الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 609
- بتاريخ: 05 - 03 - 1945
المدارس الأدبية
للأستاذ عباس محمود العقاد
من الحكايات الإنجليزية المروية أن بنتاً من بنات الفلاحين وصلت إلى العاصمة فرأت جنوداً مصطفة وزحاماً من الناس على جانبي الطريق وشرطا يذهبون وخيلا تعدو بفرسانها كوكبة بعد كوكبة، فعجبت لهذه الحركة التي لم تعهدها في قريتها وسألت ما الخبر؟ فقيل لها إنه الملك يعود إلى قصره من هذه الطريق. فوقفت تنظر مع الناظرين حتى عبر بها الملك في مركبته فنظرت إليه وهي لا تصدق ما تراه، وصاحت بمن حولها: عجبا! انه إنسان مثلنا، فلماذا يجتمع الناس لينظروا إليه.
هذه البنت الريفية توجد في كل بلد وفي كل زمن، لأن الدنيا لن تخلو يوما من أولئك الذين يغلو بهم وهم السماع فلا يعرفون الواقع حين يرونه، ويحسبون أن الأمور التي يتحدث بها الناس ينبغي أن تبدو للأنظار والأسماع على غير ما تألف وتعتاد.
وليس هذا بعجيب في أخلاق الجهلاء، ولكنه عجيب ولاشك حين يتصف به أناس يحكمون في الأدب والفكر ويقيمون الحدود بين الكتاب والشعراء ويزعمون أنهم يعرفون ويملون المعرفة على الذين لا يعرفون!
ومن هؤلاء كاتب في صحيفة سورية تناول ما كتبته (الرسالة) عن بعض المدارس الأدبية فقال كما قالت تلك البنية الساذجة: عجبا! أن هؤلاء إلا أناساً كسائر الناس، فكيف يكونون أصحاب مدارس في الكتابة أو الشعر كأولئك الذين نسمع عنهم من وراء البحار؟
وأظهر شيء تدل عليه تلك الدهشة أن (البنية الريفية) التي كتبت في تلك الصحيفة السورية لا تعرف مدرسة واحدة من مدراس الأدب في الغرب ولا في اللغة العربية، وإنما تعرف تلك المدارس على الوهم الذي يخيله إليها السماع ولا يتمثل لها لحظة في صورة الفهم الصحيح.
ولو لم تكن تلك (البنّية الريفية) كذلك لأدركت أن الأدب الغربي - منذ أربع أجيال على الأقل - لم تنشأ فيه مدرسة واحدة صنعت في أدب قومها بعض الذي صنعه أدباء العربية في الجيل الحاضر والجيل الذي سبقه، لأن الآداب الأوربية تجري منذ ألف سنة في طريق واحدة يتقدم فيها السالكون خطوة بعد خطوة ومرحلة إثر مرحلة، ولا ينتقلون فيها إذا انتقلوا
فترة بعد فترة إلا من مقدمة محضرة إلا نتيجة منتظرة، تمشياً مع الحركة المطردة من عصر اليونان إلى عصر النهضة التي جددت بعض مدارس اليونان، إلى عصر الإصلاح والثورة بلا انقطاع ولا انحراف، إلا في أيام الركود والجمود.
فقصارى ما تصنعه المدرسة الأدبية بين الغربيين أنها تزيد في المجاز أو تزيد في التعبير عن الواقع، وإنها تميل إلى الأسلوب المأثور أو تدخل عليه بعض التصرف والتعديل، وأنها تجمع إليها رهطا من الزملاء بينهم تشابه في المزاج وتقارب في الموضوعات أو تقارب في موضع الإقامة وفي المناظر التي يلتفتون إليها ويعنون بوصفها، ثم يرجع الناقد إلى أدب قومهم قبل ظهورهم وبعد ذهابهم فإذا هو متقارب متتابع لا وثبة فيه ولا جنوح عن الجادة التي مهدت من قديم الزمان.
ولا يستطيع أحد من أولئك السماعيين أن يترجم شعر خمسين سنة متوالية إلا بدا له أنه كالحلقة بعد الحلقة في سلسلة واحدة قلما تتباعد في أوساطها وإن تباعدت في أطرافها، وانه على الإجمال نوع واحد من الأدب في الصميم.
أما أدباء العربية في الجيل الحاضر والجيل الذي سبقه فقد صنعوا في تغيير مقاييس الأدب ما لم تصنعه مدرسة واحدة أوربية في الأجيال الأخيرة.
لأن اختلاف المقاييس هنا هو اختلاف بين لغة ولغة، وبين طبيعة وطبيعة، وبين إقليم وإقليم، وبين زمن وزمن، وبين موضوعات وموضوعات.
كانت مقاييس الأدب عندنا هي المقاييس التي يقال فيها هذا أغزل بيت قالته العرب، وهذا أهجى بيت قاله الأنس والجن، وهذا معنى لو تقدم صاحبه في الجاهلية يوما واحداً لكان أشعر الشعراء.
وكان الأديب العظيم معصوماً من النقد والملاحظة، فإذا نقد أو لوحظ عليه فإنما يجترئون عليه لأنه متأخر لا يستشهد بكلامه في العربية، ولا يكون اجتراؤهم عليه لحرية فكر أو صدق نظر إلى القول والموضوع.
وكان البيت وحدة القصيدة، وكانت القصيدة شتيتاً لا يشبه البنية الحية ولا يقبل الاسم والعنوان، إلا أن يذكر في صدرها أنها نظمت في تهنئة زيد أو رثاء فلان.
وكانت الدواوين كراسات مملوءة بالقصائد من حرف الهمزة إلى حرف الياء بغير تفرقة في
معارض الكلام ومعانيه إلا ما تعودوه في التفرقة بين باب المديح وباب الهجاء وباب الوصف وما شاكل ذلك من الأبواب.
وندع المنظوم والمنثور وننظر إلى الشعراء والكتاب أنفسهم فإذا هم كانوا في عرف العلية والسفلة متسولين أو ندماء يغشون المجالس للتسلية والترفيه، ولا تعرف لهم رسالة مرعية في عالم الفكر أو في عالم الروح.
كل أولئك قد تغير في جيلين، أو تغير معظمه في جيل واحِد، ثم لا يقال عن الذين غيروه إنهم جاءوا بمدرسة من مدارس الأدب أو بدلوا حالا بعد حال، ولا يزال كثيراً عليهم أن يشبهوا أولئك الأدباء الأوربيين الذين تنسب إليهم المدارس لأنهم كانوا يقيمون عند بحيرات الجبال ولا يقيمون في الحواضر والعواصم، أو كانوا يفصلون في مسائل الجنس والغرام ولا يجملون، أو كانوا من أهل التصريح في العبارة ولم يكونوا من أهل الكناية والإيماء.
جاء أولئك الأدباء الذين تستكثر (بنّيات الريف) أن تنسب المدارس إليهم فاستطاعوا في مدى قصير أن يغيروا النظرة إلى الأدب وأن يغيروا النظرة إلى الأدباء.
فليس أدباء العرب اليوم مسترفدين ولا ندماء اسمار، ولكنهم أصحاب صناعة مكرمة يضارعون في الكرامة أولئك الذين كانوا يمدحونهم ويتزلفون إليهم ويقفون على أبوابهم في انتظار جوائزهم قبل جيلين أو ثلاثة أجيال، وإذا أستطيع في الغرب تعظيم شأن الأدباء على هذا النحو فليس في ذلك من عجب وليس فيه كبير فضل للأديب ولا لأحد من أفراد الناس، لأن استغناء الكاتب أو الشاعر بأعماله بين أمم محيت منها الأمية وتعودت مطابعها أن تخرج من الكتاب الواحد عشرات الألوف من كل طبعة أمر غير عسير.
أما المعجزة حقاً فهي تعظيم شأن الأدباء في بلاد لا يزيد قراؤها على عشر أهلها، ولا تملك مطابعها أن تعمم نشر الكتب بين القراء القليلين وهم موزعون هنا وهناك بين شتى الأقطار.
وهذه المعجزة صنعها أولئك الأدباء يكثر عليهم أن تنسب المدارس إليهم!! ولم يصنعها الأدباء الذين تسمع بهم (نهيّات الريف) ولا يعقلون عنهم شيئا وراء السماع.
صنعوا هذا وصنعوا معه أنهم غيروا النظرة إلى الأدب كما أسلفنا فانتقلوا به من عصر إلى عصر ومن موضوع إلى موضوع ومن مقياس إلى مقياس، ولم يكن هذا الأمر ليتيسر في
البلاد الشرقية كما تتيسر نشأة المدارس في البلاد الأوربية، لأن تقرير المقاييس الحديثة هنا نقلة من القديم إلى الحديث مع اختلاف اللغة والمزاج والفكرة ونماذج التفكير والتعبير، وما كان هناك إلا حلقة صغيرة في سلسلة متشابكة الحلقات.
وسبيل المقابلة جهود الأدباء في الشرق وجهود نظرائهم في الغرب قريب جداً لمن يسمع ويعقل وإن كان بعيداً جداً عمن يسمعون ولا يعقلون. . . أو يعقلون وقصارى عقلهم أن يصيحوا كما صاحب بنيّة الريف: يا عجبا! إنه لإنسان كسائر الناس.
سبيل المقابلة أن تختار خمسون سنة من تاريخ الأدبيين، ثم يرى الناقد من ذلك مبلغ التفاوت بين البداية والنهاية في كل من الفترتين، ومبلغ الجهد الذي كان لازما لا غنى عنه في أحوال الأمتين وإلى جانب هذا يختار كاتب أو شاعر من أصحاب المدارس هناك تعرض له صفوة أعماله التي تتخذ للموازنة والمقابلة وتبني عليها المناقشة والمفاضلة، فلعل الكفة التي ترجح في هذا الميزان غير الكفة التي ترجح في ميزان السماع، ولعل السالك في الطريق المعبد لا يبلغ شأن نظيره الذي يعلو ويهبط بين النجاد والوهاد، ويفتح طريقه قدما قدما وهو مدلج فيه منقطع عن الرفيق.
تلك هي الحقيقة السهلة لمن يبصر الحقيقة إذا وقعت عينه عليها، ولا ينتظرها كما ينتظر شيئاً يسمع به أبداً ولا يراه أو يدري كيف يراه.
فإذا خفيت هذه الحقيقة البينة على من تصدمهم ولا يدركونها - فليس الخطأ في ذلك خطأ الكتاب والأدباء، ولكنه خطأ الحظ الذي رزقهم من القراء من يشبه تلك البنية الريفية البلهاء، وما أكثرهم في الشرق على قلة القراء!
عباس محمود العقاد
أبو العلاء المعري
التفاؤل والأتربة عند الشيخ
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 1 -
الإيثارية ?
وافعل بغيرك ما تهواه يفعله
…
وأسمعِ الناس ما تختار مَسمعه
هذا البيت يشمل الأثرية والإيثارية معاً.
ولحكماء الإغريق قبل التأريخ الميلادي بخمس مائة سنة وفي الإنجيل ولحكيم الصين ما يشبه قول الشيخ. وروي البخاري في جامعه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وروى ابن سعد في (الطبقات):(قال رسول الله ليزيد بن أسد: يا يزيدَ بنَ أسد، احبَّ للناس الذي تحب لنفسك) والأثر الكريم - كما ترى - هو أثرى وإيثاري. وروى البحتري في حماسته لعبد الله بن معاوية الجعفري:
ارض للناس ما رضيت من الناس (م)
…
وإلا فقد ظلمت وجرتا
ولأبي العتاهية:
ولا خير فيمن ظل يبغي لنفسه
…
من الخير ما لا يبتغى لأخيه
وقال عبد الله ابن المقفع:
(أعدلُ السير أن تقيس الناس بنفسك فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك).
وروى السبكي في (طبقات الشافعة) لأبى سليمان الخطابي:
ارض للناس جميعاً
…
مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعاً
…
كلهم أبناء جنسك
فلهم نفس كنفسك
…
ولهم حس كحسك
وفي (كامل) المبَّرد هذا القول: (خير الناس للناس خيرهم لنفسه)، قال أبو العباس:(وذلك أنه إذا كان كذلك اتقى على نفسه من الشرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، فسلم الناس منه باتقائه على نفسه).
ولما دعا الإمام الأستاذ أرنست هيكل إلى تلك النحلة الطبيعية الوحَدية اتخذ تلك الحكمة دعامة آدابها.
ولو أني حُبيت الخلد فردا
…
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علىّ ولا بأرضي
…
سحائب ليس تنتظم البلادا
فيا وطني، أن فاتني بك سابق
…
من الدهر فلينعم لساكنك البال
وما سرني أني أصبت معاشراً
…
بظلم وأني في النعيم مخلد
فانفع أخاك على ضعف تحس به
…
إن النسيم ينفع الروح هباب
كيف لا يشرك المضيقين في النعمة قوم عليهم النعماء
انجد أخاك على خيريهم به
…
فالمؤمنون لدى الخيرات أنجاد
فجد بعرف ولو بالنزر محتسباً
…
إن القناطير تحوي بالقراريط
فدار خصمك إن حق أنار له
…
ولا تنازع بتمويه وإجلاب
إذا ما تبنيا الأمور تكشفت
…
لنا وأمير القوم للقوم خادم
لا يتركن قليل الخير يفعله
…
من نال في الأرض تأييدا وتمكينا
أضئ بالمعروف وأتلق، وأطلق يمناك فغدا تنطلق.
انظر بين يديك، واجعل الشر تحت قدميك، وإذا دعا السائل فقل لبيك، وإذا ألجأ عدوك الدهر إليك فانس حقودك الغَبِرات
أطعمْ سائلك أطيب طعاميك، واكس العاري أجد ثوبيك، وامسح دموع الباكية بأرفق كفيك.
الرجل كل الرجل من آتى الزكاة، ورحم المسكين، وتبرع بما لا يجب عليه، وكره الحنث، وكفر عن اليمين.
لتكن سماؤك ثرة، وثرى أرضك قريبا، فنعم الشيء الثراء لمن كسا العاري وأطعم السغبان.
ذُرّت البركة في طعام أكل منه الضعيف، ونزعت البركة من طعام خص به الغني دون الفقير، والله مطعم المطعمين. وزرُّ حرام يوقع المحقة في قميص انتسج من حل، وقطرة الدم تقع في المزادة فلا يحل منها الطهور.
أرَّ نارك لطارقك، ولا تؤرها لإحراق الجار، والله جار من لا جار له من المستضعفين. وبرٌّ في قلبك خير بُرَة في يدك فاتق الله، وكن مع الأبرار الطاهرين.
قُد نَفسك إلى الواجب ولو بجرير، وكِد معاديك بأن تجتنب أفعال الكائدين، ودل السائل لتكون نعم الدليل، ودم على ما قربك من الأبرار الطيبين، ودِن من فعل خيراً معك فإنك مدين.
يا بغاة الآثام، وولاة أمور الأنام، مرتعُ الجور وخيم، وغبه ليس بحميد، والتواضع أحس رداء، والكبر ذريعة المقت، والمفاخرة شر الكلام. كلنا عبيد الله.
من بخل بطعام فقد بخل بقليل الأنعام.
بعدت رائجة قُتار، تظهر تارة بعد تار، ثم لا ينال خيرها الفقير.
النفاق يلبسك ثوب الإشفاق، والافتقاد يذهب الأحقاد. والأشر يهلك البشر، لا كتبنا الله مع الأشرين!
ماروا قُطُر ورائحة حبيب عطر بأطيب من ثناء مستطر يثنى به بَرّ على مُبر.
تلكم طائفة من أقوال الشيخ، وفيها التفاؤل كله في الحياة، وفيها الأثرية - كما أن فيها الإيثارية - وكان شيخنا (يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل) كما روى الصفدي في (نَكْت الهميان)
وكان خفيف الروح يَدْعب ويُفاكه، ومن فكاهته في إحدى رسائله إلى أبي الحسين أحمد بن عثمان النكتي البصري وقد غير هذا اسمه، وقصر كنيته - هذه النبذة:
(. . . وأهل البصرة (سلمهم الله) ينسبون إلى قلة الحنين، أليس قد مرت به هذه الحكاية وهي أنه وُجد على حجر مكتوب:
مَا من غريب وإن أبدى تجلّده
…
إلا سيذكر عند العلة الوطنا
فكتب تحته إلا أهل البصرة. فإذا كانت تلك سجيتهم مع أهلهم وأوطانهم، فكيف بالذين عرفوهم من إخوانهم، والدليل ما قلت أنه - أدام الله عزه - لم يُثبت اسمى، جعلني محمداً واسمي أحمد. . . وله أن يقول إنه تشبث بالكنية فاستغنى بها عن الاسم. فأما أنا فحفظت اسمه وكنيته ونسبه، ولم أنس أيامه ولا مذاكرته، وقد جعلت كتابه نائبا مناب الاجتماع معه. . .
وما عبت على أهل البصرة قلة التفاتهم إلى الأوطان وإنما وصفتهم بقوة القلوب والأكباد لأن العرب تصف نفوسها بذلك، أليس قد بلغه قول قتاد بن مسلمة الحنفي:
يبكي علينا ولا نبكي على أحد
…
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
فكيف استجاز أن يقصر كنية صديقه؛ أما السمة فغيرها، وأما الكنية فقصرها، فإنا الله وإنا إليه راجعون! هذا أمر من الله، ليس هو من ضعف الشاعر ولا وهن القائل ولكنه من سوء الحظ لمن خوطب والاتفاق الردئ لمن سُمى وذكر. . . وإنما تغوثت من ذلك لأني قصير الهمة، قصير اليد، مقصور الظر، أي مكفوف، مقصور في البيت أي لازم له، فكأني محبوس فيه. فما كفاني ذلك مع قصر الجسم حتى يضاف إليه قصر الاسم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لو كنت أطول من ظل الرمح لصرت أقصر من سالفة الذباب، قد كدت أمْصَحُ في الأرض كما تمصح الظلال. . . وقد مدحني بما ليس فّي، ولكنه في ذلك على مذهب الخطباء والشعراء، وزعم صاحب المنطق في كتابه الثاني من الكتب الأربعة أن الكذب ليس بقبيح في صناعة الشعر والخطابة، لذلك آستجازت العرب أن تقول فتفرط. . .)
وما (رسالة الغفران) العبقرية إلا كتاب أماليح وأفاكيه وأهاكيم
وكان الشيخ كلفاً بالحمد والمجد (والثناء على الرجل أحس الملبوسات)(وغير ملوم من عشق الثناء لأنه أحسن حبيب مزور وأبقى نُفِس مذخور) وقد أعلن ذلك ابن القارح في رسالته المشهورة إلى أبى العلاء:
(. . . ويعلم الله الكريم (تقدست أسماؤه) أني لو حننت إليه (أدام الله تأييده) حنين الواله إلى بكرها، أو الحمامة إلى إلفها، أو الغزالة إلى خشفها - لكان ذلك مما تغيره الليالي والأيام والعصور والأعوام، لكنه حنين الظمآن إلى الماء، والخائف إلى الأمن، والسليم إلى السلامة، والغريق إلى النجاة، والقِلق إلى السكون، بل حنين نفسه إلى الحمد والمجد، فإني رأيت نزاعها إليهما نزاع الاسطقسات إلى عناصرها، والأركان إلى جواهرها. . .)
وإذا أقام أبو العلاء في عرينه مضرباً فيه، فقد كان مطلا على الدنيا - وإن خيل أنه تخلى منها - وما كان أخا زهد فيها، لا فكر له في شيء. وكانت شؤون أمته تعنيه أيما عناية، والمتشائم لاتهمه حالة، ولا يبالي بأمر بالة. كتب إلي أبى الحسن ابن سنان، وقد أوذم على نفسه الحج، والعدو يزأر في الثغور:
(. . . وسفُر مولاي إلى الحج في هذه السنة حرام بَسْل. . . وهل سمع في أخبار الصحابة
(رحمهم الله أو التابعين أن رجلا خرج من مُصافة العدو يريد بيت الله الحرام. . . وهو (أدام الله تمكينه) أمين من أمناء المسلمين، يُرهف الشوكة، ويستجيد اللأمة، ويحصن ما وهي من سور. . . البيت العتيق منذ عهد آدم يُزار ويحج، ما خيف عليه انتقال ولا تحول، ولا غيره عن العهد مغير. . . أما يعلم أن لأهل البلد أُنساً برؤية شخصه واستماع قوله. وما ينبغي أن يكون كما قيل في المثل (لجَّ فحجَّ) ولو قال وليد لوليد في ليل داج وهو محادث محاج: من يؤجره في مقامه في الديار أضعاف أجره في حج واعتمار؟ فقال الوليد الآخر: (محمد بن سعيد) لوقع سهمه غير بعيد. وحماية الذمار أولى من حج واعتمار. . .).
ولما صبأ الفتى طارق (خلده الله في جهنم)
وفارق دين الوالدين بزائل
…
ولولا ضلال بالفتى لم يفارق
أرسلها (لزومية) صاعقة مجلجة أحرقت ذاك المضلل. وهذه اللزومية - وهي واحد وعشرون بيتاً - توضح فرط عنايته بأمته واستمساكه بنحلته، وتنبئ بأنه كان يداخل القوم في أحوالهم وإن كان جليس نفسه
اقرأ كلامي إذا ضم الثرى جسدي
…
فإنه لك ممن قاله - خلف
محمد إسعاف النشاشيبي
في معرة أبى العلاء
للدكتور عبد الوهاب عزام
وشارفنا حمص والساعة واحدة إلا دقائق، وطالعتنا بعمرانها وسط زروعها وجناتها، ثم دفعت بنا السيارات إليها واخترقتها غير معرّجة، وبودّنا أن نعرج عليها قليلا. وعزاّنا عما فاتنا من منى العين والقلب أنا عائدون إليها بعد أيام فنازلون بها. وجاوزنا حمص إلى سهل واسع محمر التربة تكسو الخضرة آكامه وجباله. وما زلنا نضرب في الأرض صوب الشمال حتى عبرنا العاصي عند قرية عليه ورأينا أولى نواعيره والساعة واحدة وخمس وعشرون دقيقة. وأشرفنا على حماة والساعة اثنتان، فقضينا بدخولها وطراً قديما، فقد مررت بها ثلاث مرات ولم يتيسر دخولها، فأنشدت قول امرئ القيس:
تقطع أسباب اللبانة والهوى
…
عشية رحنا من حماة وشيزرا
فاليوم أسعد برؤية حماة بين بساتينها ونواعيرها وهي أكبر نواعير الشام. ولاسيما هذه الناعورة العالية الرائعة التي لا يقل قطرها عن عشرين متراً فيما حزرت. ويقال إنها كانت في مكانها من حماة أيام المأمون العباسي.
نزلنا في المدينة فاستقبلنا حكامها وأعيانها ورجال التعليم فيها في (دار العلم والتربية) وهي بناء قديم جميل فيه من فن العمارة والنقش روائع. دخلنا ساحة فيها حوض كبير في وسطه صورة سبع يتدفق الماء من فمه، وفي جانبه شجرة كبيرة جميلة ترى خضرتها ونضرتها في صفحة الماء. وصعدنا إلى طبقة فيها باحة يتوسطها حوض آخر وعليها عقود جميلة وراءها قاعة من آثار الفن العربي الإسلامي. يستقبل داخلها خرير الماء في حوض صغير توسوس فوقه نافورة جميلة رخامية فيها أنابيب كثيرة تقذف الماء فتخرجه أغصانا متشابكة من البلور، وعلى سقف القاعة وجدرها من النقش والألوان ما يشغل النظر والفكر، وكتب عليها آيات وأحاديث وأبيات من الشعر. ومن المرائي العظيمة الجميلة المصورة على جدرها صورة مدينة حلب وقلعتها، وصورة القرن الذهبي في استانبول.
بنى هذه القاعة أسعد باشا العظم عام 1153هـ، وجود نقشها نصوح باشا العظم عام 1194هـ.
وصارت مدرسة منذ خمسة وعشرين عاما وهي اليوم دار العلم والتربية. لبثنا بهذه القاعة
الجميلة ريثما سمعنا ترحيب المدينة وتحدثنا إلى إخواننا في فرح الأمل وبسمة الظافر. ثم خرجنا إلى فندق البلدية حيث أعد الغداء. وأهل المدينة في الطريق والشرفات يصفقون ويحيون بلاد العرب.
وقد رحب بنا رئيس البلدية هناك.
ولم يسعني الصمت في حماة وفي هذه الذكرى بين هذا الجمع، فألقيت كلمة أتذكر منها هذه الفقرات:
أرجو أن يعذرني إخواني إن تكلمت وفي صوتي أثر المرض، كأن دمشق الحبيبة، دمشق التي أحببناها وأخلصنا في حبها، فعل بنا هواؤها ما فعل، (وقد يؤذي من المقة الحبيب). وإني أقول مغيرأ قول كثير:
هنيئا مريئا غير داء مخامر
…
لجلّق من أجسادنا ما استحلّت
أيها الإخوان: إن الأمم لا تستيقظ في جانب وتنام في جانب، ولا تنهض في ناحية وتقعد في أخرى، إذا استيقظت استيقظ كل شيء فيها، وإذا نهضت نهضت كلها، فليس محض اتفاق أن اجتمعت وفود البلاد العربية على ذكرى أبى العلاء المعري في الشام حين اجتمعت وفودها في الإسكندرية لتخط للجامعة العربية خطتها، إن الأمم إذا عزمت وأجمعت أمرها لم يقفها شيء دون الغاية. ثم ذكرت اغتباطي بدخول حماة بعد طول اشتياق إلى دخولها. وحييت أهل حماة وأهل الشام جميعا، وقلت: إني أعني الشام الذي عرَّفني إياه التاريخ، لا أعرف هذه الأسماء الجديدة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وكان بجانبي الأستاذ الصديق عارف النكدي، فطال تصفيقه لهذه الفقرة.
فصلنا من حماة والساعة ثلاث ونصف نؤم المعرة.
أشرفنا على المعرة أصيل اليوم بعد مسير نصف ساعة من حماة فرأينا سهلا خصباً كثير الزروع والأشجار فخفقت القلوب لذكرى شاعرنا الفيلسوف، وابتسمت الشفاه لمعاودة مدينة أبى العلاء، وكنا زرناها قبل خمسة عشر عاماً، واستقبلنا في مدخل البلد شارع فسيح طويل لم نره في زيارتنا الأولى. وعرفنا أنه فتح في السنين الأخيرة، ودُعينا إلى الاستراحة في دار حديثة جميلة من دور آل الحراكي، ثم خرجنا نؤم مقصدنا، ضريح رهن المحبسين
ولست أنسى مسيرنا بين صفوف متراصة من أهل البلد، ودور ازدحمت منافذها وشرفاتها بالمشرفين على مهرجان أبى العلاء، وقد مال بالشمس الأصيل فغضَّت أشعتها من أبصارنا كأنما يغض منها جلال الشيخ الفيلسوف
ذكرت حينئذ مكانة الشيخ من أهل بلده، إذ كان حدباً عليهم براً بهم، إذ كانوا يفزعون إليه في الشدائد، وتمثلت صالح بن مرداس ينزل بساحتهم يريد الإيقاع بهم، فيفزعون إلى شيخهم وقد لزم محبسه وقطع بينه وبين الناس العلائق لو استطاع، ويستنجدونه ليدفع عنهم بأس الأمير الكلابي، ويستشفعون به ليطلق صالح رجالهم، وكان قد اعتقل من أعيانهم سبعين، وأبو العلاء يرم بالفتن المحيطة، آنس يخلوته، أو قلق بها، يصف الناس، إثمهم ورياءهم وخداعهم، وجنايتهم على أنفسهم وعلى الحيوان يبغي الأمن في داره الصغيرة، ولا يأمن أن تلج عليه آثام الناس، وقد اعتزلهم جهده، وود لو ينقذه الموت من صحبتهم وجوارهم. ولكن أبا العلاء الرحيم لا يملك أن يرد اللاجئين إليه، أو يقعد عن إغاثتهم وهو قادر، فيخرج أبو العلاء كارها إلى الأمير صالح فيقول:
الأمير أطال الله بقاءه كالنهار الماتع قاظ هجيره وطاب براده، والسيف القاطع لان مسه وخشن حدّاه. خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فيقول صالح وقد أخذه مرأى الشيخ الذي سمع بمكانته، وعرف له قدره، قد وهبتهم لك أيها الشيخ. ورجع الشيخ إلى داره وهو فرح بما يسر الله على يده من الفرج، مغموم لما اضطره إلى الخروج من معتزله والمثول بين يدي أمير.
قال:
تغيبت في منزلي برهة
…
ستير العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل
…
وُحمّ لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعاً إلى صالح
…
وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام
…
وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبنّي هذا النفاق
…
فكم نفّقت محنة ما كسد
ويقول:
نجّىِ المعاشر من براثن صالح
…
رب يفرّج كل أمر معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة
…
والله ألبسهم جناح تفضل
وقد ذكر صالحاً في مواضع أخرى من لزومياته، وقال:
ما لمت في أفعاله صالحاً
…
بل خلته أحسن مني ضميره
وما زال أهل المعرة يعظمون شيخهم ب وفاته ويسمّونه (سيدنا أبا العلاء) فهم اليوم يعتزون ببلدهم ويفخرون بشيخهم وقد جاءت وفود الأقطار القريبة والبعيدة تذكره وتعظمه.
سارت الوفود بين الجموع الحاشدة ومعهم أعيان البلد، وزعيمها حكمت بك الحراكي. وقد رأيته - وقد ضغط الناسَ الزحامُ إلى طريق الوفود - يُسرع مشفقاً على ضيوفه يرد الناس بأمره وذراعيه. مبالغة في الاحتياط لضيوفه. ونحن في جذل وفي هيبة مما نرى ونسمع. أبصارنا تتخلل هذا الزحام، وتستشرف إلى الضريح المقصود وقلوبنا بين ذكرى الشيخ، وبين حفاوة أهل المعرة به وبوفوده. اقترب مني حينئذ الأستاذ الأديب خليل مردم بك وقد أعجبه احتشاد المعّريّين، وفرح الولدان ومرحهم، وراعه هذا الموكب السائر لتحية الفيلسوف الحزين فقال: هذا مهرجان المعري) قلت: صدقت، إن هذا لهو مهرجان المعري.
وانتهينا إلى بناء جديد ولجنا أحد أبوابه إلى ساحة فيها زرع وزهر. فملنا ذات اليمين والجنوب إلى القبر الرهيب، يجثم عليه هذا الجندل العتيق، وكنا رأيناه من قبل وقرأنا عليه اسم المقبور بخط كوفّي، وقال أحد أصحابي حينذاك: إن له هيبة الأسد الرابض. وفوق القبر عقد من الحجر لا تكلف فيه ولا تأنق، فهو يساير زهد أبى العلاء لو رضي زهدهُ أن يشاد على قبره بناء.
ألم يقل في لزومياته:
فدًى لنفسك نفسي آِونى جدثا
…
من الخَفيّات لا قَصرا ولا فَدَنا
قد تمنى الرجل ألا يزار قبره ولا يعرف:
ولي منزل في الثرى ما يُزار
…
ولو رامه زائر ما عرف
فهل يرضيه أن يكون قبره معروفاً مَزورا تحج إليه الوفود؟
وقد ود أن يكون جدثه في معزل عن أجداث الناس كما بعد هو في حياته عنهم:
يا جدثي حسبك من رتبة
…
أنك من أجداثهم معزلا
وقد دفن في معزل من الناس إلا بعض قرابة، ولكني احسبه لا يكفيه هذا الاعتزال وهو في
المدينة بين الدور. كان بوده أن يدفن في مهمة بعيداً عن الأحياء والموتى:
وددت وفاتي في مهمة
…
به لامع ليس بالمُعَلم
أموت به واحدا مفردا
…
وأدفن في الأرض لم تظلم
وأبعد عن قائل: لا سلمت
…
وآخر قال: ألا يا اسِلم
أحّاذر أن تجعلوا مضجعي
…
إلى كافر حان أو مسلم
إذا قال ضايقتني في المحل
…
قلت: أساءوا ولم أعلم
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
أسرار الشعراء
للأستاذ صلاح الدين المنجد
لن تجد صاحب شغف يتسقط أسرار الأدباء، ولا طُلَعةً يتحسس أخبار القراء مثلي. ولا أعرف منهلاً أحلى رشفاً، وأكثر رّياً، وأبلغ عظة من هذه الأسرار، فهي إن لم تهذب وتحذّر تلذ وتهز. وقد تجد فيها ما ترومه. وقد تلتبس عليك الأمور فلا تجد شيئاً. لأن بعض الأدباء يخفون عمداً أسرارهم الصحاح، ويوهمون الناس أسراراً أخرى مزيفات، أو يلوذون بالصمت، فيلصق الناس بهم أشاوي لا عهد لهم بها، ولكنهم يرضون عنها، فالمهم أن يكونوا أحدوثة القوم وسمر المجالس. وما عليهم بعد ذلك إن صح ما ينسبون إليهم، أو بطل، ولكن ما رأيك إذا عثرت على طائفة من رسائل نفر من الأدباء، رسائل الأصدقاء إلى الأصدقاء، التي يفضي بها الإنسان بدخيلة أمره ومكنون سره ومضنون شكوه؟ إنها اعترافات لا يشوبها زيف ولا يعتريها بطلان، فلتقرأ أنموذجات منها ولننظر ماذا نلقي فيها.
ديموندفلاور أديب إنكليزي معاصر؛ شغف بتتبع أسرار الأدباء. فانتخب نهاد المائة رسالة، رسائل الأدباء من أيام شكسبير حتى أيام لورنس، أعني منذ منتصف القرن السادس عشر، إلى هذه الأيام. فأخرجها في كتاب فخم طريف سماه (في اقتفاء أثر الشعر) نقلوه إلى الفرنسية في فجر هذه الحرب وسموه وهو كتاب يغنيك عن ألف كتاب، وسفر لا يحوجك، لكي تفهم ما فيه، إلى كثير من العناء. يصور لك من خلال الرسائل أولئك القراء فترف حولك أطيافهم، وتتمثل في خاطرك أحاديثهم، وتراهم بقلبك، فتحسب أنك معهم ثم تشعر بعد هذا أنك صديق لهم، تحبهم ويحبونك، وتؤثرهم ويؤثرونك، فيفضون إليك بدخائلهم وأسرارهم، ويطلعونك على آرائهم وأفكارهم، بل قد تعلم هجسات قلوبهم ونجويات خواطرهم. وقد تجد فيهم لطفاً وعطفاً، وقد تلقى قسوة وخشونة. ثم إن شئت بعد ذلك أن تعرف شعرهم وطبعهم عليه، ونثرهم وبراعتهم فيه فذلك طوع يديك.
يقول فلاور في مقدمة الكتاب: لا تخدع نفسك أبداً، ولا تجهد كثيراً، ليس لديك وسيلة لمعرفة جوهر الشعر، والنفوذ إليه، والوقوف عليه، سوى القراءة. ينبغي أن تقرأ شعر الشاعر مرة ومرة، ثم تعيد قراءته مثلها، وقد تصل في النهاية إلى ما تريد. ولكن إذا
تواردت عليك هذه الأسئلة: كيف ينظم الشاعر؟ أي نوع من الناس هو الشاعر؟ كيف يبدع، وكيف يخفق؟ فليس لديك شيء أكثر جدوى من الرجوع إلى سيرة حياته ورسائله الخاصات إلى صحبه وأصدقائه.
اقرأ هذه الرسائل، تعرف الشاعر حق المعرفة، وتعلم أن عمل الشاعر شاق صعب، طويل مجهد، يبعث الملل ويفضي إلى التعب. وتقف على المشقة التي يلاقيها الكتاب، للبحث عن لفظة أو صوغ جملة يؤدي بهما المعنى الواسع العميق الذي يزخر به صدره. إن من المعاني ما يكون عظيماً واسعاً، ولكن الثوب ضيق، ولابد من البحث والتنقيب، ليكون الثوب قدر المعنى، فيُظهر محاسنه ولا يخفيها، ويستر عيوبه فلا يبديها، ويؤثر في نفس السامع ويحيها.
الحق أن الأديب يجتهد ويتعب. ولكنه لا يشكو ولا يتأفف. وقد يبدو ذلك من فلتات لسانه أو قلمه، وقد يدعى أن لا أسهل عنده سهولة ولا أشد تملكاً من أن ينظم لك أو يكتب ما تشاء، وفي أي وقت تشاء، على حين يكون قد قطع الليالي في البحث عن حرف أو في نظم بيت.
إن هذه الرسائل مجمع حي للقراء الإنكليز وكتابهم. هذا دريدن وهذا وردثورت وذلك كيتز وذاك وهنا هاردي وبينهما بيرون فكلهم أمامي أقرأ رسائلهم فأتمثل وأفكر.
هنا دريدن يكتب إلى ناشر أحد كتبه بلهجة فيها عتب وتهديد:
(إنك لن تستطيع أن تعنى كثيراً بطبع كتابي طبعة جديدة مع التصحيحات التي أشرت إليها. إن أقل خطأ يسوؤنى إلى الأبد).
وإذا كانت غلطة واحدة تسوء دريدن إلى الأبد، فإن وردثورث كان أشد قسوة من دريدن وأقل بناشر كتبه رحمة فقد كتب إليه مرة:(لقد وجدت غلطة في مقدمة مؤلفي الجديد لقد طبعوا بدلا من فينبغي أن تصحح هذه الكلمة في كل نسخة طبعت).
فماذا يقول الناشرون اليوم لو أتاهم وردثورث يطلب إليهم بالقلم ذلك وكان المطبوع آلافاً من الكتاب؟
ثم حول وجهك نحو ولتر سكوت القصصي البارع. الذي يقول عنه هوغو (إنه يهزني ويتلاعب بي كما تهز الريح الورق في الخريف). تحول إليه واسمعه يتحدث عن الإيجاز
في الكتابة ويدعو إليه. ويشمئز من النعوت التي يحشو بها الكتاب السطور لا لمعنى فيها ولا لسحر بها. ولكن للإطناب عند الكتاب ، ولاستقامة وزن الشعر عند الشعراء. هذه الاستقامة التي يقتضيها علم العروض. حتى إنك لتراه في بعض الأحايين مبشراً بالشعر المرسل الحر محاربا الحشو والتطويل أي حرب، معيباً على بوب أنه ملأ ترجمته الإلياذة حشواً.
وعلى نحو من هذا ، تجد الشاعر الأميركي ويتمان فانه يعجب بالإيجاز ويأنف من التطويل. ويكتب عندما أخرج مجموعته الشعرية المسماة (إنني سعيد ، لأنني استطعت أن أنزه شعري من كل حشو. وإنني لأنتشي عندما أشعر أن كل كلمة في القصيدة لا غنى عنها، سواء أكان ذلك لوزن الشعر الذي راعيت حفظه، أم للمعنى الذي أردت إظهاره).
ولندع سكوت ينادى بالإيجاز، ولننظر شارل لامب، الدعبوبة المرح، يكتب إلى وردثورث رسالة طريفة، يتهزأ فيها من الكتاب الذين ينبهون قراءهم أو ينصحون لهم:(قد تعلمون وقد لا تعلمون)، (ولا يحسبن القارئ أبدا)، (وتخيلوا إذا استطعتم) وغير ذلك من شبيهات هذه التعييرات التي يعلو الكاتب فيها ويحسب القارئ طفلاً أمامه يلقنه ويعلمه أو يشك بعلمه.
فماذا يقول لامب لو قرأ ما يسوقه الدكتور طه حسين في ثنايا كتاباته من هذه التعبيرات؟
ولامب إلى ذلك يعيب على شعراء عصره أنهم يشطون في وصف المناظر الطبيعية بأوصاف مبتذلة (السماء الزرقاء والشمس الذهبية المتلألئة. . .) فماذا يقول لو سمع اليوم شعراءنا وكتابنا ما يزالون يقولون (النسيم العليل والماء النمير والهواء الرقيق؟)
استمع إليه يكتب إلى صديقه وردثورث، وقد دعاه ليقضى أياماً في الجبال. هذه الرسالة التي تثير دهشتك وشغفك:
(لا يسوؤني كثيراً أنى لم أر الجبل قط في حياتي، فلقد عشت دائماً في لندن. وكنت أشعر دائماً بميل شديد إليها لا يقل عن ميل أصحاب الجبال إلى الطبيعة الجميلة. إن الدكاكين المصفوفة والمصانع التي لا عهد لها والتجارة والزبائن والسيارات الكبيرات والصغيرات والمسارح والمقاهي. وهذا الفوران حول (كوفنت غاردن) وهؤلاء النساء اللندنيات وحراس
الليل والسكارى والضجيج، وتلك الحركة الدائمة التي لا تنقطع في أية ساعة استيقظت فيها من الليل والجموع الغفيرة في كل مكان. حتى الأوساخ والوحول. ثم تلك الشمس المضيئة الرفافة فوق البيوت؛ وبائعي الصور المحفورة والأبخرة الفواحة التي تصاعد من مطابخ المطاعم. كل أولئك يملك على أمري ويستولي على مشاعري؛ ويغذيني دائماً، دون أن أشعر بملل قط. إن جمال هذه المناظر يدفعني أحايين كثيرة إلى التنقل ليلاً في الشوارع الملأي بالناس. وإنني لأذرف الدموع في بعض الأحايين من الفرح. ولابد أن تبدو هذه المشاعر غريبة عنك، كما تبدو غريبة عنى مشاعرك نحو الطبيعة والجمال. . .)
فهذا وصف ما فيه ترتيب ولا حسن نسق، وهو مضطرب مشوش ولكنه بارع. لقد تعمد الكاتب هذه الصورة المضطربة تعمداً، ليصور لك لندن المضطربة أيضاً. فبراعتها في اضطرابها وحسنها في قبحها.
صلاح الدين المنجد
على هامش النقد
سلسلة جديدة
سارق النار. . . خليل هنداوى
للأستاذ سيد قطب
في العالم العربي نهضة لاشك فيها، أخص خصائصها عندي الإقبال على القراءة؛ فالرغبة في المعرفة هي الرغبة في الحياة، وما يغلق إنسان على نفسه أبواب المعرفة إلا وقد خمدت فيها جذوة الحياة، فلم تعد في حاجة إلى (الأوكسجين) الذي يجدد اشتغالها
وآية الإقبال على القراءة هي الإقبال على النشر الذي نلحظه في هذه الأيام في جميع البلاد العربية. والإقبال على النشر يدعو إلى الإقبال على التأليف. فما ينشط المؤلف أكثر من أن يحس أن هناك ناشراً يترقب ما تخرجه يداه، وأن من وراء الناشر قارئاً يتلقف ما تخرجه المطبعة!
وأياً كانت الأسباب التي بعثت هذه الحركة ، فهي بشير خير على كل حل. وحين نجرد الحركة من الأسباب الطارئة مع الحرب فأننا نجد وراءها سبباً أصيلا هاماً، هو يقظة الشعوب العربية وتطلعها إلى مستقبل خير من الحاضر، مستقبل تتهيأ له بالمعرفة، ويشوقها ما فيه من حيوية وازدهار
أقول هذا بمناسبة ظهور سلسلة أدبية جديدة في (بيروت) تضطلع بها دار (الأديب)، وظهور سلسلة من قبلها في (دمشق) تخرجها (دار اليقظة العربية) اتباعاً للسلاسل التي تصدرها مصر: سلسلة أقرأ. وسلسلة أعلام الإسلام. وسلسلة النشر للجامعيين. وسلسلة كتب الشهر لدار إحياء الكتب العربية. . . وكل هذا بجانب الكتب الفردية للمؤلفين الكثيرين هذا بشير نهضة نرجو أن تظل في اندفاعها البعيد!
(وسارق النار) هي الحلقة الثانية من سلسلة (الأديب) ببيروت. ويهمني أن أكتب عنها! فإخواننا الشرقيون دائمو العتب علينا لأننا - كما يقولون - لا نحفل مؤلفاتهم، ولا نلتفت إلى نهضتهم. وذلك في الوقت الذي يعيبنا أن نحصل على هذه المؤلفات، أو أن نقف على أسباب النهضة لأنها لا تصل إلينا إلا في الحين بعد الحين، وبعد مشقة وعسر، حين
نحصل عليها في مكامنها المخبوءة. وقد لا نعثر عليها أصلا لأنها لاتباع!
اعرضوا هذه الكتب في سوقنا، وأعلنوا عنها في صحافتنا ثم اعتبوا بعد ذلك ما تشاءون!
والأستاذ خليل هنداوي صاحب الحلقة معروف لنا من (الرسالة) ثم من (الأديب) ومن (المقتطف) في بعض الأحيان، فلعل إخواننا الشرقيين يعلمون من هذا أننا نتتبع كتَّابهم، ونعرف خطواتهم. ولسنا عن هذا بغافلين!
(وسارق النار) مجموعة من المسرحيات مستمدة من الأساطير الإغريقية - إلا واحدة منها فمن قصص الحب العربي - وليست (سارق النار) إلا واحدة من هذه الأساطير سميت بها المجموعة كلها. وقد ضمت سواها: فتنة جزيرة بلا رجل. ميلاء. المثّال التائه. اللحن الكئيب
و (سارق النار) هو (برومثيوس) الذي تقول الأساطير الإغريقية إنه سرق النار المقدسة بمساعدة هليوس، فاستطاع أن يخلق بها كما تخلق الآلهة، فغضبت هذه عليه وانتقمت منه.
والأستاذ خليل هنداوي يمثل في هذه المسرحية طريقة السرقة والحوافز النفسية التي زجت به في هذه الوعورات وغضب الآلهة وحوارها بشأنه، ثم انتقامها بما أرسلت إليه من الرذائل تشق طريقها إلى قلبه، والأمراض تنتقل على فراشه، والشقاء ينقض ظهره، والأشواك تملأ دربه، والموت يطفئ حياته. . . ومع هذه الآلام جميعاً. . . الأمل صديق الإنسان الوحيد في الحياة. الأمل الذي كان إله الأرض هو الشفيع في إرساله للإنسان مع هذه الآلام!
وكذلك عالج في (فتنة) عاطفة الغيرة. غيرة الجمال بين الربات الثلاث: أفروديت إلهة الجمال، وأتينا إلهة الحرب، وهيرا زوج كبير الآلهة. حينما غفل الآلهة عن دعوة (ايريس) خصيمة إفروديت إلى عرس إلهي. فقذفت بين المجتمعين بتفاحة كتب عليها إلى (أجمل فتاة) فانطلقت الفتنة في لحظتها. . . من الربات هي (أجمل). إن حكم الآلهة لا يرضي فليحكم الإنسان! ليحكم أول رجل يصادفنه. إنه باريس راعي القطيع. وإنه ليحتار ويذهل، وإنه ليتلقى الإغراء والوعيد. . . ثم يحكم. يحكم لأفروديت. إلهة الجمال التي لا تملك إلا الجمال. ثم ليتلق انتقام الإلهتين. لقد اختار الجمال. (وإن من يختار الجمال يختار معه الموت). وباريس لم يتلق الموت ولكنه تلقى الشرود الدائم في الفيافي والسهوب يرسل
الألحان من شبابته في حنين دائم إلى ربة الجمال!
وعلى هذا النسق يسير المؤلف في الاستمداد من الأساطير، وصياغة ما يستمده مسرحيات تقصر أو تطول.
يجب أن نرتد هنا إلى التسلسل التاريخي في عالم الفن العربي فنرد هذا الفصل من فصوله - فصل الانتفاع بالأساطير المختلفة في عالم المسرحيات - إلى (الفنان الأول) الذي نقله إلى المكتبة العربية. . . هذا الفنان هو توفيق الحكيم:
أهل الكهف. شهرزاد. نهر الجنون. بيجماليون. سليمان الحكيم، هذه عنوانات لا تنسى، وقد فتح بها هذا الفصل في المكتبة العربية واستقر. واطمأن على وجوده بكل تأكيد.
بقي أن نتطلع إلى (الفنان الثاني) الذي يخطو خطوة وراء توفيق الحكيم. خطوة أصلية كخطوته. لا تقف عند تقليده. ولا تقف عند مداه. بل تمتح من نبعها، وترتقي آفاقا وراء الآفاق الأولى.
فهل استطاع الأستاذ (هنداوي) ان يخطو هذه الخطوة؟ يجب ألا نجد في أنفسنا حرجا من الجواب. . . لا!
ولا يعني هذا أن الأستاذ لم يوفق. فهذا شيء آخر. إنما الذي أعنيه هو أن الخطوة الأولى في هذا الفصل لا تزال متفردة ولا تزال سابق، وهذا كل ما أريد أن أقول.
وفي مسرحية (المثال التائه) مجال للموازنة بين (بيجماليون) توفيق الحكيم و (بيجماليون) خليل هنداوي وأحب هنا أن أبرئ الأستاذ (هنداوي) من النقل. فحينما ظهرت (بيجماليون) توفيق كتب الأستاذ هنداوي في المقتطف أن له مسرحية من فصل واحد عن (بجماليون) نشرها في المقتطف في وقت لا يتسع البتة للنقل والمحاكاة.
ثم إنه عالج الموضوع بطريقة أخرى غير طريق الحكيم وبين الطريقتين وبين الطاقتين تصح الموازنة ويصح القياس.
فأما بيجماليون عند توفيق الحكيم فهو الفنان المضطرب المتأرجح بين الحيوية الحاضرة والنموذج الفني الخالد. والذي يفتن بما أبدعت يداه ثم يحطمه لأن في نفسه أبدا طموحا إلى ما هو أعلى. إلى الفني الذي يخايل له أبدا ويدعوه إلى الخلق من جديد.
وأما بيجماليون عند خليل هنداوي فهو الفنان الذي يفتن بعمله الفني فيحس فيه الحياة
ويستغني به عن النموذج الحي الذي استوحاه.
وكلتاهما وجهة نظر وطريقة اتجاه. أما التقدير الفني لهما فيقوم على مقدار ما استطاع المؤلف أن يبثه من فن ومدى توفيقه في معالجة موضوعه على النحو الذي أراد.
لا تزال الريشة في يد الأستاذ هنداوي ترتجف، ولا تزال تنقصها الجرأة الحاسمة، والحركة المتمكنة. وفي مثل هذه المسرحيات يكون للومضات الذهنية والتحليقات الفكرية والإشرافات الوجدانية كل القيمة في معالجة الموضوع. وهذا كله في مجموعة (سارق النار) محدود بقدر، حين يقاس إلى مثله عند توفيق.
وفي اعتقادي أن مسرحية (سارق النار) هي خير ما في المجموعة بالقياس إلى توافر هذه العناصر، وبالقياس إلى لمسات الحوار الموحية؛ وإلى رائحة النضج التي تشتم في هذا الحوار.
ثم تليها مسرحية (فتنة) فمسرحية (جزيرة بلا رجل) فمسرحية (المثال التائه) فمسرحية (اللحن الكئيب).
أما مسرحية (ميلاء) فالفشل واضح فيها. وأخشى أن يكون منشأ هذا تخلي روعة الأساطير الإغريقية ووحيها عن (المؤلف) فميلاء عربية في جوها وشخصياتها. وقد بقيت عارية من اللحم والدم والفن. ولهذا دلالة خطيرة! لا أحب أن آخذ بها في هذه المجموعة بل أوثر أن أنتظر تجربة أخرى جديدة!
بقيت كلمة حق:
إننا إذا استثنينا توفيق الحكيم. ورحنا نبحث في الشرق العربي عما أخرجته المطبعة في هذا الفصل - فصل المسرحيات الأسطورية. نجد مجموعة (سارق النار) هي الأولى في جميع المحاولات. ولعل المستقبل يضمر لمؤلفها من النضوج والتمكن ما يقفز به إلى الصف الأول. ولكن بعد جهد طويل.
سيد قطب
الأميرة علية بنت المهدي
160 -
210
للأستاذ سعيد الديوه جي
عاشت علية بنت المهدي في أوج الدولة العباسية، ولدت في خلافة المنصور، وتقلبت في نعيم أبيها المهدي وشاهدت بغداد وهي أعظم مدينة في العالم: دار السلام، وعاصمة الإسلام. مقر الخلافة وكعبة الأدب، ودار العلم والحكمة، جنة الأرض، وعرة البلاد، ومجمع المحاسن والطيبات، ومدينة الظرائف واللطائف، فهي حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وقد سأل الأمام الشافعي رجلاً: هل رأيت بغداد قال: لا. قال. ما رأيت الدنيا ولا الناس هذه هي بغداد التي كانت عاصمة الرشيد والتي مثل في قصورها وحدائقها وملاعبها حوادث ألف ليلة وليلة، التي كانت وما زالت مضرب الأمثال في العظمة والسعة والنظام، وفي سبيلها سفكت دماء، وثلت عروس، وانقرضت دول إثر دول. وهي صامدة تقاوم حدثان الدهر، وتضحك من فتنة آدم بها؛ فهي بحق (زوراء) بوجه كل عدو.
أما أمها: فهي مكنونة: من جواري المدينة المشهورات بالحسن والجمال والغناء والدلال والشعر والأدب ولها صوت رخيم، فأجتمع فيها جمال الخلق وجمال الصنعة وافتتن بها الناس، وبلغ أمرها المهدي، وكان يرغب بها ولكنه يخشى غضب أبيه المنصور المعروف بجده، فاشتراها سراً بمائة ألف درهم؛ ولما دخلت القصر غلبته على أمره وملكت قلبه فمال إليها دون بقية جواريه وفضلها حتى على (الخيزران) فكانت الخيزران تقول:(والله ما ملك امرأة أغلظ علي منها).
تولت أمها تربيتها بنفسها فحببت إليها الجمال منذ صغرها؛ فنشأت مطبوعة على حب الفنون الجميلة؛ أمرت بتعليمها الكتابة فأتقنتها؛ واختارت لها الكتب الأدبية فدرستها؛ وسلمتها إلى المؤدبين فأحسنوا تأديبها، وأحضرت لها الفقهاء والعلماء فأخذت عنهم، وكانت تريضها على قول الشعر منذ نعومة أظفارها فصارت من الشاعرات اللاتي يضرب المثل بشعرهن. كما كانت تطلعها على ألحان العرب وأصواتهم وتدربها على آلات الطرب. فكانت بلبل بني العباس وهزارهم.
ولما كمل شبابها تطلع أمراء البيت المالك إليها وكل منهم يتمنى أن يحظى بالفن والعلم
والجمال، ولكن أباها آثر بها (موسى ابن عيسى الهاشمي) وهو أحد أبطال بني العباس شجاعة وأدبا ودهاء. وتولى إمارات الولايات المهمة. كمصر؛ والعراق؛ والشام؛ واليمن.
ورثت علية من هذا الأمير أموالاً طائلة وعقارات في الولايات التي تقلدها فاتخذت لها قصراً فخماً يضاهي قصور الخلفاء في السعة والجمال، يقع هذا القصر على ضفة دجلة بالقرب من قصر زبيدة (دار القرار) وقصر الرشيد (دار الخلد) ولقصرها شرف مطلة على دجلة؛ وقد زينت شاطئه بما تحويه من النقوش المتقنة والتصاوير الجميلة؛ والألوان الزاهية؛ كما كان لقصرها شرف أخرى تطل على الميدان - ميدان دار الخلافة - والقصر يضم آلاف الجواري والخدم والحراس؛ وبلغ من أمر القصر أن اتخذه الخليفة المعتصم داراً له بعد وفاتها.
في الشرفات المطلة على النهر كانت تجلس علية؛ تصعد أمامها السُّمرِيَّات والحرَّاقات والزَبازِب إلى دار القرار أو تنحدر إلى دارالخلد مقر عاهل الإسلام أمير المؤمنين الرشيد أعظم خليفة عرفه الشرق والغرب. فيها القواد والأمراء والعلماء وأهل الفن بل يمر أمامها أهل بغداد على اختلاف طبقاتهم. وترى وفود الملوك والعواهل يتقدمون بذلة وخضوع حاملين هداياهم معرضين ولاءهم لأمير المؤمنين.
علية والرشيد:
كان الرشيد مشغوفا بأخته وقلما يصبر عنها، وإذا زارته فانه كان يجلسها معه على سرير الخلافة. وذلك لما يراه من عقلها وأدبها وظرفها؛ ورقة شعرها، وجمال غنائها؛ وحسن توقيعها، وكثيراً ما كان يزورها في قصرها ويطلب منها أن تقيم له الحفلات الغنائية ويقضي ليلة عندها يصغي إلى أصوات الحور العين؛ تردد في جو قصرها ما أبدعته قريحة من علية الشعر وما صاغته من الألحان
وفي إحدى ليالي الربيع وقد نشر البدر أشعته الفضية على بغداد وجناتها وساد المدينة الهدوء وأطفأت أنوار دار الخلافة وأمير المؤمنين على فراشه يتململ تململ السليم. يطلب النوم فلا يجده؛ وتوالت عليه الهواجس والأفكار فضاق صدره؛ بل ضاق به دار الخلد؛ فخرج إلى حدائقه الغناء يتنقل من محل إلى آخر لينفس غمه ويزيل همه. ولكن السرور لم يجد إلى قلبه سبيلاً؛ كأنه لم يشعر بما حوله من الأزهار والرياحين؛ وما يحف به من
الحور العين؛ ترك القصر واتجه إلى قصر أخته (علية) هرع الخدم إلى الأميرة يعلمونها بقدوم أمير المؤمنين؛ فأسرعت الأخت إلى أخيها؛ وهي تعلم أن مجيئه في مثل هذه الساعة؛ ومن غير ميعاد؛ لم يكن إلا لأمر أصابه أو هم أقلقه. وعلية أدرى الناس بمعالجة أخيها - كيف لا؟ وهي أميرة الشعر والطرب.
جلس الرشيد في الشرفة المطلة على دجلة. وأمرت علية جواريها أن يلبسن أنواع الثياب المزركشة؛ ورصعت رؤوسهن بالعصائب الحريرية المكللة بالدرر والجواهر؛ وأخذن معازفهن وجلسن قريباً من أمير المؤمنين واندفعت تغني أبياتاً من نظمها وتلحينها والجواري يرددن الغناء:
فرجَّوا كربي قليلاً
…
فلقد صرت نحيلاً
افعلوا في أمر مشغو
…
ف بكم فعلاً جميلاً
فالشعر من نظمها؛ واللحن من وضعها؛ والصوت من قلبها وما خرج من القلب حل في القلب؛ فتغلغلت النغمات في أعماق قلب الرشيد ودافعت الهموم، فسر بذلك وابتسم فابتسمت الدنيا لعلية؛ إذ أنها فرجت عن أخيها؛ واستزادها فغنت من نظمها:
أوقعت قلبي في الهوى
…
ونجوت منه سالمه
وبدأتني بالوصل
…
ثم قطعت وصلي ظالمه
توبي فانك عالمه
…
أولا فانك آثمه
فطرب الرشيد طربا شديداً. ثم استدناها منه وأخذ يتحدث معها عما كان به من الهم: وأمرت علية إحدى جواريها فغنت من أصوات سيدتها:
قل لذي الطرة والاصداغ والوجه المليح
ولمن أشعل نار الحب في قلب قريح
ما صحيح عملت عيناك فيه بصحيح
وغنت جارية ثانية:
ألبس الماء المداما
…
واسقني حتى أناما
وافض جودك في النا
…
س تكن فيهم إماما
لعن الله أخا البخل
…
وإن صلى وصاما
وبقي الرشيد عند أخته يستزيدها من الأصوات فتغنيه هي وجواريها حتى أذّن المؤذن يدعو الناس إلى ذكر الله وإلى الصلاة فلبى الرشيد داعي الله ونهضت أخته تودعه يحف بها الجواري والبشر طافح على وجه الخليفة والسرور قد ملأ قلبه.
وكانت عليه كثيراً ما تباغت أمير المؤمنين في الأزياء المبتكرة والألحان التي تضعها أو الشعر الذي تجود به قريحتها
- وفي أحد الأيام كتبت إليه تستزيره كعادتها - وما كاد يتوسط حديقة القصر حتى رأى أخته تستقبله هي وجواريها بأزياء جديدة مبتكرة وهن يرددن صوتاً من نظم أميرتهم وتلحينها:
تفديك أختك قد حُبيت بنعم
…
ة لسنا نعد لها الزمان عديلا
إلا الخلود وذاك قربك سيدي
…
لا زال قربك والبقاء طويلا
وحمدت ربي في إجابة دعوتي
…
ورأيت حمدي عند ذاك قليلا
وكان كثيراً ما يستصحبها معه في سفراته ومتزهاته، لتشاركه في أفراحه وتخفف عنه عناء السفر في أنغامها وأشعارها. خرج مرة إلى الرقة البلدة الجميلة التي كان الرشيد كثيراً ما يرتادها لجمالها وطيب هوائها وكثرة أزهارها وأثمارها، فأحب أن تشاركه أخته بهذا الجمال الفتان فكتب إلى خال المهدي يأمره أن يصحبها معه إليه. وفي طريقها استيقظت صباح يوم على أصوات النواعير. فصغت إلى أنينها يتردد في ذلك الفضاء الواسع يشارك كل مفؤود ويسلي كل محزون ويخفف أتعاب البائس، ويحرك أشجان الهائم ويذكر الألف بألفه والحبيب بحبيبه، والغريب بوطنه، ويشكو إلى الله ظلم البشر - ولم تكن علية قد سمعت هذا الصوت السحري الجميل فحرك أشجانها وهيج قلبها، وذكرها ببغداد وما فيها، ففاض الشعر من قلبها واندفعت تغني على هذا التوقيع الطبيعي:
اشرب وغن على صوت النواعير
…
ما كنت أعرفها لولا ابن منصور
لولا الرجاء لمن أملت رؤَيته
…
ما جزت بغداد في خوف وتقدير
وصلت الرقة بسلامة وشاركت أخاها الأنس والطرب ثم رجعت إلى دار السلام. ولما سافر الرشيد إلى الري أمر علية أن ترافقه فوافقته كرهاً، ولم يطلب لها الخروج من قصرها جنة الدنيا ونعيمها إلى بلاد لا تعرفها وأناس لا تألفهم، ولما وصل الموكب المرج جلست علية
مع الرشيد وكان قلبها معلقاً ببغداد فأظهرت لأخيها شوقها في شعرها فأنشدته:
ومغترب بالمرج يتكي لشجوه
…
وقد غاب عنه المسعدون عن الحب
إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه
…
تنشق يستشفى برائحة الركب
فأمرها الرشيد أن تعود إلى دار أنسها ومرحها.
وكان الناس يتقدمون إليها لتساعدهم في قضاء حوائجهم عند الرشيد، شفاعتها عنده مقبولة، وكلمتها لا ترد، وقاصدها لا يخيب، وكيف يردها وهي تخاطبه بلسان الشوق وتعبر له بأعذب الألحان.
أما تعلق (زبيدة) زوج الرشيد بالأميرة علية فكان لا يقل عن الرشيد بها. تشكو لها كل هم يصيبها وتطلعها على سرها وتستشيرها وتسترشد برأيها الصائب - كما كانت تبث لها شكواها إذا ما رأت جفوة أو إعراضاً من أمير المؤمنين وتستعين بها عليه.
أهدي للرشيد جارية في غاية الحسن. والجمال وعلى جانب من العلم والأدب فأعجب بها الرشيد وقدمها على جواريه. ثم تعدى الأمر إلى أعظم من هذا حيث قدمها على زبيدة، شق الأمر على زبيدة، فقد أفلت (هرون) من يدها، وظهر لها ضرة نافستها وتقدمت عليها - وداء الضرائر معروف وجد مع تعدد الزوجات فلا يغيظ المرأة أحد بقدر ضرتها (فالضرة مرة ولو كانت جرة) ولكن ما العمل والجارية قد احتلت مكان زبيدة وملأ حبها قلب هرون.
كتبت زبيدة إلى بنت عمها تستزيدها، ولما حضرت عندها عرضت عليها أمرها وشكت ما تقاسيه من مرارة العيش منذ وجدت هذه الضرة وطلبت معونتها فقالت علية:(لا يهولنك هذا الأمر والله لأردنه إليك).
نظمت عُليةُ أبياتاً. وصاغت فيها لحناً وجمعت جواريها وجواري زبيدة عندها وأمرتهن أن يلبسن أفخر ثيابهن ويأخذن أجمل حلاهن، وكلت رؤوسهن بالأزهار والرياحين، وعطرتهن بالطيب والغالية، وطرحت عليهن اللحن حتى أتقنه. انتشر الجواري بين أشجار جنائن الخلد وأزهارها، ولما كان وقت العصر خرج الرشيد للصلاة في مسجد قصر الخلافة، وما كاد يتوسط القصر حتى باغته الجواري وكأنهن حوريات أفلتن من الجنة، بأيديهن المعازف يتقدمهن عُلية وزبيدة، وهن يرددن بصوت واحد:
منفصل عني وما قلبي عنه منفصل
…
يا قاطعي قل لي: لمن نويت غيري أن تصل؟
فطرب الرشيد غاية الطرب وتقدم إلى زبيدة وأخذ بيدها واعتذر منها، ونادى يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما إلا نثرته على الجواري. فيقال إنه نثر عليهن ستة ملايين درهم ولم يشاهد الرشيد في يوم مسروراً كسروره في هذا اليوم. عادت المياه إلى مجاريها وكفى الله زبيدة داء الضرائر بفضل عُلية. فسبحان محول القلوب!!.
قلما تصفو الدنيا الغدارة لأحد فهي لا تلبث أن تبدل الصفو بالكدر، والسرور بالقهر، والفرح بالحزن، والهناء بالعزاء، تضحك اليوم وتبكي غداً، وتعطي هذا وتحرم ذاك.
وبينما عُلية في شرف قصرها، تطل على القاصدين لدار الخلافة تترقب عودة أخيها الرشيد من (طوس) رأت حركة منكرة في دار الخلد، واضطرابا في القصر بل في بغداد أجمع، فقد اجتمع الأمراء والولاة والقضاة وأرباب الحكم على اختلاف طبقاتهم بثياب العزاء فتفرست بهم فإذا بوجوههم عانية، وقلوبهم خانقة، وعيونهم دامعة، وألسنتهم خرس. لا تقدر أن تعبر عن هول المصيبة التي حلت بأمير المؤمنين، والرزء الذي أصاب العرب والمسلمين: - أن أمير المؤمنين الرشيد قد قضى نحبه في طوس - اسودت الدنيا بعين عُلية وضاق بها القصر الواسع فقد فجعت بأخيها أمير المؤمنين الرشيد أعظم خليفة أظهر للعالم عظمة العرب والإسلام، وأنفق في سبيل العلم والعمران ما يعجز عنه غيره - وكانت عاقبة هذا العاهل الذي خضعت له ملوك الأرض، ودانت له الأمم، وانقادت إليه الشعوب صاغرة، أن أدلى في لحده وأهيل عليه التراب بعيداً عن عاصمة ملكه. فقد ضن عليه الزمن أن يدفن في دار السلام، المدينة التي جعلها كعبة العلم والأدب والفن، بل عز على بغداد أن ترى الرشيد ميتاً يقبر في لحودها بعد أن زانها حياً وجعلها سيدة البلاد.
رفعت المعازف. وبحت الحناجر وساد الهدوء والخشوع في قصر عُلية فلا يسمع إلا صوت المؤذن وقراءة القرآن، ولا ترى عُلية إلا في محرابها تصلي، أو بكتابها تقرأ، أو تندب أخاها، أو تنتقل في خمائل قصرها تطلب العزلة لتخفف عنها أحزانها.
عز على الأمين أن يرى أميرة الشعر والطرب وهزار بني العباس على هذه الحالة المؤلمة فكان يتردد إلى زيارتها كثيراً ويدعوها إلى قصره. والحزن لا يجد قراراً في قلب شب على الشعر والأدب والعزف والطرب فلم تلبث أن وانقت الأمين في لهوه ومرحه.
عُلية اليوم قد ذهب نور شبابها، واشتعل الشيب في رأسها، وتغيرت نبرات صوتها، ولكن
نفسها لم تشب، بل بقيت نفساً طاهرة، تحب الجمال، وتسمع الصوت الجميل، وتعشق كل جميل، وما زالت هذه الزهرة تذبل حتى ذوت وفارقت الدنيا سنة 210هـ وقد مضى عليها خمسون ربيعاً.
وفي صبيحة يوم رأى أهل بغداد أمير المؤمنين المأمون يسير خاشعاً أمام نعش مهيب يحف به الأمراء والوزراء والعلماء فخف به أهل بغداد، وقف النعش على مقابر قريش وصلى عليه الخليفة، وأدليت جثة عُلية ودفنت درة بني العباس في هذا التراب.
للحديث بقية
سعيد الديوه جي
النابغون في أوطانهم
للأستاذ محمود عزت عرفه
كما تتوارى هذه الشمس في النهار المدجن خلف كسف من السحاب مركوم فلا يفتأ ينم عليها ساطع من سناها، يوشي أطراف السحابة بلألأئه، ويكاد ينبثق على جنباتها انبثاقا. . كذلك تستكن العبقريات النواشيء في زوايا بعض النفوس غير منفكة عن إرسال أقباسها الدالة عليها، في سدفة هذا الظلام المكتنف صاحبها، من فقر أو ضعف، أو أتضاع شأن أو بكورة سن، أو غير ذلك من سائر هذه المعوقات التي تؤخر تجلي المواهب، وتملأ السبيل إلى المجد بالشوك والصخور. .
ولهذه النباهة التي تهبط على الخاملين فجأة دلائل وإرهاصات قل من يدركها في حينها؛ لكن قل أيضاً من لا يعجب لنفسه كيف فاته أن يدركها في ذلك الحين! ومن هنا كان المرتقي أمام العصاميين شاقاً طويل المدى، لا يكاد يوفي على غايته منهم إلا كل صافي الجوهر في العبقرية، قوى المنة على مواجهة مصاعب الحياة ومقارعة أحداثها. .
والعصامي محروم - أول أمره - مما يستند إليه الناس عادة من الحرمة أو سابقة الفضل؛ وهو ملقى بلكيد منكوب بالمعارضة، موزع جهده بين التقدم تارة ودفع التعويق تارات، مقسومة قواه بين البناء من جانب وتوقى الانهيار من جانب آخر. . .
وأغرى الناس بمنابذته وأشدهم بأساً في مضارته، هم أدناهم إليه مكانا، وألصقهم به وشيجة ونسباً. . من أهل بلده وذوي قرباه، ومن رصفائه وأنداده الذين يشركونه في سن أو عمل، أو نزعة واتجاه.
وكأنما يعجب هؤلاء لفرد من أوساطهم، أو من أدانيهم، يسمو إلى منزلة لم يروه من قبل لها أهلا، ويبلغ من جاء الحياة أو من ثرائها حظاً لم يقدروا له أن يبلغه. وما أشد تقتير الناس في تقديرهم.
فلا غرو - وهذا هو الوضع - أن يكون لأكثر العصاميين ثارات قديمة عند أوطانهم الأولى حيث مرابع طفولتهم ومراتع صباهم. . تلك التي شهدت من بواكير ضرهم وبأسائهم ما لم يشهد سواها؛ ثم عند مواطنيهم الأقربين فيها، وهم من ذاقوا على أيديهم أول ما ذاقوا من كؤوس الحرمان والأذى، وتجرعوا أول ما تجرعوا من مرارة التثبيط
والجحود. وإنها لثارات وذحول تأبى على أصحابها إلا ترقب العودة إلى هذه الأوطان في مواكب النصر بعد أن فصلوا عنها في ركاب الذل والصغار. . .
وليس من محض المصادفة أن نرى شكسبير يأوي في أخريات أيامه إلى قريته ستافورد أون آفون، مخلفاً وراءه لندن مبسوطة اليدين نحوه بمزيد من ثروتها وجاهها. ولا مراء في أن صورة عجيبة المنظر كان يلتمع مرآها في ذهن الشاعر الكبير وهو يقف على باب قريته كهلا في سن الخمسين. . صورة لشباب فويق العشرين يتسلل لواذاً من أبواب هذه القرية قبل ثلاثين عاماً، وقد جلله عار السرق وحز في بدنه وثاق السجن؛ هو وليم شكسبير نفسه الذي أبى أن يمحو عار ذلك الهرب في سواد الليل البهيم بغير هذا العود المظفر الكريم في وضح نهار مشرق سني. .
وكذلك كان شأن تشارلز دكنز الكاتب الروائي الخالد. فقد أنفذ في قرية شاتهام ستة أعوام من طفولته البائسة جابه خلالها الفقر في أقبح صوره، وتجرعه في أمر طعومه، وكان أعظم ما يبهره يوم ذاك قصر (جادز هِل) القائم على ربوة في الطريق بين شاتهام وجرافسند؛ ولقد طالما داعب أبوه مشاعره بإمكان استحواذه على هذا القصر إذا هو جد واجتهد، وأصبح رجلا ذا شهرة ومجد. ولسنا نعجب لهذه الأمنية وايغالها في الطموح قدر ما نعجب لتشارلز دكنز وهو يعود بعد أربعين حولا فيحققها في جملتها وفي تفصيلها؛ بأن يمتلك القصر الجميل بما فيه، ويقضي في رحابه ختام أيام حياته وأطيبها. ولقد طوف دكنز في مدائن إنجلترا وقراها ماطوف، وحظى بطيب المقام ولذاذة التكريم في سويسرا وأمريكا وسواهما من البلدان. . فلم تكن بقعة واحدة في جنبات هذا العالم الفسيح لتستهوي نفسه بمثل ما استهواها ذلك المكان الذي شهد مذلته وضيمه، فأبت عليه نفسه إلا أن يشهده - بعد حين - مجده وعزته ونعماءه.
على أن لورد بيرون لم يحظ بما حظي به صاحباه من هذا الشعور الجميل. . شعور التغلب على مصاعب الحياة، والانتصار على الزمن وأهله في نفس المكان الذي تسجلت به الهزيمة السابقة، فقد غلب الموت هذا الشاعر على أعز أمانيه، وراح يجود بآخر أنفاسه في ميسولونجى من أرض يونان وهو يتمتم في مرارة بكلمته الباقية: لست أخاف الموت. . . ولكني أتساءل لماذا لم أذهب إلى إنجلترا قبل مقدمي إلى هذا البلد!!
ونحن إذ ننتقل فنتصفح سجل الأدب العربي نرى الأصمعي - راوية البصرة - أحد من دُهُوا بعنت الأقربين، ومنوا بكيد الأكفاء. فقد نشأ بالبصرة مقلاَّ رقيق الحال إلا من ذكاء مفرط ونفس وثابة طموح.
وكان ما يلقاه من شيخه عطاء بن مصعب - وقد تفتحت على يديه أزاهير عبقريته - أمراً رائعا عظيما. بلغه يوماً أن الأصمعي اتخذ حلقة، واجتمعت إليه فيها جماعة، فغاظه ذلك. ولما فرغ من حلقته استتبع أصحابه فقال: مروا بنا إلى ظاهر البصرة!. . قال راوي الحديث: فخرجنا حتى مررنا بشيخ معه أعنز يرعاهن وعليه جبة صوف: فقال له: يا قريب. فقال: لبيك! قال: ما فعل ابنك الأصمعي؟ فقال: هو عندكم بالبصرة فقال: هذا أبو الأصمعي لئلا يقول هذا إنه من بني هاشم!!
ويذكر القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) قصة الأصمعي مع أحد البقالين على باب بيته بالبصرة، وما كان يعيره به من الفقر، وينعيه عليه من انصرافه عن طلب المجدى من شئون العيش، حتى قال له مرة: يا هذا اقبل وصيتي. أنت شاب فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب أطرحها في هذا الدن وأصب عليه من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وانظر ما يكون منه.
على أن ضائقة الأصمعي تفرجت بعد حين؛ وأقبلت الدنيا عليه حتى أوطأته بساط الرشيد، فاستفاضت هنالك شهرته، وأثرى من مال ومن جاه. وكان من أكبر همه يوم ذاك أن يلم بموطن صباه، فترفق في استئذان الرشيد حتى إذن له، وكتب إلى والي البصرة بإكرامه والتحفي به. . قال الأصمعي: فلما كان في اليوم الثالث تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال وعليه عمامة وسخة، فقال: كيف أنت يا عبد الملك؟ فاستضحكت من حماقته وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد. فقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك وجمعت ما عندي من كتب العلم، وطرحتها في الدن فخرج ما ترى. . .
على أن هذه الذكريات (الشقية) التي تربط الإنسان بموطنه الأول ليست مما يطيف بحياة كل نابغة قلقت في البلاد ركابه بل ربما كانوا يتخذون الرحلة عن الوطن الأثير الكريم - باباً إلى التقدم في الحياة، ووسيلة إلى تحقيق كرائم الغايات فيها: من إحراز مال وجاه، أو جمع معارف وعلوم، أو تقويم طبائع مستخذية وشحذ همم كليلة. وقد كان من مواطن
العجب عند القوم - ولا يزال - أن يروج أمر من لا ينفك حلس بيته، وأن يحرز معالي الأمور من لم تنهض به همته إلى التغرب في طلابها. فليس كل مغترب إذن طريد وطنه أو ضحية ظلم مواطنيه، وإنما قد يفارق وطنه وأهله من لا يزال يحن إلى سالف سعادته هنالك حنين النيب إلى أعطانها، وقد يبلغ إلحاح هذه الذكريات السعيدة على النفس حداً تفوق به شقي الذكريات وما تدفع إليه من رغبة التشفي وتذوق حلاوة الانتصار، مما ضربنا له الأمثال آنفا.
وكان طاهر به الحسين الخزاعي، قائد الخليفة المأمون والملقب بذي اليمينين، أحد من أضناهم هذا الشعور الأخير. . شعور الحنين إلى الوطن وتعلق النفس بذكريات سعيدة فيه - حتى لنغص عليه من سروره الحاضر وسعادته المستأنفة.
قال له بعض جلسائه يوما وقد بلغ من الجاه في دولة المأمون ما بلغ: ليهنك ما أدركته من هذه المنزلة التي لم يدركها أحد من نظرائك بخراسان. فأجاب طاهر: ليس يهنيني ذلك، لأني لا أرى عجائز (بوشنج) يتطلعن إليَّ من أعالي سطوحهن. .
وإنما حاكما. وممن اجتمع لهم شقي الذكريات وسعيدها، فحدا بهم إلى أوطانهم حاديان، وتمهد أمامهم نحوها سبيلان مهيمان - نبينا محمد عليه أفضل الصلوات. . ففي مكة نشأ وتربى ملحوظا بعناية من ربه، كريماً على نفسه وعلى قومه، يظله من قبيلته أرفع لواء ويكنه فيها أشرف بيت؛ وفي مكة أيضاً لقي الإعراضَ والأذى من قريش صنوفا. فيها لقب الصادق الأمين حقا وإنصافا، ثم وسم بالشاعر والكذاب بغياً وإسرافا.
فليس عجيباً بعد أن يكون حنينه إلى مكة قويا بليغاً يؤرثه شوق غلاب إلى عهود هنالك كريمة ومشاهد محببة أثيرة، وأن ينضاف إلى الحنين شعور آخر قوي بالرغبة في مجابهة هؤلاء القوم الذين أخرجوه من داره مجابهةً يزلزل بها عقائدهم الملتوية، ويزيل بها تلك الغشاوة التي رانت على أعينهم، فيعرفوا قدر دينهم في الأديان، ومنزلة رسولهم بين رسل الله المكرمين:(قيل ادخل الجنة، قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).
ومن علائم الشعور الأول ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم يوم قدم أصيل الخزاعي من مكة فقال له: يا أصيل، كيف تركت مكة؟ قال: تركتها وقد أجحش ثُمّامها وأمشر سلمُها
وأعذَق إذخِرها. فجاش صدره الطاهر بأرق الحنين وأحر الاشتياق، ثم غمغم يقول: دع القلوب تقر!
ألا الله ما أحلى العز والكرامة في أرض الوطن! فلمثلها يتجرع العقلاس كؤوس الذل والمهانة مغتربين. يقتحمون مشاق التطواف طلباً لدعة المقام، ويقتعدون ظهور المعاطب التماساً لمواطئ النجاة ومهابط الأمن والسلامة:
تقول سليمي لو أقمت بأرضنا
…
ولم تدر أني للمقام أطوَّفُ
رب خفض تحت السرى، وغناء
…
من عناء، ونضرة من شحوب!
وليس يحس قدر هذه النعمة إلا كبار النفوس ممن يغالبون الأيام فيقتلون أو يُقتلون، ويشربون كؤوس الحياة من أرْى وشرى حتى الثمالة. . . ولعل في رأس القائمة من هؤلاء كافَي الكفاة الصاحب بن عباد - وزير آل بويه - قال القاضي الجرجاني في بعض حديث له عنه: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد، وقد استعفيته يوماً من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فقال:
أكرمْ أخاكِ بأرض مولده
…
وأمدَّه من فعلك الحسن
فالعز مطلوب وملتمسٌ
…
وأعزُّه ما نِيلَ في الوطن
ثم قال: لقد فرغتَ من هذا المعنى في العينية، فقلت:
لعل مولانا يريد قولي:
وشيدتُ مجدي بين قومي فلم أقلْ
…
ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قوله تعالى: يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
للكلام بقية
محمود عزت عرفة
المدرس بقوس الأميرية
امرأة وشيطان
للأستاذ على محمود طه
(من إحدى قصائد ديوان الشوق العائد الذي يصدر قريباً)
ودنا الليل ورنَّت صدحةٌ
…
نَّبههُ حين لا يبغي انتباها
وإذا مقصورةٌ من حوله
…
خالها تَنبِضُ بالروح دماها
وقفتْ غانيةٌ في بابها
…
قد تعرَّتْ غيَر فضلٍ من حُلاها
ثم نادت: يا (أحبايَ انهضوا
…
واغنموا الليلة حتى منتهاها)
وتلاشى الصوتُ لا رجعَ صدىً
…
لا ولا ثمَّ مُجيبٌ لنداها
فعرتها رِعدةٌ، فالتفتتْ،
…
فرأْتهُ، فتلقّاها وجِاها
أبصرتْ وجهاً كوجه المِسْخِ لم
…
يَتَقَنَّعْ، شاهَ هذا الوجهُ شاها
ورأتْ كفَّيهِ ينَدَى منهما
…
أَرَجُ الزهرْ فأجَّتْ نظرتاها
عرفتْ ما اجترحتهُ يَدُهُ
…
أو لا يعرفُ من داسَ حماها؟
يا لهذا المسخ! دوَّتْ ومَشتْ
…
صيحةٌ يُنذر بالويل صَداها
فانثنى الشيطانُ عنها صارخاً
…
أتُراها تتحدى؟ مَن تُراها؟
فَبَدتْ في شفتيها آيةٌ
…
من مُبينِ السْحر، أو ما فمحاها
فدَنَتْ ترمقهُ فاختلجتْ
…
عينهُ، حين أشارت بعصاها
بُدلَّتْ تلك العصا جمجمةً
…
رِيعَ لمّا شرَعَتْها فاَّتقاها
هيَ من مَلْكة جِنٍ من تُصب
…
يخترمْهُ بالمنايا محجراها
فتنحّى غاضباً مبتئساً
…
وتنحَّتْ والاسَى يُلجِم فُاها
وسَجَى بينهما الصمتُ الذي
…
يَتغثّى الأرض إن خان ردها
والتقتْ عيناهما فاستروحا
…
راحةً من قبلها ما عرفاها
عرفت من هو فاستختْ له
…
ورأى من هيَ فاستحيا قُواها
قال: أختاهُ اغفري لي نظرةً
…
اشتهتْ كلَّ جمالِ واشتهاها
واغفري لي شِرةً عارمةً
…
في دمي، لو أتأبى ما أباها
يا لهذا الدَّمِ! ما عنصرُهُ؟
…
كل ما في النار من وقد لظاها!
فأجابتُ: زهراتي ردُهَّا
…
إنْ تَقُلْ حقاً ولا تَبْغِ أذاها
قال: لا أذكرُ إلا حُلُماً
…
لحظة ضلَّ بها عقلي وتاها
أأنا من تَتَخَطى قَدَميِ
…
مَسبحَ الشمس فيريدُّ ضحاها
أأنا من يطفئُ النجمَ فمي
…
وأردُّ الأرضَ غرقى في دُجاها
وتمسُّ القممَ الشمَّ يدي
…
فُيرىَ منحدراً لي مُرتقاها
وأجئُ الأرضَ من محورها
…
فإذا بي يتدانى قُطُباها
أأراني عاجزاً عن دَرْكِ ما
…
تتمنَّى امرأةٌ؟! عزّتْ مناها!
آهِ ما أضعفَ سلطاني وما
…
كنتُ إلاّ بغروري أتباهى!!
قالتِ: الآن سلاماً زائري
…
وِرضَى نفسيَ إن رُمْتَ رضاها
أيها الشيطانُ ما أعظمَ ما
…
قُلْتَهُ، ما قُلْتَ لغواً أو سفاها
زَهَراتي تلك، ما كانت سوى
…
شهواتِ جِسْميَ الطاغي نماها
قهرتني واستذلتني بها
…
غَيْرَةٌ ينهشُ قلبي عقرباها
وأنانيةُ أنثى لم تُطِقْ
…
فاتناً تمسكُه أنثى سواها
قد صنعتَ الحقَّ قد عاقبتنيِ
…
فارحم المرأة في ذُلّ هواها
فدنا منها فألفتْ وجههُ
…
غير ما كانَ، لقد ألفَتْ أخاها!
قَرّبتْ بينهما روحُ الأسى
…
فاجتبتْهُ بعد حَقدٍ واجتباها
واستهلُت دمعهٌ منْ عينها
…
دمعةٌ رقَّتْ وشفّت قطرتاها
ضُمّنَت كلَّ عذابٍ وضنىً
…
كل ما في النفس من بث أساها
ورآها فتندّتْ عينهُ
…
رحمةً، فاحتال يُخفي من بُكاها
وبكى الشيطانُ! يا لامرأةٍ
…
أبكتِ الشيطان لَمَّا أنْ رآها!!
على محمود طه
سياسة التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
يجد الناشئ في مصر اليوم أبواباً مختلفة للدخول إلى الحياة التعليمية. فالوالد يرى أمام عينيه لابنه أنواعاً من المدارس متعددة: المدرسة الإلزامية، والمدرسة الأولية، والمدرسة الابتدائية، ومدرسة تحفيظ القرآن الكريم، وأخيراً المدرسة الريفية التي ظهرت حديثاً. فإلى أيها يتجه الولد وفي أيها يستمر؟
وبجانب هذه الحيرة من الوالد تجد السور من المواطن الذي لم ينظر إلا نظرة سطحية إلى هذه الأنواع الكثيرة من المدارس فسره تعددها معتقداً أن ذلك يفسح المجال أمام الناشئ للسير قدماً في حياته التعليمية وأن التعليم الشعبي في بلادنا قد تدرج في مدارج الرقي وتقدم سريعاً في تطوره وتنوعه في سبيل إنشاء جيل جديد مغامر مجاهد في نواحي الحياة المختلفة، غير أن نظرة أعمق من تلك النظرة السطحية كفيلة بأن توحي إليه بشعور آخر خصوصاً إذا درس تاريخ تلك الأنواع. فهذه المدارس البدائية في التعليم، لم تنشأ نتيجة تجارب وأبحاث علمية كما هو الحال في غير هذه البلاد، ولكنها نشأت كما نشأ غيره أحياناً في مراحل التعليم الأخرى نتيجة أفكار وآراء ارتجالية بحتة من أشخاص وأتاهم النفوذ والسلطان ردحاً من الزمن تبين لهم في خلاله شيء من العيب أو النقص في نوع ما من أنواع التعليم، فلم يفكر جدياً في إصلاحه وتركوه جانباً يتخبط في عيوبه حيث هو واتجهوا إلى خلق نوع جديد خال كما ظنوا من ذلك العيب أو النقص الذي تبينوه، وأطلقوا على مولودهم اسماً جديداً ليتميز عن قديم غيرهم. كما حدث أخيراً في المدارس الريفية التي تكاد تطغى الآن على المدارس الإلزامية والأولية. وفي المدارس الثانوية الزراعية، والتجارية والصناعية التي حلت محل المدارس الفنية المتوسطة. وكما حدث قديماً في قيام معهد التربية العالي والابتدائي على أنقاض مدرسة المعلمين العليا والمتوسطة وفي قيام كليات في الأزهر الشريف تناهض دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، وكليات الجامعة تتبعها معاهد دينية ثانوية على غرار المدارس الثانوية المدنية تؤهل للكليات الأزهرية ومعاهد ابتدائية دينية على غرار المدارس الابتدائية تؤهل للمعاهد الدينية الثانوية الخ.
وكانت نتيجة وجود هذه التشكيلات المختلفة التي نشأت في دور التعليم أن خرجت
جماعات من أبناء البلاد الواحد مختلفة الثقافات متعددة الشهادات تعمل في مهنة واحدة مما حدا بوزارة المالية أن تكدح شهوراً طوالا في تقدير درجات تلك الوريقات وتقديم ما تستحقه حاملها من مرتبات وعلاوات في مختلف الوظائف الحكومية، وقامت بين تلك الطوائف المختلفة المشاحنات على ما تستحقه هذه الطائفة أو تلك من مرتبات ودرجات. ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك فإنا نجد أن كل وحدة من وحدات الطائفة الواحدة أو كل فئة من فئاتها تتعصب في نفسها لمدرستها وثقافتها عاملة على رفع شأن نفسها على أنقاض الفئة الأخرى مجدة في تأليف النقابات لمناهضة غيرها والفوز عليه مقدمة في تأليف النقابات لمناهضة غيرها والفوز عليها مقدمة ذلك كله على الصالح العام المشترك.
خذ لذلك مثلا طائفة رجال التعليم والمعلمين وهي تلك الطائفة الكبيرة التي بلغ عددها آلافا مؤلفة والتي كان يجب أن تحمل لواء النهضة في البلاد لمركزها العلمي من جهة ولتغلغلها في القرى والمدن من جهة أخرى إذ تجد منها العشرات في القرية الواحدة موزعين على المدارس الإلزامية والأولية والريفية كما تجد منها المئات في المدينة الواحدة موزعين على المدارس الإلزامية والأولية والريفية كما تجد منها المئات في المدينة الواحدة بين جدران المدارس الابتدائية والثانوية والصناعية والزراعية والتجارية، هل ترى بين رجالها شيئاً من التآلف والتعاون على الصالح العام في سبيل النهوض بأبناء البلاد ورجال مستقبلها! وهل تجد تلك الوحدات من رجال التعليم في إقليم ما يجتمعون اجتماعاً جدياً للبحث في حالة التعليم في إقليمهم؟ إنهم مع الأسف لا يجتمعون إلا لتكريم زيد أو بكر الذي سيساعدهم في الحصول على الدرجات والعلاوات.
والأدهى والأمر من ذلك ما تجده في المدرسة الواحدة من تنافر بين الوحدات المختلفة الثقافة المتباينة التفكير! فقد تجد في المدرسة الواحدة الابتدائية أو الثانوية واحداً أو أكثر من رجال البعثات، وآخر من خريجي جامعة فؤاد، وثالثاً من خريجي المعلمين العليا، ورابعاً من خريجي دار العلوم، وخامساً من خريجي الجامعة الأزهرية، وسادساً من خريجي المعلمين الثانوية، وسابعاً من خريجي الفنون الجميلة العليا، وثامناً من خريجي الفنون والصنائع، وتاسعاً من خريجي المعلمين المتوسطة، وعاشراً من خريجي الفنون التطبيقية، وغيرهم وغيرهم من خريجي معهد التربية العليا، ومعهد التربية الابتدائي، وحملة
البكالوريا وغيرهم، وإني أذكر أنه قد اجتمع لدي لما كنت ناظر لإحدى المدارس الابتدائية تسعة أنواع من هؤلاء، فكان لا يمر يوم واحد بدون مشاحنة بين بعضهم البعض، فكيف يظن متفائل أن عدداً من هؤلاء إذا اجتمعوا في مدرسة يمكن لهم أن يتفقوا ويتفاهموا في سبيل صالحها! فما بالك بما ينشده كل معهد علمي من التضافر والتعاون في سبيل النهوض به وبأبنائه! إن التعاون في مثل هذه المدرسة مستحيل لأن كل ضعيف من هؤلاء يفكر في الدفاع عن نفسه أو هاجمه غيره وأظهر امتهانه لثقافته، ولأن كل قوي منهم يحاول أن يهاجم غيره ويقلل من أهميته، ومصلحة التعليم ضائعة بين الكر والفر والهجوم والدفاع! لا يفكر فيها مفكر وليس الأمر في هذا التنافر قاصراً على التعليم وحده، ولكنه يتعداه إلى غيره من مرافق البلاد الحيوية خصوصاً تلك التي تسيطر عليها عناصر مختلفة الدراسات والثقافات. فهذه الحال نجدها بين رجال القضاء الأهلي والشرعي في المجالس الحسبية خاصة. كما نجدها بين رجال القضاء الشرعي فيما بينهم من طائفتي خريجي الجامعة الأزهرية، وخريجي مدرسة القضاء الشرعي! وهذه الحال نجدها بين طوائف المهندسين من خريجي كلية الهندسة وخريجي المدرسة التطبيقية وخريجي الفنون الجميلة العليا وخريجي الفنون والصنائع على النظام القديم والحديث! ثم إن هذه الحال نفسها نجدها مع الأسف في قادة الرأي والزعماء المشرفين على مصالح البلاد العامة كلها! فياله من انقسام وانحلال يكاد يهوي بنا! وكان للتشعب والتنوع في التعليم الواحد أثره الفعال فيه! لقد نبهنا من سنين عدة إلى ضرورة رسم سياسة تعليمية عليا توجه التعليم في البلاد توجيهاً صالحاً في سبيل التوحيد والتعاون ولكننا مع الأسف لم نجد سميعاً! فكان ما تراه من تخاصم وتنافر وتناحر!
وإذا كان اليوم قد تولى أمور التعليم رجل عالم واسع الفكر فانا نهيب به أن يعمل جاهداً في سبيل الوحدة بوضع التعلم والثقافة في هذا البلد على أسس قويمة تكفل الوحدة وتدفع إلى التعاون والتآزر بدلا من التخاصم والتنافر. إن ثمرة ذلك لا تأتي إلا بعد زمن طويل ولكن الفخر للوزير العامل الذي سيضع إن شاء الله بذور ثقافة موحدة تنمو وتزدهر في مستقبل الأيام وتستمر على مدى الأيام حاملة اسمه في سجل العاملين الخالدين.
عبد الحميد فهمي مطر
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
الفأر يختار لنا طعامنا؟
هل فقدنا وراء جرينا وراء الحقيقة حواس وغرائز زودنا بها الله؟
يصرح العلم بأننا أضعفنا كثيراً من غرائزنا أو على الأقل سيطرنا عليها فأصبحت لنا قوانين وتقاليد تحكم تصرفاتنا. ويرى خواص الحيوانات مميزات ليست في الإنسان. وعلى هدى هذه الغرائز يعيش الحيوان فيختار ما يفيده ويرفض ما يضره، ويتصرف بما يقي نوعه.
ومن التجارب التي أجريت أخيراً ما وفق إليه البروفيسور رشتار في أبحاث أجراها على الفيران لاختبار قدرتها الغريزية على اختيار الغذاء المفيد لها في الحالات المختلفة. فعمد إلى مجموعة من الفيران الكبيرة السن فأطلقها لتشرب كما تشاء من ماء نسبة الملح فيه 3 % ثم أزال غددها التي تعلو الكلى فكانت النتيجة عجيبة إذ شربت الفيران كمية كبيرة من الماء المالح.
وأزال الغدد التي في العنق فازدادت شهية الفيران إلى المواد الجيرية وغيرها من المواد المعدنية. ثم قسم البروفيسور رشتات وجبات الطعام إلى أكوام نقية من النشويات والزلاليات والدهنيات والفيتامينات، وزن كل منها محدود. وأعد أيضاً أوعية بسوائل تحتوي الأملاح المختلفة والفيتامينات وزيت كبد الحوت وكل مادة أخرى يراد اختبارها، فاختارت الفيران وجبات الغذاء اللازمة لها كأن أخصائيا في التغذية أوصاها بتناولها.
وتناولها مبعضه مرة أخرى فأزال البنكرياس من كل منها فأصبحت معرضة للإصابة بمرض السكر، فامتنعت الفيران عن تناول أي غذاء فيه سكر أو نشاء، واستهلكت كميات كبيرة من الدهن تماماً كما يوصي الطبيب مريضه.
وهكذا كلما استأصل منها الطبيب عضواً عوضت الجرذان عمله باختيار الطعام الملائم لها أو امتنعت عن الأغذية التي تضرها.
وكانت في كل مرة تقدم للبروفيسور رشتار قائمة بالأغذية التي يجوز تناولها والتي لا يجوز.
فهل جرد الإنسان من مثل هذه الغريزة التي ترشده إلى الغذاء الصالح له؟ لقد عاش الإنسان ملايين السنين معتمداً على حاسة الذوق وحدها فلم يرشده طبيب ولا أخصائي عما يجوز تناوله من الأغذية وما لا يجوز.
إن تقدم العلم وحده حول من وسائلنا وطرقنا في الحياة فمنع وأجاز بناء على اختبارات ثابتة. ولكنه لم يقل كل كلماته، ولم يكشف عن كل أسراره. فمنذ مئات السنين عرف الإنسان أن التغذية ليست خبزا وإداما، بل هي ما في هذا الخبز والإدام من وحدات حرارية تحرك أجهزة الجسم فرأينا أنفسنا كغلايات وقودها الطعام.
واكتشفت الفيتامينات فعرفنا سراً آخر، وأدركنا أن الأجهزة الإنسانية لا تعمل بالوحدات الحرارية فحسب، بل إن نشاطها ومرضها يعتمدان إلى حد كبير على حيوية هذه المواد التي أطلقنا عليها الحروف الهجائية، فالاعتماد على اللحم وحده مع وفرة كمياته الحرارية لا يمنع الجسم من الانحلال إن لم تعضده مجموعة الفيتامينات.
فنقص الفيتامينات في الجسم يؤدي إلى عدة أمراض تبدأ من الالتهابات الجلدية فإن استمر نقصها أوصلت الإنسان إلى الموت، ولا عبرة في هذا بوفرة الوحدات الحرارية التي يحويها غذاء الإنسان في وجباته. على أنه من الثابت أيضاً أن كمية الوحدات الحرارية التي تنتجها المواد الغذائية ذات أثر كبير في نشاط الإنسان، فالعامل الذي يشتغل بعضلاته يحتاج إلى كميات طعام أكثر من الموظف الذي يؤدي الأعمال الكتابية.
وتقودنا أبحاث البروفيسور رشتار إلى نتيجتين: أولاهما أن يؤدي التوسع في أبحاثه إلى معرفة دقيقة لأنواع الأغذية الملائمة للأمراض المختلفة مما يساعد الطبيب والمريض على سهولة الشفاء أو توقي المرض.
والثانية هي حاسة التذوق، فإذا كانت الجرذان بفضل هذه الحاسة تجيد اختيار طعامها فكيف نصقلها في الإنسان، وما هي على التدقيق، فقد ثبت من هذه التجارب أن الجرذان تفضل الغذاء الطبيعي الغني بالوحدات الحرارية وبالفيتامينات وغيرها من المواد الضرورية للحياة. وهي بهذه الحاسة تدرك من مطالبها أكثر مما يدرك الإنسان.
لماذا لا تحترق الشمس؟
ولو كانت الشمس مجموعة عادية من الغازات المحترقة لزالت من عالم الوجود. ولو كانت
كمية من الفحم المحترق
لاستهلكت كميته من قرون مضت. ويعلل العلماء بقاء الشمس إلى الآن بأنها تتكون من غازات مرتفعة الحرارة إلى درجة تمنعها من الاحتراق.
فالاحتراق نوع من التأكسد ونظن عادة أنه يحدث بالحرارة، ومن المحتمل أنه إذا كانت الحرارة شديدة جداً فان التأكسد يمتنع وهذا ما حدث للشمس فعلا. فدرجة حرارة غازاتها مرتفعة جداً إلى حد يمتنع فيه التأكسد والاحتراق.
ويعرف العلماء الذين يدرسون الشمس أن درجات الحرارة المرتفعة تحلل المركبات الكيميائية وتقسمها لعناصرها الأولية المختلفة، ولهذا فان الغازات المكونة للشمس هي خليط آلي من العناصر الأولية. ولا يوجد فيها مركبات كيميائية بتاتاً فان الخلط آلي وليس كيميائياً
ونحن نعرف أن الشمس تفقد حرارتها التي نستفيد منها، على أن هذه الحرارة تفقد ببطء ينتظر معه أن تعيش عدة بلايين من السنين.
تربية الأسماك
عندما هددت الغواصات الألمانية الشعب الإنجليزي بالجوع كلف معهد الصناعات الكيميائية الإمبراطوري السير جون جراهم كر والبروفيسور جروس بإجراء التجارب لزيادة المحصول القومي من الأسماك. وأفردت للعالمين بحيرة يجريان فيها تجاربهما في إحدى خلجان اسكتلندا.
وبعد عدة محاولات نجحا في تحقيق المطلوب منهما إذ تمكنا من زيادة إخصاب البحيرة بالنترات والفوسفات التي كان يتغذى بها السمك الصغير، وهو الغذاء الطبيعي للأسماك بسرعة غريبة فان حجمها ووزنها زاد في شهر أو شهرين زيادة كبيرة كانت تستلزم ثلاث سنين بطرق التغذية العادية. وكانت النتيجة أن شباك الصيد وجدت في الأسماك كمية وافرة فبلغ وزن بعض الأسماك 20 ضعفا لوزن مثيلاتها في العمر.
فوزي الشتوي
القصص
إيزرهادن
للكاتب الروسي تولستوي
للأستاذ زكي شنوده
انقض إيزرهادن ملك الأشوريين أنقاض الوحش على دولة الملك ليلليَّ، فعذب فيها الناس، وخرب منها المدن، وأطلق في أطلالها ألسنة النار تأكل ما تبقى من معالمها وأخذ كل من فيها أسرى، وهنالك ذّبحهم وألقى ملكهم في غيابة السجن.
وبينما هو مستلق ذات ليلة في فراشه يفكر في أفظع الوسائل لقتل الملك الأسير إذ سمع حفيفاً خفيفاً يقترب منه فرفع عينيه فرأى أمامه شبح رجل طويل القامة أبيض اللحية في عينيه وداعة وسلام يقترب منه ويهمس في مسمعه هل حقا تريد أن تقتل ليلليَّ؟
فقال الملك: هذا ما أريد فخبرني بربك كيف السبيل؟ فقال الكهل: ولكنه أنت!!
قال - أنا من؟
- ليلليَّ
- ويحك هل جننت؟ إن ليللي هو ليللي وأما أنا فهو أنا!
- وهمت يا صاحبي فأنت وليللي كل لا يتجزأ.
- ولكن لا أفهم: فها أنذا مستلق على فراش وثير، وحولي الجواري والغلمان، وغداً سوف أجلس مع صحابي على سماط نأكل حوله الآكال ونشرب الأشربة ونتسارُّ ونتسامر كما فعلنا اليوم وكما فعلنا بالأمس. بينما ليللي هنالك ملقى في سجنه كطائر في قفص، وغداً يخوزق، ويعلق من لسانه فيظل يتخبط حتى يأخذ روحه الشيطان.
قال الشيخ: ولكنك لن تسلبه الحياة!!
- إذن ما رأيك يا شيخي العزيز في الأربع عشر ألفا من الجنود الذين اقتلعت من حلوقهم الأرواح وصنعت بأجسادهم رابية كجبل الهند. فأين هم الآن؟ لقد قتلتهم وليس ثمة لهم وجود وهاأنذا من أحادثك وتحدثني بترهاتك يا شيخ المخرفين.
- ومن يدريك أن لا وجود لهم؟
- يدريني أنني لا أراهم الآن وقد أكلتهم بالأمس جوارح الطير أمام عيني.
- وفي هذا كذلك أنت واهم فما فعلت إلا أن قتلت نفسك.
- بربك إلا تدعني أفهم هذا الذي تهذي به؟
- أو تريد أن تفهم؟
- نعم.
- إذا تعال. .
وأشار الشيخ إلى طست فيه ماء وقال للملك اجلس فيه، فنهض الملك من سريره، وجلس في الطست. وأمسك الشيخ بقارورة تشف عن سائل، وقال للملك أحن رأسك فأحناه، فسكب عليه من ذلك السائل فانتفض ثم شعر بأنه إنسان آخر:
ورأى نفسه فجأة متكئا على سرير وثير إلى جانب امرأة كاللؤلؤة ما رآها من قبل بل عرف ساعتئذ أنها زوجته. ونهضت المرأة قائلة له أي ليللي زوجي العزيز، لقد رأيت أعمالك بالأمس متعددة متعقدة، أنهكت قواك فرحت مع النوم أكثر من كل يّوم، فضع على منكبك الرداء وهب يا مولاي إلى البهو الأعظم حيث الأمراء والحكماء ينتظرون.
فقام إيزرهادن وقد وقر في نفسه أنه ليللي، وعجب كيف لم يعرف نفسه من قبل؟! ثم تزيا وتمنطق وتهادى في جلاله الملك إلى البهو الأعظم حيث يسوس مع أعوانه شؤون الناس.
حيّا الأمراء ملكهم ليللي وقد عنت منهم الوجوه، ثم جلسوا بأمره واستهل كبير الوزراء الكلام فقال إنه من المستحيل أن تتغاضى المملكة عن تلك الإهانات الوقحة التي ما يفتأ يوجهها الملك المفتون الأحمق إيزرهادن ملك الأشوريين وإن لم يكن ثمة بد من القتال فأنها الحرب
ولكن ليللي انتفض ورفض، وقال إن الأمور تصرف بالسلام لا بالصدام. وأصدر أوامره بأن يبعث من لدنه رسلا يفاوضون الملك الأهوج إيزرهادن وزود الرسل بما يقولون ويفعلون، ثم بعث بهم على بركة الله.
وبعد أن نظر الملك ما عليه - في شؤون الملك من عمل خرج يقتنص من لفائف الغاب طرائد الوحوش، فتلك هي صبابته ولذة نفسه منذ كان في أكناف أبيه يافعا، وما كان أسعده في هذا اليوم إذ صرع بسهمه المراش عجلين من أفحل عجول الإحراج. نظر كذلك إلى
هذه اللبؤة العرفاء التي جاءت نحوه تتهادى في دلال الإناث وإقبال الأسد، وعاد الملك بالقنائص طروبا، وقضى الليل مع ندمائه في قصف ورقص.
وهكذا عاش الملك مقسما بين ضرورات الحكم ومسرات القلب أياما وأسابيع في انتظار عودة الرسل الذين بعث بهم إلى الملك إيزرهادن، وعاد الرسل بعد شهر ولم تعد معهم أنوفهم ولا آذانهم، إذ أن الملك إيزرهادن قد أخذ رهينة على أن يقولوا لمليكهم ليللي إن ما حل بهم سيحدث له كذلك إن هو لم يحمل على ظهور المطايا أو ساقا من الفضة والذهب والأخشاب الثمينة ويقدمها للملك ايزرهادن ومن خلفها يذهب الملك ليللي بنفسه ويقدم للملك العظيم فروض الولاء
وجمع ليللي أمراءه فتشاوروا ودبروا وقدروا، وقرروا أن الملك قد أهين، وبالإجماع أعلنوها حربا على ملك الأشوريين، وعلى رأس جيش يتقد حمية وحماسة كان الملك ليللي يزحف إلى عدوه وقضى سبعة أيام يكابد هو وجيشه مشقة السفر ووعثاء الطريق.
وفي اليوم الثامن تقابل الجيشان في بطن واد مكشوف. ويا أكثر ما روع الملك الباسل ليللي إذ رأى جيش غريمه ينهمر كالسيل من أعلى الجبل ويكتسح الوادي بآلاف مؤلفة فدافع ليللي ببضع مئاته دفاع الأبطال.
ولكنه سرعان ما جرح وحمل أسيراً وذهب جيشه من قتيل وأسير وسيق به وبهم إلى نينوى حيث ألقى الملك في كهف مسوج بالقضبان.
ولم يعان الملك ليللي في هذا الأسر من آلام الجوع وإيلام الجروح كما عانى من إلام الروح: فها هو ذا ملطخا بالخزي والعار لا حول له ولا قوة، يكابد عذابه وأوصا به شجاعا صابراً لا شاكيا ولا متذمراً.
اثنتا عشر يوما ينتظر الملك الموت وهو يرى في كل لحظة خلصاءه وندماءه يساقون إلى الذبح كالخراف ولكنه تجمَّل وتحمل وكتم: رأي زوجته التي يحبها كل الحب مغلولة اليدين يسوقها عبدان إلى حيث تلقى مع جواري إيزرهادن فسكن وسكت.
وأخيراً صرصرت السلاسل وفتح باب السجن، ودخل جنديان، فأنهضا الملك وكبلاه بالحديد وساقاه إلى ساحة الإعدام، وخلعوا أثواب الملك وزجروه وزجوه إلى حيث الموت، وحينئذ صاح الملك: إنه الأجل. لا أستطيع. وفقد الملك شجاعته وبكى، ووقع الملك على
أقدام الجلادين يبكي ويسترحم، ولكن لا سامع ولا مجيب: وشهروا السيف وأرادوا أن يُهووا به على عنقه.
وهنا صاح الملك: هذا لا يمكن. أنه حلم، ونفض الملك رأسه فعاد كما كان: إيزرهادن.
وقال إيزرهادن: يا إلهي كم قاسيت من العذاب. وكم طال هذا الكابوس.
فأجاب الشيخ ذو اللحية: كم طال هذا الكابوس!؟ إنه لحظة يا صاحبي دونها غفوة العين. . . فهل فهمت الآن؟
فنظر الملك في رعب ولم يجب.
فقال الشيخ أرأيت أن ليللي هو أنت، وأن الجنود الذين عذبتهم وقتلتهم ليسوا أحداً غيرك؟ إنك تظن أيها الملك أن الحياة تجري في عروقك وحدك، ولكنني أريتك أنك بعمل الشر للآخرين إنما عملته لنفسك لأن الآخرين وأنت شيء واحد، فالحياة واحدة في الجميع وإنما حياتك جزء من هذه الحياة العامة وصورة منها مصغرة: وإلا فخبرني هل يمكنك أن تجعل الحياة أسوأ مما هي أو أحسن مما هي؟ هل يمكنك أن تمدها حتى تطول، أو تقبضها حتى تقصر؟. . . كلا فما في استطاعتك أن تحقق الحياة إلا في نفسك وذلك بأن تحطم الحواجز بين حياة الآخرين وحياتك، وبأن تنظر إلى الآخرين النظرة التي تنظرها إلى نفسك وتحبهم كما لو كانوا منك. بهذا تزيد نصيبك في الحياة، إنك تنظر إلى حياتك كأنها الحياة الوحيدة في الكون وتريد أن تزيدها بما تأخذ من حياة الآخرين، وأنا أقول لك إنه بنفس هذا العمل إنما تخطئ في حق نفسك لأنه مستحيل وفوق قدرتك أن تسلب الحياة التي توجد في الآخرين. وخطأ أن تظن أن حياة الذين قتلتهم قد اختفت في الواقع أبداً، فالحياة لا تعرف الزمان ولا المكان.
حياة لحظة وحياة ألف عام وحياتك أنت وحياة كل الكائنات الكثيرة والمتنوعة في الوجود، كل هذا سواء، وواحد لا يختلف. مستحيل أن تسلب الحياة أو تّهبها لأحد. الحياة هي الشيء الوحيد الذي يوجد إلى الأبد؛ وكل شيء عداها نتخيل أنه موجود وهو وهم باطل.
قال الشيخ هذا واختفى.
وفي الصباح أصدر الملك إيزرهادن أمره بإطلاق سراح الملك ليللي وإلغاء كل أحكام الإعدام. وفي الثالث استدعى إليه ابنا أشور بانّي يال وتنازل له عن الملك بكل قوته
وسطوته.
وأما الملك إيزرهادن فقد خرج إلى الغابات يتأمل في كل ما عرفه وطاف في المدن العساكر يبشر الناس بأن الحياة واحدة خالدة، وأن الناس إذ يسيئون للغير لأنفسهم لأن غيرهم وأنفسهم واحد خالد.
زكي شنودة
المحامي
الكتب
ضجعة العروس
قصة مصرية
117 صفحة - مطبعة التوكل
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كنا جماعة في ندوتنا الأدبية الحرة؛ وكانت هذه القصة في يدي ولا أدري لماذا حملتها وطوفت بها الآفاق. فلفت غلافها نظر صديقنا الدكتور ع. فلم يعجبه العنوان من ناحية تناسب الحروف فيه متنافرة ثقيلة؛ والدكتور رجل دقيق الحس فيما يخص الذوق والجمال.
أما أستاذنا المحامي الكبير (ا. ق) فكان اعتراضه على العنوان من ناحية أخرى. . . (ضجعة العروس)؟؟! ما هذا؟ إنه عنوان لا يليق.
ولعل العنوان الذي اختاره الدكتور. ع. (رقدة العروس) كان أكثر مناسبة وأقل معترضا. لولا أن القضاء سبق فطبع العنوان ولم يبق إلا مجال الاعتراض لا مجال الاختيار والاقتراح.
هذه القصة قصة غرام حطمه الزمان. فأخرجها الأستاذ إبراهيم عز الدين في ثوب يريك أثر جراحات الزمان وندوبه. وللمؤلف هنا قوة في التعبير تصور لك المأساة في أروع صورها حتى ليكاد وصفه كله يقطر بالدماء المتقطرة على مذبح الحياة. لولا ومضات من الفكاهة هنا وهناك تجئ عفواً أحياناً؛ ويتعمدها المؤلف أحياناً ليروح عن قارئه المكدود بأثقال الحوادث.
وما أبرع المؤلف وهو يصور لنا - خلال مشاهد الأسى - مشهد المقابر وقد زحمتها جيوش المتسولين والفقهاء الذين يرتلون على قبور الموتى آيات من الذكر الحكيم لا يتبينها السامع لطول ما يلوون بها أشداقهم.
وما أبرعه أيضاً وهو يصور لنا (مأذون الناحية) في أسلوب يسيل فكاهة ومرحا. حتى لتكاد تنسى في تضاعيف الفكاهة المتلاحقة في هذا الشيخ (سعاد) المسكينة المطوية بعد التمرد في صفائح القبور.
والقصة مملوءة بالجانب (الحكائي). وبطل القصة يروي لنا بنفسه ما تعاقب عليه من أحداث الليالي في أحضان النساء.
إلا أن البطلة (سعاد) ظهرت مقتضبة في القصة فلا تفتح عينك حتى تراها صريعة الجحود والنكران. .
وفي خلال القصص ترى للمؤلف حكم الحياة مبثوثة في تضاعيف السطور وهي حكم غير مقحمة ولا مجتلبة. ولكنها تصيب الموضع فتجمل وتصيب في الأذن والقلب مكاناً. وما اصدق المؤلف وهو يقول في صفحة 74 (إن مراكب الحياة تسير وتمخر في عبابها. . . ولن يثنيها عن طريقها صريع مدرج في كفن أو وليد مدلل في مهد).
وعلى الرغم من أسلوب القصة القوي فان في الكاتب استهتاراً كبيراً باللغة. وما قيمة الأسلوب والعبارة إذا خالفا اللغة ونحوها؟ أليس من حق اللغة على شباب الكتاب أن يهتموا بها اهتمامهم باختيار العبارات.
ففي صفحة 78 (الكف الندي) والصواب الكف الندية لأن الكف مؤنثه كما ورد:
فلو كفى اليمين بغتك خوفا
…
لأفردت اليمين على الشمال
وفي صفحة 79 (وهم على وشك أن يفجعونه) والصواب بحذف النون.
وفي صفحة 89 (كان الشيخ والمرأة فرسا رهان) والصواب فرسي رهان لأن المثنى ينصب بالياء والنون وهو هنا خبر كان.
وفي صفحة 91 (إلى العمل في رابعة النهار) وليس للنهار ثالثة ولا رابعة. . وإنما هي رائعة النهار بالهمزة.
وفي صفحة 29 (كلما أمعن هذا الرجل تحليلا كلما تعقد). وكلما لا تتكرر في الجواب بل تحذف. قال تعالى في سورة الأعراف آية 37 (كلما دخلت أمة لعنت أختها). وقال الشاعر:
أو كلما وردت عكاظ قبيِلة
…
بعثت إلى عريفها يتوسم
وفي صفحة 15 (ويفرحن لشقوانا) وليس في اللغة شقوى بمعنى شقاء والمذكور في المعاجم الشقاوة والشقوة.
وإني على ثقة أن الأستاذ الكاتب القوي إبراهيم عز الدين لمحاول أن يكمل أسلوبه الفاتن ولوحاته الصادقة (برتوش) النحو واللغة فذلك خير لأدبه وقلمه - والسلام.
محمد عبد الغني حسن
محمود تيمور
رائد القصة العربية
المعجبون بفن محمود تيمور من الشباب السوري كثير. من هؤلاء الأستاذ نزيه الحكيم مؤلف هذه الدراسة الأدبية عن القاص المصري الكبير التي بدأها بعرض تاريخي عن الأسرة التيمورية ومنشئها وولوع بيتها بالعلم والأدب حتى كان أحمد تيمور باشا وكان ابنه الأستاذ محمود يدرج في أحضان بيت كريم. فإذا شب بدت عليه مخايل النجابة فهو منذ السن المبكرة يؤلف القصص حتى يجود بهذا الفن المدار الذي عرف به في الشرق وكانت له اليد السابقة عليه في نهضة القصة العربية الحديثة.
وفي الفصل الثاني من هذه الدراسة حلل المؤلف الأديب طبع تيمور وسجاياه من حب للخير وهدوء وإنسانية ممحوضة ظهرت آثارها في وصفه لطباع الأبطال في روايته وسجاياهم الهادئة وتصوير إنسانيتهم الخيرة الشفافة. ثم تحرّى وجهات فنه وطريقته في القصة وإيراد الحوادث مما لم ينسحب فيه على آثار غيره، وإنما جعله طابعاً لفنه معروفا لا تجثم عليه الواقعية الباهتة ولا تُغرِبُ حوادثه الأوهام. ثم مضى المؤلف في تبيان الألوان الفنية التي امتاز بها قصص تيمور والمراحل التي تحول فيها أثره من الفن الواقعي إلى التحليل النفسي ومن البيئة الخاصة المحدودة إلى الآفاق المنطلقة البعيدة. كل ذلك أتى عليه الأستاذ نزيه الحكيم بطريقة علمية ونقد تحليلي قويم تكاد كل كلمة فيه تنزل في مكانتها من المعنى الذي لا يؤدي بغيرها لدقة التعبير الفني. ثم أتبع هذه المراحل بخروج تيمور من القصة المقروءة إلى القصة التمثيلية وهو أفق أطلق تيمور فيه جناحي طائر يجيد التدويم. وحين وصل المؤلف إلى أسلوب تيمور بين التحول فيه أيضاً مما كان يعتريه في سوابق قصصه من لين في التعبير وانحراف عن مصح اللغة إلى هذه الحلية الحديثة في آثاره الأخيرة التي استقامت لغتها وأسلس تعبيرها.
المرأة ومركزها الاجتماعي في الدولة:
هذا كتاب طريف وظريف. أما طرائفه فلأنهُ يعني بتقديم المرأة عامة والمصرية خاصة بما يسدي إليها من نصح وإرشاد، وما يختط لها من خطط في إنهاضها وإصلاحها. وأما ظرفه فلأنُه حوار بين فيلسوف وتلميذه الفتي، فالفتى يجنح إلى عداوة المرأة والتنقير في عيوبها،
والفيلسوف رحيم القلب رحيب الصدر يتخذ للمرأة ألين السبل لتسديد خطاها وإعلاء شأنها ودفع التلوام عنه.
فهذا الكتاب دعوة مصلح لم يلجأ إلى التنديد والوعيد ورفع العقيرة بالصراخ، ولا جعل الوسيلة إلى بلوغ غايته من طريق الغيرة الدينية والتزمت، وإنما هو دعوة مطمئنة هادئة تتسرب إلى النفوس بقبول، فكأن فيها الإيحاء على نحو ما يسميه علماء النفس. تقرأ الكتاب كله أو فصلا منه وتخرج بنفس رضيت عما قرأت ولمست وجه الخير فيه. وقد زانه مؤلفه الأستاذ محمد البندري بلُمَع من تاريخ العرب والأمم. وحين كتب فصل المرأة المعاصرة ونهضتها أوفى على الغاية وتناول البحث من جذوره إلى ثماره مؤرخا نهوض المرأة المصرية وأخواتها المجاورات. وجعل آخر كل فصل من فصول كتابه أبياتاً في معنى الموضوع بعضها جاء سليم النظم واضح المعنى وبعضها بدا ظالع المبنى فهيه المنى. وكيف اتفق الأمر ففي الكتاب أدب وحكمة؟ فهل كان اسم صاحبه منتزعا من اسم بندار الشاعر الحكيم القديم.
زكي المحاسني