الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 608
- بتاريخ: 26 - 02 - 1945
المجامع اللغوية
لصاحب العزة الأستاذ أنطوان الجميل بك
قالوا إن الإنسان حيوان ناطق، أي إنه مالك تلك القوة التي تساعده على التعبير عما يجول في جنانه من الأفكار والمعاني. فكان من البديهي أن يحاول، منذ نشأته الأولى، استنباط خير الوسائل إلى أداء ما يريد التعبير عنه على أكمل وجه، بالإشارة ثم باللسان، أصواتاً متقطعة فألفاظاً منسقة. وكان من الطبيعي كذلك أن يتواضع مع أمثاله على أساليب للتعبير تكفل إتقان أداة التفاهم، أي اللغة، والوصول بها إلى الإعراب عن مختلف المعاني في أدق مقاصدها.
ومن هنا نشأت على توالي الزمن الأندية والمجامع التي تعني باستكمال هذه الأداة، وهي المجامع التي أطلق عليها فيما بعد اسم (أكاديميا).
وأصل الكلمة، على ما هو معروف، مشتق من اسم (اكاديموس) أحد أبطال الأغارقة. وكان (اكاديموس) هذا يملك على بعد فرسخين من أثينا روضة واسعة الأرجاء كان أفلاطون يختلف إليها فيجتمع تحت ظلال أشجارها الباسقة بتلاميذه ومريديه فيشرح لهم مذهبه الفلسفي. وبعد وفاته ظل هؤلاء يعقدون حلقاتهم للبحث والمدارسة في هذا المكان فعرف باسم (أكاديميا) نسبة إلى صاحبه. وشاعت الكلمة بعد ذلك في البلاد الغربية، مع توسع في مدلولها، فأطلقت على المجامع والأندية الأدبية والعلمية والفنية، بل تناولت المعاهد التي يدرس فيها بعض الفنون كأكاديمية التصوير، أو الغناء، أو الرقص، حتى إن الفرنجة اشتقوا منها صفات وموصوفات وأفعالا، وكثيراً ما استعملت الكلمة في لغاتنا الشرقية نفسها.
وعلى هذا الأساس نشأت أكاديمية البطالمة في الإسكندرية، والأكاديميات العبرية، وأكاديمية شارلمان، وأكاديمية الفريد الكبير في إنجلترا.
أما العرب فقد قامت أسواقهم ومجالسهم - وأشهرها سوق عكاظ ونادي قريش ودار الندوة - مقام هذه الأكاديميات. فكانوا في مجتمعاتهم هذه يتبادلون الأخبار ويتناشدون الأشعار ويبحثون في شؤونهم العامة. وكان للغة نصيب غير قليل من هذا البحث، كما تدل على ذلك حكاية النابغة مع الأعشى والخنساء. ثم صار بلاط الخلفاء في الشام والعراق والأندلس
ومصر أشبه شيء بهذه الندوات الأدبية والفنية، كما هو مفصل في كتب الأدب.
أما انتشار هذه المجامع بمعناها الحديث فقد بدأ في عهد النهضة أو البعث، وبخاصة في إيطاليا، فقام في كل مدينة جمعية أكاديمية أو أكثر تضم الصفوة المختارة من المفكرين والباحثين في مختلف الفنون والعلوم.
ولم تلبث فرنسا أن حذت حذو إيطاليا فنشأت فيها مثل هذه الجمعيات وازدهرت.
وفي غضون ذلك أخذت اللغات الأوربية تتطور وتصقل بتأثير طبيعة كل إقليم وأخلاق ناسه، وكان لهذه الأكاديميات أثر مذكور في هذا التطور، فامتازت لغة كل قوم بطابع خاص عرفت به، حتى أن كارلوس الخامس المعروف باسم (شارلكان) وهو أول من فاخر بان الشمس لا تغيب عن أملاكه - كان يقول:
(إني إذا خاطبت الله ضارعاً خاطبته بالإسبانية. وإذا خاطبت النساء متحببا خاطبتهن بالإيطالية. وإذا خاطبت جوادي زاجراً خاطبته بالألمانية. وإذا خاطبت الناس عامة خاطبتهم بالفرنسية).
وهو يشير بقوله هذا إلى ما في لغة الإسبانيين من الإجلال والتفخيم، وإلى ما في لغة الإيطاليين من الرقة والعذوبة، والى ما في لغة الألمان من العنف والشدة، والى ما في لغة الفرنسيس من الواضح وحسن البيان.
وهل نغالي إذا قلنا إن هذا العاهل العظيم لو كان يعرف اللغة العربية لغنى بها عن غيرها في مواقفه الأربعة، فقد جمعت فخامة اللفظ وجمال الأسلوب إلى قوة الأداء وفصاحة التعبير.
قلنا إن الأكاديميات انتشرت في عصر النهضة وبعده. وتنوعت أهدافها واختلفت مقاصدها، ولكننا اكتفينا بالإشارة إليها إشارة عابرة لنقف عند مجامع اللغة، ونقارن بين مهمتها ومهمة مجمعنا اللغوي ما دام هذا موضوع حديثنا. ومن خلال هذه المقارنة سنرى وجوه الشبه في الأهداف، وفي الصعوبات المعترضة، وكذلك في ضروب النقد الذي يوجه إلى هذه المجامع.
وأشهر المجامع اللغوية بلا مراء إنها أشهر مؤسسة في تاريخ الأدب، وهي كذلك أقدم المجامع القائمة إذ يرجع تاريخ إنشائها إلى أكثر من ثلاثمائة سنة. ذلك أن الوزير الكبير
الكردينال ريشليو نهض يعمل على نشر نفوذ فرنسا في أوربا، فأراد أن يدعم عن طريق نشر لغتها وثقافتها ما أحرزته من جاه وسلطان عن طريق انتصارات جيوشها.
وكان في ذلك العهد لفيف من الأدباء يجتمعون للنظر في منتجات القرائح وفي الموضوعات الأدبية. فخطر للوزير أن يجعل لهذه الاجتماعات صفة رسمية تعلي شأن الأدب في الدولة وترفع مكانته في أوربا، فاستصدر في شهر يناير من سنة 1635 أمراً ملكيا بإنشاء (الأكاديمية الفرنسية) ولكن السياسة عادة لا تحب الأدب، فخشي البرلمان أن يطغي نفوذ هذه الندوة الأدبية على نفوذه وسلطانه فلم يقر إنشاءها إلا بعد سنتين
أنشأ ريشليو هذا المجمع فكان موضع عنايته. وظل أسمه مقرونا به حتى قيل إن إنشاء الأكاديمية الفرنسية كاف وحده لتخليد اسم هذا الوزير الخطير. وفي سنة 1672 أصبح هذا المجمع في كنف الملك لويس الرابع عشر فشمله برعايته وأغدق عليه من نعمه الشيء الكثير.
ومضت (الأكاديمية) تعمل قرابة قرن ونصف قرن إلى أن قامت الثورة الفرنسية الكبرى تحارب طبقة الأرستقراطيين أو الأشراف، فألغت في شهر أغسطس سنة 1793 (الأكاديمية) لأنها كانت تمثل أرستقراطية الفكر. ولكنها ما لبثت أن عادت بعد سنتين فأقرت وجودها. وظل هذا المجمع بين مد وجزر إلى أن أصبح منذ سنة 1832 إحدى الهيئات الخمس التي تألف منها المعهد العام ' وهي الأكاديمية الفرنسية، وأكاديمية الفنون الجميلة، وأكاديمية النقوش والآداب، وأكاديمية العلوم، وأكاديمية العلوم الفلسفية والسياسية.
ولا بد لي من الإشارة هنا إلى أن في أضابير وزارة المعارف عندنا مشروعا بإنشاء مثل هذا المعهد العام في مصر على أن يؤلف من خمس شعب هي: شعبة العلوم، وشعبة الطب، وشعبة الآداب، وشعبة الفنون، وشعبة العلوم السياسية والاقتصادية، إلى جانب مجمعنا اللغوي. ولعل زميلنا المحترم الدكتور طه حسين بك، وقد كان له اليد الطولي في إعداد هذا المشروع، سيحدثنا عنه الحديث الوافي في الوقت المناسب
عرضنا فيما تقدم موجزاً لتاريخ الأكاديمية الفرنسية وكان عدد أعضائها ولا يزال أربعين عضواً يسمون (الأربعين الخالدين) لا لأن آثار كل منهم كفيلة بتخليده، بل لأنهم كلما مات منهم واحد حل محله آخر. ولعل كلمة (الإبدال) العربية تؤدي مثل هذا المعنى. فقد جاء في
لسان العرب: الإبدال قوم من الصالحين (ولنفرض رجال الأدب من أهل الصلاح) أربعون في الشام وثلاثون في سائر البلاد لا يموت منهم أحد إلا قام مكانه آخر. وجاء في اللسان أيضا: الإبدال الأولياء والعباد، سموا بذلك لأنهم كلما مات منهم واحد أبدل بآخر.
أما أهداف الأكاديمية الفرنسية فقد حددتها المواد 24 و25 و26 من الأمر الصادر بإنشائها، وتلخص في العمل على تطهير اللغة واستكمالها وتركيز قواعدها. وكان المفروض أن يحقق ذلك بتأليف المعجم لتحديد الألفاظ، وكتاب النحو لتركيز القواعد، وعلم العروض لميزان الشعر، وعلم البلاغة لأحكام الكلام.
وهذه الأغراض تكاد تكون وأغراض مجمعنا واحدة فقد جاء في المادة الثانية من المرسوم الملكي الصادر بإنشاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية ما نصه:
(أغراض المجمع هي:
(أ) أن يحافظ على سلامة اللغة العربية، وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر، وذلك بأن يحدد في معاجم أو في تفاسير خاصة، أو بغير ذلك من الطرق، ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب.
(ب) أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وبغير مدلولاتها.
(ج) أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية.
(د) أن يبحث كل ماله شان في تقدم اللغة العربية، مما يعهد إليه فيه بقرار من وزير المعارف العمومية)
على أن المجمع الفرنسي لم يلبث أن قصر همه على إعداد المعجم، ثم على دراسة المنتجات الأدبية لمنح الجوائز للمتفوقين من الأدباء. ومع ذلك فان تصنيف هذا القاموس سار ببطيء قد نجد فيه بعض العذر عن التأخير في إنجاز قاموس مجمعنا. فان الطبعة الأولى منه لم تصدر إلا في سنة 1696، أي بعد ستين سنة من إنشاء الأكاديمية. ثم صدرت منه أربع طبعات في القرن الثامن عشر، أما الطبعة الثامنة والأخيرة فقد صدرت منذ عشر سنوات، أي أن الأكاديمية أصدرت ثماني طبعات من معجمها في ثلاثمائة سنة
من حياتها.
وقد رجعت إلى مقدمة هذا المعجم فوجدت وجوه الشبه كثيرة بين عملهم وعملنا، وبخاصة بين العقبات التي اعترضتهم والتي تعترضنا. ففي الطبعة الأولى التي صدرت منذ 250 سنة قررت الأكاديمية أن تقصي من قاموسها المصطلحات العلمية والفنية إلا ما كان منها كثير الذيوع شائع الاستعمال. ولكن استعمال هذه المصطلحات ما لبث أن ذاع ذيوعا كبيراً بازدياد تذوق العلوم والفنون في القرن الثامن عشر، فلم ير المجمع مفراً من أن يفسح صفحات قاموسه في طبعته الرابعة (سنة 1762) للمصطلحات الأولية في العلوم والفنون والمهن مما يحتاج إليه الكاتب ويجده القارئ حتى في المصنفات التي لا تتناول هذه الموضوعات بالذات. ثم جاء في تصدير الطبعة السابعة (سنة 1877) أن الأكاديمية ارتضت أكثر من ألفي كلمة علمية وفنية لشدة الحاجة إليها.
ولما شرعت تعد الطبعة الأخيرة التي صدرت منذ عشر سنوات كانت الكلمات العلمية والفنية قد طغت على اللغة، فأن العلوم القديمة في عالم البخار والكهرباء والآليات قد تجددت معالمها وتعددت فروعها، وظهرت علوم ومخترعات جديدة، كما حدثت انقلابات كبيرة في عالم الاقتصاد والسياسة والاجتماع مما دعا إلى استنباط عدد كبير جداً من المصطلحات ذاعت وشاعت وعم استعمالها بين جميع الطبقات بفضل المدرسة والصحافة. ولاحظت الأكاديمية أن من هذه المصطلحات ما هو ابن يومه ومصيره إلى الزوال، ومنها ما هو مضطرب الاشتقاق، وليد الارتجال. فلم يكن من التمحيص والتروي طويلا قبل إقراره، شكلا وصيغة، لإدماجه في قاموس المجمع.
وبعد تخير هذه الألفاظ وصقلها وتهذيبها، واجه المجمع صعوبة أخرى، كالتي نواجهها في مجمعنا اللغوي، وهي وضع التعريف الجامع المانع، للكلمة المختارة. فكانت الأكاديمية كثيراً ما تحتاج في كل ذلك إلى الاستعانة بالأكاديميات الأخرى - كأكاديمية العلوم وأكاديمية الفنون وأكاديمية الطب. أو إلى الاسترشاد بآراء الأخصائيين والخبراء في المادة المبحوثة كما نفعل هنا
ولم تقتصر مهمة التحديد والتعريف على المصطلحات الجديدة بل امتدت إلى كثير من الكلمات القديمة التي كان تحديدها ناقصا أو غامضا أو التي تطور مدلولها مع الزمن.
وعملت الأكاديمية كذلك على حذف الكلمات المماتة أو المهجورة، فأزالتها من قاموسها، وأحالتها إلى معجم اللغة التاريخي، كما أحالت إلى المعجمات الخاصة أسماء الأعلام والمسميات الجغرافية وما إلى ذلك مما لا يتسع له معجم اللغة.
وقد عرضت الأكاديمية الفرنسية كذلك لما نعرض له الآن من تبسيط قواعد النحو وتسهيل القراءة. وانتهى بها الأمر أن أعلنت أنها لا تدعى التشريع في القواعد، ولا الوصاية أو القوامة على الإملاء. بل اكتفت بما قام به أحد أعضائها في الطبعة الرابع من قاموسها منذ نحو قرنين من إدخال تعديل على كتابة عدد كبير من الكلمات كانت تدخل في هجائها أحرف لا فائدة منها سوى الدلالة على أصلها اللاتيني أو اليوناني. وأبى المجمع في الطبعات التالية أن يسير إلى أبعد من ذلك، مكتفيا بصورة الإملاء التي أقرها الاستعمال الطويل والتي طبعت بها ألوف المصنفات المنتشرة في العالم، ورأت أن تغيير هذه الصورة في الكتابة يدخل البلبلة والاضطراب في الأفكار مقابل فائدة ضئيلة لا يؤبه لها.
أما نحن فلم نصل إلى هذه المرحلة التي وصلوا أليها، وقد نكون في المرحلة التي كانوا فيها منذ قرنين فنحتاج إلى شيء من التبسيط في القواعد والى بعض التعديل في كتابة الكلمات. دون مساس بالجوهر.
ومن ينعم النظر في تنوع الصعوبات عند إعداد القاموس الوافي يجد من التجني على المجامع اللغوية اتهامها بالبطيء في عملها. وإذا كان المجمع الفرنسي قد سلخ ثلاثمائة من السنين للتغلب على جانب من هذه الصعوبات فان لمجمعنا، وهو لا يزال في عهد الطفولة بعد عشر سنوات فقط من إنشائه، بعض العذر، بل كل العذر، في عدم تحقيق جميع الأغراض التي أنشئ من أجلها، لا سيما وأن الصعوبات التي واجهت غيرنا تباعا قد واجهتنا مرة واحدة مجتمعة.
أيها السادة: قلنا إن المجمع الفرنسي هو بكر المجامع اللغوية القائمة، وعلى منواله نسجت المجامع التي أنشئت فيما بعد في البلاد الأخرى، لذلك نستطيع بعد أن تبسطنا في سرد تاريخه وبيان مهمته أن نمر سراعا بسائر المجامع.
ففي سنة 1700 أنشأ فردريك الأول مجمع العلوم في برلين بإيعاز من الفيلسوف ليبنز، وقد حول فردريك الثاني الكبير هذا المجمع إلى (الأكاديمية الملكية للعلوم والآداب) وكان
رئيسها في أول أمرها العالم الفرنسي موبرتوي. وظلت تقاريرها تطبع بالفرنسية من سنة 1746 إلى سنة 1804. وكان لهذا المجمع فيما بعد أثر كبير في ازدهار العلم الألماني.
وأنشئت أكاديمية مدريد في إسبانيا سنة 1713 برعاية الملك فيليب الخامس، فوجهت همها إلى وضع معجم وأجرومية أصبحا مرجعين بل حجتين في اللغة في إسبانيا والجمهوريات اللاتينية بأمريكا الجنوبية.
وفي سنة 1772 أنشئت في بلجيكا الأكاديمية الملكية وأعيد تنظيمها في سنة 1845 فقسمت ثلاثة أقسام: قسم الآداب، وقسم الفنون، وقسم العلوم. وكان معظم أعضائها من الفلاسفة والمؤرخين واللغويين والقانونيين، وقل فيها الشعراء والأدباء. فرأى القوم حاجتهم إلى إنشاء أكاديمية أخرى فأنشئت الأكاديمية الملكية للغة الفرنسية وأدبها في سنة 1920.
وإذا كانت الأكاديميات قد نشأت في مدن إيطاليا منذ نحو أربعمائة سنة فأن الأكاديمية الكبرى لم تنشأ في روما إلا في سنة 1926 وتم تنظيمها في سنة 1929 واشتملت على أربع شعب: العلوم الطبيعية والرياضية، والآداب، والعلوم الفلسفية والتاريخية، والفنون.
أما الشعوب ألانجلو سكسونية من إنجليز وأمريكان فلم يعنوا بالمجامع اللغوية عنايتهم بأندية البحوث التاريخية والعلمية والفلسفية، فالأكاديمية البريطانية والجمعية الملكية أو أكاديمية لندن ليستا بالمجامع اللغوية بالمعنى الذي نقصده، فان القوم رأوا تبسيط لغتهم ما استطاعوا ليعمموا استعمالها، حتى اهتدوا أخيراً إلى لغة مبسطة لا يزيد عدد كلماتها على 850 كلمة من الموصوفات والصفات والأفعال والحروف التي يحتاج إليها الإنسان في الكلام.
أما في الشرق. فقد ألف رهط الأدباء في العواصم العربية جمعيات أدبية لغوية كثيرة ولكنها لم تكن لتعمر طويلا لأن الحكومات لم تكن تؤيدها، بل كثيراً ما كانت تناهضها، إلى أن أنشئ المجمع اللغوي في دمشق منذ ربع قرن، وقد أدى للغة خدمات تذكر له بالشكر.
ويسرنا أن نحي هنا رئيسه الأستاذ محمد كرد علي ووكيله الأستاذ عبد القادر المغربي، زميلينا في المجمع المصري.
أيها السادة: وقفت بكم طويلا عند المجمع الفرنسي لأنه أقدم المجامع اللغوية وأشهرها، فاسمحوا لي أن أقف بكم وقفة أخرى عند المجمع الروسي، فهو أحدث المجامع وأكثرها
اختلافا في تأليفه، وأهدافه، ونحن اقل معرفة به منا بغيره.
كان بطرس الأكبر قد أنشأ في بطرسبورج سنة 1725 أكاديمية للعلوم. ثم تفرعت إلى شعب على غرار شعب الأنستيتو الفرنسي. ولكن نظام هذه الأكاديمية قد قلب رأسا على عقب في روسيا السوفيتية، حيث أصبحت الأكاديمية العلمية بمثابة هيئة أركان الحرب في معسكر الفلم الروسي، وأصبح لها الشأن الأول في نهضة البلاد. وفي سنة 1941 قبيل اشتراك روسيا في الحرب القائمة كان هذا المجمع مؤلفا من 76 معهدا و11 معملا للاختبارات العلمية، و42 محطة للتجارب و6 مراصد و24 متحفا. ويبلغ عدد الأعضاء الآن 150 عضواً، وعدد الأعضاء المراسلين 230 وهناك 4700 أخصائي يساعدون في الشؤون العلمية والتطبيقية، وقد نشر المجمع في سنة 1941 من التقارير والنشرات الدورية ما يزيد على عشرة آلاف صفحة. وهذه الأكاديمية مؤلفة من ثماني شعب، وهي شعبة الطبيعيات والرياضيات، وعلوم الكيمياء، وعلم طبقات الأرض والجغرافية، والعلوم البيولوجية والعلوم التطبيقية، والتاريخ والفلسفة، والاقتصاد والقانون، والأب واللغات. ويتبع كل شعبة عدد من المعاهد والمعامل والمتحف.
أما شعبة الأدب واللغات فتشتمل فيما تشتمل عليه على معهد اكتسب أخيراً أهمية خاصة وهو معهد الأبحاث الشرقية ورئيسه العلامة ستروف من علماء الآثار المصرية. ومن بين أعضائه البارزين المستشرق كراشكوفسكي الذي تخصص بالأدب العربي الحديث، وهو من أعضاء مجمع دمشق، وقد ترجم إلى الروسية بضعة مؤلفات لكتابنا المعاصرين منها كتاب (الأيام) لزميلنا المحترم الدكتور طه حسين بك، كما أشرف على نشر مؤلفات ابن فضلان التي تحتوي على معلومات ثمينة عن أقدم عهود التاريخ الروسي. وفي هذا المعهد أيضاً يعمل البحاثة أرنستد الأخصائي في اللغة القبطية. وقد أعد للنشر مخطوطات بهذه اللغة على جانب من الأهمية إذ تبحث في تطور مصر الاقتصادي في القرون الوسطى وهي تكاد تكون فريدة في بابها.
وفي هذا المعهد مجموعة ثمينة من المخطوطات الشرقية من عربية وقبطية وإيرانية وصينية. كما أن فيه مكتبة شرقية ضخمة تعد من أغنى مكتبات العالم. وليست الدروس الشرقية محصورة في معهد الأدب، فإن لها كذلك نصيبا من أعمال معهد اللغة والفكر ومعهد
الأدب. وتدرس لغات الشعوب الشرقية الداخلة في اتحاد الجمهوريات السوفيتية في معاهد أرمينيا وجورجيا والتركمان. أيها السادة - قد يكون من الطريف، ونحن نعرض وجوه الشبه بين مجامعهم ومجمعنا، أن نورد بعض ما وجه إلى هذه المجامع من سهام التهكم والنقد البريء وغير البريء.
فهذا الشاعر الفرنسي بيرون لم يتمكن من خول الأكاديمية فأرسل إليها يوصيها بان تكتب على ضريحه: (هنا يرقد بيرون وهو لم يكن شيئا حتى ولا عضوا في الأكاديمية) وكان يقول عن الأربعين الخالدين: (هم أربعون ولكن عقولهم عقول أربعة).
قال فولتير، في أسلوبه اللاذع، يحدد الأكاديمية:(هي هيئة يدخلها أصحاب الألقاب وكبار الموظفين ورجال الدين والقانون والأطباء والمهندسون وأحيانا رجال القلم). وهو يشير في قوله هذا إلى بعض أعلام الأدب الذين لم تفتح الأكاديمية لهم أبوابها من أمثال موليير وغيره. ولكن الأكاديمية عوضت موليير تمثالا بعد وفاته في قاعة جلساتها وكتبت تحته: (لم ينقص مجده شيء ولكنه هو كان ينقص مجدنا). وقال أحد النقاد (هذه المجامع اللغوية إن هي إلا ملاجئ للعجزة من الذين شوهتهم حرفة القلم).
وقال أحد النقاد (هذه المجامع اللغوية إن هي إلا ملاجئ للعجزة من الذين شوهتهم حرفة القلم)
وقال آخر (هي جمعيات هازلة يحاول أعضاؤها أن يظهروا بمظهر الجد).
ولكن، مهما يقولوا ويتهكموا وينتقدوا، ما فتئ مطمح كل كاتب وكل عالم وكل باحث في البلاد الراقية الوصول إلى عضوية هذه المجامع التي يعتقد الكثيرون أن الكفاية والعقل يقدمان فيها على الثروة وشرف الأصل. وقد قال الفيلسون رينان في ذلك:(إن صوت العلم قد يكون أحيانا ضعيفا تجاه الجرأة والدجل، ولكن هذا الصوت متى خفت ضجيج الشارع يستمر مسموعا ولا يسمع غيره. لذلك ومهما تشتد الحملات على المجامع العلمية ستكون الغلبة دائما في النهاية لهذه المجامع لأنها الحارس الأمين على الأساليب الصحيحة، وإذا كانت محترمة في نظر عدد قليل، فان هذا العدد القليل هو على حق. ولا يبقى إلا الحق).
وتعرفون حكاية (بوانكاره) وقد يكون فيها أسطع دليل على مكانة هذه المجامع. وصل هذا الرجل العبقري إلى رياسة الجمهورية وظل مع ذلك عضوا في الأكاديمية، لا تشغله مهام
الدولة عن حضور معظم جلسات المجمع، بل كان يشترك في التصويت عند انتخاب عضو جديد. وحدث أكثر من مرة أن فاز بالانتخاب من لم يكن قد أعطاه صوته وكان يوقع بصفة كونه رئيسا للدولة مرسوم تعيين الفائز وإن لم يكن مرشحه.
وعندما زار بوانكاره إنجلترا في شهر يونيو سنة 1913 وقف ملك الإنجليز وهو ملك يستطيع أن يقول كما قال شارلكان إن الشمس لا تغيب عن أملاكه - وقف يرحب بضيفه رئيس الجمهورية الحليفة فقال:
(إني سعيد بأن أرى في ضيافتي رجلا ممتازا بخدمه الجليلة، ذا شهرة بعيدة ليس في عالم السياسة فحسب، بل أيضاً في تلك الجمعية الأكاديمية التي هي منذ ثلاثة قرون موضع فخر لفرنسا تحسدها عليه أوربا جمعاء).
أيها السادة - من الأقوال المأثورة عند الفرنجة أن لا شيء ادعى إلى الملل والسأم من الخطب الأكاديمية. وكان نصيبي من هذه الحفلة خطبة أكاديمية في أكاديمية عن الأكاديميات، فإذا كنت قد أمللت وأسأمت فأرجو عذرا.
أنطون الجميل
أبو العلاء المعري
التفاؤل والأثرية عند الشيخ
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 5 -
النسل، الزواج
والنسل أفضل ما فعَلتَ بها
…
فإذا سعيت له فعن عقل
إذا شئت يوماً أن تقارن حرة
…
من الناس فاختر قومها ونجارها
إذا خطب الحسناء كهل وناشئ
…
فإن الصبا فيها شفيع مشفع
ولا يُزهدنها عُدمه، إن مُده
…
لأبرك منصاع الكبير وأنفع
وما لأخي الستين قدرة سائر
…
إليها ولكن عجزه ليس يُدفع
ويُخفض في كل المواطن ذمه
…
وإن كان يُدني في المحل ويُرفع
إذا ما ابن ستين ضم الكعاب
…
إليه فقد حلت البهله
هو الشيخ لم يرضه أهله
…
ولم يُرض في فعله أهله
فلا يتزوج أخو الأربعين
…
إلا مجربة كهله
رأى الشيب في عارضيه المسن
…
فنعم القرين له الشهله
وواحدة كفتك فلا تجاوز
…
إلى أخرى تجئ بمؤلمات
ولا يتأهلن شيخ مُقل
…
بمُعصرة من المتنعمات
فإن الفقر عيب، إن أضيفت
…
إليه السن جاء بمؤلمات
إذا خطب الزهراء شيخ له غنى
…
وناشئ عُدْم آثرت من تعانق
إذا كانت لك امرأة عجوز
…
فلا تأخذ بها أبداً كعابا
فإن كانت أقل بهاء وجه
…
فأجدر أن تكون أقل عابا
وحسن الشمس في الأيام باق
…
وإن مَجَت من الكبر اللعابا
ومن جمع الضرات يطلب لذة
…
فقد بات بالإضرار غير سديد
معاملة الصغار
ورفقاً بالأصاغر كي يقولوا
…
غدونا بالجميل معاملينا
فأطفال الأكابر إن يوقوا
…
يُروا يوماً رجالاً كاملينا
لا تزدرُن صغاراً في ملاعبهم
…
فجائز أن يُروا سادات أقوام
وأكرموا الطفل عن نكر يقال له
…
فإن يعش يُدع كهلا بعد أعوام
. . . وبالوالدين إحسانا
العيش ماض فأكرم والديك به
…
والأم أولى بإكرام وإحسان
وحسبها الحمل والإرضاع تُدمنه
…
أمران بالفضل نالا كل إنسان
تحملْ عن أبيك الثقل يوماً
…
فإن الشيخ قد ضعفت قواه
أني بك عن قضاه لم ترده
…
وآثر أن تفوز بما حواه
حفظ الصحة
دارِ نفسك وإن بلغت سن الهرم كما يداري الوليد.
إفراط الشبع آفة على كل حيوان:
سنُّك خير لك من درة
…
زهراء تعشي أعين الناظرين
عَجبت للضارب في غمرة
…
لم يطع الناهين والآمرين
يكسر باللؤلؤ من جهله
…
خُشْباً عتت عن أنمل الكاسرين
تجزأُ ولا تجعل لحتفك علة
…
بإكثار طعم، إن ذلك لُوم
لا ترُبلنَّ وكن رئبال مأسدة
…
إن الرشاد ينافي البادن الرَّبلا
الشبيبة
إذا ما خبت نار الشبيبة ساءني
…
ولو نُص لي بين النجوم خباء
إن الشبيبة نار، إن أردت بها
…
أمراً فبادره، إن الدهر مطفئها
السفر
لو ملكت الرحيل جولت في الآفاق
…
حتى يملني التجويل
أدب السلوك
الكتاب المختوم يشتمل على سر مكتوم، فإن فضضته ولم يأذن من أمنك عليه فقد أوضعت في سبيل الخائنين
لا يبصر القوم في مغناك غسل يد
…
على الطعام إلى أن يرفع السور
ولا يكن ذاك إلا بعد كفهم
…
أكفهم، ويسير الفعل ميسور
فإن تقريب خدام الفتى حُرضا
…
والضيف يأكل رأى منه مخسور
لكل زمان ما يشاكله
أعدد لكل زمان ما يشاكله
…
إن البراقع يُستثبتن بالشُمُ
فإن ضربت بسيف الهند في ومَد
…
فسيف إفرنجة المخبوء للشم
المرء شبه زمانه
وإن الفتى فيما أرى بزمانه
…
لأشبه منه شيمة بأبيه
الناس
والناس بالناس من حَضْر وبادية
…
بعض لبعض - وإن لم يشعروا خدم -
إن خالفوك ولم يجرر خلافهم
…
شرا فلا بأس؛ إن الناس أخياف
قال الخليفة العظيم عمر:
(أعقل الناس أعذرهم للناس).
وقال رشيد بن خليفة: (اشكر المحسن ومن لا يسئ، واعذر الناس فيما يظهر منهم ولا تلمهم، فلكل من الموجودات طبع خاص)
ومن عرف الناس وتأريخهم ووراثتهم القريبة والبعيدة ' ، ومنشأ ما يسمى (رذائل) وأسبابها عذر ولم يستعجب مما يشاهد. يقول الشيخ:
يلقاك بالماء النمير الفتى
…
وفي ضمير النفس نار تقد
يعطيك لفظا لينا مسه
…
ومثل حد السيف ما يعتقد
وهذان البيتان إن دل ظاهرهما على معايب في الناس ففيهما ما ينبئ بارتقاء لهم عجيب، فقد أمسى هذا الفتى الذئب الجشع الحاسد المحتقد سافك دم أخيه من أجل ثعلب ظفر به أو يربوع، ومن أجل مستنقع يرده أو مطيطة - قد أمسى هذا الفتى وارث تلك الغرائز يلقاك
أحسن لقاء، ويخاطبك خطابا جميلا، وفي الضمير والمعتقد ما أبان الشيخ. فإذا طال تكلفه ما يتكلفه واستمر اعتياده ما يعتاده (وعادة المرء تدعى طبعه الثاني) كما يقول شيخنا حاكي بعد أدهار باطنه ظاهره، أشبه جوانيه برانيه، وحسبك منه اليوم ذاك اللقاء وذاك العطاء، وان كان في ضمير النفس نار تقد، وساء ما يعتقد.
. . . كذلك سخرناها لكم
قال الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه (طريق الهجرتين وباب السعادتين): (. . . ولما انتهى أبو عيسى الوراق إلى حيث انتهت إليه أرباب المقالات طاش عقله، ولم يتسع لحكمة إيلام الحيوان وذبحه صنف كتابا سماه (النوح على البهائم) فأقام عليها المآتم، وناح وباح بالزندقة الصراح)، وقال العلامة الفيومي في (المصباح):(. . . ويحرمون - يعني البراهمة - لحوم الحيوان، ويستدلون بدليل عقلي فيقولون: حيوان برئ من الذنب والعدوان فإيلامه ظلم، خارج عن الحكمة. وأجيب بظهور الحكمة؛ وهو أنه استسخر للإنسان تشريفا له عليه، وإكراما له كما استسخر النبات للحيوان تشريفا للحيوان عليه. وأيضا فلو ترك حتى يموت حتف أنفه مع كثرة تناسله أدى إلى امتلاء الأفنية والرحاب وغالب المواضع، فيتغير منه الهواء، ويكثر به الفناء، فيجوز ذبحه تحصيلا للمصلحة، وهي تقوية بدن الإنسان، ودفعا لهذه المفسدة العظيمة. وإذا ظهرت الحكمة انتفى القول بالظلم والعبث).
وشيخنا المعري يقول داعيا إلى الارتفاق به:
يأكل أطايب الأعفاء، من سمح بالرسل في أيام السفاء، ويلج الغمار باذل السمار، وتثنى الضيفان، على الجائد بملء الجفان. لا يثني عليك فصيل بالأصيل. ومن أخضرت شربته بالواو أكمات مربده بالتمر الجلاد. ومن ركب العامة في طلب الصيد كانت بطون عياله قبوراً للحيتان. ومن تتبع بقوسه موارد الوحش كثر في منزله الوشيق.
وقال (الوليد): النبع ليس بمثمر
…
وأخطأ، سرب الوحش من ثمر النبع
جِلَّة ابلك وعشارها. أروت ضيفك غزارها، وملأت جفانك وذارها، لن تبكيك بكارها إذا السنة كثر قطارها، وذبح في الروضة فارها، واعتم بالروضة بهارها. سالم ابنك شرارها.
الأثرية '
إن تُرد أن تخص حراً من الناس
…
بخير فخص نفسك قبله
إذا لم يكن لي بالشقيقة منزل
…
فلا ظهرت عزَّاؤها والشقائق
إذا كان إكرامي صديقي واجباً
…
فإكرام نفسي - لا محالة - أوجب
ومن أطال خلاجا في مودته
…
فهجره لك خير من تلافيه
إذا ولى صديقك فول عنه، فإنما ينزل بالوادي ذي الشجر والروض العميم، ويقدح بزند العفار ما دام وأرى النار، فإذا خبت ناره بطل اختياره. وإذا السقاء لم يمسك الماء فهو زيادة في مشقة المسافر، لا تأو لمفسد تأو، فإن الذيب جدير بالتعذيب.
آخ في الله الأخوان، ولا تقل لبعيرك: أخ في دار الهوان.
ادفع الشر إذا جاء بشر
…
وتواضع إنما أنت بشر
بأي لسان ذامني متجاهل
…
عليّ، وخفق الريح في ثناء
تكلم بالقول المضلل حاسد
…
وكل كلام الحاسدين هراء
إذا ما قلت نثراً أو نظيما
…
تتبع سارقو الألفاظ لفظي
كأني إذا طلت الزمان وأهله
…
رجعت وعندي للأنام طوائل
وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم
…
بإخفاء شمس ضوءها متكامل
وإني وإن كنت الأخير زمانه
…
لآت بما لم تستطعه الأوائل
وطال اعترافي بالزمان وصرفه
…
فلست أبالي من تغول الغوائل
فلو بان عضْدي ما تأسف منكبي
…
ولو مات زندي ما بكته الأنامل
وكم من طالب أمدي سيلقي
…
دوين مكانَي السبع الشدادا
ويطعن في علاي وإن شسعي
…
ليأنف أن يكون له نجادا
ويظهر لي مودته مقالا
…
ويبغضني ضميراً واعتقاداً
لي الشرف الذي يطأ الثريا
…
مع الفضل الذي بهر العبادا
وأحسب أن قلبي لو عصاني
…
فعاود ما وجدت له افتقادا
تعاَطوا مكاني وقد فتهم
…
فما أدركوا غير لمح البصر
وقد نبحوني وما هجتهم
…
كما يلبح الكلب ضوء القمر
المذاهب الأدبية
للدكتور محمد مندور
في مصر الآن اتجاه عام نحو التفكير المذهبي، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الأدب. وهو اتجاه يبشر بالخير، أو على الأصح بالرغبة في الخير. وذلك لأنني لم أستطيع بعد أن أطمئن إلى أساس هذا الاتجاه. ومصدر عدم الاطمئنان هو أنني لا أكاد بعد أتبين وجود تفكير فلسفي يتشعب مذاهب مختلفة، فتستند إليه مذاهبنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية. ونقصد بالفلسفة وبالتفكير الفلسفي التفكير الإنساني الذي يتناول ملكات الفرد وآماله وآلامه وكافة روابطه بالحياة والمجتمع؛ وأما ما وراء الطبيعة والجدليات والمنطقيات، فذلك ما لي أمل تكرار القول في جدبه وعدم غنائه، لأنها لا تعدو أن تكون رياضة عقلية.
لسنا نملك إذن حتى اليوم فلسفات إنسانية متميزة، وهذا هو السر في أن تفكيرنا المذهبي في نواحي النشاط الفكري المختلفة لا يزال تقليداً للغرب لا يقوم على أصالة نفسية حقة، وأوضح ما تكون هذه الحقيقة في فهمنا لمعنى المذاهب الأدبية. فنحن نظنها طرقاً فنية يقصد إليها الكاتبون قصداً، فإذا بأحدهم كلاسيكي والآخر رومانتيكي. وإذا بهذا واقعي وذاك مثالي، عقلي أو عاطفي، اجتماعي أو فني، وما إلى ذلك من المذاهب والاتجاهات، وهذا فهم خاطئ؛ فمذاهب الأدب - كما يشهد التاريخ - قد كانت دائماً حالات نفسية عامة خلقتها الحوادث، وكيفتها الظروف، وإن لم يمنع ذلك الاتجاه العام من أن تتميز بداخله نفوس الشعراء والكتاب بسماتها الخاصة.
وفي تاريخ الأدب العربي ذاته أمثلة لتلك الحقيقة. فالشعر العاطفي، وبخاصة الغزل، كما ظهر في الحجاز في صدر العصر الأموي، والشعر العقلي، وبخاصة الهجاء، كما ظهر في العراق في ذلك العصر أيضا، والشعر الفني المصنوع، وبخاصة المدح، كما ظهر في الشام عندئذ، حيث كان مقر الملك، ثم تيار الشعر الإباحي، شعر الخمر والغزل بالمذكر، والتكالب على اللذات، كما عرفه العصر العباسي الأول، والشعر الفلسفي الذي بلغ قمته عند أبي العلاء، كل هذه الاتجاهات كانت في حقيقة أمرها حالات نفسية. وما أحب أن أعيد القول في انصراف أهل الحجاز عن الكفاح في الحياة والمناضلة عن مجد الإسلام
عندما رأوا القيادة تنتقل إلى غيرهم، وإذا بهؤلاء الأشراف الذين رقق الإسلام قلوبهم يتغزلون غزلهم الساحر الجميل. وكلنا يذكر روح العصبية القبلية التي لم يستطع الإسلام أن يميتها في العراق، وما كان لتلك الحالة النفسية من تأثير في تأجيج الهجاء بين القبائل والأفراد. وقد عمرت أشعارها بملاحاة القيم والأنساب. وأما في العصر العباسي فتأثير الحضارة الفارسية بلذاتها وأنواع بذخها المختلفة. أوضح من أن يذكر في خلق الحالة النفسية التي صدر عنها الشعر الإباحي. وفي فلسفة الهنود واليونان، وفي ظروف الحياة السياسية والاجتماعية في العصر العلائي وما سبقه بقليل ما يوضح اتجاه الشعر نحو الفلسفة بحثا عن حقائق النفس ومصيرها، وآلام الحياة وآمالها. وهكذا جاءت نشأة المذاهب الأدبية عند العرب، أو على الأصح، الاتجاهات الأدبية في شعرهم وليدة لحالات نفسية طبيعية لم تصطنع، ولا قصد إليها، فهي تقوم على أسس نفسية إنسانية لم يكن منها مفر، ولا إلى غيرها معدل. وإن لم يمنع ذلك - ما قلنا - كل شاعر من أن يتميز من غيره بأصالته الخاصة.
والأمر في الأدب الغربي مثله في الأدب العربي، وإن تكن الحقائق هناك أوضح، لأن الأدب الغربي هو الذي عرف - وبخاصة ابتداء من عصر النهضة - المذاهب الأدبية بمعناها الفلسفي الصحيح. وقد صاحب ظهورها وعي نظري بها ومناقشة لأصولها، وتوضيح لمعالمها وقتال دونها: وتلك ظواهر لم تكد تتضح في تاريخ الأدب العربي. اللهم إلا أن يكون ذلك في معركة كبيرة واحدة يحدثنا عنها التاريخ الأدبي، وهي تلك التي قامت بين أنصار البحتري وأنصار أبي تمام، إذ ناضل الأولون عن عمود الشعر والصياغة التقليدية المرسلة، وكافح الآخرون عن مذهب البديع والتجديد في الصياغة. ومع ذلك فتلك معركة لم تمس حالات النفس في شيء لأن مدارها كان التباين في أسلوب التعبير، وأما موضوعاته فقد ظلت تقليدية حتى قال أحد النقاد: إن التجديد عندئذ لم يعد التطريز على ثوب خلق؛ وقال مستشرق: إنه كان رقصا في السلاسل.
وعلى العكس من ذلك مدلولات المذاهب الأدبية في الغرب، فهنا نجد الحالات النفسية بأوسع معاني اللفظ. فالكلاسيكية التي ظهرت في القرن السابع عشر في فرنسا بنوع خاص ليست إلا نظاما عقلياً خاصاً في تناول حقائق النفس البشرية وصياغتها. وأساسها العام هو
تنحية الكاتب لشخصه عما يكتب، وتسليطه ضوء العقل على ما يريد عرضه. ولهذا كان مظهرها هو الشعر التمثيلي. وأما الشعر الغنائي الشخصي فذلك نوع لم يزدهر إلا في القرن التاسع عشر تحت جناح الرومانتيكية، والكلاسيكية قسط واعتدال فلا إسراف في إحساس ولا مبالغة في عبارة ولا تصنع في أداء ولا شذوذ في أسلوب. وهي نتاج عقلي يخضع لأصول مرعية ويسير على مبادئ مقررة، وهي أصول ومبادئ قَّنن لها النقاد فقالوا في المسرح بالوحدات الثلاث ونادوا بفصل الأنواع فلا تجاور الفصول المحزنة فصول مضحكة في المسرحية الواحدة ولا يختلط نوع بنوع.
وجاءت الثورة الفرنسية فشتتت أفراداً وفجرت آمالا، وهاجر من هاجر وأقام من أقام وتجددت بفضلها مشاعر البشر. وأمعن الناس في مصائرهم. وولت الثورة نابليون الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، حتى أثار في نفوس الشبيبة أنواعا لا تحصى من الطموح وقد أصبح مثلهم المحتذي. ومنذ الأزل كان لشهوة المجد سحرها العجيب. وتنكر القضاء لنابليون فانهار مجده وتحطمت بانهياره النفوس، فإذا بمرض اجتماعي ينتشر بين الناشئين هو المعروف (بمرض العصر) وما هو في الحقيقة إلا إحساس الفرد بعجزه عن الملاءمة بين قدرته وآماله، وبين شخصه ومجتمعه، وبين واقعه ومثله الأعلى، وتلك حالة نفسية تنشأ دائما عندما تجد أحداث أو تنهار شخصيات تدعو إلى أن يدب اليأس في الطموح. ولا أدل على صدق هذه الحقيقة من أن تجد الرومانتيكية التي ظهرت عندئذ، عامرة بالشكوى من الحياة، والإحساس إحساسا عميقا بجمال الأطلال ثم بصمت الطبيعة. ولكم يروعك عندئذ أن تستمع إلى شاتوبريان أحد أجداد الرومانتيكية الأوائل يفاضل بين الديانة اليونانية القديمة والديانة المسيحية، ويؤثر الأخيرة لأنها قد طردت من الطبيعة ما ملأها به الإغريق من ربات وحوريات وآلهة، لترد إليها ذلك الصمت الخالد الذي يعثر فيه الإنسان على الله عندما يعثر على نفسه. وهذه حالة تتطلع إليها النفس عندما تستشعر الحاجة إلى الاستجمام وترتد عن صخب الحياة وحركتها الدائمة وأهدافها المترامية مؤثرة التأمل الباطني على رقص الحوريات وأعياد الحياة. وعن هذه الحالة النفسية العامة صدرت الرومانتيكية التي تغلب عليها العاطفة والغناء الشخصي بالآلام والآمال غناء لا يخضع لقاعدة ولا يتقيد بأصل وهو أقرب إلى التشاؤم وشكوى الحياة منه إلى الرضى واطمئنان المصير
وأفاقت النفوس من صدمتها. وتقدمت الأبحاث العلمية ونما الإنتاج المادي وأخذ المفكرون يكشفون عن الحقائق النفسية العميقة فإذا بالأدب يتجه نحو الإمعان في الواقع. ولما كان ذلك الواقع أمر مما يتخيل الشعراء وأميل إلى الدكنة فقد تولدت حالة نفسية جديدة هي الواقعية، التي تسيء الظن بالبشر وترى خلف دوافعه البراقة ظلاما كثيفا. وعلى إضاءة هذا الظلام توفر جهدها، فالكرم قد يكون مباهاة خاوية، والمجد قد يخفي طموحا شخصيا بل والعبقرية ذاتها قد تختلط بالتهريج الرخيص، على نحو ما تجد في الكثير من روايات بلزاك. ولم يكن هذا الاتجاه قاصراً على الأدب بل امتد إلى النحت والتصوير والموسيقى وغيرها من أنواع النشاط الروحي، لقد كانت الواقعية كما كانت الكلاسيكية والرومانتيكية حالة نفسية سائدة وتلك هي الحقيقة العامة التي أربد أن نتدبرها عندما نأخذ في الحديث عن ظهور مذاهب أدبية بيننا، فإذا لم تجد الحالة النفسية التي تستند إلى فلسفة إنسانية عميقة كنت في حل من أن تصف ما ترى بأنه لا يزال في دور المحاكاة.
محمد مندور
المسألة الأفعوانية!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
هلمي يا ذات الخطر والجلالة! إلى قلمي. . كما يقبل الثعبان العظيم زاحف الرأس إلى ساحر ليحطم نابه ويطهر لعابه!
هلمي يا بوق الشيطان ينفخ فيه على القلوب فتكون كالمخالي والخزائن والجيوب، تختزن الأجسام ذات الحجم والكثافة والثقل. . وتمتلئ بالحطام وهي مهبط الأسرار ومجلي الأنوار. .!
هلمي يا دين البشرية الوثنية وقبلة قلبها، وكعبة طوافها وسعيها.! هلمي يا أم الدينار! ذي الغمرة والطرة، والبريق والرنين، والثقل الخفيف والروح اللطيف الذي يسرى به الشيطان إلى الأقداس المغلقة في الضمائر فيفتح به مكان الطهر ويحيله إلى نجس وعهر.!
هلمي يا روح العجل الذهبي الذي يتشكل ويتجسد ويتقمص جسم كل شيء فيتراءى به ويتخايل في صور شتى تذهل العيون عن الحق والشرف والإيمان!
إلى قلمي أيتها الأفعى ذات الرءوس والقرون والألسنة والذيول التي لا عدد لها لأنها أم العدد والحساب!
هلمي أيتها (المسألة الاقتصادية)! يا وكر الجرائم الفردية والاجتماعية والسياسية!
الرباطات الثلاثة
إننا نشعر برباطات ثلاثة تضغط على قلوبنا وتشد عليها وتربطنا بثلاث غايات عظمى هي: (الحياة وما وراء الحياة) و (المال) فالذي يربطنا (بالحياة) هو (الحب) ونتيجته الاندماج في (الزواج) والامتداد في (النسل) تعزية وتعويضاً عن (خلود الذات) وهي الأمل الأكبر الذي لم يتحقق، والذي يربطنا بما وراء الحياة هو (الدين) ونتيجته التعرف إلى الله بارئ الوجود ومفيض الحياة. .
والذي يربطنا بالمجتمع هو (المال) إرضاء لجملة غرائز حادة وشهوات عنيفة تظهر في الأنانية والأثرة والخيلاء وحب التسلط والمباهاة والافتراس وحب الاقتناء والحيازة والتملك وحب (إثبات الذات) مقرونة بغيرها في مجموع. . والرباطان الأول والثاني لكل منهما منطقة تتصل بالجانب الأعلى من الإنسان وتثير في قلبه أشواقاً فيها سمو وفيها رفق
ووداعة وحنان ونسيان (للذاتية) و (الأنانية) فلذلك تحيا بهما النفس سعيدة مسعدة، منتفعة نافعة.
أما الرباط الثالث فلا يتصل إلا بمنطقة العواصف والزعازع من النفس، إذ هي مجال الاحتكاك والمنافسة والسباق والصراع بين ذوات مختلفة متفاوتة القوى والمواهب. . وقد سبق الشر من هذه المنطقة إلى الحياة وأفسدها، ولذلك كانت محل العناية والتنظيم والتهذيب، ومحوراً عظيما لشرائع الأرض والسماء، ومثار الحروب قديمها والحديث.
وبدون تسوية (المسألة الاقتصادية)، في العالم وحل (مشكلة العيش) وتوزيع المواد الاقتصادية في الأمة الواحدة وفي الأمم المتعددة في عدالة وإنصاف وتجرد عن الأنانية الشخصية والقومية لا يمكن الاطمئنان إلى مستقبل سعيد للإنسانية
وربما كانت كبرى جرائم الحياة هي جرائم الغنى ومفاسد البطر والترف الطغيان نتيجة لغرور المال. نعم إن للفقر جرائم كبرى أيضاً، ولكنها جرائم ومفاسد هي في الواقع عقوبة (ورد فعل) على جرائم الغني وعدم التوازن الاقتصادي في المجموع.
ولذلك كان من أول الواجب على رجال الروح والفكر أن يجعلوا المسألة الاقتصادية وتنظيمها واعتبار أسسها العادلة محل عنايتهم الفائقة كما يعنون بالمسائل النظرية في اللاهوت والفلسفات والآداب، وأن تكون لهم رقابة ساهرة وجهاد دائم في التدبير والتنظيم الاقتصادي حتى يضمنوا لكل فرد أن ينال حق العيشة بالجسد كما ينال حق الحياة بالروح، وحتى يكفلوا لمثلهم العليا أن تحيا وتتجسد في أشخاص بدل أن تظل طول الحياة ميتة مدفونة في بطون الكتب.
ثم يكون واجبهم الأكبر أن يمنعوا التكالب عليها والتطاغي في رحابها وأن يحملوا المجتمع على السعي إليها في هوادة ورفق وشرف
الحدود في الاقتناء والتوريث
وإن ما تطلبه غرائز التملك وشهوة المال لا يمكن أن يقف عند حد ينتهي إليه. وعلى هذا فواجب أن يدرك الإنسان ذلك ويحد من آماله ومطامعه بما يوافق مصالحه ومصالح الآخرين وإلا القلب كذلك الثعلب الذي ظل يأكل من فريسة حتى امتلأ وعجز عن النهوض والجري فاقتنصه الصائد. .
ومع عدم شعور الجد والأب بحب الحفدة والأبناء له بل مع عدم وجودهم في حياته. . . نجد الأجداد والآباء يغالون في الاقتناء والإثراء بدون حد للمطامع، وبدون التفكير في أن ما زاد على الكماليات في متوسط عمر الإنسان إنما هو حمل باهظ للنفس يرهقها ويكأدها
فينبغي أن يحد الثري ثروته بحيث تكفي ابنه المباشر وحده. أما الحفدة والأسباط فيجب إهمال التفكير في توريثهم وعدم تضحية المجتمع والمروءة مع الناس من أجلهم وهم في عالم الغيب. .
الأسرة تتسع
ولماذا يلزم الإنسان أن يعول أهله الأدنين وذريته الضعاف ولا يلزم بإعالة اخوته في الوطن من العجزة المحتاجين وهم أسرته أيضاً بالمعنى الواسع؟ لا بد من إقامة مسائل الاقتصاد والإحسان على هذا المعنى العميق الكريم لا على التبرع والتفضل والاختيار. . .
خطر العقليات المادية
لقد كثرت العقليات المادية المغالية التي تحاول أن تفسر الحياة دائما تفسيراً ماديا آليا. . مغفلة ذلك المعنى الإنساني العظيم الذي يتصل بالحق ومعاني المروءة والإيثار والنبل، ولا يكون المرء إنسانا إلا بسيطرة ذلك المعنى على فكرة وروحه. . هذه العقلية أعظم نماذجها هم اليهود. وقد انتقلت فلسفتهم المادية في غلوها إلى جميع الأمم. فهم ليسوا الآن ممثليها وحدهم. .
نعم إن للمادة آثاراً كبرى في الحياة الإنسانية، ولكنها يجب ألا تكون المحور الوحيد لسياستها العليا كما هي الحال الآن. . .
عبد المنعم خلاف
في المحكمة الشرعية
صور جاهلية
للأستاذ على الطنطاوي
- 1 -
رجل كهل معتم، له لحية وفي يده سبحة، دخل المحكمة ودخل وراءه مريدون له، ذوو عمائم، يتبعونه متخشعين ويلحظونه مكبرين، فوقف موقف المدعي عليه، وجلسوا من خلفة في مجالس المستمعين، وكان المدعي شيخا هما ترعش يداه، وتضطرب رجلاه، ويزيغ بصره، ويتلعثم إذا تكلم لسانه ويفيض لعابه، وكانت دعواه أن هذا الكهل ابنه، وأن زوجته وهي أم المدعى عليه قد ماتت منذ شهرين، وهذا الولد قد وضع يده على تركتها كلها، فلا هو يعطيه حقه فيها فعل الرجل الشريف، ولا هو ينفق عليه إنفاق الولد البار، فهو يطلب. . . فسئل المدعى عليه ذو اللحية والسبحة، فقال: أن المدعي أبي ولكن له مالا فلا تجب علي نفقته، وأمي مطلقة منه فلا نصيب له في ارثها. فلما سمع الشيخ ذلك بكى بكاء محروق الفؤاد، واستنزل على ابنه غضب الله. إذ يعظ الناس ويأمرهم ببر الوالدين، ويسوق في ذلك الآيات والأخبار والرقائق، ثم يأبى إلا أن يجمع على نفسه بين عقوق أبيه حيا، وأمه ميتة، ويضم إلى ذلك كذبا وافتراء، ولا يرعى حق الأبوة، ولا يرأف بضعف الشيخوخة، ويصم أمه بوصمة الطلاق، وهي تشينها أن كانت حقا فكيف إذا كانت باطلا، وينسى الدين والمروءة، كل ذلك من أجل شيء من المال ماله به من حاجة، وما هو إلى مثله فقير، ولكنه الطمع وحب الدنيا التي يزهد فيها، وقلة الأمانة التي يدعو إليها.
ونصحت المحكمة هذا (الواعط. . .) فما انتصح، وذكرته فما أذكر، ثم كانت النهاية أن خرج فائزاً بدنياه رابحا دعواه، يتبعه مريدوه وتلاميذه مكبرين موقرين، وخلف أباه الشيخ الراعش، يتلمس يداً تسنده ليخرج من المحكمة وفي عينيه الدموع وعلى لسانه اللعنات، وفي قلبه الحسرات. . .
- 2 -
امرأة محجبة مستورة، على صدرها ولد، وفي بطنها ولد، تدعي على رجل أنه زوجها وأبو
أولادها وأنه طردها من داره، ولم ينفق عليها، ولم يكلها إلى منفق، والرجل من هؤلاء (الزكرت) الذين يسمون في مصر (الفتوات) حليق الخدين، مفتول الشاربين، عابس باسر، طويل الطربوش أسوده مائله، منتصب القامة. مرفوع الهامة، كأنه مقبل على صراع. فسألته المحكمة عما يقوله فقال، وقد صعر خده، وشمخ بأنفه: لست أعرف هذه المرأة!. . . قالت المرأة: لست تعرفني يا أبا فلان؟ أهذه هي مروءتك وشهامتك؟ تنكر زوجتك، وتجحد ولدك، وأنت ترى طفلي وحملي، وتبيع عرضك وشرفك بعشرين فرنكا في اليوم تريد أن توفرها على نفسك، فتهدم بيدك بيتك. وتكتب بقلمك صفحة عار أهلك، وفضيحة أولادك.
قال: اسكتي يا امرأة، أنني لا أعرفك، فسألتها المحكمة: ألم يسجل هذا الزواج في دفاتر المحكمة وسجلات النفوس؟ قالت: لا يا سيدي؛ انه أبى أن يسجله، وتركه مكتوما لكي يضيعني. وانطلقت تنشج.
وأصر الرجل على الإنكار، وأعيت المرأة الوسائل، وكادت المسكينة تغلب على حقها؛ وإذا بطفل في الخامسة يلج قاعة المحكمة فيأخذ بيد أمه المدعية، ثم يرى الرجل، فيقبل عليه، ولكن الرجل يعرض عنه ويتجاهله، فيبكي ويصرخ:(ليش يا بابا، شو عملت لك يا بابا. . .)
. . . ويعترف الخبيث ولولا ذلك ما اعترف!
- 3 -
امرأة قروية برزة ذات جمال ادعت على زوجها الطلاق. فأنكر فكلفتها المحكمة بيان زمان الطلاق ومكانه - فقالت: إنه وقع في دار زوجي. قال المدعى عليه: في داري؟! قالت: لا، بل في دار الآخر. وتنبه القاضي والمستمعون، وسألها: ماذا قلت ويحك؟ قالت: زوجي الآخر. قال القاضي. وما الآخر؟ قالت: انه تركني وأهملني ورماني فتزوجت غيره. قال الرجل: لقد كذبت، لم أهملها ولكنها أحبته وهربت إليه. قال القاضي: وماذا صنعت أنت؟ قال: وماذا أصنع، أنه عسكري وأني أخافه. قال: ومن عقد هذا العقد؟ قال: شيخ البلد وهو هنا.
وأمر القاضي بشيخ البلد فدعي. فحضر شيخ لحيته إلى سرته، له هيبة وشيبة ووقار. فسأله - فقال: نعم أنا زوجت هذه المرأة بفلان العسكري. أنها ذهبت إليه وساكنته فخفت
عليهما المعصية!! فزوجته بها الزواج الشرعي على كتاب الله، وسنة رسول الله!
قال القاضي وزوجها الأول؟ قال: نصحناه أن يطلقها فأبى. فهو المسيء إلى نفسه. وما أكرهتها بل زوجتها برضائها وموافقة أبيها. ولقد أنجبت منه أولاداً هم زينة البلد، لا كأولادها من هذا الجاهل الذي لا يقيم الصلاة. . .
قال أبوها وقد أحضر وسئل: نعم، لقد رضيت بما رضى به شيخنا وعالمنا حفظه الله، وأطال عمره. . .
- 4 -
فتاة (على الطراز الحديث. . .) سافرة الوجه، غضة الأهاب، قصيرة الجلباب، تحاول كلما تحركت أن تبدي ما خفي من زينتها ومن فتنتها، وقفت موقف المدعي. وكان المدعى عليه رجلا عليه سيما الصلاح، وكان أباها، فلما تكلمت تكلم معها حاجباها وشفتاها، ورقص في صدرها نهداها، فأمرها القاضي بالأدب، لم رأى من تبذلها واستهتارها، وأن تلقي (منديلها) على وجهها، وأن تجد وتوجز في كلامها، وتسكن من جوارحها، وأن تستشعر حرمة المكان، وجلال المجلس، وإلا حبسها بذنب (الإخلال باحترام المحكمة). فأطاعت ما استطاعت
وكانت دعواها أنها ابنة المدعي عليه، وأنها لا تنكر أن داره رحبة، والمال فيها وفير، والعيش هنئ، وأنه ليس في الدار إلا أبوها وأمها، وأنها لا تشكو شيئاً من جوع أو عري، ولكنها تشكو عدوان أبيها على حريتها، فهو من (الطراز القديم) رجعي جامد، لا يؤمن بالنهضة النسائية. . . فهو لا يفتأ يسألها كلما خرجت، لماذا خرجت، وإن سهرت ليلة، قال لها: أين كنت، وإن سايرت شابا (مهذبا) أو زارته سبها وشتمها. فهي لم تعد تحتمل منه ذلك، وتطلب فرض نفقة لها عليه لتعيش في غير داره. . .
. . . ولا أريد أن أكمل الصورة فحسب القراء هذا الجانب منها. . . وتأويله عند صاحبات (المؤتمر)!
دمشق
على الطنطاوي
القضايا الكبرى في الإسلام
قضية التجسس لقريش
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذه قضية لها قيمتها في أحداثنا الحاضرة، ولو كنا نرجع في حاضرنا إلى ماضينا، لكان لنا منه أكبر العظات، وأعظم العبر، ولكنا قطعنا صلتنا بماضينا، وأخذنا نتخبط في حاضرنا، وننظر فيه إلى من لا صلة بيننا وبينهم، ولا يتفق أمرنا وأمرهم، فتقطعت بيننا الأسباب، واستفحل بيننا الخلاف، ونكب المسلمون في زعمائهم وقادتهم، وصاروا ينظرون إلى من يأخذ بيدهم فيرتد الطرف إليهم وهو حسير
في السنة الثامنة من الهجرة نقضت قريش عهدها مع النبي صلى الله وعليه وسلم في صلح الحديبية، فتجهز النبي للسفر، ولم يعلن أصحابه بما يريد من غزو قريش إلا أبا بكر رضى الله عنه، ثم استنفر الأعراب الذين حول المدينة، وقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة. فقدم جمع من قبائل أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة، وقد طوى ما يريد عن الجيش، لئلا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعد للحرب، وهو لا يريد أن يقيم حربا بمكة، بل يريد أن يباغت أهلها فيضطرهم إلى التسليم من غير حرب، وقد دعا الله تعالى فقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وفي رواية أخرى: اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم، فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فلتة. ثم أمر بالطرق فحبست، وأقام جماعة بالأنقاب يراقبون من يمر بها، وكان عمر رضى الله عنه يطوف على الأنقاب فيقول: لا تدعوا أحداً يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه. وكانت الأنقاب مسلمة إلا من سلك إلى مكة، فإنه يتحفظ منه ويسأل عنه
وقد أمكن حاطب بن أبي بلتعة مع ذلك التكتم الشديد أن يعرف قصد النبي صلى الله عليه ومسلم، وهو لخمي نزل مكة وحالف بني أسد بن عبد العزى، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا والحديبية، وكان له بمكة بنون واخوة، فخاف عليهم من قريش في ذلك الغزو، وأراد أن يتقرب إليهم بإخبارهم بقصد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتعرضوا إلى بنيه واخوته بسوء، فكتب إليهم كتابا يخبرهم بذلك، ثم استأجر امرأة بدينار وقيل بعشرة دنانير، وقال لها: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق فان عليه حرساً
والروايات مختلفة في نص هذا الكتاب، فقيل إنه كان فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد
وقيل إنه كان فيه: أما بعد يا معشر قريش، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فو الله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام
وقيل إنه كان فيه: إن محمداً قد نفر، فإما إليكم، وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر
فأطلع الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم على ما فعله حاطب، فقال لعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فخذوه منها وخلوا سبيلها، فان لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها
فانطلق الثلاثة تعادي بهم خيلهم حتى أتوا روضة خاخ، فإذا هم بالظعينة تسير على بعير لها، فقالوا لها: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي كتاب. فأناخوها والتمسوا ذلك الكتاب فلم يجدوه، فقالوا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا لها: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. وفي رواية أن علياً قال لها: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، لتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه قالت: أعرض. فأعرض فحلت قرونها فأخرجته من عقاصها، وهو الخيط الذي تعتقص به أطراف الذوائب، أو الشعر المضفور، أولى الشعر بعضه على بعض على الرأس، وإدخال أطرافه في أصوله، أو السير الذي يجمع به الشعر على الرأس وفي رواية البخاري. فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته. والحجزة معقد الإزار، والظاهر أن الكتاب كان في ضفائرها، وأنها جعلت الضفائر في حجزتها.
فأخذوا الكتاب منها ورجعوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا حاطبا فقال له: يا حاطب ما حملك على ما صنعت. فقال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون
بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ماضي حاطب وجهاده في إعلاء شأن الإسلام، والى موقفه في غزوة بدر، وما كان لها من عظيم الشأن في إظهار الدين، وفي قصة الحديبية ومبايعته فيها على الموت تحت شجرة الرضوان، وقد قال الله تعالى في شأن من بايعه تحتها في الآية - 18 - من سورة الفتح (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).
نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك كله من حسنات حاطب، ثم نظر إلى تلك السيئة التي ارتكبها، وهي تعد في عرف الشرائع الوضعية الخيانة العظمى للدولة، والعقوبة التي تستحقها هذه الخيانة هي عقوبة القتل، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن تنتهي حياة ذلك المجاهد بذلك الشكل القبيح، ولم يشأ أن يضيع له جهاده الطويل في الإسلام بفلتة من فلتات النفس، وغواية من كيد الشيطان، فرأى أن يستعمل فيها حقه في العفو، لأنه الرئيس الأعظم على المسلمين، فله حق العفو عن مذنبهم إذا كان فيه مصلحة من المصالح، ولكنه نظر قبل ذلك إلى من كان بالمجلس من أصحابه فقال لهم: إنه قد صدقكم، ولا تقولوا له إلا خيراً. فقال عمر رضى الله عنه: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فأن الرجل قد نافق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا عن حاطب رضى الله عنه، بعد أن بين به أن عقوبة الجاسوس القتل، لأنه أرشد إلى أن علة تركه أمر عمر بقتله هي شهوده بدرا، فدل على أن من فعل فعله ولم يكن بدريا يستحق القتل، ثم نزل بعد هذا فيما فعله حاطب قوله تعالى في الآيات الأولى من سورة الممتحنة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل، إن يثقفوكم يكونوا
لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون، لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون نصير، قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) إلى أخر القصة.
وفي هذه الآيات معاتبات رقيقة لذلك المجاهد الكريم بعد ذلك الصفح الجميل، وعظات كريمة أطلقت إطلاقا، ولم توجه إليه بخصوصه، حتى لا يكون في ذلك ما يشم منه رائحة تشنيع، ولا يكون فيه تصريح بتلك الخيانة، ولا يشوب جهاده منها شائبة تشوبه، ويمضي العفو عن ذنبه خالصاً يمحو كل أثر للذنب، ولا يبقى أية حفيظة عليه في نفوس المجني عليهم.
ولم يكن كل هذا إلا لأن حاطبا كان من المجاهدين الأولين في الإسلام، وللمجاهدين الأولين في كل دعوة شأنهم في نفوس من يأتي بعدهم، فإذا روعي لهم جهادهم إلى آخر حياتهم، وأحيطوا بجانب من القداسة يعلى شأن جهادهم، وينسى معه بعض ما يحصل من زلاتهم بحسن قصد، ومن غير تنكر للدعوة التي جاهدوا في سبيلها - إذا روعي لهم كل هذا كان مدعاة لأخذ الخلف بسنة السلف في الجهاد، حتى ينالوا مثل قداستهم في نظر من يأتي بعدهم، ودعا أيضاً إلى تكوين القدوة الصالحة اللازمة في تاريخ كل أمة من الأمم، وهي الماضي المجيد الذي يقوم على أساسه بناء المستقبل، وهذه هي الحكمة الجليلة في ذلك القول الذي ورد عن أهل بدر - اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وفي بعض الروايات فإني غافر لكم، وهذا يدل على أن المراد بقوله غفرت في الرواية الأولى أنه سيغفر لهم في المستقبل ما يقع منهم، وقد عبر عنه بالماضي مبالغة في تحققه، ولو كان المراد منه الماضي حقيقة لما صح أن يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه، لأنه ينكر به عليه ما قاله في أمر حاطب، ولا يكون فيه إنكار عليه إلا إذا كان الغفران لما يكون من ذنوبهم بعد بدر، على أنه لا يراد من هذا إباحة فعل الذنوب لهم، وإنما هو خطاب تكريم وتشريف، ولا يراد منه إلا أنهم حصلت لهم بتلك الغزوة حالة من القداسة،
غفر معها ما سلف من ذنوبهم، وتأهلوا لأن يغفر لهم ما يحصل من الذنوب اللاحقة إن وقعت منهم وقد خصهم الله تعالى بذلك تكريما لجهادهم، وإعلانا عن عظيم حبه لهم، وما أحسن ما قيل في هذا الشأن:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
…
جاءت محاسنه بألف شفيع
وموضع العظة لنا من هذه القضية أنه كان لنا جهاد سابق جمع كلمة الأمة، وأيقظها من رقدتها، وسار بها في طريق الإصلاح والنهوض، فجنت من ثمار الجهاد ما جنت، وقطعت شوطا بعيداً في طريق الإصلاح ثم تنكرنا لذلك الجهاد، وأخذنا نجرح الذين قاموا به، ونرميهم بكل قبيح، ونكيل لهم التهم جزافا وتنكر أولئك المجاهدون بعضهم لبعض، فضعفت ثقة الأمة فيهم، وضاعت القدوة الصالحة التي تكون محل الثقة والقداسة، وعاد كل شخص إلى سيرته الأولى قبل ذلك الجهاد، لا يهمه إلا أمر نفسه، ولا يسعى إلا في سبيل مصلحته.
فهل لنا أن نعود إلى ماضينا فنتعظ بموضع العظة منه، وننظر إلى المجاهدين فينا كما كان ينظر سلفنا إلى المجاهدين فيهم، ولا نتنكر لجهادهم كما نتنكر الآن، فنحاسبهم على الهفوة بأشد ما يكون من القسوة، ونسلك في حسابهم سبيل التشنيع والتشهير، وهم لم يصلوا في هفوتهم إلى تلك الخيانة العظمى التي ارتكبت في تلك القضية.
وهل لأولئك المجاهدين أن يعودوا إلى سيرتهم الأولى، فيمد بعضهم يده إلى الآخر، ويعرف له فضل جهاده الأول، ذلك الجهاد الذي كان فينا مثل جهاد أهل بدر؟
عبد المتعال الصعيدي
رسالة الفن
الفن
الكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
تمهيد المترجم
في شهر مارس من عام 1925 أسعدني الحظ بالوقوف بباريس مدينة الفن والجمال والنور لأيام قلائل جعلت همي خلالها ارتياد المتاحف والدور والمعارض الني تزخر بأشتات الفنون، التالد منها والطريف. وكنت أنتهب بعيني وقلبي تلك الروائع الفريدة، وأحاول جهدي استيعابها واستذكار ما دق من محاسنها ومفاتنها ولكن هيهات!
وكان من بين ما راعني وملك على لبي ومشاعري أعمال المثال العظيم رودان، ثم غادرت مهد الفن والجمال آسفاً، ولم أنقع صدى نفسي الهيمانة من نمير ذلك المنهل الصافي العذب. غادرته وبالحلق غصة، وبالقلب لوعة، إلى بلاد الثروة والمال والجاه - إلى أمريكا العظيمة. واستقر بي المقام بولاية كاليفورنيا، قبالة مدينة سان فرنسسكو - عروس المحيط الهادي، حيث انصرفت إلى الدرس والتحصيل - تحصيل العلم والفن. غير أن شواغل الدرس لم تكن لتصرفني عن التحليق بروحي من آن لآخر في سماء باريس وفي ردهات متاحف باريس لعلي ألم ببعض ما افتتنت به من روائع القدامى والمحدثين، وبما أحببت من أعمال رودان. ولم ألبث طويلا حتى رأيت المال الأمريكي يستقدم نسخاً عديدة من أعمال هذا العبقري العظيم ويحشدها بأحد متاحف مدينة سان فرنسسكو، فكنت أخف لزيارتها من حين لآخر دارسا لها، مستمتعا بها.
وفي ليلة الميلاد من عام 1928، أهدى إلى كتاب عنوانه:(الفن) وضعه الكاتب الشهير بول جيزيل في أسلوب محاورة جرت بينه وبين رودان، يعرض الكاتب مسألة فنية فسيندفع الفنان في شرحها وتحليلها وإبداء رأيه فيها. وقد حاول الكاتب والفنان معا أن يجلوا كثيراً من نواحي الفن وأن يقربا فهمه إلى أذهان الكثيرين ممن لا يستطيعون فهمه على حقيقته، وأن يثقفا به عقول الكثيرين ممن يعنون بقراءة الكتاب ويقدمون لهم غذاء
روحيا شهيا لا تنقد لذته. وعندي أنهما بلغا في ذلك تمام القصد بفضل طلاوة الموضوع الذي يعالجونه من ناحية، وبفضل الوضوح والنضوج اللذين امتاز بهما الفنان، والبساطة والرشاقة اللتين خص بهما الكاتب من ناحية أخرى، وإن كتابا يشترك في إخراجه فنان عبقري رقيق، وكاتب بارع رشيق، لخليق بأن يلقي من الإنسانية المتمدينة أكبر اهتمام، وأن يخلد بما فيه على مر الأيام.
وكان من الطبيعي أن يخطر ببالي نقل هذا الكتاب الممتع إلى فراء العربية فأقدم إليهم بذلك نوعا طريفا من التأليف، وثقافة فنية يحتاجها الفنان وغير الفنان على السواء. قمت بهذا العمل الشاق من زمن طويل، ثم طرحته جانبا متردداً مرتقباً لظروف غير الظروف إلى أن وقعت عليه عين أستاذي وصديقي الزيات فأرادني على نشر بعض فصوله فنزلت على إرادته.
تقدمة المؤلف
تقع على نهر السين، قريبا من بلدة ميدون التي لا تبعد كثيراً عن باريس، قرية ذات اسم جميل هو (فال فليري). تكلل هامة التل الصغير المشرف عليها بضعة أبنية تسترعي الأنظار بجمالها وغرابتها. وربما جال في خاطر من رآها أنها ملك لفنان. وحقيقة الأمر أنها ملك (أوجست رودان) الذي اتخذها مقراً له. وإذا ما قاربها المرء وجدها مؤلفة من ثلاثة أبنية رئيسية منعزلة، أما الأول فمنزل صغير ذو سقف عال مائل، مبنى بالآجر والأحجار على طراز لويس الثالث عشر، وقد اتخذه مسكنا له. وأما الثاني فبناء مستدير يقوم إلى جانب المنزل، له رحبة فسيحة يدخل إليه بسقيفة ذات عمد هي نفس السقيفة التي أظلت معروضاته التي عرضها عام 1900 في معرض خاص أقيم بزاوية من (شارع بونت دي لالما) ' بباريس. وكان من دواعي سروره أن تقام هذه السقيفة مرة أخرى في صدر هذا البناء الذي اتخذه مرسما وقريبا من هذا وعلى حافة التل المنحدر يقع قصر أو بالحري واجهة قصر من قصور القرن الثامن عشر بها مدخل ظريف يعلوه إفريز مثلث الشكل يظهر بمثابة إطار لباب من الحديد اللين الزهر. وسيأتي ذكر هذا القصر فيما بعد.
تقع تلك المجموعة المتباينة الصفات. وسط بستان وادع بناحية هي ولا ريب من أجمل وأسحر النواحي التي بأرباض باريس، جادت عليها الطبيعة بكثير من جمالها، وزاد من
جمالها ذلك المثال الذي نزل بها وسكنها، فنمقها بكل ما يمكن أن يوحي به ذوقه السليم.
وبينما كنت أسير مع أوجست رودان تحت الأشجار التي تظلل رابيته الفاتنة في أصيل يوم من أيام مايو من السنة الماضية أفضيت إليه برغبتي في الكتابة عن آرائه في الفن وعلى أن يكون ذلك من إملائه فقال لي: (يا لك من إنسان عجيب. لا زلت مهتما بالفن إلى الآن! أن الاهتمام به لا يتفق والعصر الحاضر. فالفنانون اليوم، وأولئك الذين يحبون الفنانين أشبه شيء بالحفريات القديمة. تخيل ناشدتك الله مخلوقا من تلك المخلوقات البائدة يدب في شوارع باريس، وعند ذلك يستبين لك الأثر الذي ستحدثه بمعاصرينا عندما تكتب عن الفن أو تتكلم فيه. أن عصرنا عصر مهندسين ورجال صناعة، وليس عصر فنانين. فغاية السعي في حياتنا الحديثة هي المنفعة، وينصب جهدنا على تجسين بقائنا المادي. يطالعنا العلم كل يوم بمبتكرات جديدة خاصة بالمأكل والملبس وبوسائل التنقل ويخرج إلينا بسلع رخيصة وضيعة كيما يوفر لجمهرة الناس ما يصبون إليه من كماليات زائفة. ولو أنه مع ذلك أدخل تحسينا عظيما على كل ما يتصل بحاجاتنا اليومية ويمت إليها بصلة. ولكن لم تعد المسألة مسألة روح أو فكرة أو أحلام. لقد مات الفن.
الفن هو التأمل. هو لذة العقل الذي يبحث في أغوار الطبيعة والذي يقدس فيها الروح التي تسود الطبيعة نفسها. هو متاع الذهن الذي يستشف الكون والذي يعيد خلقه بنظرة فاحصة صادقة. الفن هو أسمى رسالة للإنسان لأنه يعبر عن الفكر الذي يبحث ليهتدي إلى تفهم العالم وليجعل العالم جليا مفهوما.
يعتقد الإنسان اليوم أنه يستطيع الحياة بدون فن. انه يأبى أن يتأمل أو يتيه في مهامه الفكر أو يسبح في عالم الخيال. يريد أن يستمتع استمتاعا ماديا، أنه يقنع بإشباع شهواته الجسمانية، أما سمو الحقيقة وأغوارها فلا يعبأ بها أو يعيرها اهتماما. فإنسان اليوم حيواني الميول لم يخلق من الطينة التي خلق منها الفنانون.
وفضلا عن ذلك فالفن هو الذوق. هو ما ينعكس من قلب الفنان على كل ما يبتدعه من الأشياء. هو ابتسامة الروح الإنسانية للمنزل والأثاث. وهو جمال الفكرة والشعور مجسما في كل ما ينفع الإنسان. ولكن كم من معاصرينا يشعر بضرورة شيوع الذوق في المنزل والأثاث، كان الفن منتشرا بكل مكان في فرنسا في أيامها الخوالي. فكان أوساط الناس،
حتى الفلاحون منهم لا يستعملون من الأشياء إلا ما يفرح العين ويسرها. كانت مقاعدهم وموائدهم وقدورهم وقواريرهم جميلة. أما اليوم فقد اختفى الفن من الحياة اليومية، حتى ليقول بعض الناس أن الجمال لا يشترط توفره فيما هو مفيد من الأشياء. . . كل شيء قبيح خال من الرشاقة، تصنعه آلات غبية في سرعة وعجلة. أما الفنان فينظر إليه كما لو كان خصيما مناهضا. آه يا عزيزي جيزيل، أتريد أن تبسط آراء الفنان وأن تبرز أفكاره؟ ماذا بك؟ دعني أتفحصك! إنك وايم الحق لإنسان عجيب).
فقلت: (إني لأعلم أن الفن هو أقل ما نعني به في عصرنا هذا، ولكني آمل أن يكون هذا الكتاب بمثابة احتجاج على الآراء السائدة الآن، كما آمل أن يوقظ صوتك معاصرينا وأن يساعدهم على أدراك الجرم الذي يجرمون بفقدهم أجل شطر من تراثنا القومي ألا وهو الشغف الشديد بالفن والجمال). فأجاب رودان (عسى الله أن يسمع منك)
كنا نسير الهوينا بمحاذاة البناء المستدير الذي اتخذه مرسما. فشاهدت كثيراً من التماثيل القديمة الفاتنة في حمى السقيفة. فهذا تمثال صغير لعذراء مقنعة بعض الشيء تواجه خطيبا رزينا مشتملا بعباءته. وقريبا من هذين يوجد تمثال لكيوبيد ممتطيا ظهر وحش من وحوش البحر، ويقوم وسط تلك التماثيل عمودان رشيقان كورينتيان من الرخام الوردي اللون. ويدل احتشاد تلك القطع الثمينة في ذلك المكان على ولع مضيفي بالفنين الإغريقي والروماني.
وثمة بجعتان ناعستان على حافة بركة. فما إن مررنا بهما حتى مطتا رقبتيهما الطويلتين المقوستين وأرسلتا فحيحاً مغضبا. ولقد دفعتني وحشيتهما إلى الجهر بأن هذا الطير ينقصه الذكاء. ولكن رودان أجابني ضاحكا: (حسبه ما به من جمال الخطوط، وفي ذلك الكفاية).
وبينما كنا نمشي الهوينا بدت هنا وهناك محاريب صغيرة أسطوانية الشكل من الرخام حفرت بها اضافير الأزهار. ويوجد تحت عريشة بديعة يعلوها نبات متسلق نضير الخضرة وتمثال صغير لمثرا بدون رأس يعلوها وهو يتقرب بثور مقدس. ويوجد عند مفرق طريق معشوشب تمثال إيروس نائما على فروة أسد، وقد غلب النوم ذلك الذي يروض الوحوش ويغلبها على أمرها. وعند ذلك سألني رودان قائلا: (ألا ترى أن الخضرة هي أنسب شيء توضع بينه التماثيل القديمة؟ ألا تستطيع أن تقول عن أروس هذا الصغير
الناعس بأنه إله الحديقة؟ أن لحمه ذا الغينات لشبيه بتلك الأوراق الخضراء في نضارتها وصفائها. لقد أحب فنانو الإغريق الطبيعة حيا جما حتى أن تماثيلهم لتزهو فيها كما تزهو في عناصرها التي قدت منها).
ولنبحث الآن هذه الفكرة: أنا نضع التماثيل في حديقة، كيما نجمل بها تلك الحديقة. ولكن رودن يضعها بها كيما تكتسب تلك التماثيل جمالا منها. وعنده أن الطبيعة هي أبدا صاحبة الكلمة العليا والكمال الذي لا يحد.
وتقوم عند أصل شجرة من أشجار الاسفندان جرة إغريقية من فخار وردي اللون يغلب على الظن أنها كانت منطرحة بقاع البحر قرونا عدة وقد درست وتشبثت بمسامها بعض الطحالب وغيرها من عرماض البحار الجميلة، فيخيل لمن يراها أنها أغفلت هناك عن قصد، ومع ذلك فما كان يمكن أن تعرض لأعيننا بأجمل مما كانت عليه، لأن ما كان طبيعيا هو غاية الذوق ومنتهاه.
ثم شاهدنا بعد ذلك بدنا لفينوس من غير ما رأس أو أوصال قد أخفى ثدياه بمنديل عقد وراء الظهر فيتبادر إلى ذهن الرائي أن أحداً من متكلفي الحياة يحدوه حياء مصنع - قد آلى على نفسه أن يستر تلك المفاتن.
ولكن من المحقق أن مضيفي لم يشاطر موليير رأيه في هذا الحياء المصنع. لأنه أفصح لي عن سر ذلك قائلا (أنا الذي أخفيت ثدي هذا التمثال لأنه أقل جمالا من بقية أجزاء البدن) وعند ذلك أدار مزلاج باب أدخلني منه إلى شرفة أقام عليها واجهة ذلك القصر الذي ذكرته منذ هنيهة والذي يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر. تبدو هذه القطعة النبيلة رائعة حقا إذا ما شوهدت عن كثب. أنها مدخل على رأس سلم من ثماني درجات، حفرت على الإفريز الذي يعلوه والذي يقوم على عمد تمثال تيميس تحيط بها ملائكة الحب. وهناك قال مضيفي:(قديما قام هذا القصر الجميل على منحدر تل مجاور بأيساي وكنت كلما مررت به أبديت إعجابي بجماله، ولكن سرعان ما اشتراه السماسرة وقوضوا بناءه. .) وعند ذلك لاح بعينيه وميض الغضب وقال: (لا تستطيع أن تدرك مقدار الفزع الذي تملكني عندما شاهدت هذه الجريمة ترتكب. آه يا للفظاعة! أيهدمون هذا البناء الجميل؟ لقد أثر ذلك في نفسي كثيراً كما لو كانوا يمثلون بجسم عذراء جميلة على مشهد مني).
لفظ رودان هذه الكلمات بصوت ملؤه الخشوع العميق. ولا ريب أن في ذلك ما يشعرك بأن جسم الفتاة الأبيض البض هو أسمى وأروع المخلوعات في نظره. بل هو أعجوبة الأعاجيب! ثم وصل حديثه قائلا: (سألت أولئك الأوغاد الأنذال أن لا يبددوا الأنقاض وأن يبيعونيها فرضوا. ثم أمرت بالأحجار فأحضرت إلى هنا وشددت بعضها إلى بعض على أحسن ما استطعت. ولسوء الحظ لم أرفع إلا حائطا واحداً إلى الآن كما ترى).
ولتعجله وشدة تلهفه على الاستمتاع بذلك الأثر الفني البديع لم يتبع رودان الطريقة المثلى التي تقضي بأن تقوم حوائط البناء جميعها في وقت معا. وللآن لم يبن إلا جانبا واحداً من القصر. وإذا ما قاربت بابه الحديدي ونظرت من خلاله رأيت أرضا مخطوطة مشقوقة بها قطع من الأحجار تدلك على تصميم البناء المنتظر. حقا إنه قصر أحلام بل وقصر فنان! ثم غمغم مضيفي قائلا: (حقا لقد كان بناؤونا القدماء رجالا عظماء لا سيما عندما نقارنهم بخلفائهم من بنائي اليوم الذين لا يستأهلون شيئا.) قال ذلك ثم قادني إلى طرف من أطراف الشرفة حيث يظهر له جمال الوجهة بأجلى مظهر وصاح قائلا: (انظر كيف يعترض طيفه السماء الفضية بانسجام عظيم، وكيف يشرف على الوادي الذي يمتد من تحتنا.) ثم ذهل برهة وانتظم بصره المشغوف أثناءها ذلك الأثر القديم وما يترامى حوله من المناظر.
وترامت أبصارنا من المرتفع الذي كنا عليه إلى آفاق بعيدة، فهناك نهر السين تنعكس على صفحته البلورية سطور طويلة من ظلال أشجار الحور، يتخذ شكل عروة عظيمة من الفضة عند ما يتدافع إلى القنطرة عند سفر وتلي ذلك منارة سانت كلو البيضاء الصاعدة في الجو أمام تل أخضر. وأما مرتفعات سورسن الزرقاء وجبل فاليريان فكانت تبدو كأنها ذرت بهباء من الأحلام. والى اليمين من ذلك ترى باريس - باريس الهائلة - تمد مهادها إلى الأفق البعيد وقد نضد بمنازل عديدة تبدو صغيرة على البعد حتى ليخيل للرائي أن في استطاعته أن يستجمعها بكفه، باريس التي تبدو لأول وهلة عظمية سامية كأنها بوتقة هائلة تفور وتجيش بذلك المزيج العجيب من اللذات والآلام، وبالقوى الزاخرة وبالمثل العليا الموموقة.
محمد بهجت
الحرب والعلم
للأستاذ محمود عماد
أصِلح المذياع نسمع ما يذاع
…
أفلا نَنعم حتى بالسماعْ
إن تلك الحربَ أودتْ بالمتاعْ
…
في مناحي اللمسِ منا والبصرْ
ذَكروا الصُّلح فقلتُ استعْجَلوا
…
أفلم يبقَ لديهمْ مَنزلُ
يُبتلى أو يبقَ حيُّ يُقتل؟
…
إنما الشر بخير والضررْ!
أنْ سِتَّا من سنين دامياتِ
…
لفناءِ الأرضِ ليست كافياتِ
لم نزل فيها بقايا من نباتِ
…
وبقايا حيوان وبشرْ
لم تزل في الأرض نيرانُ مواحقْ
…
في البراكين استقرتْ والصواعقْ
وبأضلاع وأكباد حوانقْ
…
مثل سقطِ الزندِ ترمى بالشررْ
إن يكنْ أعياهمو هَرْسُ الفرائسْ
…
لحديد لم يُوفرْ للمهاراسْ
فلديهم بعدُ صلبانُ الكنائسْ
…
ومن الأجراسِ شيءُ مدخرْ
صار ما قد حرَّموا للحرب حِلاَّ
…
لو أرادتْ ضربوا الليلَ فولى
أو رموا بالصبح عنه فتدلىَّ
…
ثم قدُّوا الشمس أو هدوا القمرْ
كيف ننسى أسْهما جِدّ بِطانِ
…
من مدَار الجَدْي تُلقى في اتزانِ
فيُلَقَّاها مدارُ السَّرطانِ
…
منْ تُرى يحملها طول السفرْ؟
هو جِنِّيٌّ له في الجِنْةِ اسمُ
…
واسمه العِلُم فهلْ عندكَ عِلمُ؟
أينَ منه قُمقمُ صُلبُ وخَتمُ
…
لِسليمانَ كما تَروي السيرْ؟
لا بجيدُ العِلمُ أن يُحيَ ميتا
…
بينما يبدعُ في الأحياءِ موتا
فهو مجنونُ وإن خِلناه ثَبتا
…
وجنونُ العلم مرهوب الأثرْ
هو دجالُ يرينا الضرَّ نفعا
…
وإذا أَحسنَ وترا ساء شفعا
فاحذروا يا قوم من قد جاء يسعىَ
…
هاهو الدَّجالُ في الدنيا ظهرْ
إن يقل أنيَ سخَّرتُ الحديدا
…
أو يقل أني أدنيت البعيدا
أو يقل طرتُ وجاوزت الحدودا
…
فلويلٍ وثبور وخطر!
يُتعبُ الجاهل قتلُ اثنين غدْراً
…
بينما العالم يُفْنِي الألف فوراً
أي هذين إذن أكثرُ شراً؟
…
لا تقولوا الشِّعرُ بالعِلم كفر
لستُ رجعيا إذا كنتُ أَصيح
…
ارجعوا للغابِ فالغاب مريحُ
إن يكن في الغاب زأر أو فحيح
…
يُنْجنا منه قليلُ من حَذَر
ليس يؤذينا لدَى جار شجارُ
…
بينما اليومَ إذا لاحَ شرارُ
عند قطبٍ غالتْ الآخرَ نارُ
…
كم لقطب عند قطب من وطر!
لا تحبُّ الجهل بل تنشد أَمنا
…
أن أتى العلم به بالعلم دِنَّا
وإذا اعتدَّ بسكينٍ هتفنا
…
امنعوا الجزار عن وادي البقر
ما بحسبي أنني أن رُمت أمراً
…
نلتُه فوراً إذا حركتُ زرْا
فبهذا الزِّر قد أُصْهرُ صَهراً
…
ليتَ منْ أَخلص يوما ما غدرْ!
أننا عن كلْ نفع في غَناء
…
أن يكن من نوع نفع الكهرباءِ
فالذي يكمنُ فنها من بلاءِ
…
بعد هذا لجديرُ بالنظر
أن حرب العلم أوحت دون علم
…
أن حرب الجهل كانت شبه سَلْم
والذي اليوم رمى أولَ سهم
…
شرُّ سهمٍ هو في قوس القدَر
عصَّبوا الحرب وغطَّوا مقلتيها
…
فمضت في الأرض ترعى جانبيها
ليت شعري ما الذي أبقيت عليها
…
ليردَّ الجوع عنهم إن حضر؟
أنهم قالوا خشينا الموت جوعا
…
فشَبَبْنا الحرب كي نحيا جميعا
أفلم يَلْقَوا بها موتا شنيعا؟
…
لم يشبوها لجوع بل بَطَرْ!
بل همو جاعوا بها لم يشبعوا
…
والذي قد أشبعوه المدفع
ونسورُ في الصَّياصِي جوّع
…
حَمِدَ الظيف قراهم وشكرْ
اسألوا (الفُهْرُرَ) كمْ (دنزيجَ) أُوتِي
…
واسألوا (الدُّتْشِي) أَتاهُ كمْ (جبوتِي)
كم (بروما) من كراس وبيوت
…
دكَّها (كرسي القناة) المنتظر؟
أين يا (دتشي) حصان أبيض
…
فوقه جئت (لمصر) تركض
ما له من بعد جهد يرفض
…
عبر (مصر) وبك البحر عبر؟
رمت تبني ما بنى (اسكندر)
…
فتولى ما بناه (قيصر)
ما الملايين التي تستنفر؟
…
الملايين الثمانون صور
قلت: أن قلتُ لجيشي هات (مصرا)
…
نال (مصرا) ثم نال (الهندَ) قهرا
أَلهذا فات (روما) ثم فرَّا
…
و (طرابلس) و (تانا) و (هرر)؟
كم على دبابة قد قمتَ تهزي
…
وتهزُّ السلم فينا أي هزَّ
فاخطب اليوم على دودة قزّ
…
وارقب الهزَّ بأوراق شجر!
اهبطْ القيعان من بعد الروابي
…
واصحب (الفُهْرُرَ) يا خير الصِّحاب
واخطبا الناس بسلم مستطاب
…
بعد حرب، فمن القاع الدرر!
اخطبا اليوم بآيات كريمة
…
واذكرا الرحمة من بعد الهزيمة
أين كانت هذه النفس الرحيمة
…
عندما شارفتما (بحر الخزر)؟
يا شرار الأرض ليس العيش شراً
…
أنَّ خيراً أن يكون العيش خيرا
ليست الدنيا لكم إلا ممراً
…
كيف يرجى في ممر مستقر؟
أن نور الشمس حقُّ للجميع
…
فبم اختصّ فريقُ بالشموع
ليتهم يقضون فيه بالشيوع
…
عندما يُحْصونه في (المؤتمر)
محمود عماد
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
سكر وكحول من النشارة
كم من نشارة الخشب والمواد النباتية نلقي كل يوم؟ إننا نحاول لاستغلالها في إشعال الأفران. فهل نحصل على أكمل فائدة منها؟
نتخلص كل يوم من أطنان من المواد النباتية. وينظر الكيماوي إلى هذه المواد أسفا لأنه لم يتوصل إلى طريقة يستطيع بها إعادة ترتيب عناصرها الأولية فيخرج منها مواد ضرورية للحياة. فهو يعرف أنها تتكون من كربون وإيدروجين وأكسوجين. وبعضها العناصر الأساسية في السكر والكحول والبترول.
والعقبة الكبرى هي إعادة هذا التكوين بطريقة تجارية نقلل نفقات صنعها حتى تصلح للاستهلاك العادي. وقد تمكن 12 عالما أميركيا في صيف السنة الماضية من تذليل هذه الصعوبة فحولوا نشارة الخشب إلى كحول وسكر. فمن 500 رطل من النشارة العادية حصلوا على 250 رطلا من السكر في 8 ساعات وحولت الأخيرة بدورها إلى 12 جالونا ونصفا من الكحول في 24 ساعة
ومعنى هذا أن الطن من النشارة يتحول إلى نصف طن من السكر أو 50 جالونا من أثيل الكحول. وهو غير المادة الكحولية المعروفة باسم ميثل وهي سامة وتستخرج من الخشب أيضا؟
ومن المعروف أن استخراج الكحول من الخشب عملية قديمة. على أن النجاح الذي أحرزه العلماء أخيراً كان استخراجه بنفقات زهيدة، فلم يتجاوز إنتاج الجالون 50 مليما، وفي زمن قصير، إذ تيسر إنتاجه في ثلث المدة السابقة
وكان هذا الكشف العلمي عاملا قويا ساعد على سد الحاجات العسكرية والمدنية في الولايات المتحدة التي قدر استهلاكها في السنة بـ 640 مليون جالون ينفذ منها في صناعة المطاط الصناعي 330 مليونا ويوزع الباقي على صناعات المفرقعات والنسج وغيرها، ولا تنتج هذه البلاد في الواقع إلا 590 مليونا فأتاح لها هذا الاكتشاف تعويض النقص
وتقدر نشارة الخشب التي تتخلص منها المصانع بالحريق بـ 30 مليون طن يكفي أقل من
نصفها لإنتاج كل حاجة الولايات المتحدة العسكرية والمدنية
ووضع الفنيون تصميمات مصانع إنتاج الكحول من نشارة الخشب فقدرت نفقات واحد منها ينتج 150 مليون جالون في السنة بمبلغ 18 مليون جنيه. وقدروا إنه باستهلاك مخلفات النشارة كوقود يخفضون تكاليف الإنتاج بنسبة 20 إلى 25 %
فترة النقه وأسبابها
من أعقد المسائل التي يواجهها الطبيب ومريضه فترة النقاهة فان جميع أسباب العلة تزول، ومع ذلك يظل المريض فترة قد تصل إلى أسابيع يشعر أثناءها بارتخاء في أعصابه وعدم قابلية للعمل أو الحركة. فلماذا ينتاب الإنسان هذا الإحساس؟
لم يستطع أحد حتى الآن تفسير هذه الظاهرة وان كانت تعلل بأسباب مختلفة لم يقتنع بها الطب. ولهذا عكف بعض الأطباء على دراسة هذه الظاهرة دراسة عمية حتى يوفروا على المرضى كثيراً من سأم دور النقه
ويشرح الدكتور ريتشاردز الحالة بأنه عندما يصاب الإنسان بجرح أو مرض فان الضرر لا يؤثر في العضو المصاب وحده بل يشمل كل أعضاء الجسم، فيقل تركيز الدم، ويتأثر الجهاز العصبي، وتختل نظم التغذية لمدة طويلة لا يعتبر فيها المريض معافى ألا أن عادت إلى حالتها الطبيعية.
ويبحث الأطباء الآن في العلاقة بين هذه الظواهر ليتوصلوا إلى تقرير ما يجب عمله في أدوار النقة للمرضى
القهوة وقرح المعدة
أعلن ثلاثة من الأطباء في اجتماع الجمعية الطبية الأميركية أنه من الميسور معرقة الأشخاص المعرضين للإصابة بقرح المعدة بواسطة شرب القهوة. فقد وجدوا أن شراب القهوة يؤثر تأثيراً ضاراً على شخص من كل عشرة أشخاص من المصابين بالقرح أو المعرضين للإصابة بها.
فإن المعدة تتأثر بشراب القهوة وتفرز حامضاً قويا غنياً بالببسين، وهذا التأثير سريع الزوال في الأشخاص العاديين بينما يطول أمده في الأشخاص المصابين بقرح المعدة أو
المعرضين للإصابة بها، ومن ثم يستطيع الطبيب أن يدرك استعداد الإنسان للإصابة بهذا المرض. وجرب مفعول مخدر القهوة على مجموعة من القطط بحقنه في عضلاتها فأصيب منها 40 إلى 50 في المائة بقرح المعدة.
ويعتبر الأطباء من يتناول أربع أو خمس فناجين قهوة في اليوم من المدمنين. ومن السهل تخفيف أضرارها بإضافة السكر أو الكريمة إليها، أو بتناولها مع الطعام فان هذه المواد تخفف حدة تأثيرها إلى 60 في المائة. فإذا اعتبرنا القهوة التركية السوداء 100 % فان تأثير القهوة الفرنساوي يكون 90 % والشاي 60 %
ويقول أحد الأطباء إن في القهوة عاملين يؤثران على الإنسان: أحدهما يؤثر على المخ والجهاز العصبي وهو الذي يؤدي إلى حالة الصحو، والآخر يؤثر على خلايا المعدة مباشرة وهو الذي يؤدي إلى حالة قرح المعدة أو يبين استعداد الإنسان للإصابة بها.
أنف بدل المفقود
تقدمت جراحة التجميل خلال هذه الحرب خطوات واسعة فتيسر بها إعادة كثير من الوجوه إلى حالتها الطبيعية. والفضل الأكبر في هذا التقدم يرجع إلى اكتشاف الأطباء لكثير من المعلومات الهامة عن المخدرات وفن (التبنيج) مما أتاح لهم حرية العمل في عملية واحدة لمدة أربع سنوات متواصلة مما كان يبدو مستحيلا منذ 25 سنة.
ويتعرض الإنسان في هذه العمليات إلى عدة مضاعفات مثل فقد الدم وتسمم الجروح وتيسر تعويض دم المصاب بنقله إليه من الخارج، كما منع اكتشاف البنسلين حوادث التسمم.
وليس معنى هذا أن الطب يستطيع تعديل تقاطيع الوجه كما يعدل المثال في قطعة من طين، فلم يوفق جراحو التجميل إلى تركيب أنف أو فك أحسن من الأنف أو الفك الأصليين، حقيقة إن وفرة المصابين في القتال أتاحت لهم إجراء عدة عمليات لم تكن معقولة فأعادوا لبعض الجنود أنوفا غير التي فقدوها في الميدان ولكنها لم تكن في إتقان الطبيعية
وتستطيع جراحة التجميل بما تستعمل من حيل إعادة الجلد المحروق والمتسلخ إلى طبيعته، فان كان كثيراً فأنها لا تضمن أن تترك فيه أثر المشرط لعدة أسباب، منها أن شرائح الجلد المأخوذة من أجزاء أخرى من الجسم تختلف في لونها وسمكها وبنائها عن جلد بشرة
الوجه، فان كان الحرق أو التسلخ عميقاً حتى يتلف أنسجة الأعصاب فمن الصعب إصلاحه
واستطاع أحد العلماء ابتكار آلة دقيقة تقطع شرائح اللحم بأي سمك يطلب منها حتى تتفق مع المكان الذي ستوضع فيه فلا تكون سميكة ولا رفيعة
مواد التلوين والصناعة
المواد الكيماوية المستعملة في تلوين الأحذية والكتب من المسائل الهامة الآن لحفظها أطول مدة ممكنة، فكلما احتفظ الجلد بكمية وافرة من الحوامض كلما عاش مدة أطول، ولكن العكس مطلوب في صناعة ورق الكتب الثمينة، إذ يجب أن يحتوى على كمية من القلويات فان الحوامض المبيضة تتلف الورق.
وتتناول الأبحاث الأخيرة في التلوين عدة صناعات وزراعات من الألبان المحفوظة إلى الزهور. فقد وجد أحد الكيميائيين أن الورد الأحمر وزهر القمح الأزرق يتلون في الطبيعة بنفس المواد. ومع ذلك فلوناهما مختلفان. ويرجع ذلك إلى أن خلايا الورد تغلب عليها المركبات الحمضية، بينما خلايا زهور القمح تغلب عليها المركبات القلوية. وبتفاعل المادة الملونة مع أحماض الوردة ينتج اللون الأحمر. أما تفاعل نفس المادة مع قلويات الزهرة فينتج اللون الأزرق.
واستنبطت من هذه النظرية عدة قواعد هامة في تلوين المنسوجات، ومنع مواسير المياه من الصدأ، وفي صناعة حفظ الأغذية في الأوعية المعدنية.
ونال البسكويت نصيبه من الأبحاث الجديدة، فوجد أن لونه يسمر إن كانت القلويات كثيرة في الدقيق، ويبيض ويصير هشا إن زادت كمية الأحماض في العجينة
فوزي الشتوي
القصص
المجنونة
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأديب إبراهيم عند الرحمن خليل
كان السيد ماتيو داندولان والسيد روبرت دي بونيير يتجاذبان الأحاديث عندما وجه داندولان نظر صديقه إلى طيور برية قائلا: تذكرني هذه الطيور يا صديقي بحادث مؤلم من حوادث الحرب. . . أنت تعرف أملاكي في ضاحية (كورمي) التي أقيم فيها منذ احتلها البروسيون، وكانت جارتي (جادي) قد اعتراها نوع من الجنون بسبب حوادث مفجعة تتابعت عليها فأثرت فيها تأثيراً عنيفاً، فقد فقدت المسكينة في شهر واحد أباها وزوجها وأبنها الصغير، وكان حديث الولادة، وهكذا عندما يزور الموت منزلا أول مرة، يعود إليه ثانية كأنه يعرف الطريق. . . صرعها الحزن فلزمت الشابة البائسة فراشها وهي تهذي ستة أسابيع كاملة وتوالت عليها أزمات حادة ظلت بعدها خامدة عديمة الحركة، لا تكاد تتناول شيئاً من الطعام إلا بالجهد الشديد، لا يتحرك فيها إلا عيناها، وفي كل مرة حاولوا تغير موضعها كانت تصرخن بشدة كأنما يراد قتلها، فتركت نائمة كما شاءت وتوفرت على خدمتها سيدة عجوز طيبة القلب كانت تقدم لهما الماء من وقت إلى آخر مع قطعة من اللحم البارد تلوكها بين أسنانها. . . ما الذي كان يدور بخلدها المشتت؟ أكانت تحلم بالذين ماتوا؟ لم يعرف ذلك أبداً، لأنها لم تتكلم أبداً، ولأن فكرها المضمحل، ظل عديم الحركة كالماء الراكد. ومرت خمسة عشر عاما وهي على تلك الحال؛ مغلقة النفس، خامدة الحركة. . . جاءت الحرب، وفي الأيام الأولى من ديسمبر، تغلغل البروسيون في كورمي.
وكان الجو باردا والثلج يتساقط، إني أذكر هذا اليوم كأنه الأمس القريب، وكنت ممدداً على كرسي مستطيل بجوار نافذتي مريضاً بداء المفاصل، أسمع وقع أقدامهم الثقيلة وخطواتهم الرتيبة، وأراهم من النافذة صفوفا لا نهاية لها يبدون في حركاتهم المنتظمة كأنهم دمى تتحرك بخيوط مشدودة، وقد أمر القائد بتوزيع الرجال على سكان القرية فكان نصيبي منهم سبعة عشر رجلا ونصيب جارتي البائسة اثنا عشر رجلا، بينهم القائد وهو رجل عسكري
قديم، حاد الطبع، غليظ الخلق. قيل له أثناء إقامته بالمنزل إن ربة الدار سيدة مريضة لم تفارق فراشها منذ خمسة عشر عاما متأثرة بحزن شديد أصابها ولكنه لم يقتنع بهذا، من غير شك، فقد توهم أن الذي منعها من استقبالهم إنما هو كبرياؤها واشمئزازها أن ترى البروسيين أو تحادثهم، فطلب مقابلتها وأدخل إلى غرفتها، فما إن رآها حتى خاطبها بصوت جاف خشن وبلهجة ركيكة فيها كثير من التحريف. . . أرجوك يا سيدتي أن تنهضي من فراشك وأن تنزلي لكي يراك الجميع. . . ولكن المرأة المسكينة أدارت نحوه عيونا مبهمة فارغة ولم تجب فأعاد بلهجته الغريبة مرة ثانية. . إذا لم تنهضي بإرادتك فسنجد وسيلة لإرغامك على نزهة فريدة. . ولكن المسكينة لم تأت بأي إشارة، كانت دائماً عديمة الحركة كأنها لا تراه، فتملكه الغضب، وظن أن السكوت منها علامة احتقار بالغ له، فأضاف مهدداً - إذا لم تنزلي يا سيدتي غدا. . . ثم أدار وجهه وانصرف.
وفي اليوم التالي، أرادت خادمتها العجوز الطيبة أن تلبسها ملابسها قبل أن يحضر الضابط ولكن المجنونة صرخت بأعلى صوتها في هياج شديد، ولم تجد أي محاولة معها. وفي هذه اللحظة صعد الضابط مسرعاً ليرى تنفيذ أوامره، فخرت الخادم على أقدامه مستعطفة صارخة، إنها لا تريد يا سيدي، أنها لا تريد، اصفح عنها، أنها بائسة تعسة.
ظل الجندي القديم، مشبكا ذراعيه كاظما غيظه، وفجأة انطلقت منه ضحكة عالية، وأعطى بالألمانية أمراً إلى رجاله، ورأى الرجالة يحملون المريضة بفراشها كما يحملون جريحاً في الميدان، ورأى في المؤخرة رجل يحمل حزمة ملابس نسائية.
المجنونة ساكنة هادئة لا تقاوم، ولا تبالي بالعواقب، كأنها نائمة نومتها الهادئة في منزلها العتيق. فرك الضابط يديه سروراً قائلا: سنرى جيداً إذا كنت تستطيعين أن تلبسي وحدك، وأن تقومي بنزهة صغيرة. . الموكب يسير مبتعداً متجهاً إلى غابة ايموفي. . . وقد مضت ساعتان عاد الجند بعدهم منفردين. . . ولم تعد المجنونة ثانية. . . ماذا صنعوا بها؟ والى أي مكان حملوها؟ لم يعرف أحد ذلك مطلقاً. الثلج يتساقط ليلا ونهاراً، وبدا الوادي في نعومة المخمل، أما الغابة فقد كفنها الجليد بثوب من الزبد المثلج، والذئاب تعوي حتى أبواب المنازل، وذكرى هذه المرأة المفقودة لا يفارقني.
قمت بجولات متعددة قريباُ من مناطق البورسيين مؤملا الحصول على معلومات عنها
ولكني لم أفز بطائل، فظننت أنهم ربما قتلوها رمياً بالرصاص.
عاد الربيع، وابتعد الجيش عن القرية ومنزل جارتي المسكينة ظل مغلقاً تنبت الحشائش في أبهائه، والخادم العجوز في أثناء الشتاء، ولم يعد أحد يشغل نفسه بهذه الحادثة، ولكني - أنا نفسي كنت أحلم بها بلا انقطاع.
ماذا صنعت هذه المرأة؟ أهربت مخترقة الغابة؟ أم عثر عليها بعض المارة فأدخلها مستشفى قبل أن يستطيعوا الحصول على معلومات عنها؟
لم أجد ما يخفف حدة الشك في نفسي، ولكن الزمن خفف هذا الألم شيئاً فشيئاً. وجاء الخريف، وتتابعت أسراب الطيور البرية، واسترحت من مرضى قليلا فاندفعت نحو الغابة للصيد، وأصبت خمساً أو ستاً من ذوات المنقار الطويل، وكنت أبحث عن واحدة وقعت في حفرة صغيرة وسط فروع الأشجار، واضطررت إلى النزول في الحفرة لالتقاطها، ولكني سقطت على رأس ميتة، وفي الحال ترددت في صدري ذكرى المرأة المجنونة كأنها لكمة قوية، لقد كنت متأكداً أني سأقابل هذه البائسة يوماً ما، وفجأة فهمت، وفرضت كل شيء، لقد حملها البروسيون إلى هذه الغابة الباردة وأهملوها، وتركت المسكينة نفسها الخاوية تموت تحت وطأة البرد، وزغب الثلج المساقط، لا تحرك يداً ولا رجلا، ثم جاءت الذئاب الجائعة فافترستها، والطيور بنت أعشاشها من صوف فراشها الممزق.
حفظت هذا الحطام الحزين، وأقمت له النذور ودعوت الله ألا يرى أولادي الحرب أبداً.
إبراهيم عبد الرحمن خليل
الكتب
في عالم الكتب
محمد عبده
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
(محمد عبده) يدخل في سلسلة (أعلام الإسلام) نصاً وروحاً. ولقد أحسنت اللجنة التعجيل بإخراجه في أول السلسة، كما أحسن الدكتور عثمان أمين في اختيار الشخصية التي يقدمها من أعلام الإسلام.
ومن أولى المسلمين بأن يترجم له في الأعلام مثل الأستاذ الإمام؟ لقد عبنا على اللجنة إقرارها ترجمة (بشار) و (أبي نواس) ولكننا اليوم نذكرها بالثناء لهذا الانتقاء.
والدكتور عثمان أمين عالم بالشيخ محمد عبده من طول ما قرأ له وقرأ عنه. حتى لقد شغل به نفسه في رسالته التي ظفر بها بإجازة (الدكتوراه). ولا يزال الشيخ شغلا لصديقنا المؤلف في الصحف تارة وفي الندوات الأدبية تارات. حتى ليصح القول إن عثمان أمين ظل لروح الإمام لو كان للأرواح ظلال.
لعل هذا الكتاب موجز لرسالة المؤلف التي قدمها إلى الجامعة؛ ولعله أوجز فيه - مراعاة لاعتبار الطبع والنشر - كل ما يمكن أن يعرف عن محمد عبده
وإيجاز الرسائل الجامعية عمل لا بأس به لمن يريدون أن يجعلوا العلم سهلا تناوله قريباً مأخذه.
ولعل ذلك كان هدف المؤلف حين قصد إلى إخراج كتابه في هذه السلسلة المألوفة المنتشرة.
وليس كتاب (محمد عبده) عملا أدبياً يضع صاحبه في مرتبة الأدباء. وأظن المؤلف لم يقصد إلى هذا من وراء كتابه ولا عناه. ولكنه عمل عالم مشتغل بالفلسفة أراد أن يرسم للقراء صفحة واضحة من حياة رجل اشتغل بالحياة الفكرية الفلسفية الإسلامية فكان علماً من أعلامها.
ومن هنا أخطأ الذين لاموا عثمان أمين على طريقته في كتابه؛ ووجه الخطأ في قولهم إن
(عثمان أمين) استعرض تاريخ رجل كما كان لا كما يريده المؤلف أن يكون. فهو يعرض الحوادث ويسوقها في تسلسل وحسن ربط وصحة عبارة وسلامة أسلوب. وهذا قصارى المؤلف في تاريخ الرجال. وما دام المؤلف قد بلغ بذلك العرض قصده من التعريف بحياة المترجم له فلا يعنينا بعد ذلك أن نبحث عن (مفاتيح الشخصية) التي يتحدث عنها بعض النقاد في هذه الأيام؟
وما حاجة المؤلف الواضح أن يصطنع (المفاتيح) ويتكلف البحث عنها ويدعي لنفسه فضل العثور عليها ما دامت الشخصية التي يتحدث عنها سهلة التناول واضحة للقارئ لا يجد فيها عناء ولا نصباً؟؟
الحق أن فكرة (مفاتيح الشخصية) هذه فكرة يلجأ إليها بعضهم حين يريد التجني على الكتاب لخدمة بعض الكتاب. وإلا فقد قرأنا (محمد عبده) لعثمان أمين ففهمنا حياة الشيخ من غير حاجة إلى (مفتاح). وكان المؤلف أفطن من أن يعنينا (بالمفاتيح) التي يقولون عنها في هذه الأيام!!
ولقد قرأت في الفرنسية كتاب لمؤلفه وهو من الكتب التي قرظها فلم أجد فيه (مفاتيح) بل وجدت الكتاب كله مفتوحا أمامي. . وقرأت في العربية كتاب (روزفلت) لفؤاد صروف وكتبت عنه في الرسالة الغراء فلم أجد الباب فيه إلى حياة روزفلت موصداً! وكذلك كان شأني حينما قرأت (محمد عبده)
إلا أن عثمان أمين لم يشر إلى المراجع التي وردت فيها أقوال من استشهد بهم، فقد ذكر أقوالا لأحمد بك أمين ولفضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي ولم يشر إلى مأخذها - (ص22) وذكر كلام لجورجي زيدان ولم نشر إلى مصدره صفحة 24، وروى للشيخ عبد الوهاب النجار كلاما ولم يذكر مصدره - صفحة 105
وذكر المراجع والمصادر والمأخذ في خلال الاستشهاد يسهل على مريد البحث المطول أن يرجع إليه في مصدره، وخاصة أن الدكتور عثمان لم يثبت في ذيل الكتاب مسرداً بأسماء مراجعه
وقد جره ذلك الإغفال إلى إغفال أعداد الصحف والمجلات التي نشرت فيها مقالات للشيخ خصها المؤلف بالذكر لأهميتها، فذكر العناوين فقط ولم يذكر أعداد الصحف التي شوقنا إلى
الاطلاع عليها وعنانا بالبحث عنها.
وفي الكتاب أعلام ذكرت الحروف الأولى منها ولم تذكر كاملة مثل (ع. ا. باشا) ناظر المعارف - ص 42؛ و (ل. بيك. س) الأستاذ بالمدرسة الحربية - ص 62.
ووجه الحكمة في إخفاء هذه الأعلام واضح في عصر محمد عبده حتى لا يتعرض الكاتب لأذى حاكم أو سخط رئيس. ولكني لم أفهم وجه الحكمة في أن يخفي علينا الدكتور عثمان أمين حقيقة هذه الأعلام بعد أن أصبحت في ذمة التاريخ. .
ولقد كان للشيخ محمد عبده رأى في الإصلاح الوئيد الثابت عن طريق التربية والتعليم لا عن طريق الطفرة والتطرف السياسي فكان كلام الدكتور في هذا منقطع الوشائج: ذَكَرهُ مواجزاً في صفحة 62، ثم عاد إليه مقتضباً في صفحة 120 حين تكلم عن جهود الإمام في الجمعية الخيرية الإسلامية. ولو عقد فصلا مستقلا في طريقة الإصلاح عند الإمام لوجد الكلام واسعاً موصولا. كما صنع أحمد أمين بك في الفصول الطيبة التي كتبها عن جمال الدين الأفغاني (راجع الثقافة - الأعداد من 264 إلى 269).
عيب الكتب التي تخرج دورية من شهر إلى شهر، أن كتابها يكتبون وهم مقيدون بقدر من الصفحات لا يتعدون حدوده! ولا يرضى مصدرو هذه السلاسل أن يتسع الكتاب أن يضيق تبعاً لموضوعه. ومن هنا يقع الكاتب في غل قد تأباه سليقته ولكن تحتمه عليه المناسبة (والظروف).
ومن هنا نجد كتب هذه السلاسل تنبسط هواديها وتنكمش أعجازها. . . تنبسط حين يبتدئ الكاتب في غير قيد، وتنكمش حين يحتم عليه تحديد الصفحات أن يقف في غير موقف! وأن يختم في غير مختتم! فترى آخر الكتاب ضيق الأنفاس على الضدَّ من أوله.
وكذلك كان الحال في (كتاب محمد عبده) فان محمد عبده المفتي لم يعرض كما عرض محمد عبده الطالب بالجامع الأحمدي في بضع الصفحات الأولى من الكتاب. ومحمد عبده المدافع عن الإسلام ص 126 لم يطل الكلام فيه كما طال مع الشيخ عليش صفحات 27 و28 و29 و30
إلا أن عثمان أمين يمتاز بالنصوع حتى على إيجازه، والحق أنني أحببته محدثا في ندوتنا الأدبية: ندوة الأحرار. وأحببته باحثاً في الفلسفة وكاتباً عن (محمد عبده). وأحببته فوق ذلك
مثالا رفيعاً لتواضع العلماء.
محمد عبد الغني حسن
هذه الشجرة
للأستاذ عباس محمود العقاد
للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد
لم يكد الفكر يثب لإخضاع كل شيء من مظاهر الوجود للدرس؛ والتحليل؛ والتجلية؛ حتى اصطدم بأسوار الشخصية الإنسانية؛ فلقد لبث حيالها طويلا لاقتحام مجاهلها؛ وإضاءة جوانبها وكشف سراديبها، متخذا شوا ردها وظواهرها وما بند عنها وينبعث منها في سكونها واضطرابها؛ في تألقها، وانطفائها؛ في إقبالها وأدبارها؛ وسيلة إلى النفوذ إلى أعماقها؛ ومع أنه استطاع بفضل تسجيل هذه الظواهر؛ واستقراء هذه الأطوار أن يقدم إلى حد كبير معلومات قيمة عن هذا العالم؛ وكنه تلك الشخصية المحجبة؛ وإن كان الكثير منها لا يزال رهنا بما يدعم قوته في المستقبل أو يهدمه؛ ومع أن هذه الدراسات قد شارفت الاستواء العلمي في الغرب، فهي لا تزال محاولات أوليه في اللغة العربية؛ تقوم على الترجمة حينا و - الاختلاس - حينا آخر. فإذا ظفرت اللغة العربية بهذا البحث عن شخصية المرأة ومحاولة تحليل هذه الشخصية؛ وحل الكثير من عقدها؛ والغوص إلى مصدر تجاوبها الروحي والنفسي، واتصال ذلك بنظرتها في الحياة ودخله في تكييف نفسيتها وتكوين خلقها وإبانة مواضع سلوكها وما يتصل بعواطفها وأحاسيسها؛ فقد كان فوزاً عظيما للغة والأخلاق؛ أما اللغة فقد اكتسبت ثروة في ناحية لا تزال يعوزها الكثير منها؛ فلقد كان يطامن من شخصيتنا العلمية خواء المكتبة العربية من هذا اللون من الدراسات على كثرتها وعمقها في المكتبة الغربية؛ وأما الأخلاق فلا تخدم إلا بأمثال هذه الأبحاث؛ لأن المصلح الأخلاقي إذا أخطئه الوقوف على حقيقة الدوافع النفسية ومصادر هبوبها؛ والعوامل التي تعمل فيها حتى يتهيأ له قيادها حيث تجب القيادة، ويطب حيث يكمن داؤها؛ فشلت إلى حد كبير رسالته؛ لا أقول إن هذا البحث قد قال الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع، أو أن كل ما فيه مبرأ من المآخذ التي يمكن أن تكون موضع جدل بين أساطين هذه الدراسات؛ بل ترجع قيمته إلى أنه أول بحث في اللغة العربية على ما أعلم - من نوعه؛ وأنه قد جمعت له من وسائل الفوز ما لا يظفر كثير بمثلها؛ فلقد تناوله ذهن منطقي بسليقته وطبعه؛ وقد نهل طويلا من أصفى مناهل المنطق؛ وعكوفه على هذه الدراسات
العميقة الدقيقة؛ في هذا الجانب النفسي؛ وما يتصل به عكوفا متواصلا؛ وليس أدل على ذلك من هذا الثبت في آخر الكتاب يرشدك إلى أن هذا الموضوع ليس وليد المصادفات الغريبة؛ بل هو كمين في ذهن الكاتب من فجر حياته الفكرية؛ ووقوفه التام على ما تجود به الأقلام في هذه الناحية؛ ثم صياغته صياغة محكمة طلية؛ كل هذا يضع هذا البحث من القلوب موضع الإكبار والحب؛ لأنه الباكورة الأولى التي نرجو مخلصين أن تتابع؛ وقيمة الكتاب يجب ألا تقاس فقط بكثرة ما يحمل من نظريات لا يحوم حولها النقد؛ بل يجب أن تقاس أيضاً بما يثير من آراء؛ ويبعث من أفكار؛ وينير من جوانب؛ ولعل هذا النوع يكون أطول بقاء وأقوى على النفع بما يتولد عنه ويتجاوب معه؛ وحسبي ذلك في تقديم هذه الشجرة، فليقبل عليها القارئ ليجنى ثمرها؛ ويهدأ في ظلها.
محمد عبد الحليم أبو زيد