم أن يبتهجوا برزق الله الكريم. جاء اللَّبأ، وذهب الوبأ، فسبحان الله العظيم! يا خصب، ثِب لتُراق الكُثَب على الكُثُب وعلى الله رزق العالمين.

السماء تَدِقُ، والبلاد تورق، والله الموفق، والرزق بكرمه مهتدفق.

والشمس نغمر أهل الأرض مصلحة

ربّت جسوماً، وفيها للعيون سنا

طهت لك الشمس ما يفني أخادعة

عن أن يكون له في الأرض طاهونا

الأقدام، الجسارة:

وإني رأيت الصعب يكرب دائماً

من الناس من لم يركب الغرض الصعبا

والعيش جسر، نال من هو جاسر

أو كاد فيه وخاب من لم يجسر

ويحمد الصابر الموفى على غرض

لا عاجز بعري التقصير معقود

ينبغي للمسبوق ألاّ يؤثر بصبوح ولا غبوق، فليستحي المتأخر أن يفتخر.

الخيف من رأي السخيف، فاجر على مَطَرتَك في تقوى الله؛ والخيل بفوارسها متمطرات.

إنما نحن في أحلام نائم لا أحلام ذوي العزائم، وقد يرى الراقد نفسه مع الفراقد، فإذا استيقظ رآها بالجدد.

وكن في كل نائبة جريئاً

تصب في الرأي إن خطئ الهدان

وسائل من تنطس في التوفي

لأية علة مات الجبان

اشِجُع فإن أقدار الله لا تعجل إلى الشجاع.

صُلْ على الظالم بالمنصل.

الدنيا، الحياة:

خُلقتُ من الدنيا وعشت كأهلها

أجد كما جدوا، وألهو كما لهوا

أمور دنياك سطر خطه قدر

وحبها في السجايا أول السطَر

ولا تظهرن الزهد فيها فكلنا

شهيد بأن القلب يضمر عشقها

ص: 6

نفسي بها ونفوس القوم ملهَجة

ونحن نخبر أنا لا نباليها

أمرتني بسلو عن خوادعها

فانظر هل أنت مع السالين ساليها

ولا ترى الدهر إلا من يهيم بها

طبعاً، ولكنه باللفظ قاليها

فترومن هذى الحياة

لكي تموت النفس ريّا

الموت، كرهة:

والنفس آلفة الحياة فدمعها=يجري لذكر فراقها منهُّله!

ولم أرد المنية باختياري

ولكن أوشك الفتَيان سسي

ولو خيرت لم اترك محلى

فأسكن في مضيق بعد رحب!

فليت الفتى كالبدر جدد عمره

يعود هلالا كلما فني الشهير!

أحسن بدنيا القوم لو أن الفتى

لا يُقتضي، وأديمه لا يحلم!

تضاعفت همي أن أتتني منيتي

ولم تقض حاجي بالمطايا الرواقص!

فواها لأشباح لكم غير أنها

تبدل من أوطانها برموس!

أنبأنا اللب بلقيا الردى

فالغوث من صحة ذاك النبأُ!!!

صوت البطولة:

هناك ضرب من الموت لا يكره ولا يذم بل بحب ويعظم، وهو موت البطولة في الوغى. وقد حرض الشيخ عليه، والحرب شرعة العربي:

إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت

حبال الهويني بالفتى أن تقطعا

والجهاد من دين المسلم:

(كتبَ عليكم القتال وهو كرْهٌ لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، والله يعلم، وأنتم لا تعلمون).

(وجاهدوا في الله حقَّ جهاده).

(وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون).

(انفروا خفايا وثقالا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).

ص: 7

وإذا كان الحال كما قال الشيخ.

وما سلُّ المهند للتوفي

كسل المشرفية لتشفى

فالموت يومئذ خير من ألف حياة، خير من الخلود.

من السعد في دنياك أن يهلك الفتى

بهيجاء يغشى أهلُها الطعن والضربا

فإن قبيحاً بالمسوَّد ضجعة

على فرشه يشكوا إلى النفر الكربا

كلُّ يحاذر حتفا

وليس يعدم شربه

ويتقي الصارم العضب (م)

أن يباشر عربه

والنزع فوق فراش

أشد من ألف ضربه

لقد ركزوا الأرماح غير حميدة

فبعدا لخيل في الوغي لم تطارد!

وما يجمع الأشتات إلا مهذب

من القوم يحمي باردا فوق بارد

لضربة فارس في يوم حرب

تُطير الروح منك مع الفراش

أخفُّ عليك من سقم طويل

وموت بعد ذلك على الفراش

ألا تنهض للحرب

وتدعو للوغى شوسك؟

وقد علمتُ وغيري عن مشاهدة

أن العلا إلفُ قوم في الوغى لِيسِ

وجدتُك أعطيت الشجاعة حقها

غداة لقيت الموت غير هيوب

من السعادة أن يموت القوم كراما

للحديد العلا على سائر الجوهر (م)

ذلُّ العدى وعزُّ الضيوف

فوارسُ خيلكم تُعطى مناها

إذا دمَّى نواجذَها الشكيم

وفي بيض السيوف بياض عيش

بذلك - فاعلموا - نطق الحكيم

القوة:

يخضع الظبي الأخضع، وينتصر الليث المهتصر.

المال، تثميره:

والمال خَدنُ النفس غيرَ مدافع

والفقر موت جاء بالإهمال

أو ما ترى حكم النجوم مُصوراً

بين الحياة يليه بين المال

ص: 8

ما اليسر كالعُدم في الأحكام بل شحطت

حال المياسير عن حال المحاويج

انفقْ لترزق فالثراء الظفر، إنْ

يُترك يَشن ويعود حين يُقلم

ينبغي لمن يرث، أن يًحترث، وإلا فني التراث

جل من سخره لقضاء الحاج

أعتمدُ على ذي وجهين، وما عُرف قط بالمَين. لو كان رجلاً لكان ناصح الجيب. . . سبّح ربه مذ خُلق، إذا انطلق به فهو منطلق، ومتى بُعث في المآرب قضاها، والله بلطفه أمضاها. ثم يُحبس ولا ذنب له. سجن فهو طول الدهر مستريح، لا تلج عليه الشمس ولا الريح. لا يأكل ولا يشرب. . . له منزل ما دخله الهم. . . إذا غاب الحافظ عنه فله الختم، وليس ذلك من القضاء الحتم. . . خُص بالعمر الطويل، وتناسخه جيل بعد جيل، فظهر في الأكاليل، والأسورة والخلاخيل، والكأس الدائرة بشراب الكرم والنخيل. ما شاب ولا هرم، ولا درَم للكبر ولا درم. ملكه قوم فدفنوه، فتطاولت في الأرض سنوه، ثم ظهر ما نُسى اسمه، ولا تغير جسمه. . . به صفرة من غير الضرب، ظهر بها في الشرق والغرب. . . تلقاه معِلماً بالتوحيد، وليس بالعالم ولا البليد، ولكن الله أنطق بعظمته كل جماد. . . جلَّ من سخره لقضاء الحاج.

العمل

تروم رزقاُ بان سموَّك متكلا

وأدينُ الناس من يسعى ويحترف

لا تقومنَّ في المساجد ترجو بها الزلف

معملاً بسط راحتيك إلى نائب يُلف

وُرُم الرزق في البلاد فإن رمتَه ازدلف

يعرى الفقير وبالدينار كسوته

وفي صوانك ما إعداه خرف

أملك من شداد بن عاد ساعة تفتقر الأملاك رجل اشترى كرْا، وقصد منابت الشجر محتطباً، فرجع بالعَضد متكسباًن فأحل في المكسب وأطاب

لا يصيرنّ فقير تحت فاقته

إن السباريت جابتها السياريت

من في اللجة يغبط السائر على المحجة، والمسافر يغبط المقيم، والغنيمةُ مع الظاعنين

ص: 9

العمل - وإن قلَّ - يستكثر إذا اتصل ودام

من سهر في الليالي السود فأحر به أن يسود

بُلغ أمل بعمل، وأهلُ التقصير بلا عون ولا نصير

أجدْ عملك وجِدَّ فيه

طِدْ بناءك على أس

الثمر، النبات

فإذا ملكت الأرض فاحم ترابها

من غرسه شجراً بغير ثمار

إذا رملة لم تجيء بالنبات

فقد جهلت إن سقتها السواني

ص: 10

‌في عيد المعري

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 2 -

ويوم الاثنين ثامن شوال سنة 1363 من الهجرة، اجتمعت وفود البلاد العربية في جامعة دمشق، واحتشد الناس ليشهدوا افتتاح المهرجان، وجلس الوفود على منصة عالية في صدر المجلس ومعهم رئيس المجمع العلمي العربي وأعضاؤه - وهم الداعون إلى الاحتفال والقائمون عليه - وحانت ساعة الافتتاح فأقبل رئيس الجمهورية وجلس وسط الصف الأول من الوفود ومعه بعض الوزراء وكبراء الدولة.

أمة تمجد شاعراً من شعرائها، وفد احتفت لهذا واجتمعت له، وشهد الإجماع رئيس الدولة. ذلكم أمر أمم، وخطب يسير لو وقف الفكر عند هذا المظهر المرئي، وهذا الجمع الحاضر؛ ولكن وراء هذا المرأى معان ومعان؛ هذه الأمة العربية المجيدة قد عرف نفسها، وتبينت وحدتها، فبعث وفودها إلى دمشق لتجتمع على تمجيد شاعر من شعرائها. فالتقت فيها وجوه متعارفة لا تتناكر، وقلوب متعاونة لا تتنافر، وتحدثت عن الماضي والحاضر، وطمحت إلى الآتي بآمال مجتمعة، وعزائم مجمعة، وقد اجتمعت في الساعة نفسها وفودها في الإسكندرية لتشرع لوحدتها شرعة، وتخط لها منهاجاً، وتتحالف على الخطوب، وتعد للحوادث، وتلقى الزمان برأي جميع، وأمر جامع. ولم يوافق اجتماع دمشق اجتماع الإسكندرية إلا إيذانا بيقظة هذه الأمة، وطلبها المجد والكمال في كل نواحيها، وسلوكها كل سبيل إلى مقاصدها. وما رئيس الجمهورية هذا الجالس في حفل المعرّي إلا ربيب الثورات وغذِي المجن فما نال مكان الرياسة من الجمهورية السورية إلا بأن العرب الثائرين تولوا أمورهم، ونالوا مكانهم في بلادهم، وأن الثورة ظفرت، والآمال تحققت، وبدت بشائر الفجر الصادق للمستقبل الكريم. ولقد كان من مقاصدي يوم أزمعت شهود مهرجان المعري أن أرى شكوى القوتلى وصحبه يصرفون الأمور في حاضرة بني أمية، وأن أسعد نفسي برؤية ما تمنيت، وشهود ما أملت. لقد أديل من الضعف للقوة، ومن الذل للعزة، ومن الفرقة للاجتماع. ولم يبق إلا أن تعتزم الأمة المجيدة وتقسم لتبلغن غايتها، ولتنالن مُنيتها. وما أقسمت أمة وعزمت إلا أبرتها الحادثات، وأمضى يمينها الزمان.

ص: 11

قلت في نفسي، والسرور يملؤها: قد احتفلنا من قبل بذكرى أبي الطيب المتنبي فتجاوبت بلاد العرب بتمجيد الشاعر الكبير ما بين هضبة إيران وبحر الظلمات، وكتبت مقالات وألفت كتب تناولت سيرته وأديه. وتبين من يحتاج إلى بيان أن في هذه الأقطار الواسعة أمة واحدة، تنطلق بلسان واحد، وتروي عن تاريخ واحد، وتتأهب لتأليف تاريخ هو على ضخامته واختلاف فصوله، كتاب واحد.

ثم يدعى إلى الاحتفال بذكرى المعري والحرب دائرة، والخطوب محيطة، والأسباب بين البلاد متقطعة فتصيب الدعوة هوى من أمة نزاعة إلى إحياء مجدها وحفظ تاريخها القديم وتسطير تاريخ جديد أعظم وأروع. وكانت دمشق مكان الجمعين وما أجمل أن يحيا أدب العرب، ويذكر مجد العرب في مدينة العرب: دمشق الخالدة.

وقد اجتمعت الوفود على ذكر الشاعر الفيلسوف الحزين المتشائم، وهي فرحة مستبشرة، ترى تباشير الصباح في أعقاب الظلام، وتكاد ترى أشعة الشمس من وراء الأفق، ويعرف بعضهم في وجوه بعض بسمة الأمل ونضرة الرجاء، وقوة العزم وأهبة الجهاد الذي لا ينتهي دون الظفر.

احتفلنا بذكرى أبى العلاء يومين في دمشق تلقي المحاضرات في العشى، وللزيارات والمآدب سائر النهار وزلف من الليل.

ويوم الأربعاء عاشر شوال والساعة تسع ونصف من الصباح فصلت الوفود ومن معها من أدباء الشام وعلمائه تسير صوب الشمال. فتوالت السيارات على الطريق تخترق الغوطة الفيحاء الغناء وليست الغوطة إحدى جنات الدنيا، في حاجة إلى تعريف أو وصف، وامتد بنا السير فيها زهاء نصف ساعة. ومررنا بقرية حَرَسْنا من قراها فذكرنا الإمام محمد بن الحسن الشبباني الفقيه صاحب الإمام أبي حنيفة. ويقال إنه ولد بهذه القرية. وقال ياقوت في معجم البلدان في صفتها:(قرية كبيرة عامرة في وسط بساتين دمشق، على طريق حمص بينها وبين دمشق أكثر من فرسخ.) وغدا ياقوت جماعة من العلماء المنسوبين إليها. ثم قال: (وحَرْسنا المنظرة من قرى دمشق أيضاً بالغوطة في شرقها). وجُزنا الغوطة إلى أرض واسعة فيها كروم ومررنا بالثنايا. ويقال إن هناك ثَنيّة العُقاب التي ركز عليها خالد بن الوليد رضي الله عنه راية العقاب حينما اجتاز بادية الشام فجيء الروم من حيث أمنوا.

ص: 12

وبعد قليل رأينا طريق بغداد يتفرع من طريقنا. وحسب هذا الطريق يمنا وفخراً أنه يصل بين دمشق وبغداد. وقد سعدت بقطعه عشر مرات فلم توحشني قفاره. ولم يعنيني طوله؛ بل أنست فيه بذكريات عظام، وتحدثت فيه إلى أمان جسام.

وبعد قليل رأينا طريق تدمر يتشعب إلى يمين طريقنا، ثم دخلنا أرضاً جبلية يسير الطريق فيها على سفوح الآكام وحفاف الأودية، ثم انفرجت الجبال واتسع السهل والساعة إحدى عشرة وبلغنا البنك بعد ربع ساعة، وهي في سهل واسع خصب، تلوح في نواحيه قرة قليلة متباعدة وضياع وأشجار. والعمران والخصب ظاهران في البلدة وحولها. وكذلك كانت في القرن السابع. قال ياقوت:(قرية مليحة بذات الذخائر بين حمص ودمشق فيها عجيبة باردة في الصيف صافية طيبة عذبة يقولون مخرجها من يبرور). ويبرور هذه بين حمص وبعلبك وهي إلى الجنوب الغربي من البنك. والبنك مركز قضاء يسمى باسمها. ويستخرج في نواحيها عرق السوس. وقد نزلنا على مجزى هذه العين، في بستان صغير فيه ناعورة. فاسترحنا واستروحنا إلى البستان والماء والناعورة واختفى بنا موظفو البلدة ونائبها وأعيانها. واستأنفنا السير بعد قليل نؤم حمص فمررنا بدير عطية ورأينا على بعد إلى يسارنا قرية القارة. وهي قرية قديمة معروفة. قال صاحب معجم البلدان:(قرية كبيرة على قارعة الطريق. وهي المنزل الأول من حمص للقاصد إلى دمشق. وكانت آخر حدود حمص وما عداها من أعمال دمشق. وهي على رأس قارة وبها عيون جارية يزرعون عليها) والظاهر أن الأرض هناك كثيرة العيون وبهذه العيون تحيا الأرض هناك وتخصب وبنت الزرع والشجر وينشأ العمران. وكانت معنا الأستاذ أديب التقى فقال: العامة يقولون: بين القارة والبنك بنات الملوك تبكي؛ قلت: مم تبكي؟ قال والعهدة عليه: من شدة البرد.

أخذ السهل يتسع حتى اختفت الجبال التي كانت تلوح بعيدة على يمين الطريق وابتعدت الجبال التي على يساره، وأشير إلى سواد بعيد يبدو فيه الشجر والخضرة فقيل: انه منبع العاصي، وشرعنا نرى آثار الخصب والنضرة في سقي العاصي. والعاصي أكبر أنهار سوريا ينبع شمالي بعلبك ويجري صوب الشمال والغرب حتى حمص ويمر بمدينة حماة. ثم يتجه صوب الشمال والغرب حتى يفيض في البحر. وكم يفيض مجراه الخصب والبركة وينبت الزرع والجنات، وينضر البساتين والمنتزهات ويدير النواعير الكبيرة الرائعة.

ص: 13

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 14

‌منخفض القطارة

في صحراء مصر الغربية

للأستاذ ستابلتون ترول

كان قدماء المصرين يظنون أن منخفض القطارة هو الدار الآخرة. وكان قدماء الإغريق يعدونه الموطن الخرافي للغول الوحشي: ميدوس الذي كانوا يعتقدون أنه إذا نظر إلى شيء حوَّله حجرا. ولاشك أن السبب في نشأة هذا الزعم هو ما كان يروي من قصص العجيبة عن الغابات والنباتات المتحجرة التي تغطي مساحة المنخفض. ولقد عبر منخفض القطارة جيش بقيادة قمبيز بن قورش الأكبر، حينما زحف إلى مملكة سيوة لفتحها. ويحدثنا هيرودوت أن ذلك الجيش وقع فريسة لعاصفة رملية اجتحته فلم يسمع عنه خبر. ولقد اجتاز الاسكندر الأكبر كذلك ذلك الطريق في عودته من سيوة بعد أن نادى به قساوسة المعبد السيوي إلها. تلك هي طبيعة منخفض القطارة، حتى إنها ظلت مئات السنين تقذف الرعب الخفي في القلوب، فكان الرحالون والقوافل تتجنبها دائماً

ومع أن المنخفض قد كشف في أواخر القرن الثامن عشر وارتاده الرحالة الألماني رلفس سنة 1784، لم تتجه إليه الأنظار اتجاهاً قوياً إلا في فجر القرن التاسع عشر

على أن حديثنا هنا هو عن جماعة الكولونيل باكنولد الذين اجتازوا المنخفض بالسيارات في سنة 1927 وقد دون باكنولد ما جاء على غير ما كان يتوقع جمهور الناس، إذ قال إنه لم يصادف في رحلته حوادث مثيرة أو خطيرة، فلم يضلوا الطريق، ولم تتعطل سياراتهم، ولم تهاجمهم قبائل معادية. وقد قامت الفرقة برحلتها المنهكة من غير حوادث ولا مصادفات ولكنها عادت بوصف واضح لتكوين المنخفض. ويقول باكنولد إنه حتى في أثناء الحرب العظمى الماضية لم تحاول عبور المنخفض دوريات السيارات الخفيفة التي كانت تقوم بعملها في مصر لحراسة حدودها. ولقد بدأ رحلته من مينا، باب الصحراء الغربية، واختط طريقه جنوبي حافة المنخفض عابراً إلى قارة، ومنها قدماً إلى سيوة - فبلغ ما قطعه في رحلته 400 ميل، ولاشك في أن الرحلة لم تكن نزهة يتفكه بها، إذ أن المنخفض ليس أرضاً صلبة، لذلك كانت عجلات السيارات تغوص في التربة الرملية الملحية.

وكانوا في بعض الأحيان يقاتلون قطعانا من الغزلان ترعى الحشائش المتناثرة التي تنمو

ص: 15

بقطرات الندى، والتي يحيط بها من كل ناحية سهول ممتدة من الرمل الأصفر، تتلاشى بالتدريج في خط الأفق.

ويتألف المنخفض من سلسة من الأحواض الضحلة تحتضنها حروف واطئة ملتوية من الحصباء السمراء المحترقة بأشعة الشمس. وتقطع الأكمات على مقربة من منخفض القطارة مجار تشبه الجداول الصغيرة، غير أن الماء لم يعرف سبيله قط إليها. ومن المشاهد العجيبة في المنطقة الجنوبية للمنخفض انتظام الأكمات الرملية التي تنفصل كل منها عن الأخرى بما يقرب من مائة ياردة (أي نحو تسعين مترا ً)، في صرة مجموعة متصلة من السلاسل الرملية. وتجد متناثراً هنا وهناك على الأكمات الرملية جذوع أشجار الغابات المتحجرة بما فيها من عقد وفروع، وبعض تلك الجذوع غائر بحيث لا يبدو منها فوق الأرض الناعمة التربة إلا أعلاها بشكل يشبه مخالب عملاق تمتد في الفضاء. وفي أثناء عبور الفرقة للمنخفض عثروا على مواطئ أقدام لابد أن يكون قد مضى عليها سنوات عدة، ولكنها مع ذلك لم تكد تؤثر فيها العوامل الجوية. وهناك يلف صمت الصحراء الرهيب كل شيء، كأنه ملاءة شاسعة؛ ذلك الصمت الذي يستحوذ على مشاعر الإنسان، فان لم يسيطر العزم الصادق على أعماله حينئذ، تغلب ذلك الصمت عليه فساقه في أي اتجاه طلباً للنجاة مما استولى عليه من السأم، محاولاً البحث عن سلوى يلجأ إليها في ذلك العمق الرهيب لسكون المفازة الشاسعة، وما يزال كذلك حتى يضل الطريق فلا يعرف أمشرق هو أم مغرب. عندئذ تلحقه الخيبة والهزيمة فيقع في سبات - فان النجدة كان الهلاك مصيره. تلك هي الأراضي التي اجتازها باكنولد ورفقاؤه.

وتدل الكتابات الجغرافية عن المنخفض على أن مصلحة المساحة المصرية قامت بتخطيطه على خرائط دائرية منذ سنة 1927، وبذلك أصبحت مساحته معروفة على سبيل الدقة وتكتنفه الأجرف الرملية من جانبيه الشمالي والغربي، على حين أنه في جانبيه الجنوبي والشرقي مفتوح منبسط بحيث أن قاعه في معظم هاتين الجهتين يأخذ في الارتفاع تدريجياً حتى يوازي المستوى العام للصحراء الحقيقية ويتلاشى فيه. وهذا التدرج في الارتفاع من قاع المنخفض إلى سطح الصحراء يجعل من الصعب تخطيط حد فاصل بين نهاية المنخفض وبداية الصحراء. على أننا إذا اعتبرنا المنخفض شاملاً لبقعة الأرض الفسيحة

ص: 16

التي ينخفض سطحها عن سطح البحر، كان طوله من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي 298 كيلو متراً، مع عرض يبلغ أقصاه 145 كيلو متراً، فتكون مساحته 19. 500 كيلو متر مربع. ويدخل في حدوده واحة المغارة على جانبه الشرقي، واحة قارة - وهي واحة آهلة بالسان على الدوام - على جانبه الغربي. ويقع الجزء الضيق لمنخفض، أي الجزء الشرقي الذي به واحة المغارة، على بعد 205 كيلو مترات من القاهرة، على حين أنه على مسافة لا تزيد على 56 كيلو متراً من البحر المتوسط؛ أما طرفه الغربي، بالقرب من واحة قارة، فأنه يمتد إلى نقطة تبعد 80 كيلو متراً عن القرية الرئيسية لواحة سيوة، كما تبعد 130 كيلو متراً عن حدود مصر الغربية، ويبلغ متوسط عمق المنخفض 60 متراً تحت سطح البحر، وأعمق نقطة فيه - وهي على مسافة 30 كيلو متراً إلى الجنوب الشرقي من قارة - يصل غورها إلى 134 متراً تحت سطح البحر. ومما يسترعي النظر أن من الـ 19. 500 كيلو متر المربعة التي تؤلف مجموع مساحة المنخفض جزءاً لا يقل عن 13. 500 كيلو متر مربع سطحها تحت مستوى سطح البحر بأكثر من 50 متراُ مربع سطحها تحت مستوى البحر بأكثر من 50 مترا.

وتتغطى مساحة كبيرة من قاع المنخفض بتربة سبخ - وهي خليط من الملح والرمل - فيها على وجه العموم قليل من الماء، وفي بعض البقاع تنبسط السبخة فوق أرض صلبة لا يمكن اجتيازها إلا بمشقة؛ غير أنه في جزء كبير من قاع المنخفض تتحول السبخة إلى قشرة صلبة أو رخوة تغطي وحلاً متشبعاً بالأملاح - وهذا الجزء يستحيل اجتيازه. وتقع الأكمات الرملية التي أشرنا إليها من قبل أقصى الأجزاء الجنوبية للمنخفض، وهي نتيجة لهبوب الرياح.

ويدل البحث الدقيق في مساحة المنخفض والمنطقة المحيطة به على أنه لم يكن هناك ولاشك اتصال مباشر بين البحر والمنخفض في وقت من الأوقات، بل إن الماء الذي يوجد بالعيون القليلة التي ينز فيها الماء على مقربة من الجانب الشمالي إنما سببه تواصل نشع الماء من تحت الأرض إلى سطحها، ذلك الماء الذي ينبع من نوجد اندي في أقاصي الجنوب الغربي لمنطقة خط الاستواء بأفريقية، ويسري في جوف صحراء ليبيا، فيمد الآبار الارتوازية في الواحات الخارجة، والداخلة، وواحة الفرافرة والبحرية، وسيوة. ويبلغ

ص: 17

متوسط المطر الذي يسقط على منخفض القطارة نحو 20 مليمترا في السنة. يتكون الجرف الشمالي للمنخفض من هضبة واحدة ممتدة بغير انقطاع، ويبلغ ارتفاعه نحو 250 مترا، أما سفح تلك الهضبة فيبدو كما لو أن نهراً عظيماً كان قد اتخذ مجراه على امتداد حافته ثم جف ماؤه فلم يخلف سوى حوضه المحتفر. وفي هذا الحوض - الذي يمتد، على أعماق مختلفة، حتى داخل حدود ليبيا - نجد العيون المائية القليلة في تلك المنطقة. أما العيون التي تستمد مياهها من الأمطار فلا وجود لها هنا.

ورحلة باكنولد ورفقائه كانت عبر الحدود الجنوبية لتلك المفازة السبخة، الصامتة، الرهيبة، الخالية من الماء؛ وكانت جعابهم لا تحمل أمتعتهم فحسب، بل حملوا معهم كذلك كل قطرة من ماء الشرب العزيز الذي كان مقدراً لهم معلوم لا يتجاوز في كل يوم. وبلغ الركب آخر الأمر واحة سيوة، حيث يبدأ بحر الرمال الذي لا ساحل له، وحيث تتلاشى على الخرائط المعالم الأرضية، وتحل محل الخطوط التي تحددها النقط التي ترمز للرمال تتلوها الرمال، وحيث يقرأ المرء على الخريطة تلك الإشارة الغامضة:(حدود الأكمات الرملية غير معروفة).

ولقد عبر باكنولد ذلك البحر الرملي الشاسع بعد عبوره منخفض القطارة بسنتين، وعاد كذلك بمعلومات قيمة.

ومن العجب أن بعض الرحلات الاستكشافية قد تبدو إبان القيام بها عديمة الأهمية، ثم تحل من التاريخ لمستقبل محلاً رفيعاً وتسيطر على بعض حوادثه سيطرة بليغة، وبخاصة حين يكون مصير الشعوب في ميزان القدر: فلقد وجد الجيش البريطاني الثامن في منخفض القطارة ميسرة منيعة له حينما تقهقر من ليبيا واتخذ له خطاً دفاعياً جديداً يمتد العلمين، على ساحل البحر المتوسط إلى خرف منخفض القطارة - وهي مسافة تبلغ نحو 75 ميلاً. ولقد وقف ذلك الحاجز المنيع عقبة كأداء في وجه روميل وفرقة المدرعة التي كلن يعتمد عليها كل الاعتماد. ثم أصبح ذلك الحاجز المركز الذي وثب منه الهجوم البريطاني حينما تجمع في ذلك الخط، ذي الخمسة والسبعين ميلاً، كل ما كان للجيش الثامن من عدد وعدة. ثم صب على (الجيش الأفريقي) الألماني بتلك الصورة المهلكة، حتى أنه في مدى 38 يوماً تفرق شذر مذر مرتداً إلى طرابلس، متقهقراً مسافة تزيد على 1700 ميل - وهو أعظم

ص: 18

تقهقر عرفه التاريخ الحربي. وفي أثناء تقدم الجيش البريطاني تحت لواء النصر في أراضي ليبيا، ألقى كذلك ميسرة طبيعية أخرى، تلك كانت بحر الرمال الشاسع الذي يلقي بالصعوبات في سبيل وسائل النقل العديدة (الميكانيكية). وبذلك كان الجيش على الدوام خلواً من كابوس العدو إذا عن له أن يصدر الهجوم بهجوم على الجناح أو المؤخرة. مما كان يفسد جميع الخطط الدقيقة التي وضعها القائد مونتغمري. أفلا يصح أن نقول أم منخفض القطارة كان اليد المساعدة التي مدتها الطبيعة إلى مصر، لإنقاذها من العصابات النازية المغبرة؟

ترى، هل يظل منخفض القطارة ذا أهمية لمصرفي في مستقبلها، أم هل يبقى مفازة تتحدى جهود البشر؟ ألا أن هناك مشروعاً نافعاً تقدم به الدكتور جون بول في تقرير له. فقد اقترح في سنة 1927، وأعاد اقتراحه مرة ثانية في سنة 1933، بأن من الممكن استخدام منخفض القطارة لتوليد الكهرباء بالقوى المائية، وقد بحث الموضوع بمنتهى الدقة، وغرض بشيء من التفصيل لطرق تنفيذه. وإذا نفذ مثل هذا المشروع فان آلافا من العمال يستخدمون في بناء الأقنية من البحر المتوسط إلى حرف المنخفض، كما تستخدم المهارة والكفاية الفنية التي تدخرها مصر في رجال المصاحة والهندسة من أبنائها. ذلك إلى أنه إذا أمكن العثور على بقعة من الأرض مصمتة لا تتخللها المياه لتكون حوضاً للملاحات، كان من السهل إنشاء منجم لملح بمساعدة محطة التوليد الكهربائي، وبذلك يتيسر إنتاج سلعة بثمن زهيد، وهي الملح الذي لا يستغني عنه بيت في البلاد الشرقية.

وبناء على تقدير الدكتور بول يمكن الحصول من محطة الكهرباء على 200. 000 كيلو واط صافية، وان هذه القوة الكهربائية تزود المناطق الساحلية على الشواطئ المصرية برفاهية لاشك في تقديرها، كما أنها تحول مئات الأميال في مناطق البراري والصحاري إلى مدن ومجتمعات تنبض بالحياة؛ فان هذه القوة الكهربائية هي التي تجلب معها حيث تسير الصناعة والتجارة والعمل لآلاف الناس.

ومن البديهي أن الأمل في إنفاذ ذلك المشروع يتوقف على الحاجة المستقبلة إلى القوة الكهربائية؛ غير أن أهم جزء في نفقات أي مشروع لاستغلال ذلك المنخفض المهمل هو الأعمال الإنشائية اللازمة لحفر الأقنية لمرور المياه من البحر المتوسط إلى المنخفض.

ص: 19

على أن العمل لا ينقطع بمجرد إنشاء هذه الأقنية، فالحاجة إلى أعمال الصيانة لمخازن الكهرباء وما إليها تظل أبداً قائمة، كما تظل الحاجة إلى العمل في الملاحات.

وأمر آخر، وهو أن تحويل المنخفض إلى بحيرة يسبب زيادة صغيرة في سقوط الأمطار على السهل الشمالي، كما يخبرنا بذلك الخبراء في حسابهم الدقيق. ومن الواضح أن هذه النتيجة تكون من أعظم الأمور نفعاً للزراعة في المناطق الساحلية، كما أنها ترفع مستوى الماء في الواحات المختلفة.

إلا إن شبان الأمم جميعها يتطلعون إلى المستقبل: وسيكون أمام مصر، بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها، فرص لا تعد للقيام بأعمال إصلاحية تؤدي بها خدمات لنفسها ولغيرها، وتحتل بذلك محلها بين شعوب العالم الرئيسية، متمتعة بثمار أعمالها؛ تلك هي الفرص التي تتيح لأهلها من العلماء، ومهندسي المساحة، والأطباء، ورجال الصناعة، ومهرة الفنيين، والطلاب، أن يتقدموا إلى الأمام - كل يؤدي نصيبه في جعل العلم والصناعة مرداً عذباً ينهل منه جمهور الشعب. ومنخفض القطارة في مصر، على حد قول الدكتور بول في مشروعه المقترح، لا يزيد على أن يكون أحد الأعمال الإنشائية اللازمة بعد الحرب، وهو عمل ينبغي أن ينال تفكيراً جدياً من جميع المهندسين المصريين سواء أكانوا من رجال الكهرباء أم من رجال التعدين، لكي تصبح ثمرة معارفهم ومهارتهم نفعاً عميا لأبناء جلدتهم.

ستابلتون نرول

ص: 20

‌على هامش النقد

خواطر متساوقة

في النقد والأدب والأخلاق

1 -

صرخة إنسانية 2 - قفزة نفسية 3 - تفاؤل مطمئن

للأستاذ سيد قطب

في عدد (الثقافة) قبل الأسبق قصيدة لشاعر شاب (محمد العلائي) بعث بها إلى أبى العلاء (من القاهرة إلى المعرة). . . هي صرخة إنسان مألوم. قذفت به إرادة الحياة إلى دنيا كدنيا أبى العلاء؛ ولم تكتف بهذا الشبه في كيانه وموقفه فسمته (العلائي) أيضاً!

وعلى كثرة ما أقرأ من الشعر في هذه الأيام منشوراً في الصحف وغير منشور، فقد وجدت في هذه القصيدة طعماً لا أجده في ذلك الكثير. وجدت طعم الصدق في هذه الصرخة المباشرة؛ فتحركت في ضميري كل أحاسيس (التعاطف). ولا أقول كل مشاعر (العطف) كي لا أوذي الشاعر، الذي ترتفع حساسته المؤذية حتى يقول هذه الأبيات:

شيخَ المعرّة هل مسّتك أهوالي؟

وهل طويتَ زماناً تحت أثقالي؟

هجرت دنياك لم تسهد مباذلها

ولم تعرّج على صحب ولا آل

ولم تساير مَوَدّات على ريبٍ

ولم تصانع أذى عم ولا خال

ولا الوجوه إذا اهتزت ملامحها

بغمرة السوء من بال إلى بال

ولا العيون إذا رفّت بخائنة

ولا تميع مسلول ومحتال

ولا حبائل مطموس على جدث

به رميم الخطايا منذ أجيال

ولم تصعّد أمانيّا إلى شجر

مدّ الظلال على طين وأوحال

ولم تضاحك غراب البين تحسبه

غرْيدَ سانحة من يوم إقبال

ولم تذق خسّة الدنيا إذا مزجت

كأس المقلْ بأشواق وآمال

ولم تكابد رزاياها إذا جلبت

شؤم العثار على ضيم وإقلال

ووحدت طعم الصدق كذلك في هذه الصورة الزرية التي يرسمها للجيل البائس الذي نعيش فيه:

ص: 21

بنو الأول مسوخ لا كيان لهم

مرضى القلوب خطيئات لآباء

مَوْتى المشاعر إلا يوم تافهة

عمى البصائر إلا نحو أقذاء

هدْت كياني بلواهم وحيرّني

داء التفاهة في موتى وأحياء

كأن ثرثرة الأفواه في أذني

رشاش سم على قلبي وأحشائي

يقيء سمعيّ أشهى ما يفوه به

خيارهم يوم سراء وضراء

هم الذباب فلا خير بأنفسهم

لأصدقاء ولا شر لأعداء

كلٌّ سواء: فلا بَرٌّ يفيء له

قلبي. ولا فاجر أصليه بغضائي

يا أخي:

تلك - مع الأسف - صورة بني الأوان، في قلب كل (إنسان) وهي صورة كريهة شائهة، ولكنها هي الحقيقة الحقيقة. وقد تكون أنت أشد حساسية بها، ولكنك لست مفرداً فيها.

وإنني لأود لو تبلغ كلماتي إلى أذنيك، ولو تُجاوزهما إلى قلبك، ولو تستطيع أن تنقل إليك اهتزاز نفسي، فتشعر - على البعد - بهذا التجاوب معك في دنياك!

وانتقلت من هذه الصرخة الوجيعة إلى مقال بعدد الرسالة الأسبق للدكتور مندور عن (الرقص الكلاسيكي) وليست النقلة بعيدة - كما يبدو - فقد بدأ المقال هكذا:

(بدا لي أن أكتب عن الرقص، وذلك أملا مني في تقويم الأخلاق. وقد يبدو هذا غريباً؛ فكيف تقوّم الأخلاق بالحديث عن الرقص؟ ومع ذلك فهذا حق، فالرقص ونقصد به الإيقاعي والتعبيري - لا الرقص الشرقي طبعاً - يورث من يزاوله من رجال ونساء قوة في الجسم تحرر النفس من آفاتها)

نحن إذن في مجال الشكوى من قيود النفس ومن ضمور الأخلاق. في المجال الذي انبعث فيه صرخة الشاعر الوجيعة، لم نعده إلى سواه!

وتعجبني قفزات الدكتور مندور - في بعض الأحيان - ففيها طابع الحرارة، وعنصر الإخلاص؛ وهو مُيسّر لهذه القفزات، وإن اختلفنا معه في التطبيق هنا كما اختلفنا معه في تطبيق (الشعر المهموس)!

اسمه يقول: (والرقص كما هو رياضة للجسم رياضة للروح. وذلك لأنه يغذيها بشعورين لهما أثر عظيم في الحياة، وهما الشعور بالمرح ثم الشعور بالجمال. وليس من شك في أن

ص: 22

هذين الشعورين من أضعف المشاعر عند الشرقيين، حتى لأحسب أن جانباً كبيراً من ضعف النفوس الذي نشكو منه يرجع إلى الحزن الذي ينزل الخراب بالقلوب، كما أن الإحساس بمعنى لجمال ومعاييره الصادقة يكاد يكون منعدما. والنفس الحزينة لا تعرف الثقة والتفاؤل. والحس الذي لا يدرك الجمال لا يحجم عن الخسيس من الأمور)

وكل ما يختص بأحزاننا الهامدة صحيح. ولقد كتبت في عام 1940 مقالاً مطولاً في مجلة الشؤون الاجتماعية تحت عنوان: (مباهج الحياة عنصر أصيل في الإصلاح الاجتماعي) بدأته بهذه الفقرات:

(نحن في حاجة إلى حظ كبير من الفرح، لأننا في حاجة إلى حظ كبير من الحياة، وإلى حظ كبير من سلامة الفطرة، وصحة الشعور، وهما أكبر مقومات الحياة.

(وحظنا نحن المصريين من الحياة ضئيل، لأن حظنا من الفرح، ومن المباهج الروحية ضئيل. وإيما يصح هذا القياس لأن الفرح الإنساني ظاهرة نفسية وعقلية، تقابل في الحيوان ظاهرة القفز والوثب، وفي الطير ظاهرة السقسقة والغناء، وفي النبات ظاهرة التفتح والازدهار. وهذه الظواهر جميعاً دليل الحيوية والصحة في الحياء.

(نحن في حاجة إذن إلى حظ من الفرح الإنساني الراقي، لأننا في حاجة إلى حظ من الحياة الصادقة والفطرة السليمة.

(ولكن أهذا كل ما ينقصنا من ألوان الفرح؟

(الواقع أن حظنا كذلك ضئيل حتى من الفرح الحيواني الذي يدل على سلامة البنية وصحة الجسد واكتفاء الغريزة. والحرمان من هذا اللون ربما كان أخطر وأوغل في العلة، لأننا بهذا الوضع لا نرتقي في سليم الصحة حتى إلى مرتبة الحيوان!)

(تشخيص) الدكتور مندور للعلة في لشرق صحيح. ولكن الذي أخشاه هو ألا يكون قد وقع على العلاج الصحيح. وألا يكون رقصه المقترح هو الدواء المفيد.

فلقد ضرب المثل بالإغريق وإقبالهم على الرقص وأثر هذا الرقص في تربيتهم الخلقية وفي عبادتهم للجمال. والجمال الذي هو قوام العمل الخلقي: (وليس من شك كذلك أن عبادتهم للجمال وحرصهم على التناغم والانسجام قد أحيا في نفوسهم معاني البطولة ومثل الأخلاق. ومن البين أن أهم صفات العمل الأخلاقي هو جماله المشرق). . .

ص: 23

فالذي أعتقده هو أن الإغريق إنما أقبلوا على الرقص الذي (يستمد إيقاعه من الموسيقى الشائعة في الطبيعة) لأنهم قبل أن يرقصوا فاضت نفوسهم بالحياة الدافقة، وأحسوا موسيقى الطبيعة الشائعة، فأفاضوا الحيوية الكامنة في كيانهم رقصاً، وبادلوا موسيقى الطبيعة الشائعة إيقاعاً. ولم يكن الرقص إلا منفذاً للرصيد المذخور.

وليس الذي ينقص الشرقيين هو أن يرقصوا على نغمات الطبيعة، ولكن الذي ينقصهم هو أن يدركوا هذه النغمات، وأن يجدوا لها رصيداً يكافئها في نفوسهم فيجاربوها بهذا الرصيد

أن الحيوية الكامنة هي التي تنقصنا - فيما أحسب - فليس لدينا منها ما ننفقه في الرقص وما ننفقه في المرح، وهما منفذان يتسرب منهما النبع الفائض حين يفيض. فمتى يمتلئ الإناء الفارغ، حتى يتسرب وحتى يفيض؟

هذه هي المسألة يا عزيزي الدكتور!

ولا نختم الصحيفة على هذا التشاؤم، ففي عدد الرسالة نفسه بصيص من نور مقال للدكتور محمد صبري عن (علل المجتمع المصري) جاء فيه:

(لكل مجتمع علله وآفاته، ولكننا إذا استعرضنا علل المجتمع الأوربي كانت هذه العلل خاصة بمجتمع قد تهيأت له جميع المشخصات القومية، وتجلت مظاهر القوة ومظاهر الضعف فيه. أما المجتمع المصري فهو مجتمع في طور الانتقال)

(والواقع أن عللنا وآفاتنا كثيرة نشأ معظمها من الاستعباد وطول عهوده. وقد أصبحنا وفبنا مركب الشعور بالنقص. وهذا واضح جلي في (معاملات) المصريين والجانب. وما بقيت هذه العلة بغير علاج حاسم فستظل (الامتيازات) في نفوسنا وأخلاقنا، وان تكن قد محيت في الورق والمعاهدات.

(وقد أصبحت هذه الحالة مدعاة لليأس والتشاؤم، ففريق من المصريين يقول: إنه لا أمل في إصلاح هذا الشعب. وفريق من الأجانب - وعلى رأسهم المؤرخ الكبير جبرائيل هانوتو - يقولون: إن مصر لا عني لها عن الأجانب، وان مركزها الجغرافي إلى جانب ذلك يفرض عليها قبول سيطرة الدولة التي تهيمن على البحر الأبيض، أي قبول الاستعباد في شكل من أشكاله)

ثم يختم كلمته قائلاً:

ص: 24

(وقد اخطأ الفريقان في نظرهم وتشاؤمهم، ويرجع ذلك الخطأ إلى أنهما قد أضدها حكمهما على الشعب المصري باعتباره قد استكمل أداته للكفاح، وأخذ أهبته وجرب وكبرواستقر. وبعبارة أخرى قد قطع مرحلة الانتقال وظهرت ملامح شخصيته الثابتة من حسنات وعلل وعورات

(ولو أيهما انتبها إلى أن حالة مصر اليوم لا تزال حالة انتقالية، وان بعض العلل التي نراها ليست من العلل (المزمنة) وقد تكون غريبة عن جوهر الخلق المصري الصحيح، وأنها إذا عولجت انتقت عنه، وزالت كما يزول كل عرض. . . أقول لو أنهما انتبها إلى ذلك لهما أن تشاؤمهما أكبر خطر يتهدد الفكرة الإصلاحية، بل وكل فكرة تطمح إلى المثل العليا والسير بالبلاد إلى أبعد الغايات).

هذا التفاؤل مطمئن على كل حال. وفي هذا القول كثير من الصدق. وشاهده قائم في الحياة المصرية القديمة والحياة المصرية اليوم. وقد كانت لمصر مباهجها الحية يوم كانت حياتها توحي بالمرح والابتهاج. . . وحتى الرقص، الذي يريد الدكتور مندور ليستجلبه لنا من الإغريق. قد حفظت لنا منه الصور الفرعونية والآثار مشاهد جميلة فائضة بالحيوية منسقة بالايقاع، مشعة بالسرور!

فلنسمع إلى صرخة الشاعر الإنسانية، وإلى قفزة الدكتور النفسية، وإلى تفاؤل الدكتور المطمئن، فكلها دليل حيوية قد أخذت في الظهور

سيد قطب

ص: 25

‌من وراء المنظار

رئيس. . .!

عدت إلى منظاري فوضعته على أنفى وقد أزلت عنه ما علق به من الغبار والصدأ؛ وما زال لهذا المنظار سحره العجيب. فهو يريني من دنيا الناس ما لا تريني العين المجردة؛ فلولاة مثلاً ما استوقف بصري هذا الذي أحدثك عنه، والذي أضيف إليه لقب الرياسة العظيم، وما هو من ذوي الجاه ولا العظمة، إذ ما زاد على أنه كبير الخدم بالمدرسة التوفيقية الثانوية.

وأنا يا قارئي العزيز رجل بسيط، فقد لا أرى شيئاً من العظمة ولا من الرياسة في بعض من تواضع الناس على أنهم عظماء ورؤساء، وقد أرى العظمة كل العظمة والرياسة كأحسن ما تكون الرياسة في رجل كالذي أحدثك عنه. ولست بالضرورة أدعوك إلى أن ترى ما أرى، فأنت وشأنك، وإنما أدعوك لأن تقرأ هذا في غير سخرية مني. . .

إن (عم أحمد حسين) كما يسميه الطلاب (والريس أحمد العهدة) كما يدعوه زملاؤه، أو على الأصح مرؤوسوه، هو رجل يريني منظاري من خلقه وسمته ما يحملني على أن أرى فيه رئيساً بل ورئيساً محبوباً أن أردت الحق.

أول ما حببه إلى وقاره إذا تكلم أو مشى، ووفرة شعوره بشخصيته. والأنفة ممن كان في مثل موضعه تحمل على الإعجاب والمحبة؛ فكم نسى الأنفة كثيرون هم أرفع درجات منه بحكم العمل. وليس في أنفته شيء مما يرى في غيره من ذوي الرياسات من صلف أو غرور، وإنما هي الكرامة تلمحها في وجه (عم أحمد حسين) حين يأمر في صلف أو ينهر في غير موجب، فنراه عندئذ يرشق آمره أو ناهرة بنظرة ثائرة فيها التمرد الصامت، والعتاب الذي يشبه الازدراء، وبين يديه ثمانية وثلاثون عاماً قضاها بين جدران ذلك المعهد العتيق. فمثله ليس بالشخص الذي يرهب سلطان متسلط وقد درج تحت بصره في هذا المعهد مئات من رجالات هذا البلد فما أساء إليه أحد بكلمة.

وحببه إلى كذلك حيويته ودأبه وإخلاصه في عمله وعظيم تأثيره في مرءوسيه وقد علت به السن؛ فما تدور بسببك في ركن من أركان الدار إلا طالعك منه (عم أحمد) في جلبابه الجيد النظيف وقد تجعد شعر فوديه الأبيض تحت طربوشه القاتم الطويل يدفعه دائماً إلى الخلف

ص: 26

قليلاً بحيث تتدلى خيوطه فوق أذنه اليمنى، وكأنما يكسبه هذا الوضع مهابة إلى جانب ما يكسبه منها شعره الأبيض وطول أعوام خدمته، أو هكذا خيَّل إلى منظاري. . .

ويعجبني منه ذكاؤه وسرعة خاطره وخفة روحه. فهو سريع الفطنة إلى ما يسرك من ألوان الحديث وكيفية الخطاب، فيحدثك وهو ينظر بعينيه اللامعتين إذ تسمع، فإن لمح أثر ارتياحك على محياك استرسل، وأن آنس فيه كدرة أدار الحديث في لباقة وسرعة حتى يقع على ما تحب.

وأجمل حديثه ما كان عن تاريخ المدرسة وتلاميذها القدماء، فيسمعك أسماءهم كما كانت تسمع في فناء الدار، خالية من ألقاب العزة والسعادة والمعالي وما إليها، وكأنه يريد أن يلقي في روع طلاب اليوم أن هؤلاء كانوا بالأمس مثل ما هم عليه الآن، وهو إيحاء يحبه الطلاب. ومن يدري فلعل فيهم من يحمل في غد أكبر الألقاب، أو من يستغني بنباهة اسمه عن جميع الألقاب.

على أن أكرم خلال ذلك الرئيس هي وفاؤه لكل من يعمل معهم، وغيرته على سمعة ذلك المعهد الذي يعمل فيه، وإن جميع من عرفوه ليلمسون فيه هذا الوفاء.

وإذا شئت دليلاً على وفاء هذا الرجل، فاعلم أنه يرسل كل عام في عيد الميلاد خطاباً إلى مستر اليوت بانجلتره؛ ومستر اليوت هذا كان ناظراً للمدرسة التوفيقية منذ ربع قرن، وهو لا يملك له اليوم ضراً ولا نفعاً، ولذلك فوقاره لا تعلق به شائبة من تلك الشوائب التي قلما خلا منها (وفاء) في هذه الأيام، وقل في الناس من يوادك إلا لعلة.

أرأيت معي أن (عم حسين) خليق بأن يدعى الرئيس، وبأن رياسته خليقة بأن تحب؟ أن كنت في ريب من هذا فأخطر ببالك من تطمئن إلى الاعتراف لهم بالرياسة، وأنظر أن كنت نجد فرقاً بينه وبينهم، ومرد الأمر فيما تحكم إلى ذمتك، أما أنا فلست أشك في أنه أكرم عندي من كثيرين، وإذا كان هذا الخطاب الذي أشير إليه دليلاً على ديمقراطية الناظر القديم، فإن فيه لك شهادة على أن كبير الخدم أحمد حسين جدير بأن يذكر وبأن يحب.

الخفيف

ص: 27

‌من دعاة الحرية

جويو

للأستاذ زكريا إبراهيم

ليس أكثر من دعاة الحرية في هذا العصر! وليس أكثر إيغاراً للصدور من دعاة حرية الفكر! وما أنا بغافل عن تلك الضجة التي أثيرت منذ أمد قريب، حين عرض أحد الكتاب لقضية الحرية الفكرية. . . ومع ذلك فأنني أجد نفسي راضياً بأن أثير هذه المسألة الشائقة الشائكة معاً، لأجل خاطر (جويو) صاحب هذه الدعوة!

وصديقنا جويو فيلسوف أصيل جمع بين العمق والطرافة والوضوح. وهو واحد من أولئك الفلاسفة القليلين الذين استطاعوا أن يفهموا الفلسفة على أنها قطعة منتزعة من قلب الوجود، وليست مجرد أفكار عقيمة لا تمت إلى الحياة بأدنى سبب. فالفكرة الجوهرية في مذهب جويو هي أن (الحياة) جوهر الوجود، وأن الفكر ما هو إلا جانب من جوانب الحياة. وقد استطاع جويو أن يوفق بين النزعة الفردية والنزعة الاجتماعية على أساس هذه الفكرة، فذهب إلى أن المثل الأعلى للحياة الفردية، إنما هو ذلك الذي تتمثل فيه الحياة الحافلة؛ والحياة الحافلة هي تلك التي لا تكون فيها الذات مغلقة على نفسها، بل تكون قادرة على أن تسع غيرها من الذوات. ومعنى هذا أن نقطة البدء في فلسفة جويو هي (الفردية) لأن الحياة الخصبة الحافلة إنما هي الحياة الفردية التي لا تكون فيها معارضة بين الفرد والمجموع، إذ تمتد الذات حتى تشمل المجموع وتضمه تحتها!

وقد نشأت فكرة الحرية عند جويو كنتيجة لهذه النزعة الفردية الخاصة. ونحن ندع جويو يعبر عن هذه الفكرة بعبارته التي تفيض قوة وحماسة؛ فيقول:

(. . . ألا يمكن أن يأتي ذلك اليوم الذي فمه تزول كل العقائد السائدة التي يتمسك بها الناس، بحيث لا يبقى أي إيمان عام يستأثر بالنفوس أو يمتلك العقول؟ إلا يمكن أن يحين ذلك اليوم الذي فيه يصبح الاعتقاد (فردياً) خالصاً، فلا تعود هناك سنة بل خروج وابتداع؟ إن الرغبة في التحكم في الجسوم، فمن واجبنا إذن أن تتحامى أولئك الذين يريدون أن يفرضوا أنفسهم علينا، أو أن يجعلوا من أنفسهم موجهين لأفكارنا، أو قادة لضمائرنا. . . أجل، يجب علينا أن نتجنب هؤلاء كما نتجنب المصائب والمحن! فقد آن الأوان لأن نسير

ص: 28

بمفردنا، وأن نفرع من أولئك الوعاظ الخادعين. . . علينا أن نصبح نحن قادة لأنفسنا، فلا ننشد الوحي والإلهام إلا في نفوسنا. أما المسيح فلم يعد موجوداً، لأنه ليس ثمة إيمان عام بعد اليوم! فليكن كل واحد منا إذن مسيحاً لنفسه، وليتصل ربه كما يشاء، وليعتمد على إلهه كما يستطيع. . . وليتصور كل منا هذا الكون كما يحلو له، وليختر أي نظام يروقه. أما أولئك الرجال الذين قد يستطيع المسيح أن يقول لهم: ما أقل إيمانكم، فطوبى لهم إذا كان معنى هذا انهم رجال مخلصون لا يريدون أن يخدعوا عقولهم، أو أن يلغوا ذكاءهم، أو أن ينتقصوا من كرامتهم! طوبى لهؤلاء القوم، لأنهم يملكون روحاً علمية حقيقية، وفكراً فلسفياً صادقاً، ولأنهم لا يؤخذون بالمظاهر، بل يأخذون الحذر حتى من عيونهم وعقولهم، ولأنهم يبدءون دائماً من جديد، فاحصين احساساتهم، وممتحنين استدلالاتهم. أن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يظفروا بجانب من الحقيقة الخالدة، لأنهم لا يظنون في أنفسهم أن في وسعهم إن يظفروا بالحقيقة كلها؛ فلديهم إذن قدر كاف من الإيمان الحقيقي الذي يدفعهم إلى أن يبحثوا دائماً، بدلاً من أن يركنوا إلى الراحة والهدوء، مكتفين بأن يرسلوا الصرخة العالية قائلين: لقد وجدنا! لقد وجدنا! أجل، إن هؤلاء هم الشجعان الذين يواصلون السير والتقدم، حين يتوقف غيرهم ويركن إلى الدعة والخمود؛ فالمستقبل لهم وحدهم، وفي أيديهم يقع مستقبل الإنسانية في العصور المقبلة!)

هذه هي الحرية الفكرية كما يفهمها جويو، فهي في نظره ضرورة من ضرورات الحياة الحاضرة، وحاجة من الحاجات الهامة التي يقوم عليها مستقبل الإنسانية. وليس أحب إلى نفسي من هذه العبارة الخالدة التي يصور فيها جويو موقف الإنسانية اليوم فيقول:(إننا على ظهر سفينة هائلة كالتنين الضخم، وقد اقتلعت الأمواج العاتية دفة هذه السفينة، وحطمت الرياح الثائرة ساريتها. فالسفينة الآن ضالة في الميحط، تنخبط ذات اليمين وذات الشمال، مثلها مثل الأرض السابحة في الفراغ! وهي تسير بالمصادفة والاتفاق وتضرب ضرب عشواء، مدفوعة بالرياح السوافي، كأنما هي حطام هائل يحمل فوق ظهره الناس. . . وقد تصل هذه السفينة إلى هدف مجهول، أو غاية غير معلومة، فتبلغ الإنسانية غرضاً لم ترم إليه من تلقاء نفسها. ولكن ليس ثمة يدٌ تقودنا، ولا عينٌ ترعانا؛ والدقة قد تحطمت منذ زمن بعيد، بل لعلها لم توجد يوما ما، فعلينا أن نضع هذه (الدقة)؛ وتلك مهمة خطيرة،

ص: 29

ولكنها عملنا، ومن واجبنا أن تقوم بهذا العمل).

نحن إذن في دور اضطراب وصراع، فلابد لنا إذن من أن نفكر بحرية في الطريقة التي نخلُص بها من هذه الفوضى. والحرية التي يدعو إليها جوّيو ليس معناها الفوضى، وإنما هي حرية تنطلق معها النفوس من نير العبودية، كما انطلقت الأجسام من نير الرق القديم. العالم - اليوم - يتحرَّق شوقا لهذه الحرية، فقد ظل الفكر أمداً طويلاً حبيس الأنفاس، لا يُفك إساره إلا بالقدر الذي يهيئ له أن يسير بضع خطوات في حظيرة الإيمان الضيق! ولكننا نريد أن ينطلق الفكر كما يشاء، حرّاً لا تقيده سلطة، ولا تردّه قوة، اللهمَّ إلاَّ سلطة المنطق، وقوة المعقول!

(السويس)

زكريا إبراهيم

ص: 30

‌أدب الشام الحديث

للسيدة وداد سكاكيني

منذ القدم اقتسمت بلاد العرب أدبها الأصيل، فكان لكل قطر شعراؤه وأدباؤه. وكان الشعر في آثار العرب الثقافية أول ما جاد به دهرهم وأطل من آفاقهم، فكان في الجاهلية موزعاً بين قبائل وعشائر لكل منها شاعرها الذي يحمي ذمارها ويروى أخبارها، وكان لنجد شعراؤها كما كان للحجاز أندادهم من أهل الفرائح والبيان. بيد أن الأدب الذي انتهى إلينا منهم والشعر الذي أثر عنهم لم يكن بتلك القسمة في عهود الجاهلية متميزاً بعضه من بعض، إذ كان نسيج القصائد في تلك الفترات متشابهاً، ولم يستطع دراس الأدب من قدامى ومحدثين أن يكتنهوا الفروق بين أولئك الشعراء، فالجزالة والفحولة حتى في شعر النساء كانت شركة بينهم، وسلامة الطبع والجبلة موهبة فيهم، والسذاجة والبعد عن التكلف من سجاياهم، أما الفروق الفنية فقد دبت في الشعر والنثر بعد الإسلام، فكان شعراء أمية السياسية في طبيعة قصائدهم غير شعراء الحجاز الغزل. وقضي الأمر في قسمة الأدب بين البلاد العربية في العصور العباسية. فظهرت الميزات والعلامات بمياسم أكثر انطباعاً وأشد وضوحاً، فإذا للعراق أدب فياض شاعت في مجاليه مطارحة الندامى وأغاني القيان ومجون الشاربين، وإذا للأندلس طائفة من الشعراء انسرح خيالهم، ورق شعورهم، فابتدعوا الموشحات والمقطوعات، وخلعوا على أدب العرب وشاحاً هفهافاً، وفي نسمات الوادي الكبير، أطلقوا في ثناياه أعنة الخيال من روح الأدب الغربي الذي رف عليهم ومن صوب الأسبان أو عبر نحوهم من جبال (البيرنيه).

وكان ثمة شعر مطبوع وأدب بهيج الأوان، نجما في آفاق الشام، وقد نمتهما دارات غسان ودعتهما ضفاف بردى، ورفت بهما أفانين (جلق) بغوطتها الخضراء كيوم العصابة التي درَّ درها ونادمها حسان في الزمان الأول، فقد عرفت الشام بلون من الشعر سماه المعاصرون من عرب ومستشرقين بالطريقة الشامية، وهو ضرب من البيان ظهر في آثار أبى تمام والبحتري وأبى العلاء فيه اللفظ البليغ والصناعات ذوات التحاسين، حتى بات شعر الشام، كعصب اليمن، أفوافه مزركشة ومطارفة منمنمة، فكأنه نمارق على أرض أو ديباجة على جدار

ص: 31

وإنني إذ أرسم صورة لأدب الشام، لا أقول بالإقليمية العصبية ولا أغلو في الرأي والتصوير، وإنما أقصد إلى تلك المزايا التي اختص الله بها كل بلد من الأرض، فجعل فيها البيئة ذات خلق وتكوين، تؤثر في سكانها وتطبع المرء بمزاجها، فتجعله حسب أطوارها ومقتضاها

من خطرات هذا الرأي ما صوره الشاعر ألفريد دوموسيه، فان له رواية سماها (الكأس والشفاه) وصف فيها رجلاً من سكان التيرول يقول الشعر ويروي سيرته، فيعرضه الشاعر بمعارض أولئك الأشداء الذين سكنوا في الأرض القاسية، فعلوا قمم الجبال على صهوات خيولهم، ولم تتطامن أخلاقهم كأولئك الذين سهلوا إذ سكنوا في السهول

وما ينكر المنصف أن الأدب كالمخلوق الحي ينمو وينضج وتسري في أعراقه دماء يطلب العارفون فيها الأصالة والنشأة التي تخضع لمنازع ثقافية وأحداث اجتماعية وسياسية

فأدب الشام الحديث هو من هذا القبيل أدب عربي الوجه والروح وقد صقله الفن والتطور وظهرت عليه مغارس الوطن، ولم يولد هذا الأدب ولادة ارتجال، وإنما فتحت الشام العيون بعد الحرب الماضية على حركة فكرية جديدة ويقظة ثقافية منها مثيلاً، وكانت مثل سجين لم يجد أرفه لنفسه وأقرب إلى قلبه من أدب المصريين فتأثرت الشام نهضتهم ومضت على غرارهم في نشأتها الحديثة. وكم راجت فيها سوق الأدب لقصيدة قالها شوقي أو حافظ، ولكتاب ألفه المنفلوطي أو الرافعي، وكان في تلك الآونة نفر من الشاميين متنورين لكل نهضة، بعضهم عرف الغرب وورد النحل على الأزاهير، ثم صدر عنها فعاد إلى الشام ينشئ المجلات وينشر الصحف ويحاضر في المجامع والندوات داعياً إلى نشر الثقافة والأدب. وأسس المجمع العلمي العربي في دمشق على الفصحى وحفاظ أمجادها وذخائرها فجمع بين لغوي مدقق وعالم فيلسوف ومؤرخ محقق وشاعر أديب، ورفدت أعماله مجلة ذاعت في أقطار العرب. وكان من السوريين شعراء قد استيقظوا بعد الحرب الغابرة على صيحات البعث والتحرر والتجديد فأخذوا بشيء من القصيدة كأنه الينبوع يفيض حيناً وينضب حيناً، وفيهم من حذا وجرير والأخطل حتى قلدهما في حلية القريض، ومنهم من أدمن الإلمام بالمتنبي حتى سرى في بيانه روح أبى الطيب وعنجهيته. وكما كان في كل بلد أدب للشيوخ وأدب للشباب فكذلك حدث في أدب الشام، وليس بين الفريقين تنابذ

ص: 32

وجفاء، فالشيوخ رسخ مجهودهم في اللغة والعلم والبحث، والكهول والفتيان امتلأت نفوسهم بالأمل والطموح، واكتسبوا بالتحصيل ما بذوا به الأوائل، فقد جمع بعضهم بين الثقافتين العربية والغربية، فانبعثوا وراء المثل العليا يسترشدون بالهداة ويتأثرون أعلام هذه النهضة التي تنوروها من قريب ومن بعيد

وان في أدب الشام الحديث لألواناً وفنوناً، ففي الكتابة والإنشاء فريق لو أتيح لهم دور نشر وطباعة تفي بآثارهم فتذيعها في الناس، أو لو كانت صحفهم تجاوز آفاقهم، لشاع صيتهم، وفي هذا الملأ مواهب فنية في النقد والقصص، لولا إيثار أصحابها لوظائف الدولة لأثر عنهم كل أثر نفيس

إنه لأدب طريف الأوان أصيل السمات، ولكنه ضئيل الجزم، محلى الشيوع والازدهار، والشام سوق لهذا الأدب المصري بأكثر مما هي فيه لأهلها، فلو سئل المثقف أو المتعلم في ديار الشام عن مصر وأدباءها وكتبها وعلمائها، لأجاب بما يعجب وبما يطرب، إذ أن أدب مصر يعيش في تلك الديار منذ ثلاثين عاماً كما يعيش في حمى الأزهر وتحت قبة الجامعة، وفي ندوات الثقافة المصرية، غير أن مصر التي يجمل بها عتاب الحبيب لا تعرف من أدب الشام إلا القليل، وكلتا الشقيقتين على حق فيما ترى بهذا الشأن. ولعلي أتحدث قريباً عن فنون هذا الأدب مزوداً بذكر أعلامه وكاتبيه وأهل القصة والنقد فيه

وداد ساكاكيني

ص: 33

‌صفحة حزينة.

. .!

(إلى زوجتي الشابة المثقفة الطيبة الخلق شريكة حياتي ورفيقة

دراساتي).

للأستاذ عبد الرحمن صدقي

بعد أيام. . .

مماتك في الرَّيعان أصمي مقاتلي

وفقديكِ من عيشي مشيرٌ مشاكلي

وكنتِ الغِنَي من مشكل بعد مشكل

وعقداتِ نفسٍ تستديم قلاقلي

مشاكل شتَّى: حاجةُ النفس للهوى،

وحاجة ذي حسٍ، وحاجة عاقل

جمعتِ لي الدنيا - فأغنيت معدمي،

وأمتعتِ محرومي، وزينتِ عاطلي

أدور بعيني كالشريد بلا هوىً

ولا منزلِ مثلِ الهوى والمنازل

وما منزلي إلا الذي أنتٍ ملؤُه

وما من هوى إلاّكِ بين العقائل

رأيت الغواني وهي لهوٌ ومظهرٌ

وأنتِ مزاجٌ من جميل وكامل

ورقة إحساس، وعفة لفظةٍ

ولحظٍ وتفكير، وحفل فضائل

تعزَّيْتُ لو أني كغيري من الورى

وأَنَّكِ أُنثى كالنساء الحوامل

ولكنني نفساً وحسّاً مُعَقَّدٌ

وأنكِ طبُّ للنفوس العلائل

أقول لدهري فيمَ، فيمَ حرمتني؟

وكل عزائي كان فيها ونائلي

أسائله في كل يوم وليلة

ولن ينتهي مهما حييتُ تساؤلي

أراني مع الأيام تزداد لوعتي،

وعهدي بها للنقص في قول قائل

ويوحشني، أني وحيد وأنني

مع الناس - أبغي الأنسَ في غير طائل

يزلزلني همي، فأخرج هائماً

أسكِّن في هذا الفضاء زلازلي

فأذهل أن ألقي السماء وضيئةً

تَشِعُّ على الآفاق بسمة آمل

وأن تكتسي الأشجار أنضرَ خضرة

ويرقص موجُ النيل رقصة جاذل

بنا تسخْر الأقدار: موتٌ وأدمعٌ

وثمَّةَ أنوارٌ وزهر خمائل؟!

خيالك في التابوت أثلج بي دمي،

وأحرق أعصابي، وهدَّ مفاصلي

ص: 34

وغيَّض دمعي أن رأيتك جثةً

وجسمك معروق العُلَى والأسافل

ووجهك شمعٌ ذو شجوبٍ وصفرة

كرسم عتيق في التصاوير حائل

وشَعرك غريبٌ، وهُدبكِ أَسودٌ

كذيل غُدافٍ حالك الريش ذائل

وما أنس لا أنسى جبينَك عالياً

قوياً - على قيد الردى - غير ناكل

كأن الردى قد هاب ما في وِطا بِه

من العلم عصريّاً وعلمَ الأوائل

وأذكر زوجي كيف كانت إلى مدىً

قريب، وما اختُصَّتْ به من شمائل

فينهلّ دمعي هامراً بعد حبسةٍ

تَفَجُّرَ مُزنٍ حافل الضرع هاطل

وأعجبُ من شان الحياة وسرّها

وأعجب من شأن المنون المعاجل

ويبلغ من فعل الزمان تعجّبي،

فأضحك كالمفجوء من فعل هازل

هنا كان إنسانان: شطرُ وصِنْوُهُ

سعيدان في فيض من العطف شامل

ففيمَ انصداعُ الشمل، شطر على الثرى

وآخر من تحت الثرى والجنادل

لقد كان لي في الحب مَحْيا مضاعفٌ

وحبك - بعد البين - لاشك قاتلي

ص: 35

‌ذكرى

على الرغم مني أن خلا منكِ معهدُ

وأنَّك ذكرى الصدى يترددُ

وأنت التي كانت عميقاً شعورُها

وتفكيرُها فهي الوجود الموكّد

طواك الردى ما بين يوم وليلة

وأهنأ هذا الناس نحن وأسعد

وجَدّث الردى هزلُ، وأحكامه هوىً

ومنطقه فوضى القياسٍ مفنَّد

قَضي أن تموتي حتفَ أنفك غضَّة

وما أنت كُبرانا ولا أنتٍ أوهد

وأن يتوافىَ نحو بيتك صحبُنا

فيلقاهم في البيت أَرملُ مُفرد

يصبّرني أهلي شجاهم تهالكي

يقولون هذه أختها تتجلد

وما أختها؟ إني عَدِنْتُ قرينتي

وأختي، ومن أرجو، ومن أتفقد

تسائلني أمي ضحّى: أين تقصد؟

فأفحم لا أدري، فَيْومي تشرُّد

وأغمض جفني حين تطرق مضجعي

ليُسكن روعَ الأم أنيَ أرقد

يُهيِّج ما بي أن ألاقى معزِّيا

وما بي - وإن طال المدى - ليس يخمد

وجانبتُ من لم يبلغ سمعَه

حذارَ سؤالٍ عنك لا يُتعمَّد

وأعدل عن هذا الطريق لغيره

فقد كالما جُزناه نُهوى ونصعد

وخير رفيقٍ أنتِ في كل رحلة

وخير سمير للحديث ينضِّد

وتجلس في حضن الطبيعة ضمتُنا

مناجاتها - إن الطبيعة مبعد

ونجلس للإسفار ندرسها معاً

كأنْ ليس غير الكُتْب في العيش مقصد

فلا درس إلا وهو عندك أرشد

ولا لهو إلا وهو قربّك أرغد

أمثلك لي خلٌ كريمٌ موافق!

أبعدك نعمي في الحياة وأَسْعُدُ!

وهل متعة إلا عليها موكلٌ

يحرّمها من ذكرياتك مُرْصَد

بحسبيَ أيام قلائل عشتُها

بواحة روضٍ حولَها العمر فدفد

هنيهة أنسً، قبلَها العيش صفحةٌ

بياضٌ وعيشي بعدها اليومَ أسود

ووالله لا أدري أدهري أذمُّه

على قِنَصرٍ فيها - ولا شيء مُخَلَد؟

أوانيَّ على ما خصَّني فأذاقني

ولو طرفاً من ذلك الخلد أحمد؟

برغمي أن قد عاود الشعر مِقْوَلي

وأم كان في مرثاك منه التجدد

وقد كان يستعصي عليَّ، فما له

كدمعي معينٌ سيلُه ليس يجمد!

ص: 36

تعجّب أصحابي وطال سؤالهم

يقولون لي في كل يوم تُقَصَّدُ

وما كان أغناهم عن القول لو دروا

بأني طول الليل يقطان مُسْهَدُ

وكنتِ عروسي في الحياة، فلاتَنِي

عروسً قصيدي تلهمين وأُنشد

عبد الرحمن صدقي

ص: 37

‌كرسي مجلس النواب

للأستاذ محمد الأسمر

(نظم الشاعر هذه الأبيات للشبان النواب بمناسبة فوز أصدقائه

الثلاثة: مصطفى بك أمين، علي أمين، كامل الشناوي في

المعركة الانتخابية).

تهنئاتي: ثم كونوا عندما

قلتم قُبل دخول (المجلس)

واحذروا (الكرسي) كم مرَّ به

معشرٌ غيركم، ثم نُسى

لا تكونوا فوقه مثل الذي

يحضر (الجلسة) مثل الأخرس

أو كمن يهتف للزور به

فإذا الحق بدا لم ينبس

أو كمن تصفيقه ثروته

وهي عندي رأس مال المفلس

أو كمن قيل له كن فوقه

ضنما، جئتَ لهذا فاجلس

أو كمن يشتم قوماَ ظالماً

فهو يعوي كعواء الأطلس

أو كرهط فوقه سيماهم

عدم الفهم، وهز الأرؤس

أو كمن نام به ليس له

من وجود فيه غير النَّفس

أو كعريان رآه متجراً

فهو فيه قاعد كي يكتسي

بئس من أكرمه الله به

فأبى إلا حياة التعس

يحمل الكرسي منه جثة

أيها الكرسي لا تبتئس

هذه الدنيا حظوظ كلها

وكذا حظك، فانظر وائتس

يا أزاهير الشباب المرتجى

حققوا فيكم رجاء الأنفس

أنتمُ ضوءٌ جديدٌ علّهُ

في غدٍ فجرٌ لهذا الغَلَس

محمد الأسمر

ص: 38

‌هذا العالم المتغير

للأستاذ فوزي الشتوي

حذار الغيظ والحسرة

في مدينة نيويورك رجل أسمه توم وعمره، 57 سنة. عاش منها 48 سنة لم يبتاع طعاماً، ومع ذلك فهو يأكل أي طعام تشتهيه نفسه. سدت قناة الابتلاع (الزور) عنده وهو في التاسعة من عمره إثر شربه لسائل ملتهب حرق الزرو ولم يفد الطب في علاجه فأغلق إلى الأبد. واضطر الجراح إلى فتح نافذة مستديرة قطرها بوضة وربع في معدته ليتناول منها غذاءه

واندفعت أغشية المعدة من هذه الفتحة فكونت ثنية قطرها ثلاث بوصات. فان أراد أن يأكل رقد على ظهره وفك الأربطة عن وسطه، وأزاح وسادة عن فتحة المعدة، ثم يثبت فيها أنبوبة قصيرة من المطاط. وبعد ما يمضغ طعامه يضعه في معدته عن طريق الأنبوبة. وبهذه الطريقة تناول ما لا يقل عن 30 ألف وجبة طعام لم يشعر فيها بأية مضايقة.

مارس هذا الإنسان كثيراً من الألعاب الرياضية وهو غلام واشتغل في عدة مهن يدوية، فلم يلحظ زملاؤه شذوذه إذ كان يتمتع بصحة جيدة. إلى أن أكرهته ظروف العمل إلى الاشتغال في حفر الخنادق فأهبت الحركة المستمرة أغشية المعدة المكشوفة حتى أدمتها واضطر إلى الالتجاء إلى أحد المستشفيات، وهناك أكتشفه الطبيبان ولف، فوجدا فيه حقل تجارب لن يسمح الزمان بمثله. ففي هذه المعدة المفتوحة يستطيعان أن يكشفا أسرار أمراض المعدة، وأسرار التغذية، وتأثر عملية الهضم بالانفعالات النفسية.

وتمكنا من إغرائه بالوظيفة الثابتة في معملهما، وبما يؤديه للإنسانية من خمات، فقبل منذ ست سنوات أن يعمل معهما. فاشتغل في صباحه حقل تجارب، وبعد الظهر كمحضر في معمل مستشفى جامعة كورنل الطبية.

وفي مثل هذا الإنسان تسهل دراسة الظواهر المعدية بإنفاذ آلة مثل منظار الغواصة المزود بالضوء إلى داخل المعدة. ولهذا ظلت حياة هذا الإنسان طوال السنوات الست الماضية ممتزجة بالتجارب الطبية. فإنه أغنى الطبيب عن استعمال منظار المعدة الذي لا يتيح فحص الإنسان العادي أكثر من عشر دقائق.

ص: 39

ومن أهم الدراسات التي أجريت عليه فحص العلاقة بين الانفعالات النفسية ومرض قرح المعدة. فبينما الطب يتقدم بخطوات واسعة في دراساته فان عدد الإصابات بهذه القرح يزيد، ويعتقد عدد كبير من الباحثين أنه نتيجة للإجهاد العصبي والقلق فقدمت لهم معدة توم الدليل العلمي بأن القلق المتواصل، والغضب، والعداوة تكون إفرازات تؤدي إلى الإصابة بالقرح.

ويتفق أكثر الأطباء على أن هذا المرض نتيجة لزيادة الإفرازات الحمضية، ويصف الطبيبان ولف تطوراته، بأن الانفعالات النفسية المتعلقة بالقلق أو الغضب تصحب بزيادة إفرازات الحوامض العادية ومعها فيض من الدم مما يؤدي إلى غمر أغشية المعدة وتمددها. ويصحب هذه الانفعالات أيضاً انقباض شديد في المعدة.

وفي مثل هذه الحالات يسبب الاحتكاك البسيط بمواد الغذاء الصلبة تسلخات دموية رفيعة في الأغشية يثيرها اتصالها بالسوائل الحمضية، المعدية الغير العادية فتزداد الإفرازات الحمضية، ويزداد غمرها بالدم وتمددها، فتبدأ حلقة إصابة خطيرة في المعدة، فتتصل مادة الببسين الهاضمة بأغشية المعدة الأصلية وتأكل جزءاً منها فتسبب قرحة.

ولا تهضم المعدة نفسها أو تأكل أجزاءها لأنها مبطنة بغشاء مخاطي قلوي سميك يقي أغشيتها فلا تلمسها المواد الهاضمة. فإذا انغمس الإنسان في الانفعالات النفسية المقلقة فإنها تأكل نفسها بطول المدة مبتدئة بالقرح، مما شاهده الطبيبان في معدة توم، فكانا يعرضانه لمختلف الانفعالات النفسية، ويراقبان التغير الذي يطرأ على معدته، ولكنه من الطبيعي أن توم لم يصب بقرح المعدة لأن فترة إقلاقه وانفعاله لم تكن طويلة بل كانت فترات قصيرة.

والأشخاص المعرضون لهذه الإصابات هم ممن يجدون لذة في الانفعالات وآلامها، فيصرون على أن تكون رفيقتهم في حلهم وترحالهم وفي عملهم وراحتهم.

ولم يؤثر تعاطي الكحول ولا التدخين أيا كانت نسبُه على معدة توم، لأن مخاط المعدة القوي كان يقي أغشيتها من فعل حوامضهما. فإن تعرضت المعدة لحوامض قوية لا تكفي لتعادلها قلويات المخاط، فإن الأغشية تكون غطاء آخر يحفظها من الحوامض فإذا فشل هذا الغطاء في تأدية عمله لقوة الحوامض تكونت القرح وبدأت المعدة تأكل نفسها

وهكذا صدق تعبيرنا القائل أنه يأكل نفسه كمداً وحسرة.

ص: 40

يعيشون بدون معدة

أصبحت عملية إزالة المعدة أو جزء منها من المسائل العادية في الولايات المتحدة كما صرح بذلك الدكتور فرانرا انجلفنجر، فانخفضت نسبة وفياتها في الحالات غير السرطانية من 1 إلى 3 في المائة، فان كانت لإزالة سرطان المعدة انخفضت إلى 10 % وحتى في حالة إزالة المعدة كلها فان المريض لا يتعرض للخطر من العملية بنسبة تعرضه للمرض الذي تزال المعدة من أجله.

وأثبتت الإحصاءات أن 30 % ممن تجرى عليهم هذه العمليات لا يستعيدون وزنهم العادي ومنهم 3 % يحسون بضعف ودوار وضغط إن أكلوا وجبات كبيرة. ولكن هذا الإحساس يزال بعد سنة من إجراء العملية فيتجنب المريض الوجبات الكبيرة ويستعيض عنها بست وجبات في اليوم. فإن من العوامل المهمة أن تلائم عمليات الهضم للحالة الجديدة.

ويستطيع المريض بعد استئصال معدته تناول أي طعام وتأدية أي مجهود. ولكنه لوحظ أن النشويات والسكر والزلاليات يسهل امتصاصها، أما الدهنيات فتحدث بعض الاضطراب. وقد يصاب بعض المرضى بالأنيميا وإن كانت الحادة منها نادرة الحدوث.

فوزي الشتوي

ص: 41

‌القصص

همس الجنون

للأستاذ نجيب محفوظ

ما الجنون:

إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، أما الجوهر، فسر مغلق، وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفاً بعض الوقت بالحانكه، ويذكر - الآن أيضاً - ماضي حياته كما يذكره العقلاء جميعاً، وكما يعرف حاضره، أما تلك الفترة القصيرة - قصيرة كانت والحمد لله - فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلاً حائراً لا يدري من أمرها شيئاً تطمئن إليه النفس. كانت رحلة إلى عالم أثيري عجيب، مليء بالضباب، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح ملامحها، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصاً من نور الذاكرة ولت هاربة فابتلعتها الظلمة. وتجيء أذنيه منه أحياناً ما يشبه الهمهمة، ما إن يرهف السمع ليميز مواقعها حتى تفر متراجعة تاركة صمتاً وحيرة. ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم. حتى الذين عاصروا عهدها العجيب قد أسدلوا عليها ستاراً كثيفاً من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفي. فاندثرت دون أن يتاح لها مؤرخ أمين يحدث بأعاجيبها. ترى كيف حدثت؟! متى وقعت؟! كيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئاً غير العقل؟؟ وأن صاحبه أسمى فرداً شاذاً يجب عزله بعيداُ عن الناس كأنه الحيوان المفترس؟؟

كان إنساناً هادئاً أخص ما يوصف به الهدوء المطلق. ولعل ذلك ما حبب إليه الجمود والكسل. وزهده في الناس والنشاط. ولذلك عدل عن مرحلة التعلم في وقت باكر. وأبى أن يعمل عملاً مكتفياً بدخل لا بأس به. وكانت لذته الكبرى أن يطمئن إلى مجلس منعزل من طوار القهوة، فيشتبك راحتيه على ركبتيه، ويلبث ساعات متتابعات جامداً صامتاً، يشاهد الرائحين والغادين بطرف ناعس وجفنين ثقيلين. لا يمل ولا يتعب ولا يجزع. فعلى كرسيه من الطور كانت حياته ولذته. ولم يكن وراء ذلك المظهر البليد الساكن حرارة أو حركة في قرارة النفس أو الخيال، كان هدوءه شامل الظاهر والباطن، الجسم والعقل، الحواس والخيال. كان تمثالاً من لحم ودم يلوح كأنما يشاهد الناس وهو بمعزل عن الحياة جميعاً.

ص: 42

ثم ماذا؟

حدث في الماء الآسن حركة بريئة فجائية كأنما ألقى فيه بحجر.

كيف؟!

رأى يوماً - إذ هو مطمئن إلى كرسيه على الطوار - عمالاً يملئون الطريق - يرشون رملاً أصفر فاقعاً يسر الناظرين بين يدي موكب خطير. ولأول مرة في حياته يستثير دهشته شيء فيتساءل لماذا يرون الرمل. . . ثم قال لنفسه إنه يثور فيملأ الخياشم ويؤذي الناس، وهم أنفسهم يرجعون سراعاً فيكنسونه ويلميونه، فلماذا يرشونه إذا؟! وربما كان الأمر أتفه من أن يوجب التساؤل أو الحيرة، ولكن تساؤله بدا له كأخطر حقيقة في حياته وقتذاك. فحال أنه بصدد مسألة من مسائل الكون الكبرى. ووجد عملية الرش أولاً والكنس أخيراً والأذى فيما بين هذا وذاك حيرة، بل أحس ميلاً إلى الضحك. ونادا ما كان يفعل. فضحك ضحكاً متواصلاً حتى دمعت عيناه. ولم يكن ضحكه هذا محض انفعال طارئ. فالواقع أنه كان نذير تغيير شامل، خرج به من صمته الرهيب إلى حال جديد. ومضى يومه حائراً أو ضاحكاً، يحدث نفسه فيقول كالذاهل، يرشون فيؤذون ثم يكنسون. . . ها ها ها.

وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد. ووقف أمام المرآة يهيئ من شأنه. فوقعت عيناه على ربطة رقبته. وسرعان ما أدركته حيرة جديدة، فتساءل لماذا يربط رقبته على هذا النحو؟ ما فائدة هذه الربطة؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس. وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة. ومضى يقلب عينيه في أجزاء ملابسه جميعاً بإنكار وغرابة. ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ونطرحها أرضاً؟ لماذا لا نبدو كما سوانا الله؟ بيد أنه لم يتوقف عن ارتداء ملابسه حتى انتهى منها، وغادر البيت كعادته، ولم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش ففي إهابه دهراً طويلاً قانعاً مطمئناً. كيف له بالهدوء والرمل لا يزال عالقاً بأديم الأرض! كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه على رغمه! أجل على رغمه؛ قد اجتاحته موجة غضب وهو يحث خطاه. وكبر عليه أن يرضي بقيد على رغمه. أليس الإنسان حراً؟!

ص: 43

وتفكر ملياً ثم أجاب بماسة، بلى أنا حر، وملأه بغتة الشعور بالحرية. وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتى استخفه الطرب. أجل هو حر. نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينا لا سبيل إلى الشك فيه. إنه حر يفعل ما يشاء كيف شاء حين شاء غير مذعن لقوة أو خاضع لعلة. لسبب خارجي أو باغت باطني حل مسألة الإرادة في ثانية واحدة. وأنقذها بحماسة فائقة من وطأة العلل. وادخله شعور بالسعادة والتفوق عجيب. فالقى نظرة ازدراء على الخلق الذين يضربون في جوانب السب مصفدين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاُ. إذا ساروا لم يملكوا أن يقفوا. وإذا وقفوا لم يملكوا أن يسيروا. أما هو فيسير إذا أراد، ويقف حين يريد. مزدرياً كل قوة أو قانون أو غريزة. وأهاب به شعوره الباهر أن يجرب قوته الخارقة فلم يستطع أن يعرض عن نداء الحرية. توقف مسيره بغتة وهو يقول لنفسه (هأنذا أقف لغير ما سبب) ونظر فيما حوله ثواني ثم تساءل: أيستطيع أن يدفع يديه إلى رأسه؟ أجل يستطيع. وهاهو يرفع يديه غير مكترث لأحد من الناس. ثم تساءل مرة أخرى هل تواتيه الشجاعة على أن يقف على قدم واحدة؟

وقال لنفسه نعم أستطيع وما عسى أن يعتاق حريتي؟ وراح يرفع يسراه كأنه يقوم بحركة رياضية في أناة وعدم مبالاة كأنه وحده في الطريق بلا رقيب. وغمرت فؤاده طمأنينة سعيدة وملأته ثقة بالنفس لا حد لها. فمضى يتأسف على ما فاته - طوال عمره - من فرص كانت حرية بأن تمتعه بحريته وتسعده بحياته. واستأنف مسيره وكأنه يستقبل الحياة من جديد.

ومر في طريقه إلى القهوة بمطعم كان يتناول به عشاءه في بعض الأحايين. فرأى على طواره مائدة ملأي بما لذ وطاب. يجلس إليها رجل وامرأة متقابلين يأكلان مريئاً ويشربان هنيئاً. وعلى بعد يسير جلس جماعة من غلمان السبيل، عراياً إلا من أسمال بالية تغشى وجوههم وبشرتهم طبقة غليظة من غبار وقذارة. فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر. وشاركته حريته عدم ارتياحه فأبت عليه أن يمر بالمطعم مر الكرام. ولكن ما عسى أن يصنع؟ قال له فؤاده بعزم ويقين (ينبغي أن يأكل الغلمان مع الآخرين). ولكن الآكلين لا يتنازلان عن شيء من هذه الدجاجة التي أمامهما بسلام. هذا حق لا ريب فيه. أما إذا رمة بها إلى الأرض فتلوثت بالتراب فما من قوة تستطيع أن تحرمها الغلمان. فهل ثمة مانع من

ص: 44

تحقيق رغبته؟. . . هيهات ربما كان التردد ممكناً في زمن مضى، أما الآن. . . واقترب من المائدة بهدوء! ومد يده إلى الطبق فتناول الدجاجة ثم رمى بها عند أقدام العرايا. وتحول عن المائدة وسار إلى حال سبيله كأنما لم يأت أمراً نكراً، غير عابئ الزئير الذي يلاحقه مفعما بأقذع السباب والشتائم. بل غليه الضحك على أمره، فاسترسل ضاحكاً حتى دمعت عيناه. وتنهد بارتياح من الأعماق، وعاوده شعوره العميق بالطمأنينة والثقة والسعادة.

وبلغ القهوة فمضى إلى كرسيه واطمأن إليه كعادته. بيد أنه لم يستطع هذه المرة أن يشبك راحتيه حول ركبته ويستسلم لسكونه المعهود. لم تطاوعه نفسه، فقد فقدت قدرتها على الجمود. أو برنت من عجزها عن الحركة. فنبا به مجلسه، حتى هم بالنهوض. إلا أنه رأى - في تلك اللحظة - شخصاً غير غريب عن ناظريه وإن لم تصله به أسباب التعارف. كان من رواد القهوة مثله. وكان جسماً ضخماً وأوداجا منتفخة، يسير مرفوع الرأس في خيلاء، ملقيا على ما حوله نظرة ترفع وازدراء، تنطق كل حركة من حركاته، وكل سكنة من سكناتة بالزهو والكبر كأنما يثير الخلق في نفسه ما تثيره الديدان في نفس رقيقة مرهفة الحس. وكأنه يراه لأول مرة، بدا له قبحه وشذوذه عارياً. فغالبته هذه الضحكة الغريبة التي ما انفكت هذين اليومين تعابثه. ولم تفارقه عيناه. وتثبتت خاصة على قفاه يبرز من البنيقة عريضاً ممتلئاً مغرياً. وتسائل أيتركه يمر بسلام!. . . معاذ الله، لقد ألف داعي الحرية. وعاده إلا يخالف له أمراً. وهز منكبيه استهانة. واقترب من الرجل فكاد يلاصقه. ورفع يده وأهوى بكفه على القفا بكل ما أوتي من قوة فرنت الصفعة رنيناً عالياً. ولم يتمالك نفسه فأغرب ضاحكاً. ولكن لم تنته هذه التجربة بسلام كأختها السابقة. فالتفت الرجل نحوه في غضب جنوني، وأمسك بتلايبه وانهال عليه ضرباً وركلاً، حتى خلص بينهما بعض الجلوس. وفارق القهوة لاهثاً. ومن عجب أنه لم يستشعر الغضب ولا الندم. وعلى العكس من ذلك ألمت بحواسه لذة عجيبة لا عهد له بها من قبل. وافتر ثغره عن ابتسامة لا تزايله. وفاضت نفسه بحيوية وسرور يغشيان أي ألم، لم يعد يكترث لشيء غير حريته التي فاز بها في لحظة سعيدة من الزمان وأبى أن يغرب عنها ثانية واحدة من حياته. ومن ثم القي بنفسه في تيار زاخر من التجارب الخطيرة بإرادة لا تنثني وقوة لا تقهر. صفع أقفية وبصق في وجوه وركل بطونا وظهوراً. ولم ينح في كل حال من اللكمات والسباب.

ص: 45

فحطمت نظارته ومزق زر طربوشه، وتهتك قميصه وانفضت ثنيتاه. ولكنه لا ارتدع ولا ازدجر ولا انثنى عن سبيله المحفوف بالمخاطر، ولا فارق الابتسام شفتيه ولا خمدت نشوة فؤاده الثمل، ولو اعترض الموت طريقه لاقتحمه غير هياب.

ولما آذنت الشمس بالمغيب عثرت عيناه المتجولتان بحسناء مقبلة متأبطة ذراع رجل أنيق المنظر ترفل في ثوب رقيق شفاف. تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى فستانها الحريري. وجذب صدرها الناهد عينيه فزادتا اتساعاً ودهشة. وهاله المنظر، وكانت تقترب خطوة فخطوة حتى باتت على قيد ذراع وكان عقله - أو جنونه - يفكر بسرعة خيالية. فخطر له أن يغمر هذه الحلمة الشاردة. إن رجلاً ما يفعل ذلك على أية حال فليكن هذا الرجل. واعترض سبيلهما ومد يده بسرعة البرق وقرص. آه. لقد انهالت عليه اللطمات واللكمات. وأحاط به كثيرون ولكنهم في النهاية تركوه، لعل ضحكته الجنونية أخافتهم. ولعل نظرة عينيه المحملقتين أفزعتهم، وتركوه على أية حال، ونجا ولم تكد تزداد حالته سوءاً. وكان لا يزال به طموح إلى مزيد من المغامرات. ولكن لاحت منه نظرة إلى ملابسه فهاله ما يرى من تمزقها وتهتكها. وبدلاً من أن يأسى على نفسه راح يذكر ما دار بخلده صباح اليوم أمام المرآة، فلاحت في عينه نظرة غائمة، وعاد يتساءل: لماذا يدع نفسه سجيناً في هذه اللفائف تشد على صدره وبطنه وساقيه، وناء بثقلها، وشعر لوطأتها باختناق. فغلت مراجله ولم يستطع معها صبراً. وأخذت يداه تنزعانها قطعة فقطعة، بلا تمهل ولا إبطاء، حتى تخلص منها جميعاً، فبدا عارياً كما خلقه الله. وعابثته ضحكته الغريبة، فقهقه ضاحكاً واندفع في سبيله. . .

نجيب محفوظ

ص: 46

‌البريد الأدبي

بين صديقين

(اشتد بصديقنا الأديب الفاضل الأستاذ عبد الرحمن صدقي

مصابه الأليم بزوجته المهذبة فنظم في رثائها قصيدتين من

أبلغ الرثاء، وأرسلهما إلى صديقه الجليل العقاد ومعهما هذان

البيتان):

أخي، منذ أعوام مضين ذكرتني

وهنأت زوجي بالهوى، وهنَأتني

لقد ذهبت تلك السنون سريعة

وهذى مراثي زوجتي اليوم، فارثني

فأجابه الأستاذ بهذه الأبيات:

أخي! ما عزائي أن أهوّن فاجعا

أراه - وإن لم أبُله - غيرَ هيّن

ولكنْ عزائي هذه الحرب زلزلت

قلوب بني حواء في كل مأمن

ولكن عزائي هذه الأرض علمَّت

بنيها هوان العيش علم التيقّن

قضاء علينا في الحيلة فراقنا

لأحبابنا حيث التقينا بموطن

فجيعتنا فيمن نحب بديلُها

فجيعتهم فينا، ومن يبق يغبن

فلا ترض للأحباب غبنا يؤودهم

وليس الرضا في الحالتين بممكن

إلا هان عيش لا يزال خياره

لمن يرتجيه شاكياً: متْ أو احزن

أخي! هذه الدنيا وهذا عزاؤها،

قصاراه - بعد الجهد - تسليم مذعن

وما أحسب الإيمان إلا حقيقة

فلا صبر فيها لامرئ غير مؤمن

شرح لامية العجم، ما اسمه؟

شرح لامية العجم لصْلاح الصفدي، مصنف كبير، مكتنز بالفوائد - أظهرته مطبعة بولاق مسمية إياه هذا الاسم:

(الغيث المسجم في شرح لامية العجم)

وهو مسندي حين ذكرته فيما رويته عن مسماه - أعنس شرح اللامية - في (نقل الأديب)،

ص: 47

وفي خطبتي أو مقالتي في (أبى العلاء المعري)، وقد أرشدني العلامة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة الغراء إلى كتاب اسمه (سحر العيون) من مؤلفات القرن التاسع، وهداني إلى هذه الفائدة الآتية فيه.

(. . . عابوا على الشيخ صلاح الدين الصفدي رحمه الله في تسميته كتابه بـ (الغيث الذي انسجم في شرحه لامية العجم) وقد مزق جلده الشيخ بدر الدين الدماميني في كتاب عمله عليه وسماه نزول الغيث. . .)

فهل بدل الصلاح اسم كتابه من بعد ذلك النقد وتمزيق الجلد. . . - وإني لأستبعد ذلك - أم بدله الناسخون والطابعون.

محمد إسعاف النشاشيبي

من ناظر إلى فراش

عزيزي أحمد حسين

لك جزيل شكري على كتابك الذي تسلمته الساعة، وما يبعث كتاب في قلبي من دواعي السرور أكثر مما تبعث كتبك التي تصلني في نظام أول كل عام. وإنه لعجيب بعد تلك الأعوام الطويلة التي مرت منذ أن تعارفنا وهي الآن خمسة وعشرون أن تظل محتفظاً نحوي ونحو أسرتي بذكريات مودة وصداقة، وأن تتعب نفسك على هذا النحو بالكتابة معبراً عنها. وإني لشكور حقاً ولا أزال أتلو كتبك مرة ومرة في سرور بالغ. ولا ينقصني إلا أن نلتقي كما كنا نفعل في الأيام الماضية فأصافحك، ولكن هذا بالضرورة مستحيل فليس لدي إلا أن أصافحك بكتابي وهذا ما أفعله الآن. . . وكذلك أصافح ذلك الشيخ الكبير عزيزي الحاج عبد القادر، وكم تتوق نفسي إلى رؤية ذلك الرجل الطيب العجوز: وأكبر ظني أنه قد علت به السن جداً الآن كما علت بي. ولكن من دواعي الغبطة الشديدة أنه لا يزال حياً وأنك لا تزال على صلة به ولو أنك لا تراه؛ وأنك تبلغه رسالاتي التي أبعثها إليه عن طريقك. بلغه أني كثير ما أذكره كلما أذكرك وأذكر جميع الأخيار من الأصدقاء الذين عاشرتهم بالمدرسة التوفيقية في تلك الأيام الطيبة الخالية. ولقد رغبتْ إلى زوجي أن أقول لك إنها كذلك لا تزال تذكركم جميعاً في عطف ومودة وأنها جد فرحة بأنك لم تنسها.

ص: 48

وبعد فأني أسرد عليك شيئاً عن حال أسرتي كما طلبت، وعلى الأخص حال ولديّ؛ إنهما والحمد لله بخير، وإننا في أيام الحرب هذه لنشكر الله على أنهما لا يزالان كذلك. وإنه ليؤسفني أنك غائباً حينما زار أصغر الأخوين المدرسة التوفيقية سائلاً عنك وكذلك يشغر هو بالأسف؛ ولم يكن لديه متسع ليعاود الزيارة كما ذكرت أنت مع أنه رغب في ذلك؛ كان جيمس أصغرهما هو الذي زار المدرسة لا وليم؛ وهو الآن (ليفتنانت كيرنل) في فرقة المدفعية وهو يحارب على رأس رجاله في جبال إيطاليا. ولقد كان وليم على مقربة من القاهرة حديثاً إذ كان يصحب مستر ونستون تشرشل أثناء المؤتمر الذي عقد في ديسمبر الماضي في مينا هوس؛ ولم يكن يستطيع أن يغيب طرفة عين عن مكانه قرب الأهرام، وعلى ذلك فلم يتمكن من زيارة المدرسة كما كان يحب أن يفعل. ولقد رقي الآن إلى مرتبة نائب مارشال الطيران وسيذهب لقيادة قوة الطيران الملكية في جبل طارق وهو عمل شائق يتطلع إليه في شغف، وفد يكون ممكناً أن يطير من جبل طارق يوماً ما إلى القاهرة، فإذا تم ذلك فمن المؤكد أنه يحب أن يراك وإنه لذلك سيزور المدرية، وآمل أن تكون وقتئذ حاضراً؛ ولكني لا أستطيع طبعاً أن أذكر متى يفعل ذلك إن كان ثمة ذلك في طوقه. ولوليم الآن طفلان هما حفيداي الحبيبان، بنت في السادسة وصبي في الرابعة، ولقد قضيا هنا عندنا أسبوعين؛ وكان جميلاُ أن نراهما وعلى الأخص ذلك الصبي فقد ولد في بدء الحرب ولم نره قبل اليوم أبداً؛ وهو ولد جميل قوي البنية لن يتعب من اللعب، ولذلك تراني أتعب قبل أن يتعب هو إذا ما لعبنا معاً ولما تنته اللعبة؛ فأن جسمه الصغير أكبر قوة من جسمي الذي هده الكبر.

ليست زوجي على خير ما أحب لها من العافية؛ أما أنا فعلى خير ما أرجو إذا ذكرت إني أدلف إلى الثمانين من عمري؛ فلا زلت أستطيع أن أصعد في تل قريب حيث أطل منه منظر بهيج، وإن كنت بالضرورة لا أستطيع أن أفعل ذلك في مثل ما كنت عله سالفاً من السرعة، كما أني لا أبلغ من التل ما كنت أبلغه من قبل.

أشكرك ثانياً على كتابك الكريم وما جاء فيه من عبارات طيبة، وأرسل إليك أطيب تمنياتي وتشاركني في ذلك زوجتي؛ كما نرسل حبنا ومودتنا لكل من لا يزال يذكرنا وبخاصة أنت والحاج عبد القادر العزيز.

ص: 49

المخلص

ج. إليوت

تصويب!!!

ورد في مقال الدكتور البهي في العدد 606 من الرسالة قوله: (ولا نبعد عن الصواب إذا حكمنا على بعض علماء الدين بأنهم لم يفهموا الإسلام إذا جعلوا من قوله تعالى (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) والصواب: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم).

(كلية اللغة)

عبد الفضيل يوسف رجب

ص: 50

‌الكتب

المنطق

للدكتور أحمد فؤاد الأهواني

لي صديق من أفاضل العلماء يحب أن يجادلني على الدوام، فنلعب بالمعاني والكلام؛ ومن أساليب جداله قوله (أين المنطق)؟

ومررت منذ أيام بدار الرسالة فأعطاني الأستاذ الزيات كتاباً في المنطق صدر أخيراً لأكتب عنه. فرحبت بالفكرة، وقلت في بالي سأستفيد من هذا الكتاب الحديث فهو آخر ما صدر في هذه الأعوام، ومؤلفه من العلماء المعروفين، وأستطيع بعد ذلك أن أقنع صديقي الفاضل بأسلوب جديد في المنطق، وأعرِّفه ما هو، وأدفعه إلى الاقتناع بالحجة والبرهان:

مؤلف الكتاب الدكتور (جميل صليبا) عضو المجمع العلمي العربي، وعنوانه:(دروس الفلسفة - الجزء الثاني - المنطق) طبع بمطبعة الترقي بدمشق عام 1944. ويقع في 440 صفحة من القطع الكبير. أما الجزء الأول من دروس الفلسفة فهو علم النفس طبع عام 1940.

وللمؤلف كتب أخرى عن ابن سينا، وكتاب من أفلاطون إلى ابن سينا، وكتب فلسفية نشرها وعلق عليها، مثل: المنقذ من الضلال للغزالي وابن الطفيل.

ولكني لم أكد أشرع في قراءة كتاب النطق حتى تبين لي أني كنت مسرفاً في الأمل والتفاؤل، لأنني لم أعثر على جديد معروف، وعلى العكس صادفتني أخطاء كثيرة كان ينبغي أن ينجو منها كتاب في المنطق، المفروض فيه أنه يعلمنا كيف نأمن الزلل ونتبع سبيل الصواب.

ونعرض لأول. مسألة قررها المؤلف وهي تعريف المنطق. قال: (فيمكننا أن نعرف المنطق بقولنا: هو علم صور العلوم، أو علم العلوم، أو العلم الذي يبحث في صحيح الفكر أو فاسده، أو كما قال فلاسفة البور رويال: فن التفكير).

وليس في هذه التعاريف المختلفة تعريف واحد صحيح. التعريف الأول هو علم صور العلوم، ليس صحيحاً لأن المنطق منه الصوري والمادي، والمنطق الصوري لا يتصل بالعلوم بل بالفكر نفسه. وأكبر الظن أن المؤلف أخطأ في ترجمة التعريف المتفق عليه بين

ص: 51

العلماء الآن، وهو أن المنطق علم صور التفكير قال ليارد في نفس الصفحة (إن موضوع المنطق تقرير قوانين التفكير في ذاتها بصرف النظر عن الموضوعات التي تنطبق عليها، ثم بيان الطرق المختلفة لتطبيق هذه القوانين، وهاهو الموضوع المزدوج للمنطق).

ويقول الأستاذ جميل صليبا عند الكلام عن موضوع المنطق إنه: (البحث عن العمليات الفكرية والشرائط النظرية التي يتوقف عليها التفكير الصحيح). والبحث عن العمليات الفكرية من خصائص علم النفس لا علم المنطق الذي يبحث عن قوانين الفكر الصورية، لا عن عملية التفكير كيف تقع في الذهن. ويخيل إلينا أن هذا اللبس ناشئ عن ترجمة المصطلحات عن اللغة الأجنبية، وستعرض لهذا الموضوع أي الاصطلاحات التي وردت في هذا الكتاب في مقال آخر. والعمليات الفكرية هي أما قوانين الفكر فهي

والتعريف الثاني علم العلوم، لا يفيد شيئاً، فهو كقولك الأسد ملك الحيوان. ولماذا يكون المنطق علم العلوم؟ لماذا لا تكون الرياضة مثلاً؟

والتعريف الثالث (العلم الذي يبحث في صحيح الفكر أو فاسده). ولعل صوابها وفاسده بدلاً من أو فاسده، إذ أن المنطق يبحث في الصحيح والفاسد على السواء لبيان وجه الصواب منهما.

والبحث في الصحيح والفاسد في الفكر ثمرة من ثمار المنطق تأتي بعد تطبيقه، أو هي غاية من غاياته، ولا تدخل في تعريفه أو ماهيته.

ولعل المؤلف قد تأثر بالتعاريف التي أوردها العرب في كتبهم ولم يعن بمناقشتها. لهذا نذكر بعض تعريفات العرب للمنطق ثم نذكر ملاحظاتنا عنها.

قال صاحب البصائر النصيرية (فإذا انقسمت الاعتقادات الحاصلة للأكثر في مبدأ الأمر إلى حق وباطل، وتصرفاتهم فيها إلى صحيح وفاسد، دعت الحاجة إلى إعداد قانون صناعي عاصم الذهن عن الزلل، مميز الصواب الرأي عن الخطأ في العقائد، بحيث تتوافق العقول السليمة على صحته. وهذا هو المنطق).

وجاء في لباب الإشارات لأبن سينا شرح الرازي (الفكر ترتيب أمور معلومة ليتأدي منها إلى أن يصير المجهول معلوماً، وذلك الترتيب قد يكون صواباً وقد لا يكون، والتمييز

ص: 52

بينهما ليس بيديهي، فلابد من قانون يفيد ذلك التمييز، وهو المنطق).

ويعرف الفارابي المنطق في كتابه إحصاء العلوم: (فصناعة المنطق تعطي جملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل، وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المنقولات، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات).

ونلاحظ على التعاريف أنها تجعل المنطق ميزاناً للتمييز بين الصحيح والفاسد من الفكر وتجنب الزلل.

ونلاحظ ثانياً أنها تجعل المنطق آلة لغيره من العلوم.

وكلا الاتجاهين لا يجعل المنطق علماً بل فناً.

قال صاحب الرسالة الشمسية (المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) وعلق القطب الرازي على هذا التعريف بقوله: (والآلية للمنطق ليست له في نفسه، بل بالقياس إلى غيره من العلوم الحمية، ولأنه تعريف بالغاية. . .)

والمناطقة في أوربا في عصر النهضة وما بعده أخذوا بوجهة نظر العرب وجعلوا المنطق فناً لا علماً. والكتاب الصادر عن بور رويال عنوانه (المنطق أو فن التفكير) وهذا واضح الدلالة في التصريح بأن المنطق فن وليس علماً.

ولكن المناطقة المحدثين نظروا إلى قوانين الفكر في ذاتها، دون نظر إلى فائدتها في كشف العلوم، أو قيمتها في التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ، ولهذا كان المنطق علماً، وألحقوه بالعلوم، وعرفوه بأنه العلم الذي يبحث في قوانين الفكر أو صور التفكير.

وهذا يبين فساد التعريف الرابع الذي أورده المؤلف وهو أن المنطق فن التفكير.

دكتور

أحمد فؤاد الأهواني

ص: 53