المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 61 - بتاريخ: 03 - 09 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٦١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 61

- بتاريخ: 03 - 09 - 1934

ص: -1

‌الأخلاق والتشريع

إذا كان الصيف موسم التنزه والاستحمام وجوب الشواطئ، فهو أيضاً موسم التحدث عن الأخلاق. ففي كل صيف يتجدد لدينا حديث الأخلاق وانحلالها، وما تجنيه عليها مناظر الاستحمام والعري المثيرة؛ وقد بلغت هذه المناظر على شواطئ الإسكندرية فيما يظهر حداً مزعجاً من التبذل والتهتك، وأثارت عاصفة شديدة من الاحتجاج والسخط، وارتفعت الصيحة بوجوب وضع حد لهذه الإباحة الخطرة؛ فاهتمت الحكومة وتدخلت إدارة الأمن العام، ووضعت قيوداً جديدة على الاستحمام والنزه البحرية والركوب أو الجلوس بملابس البحر، تحقق في نظرها مستوى معيناً من الحشمة والحياء والصون

وثار أيضاً حديث الأفلام والمناظر السينمائية المنافية للحياء، وانتهى إلينا صدى تلك الحملات القوية التي تنظم في أمريكا، وتنظمها الكنيسة بالأخص لمحاربة هذه الأفلام والمناظر المثيرة المفسدة لأخلاق النشىء والشباب؛ وقيل بحق إننا في مصر أشد حاجة إلى مقاومة هذا الخطر الأخلاقي؛ فاهتمت لذلك لجنة الرقابة الأدبية، واقترحت على وزارة الداخلية أن تشدد الرقابة على الأفلام المصورة الواردة من الخارج، فأقرت الاقتراح وستعمل لتنفيذه.

وهكذا كلما ارتفعت الشكوى من خطر على الدين أو الأخلاق، اتجهت الأنظار إلى الحكومة، وطلب إليها العمل لمقاومة هذا الخطر. والحكومة في مصر هي حامية الدين والأخلاق. والحكومة في جميع الأمم المتمدنة تضطلع بمثل هذه المهمة وتحمل مثل هذه التبعة؛ ولكنها لا تنفرد بتأدية هذا الواجب، وإنما تقوم به إلى جانب القوى المعنوية والاجتماعية الأخرى، وتمد إليها يد العون متى احتاجت. أما في مصر فالمفروض أن الحكومة تقوم في هذا السبيل بكل شيء، وتحمل كل تبعة، وعليها وحدها يقع عبء التقويم والإصلاح

وليس هنا مقام التحدث عن أسباب هذه الظاهرة، وإن كان وجودها طبيعياً في بلد تقبض حكومته على جميع السلطات، وتسيطر على جميع الحريات والقوى المادية والاجتماعية؛ ولكنا نتساءل فقط: هل يكفي تدخل الحكومة لدرء الشر، أو بعبارة أخرى هل يعتبر التشريع وسيلة ناجمة لتقويم الأخلاق؟ لقد اعترض بعض النقدة حينما فرضت الحكومة تلك القيود الجديدة على ملابس البحر والنزه البحرية، وقالوا إن الأخلاق لا تقوم بالتشريع، وإن

ص: 1

تيار الفساد أقوى من أن تحده مثل هذه القيود. وربما كان ذلك حقاً في ذاته؛ فالتشريع وحده لا يكفي لقمع الفساد وتقويم الأخلاق، بل يجب أن تتضافر معه جميع القوى والعناصر التهذيبية الأخرى، في البيت والأسرة والمدرسة والمجتمع، ولكن التشريع لابد منه في بلد تسيطر الحكومة فيه على كل شيء: على التعليم والتربية، وتكوين التفكير والأخلاق؛ وتنظيم المجتمع، والتشريع أول وأهم خطوة في بلد لم يستكمل نضجه في التهذيب والثقافة، وفي بلد تغزوه أسفل عناصر المدنية الغربية؛ وفي مجتمع لا يفهم التمدن إلا بأنه اقتباس للخلال والأزياء الغربية الخليعة، والانحدار إلى مهاوي التهتك، وإهدار قواعد الحياء والحشمة، والانغماس في شر ما تنغمس فيه العناصر الأجنبية الوضيعة.

وحيثما يسري الفساد إلى مجتمع ضاع فيه وازع التربية والحياء والأخلاق، وجب أن يمثل وازع التشريع والإكراه، ونريد هنا التشريع الحكيم النزيه المبني على دراسة عميقة وتمحيص مستنير. نعم إن التشريع لا يحدث أثره سراعاً، ولكنه يذلل الطريق دائماً للغاية المثلى، وفي جميع الأمم الغربية يتخذ التشريع وسيلة لحماية الأخلاق وتقويمها؛ ففي إنكلترا قوانين لحماية الأحداث من خطر ارتياد المقاهي والملاهي منفردين ولحماية أخلاقهم في المصنع؛ وقد لجأت الفاشية في إيطاليا إلى التشريع لمعالجة الفساد الأخلاقي الذي بثته فوضى ما بعد الحرب إلى كل طبقات المجتمع، فأصدرت قوانين عديدة لمحاربة الخلاعة والتهتك ومطاردة الملاهي المبتذلة، وتناول التشريع أزياء المرأة فحتم أن تكون ذات طول معين؛ ورُدت المرأة الإيطالية بقوة التشريع إلى الأسرة والمنزل، وحملت على تقديس الزواج والأمومة، واحتقار الإمعان في التبرج واللهو الخليع؛ وحذت الوطنية الاشتراكية في ألمانيا حذو الفاشية في ذلك، فلجأت إلى التشريع في مطاردة الفساد الأخلاقي والملاهي المبتذلة، وأُغلقت مئات الحانات والمنتديات المريبة في برلين وغيرها، ورُدت المرأة الألمانية إلى حظيرة الأسرة، وبوعد بينها وبين العمل الخارجي جهد الاستطاعة، إلى غير ذلك من الوسائل والإجراءات التي أريد منها صون الأخلاق بعد ما وصلت إلى أبعد حدود الانحلال، ورفع مستوى الحياء والحشمة بعد أن هبط إلى الدرك الأسفل.

وفي تركيا الكمالية، كان التشريع وسيلة التحرير والتمدن، فلما طغى سيل الفساد الأخلاقي في مجتمع لم ينضج بعد لمثل هذا الإغراق والتطرف، عادت حكومة أنقرة فلجأت إلى

ص: 2

التشريع أيضاً لكبح جماح ما أطلقت عنانه بادئ بدء، وحماية النشء والشباب من الاندفاع في حريات لم يألفوها، وكانت وبالاً على أخلاقهم ونفوسهم.

والخلاصة أننا لا نعترض على التشريع في ذاته كوسيلة لحماية الأخلاق والآداب؛ فلنا في ذلك أسوة بكثير من الأمم الغربية ذات الأخلاق والمدنية؛ وما دمنا نخضع لمثل هذه الظروف والنظم، فلا مناص من الالتجاء في الإصلاح إلى وسائل الإكراه؛ ولكن الذي نعترض عليه حقاً هو أن هذه القوانين التي توضع لمعالجة هذه الشئون ليست دائماً على جانب كبير من الحكمة والاتزان، ولا تقوم دائماً على نزاهة القصد والغاية؛ وإنما توضع في الغالب لتهدئة بعض الحملات المزعجة، ومعالجة بعض الحالات المؤقتة، والتماس شيء من المديح والرضى.

(ع)

ص: 3

‌تربية لؤلؤية

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

كتبتْ إليّ سيدة فاضلة بما هذه ترجمتهُ منقولاً إلى أسلوبي وطريقتي:

. . . أما بعد فهذا الذي كنا ظننا وظنت، فاقرأ الفصل الذي انتزعته لك من مجلة. . . وستعرف منه وتنكر، وترى فيه النهار مبصراً والليل أعمى. . . وتجد فتاةَ اليوم على ما وقع بها من الظِنّة، وكثر فيها من أقوال السوء - لا تَشْمس على الريبة ولا تريد أن تنتفي منها، بل هي تعمل لتحقيقها، وتبغي مع تحقيقها أن يتعالم الناس ذلك منها، وتريد مع هذين أن يطلقوا لها ما شاءت، ويسوّغوها مقارفة الإثم، ويُقِرُّوها على منكراتها.

أمَا إنه إذا كانت أمهاتنا الجاهلات هنّ أمسنا الذاهب بلا فائدة، فإن فتياتنا المتعلمات هن يومنا الضائع بلا فائدة، غير أن الجاهلة لم تكن تَكْسَد ومعها الفضيلة، فأصبحت المتعلمة لم تكد تَنْفُق ومعها الرذيلة، ولَتَاجرٌ أمّيّ طاهر الاسم تتحرك سوقُه وتحيا، خير من تاجر متعلم نجس الاسم قد ماتت سوقه وخمدت، فما نتنفّس من درهم ولا دينار.

لقد احتذينا على مثال المرأة الأوربية، فلما أحكَمَتْه المتعلمات مناكن بين الشرق والغرب كالسَّبِخَةِ النشّاشة من الأرض، طرف لها بالفلاة وطرف بالبحر؛ فهي رمل في ماء في ملح، لا تُخْلُص لفساد ولا صحة، فاعتبر هذه وهذه فستجدهما بحكاية واحدة، أصلاً وطبق الأصل.

وقرأت الفصل الذي أومأت إليه السيدة وكان في كتابها فإذا هو لكاتبة تزعم (أنها ممن رفعن علم الجهاد لحرية المرأة) وإذا في أوله: (كتبت آنسة أديبة في عدد سابق من. . . الأغر تقول: (أجل، لنفتش عن هذا الرجل كما يفتشون هم عن المرأة، فإن أخطأناهم أزواجاً فلن نخطئهم أصدقاء. . .) وكتب بعد هذا أديب فاضل، كما كتبت آنسة فاضلة ينحيلن (كذا) هذا المنحى ويطرقان نفس السبيل (كذا) التي اختطتها الآنسة الجريئة في غير حق، الثائرة في نزق. ثم قالت بعد ذلك: (قرأت مقال الآنسة الثائرة في حيوية صارحة. . . . فجزعت لأن قاسم أمين عندما رفع علم الجهاد من أجل حرية المرأة، وولى الدين يكن عندما جاهر بعده في سبيل السفور، وهدى شعراوي عندما رفعت صوتها عالياً تطالب بحرية المرأة - ما ظنت وما ظن واحد من هذين الرجلين أن ثورة المرأة ستتطور

ص: 4

إلى حد أن تقف آنسة مهذبة تكشف عن رأسها تبكي وتستبكي سواها معها من أجل الزواج. . .)

وأنا فلست أدري والله ممَّ تعجب هذه الكاتبة وإني لأعجب من عجبها وأراها كالتي تكتب عبثاً وهزلاً وهويني مُظهرة الجد والقصد والغضب. أئن أطلق للنساء أن يثرن كما تقول الكاتبة، وجاهد فلان وفلان في هذه الثورة فأخذت مأخذها، فانطلقت لشأنها، فأوغلت في حريتها، فامتد بها أمدها شوطاً بعد شوط - ثم جاء خُلُقٌ من أخلاق المرأة يسفر سفوره ويرفع الحجاب عن طبيعته ثائراً هو أيضاً في غير مداراة ولا حذق ولا كياسة يريد أن يقتحم طريقه ويسلك سبيله، ثم وقف على رغمه في الطريق منكسراً مما به من اللهفة والوثبة يتوجع، يتنهد، يتلذّع بهذه المعاني وهذه الكلمات - أئن وقع ذلك جاءت كاتبة من كاتبات السفور تقول للمرأة: جرى عليك وكنتِ حرة، وتزعزعت وكنت طاهرة. أفلا تقول لها: سفرت أخلاقك إذ كنت سافرة بارزة، وضاع حياؤك إذ كنتُ مُخلاة مهملة، وغلوت إذ كنت في المبالغة من البدء. أفلا تقول لها: لقد تلطفت فجئت بالمعنى المجازي لكلمة (العُرى) ولقد أبدعت فكنت امرأة ظريفة اجتماعية مخيلة للشعر والفن، وحققت أن واجب الظريفة الجميلة إعطاءُ الفن غذاءً من، ومن ومن لحمها. . . .

نعم إن قاسم أمين رحمه الله لم يكن يظن. . ولكن أما كان ينبغي أن يظن أن بعض الصواب في الخطأ لا يجعل الخطأ صواباً؟ بل هو أحرى أن يلبسه على الناس فيُشبهه عليهم بالحق وما هو به، ويجعلهم يسكنون إليه ويأمنون جانبه فينتهي بهم يوماً إلى أن ينتسف خطؤه صوابه، ويغطي باطله على حقه، ثم تستطرق إليه عوامل لم تكن فيه من قبل، ولا كانت تجد إليه السبيل وهو خطأ محض، فتمد له في الغي مداً. ثم تنتهي هي أيضاً إلى نهايتها، وتؤول إلى حقائقها؛ فإذا كل ذلك قد داخل بعضه بعضاً، وإذا الشر لا يقف عندما كان عليه، وإذا البلاء ليس في نوع واحد بل أنواع.

ما يرتاب أحد في نية قاسم أمين، ولا نزعم أن له حفِيّة سوء أو مُضمَر شر فيما دعا إليه من تلك الدعوة، ولكني أنا أرتاب في كفايته لما كان أخذ نفسه به، وأراه قد تكلّف مالا يُحسن، وذهب يقول في تأويل القرآن وهو لا ينفذ إلى حقائقه ولا يستبطن أسرار عربيّته، وكان مناظروه في عصره قوماً ضعفاء فاستعلاهم بضعفهم لا بقوته، وكانت كلمة الحجاب

ص: 5

قد انتفخت في ذهنه بعد أن أفرغت معانيها الدقيقة، فأخذها ممتلئة وجاء بها فارغة، وقال للنساء غَيّرن وبدّلن؛ فلما أطعنه وبدّلن وغيّرن، وجاء الزمن بما يفسر الكلمة من حقائقه وتصاريفه لا من خيالات المتخيّل أو المتشيّع - إذا معنى التغيير والتبديل هو ما رأيتَ، وإذا الحجاب الأول على ضلاله كان نصف الشر، وإذا المرأة التي ربحت الشارع هي التي خسرت الزوج! وإذا تلك الدعوة لم تكن نفياً للحجاب عن المرأة، ولكن نفياً للمرأة ذاتِها وراء حدود الأسرة كأنها مجرمة عوقبت على فساد سياستها؛ وهي في بيتها، ولكنها مع ذلك منفية من مستقبلها.

كانوا يحتجون لنفي الحجاب بالفلاّحات في سفورهن؛ وغفلوا أقبح الغفلة عن السبب الطبيعي في ذلك، وهو أن السفور إنما عمّهنّ من كونهن لسن في المنزلة الاجتماعية أكثر من بهائم إنسانية مؤنثة. ومثل هذا السفور لا يكون على طبيعته تلك إلا في اجتماع طبيعي فطري أساسه الخلط في الأعمال لا التمييز بينها، والاشتراك في شيء واحد، هو كسب القوت لا الانفراد بما فوق ذلك من أشياء النفس.

ولست أرى هذه اللجاجة، أو (الحيوية الصارخة) التي ثارت بفتياتنا - إلا تمرداً من طبيعتهن على الأحوال الظالمة المتصرفة بها؛ ويحسبنه توسعاً من الطبيعة في الحرية، وطلباً للعالم كله بعد الشارع، وللحقوق كلها بعد نبذ الحجاب؛ وهو في الحقيقة ليس إلا ثورة الطبيعة النسوية على خيبتها مما أصابت من الحرية والشارع والعالم والحقوق، ورغبة منها في أن تُحدّ بحدودها ويُؤخذ منها العالم كله بما فيه، وتُعطَى البيت وحده بما فيه.

إذا أنت كشفت جذور الشجرة لتطلقها بزعمك من حجابها وتخرجها إلى النور والحرية فإنما أعطيتها النور، ولكن معه الضعف؛ والحرية، ومعها الانتقاض؛ وتكون قد أخرجتها من حجابها ومن طبيعتها معاً؛ فخذها بعد ذلك خشباً لا ثمراً، ومنظرَ شجرة لا شجرة! لقد أعطيتها من علمك لا من حياتها، وجهلت أنها من أطباق الثرى في قانون حياتها، لا في قانون حجابها. أفليست كذلك جذور الشجرة الإنسانية؟

كل ما يتغير يسهل تغييره على من شاء، ولكن النتائج الآتية من التغيير لا تكون إلا حتماً مقضياً كما يُقضى فلن يسهل تبديلها، ولا تحويلها ولا رَدّها أن تقع. وقد أخطأ جماعة السفور، بل أنا أقول: إنهم جاءونا بالجاهلية الثانية، وإنهم طبّو للمرأة المسلمة كذلك الطبّ

ص: 6

الذي أساسه الرائحة الذكية في البخور. . .!

وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاءُ سعرها في الاجتماع، وصونُها من التبذل الممقوت لضبطها في حدود كحدود الربح من هذا القانون الصارم؛ قانون العَرض والطلب والارتفاعُ بها أن تكون سلعة بائرة ينادَى عليها في مدارج الطرق والأسواق: العيون الكحيله، الخدود الوردية، الشفاه الياقوتية، الثغور اللؤلؤية، الأعطاف المرتجّة، اليهود الـ. . الـ. . أو ليس فتياتنا قد انتهين من الكساد بعد نبذُ الحجاب إلى هذه الغاية، وأصبحن إن لم ينادين على أنفسهن بمثل هذا فإنهن لا يظهرن في الطرق إلا لتنادى أجسامُهن بمثل هذا؟ وهذه التي كتبت اليوم تطلبهم مخادنين إن أخطأتهم أزواجاً، وتفتّش عليهم تفتيشاً بين الزوجات والأمهات والأخوات! هل تريد إلا أن تثب درجة أخرى في مخزيات هذا التطور، فتمشي في الطريق مشي الأنثى من البهائم طموحاً مطروقة، تذهب عيناها هنا وههنا تلتمس من يخطو إليها الخطوة المقابلة. . .

ما هو الحجاب الشرعي إلا أن يكون تربية عملية على طريقة استحكام العادة لأسمى طباع المرأة واختصها الرحمة؛ هذه الصفة النادرة التي يقوم الاجتماع الإنساني على نزعها والمنازعة فيها ما دامت سنة الحياة نزاعَ البقاء، فيكون البيت اجتماعاً خاصاً مسالماً للفرد تحفظ المرأة به منزلتها، وتؤدي فيه عملها، وتكون مغرساً للإنسانية وغارسة لصفاتها معاً.

لقد رأينا مواليد الحيوان تولّد كلها: إما ساعية كاسبة لوقتها، وإما محتاجة إلى الحضانة وقتاً قليلاً لا يلبث أن ينقضي فتكدح لعيشها؛ إذ كانت غاية الحيوان هي الوجود في ذاته لا في نوعه، وكان بذلك في الأسفل لا في الأعلى. غير أن طفل المرأة يكون في بطنها جنيناً تسعة أشهر؛ ثم يولد ليكون معها جنيناً في صفاتها وأخلاقها ورحمتها أضعاف ذلك سنة بكل شهر. فهل الحجاب إلا قصرُ هذه المرأة على عملها لتجويده وإتقانه وإخراجه كاملاً ما استطاعت؛ وهل قصرها في حجابها إلا تربية طبيعية لرحمتها وصبرها، ثم تربية بعد ذلك لمن حولها برحمتها وصبرها؟

أعرف معلمة ذات ولد، تترك ابنها في أيدي الخدم بعد وصاة علمية سيكولوجية. . وتمضي ذاهبة عن يمين الصباح ويمضي زوجها عن شماله. . وقد رأيت هذا الطفل مرة فرأيته شيئاً جديداً غير الأطفال، له سمة روحانية غير سماتهم، كأنما يقول لي إنه ليس لي أب

ص: 7

وأم، ولكن أب رقم (1)، وأب رقم (2). .

وقد كنت كتبت كلمة عن الحجاب الإسلامي قلت فيها: (ما كان الحجاب مضروباً على المرأة نفسها، بل على حدود من الأخلاق أن تجاوز مقدارها أو يخالطها السوء أو يتدسس إليها؛ فكل ما أدى إلى هذه الغاية فهو الحجاب، وليس يؤدّي شيء إلا أن تكون المرأة امرأة في دائرة بيتها، ثم إنساناً فقط فيما وراء هذه الدائرة إلى آخر حدود المعاني.)

وهذا هو الرأي الذي لم ينتبه إليه أحد، فليس الحجاب إلا كالرمز لما وراءه من أخلاقه ومعانيه وروحه الدينية المعبديّة وهو كالصدفة لا تحجب اللؤلؤة ولكن تربيتها في الحجاب تربية لؤلؤية؛ فوراء الحجاب الشرعي الصحيح معاني التوازن والاستقرار والهدوء والإضطراد وأخلاق هذه المعاني وروحها الديني القوي الذي ينشئ عجيبة الأخلاق الإنسانية كلها؛ أي صبر المرأة وإيثارها. وعلى هذين تقوم قوة الدافعة، وهذه القوة هي تمام الأخلاق الأدبية كلها، وهي سر المرأة الكاملة؛ فلن تجد الأخلاق على أتمها وأحسنها وأقواها إلا في المرأة ذات الدين والصبر والمدافعة. إنها فيها تشبه أخلاق نبي من الأنبياء.

وقد مُحق الدين والصبر، وتراخت قوة المدافعة في أكثر الفتيات المتعلمات، فابتلين من ذلك بالضجر والملل، وتشويه النفس؛ ووقع فيهن معنى كمعنى العفن في الثمرة الناضجة؛ وجهلن بالعلم حتى طبيعتهن فما منهن من عرفت أن طبيعتها سلبية في ذاتها، وأنه لا يشدّها ويقيمها إلا الصفات السلبية، وملاكها الصبر فروعه وأصوله، وجمالها الحياء والعفة، ورمزها وحارسها والمعين عليها هو الحجاب وحده. إنه إن لم يكن في المرأة هذا فليست المرأة إلا بهذا.

وما تخطئ المرأة في شيء خطأها في محاولة تبديل طبيعتها وجعلها إيجابية، وانتحالها صفات الإيجاب، وتمردها على صفات السلب كما يقع لعهدنا، فإن هذا لن يتم للمرأة، ولن يكون منه إلا أن تعتبر هذه المرأة نقائض أخلاقها من أخلاقها كما نرى في أوربا، وفي الشرق من أثر أوربا. فمن هذا تلقى الفتاة حياءها وتبذؤ وتفحش، إن لم يكن بالألفاظ والمعاني جميعاً فبالمعاني وحدها، وإن لم يكن بهذه ولا بتلك فبالفكر في هذه وتلك؛ وكانت الاستجابة لهذا مافشا من الروايات الساقطة والمجلات العارية؛ فإن هذه وهذه ليست شيئاً إلا أن تكون علم الفكر الساقط.

ص: 8

وعادت الفتاة من ذلك لا تبتغي إلا أن تكون امرأة رواية؛ إما فوق الحياة، وإما في حقائق جميلة تختارها اختياراً وتفرضها فرضاً على القدر! وتنسى الحمقاء أنها أحد الطرفين، وليست الطرفين جميعاً، فتحاول أن تقرر للحياة الجديدة تأويلاً جديداً لمعاني الشرف والكرامة والعرض والنسب وما إليها؛ فانسلخت من كل شيء، ثم لما أعجزها أن تنسلخ من غريزة الأنوثة طاشت طيشها الأخير فانسلخت من إنسانية الغريزة

أما إن غلطة الرجل في المرأة لا تكون إلا من غلطة المرأة في نفسها، وهي قد أعطيت في طبيعتها كل معاني حجابها؛ فإحساسها محتجب مختبئ أبداً كأنه في أتب وملاءة وبرقع وأفكارها طويلة الحذر لا تبرحها كأنها الحارث الثابت في موضعه القائم بسلاحه على حفظ هذا الجسم الجميل؛ وطول التأمل موكل بها كأن عمله مصاحبة وحدتها لتخفيفها على نفسها والترفيه منها؛ والدنيا حول المرأة بمذاهب أقدارها، ولكن لها دنيا في داخلها هي قلبها تذهب الأقدار فيه مذاهب أخرى؛ وضغطة الحياة طبيعته فيها حتى لا يساورها هم من الهموم إلا صار كأنه من عادتها والتي تمزقها الحياة كلما ولدت لا تكون الحياة إلا رحيمة بها إذا ضغطتها.

فخروج المرأة من حجابها خروج من صفاتها، فهو إضعاف لها، وتضرية للرجال بها، وماذا تجدي عادة الحذر إذا أفسدتها عادة الاسترسال والاندفاع، فيكون حذراً ليكون إغفالاً، ثم يكون إغفالاً ليعهد الزلة والغلطة؛ ومتى رجع غلطةً فهذا أول السقوط ومبدأ الانقلاب والتحوّل. وليس الفرق بين امرأة نفور من الريبة، شموسٍ لا تطالع الرجال ولا تُطمعهم؛ وبين امرأة قرور على الريبة، هلوكٍ فاجرة - إلا حجاب الحذر أسدل على واحدة، وانكشف عن أخرى.

وإذا قرتْ المرأة في فضائلها فإنما هي في حجابها ودينها، وإنما ذلك الحجاب ضابط حريتها الصحيحة، باعتبارها امرأة غير الرجل؛ فهو مسمى بالحجاب لاتصاله بالحرية وضبه لها، ولكن الضعفاء الذين يعرفون ظاهراً من الرأي لا يدركون مذهبه، ولا يحققون ما ينتهي إليه، وينفذون في حكمهم على الظاهر لا على البصيرة - هؤلاء لا يعرفون معنى الحجاب إلا في القماش والكساء والأبنية، كأن حجاب الأخلاق النسوية شيء يصنعه الحائك والباني والمستعبد، ولا تصنعه الشريعة والأدب والحياة الاجتماعية، فهم كما ترى حين

ص: 9

يأتون بنصف العلم يأتون بنصف الجهل.

لم يخلق الله المرأة قوة عقل فتكون قوة إنجاب، ولكنه أبدعها قوة عاطفة لتكون قوة سلب؛ فهي بخصائصها والرجل بخصائصه؛ والسلب بطبيعته متحجب صابر هادئ منتظر، ولكنه بذلك قانون طبيعي تتم به الطبيعة.

وينبغي أن يكون العلم قوة لصفات المرأة لا ضعفاً، وزيادة لا نقصاً؛ فما يحتاج العالم إذا خرج صوتها في مشاكله أن يكون كصوت الرجل صيحة في معركة، بل تحتاج هذه المشاكل صوتاً رقيقاً مؤثراً محبوباً مجمعاً على طاعته كصوت الأم في بيتها.

أيتها الفتاة، إن صدق الحياة تحت مظاهرها لا في مظاهرها التي تكذب أكثر مما تصدق؛ فساعدي الطبيعة واحجبي أخلاقك عن الرجل، لتعمل هذه الطبيعة فيه بقوتين دافعتين منها ومنك، فيسرع انقلابه إليك وبحث عنك؛ وقد يجد الفاسق فاسقات وبغايا، ولكن الرجل الصحيح الرجولة لن يجد غيرك.

وإنما سفورك وسفور أخلاقك إفساد لتدبير الطبيعة، وتمكين للرجل نفسه أن يُرجف بك الظن ويسيء فيك الرأي، وعقابك على ذلك ما أنت فيه من الكساد والبوار؛ عقاب الطبيعة لمستقبلك بالحرمان، وعقاب أفكارك لنفسك بالألم.

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 10

‌في الأفق الدولي

حديث الحرب

للأستاذ محمد عبد الله عنان

في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن الحرب المقبلة، وعن أسبابها المحتملة، وعن مواطن نشوبها والدول التي قد تشترك فيها. وكلما أظلم أفق السياسة الأوربية، وتفاقمت مشكلة من المشاكل، تكرر حديث الحرب، وازداد المتشائمون تمسكاً باعتقادهم في قرب نشوبها. ومنذ أشهر نشهد في جو السياسة الأوربية ما ينذر فعلاً باضطراب العلاقات الدولية وتوترها؛ فمن محالفات سياسية وعسكرية تعقد بين مختلف الدول، ومن اعتمادات مالية ضخمة تقررها معظم الدول لتعزيز قواتها واستكمال أهباتها الحربية، ومن تصريحات سياسية هنا وهناك تحمل على التشاؤم والجزع. ولقد كشفت الأزمة النمسوية التي وقعت منذ أسابيع قلائل من جراء الثورة التي أضرمها دعاة التحريض الألماني لقلب النظام في النمسا والتمهيد لإعلان انظمامها إلى ألمانيا عن مبلغ توتر أعصاب الدول العظمى، وعما يجثم في ثنية المشكلة النمسوية من خطر على السلام الأوربي؛ ولم تحجم إيطاليا في هذا الظرف الدقيق عن حشد جنودها على حدود النمسا الجنوبية استعداداً للطوارئ. فإذا ذكرنا أن الحرب الكبرى أضرمت شرارتها الأولى في تلك المهاد، أي في إمبراطورية النمسا والمجر القديمة، استطعنا أن نقدر طرفاً من العوامل التي تملى بحديث الحرب ونبؤاتها.

على أننا مع تقديرنا لخطر هذه الظواهر المزعجة في سير الحوادث الأوربية، نخشى أن يكون خطر الحرب جاثماً في جهة أخرى غير أوربا القديمة؛ ففي الشرق الأقصى تقع حوادث ذات مغزى خطير؛ وهذا التلاحم المستمر بين اليابان وروسيا يبطن من الخطر على السلام أكثر مما يدلي به ظاهر الحوادث. ولنلاحظ أولاً أن هناك خصومة تاريخية خالدة بين اليابان وروسيا منذ الحرب الروسية اليابانية في سنة1904؛ وأن بينهما منافسة قديمة مستمرة مدارها التنازع على النفوذ في الصين واقتسام المصالح الصينية؛ وهما يلتقيان في الصين في مناطق ومراكز في منتهى الأهمية. وفي الأنباء الأخيرة أن حادثاً جديداً قد وقع في منشوريا، وزاد في تحرج العلائق بين البلدين. ذلك أن سلطات منشوكيو (منشوريا) قد قبضت على عدد كبير من الموظفين الروس في الخط الحديدي الشرقي،

ص: 11

وأنها تتحرش بممثلي روسيا القنصليين. وحكومة منشوكيو كما نعلم هي التي أنشأتها اليابان في منشوريا بعد افتتاحها، وهي التي تسيرها كما شاءت. وليس هذا التصادم هو الأول من نوعه، فقد تكرر مراراً في الفترة الأخيرة، ومصدره دائماً هو النزاع على الخط الحديدي الشرقي. ولكي نعرف أهمية هذا الخط الذي يجمع بين الدولتين المتنافستين، نقول إنه يخترق منشوريا من غربها مبتدئاً من مدينة منشولي، ثم يسير نحو الجنوب الشرقي في قلب منشوريا حتى يتصل بخط (أسوري) الذي يمتد إلى ثغر فلاديفوستك على شاطئ المحيط الهادي. ومنه يمتد فرع إلى الجنوب من هربين ويتصل بخط منشوريا الجنوبي. وقد أنشئ هذا الخط في أوائل القرن الماضي بالاتفاق مع حكومة الصين الإمبراطورية بأموال روسية وفرنسية، وتحملت روسيا أكبر قسط في نفقاته، واشتركت الحكومة الصينية فيه بقسط ضئيل؛ وبع الحرب ادعت حكومة منشوريا بتحريض اليابان على الخط حقوقاً؛ ثم ظهرت اليابان في الميدان واحتلت القسم الشرقي من الخط بحجة حماية مصالحها وحماية الخط من العصابات؛ ولما افتتحت اليابان منشوريا منذ نحو عامين أصبحت تسيطر على الخط الشرقي كله. وكان النزاع قد اشتد بين الروسيا واليابان على شئون هذا الخط الحديدي في سنة 1929، ووقعت بين قواتهما بعض المعارك الدموية، وخشي يومئذ أن تقع بينهما الحرب. ولكنهما انتهيا بالاتفاق والتفاهم على شئون الخط ونظامه في مؤتمر عقد بينهما في سنة 1930.

ومنذ افتتحت اليابان منشوريا وسيطرت على شئونها، شعرت روسيا أن مصالحها في هذه المنطقة من الشرق الأقصى أضحت مهددة، وأضحى التلاحم مستمراً بينهما. ولروسيا في الخط الحديدي الشرقي مصالح حيوية جداً. لأنه يتصل بخط سيبيريا الكبير، ويقصر أمد المسافة إلى فلاديفوستك، وهو الآن تحت رحمة اليابان. ثم إن حلول اليابان في منشوريا واقترابها بذلك من منطقة النفوذ الروسي في منغوليا، يهدد الروس في هذه المنطقة، ويحول دون التوسع الروسي؛ ولا تخفي السياسة اليابانية مذ وطدت أقدامها في منشوريا أنها تعمل على سحق النفوذ الروسي في تلك الأنحاء؛ ولا تخفي حكومة موسكو من جانبها أنها تحرض على مصالحها ونفوذها في الشرق الأقصى كل الحرص، وأنها دائماً على أهبة لحمياتها بالقوة المادية؛ وروسيا تحتفظ منذ أعوام بقوات كبيرة في منطقة شيتا على مقربة

ص: 12

من الحدود المنشورية؛ وهي تحيط بمنشوريا من الشرق والشمال والغرب، واليابان تحتفظ في منشوريا بقوات كبيرة وتحتل الخط الحديدي الشرقي كله، وتثبر في وجه موظفي الخط الروس كل الصعاب الممكنة وتعتقلهم من آن لآخر بتهم مختلفة على نحو ما حدث أخيراً. وقد احتجت حكومة موسكو لدى الحكومة اليابانية احتجاجاً شديداً، وطالبت بالإفراج عن رعاياها المعتقلين، ونوهت في مذكراتها بروح العداء الذي تبديه بعض المقامات اليابانية نحو روسيا، وحملت اليابان كل تبعة فيما يترتب على هذه السياسة من العواقب الخطيرة.

ومما يلفت النظر أنه في نفس الوقت الذي يتفاقم فيه النزاع بين اليابان وروسيا إلى هذا الحد، تذاع أنباء عن عقد معاهدة أو تحالف بين اليابان وبريطانيا العظمى. ولهذا الحادث إذا صح مغزى دولي خطير، ذلك أن المنافسة الصناعية والتجارية بين اليابان وإنكلترا بلغت في العهد الأخير مدى بعيداً، واستطاعت اليابان أن تنفذ بتجارتها إلى جميع الأسواق التي تسيطر عليها التجارة البريطانية، وأثارت بذلك في وجه التجارة البريطانية صعوبات فادحة. واستعملت بريطانيا كل نفوذها وسلطانها المادي لمحاربة هذا الخطر؛ فإذا صح أن التفاهم قد عاد بين البلدين، وأنهما سيؤكدان أن هذا التفاهم بمعاهدة سياسية تجارية، أو أنهما قد عقدا بالفعل مثل هذه المعاهدة، فمعنى ذلك أن نوعاً من التوازن الدولي يقوم في الشرق الأقصى، وأن اليابان قد استطاعت بعد عزلتها منذ نحو عامين على أثر حوادث منشوريا وانسحابها من عصبة الأمم، أن تجد حليفة قوية تؤازر سياستها في الشرق الأقصى ضد روسيا. والمعروف أن بريطانيا العظمى هي ألد خصوم روسيا البلشفية، وأشدهم مقاومة لسياستها، وأنها مثل اليابان تخشى دائماً من تقدم نفوذها ودعواتها الثورية في الصين، وتخشى بالأخص من دسائسها في الهند؛ على أن مثل هذا التحالف سيحمل روسيا بالطبع على التماس المعونة من جهة أخرى، والظاهر أن أمريكا هي الدولة التي يمكن أن تميل إلى محالفة روسيا على مقاومة التوسع الياباني؛ والمنافسة شديدة بين أمريكا واليابان على سيادة المحيط الهادي، وقد ظهرت خصومة أمريكا لليابان في العهد الأخير حينما احتجت غير مرة ضد توسعها في الصين وأنذرتها بسوء عواقب هذه السياسة، وظهر تصميم اليابان على تحدي أمريكا وغيرها من دول الغرب حينما أعلنت أنها ستعتبر الصين منذ الآن فصاعداً ميداناً للتوسع الياباني وحده، وأنها ستقاوم كل مجهود تبذله الدول الغربية

ص: 13

لاكتساب نفوذ جديد في الصين. وعلى ذلك فقد نشهد في القريب العاجل قيام هذا التوازن الخطر في الشرق الأقصى بين الدول ذات الشأن، وقد تتفاقم الحوادث بسرعة، ويضطر البلاشفة أخيراً إلى خوض حرب ما زالوا منذ بعيد يحاولون اجتنابها.

هذا ونرى مثل هذه السحب القاتمة يحلق أفق القارة الأوربية. وصحافة أوربا كلها تفيض اليوم بحديث الحرب، بعد أن كانت منذ أعوام قلائل تفيض بحديث السلام والتعاون الدولي. وقد توارت عصبة الأمم من الميدان وغاضت كل الآمال التي علقت على جهودها في تعزيز السلم؛ ولا يحجم الساسة المسئولون اليوم عن التحدث بوقوع الحرب؛ وأقرب شاهد على ذلك ما صرح به السنيور موسوليني في خطاب ألقاه أخيراً على أثر انتهاء الجيش الإيطالي من تمارينه السنوية، من (إن الشعب الإيطالي يجب أن يكون شعباً عسكرياً لأن بقاء الأمم رهين بقوتها، ومن أنه إذا لم يكن أحد في أوربا يرغب في الحرب، فإن نذير الحرب يرى مع ذلك ظاهراً في الأفق، ومن المحتمل أن تنشب الحرب في أية لحظة، فعلى إيطاليا أن تستعد لحرب اليوم لا حرب الغد؛ ولقد نشأت في أواخر شهر يوليو (يريد حوادث النمسا) حالة تشبه الحالة التي كانت عليها أوربا قبل نشوب الحرب الكبرى، فلبت إيطاليا في الحال دعوة الخطر وأرسلت جنودها إلى الحدود، وقضت بذلك على الأزمة). والسنيور موسوليني سياسي عملي، وقد كانت تلميحاته إلى الحرب تثير منذ أعوام في أوربا كلها عواصف من النقد القارص. ذلك أن أوربا كانت ما تزال يومئذ غارقة في أحلام السلام؛ وكانت الآمال معلقة على مواثيق السلام والتحكيم التي سادت الأفق الدولي حيناً، وظن المتفائلون أنها ستقضي على كثير من أسباب الاحتكاك بين الأمم؛ ولكن الأمم الأوربية تشعر اليوم أنها تعيش في جو من التشاؤم والجزع؛ وقد توالت في العامين الأخيرين أحداث سياسية خطيرة، كقيام الوطنية الاشتراكية في ألمانيا وعملها لأحياء الروح العسكري القديم، وتفاقم المشكلة النمساوية من جراء تهديد ألمانيا بالقضاء على استقلال النمسا، ونشاط السياسة الفرنسية لجمع أمم أوربا الشرقية والوسطى حولها بمعاهدات سياسية وعسكرية، وتفاهم فرنسا مع روسيا واهتمامها بمضاعفة تحوطاتها وأهباتها العسكرية رداً على نشاط ألمانيا العسكري، واهتمام إنكلترا بزيادة تسليحاتها البحرية والجوية، وتصريح المستر بلدوين زعيم حزب المحافظين الإنكليز بأن حدود إنكلترا تمتد

ص: 14

حتى نهر الراين؛ فهذه كلها أحداث وتطورات ترجع بأوربا إلى عهد ما قبل الحرب، وتثير في أفقها سحباً قاتمة، وتجعلها تشعر بأن تصريحات كالتي يلقيها السنيور موسوليني إنما تعبر عن الحقيقة والواقع.

والخلاصة أن خطر الحرب يجثم في الشرق والغرب معاً. والدول العظمى تعمل كلها لمضاعفة تسليحاتها وأهباتها. ولكن متى تقع الحرب، وفي أي ساحة، ومن أي جانب؟ هذه أسئلة تستحيل الإجابة عنها الآن. وكل ما يمكن قوله أن ما نراه اليوم من توتر أعصاب أوربا يجعل خطر الحرب محتمل الوقوع لأي بادرة أو احتكاك يحدوه التحرش أو سوء القصد، كما دلت عليه تطورات المسألة النمساوية، فلو لم تبادر ألمانيا بوقف تحريضاتهم الثورية وتعديل خطتاه نحو النمسا، ولو دفعت ألمانيا الجرأة إلى حد إرسال الخوارج النمساويين الذين تجندهم في أرضها إلى النمسا، لبادرت إطاليا باختراق الحدود النمساوية، ولتحركت في الحال دول الوفاق الصغير، ووقعت مصادمات يخشى أن تثير حرباً عالمية أخرى. وقد تقع الحرب نتيجة للنزاع الألماني الفرنسي أو الإيطالي الفرنسي، أو نتيجة لما بين إطاليا ويوجوسلافيا من التنافس؛ وقد تقع في الشرق الأقصى بين روسيا واليابان؛ وقد تكون ساحتها الأولى في النمسا أو في ألبانيا أو على حدود الرين. تلك احتمالات تبررها الحوادث والتطورات الجارية، ولكنها لا تخرج عن حد الاحتمالات.

لسنا من المغرقين في التفاؤل أو التشاؤم، ولكنا لا نستطيع أن نؤمن بقول مستر لويد جورج أن الحرب لا يمكن أن تقع قبل عشرة أعوام.

محمد عبد الله عنان

المحامي

ص: 15

‌ما هو أدب اليوم؟.

. .

للأستاذ كرم ملحم كرم

أدب اليوم رواية وقصة،

فالمنشئون من أي طبقة كانوا لا يعتمدون في معظم مؤلفاتهم على غير الحكاية والرواية، فالفن القصصي هو السائد. وأكثر الأدب بلغوا القمة في إخلاصهم لهذا الفن. ولا بدع، فالرواية محك الأدب. المنشئ البليغ يظهر فيها، والكاتب الركيك السمج يفضح نفسه إذا توكأ عليها.

أكابر الأدب في العالم لجئوا إلى القصة يذيبون فيها بلاغتهم وقوة بيانهم. فما أحجم عنها (فولتير) ولا (جان جاك روسو) ولا (لامارتين) ولا (ألفرد ده موسيه) ولا (فكتور هوجو) ولا (فرنسوا كوبيه) ولا (تولستوي) ولا (أد جار والاس) ولا (كونان دويل)، فكلهم مال إلى القصة يعالجها.

وإذا لم تكن رواية (غرازبيلا) أو رواية (رافائيل) أسمى من شعر لامارتين فهما لا تقلان سمواً عن هذا الشعر. وإذا لم تكن رواية (البائسون) لفكتور هوجو أرفع من منظومة فلقد عادلت هذا المنظوم، ونفحت الشاعر بشهرة فوق شهرته، وزادت في تخليده، وحملت عشاق الأدب الروائي على التحدث عنها في العالم أجمع. فإن شهرة (البائسون) شهرة عالمية لا يجهلها ناد أدبي. وما يقال فيها يقال في (غرازبيلا) و (رافائيل) للامارتين، وفي اعترافات جان جاك روسو. أليست اعترافات جان جاك روسو حكاية من الحكايات وفيها يحدث الرجل عن نفسه؟. . .

نعم لقد تربع جان جاك روسو في (عقده الاجتماعي) في ذروة الفلسفة، على أن (اعترافاته) رفعت من مقامه كأديب، وباتت خالدة كمؤلفه الفلسفي، فمن شاء الوقوف على حياة الرجل فليس له إلا أن يقلب (الاعترافات) فيدرك من هو جان جاك روسو.

و (أناتول فرانس) استاذ الأدب في مطلع القرن العشرين مدين بشهرته لروايته، ومثله بلزاك، وأميل زولا، وموريس بارس، ومارسيل بريفو، وهنري بوردو، ورينه بازان، وبول بورجيه، فإن اعظم أدباء فرنسا لا تقوم شهرتهم على سوى الروايات التي أنشأوها، ومثلهم أدباء إنكلترا وروسيا. فالقصة إذا أساس الأدب العالمي.

ص: 16

والدين نفسه يقوم على الروايات. فما هو كتاب التوراة، وما هو كتاب الإنجيل، وما هو القرآن؟ أليس للرواية من هذه الكتب الدينية أكبر نصيب؟

وإن تكن التوراة أقدم كتاب تتداوله الأيدي ويتسنى للجميع الاطلاع عليه، جاز لنا القول أنه أول كتاب عرفه العالم مشيد الأركان على القصة. فهو يبدأ بقصة وينتهي بقصة. والكتب الخالدة في معظمها - إذا استثنينا كتب الفلسفة والعلم - كتب قصصية سواء صبت نظماً أو نثراً.

ولا شأن اليوم في المؤلفات الأدبية لسوى المؤلفات القصصية، وهذه الكتب التي تتمتع بالجوائز الضخمة، ولا سيما جائزة (نوبل)، لا تخرج في سوادها الأعظم عن النطاق الروائي.

ولقد جاء الأدب العربي في عهده الأول بما يعجز عنه الغرب من قصص وروايات. فما هي (كليلة ودمنة)، وما هي (ألف ليلة وليلة)، وما هو (عنتر)، بل ما هي (الأغاني)، وما هو (المستطرف)، وما هو (العقد الفريد)، وما هي (نهاية الأرب)؟. . . كلها روايات وقصص: وإن لم تكن كليلة ودمنة غير عربية المولد فهي لم تخلد في سوى النص العربي. وباستطاعة لغة الضاد أن تتبناها، خصوصاً ولها عليها باستبقائها يد بيضاء وما يقال في كليلة ودمنة يقال في ألف ليلة وليلة. فالأدب العربي احتضن ألف ليلة وليلة وتعهدها بالبقاء. ويمكن الإدعاء أنها عربية الوجه واللسان. أما رواية (عنتر) فقد روى أنها من سبك الأصمعي. والأصمعي - ألف رحمة الله عليه - خير من لفق وأختلق، وروى وتحدث، وسرد وأبتكر وأخترع. ولقد أتى بالعجائب وهو في تلك الصحراء الكاوية اللاذعة. فبهر العيون وملك اللباب بغزارة علمه وفرط ذكائه وعذوبة حديثه وفيضان بحره. فانه ليتدفق كالسيل في الحديث عن الأعراب وعشقهم وغرامهم. ويروي حكاياتهم بدقة وإبداع، فيسحر سميعه وجليسه، ويستدر رفد الملوك والعظماء، ويجود بالمعجزات فيقصر عنه المتطاول والمقلد واللاحق، كأن سر الرواية في الأدب العربي القديم لم يفتح على غير الأصمعي.

ولو ظهرت كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة في هذا العهد لكان الأدب العربي سيداً في الفن الروائي، حتى وإن يكن ثمة من يزعم أن الكتابين ليسا من مبتكرات الأدب العربي، فليس من أدب غير الأدب الشرقي يسبح في هذا الخيال الرحيب الخصيب.

ص: 17

ولا ننسى أن أداء القصة وسياقها في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة يختلفان كل الاختلاف عن مثلهما في روايات اليوم. فهما جديدان مبتكران لقوة المخيلة فيهما اليد الطولي. ومن المحال أن يوفق فيهما ويهتدي إليهما من لم يكن يحلق في الأفلاك.

واختلافهما عن روايات اليوم يحببانهما إلى عشاق الروايات ويفسحان لهما المقام الأول في الأدب العالمي، ولكن أين من يقوى على توفير ذلك النسيج؟

ربما جهل الأدب العربي يوم طلعت في سمائه (كليلة ودمنة) و (ألف ليلة وليلة) قيمة هذين السفرين. ربما أعرض عنهما وشغف بمقامات الهمذاني والحريري - ومقامات الهمذاني والحريري فن روائي خاص - على أنه اليوم يدرك شأنهما ولا يتنكر لهما بل يفاخر بهما وإن يكن استمدهما من بلاد الهند وفارس كما ذاع وشاع

لقد كان الأدب اليوناني يحفل بهذه الأقاصيص البارزة في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة. ومن هذا الأدب نهل (لافونتين) في أقاصيصه الفرنسية ذات الشعر الطليق. على أن ثمة من يقول، ويثبت ما يقول، أن (لافونتين) سمع بكليلة ودمنة فاقتبس منها وصاغ تلك الأقاصيص الواقفة في طولها عند الفتر، وإن تجاوزته فإلى الشبر، الملأي بالمغزى الرائع والإرشاد البليغ، فاستعان بالحيوانات على تأذيب الملوك شأن أبن المقفع في كليلة ودمنة. ومما يدل على اقتباس (لافونتين) من كليلة ودمنة أن بين أبن المقفع ولافونتين نحواً من ألف سنة، وأين كان الأدب الفرنسي يوم كان الأدب العربي زاهراً رياناً يناطح السماء؟. .

قد نسمع ممن نحدثه عن كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة أنهما شيء قديم. غير أن هذا القديم لا تخلق جدته. فهو أبداً جديد. وعشاق الروايات وقد ملوا طراز اليوم، وبعضه يشبه بعضاً، يميلون إلى الجديد. وروايات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة مما يجوز أن نسميه جديداً، وإن تكن انبثقت منذ ألف عام.

ولا نكير في أن ثمة خرافات وأساطير، على أن الخرافات والأساطير إذا عرضت على الناس في غناء مزخرف براق وكانت دسمة طيبة أزدردها الناس وهضمتها المعد. وخرافات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة كالفاتنة الحسناء، وكل ما يعاب على ألف ليلة وليلة المجهولة الأم والأب أنها ركيكة ضعيفة في قالبها، ولو أتفق لها من يصوغها في بيان ابن المقفع لنافست كليلة ودمنة في متانة تعبيرها وصحة مبناها.

ص: 18

ومما نستدل به على أن كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة يثيران ضجة بعيدة الصوت في الأدب العربي، لو برزوا اليوم إلى النور، ويتربعان في القمة العليا من الفن الروائي، ما يلقيان من غزو الروائيين الأجانب. فكل يوم يرزحان تحت غارة جديدة. وليست رواية (حديقة على العاصي) للكاتب الفرنسي المشرق الديباجة (موريس بارس) غير قبس من ألف ليلة وليلة. وما رواية (الأتلانتيد) لبيير بنوا غير صفحة من صفحات ألف ليلة وليلة. فكأنها مستوحى أدباء الفرنج يسلبونها أطايبها المباحة دون أن يقف في سبيلهم من يقول لهم: ماذا تفعلون؟.

ومع كل احترامنا للتوراة وتقديرنا لها نجرؤ على أن نقارن بينها وبين ألف ليلة وليلة مقارنة صادقة لا ترمي مطلقاً إلى الحط من قدر الكتاب الكريم. إن هي إلا مقارنة أدب بأدب. وكل ما نريد إثباته أن ألف ليلة وليلة أضحت لدى كتاب الغرب أشبه بالتوراة. فكما يغيرون على التوراة يستوحونها يغيرون على ما جادت به علينا شهرزاد الملسانة، أو الثرثارة، التي لا تسكت عن الكلام المباح إلا حين يطلع الصباح.

ولا تقف غارة كتاب الغرب عند ألف ليلة وليلة، بل هم يشنون أبداً الغارة علينا ويستأثرون بكنوزنا ونحن عنهم في غفلة، فلا نراهم إلا يشدون الرحال إلى هذا الشرق، هذا الشرق الحافل بكل غريب، الطافح بالأسرار، المنبثقة منه الأديان، المتصاعدة من معابده روائح البخور تنفثها المجامر الحمراء هذا الشرق القديم في حضارته وهياكله وآلهته، المثقل بالرموز والأشباح والعفاريت، المخيمة عليه حسرات داود وحكمة سليمان، هذا الشرق الراسخة فيه المساجد العالية القباب، والمآذن الناطحة السحاب، والمستوردة فيه المرأة وراء ألف حجاب وحجاب. هذا الشرق مهد الناقة والبعير، المتهادية فيه العمائم والقلانس والطرابيش، المكردسة فيه الذكريات أطباقاً فوق أطباق، من عهد الفراعنة، إلى عهد العبرانيين، إلى عهد الآشوريين، إلى عهد الفرس، إلى عهد العرب، إلى عهد الأتراك.

وعلينا ألا ننسى الصليبيين أموا هذه الديار. ومنذ أقبلوا والغارات علينا تتلو الغارات في الميادين كلها، في السياسة والأدب، فمن غزو إلى استعمار.!

ومن غزاتنا في أدبنا (بيير بنوا) القصصي الفرنسي فهو يفكر اليوم في وضع رواية فصولها جماعة الصليبيين وتدور حوادثها عليهم. فهم أبطالها وسادتها وحجر الزاوية فيها،

ص: 19

ولبيير بنوا أن يقول في الصليبيين ما شاء. فالقول ذو سعة، مخيلة الكاتب قد تأتيه بالمبتكر، ولكن هل عوّدنا بيير بنوا الابتكار؟. . .

كل ما رأينا من بيير بنوا لا يزيد على كونه مقتبساً، وهذا الاقتباس لا غبار عليه لو عرف الكاتب كيف يتلاعب به ويمنحه من قوة الخيال والجمال ما يرفع من شأنه ويزيد في قدره، أما أن يكتفي بالاقتباس دون أن يضيف إليه الابتكار المورق السمين فأي عمل أتاه؟. . .

وبيير بنوا ليس من المبتكرين في إنشائه ولا حوادث روايته فهو من الطبقة الوسطى في الروائيين، وفي طبقة دون الوسطى في المنشئين، حتى وإن يكن يكتب باللغة الفرنسية. فليس كل ما يكتب باللغة الفرنسية وبسائر اللغات الحية بليغاً عالي الديباجة باقياً على ممر الأيام. فكل لغة حافلة بالمبتذل السخيف. كل لغة يتلاشى منها معظم ما يكتب الكاتبون وينشر الناشرون. ولا يخلد من ثمار القرائح غير جزء من عشرة آلاف جزء. وإذا بقي شيء من مواليد (بيير بنوا) الأدبية، فلا ريب بأن روايته (ربة قصر لبنان) - وقد استمدها من لبنان - ليست بذلك الجزء الباقي، فهي تحت رحمة الفتاء، وربما استطعنا أن ننعاها منذ الآن.

قد تبقى منه رواية (الاتلانتيد)، على أن رواية (الاتلانتيد) من سرقاته لا يمكن من مبتكراته. وكل تفننه فيها أنه انتقل بها إلى أفريقيا، إلى الصحراء، إلى تلك الديار القاحلة العجراء. وماذا يقال عنه فيها؟. . . يقال إنه صاحب (الاتلانتيد) ليس غير. وقد يجوز لك أن تقرأ (الاتلانتيد) كما يجوز ألا تقرأها. فإذا قرأتها خرجت منها صفر اليدين. وإذا وقفت عن قراءتها ربحت الوقت إن يكن الوقت عزيزاً عليك. وقد تسأل: كيف بلغت رواية (الاتلانتيد) هذه الشهرة العالمية؟. . . وجوابنا أن المؤلف أجاد بث الدعوة لروايته، فذاع لها الصوت العاطر في الأندية الأدبية جمعاء قبل أن تقف هذه الأندية على مضمونها. وشاق الذين طالعوها من الغربيين تلك الصبغة الشرقية فيها. وجاءت دور السيمياء ترفع من مكانتها. والحق يقال إن (الاتلانتيد) نجحت في عالم السيمياء أكثر منها في عالم الأدب.

واليوم و (بيير بنوا) يفكر في وضع روايته الصليبية سوف نرى أي وحي هبط عليه. أيدرك التوفيق أم لا يوفق، ونحن نرتاب في توفيقه لمعرفتنا شأنه الأدب ي. غير أننا لا نستطيع الإنكار أن الرجل من الغزاة الفاتحين. فهو يقبل علينا ينتزع منا موضوعاته

ص: 20

الروائية ونحن نشاهد ما عندنا من كنوز ولا نكلف أنفسنا نبشها وإبرازها إلى النور. فالرواية في الأدب العربي الجديد لا تزال في المهد، مع أن الأعصر العباسية حفلت بها وراحت تفاخر العالم بثمارها اليانعة الشهية، ولا يبرح العالم يتذوق هذه الثمار وسيتذوقها ما دام الأدب وضاء الجبين.

وليت أدباء اللغة العربية يدركون اليوم شأن القصة، فتعالجها أقلامهم بما يعيد إلى الأدب العربي مكانته الأولى وعزه القديم. فالرواية حجر الزاوية في كل أدب، وفي كل نهضة، وفي كل دين!

بيروت

كرم ملحم كرم

صاحب جريدة (العاصفة)

ص: 21

‌لا تحزني.

. .

بقلم جورج وغريس

لا تحزني يا سيدتي. فهكذا شاء القدر أن يدفع بك إلى محيط هذا العالم ذرة مضطربة من ذراته التي لا تستكين ولا تهدأ. كلما حضرني أمرك أيتها السيدة، شعرت بالألم يحز في قلبي، وأحسست بالحياة كلمة غامضة في سجل مبهم، ورأيت السعادة كذبة هائلة انحدرت من شفاء الأبالسة إلى آذان هذه الأجيال التعسة الحالمة. .

لا تحزني أيتها السيدة الكريمة، كفكفي دمعك لأنك لست بمستطيعة أن تغطي الأفق الوسيع بكفك الصغير، ولست بقادرة أن تحولي دون الريح وهبوبها، أو النهر وجريانه. .

قبل أن تغرب شمس اليوم رافعة بأشطانها أوزار العالم وأوحاله لتقدمها إلى صاحب العرش الأعلى. . . . جاءني طفلك الصغير، وكأن أحزان العالم قد وسعها قلبه الغض وهو يلهث من التعب، وأخذ يبكي ويقول لي في كلمات يقطعها البكاء:(تعال لتخفف عن أمي. . . إنها حزينة من الصباح. . . إنها طريحة الفراش. . . باكية ومنتحبة. . . وكلما سألتها السبب قالت: إن أباك لم يعد. . . فمن يكون أبي؟ ومتى يعود. .؟ إنني لا أفهم ما تقوله أمي. .)

فيا رحمة الله أدركيني. . . بأي لسان ينطق هذا الطفل. .؟ أتستطيع ملائكة الرحمة أن تظل واجمة ساكنة؟ أتظنين يا سيدتي أن الرياح حملت فيما تحمل تلك الكلمات التي نطق بها هذا الصبي البريء. . .؟ كلا بل إنها ستبقى خالدة في نفسي ما بقيت. . . وستظل حائمة في فضاء هذا العالم لتصرخ في آذان الجيل بعد الجيل أن الإنسانية ما وجدت إلا لتشقى، وأنه ما من أرض إلا وزرعت فيها التعاسة، وما من حاصد فيها إلا وهو للبؤس ربيب. . .

من يقول لطفلك أيتها السيدة الحزينة إن أباه هو الشر الذي ولد الخير، والحبة النتنة التي أنبتت الزرع الجميل، والحشرة القذرة التي انبثق منها الشهد، والريح الخبيثة التي خلفت النسمة الطيبة، والغيم الحالك الذي بعث ببهجة الأرض، وهو اليد التي دفعت به إلى الحياة. ثم تراجعت متخفية كاليد السارقة التي تأخذ غادرة ولا تعترف بعطاه. . . .

من يقول لطفلك يا سيدتي إنه ما من وليد من أمثاله إلا وله أب يرعاه بعنايته. أما هو فيتيم وإن كان أبوه حياً يرزق، ولكنه يشاء اليتم لابنه ويريد العقم لنفسه، وليس وا أسفاه في

ص: 22

قوانين الأرض ما يرد تلك المشيئة أو يمنع تلك الإرادة، وليس وا أسفاه في نتاج الإنسانية بعد جهاد القرون ما يخفت أنين الطفل وهو يسائل الحقيقة (من يكون أبى. . . .؟)

يا سيدتي الحزينة - خففي عن نفسك فما أردت أن أثير أشجانك. . . دعي الماضي يمر أمامك كالأطياف السريعة. . . ماذا يؤلمك وماذا يبكيك، وأنت ربيبة الألم ووليدة البكاء؟. . . لقد كنت فتاة في منزل أبيك تقاسين من غلظته، وتعانين من زوجته، وتشكين فراق أمك المطرودة البعيدة. . . وكما خرج موسى من أرض مصر، خرجت أنت من سجن أبيك إلى دار زوجك، ولكنك لم تجدي في صحرائه مَنّاً ولا سلوى. . فمسكينة أنت أيتها السيدة. . لقد رضعتِ الشقاء. والشقاء ما زال في أحضانك رضيعاً يترعرع. . . ورشفت الكأس وثمالته أشد مرارة. . .

مسكينة أنت أيتها السيدة. بل مسكينة كل امرأة تعيش في كنف زوجها الغاصب، لأنها لا تستطيع أن تلامس أطراف السعادة ولو كانت الجنة تحت قدميها. . . غريب أمر الرجل في هذه الحياة، خلق الله له المرأة ليأتنس بها فخلق هو لها الوحشة، وجعل الله له القوة ليحمي ضعفها فنازلها بقوته. . . ومنذ انحدر آدم إلى هذه الأرض والفضيلة والرذيلة تعتركان، أما الحق فمخبوء أبداً. . .

لا تحزني يا سيدتي لأن الحزن لا يقدم من شأنك ولا يؤخر، فإنما أنت مخلوق ضعيف أسلمته يد الأقدار إلى قبضة عاتية. . . وما دامت المرأة في دولة الرجال، فسوف لا تعيش إلا ذليلة مسكينة. . . لأنهم يصنعون الشرائع ويحتكمون إلى أنفسهم ثم يحكمون. . .

لا زلت أذكر يا سيدتي اليوم الذي أتيت فيه إلى جوارنا، وكان زوجك يتعهد هذا الوكر برعايته، يبادلك الوفاء ويقاسمك السعادة، ولكنه كان متكلفاً في هذا العناء فقبل أن يرى طفلك النور. انسل كاللص السارق ليعيش في الظلام. . . ومنذ ذلك الحين إلى الآن وزوجك مقبور في حفرة الأحياء، لا يتلمس النور ولا يتسقط الماء. . .

ما أغرب هذه الطبيعة البشرية وما أعجب أمرها. . . إذا أصابها التقلب والتلون نسيت ما فعله يومها في أمسها، وبَعُد خيرها عن شرها، وتنكر حاضرها لماضيها. . . فإذا بصاحبها إنسان لا يستأنس، وإن كان الحيوان قد بدأ ينسى ما في أحط غرائزه من غدر وفتك وبطش. . .

ص: 23

قومي يا سيدتي ورفهي عن نفسك فلكل بداية نهاية، ولابد لحقك أن ينتصر اليوم أو غداً. لأن الألم الذي تعاني لم يحترق بمثل ناره قلب من قبل، والدمع الذي ينهمر من عينيك الغائرتين على وجهك الشاحب لم تدانه في حرارته ما سكبته عيون الشقاء منذ ولادته. . .

للمريض آلام وللفقير آلام، للمتعب آلام وللضعيف آلام، للغريب آلام وللطريد آلام. . . وآلامك أنت أيتها الشقية المظلومة تسمو على كل ألم. فيجب أن تسمو نفسك بقدر سموها.

ويجب أن ترفعي رأسك فوق الطوفان الذي يغمرك، وليكن مثلك في ذلك مثل الحادي وراء الإبل يقطع الفيافي على قدميه، وقد أمضه التعب وأضناه الجوع وعضه الفقر، وهو يغنى أنشودة الحياة والحب والفرح. . .

في بكائك المتواصل (قولي ما يقوله الفلاحون عن غيث السماء: هذا المطر كله حنطة). . .

في ظلامك الدامس تطلعي إلى الخيوط الرفيعة البيضاء التي تتراءى لك من وراء الأفق، وارفعي نحوها بصرك. . .

قومي يا سيدتي. ولا تجعلي للألم سلطاناً على نفسك. فقد فعلت بك العلة فعلها. . وارحمي طفلك الذي هوى على صدرك ليمزج أنات قلبه بدقات قلبك. . قومي يا سيدتي وهات يدك. . .

قلت هذا بجوار سريرها. . ثم مددت يدي إلى يدها. فإذا بها باردة!. . .

يا لشقاء نفسي!. لقد كنت بكلماتي الأخيرة أخاطب الأرواح الحائمة حولي. . في استطاعة المرء أن يذكر كل ما يجول بخاطره، ولكنه ليس في استطاعته أن يقول كل ما يبدو لناظره.

أيها الرجل. . . لقد ماتت تلك المرأة!

إسكندرية

جورج وغريس

ص: 24

‌الأزمة كما يراها الاقتصاديون

بقلم عبد العزيز عبد الكريم

كانت الشعوب القديمة تشكو من القحط والجماعات. قال الله تعالى في كتابه العزيز في سورة يوسف: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي أن كنتم للرؤيا تعبرون). هذا ما رآه ملك مصر في منامه، فلم يعرف أحد تأويل رؤياه، وكان يوسف حينئذ في السجن، فاستدعاه الملك واستفتاه في أمر الرؤيا، ففسر يوسف المنام قائلاً له: إنه سيمر عليكم سبع سنين خصبة، فازرعوا فيها واخزنوا ما زرعتم وهو في سنابله إلا قليلاً مما تأكلون، ثم يعقبها سبع سنين مجدبة، تأكلون فيها مما ادخرتم.

وقد تطورت الآن وسائل المعيشة وأحوالها، وتبدلت طرق الكفاح في سبيل العيش، وارتقت الزراعة والصناعة والتجارة؛ فنشأت بازاء هذا التبدل مشاكل جديدة، وظهرت معضلات خطيرة. وأشد ما نعانيه الآن من النظام الاقتصادي الحالي هو الأزمة التي انتابت العالم بأسره؛ وقد خلقت للعالم مشاكل عديدة لا تنجل ولا تزول إلا بالسلاح.

الأزمة هي اضطراب فجائي في التوازن الاقتصادي؛ ولها أعراض وعلامات تشابه أعراض الأمراض التي تصيب الإنسان، فبعض الأزمات يقتصر على بلد واحد، وبعضها وبائي ينتقل في أنحاء العالم كمرض الكوليرا.

عرف الاقتصاديون بعد طول البحث أن ظواهر الأزمة وأعراضها هي في كل الأزمات تقريباً. وأول ما يشير إلى نشوء الأزمات تناوبها؛ فقد رؤى أنها تتبع بعضها بعضاً في القرن التاسع عشر بنظام منتظم عجيب، فبين كل أزمة وأخرى مدة تبلغ عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة، نصفها يمثل حالة صعود والنصف الآخر يمثل حالة هبوط، ويظهر ذلك في تقلبات الأسعار والأجور، وأسعار الفوائد.

ومن ظواهر الأزمة وبائيتها، ففي بادئ الأمر يزيد الإنتاج في إحدى الصناعات أو ينقص، ويتنقل هذا الاضطراب من صناعة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.

هناك ثلاث علامات خاصة تسبق الأزمة، وتعلن قرب حلولها:

(1)

ارتفاع في الأسعار يدل على نشاط الاستهلاك، ووفرة الأموال المتداولة وسهولة

ص: 25

الإقراض.

(2)

ارتفاع في قيمة الضمانات القابلة للتحويل وخصوصاً الأسهم والسندات، ويدل ذلك على تقدم المشروعات التجارية وزيادة الإنتاج، وزيادة الحصص في رؤوس الأموال.

(3)

ارتفاع في الأجور يشير إلى نشاط سوق العمل، وزيادة الطلب للعمال.

غير أنه بعد وقت ما، تتغير الحال وتنقلب حالة الصعود إلى حالة هبوط، ونجد أمامنا:

(1)

تدهوراً في الأسعار: يدل على عجز الاستهلاك، وندرة الأموال المتداولة وصعوبة الأقراض.

(2)

تدهوراً في قيمة الضمانات: يدل على تدهور الأرباح والحصص، وفشل المشروعات الكبرى الخطيرة، وسقوط يرافقه ارتفاع في سعر الخصم والقطع.

(3)

تدهوراً في الأجور: يدل على شلل الإنتاج، ووقف طلب العمال، والأشارف على الوقوع في خطر العطلة والعاطلين.

والأزمات التي وقعت في القرن التاسع عشر تواريخها كما يلي:

1815

1857

1890

1827

1866

1900

1836

1873

1847

1882

وقد لاحظ جيفونز من هذه التواريخ أن الأزمات والت بعضها في خلال فترات ومسافات منتظمة تبلغ كل واحدة منها عشر سنوات تقريباً. وقد ظن أن الأزمات يرجع سببها إلى ظاهرة فلكية لا سلطان لأحد عليها. ولكن القرن العشرين قد دحض نظريته هذه، فإن أول

ص: 26

أزمة وقعت فيه كانت في عام 1907

اهتم الاقتصاديون بالبحث عن أسباب الأزمات، وأخذوا يبحثون عن علة توالي الأزمات وتناوبها، فاهتدوا أخيراً إلى الأسباب الآتية:

(1)

وفرة الإنتاج - لا تنشأ وفرة الإنتاج إلا عن تقدم الصناعة الكبرى. فمن البديهي أن البضائع المعروضة في السوق سوف تزيد يوماً ما على حاجة الاستهلاك، ويصبح من العسير تصريف شيء ما من هذه المقادير؛ فينتج عن ذلك تدهور عام في الأسعار، ولكي يتجنب الصناع البيع مع الخسارة يحصلون على الأموال من المصارف، أو يبيعون الأسهم، فينشأ عن ذلك ارتفاع في الفوائد، وتدهور في قيمة الأسهم، حتى يصبح المال نادراً، وذلك راجع إلى زيادة السلع المعروضة. وسرعان ما يصبح هؤلاء الصناع في حال من الإفلاس والضنك يرثى لها.

وها قد رأينا كيف يسبق الإنتاج الاستهلاك، وكيف يقف الإنتاج عن السير عند حد معين، وكيف يسير الاستهلاك حتى يلحق الإنتاج، فيسبقه بدوره؛ وهذا السبق لا بد منه. فظاهر لنا في هذه الحال علة تناوب الأزمات: وكل أزمة يعقبها وقت تعوض فيه الصناعة خسارتها، وتنتعش حالتها، ويتجدد إنتاجها ليسد مطالب الأفراد الحديثة.

(2)

قلة الاستهلاك - ويذهب بعض الاقتصاديين إلى أن الأزمات هي في الغالب راجعة إلى زيادة الإنتاج الناشئة عن شراهة أصحاب رؤوس الأموال الذين يحاولون استرداد ما فقدوه من الأرباح عن طريق الكمية؛ ولكن السبب الأساسي هو عدم كفاية ثروة أغلب المستهلكين - وأغلبهم من طبقة عمال اليومية - لابتياع ما أنتجوه وما صنعوه بأيديهم، فزيادة الحاجة إلى الصناع لتوسيع الإنتاج وزيادته، وزيادة عمال الأجور، وعدم القدرة على تسديد أجورهم، تؤدي إلى اضطراب التوازن في وقت من الأوقات. ويزيد الاضطراب وتشتد الأزمات حتى يحين الوقت الذي يقضي فيه على نظام الرأسمالية. فهذا النظام مقضي عليه بالفناء بسبب النتائج التي أدى إليها.

(3)

زيادة الرأسمالية - اتفق الاقتصاديون على أن زيادة الرأسمالية أخطر من زيادة الإنتاج في إحداث الأزمات. إن المصانع الكبرى يلزمها ترتيب حركة دولاب العمل بتجهيز الآلات، والمناجم، والعربات، والسفن وغير ذلك. وإذا كان المصنع على أهبة

ص: 27

الاستعداد للعمل، فقد يرسل غلالاً لا حصر لها إلى السوق. وليس في الإمكان وقف هذه الحركة متى رغبنا، لأن رأس المال ثابت لا يمكن سحبه بأي حال من الأحوال. تتدهور الأسعار تبعاً لذلك، وتفلس أكثر المشروعات، أو تستسلم للأمر، حتى تتصرف الزيادة بزيادة الاستهلاك نظراً لتدهور الأسعار.

والاقتصاديون يعتبرون أن قلة الإنتاج ليست سبباً من أسباب الأزمات أو ظاهرة من ظواهرها: فلماذا؟ ألا يضطرب الميزان الاقتصادي بقلة الإنتاج كما يضطرب بزيادته؟ بالرغم مما تحدثه قلة الإنتاج من البؤس والفناء والموت، وبالرغم من القحط والمجاعات التي سجلتها الحوادث المخيفة والشهيرة في تاريخ الشعوب كلها؛ فإن الاقتصاديين لم يجمعوا الآراء على أن القحط والمجاعات نوع من أنواع الأزمات، إذ ليس من خواصها التناوب، ولا ارتفاع الأسعار قبلها، ولا هبوطها بعدها.

أما علاج الأزمة: فيقف على نوع الأسباب التي أدت إليها. فإذا اعتقدنا أن السبب هو زيادة الإنتاج، وجب علينا أن نعمل على تحديد ذلك الإنتاج، فيمكننا توحيد الشركات وتضامنها، وتنظيم إنتاجها لنتمكن من منع زيادة الأسعار المطردة وهبوطها أيضاً؛ ويمكننا إيجاد حركة تعاون بين الشركات لتنظيم حركة الإنتاج تبعاً للحاجات لا تبعاً للأرباح.

ولو اعتبرنا أن سبب الأزمة هو أن طبقة العمال ليس لديها من الثروة ما يعينها على زيادة الاستهلاك كلما زاد الإنتاج، كان من الضروري أن نبحث عن نظام يضمن للعامل نجاح كل ما ينتجه.

وإذا نظرنا إلى زيادة الرأسمالية، وجب أن نلجأ إلى المصارف إذ هي أكبر عضد لمساعدة الشركات وإمدادها بالأموال. قد تتدخل المصارف، إما برفع سعر القطع لديون الآجال المحدودة، إذا رأت أن سرعة التداول تزداد إلى درجة مقلقة، وإما بإنقاذ البيوت الكبيرة الوشيكة السقوط والضياع، إذا كان لسقوطها الأثر الفعال في إحداث الاضطراب وشل الحركة التجارية.

والأزمة الناشئة عن زيادة الرأسمالية تزداد وتشتد وطأتها بسبب الذعر والتشاؤم الاقتصادي. والتنبؤ بالأزمة يزيد الخطر ويعوقنا عن العمل على تلافيها، فما أجدرنا ألا نعتقد ذلك، فالخوف من الشر يولد الشر، والتفاؤل بالخبر يجلب الخير.

ص: 28

إسكندرية

عبد العزيز عبد الكريم

ص: 29

‌فصول مدرسية في الأدب الدرامي

4 -

الرواية المسرحية

في التأريخ والفن

بقلم أحمد حسن الزيات

أجزاء أخرى للعمل

ذلك هو التقسيم الأساسي للعمل، وهناك تقسيم آخر أغفله اليونان واستعمله الرومان، وهو تقسيم العمل إلى فصول، والفصول إلى مناظر. فالفصول هي مراحل العمل أو درجاته، تفصل بين كل درجة وأخرى فترة تسمى استراحة، والمناظر أجزاء الفصل المختلفة، وتحدد بدخول ممثل أو خروجه. ولعلك لا تكتفي بالتعريف في شرح هذه الكلمات، فدونك شيئاً من التفصيل:

الفصل: لم يعرف الإغريق كما قلت تقسيم الرواية إلى فصول، وإنما كانوا يعرفون شيئاً يشبه ذلك في تمثيل ثلاث مآس في موضوع واحد، كل مأساة لها كيان مستقل عن الأخرى. أما اللاتين فقد قسموها إلى فصول حصرها هوراس في خمسة لا تزيد ولا تنقص. ففي الأول يعرض العمل، وفي الثاني يبسط، وفي الثالث يُعقد، وفي الرابع يهيأ حله، وفي الخامس يحل. ولكن جعل هذا التقسيم قاعدة مطلقة لا يخلو من ضرر. وإلا فماذا يصنعون في موضوع يعرض في منظر ويحل بكلمة؟ أيترك وهو طريف مؤثر صالح للتمثيل، أم يملأ بالتطويل والحشو حتى يكمل؟ وما حكمهم على مأساة أو ملهاة محكمة النسج لا تبدأ عقدتها إلا في الفصل الثالث، ثم يخصص لحلها الفصل الخامس؟ إن التعقيد هو جسم العمل وروحه كما علمت، فينبغي أن ينزل من الرواية في أوسع محل، بل يجب أن يكون كالتيه، مدخله العرض ومخرجه الحل. وأمهر الكتاب وأقدرهم من عجل بالتعقيد ثم طوله ما استطاع محكماً لقوته، متدرجاً في عقدته.

الحق أن جريان العرف بتقسيم الرواية إلى خمسة فصول ليس قائماً على أساس متين فيفرض، ولا هو خالياً من الفائدة الفنية فيرفض، إنما المرجع في ذلك كله إلى طبيعة الموضوع، فإذا كان قوياً غنياً يستطيع أن يملأ خمسة الفصول كان ذلك التقسيم أدعى إلى

ص: 30

انفساح العمل وتقوية الجاذبية وتحليل الأخلاق واطراد الحوادث من غير ضغط ولا اصطدام ولا مباغتة. وأما إذا كان بسيطاً لا يحتمل البسط ولا يقبل التطويل فخير لك أن تغلب حكم الطبيعة على حكم العرف فتتصرف في التقسيم تصرفاً يلائم الموضوع ويتفق مع الإمكانية ويعصمك من الحشو والتكلف. على هذا الرأي يسير الكتاب اليوم فتجد الروايات تتردد بين فصل واحد وخمسة. على أن الشرط الأساسي هو الدقة في هذا التقسيم حتى يحسن توزيع العمل، ويمكن تدرج الجاذبية في الفصول والمناظر بحيث يكون العمل كالساعة: فالحوار يرصد الثواني، والمناظر ترصد الدقائق، والفصول ترصد الساعات، لأنك إذا أرحت العمل في منظرين متعاقبين فترت الحركة وخمد الأثر. اقرأ رواية ترتوف لموليير - وهي منقولة إلى العربية - وراقب فيها سير العمل وتدرجه وتقسيمه تجسدها في كل ذلك المثل الأعلى تجسدها في كل ذلك المثل الأعلى. علام يدور العمل في هذه القطعة الخالدة؟ يدور إما على هتك الحجاب عن نفاق ترتوف وخبه، وإما على استيلائه على بيت أرجون وثروته، وحرمانه ابنه، وزواجه من ابنته. فماذا صنع موليير في الفصل الأول؟ عرض على أنظارنا صورة المنزل الداخلية، وأرانا سلطان ترتوف المنافق على أرجون الساذج وأمه العجوز، وأطلعنا على سوء رأي الباقين من الأسرة في هذا اللئيم. أعلن كل ذلك في المنظر الأول فاشتبكت المعركة وابتدأ العمل بقوة. وفي الفصل الثاني حمل أرجون على الإقرار بطاعته العمياء لترتوف، وترتوف قد قطع ما بينه وبين بنيه وزوجه، وأفسد ما كان صالحاً من نفسه، وجعله يعلن أن ترتوف سيكون زوج ابنته، وابنته تحب فالير، ولكنها لك تجرؤ على عصيانه. ومن ثم نشبت المعركة المضحكة بين العاشقين. وفي الفصل الثالث كاد داميس بن أرجون يفضح أمر ترتوف، وأوشك العمل أن يشارف الحل لولا براعة المنافق وسذاجة أرجون، فاستحكمت العقدة وقوبت الجاذبية بعزم أرجون على معاقبة بنيه بالخروج عن ماله كله لترتوف. وجاء الفصل الرابع فانكشف سر ترتوف وانجلى أمره لأرجون فهم بطرده، إلا أنه عارضه بعقد الهبة، وهدده بوثائق تتهمه وتجرحه، فاضطرب البيت ونال من أهله الهمم والجزع. وفي الفصل الخامس زاد الاضطراب، واشتد القلق حتى حانت ساعة الانقلاب فعرف الملك خيانة الماكر فقبض عليه وعفا عن أرجون. فأنت ترى أن العمل قسم بدقة، وأن الجاذبية وزعت بحكمة، وأن

ص: 31

الموضوع كان كافياً لتغذية الفصول فبرئت القطعة من الاستطراد واللغو

الاستراحة:

هي فترة بين فصل وآخر من فصول الرواية يقف أثناءها التمثيل وينقطع انتباه المشاهد، أما العمل الروائي فلابد من فرض استمراره خارج المسرح مجاراة للطبيعة والواقع، ومحافظة على شرط الإمكانية. فهي راحة للمشاهد وضرورة للمسرح، ولكن الممثل يجب أن يشتغل فيها، وإن كان في الواقع يستنشي هو أيضاً نسيم الراحة في ظاهر المسرح (الكواليس). ولا مناص للكاتب من أن يراعي ذلك وهو يُكوّن هيكل الرواية ويقسم العمل على الفصول. فلا يجوز مثلاً أن يحرك العمل عندما وقف في الفصل الأول. بل يفرض أن العمل قد قطع في أثناء الاستراحة مرحلة طويلة أو قصيرة على حسب الظروف، فحكمه في ذلك حكم مهندس البناء يرسم في تخطيطه الأماكن الفارغة والمشغولة ولكل منها نصيب من عنايته وتقديره. وبعد، فإن الاستراحة عظيمة النفع جليلة الخطر. وحسبك أنها أجل مزايا المسرح الحديث، اهتدى إليها فخفق بها مبدأ الإمكانية، ووثق بها عقدة الجاذبية. أما الإغريق فما كانوا يقفون التمثيل، وإنما كانوا يشغلون ما بين الفصول بالقيان (الخورس) وكان يساعدهم على اتباع هذا النظام اشتراط وحدثي الزمان والمكان. فلما تحلل المحدثون من سلطان هاتين الوحدتين وأجازوا لأنفسهم الخروج عن مداهما لم يكن بد من هذه الاستراحة يسدون بها خلل التمثيل، ويتقون بها ملل التطويل، ويفرقون ما بين الحوادث والواقع. وأظن في هذا الكلام شيئاً من الغموض فإليك توضيحه:

لا شك أن في الطبيعة كثيراً من الأشياء لا يمكن أن تمثل على المسرح، ولا أن تغفل في الرواية، فإذا أسأنا تمثيلها أضعف الوهم المسرحي، وإذا أغفلنا ذكرها شوهت العمل الروائي. فلا مخرج لنا إذن من هذه الحيرة إلا الاستراحة، نفرض حدوثها في خلالها، ثم نكتفي بعد ذلك بذكرها. كذلك لا يخلو العمل المسرحي غالباً من تطويل لازم وتفصيل واجب يملان المشاهد ويَفُتّان في طبعه، وهو يأبى إلا أن يظل مشغول القلب متمتع الحواس بتأثير لذيذ قوي، فنستطيع إذن أن نوفق بين شعور المشاهد وحقيقة الواقع، بأن نعرض على المسرح ما يلذ ويؤثر، ونبقى للاستراحة ما يمل وينفر.

بقى أن الكاتب بفضل الاستراحة يستطيع أن يحقق مبدأ الإمكانية الزمنية بفرضه حدوث

ص: 32

أشياء لو مثلت على حقيقتها لاقتضت من الزمن ما لا تتسع له مدة التمثيل

المناظر: المناظر هي أجزاء الفصل المختلفة كما علمت، وتحدد بدخول شخص أو خروجه، وليس لها عدد معين. ولكن لها قاعدة عامة، وهي ألا يبقى المسرح خالياً من ممثل حرصاً على الوهم واستبقاء للخديعة واستدامة للأثر. فإذا اضطر الممثلون جميعاً إلى تركه ليخلفهم عليه آخرون، وجب إما أن يوجهوا الخطاب إليهم، وإما أن يعلنوا دخولهم عليهم، حتى لا يدخل المسرح أحد أو يخرج منه دون أن يُعلن المشاهدون بسبب دخوله، أو يكونوا قد علموه من قبل حصوله. أما أن يخرج ممثلو المنظر السابق ويدخل ممثلو اللاحق من غير مخالسة النظر ولا مبادلة الكلام فذلك إخلال بشرط الإمكانية

الأشخاص: يشترط في أشخاص الرواية أن تكون صفاتهم وعاداتهم (محلية) تلائم الزمان والمكان اللذين يعيشون فيهما، (مناسبة) تتفق مع عمرهم وجنسهم وطبقتهم، (ممكنة) لا نناقض التأريخ ولا التقاليد ولا الأساطير، (ثابتة) تلازم الشخص من بدء العمل إلى انتهائه، (متنوعة) لا تتشابه في شخصين، بل يختلف كل شخص عن الآخر في صفته وعادته، جارية مع العرف، فلا تكون شاذة ولا غريبة كوصف اللص بالكرامة، وقاطع الطريق بالشهامة، والسفاح بالنبل. وتلك نقيصة من نقائص المسرح الحديث.

أداء العمل

يحدث العمل في نفس الممثل فيؤديه بالعبارة مستعيناً بالإشارة. والعبارة تكون حواراً وقد تكون نجوى نفس. وبحث هذه الكلمات الأربع يحتاج إلى شيء غير قليل من الأناة والعناية

العبارة: الأسلوب الروائي هو أسلوب الحديث النبيل المونق. فشرطه أن يكون طبيعياً لا تفسده الصناعة والتعمل، حياً لا تخمده الغثاثة والتبذل، بسيطاً لا تعقده الروية والتأمل، ملائماً تتناسب لهجته مع نشأة المتكلم وتربيته وطبيعته وعادته وموقفه. ولن يتسنى للكاتب أن يحقق هذه الشروط إلا إذا نسى نفسه وفنى في أشخاصه، فيطرح المقاطع الوجدانية والمحسنات البديعية والتشابيه الغريبة من كل ما ينم على الدرس والبحث والتحذلق. اللهم إلا المأساة بنوعيها فأنها تقتضي الأسلوب الرائع، واللفظ المختار، واللهجة المؤثرة، لعلاقتها بالوجدان وصلتها بالعواطف. والبيان كان وما زال شرك العقول وسحر القلوب. وأكثر المآسي لم يضمن لها الخلود إلا روعة الأسلوب وبلاغة الأداء. ولقد أخطأ بعض الروائيين

ص: 33

القصد فغلَّبوا جانب الحركات والإشارة، على جانب الكلمات والعبارة، فوجهوا التأثير للعيون لا للقلوب، وهيأوا الرواية للتمثيل لا للقراءة. وفاتهم أن العمل المسرحي مؤلف من الكلام والحركات. فلا الممثل متكلم لا غير كالمحدث، ولا هو متحرك لا غير كالخيال الشمسي، وإنما الكمال أن يُعنى بالطريقين جميعاً، فما كان من العمل قوياً مادياً علمياً أدته الحركة، وما كان منه جليلاً دقيقاً عميقاً كآثار العادات وصور الأخلاق وتباين العواطف وتضارب الأهواء وتعارض المنافع شرحته العبارة. فظواهر الغيرة والاشمئزاز والغضب تستطيع الحركات والملامح أن تؤديها واضحة جلية، ولكن تحليل القلب البشري وهو سر الجمال في أدوار ديدون واريان وفدر وهرميون لا يضطلع به إلا البيان المعجز. وهل يعلق بذهنك من القطعة الفنية بعد تمثيلها غير مواقفها الشعرية القوية التي أوحاها اليراع فانتقشت في لوحة ذهنك؟

إن العمل الروائي يتجه إلى العين أو إلى القلب تبعاً لطبيعته وملاءمته للبلاغة أو التصوير، ولكن الأثر الذي يحدثه في النفس عن طريق الأذن أهدأ وأبطأ ولكنه أبقى وأعمق، أما ما يحدثه فيها عن طريق العين فهو قوي فجائي سريع، ولكنه قريب الغور قليل البقاء، لأن الأذن إنما تنقل الفكرة وهي نامية ولود، والعين إنما تنقل الإحساسة وهي جدباء عقيم. ذلك إلى أن القطعة إذا قامت على الحركات فحياتها ومماتها رهن بقوة المسرح وقدرة الممثل. ولك فيما تشهده على المسارح المصرية من روائع الفن الغربية دليل قائم على صحة ما نذهب إليه، فإن بعض المتعسفين من أدعياء الكتابة ينقلونها نقلاً لفظياً، فيهدمون فيها ركن البلاغة وهو عمادها الأقوى، فتثير الضحك وهي فاجعة، وتستوجب الهزء وهي رائعة!!

ولا يقعن في بالك أنا نريد أن نضع من قدر الحركات أو ننكر أثرها في الفن، فإن ذلك ليس في حسابنا ولا هو مفهوم من كلامنا، وإنما نريد أن يوفي الكلام حقه من العناية أيضاً حتى تقوم الرواية على قدميها فلا تسير عرجاء ولا شوهاء

بقي علينا أن نعرض لمسألة دقيقة خلقتها فوضى الأدب في مصر، ودعوى كل أديب حق التشريع لهذه اللغة الأسيفة، وانصراف القادرين من الكتاب عن الأدب المسرحي انصرافهم عن كل جليل مثمر. تلك هي لغة الرواية! فقد يزعم بعض الكاتبين أن لغة المسرح

ص: 34

المصري يجب أن تكون العامية تثبيتاً للون المحلي وتحقيقاً لشرط الإمكانية. وكل ما يمكن أن يقولوه تأييداً لمذهبهم إن العامية لغة الأشخاص التي سايرتهم في كل سن، ولابستهم في كل ظرف، فعبرت عن خلجات نفوسهم ونبضات قلوبهم، وأنها حملت خلاصة تجاربهم وثمرات قرائحهم من لطيف الكنايات وبديع الأمثال وبليغ الحكم، وأنها مرآة لبيئتهم انعكست عليها صور حياتهم ومظاهر معيشتهم، وأنها أكمل دلالة وأسهل إبانة عن التصورات الجديدة التي تخرج من أعماق النفس أو تدخل في ثنايا الحوار. ذلك كلام وجيه لا غبار عليه ولا نكير فيه، وما يسوغ في رأينا أن ننقصه وقد قررناه من قبل. ولكن ليقولوا لنا متى طبق قانون الإمكانية بنصه على اللغة والأسلوب؟ إن الناس في كل زمان وفي كل مكان لا يتكلمون في الواقع كما يجعلونهم يتكلمون على المسرح. وهذه جميع المآسي ومعظم الملاهي قديمها وحديثها مكتوبة بالشعر الرصين، ذي اللفظ المنضد والأسلوب الفخم، فهل يزعمون أن أشخاصها كانوا في الحقيقة يتحاورون بالشعر ويتجادلون بالمجاز؟ أم يزعمون أن لغة راسين وشكسبير وهوجو وجوت وهي نموذج البلاغة للكتاب، وموضوع الدراسة للشباب، كانت لغة الشعب الذي كانوا يمثلونه أو يمثلون له؟ وإذا جاز لهم أن يجعلوا الفرنسيين والإنجليز يتكلمون على المسرح المصري بلسان عربي، فلم لا يجوز لنا كذلك أن نجعل خاصة المصريين بل عامتهم أيضاً يتكلمون بلهجة عربية فصحى، وهي أقرب إلى هؤلاء منها إلى أولئك؟ ليفرضوا أن العامية لغة أجنبية ننقلها إلى لغتنا العربية، وليغضوا على تلك القذاة الضئيلة ابتغاء رقي اللغة ونهضة الأدب وتعليم الشعب. إن الفن الحقيقي أبدى خالد، ومن المحال أن تخلده لغة جيل واحد، ولهجة قطر واحد، لأن العامية تتغير من جيل إلى جيل، وتختلف في قطر عنها في قطر. ونحن لا نريد أدباً مصرياً فحسب، وإنما نريد أدباً عربياً يمثل حضارة مصر وثقافة المصريين، وينقلهما إلى الأقطار النائية، والأجيال الآتية

على أن أحداً من الناس لم يقل بأن المسرح لابد أن يعرض الحقيقة جرداء عارية، بل المعروف أن من واجبه أن يحسنها بالخيال ويزينها بالكذب، وفي ذلك التحسين والتزيين سحره وجاذبيته، والمشاهد ذاهب إليه وفي نفسه أنه سيخدع، وهو راض بهذه الخديعة ما دام فيها لذته وفائدته، ومن قواعد المسرح أن الصدق يتوخى فيما يؤثر في الذهن والنفس

ص: 35

من الأفكار والعواطف، أما ما يؤثر في السمع والبصر فلا بأس فيه من الكذب؛ فشكل الأسلوب من النظم والنثر والعامي والفصيح كشكل المسرح من المناظر والستائر والأضواء والأصباغ، تعرف الآذان والعيون أنه صناعي مختلق، ولكن الأذهان والنفوس لابد أن تتأثر لما يقع في الإمكان من المواقف والعواطف والأخلاق والعادات

إن المسرح مهبط البيان ومورد البلاغة وطريق النفوس إلى الجمال والخير والحق، فليس من غايته التأثير واللهو، وإنما يعمد إليهما تخفيفاً لثقل الحكمة عن النفوس كما يساغ الدواء الشديد المرارة بالسكر أو العسل. فإذا لم يخرج المشاهد من المسرح وهو أوفر علماً وأرجح حلماً وأحسن حالاً من قبل أن يدخل فقد أخطأ المسرح غرضه وضل طريقه. ولعمري كيف يستطيع أن يرفع النفوس في مراقي الكمال، إذا لم يترفع هو عن حقارة الحياة العامية، ويصور للناس المُثل العليا من الجمال والفضيلة فيرتفع الشعب إلى سمائه، بدل أن يسف هو إلى حضيضه ودهمائه؟ وعافني نشدتك الله من احتجاجك على بنجاح الرواية الفلانية وهي مكتوبة باللغة العامية، فإن نجاح الرواية لا يقدر بما تستدره من المال والدموع، وإنما تقدر بما يبقى في نفسك منها بعد أن يسكن الممثل وينسدل الستار

إن الضوء الباهر يبقى أثره في العين ملياً بعد اختفائه، والنغم الجميل يرن صداه في الأذن طويلاً بعد فنائه، وكذلك الفن الساحر يستولي على نفسك وحسك حيناً بعد انتهائه. فهل تجد الأمر في هذه الروايات كذلك؟ أم الحقيقة المخجلة أن أكثر هذه القطع تسود في ليلتين وتمثل في ليلة، ثم تذرو أوراقها عواصف البلى والعدم؟!

يتبع

(الزيات)

ص: 36

‌مثل أوربي لعرفان الجميل!

منزلي هو منزلك

(قصة مقتبسة عن تمثل آراء هؤلاء الأوربيين الذين يعيشون بيننا، ويأكلون خبزنا ثم يجزوننا عن الكرم لؤماً وعن المعروف نكراناً)

- الشرق، آه على الشرق!

همست الفتاة بهذه الكلمات، وقد رأت رودلف فالنتينو في رواية الشيخ.

وكان بير ازناي المدرس في تجهيز فالاندر قد طوّحت به الحاجة مرّة إلى مصر فكان معلماً في المدرسة العلمانية الفرنسية في (النزهة؟) ولبث فيها عشر سنين. ثم عاد إلى فرنسا منذ عشرة أشهر، وليس في جيبه شروى نقير، ولم يربح إلا حكايات وتجارب حملها معه من الشرق، فلما سمع مقالة الفتاة اغتنم الفرصة فقال:

- الشرق يا سيدتي؟ هل تحبين أن أقصّ عليك حادثة وقعت لي فيه، إنها مأساة هازلة عن الصداقة العربية. كان في مدرستي الفرنسية عشرون معلماً أوربياً ومعلم واحد عربي، عربي قحّ، ذو وجه أسمر مستطيل، يلبس القفطان والجبة الواسعة، ويبدلهما كل يوم بلون جديد. وهو مدرس للغة القرآن - الإجبارية في مصر - ومعرّض دوماً لاحتقار الأساتذة الأوربيين الذين يرون أنفسهم أرفع منه، فلا يتنزلون لمصاحبته.

أما أنا فكنت أحييه التحية المعتادة لا أبالي بسخط زملائي ودهشتهم، ولا بدهشته هو المسكين الذي ما كان يجرؤ على رد تحيتي إلا بابتسامة عريضة، ونظرات ملؤها العطف والاحترام، ولا تمتد صحبتنا إلى أكثر من هذا، لأنه لا يعرف كلمة من الفرنسية، ولأنني أجهل العربية إلا المائة كلمة التي لابد منها للسير في الشارع مثل عندك هنا عربجي اسمع فين شارع فؤاد.

ثم شاء القدر أن تلتقي مرّة في شارع فؤاد صباح يوم من ديسمبر حار ملتهب كأنه الظهيرة من أغسطس في فرنسا، وكان معه ابن عم له أقل عروبة منه، له إلمام بالإنكليزية، إلا أننا لم نكن نتفاهم إلا بصعوبة، وكان علينا أن نفترق، ولكن رغبتي في تعرف الحياة الشرقية وضجري من الوحدة أبقياني معهما. والفضل في بقائي لابن عمه هذا. . وللغة الإنكليزية (وأي إنكليزية؟.) ولم تكن إلا أيام حتى كنا أصدقاء.

ص: 37

كان طيب القلب، بسيطاً محبباً، ولكن فيه شيئاً من العنجهية والجفاء، وكنا نذهب كل خميس وكل أحد إلى النزهة جميعاً: أنا وهو وابن عمه، فنزور معاهد النزهة ومتاحفها في عربة أو سيراً على الأقدام.

وكان ابن العم كثيراً ما يتخلف عن الموعد، هرباً من مهمته الشاقة في الترجمة بيننا، فنبقى وحيدين، وتصوري موقفنا إذن: نسير جنباً إلى جنب ونحن ساكتان، نتبادل النظرات في ابتسامة ساخرة حزينة! ونسلم على المارة، وكنت قد تعلمت التحية العربية، وهي الإشارة باليد إلى الجبهة والشفة والصدر، رمزاً إلى أن الصداقة تشغل العقل بالتفكير، واللسان بالنطق، والقلب بالعاطفة، وكان صاحبي يتعلم بالفرنسية، ولكنه كان يحفظ مقطعاً واحداً في كل ساعة بعد أن أردده عليه مرات ويعيده علي محرفاً، فأشكره بابتسامة.

وكنا إذا بلغنا مسجداً ودخل هو وقفت أنا على الباب أستشعر الزهو بأنني رومي لا كالأورام، وأنني صديق الشيخ، وأنني تشرفت بالوقوف في عتبة قبور الصالحين.

وكان مساء السبت، وكنت في المدرسة، فدنا مني أحد الطلاب وأعطاني رسالة من الشيخ، مكتوبة بالفرنسية باللغة التي يحسنها طالب صغير، ففتحتها فإذا فيها:

(يا صديقي الغربي العالم الفاضل، تفضل بالمجيء غداً إلى داري الحقيرة، لنتناول الغداء معاً، واعلم أن منزلي هو منزلك. . .)

منزله منزلي! ولكن من الظهر إلى الساعة الرابعة، وطعامه طعامي، وكنت وا أسفاه مضطراً إلى الإجابة، لأن أي رفض مني يكسر هذا القلب الطيب، ولا أنسى ما حييت تلك الأكلة المنحوسة وهي التي يسمونها (الملوخية)، ولا أنسى كيف يأكلون من غير صحاف ولا شوكات، إنما يغمسون خبزهم جميعاً في صحفة واحدة، وكان على أن آكل بأصابعي هذه الدجاجات المحمرة التي أكرمني بها، وجعل نصيبي منها اثنتين، وقد ذهبت من الدعوة رأساً إلى الفراش، فلبثت ثلاثة أيام مريضاً!

ورأيت في هذه الزيارة عقيلة الشيخ سافرة، لأن المعلم كالقس ليس كالرجال، ولا ضرورة للتحجب دونه (هكذا. . .)

وتوثقت صداقتي مع الشيخ، فعرفني بالقاهرة وحياتها، ولم يكن غنياً، غير أنه لم يمكني من فتح كيسي مرة واحدة حينما أكون معه، بل يكون السابق إلى دفع الحساب المطلوب، كنا

ص: 38

نزور الأهرام، ونجول في القاهرة وهي أشبه بعشرين مدينة مجتمعة منها بمدينة واحدة، بل هي عالم لا بد لرؤيته من ثلاثة أشهر. أما أنا فقد لبثت فيها مع الشيخ مدة قصيرة وإن أنس ذكراها لا أنس وقوف القطار بنا يوماً في المحطة، ورؤيتنا قريب الشيخ ينتظرنا ومعه البلح والبرتقال والموز المصري الصغير وغير ذلك مما لا أدري من أين أتى به، وما كنا نتحدث إلا بالابتسامات والجمل المقطعة والإشارات، كأن صداقتنا صداقة صامتة تتكلم فيها القلوب لا الأسنة، ولما اعتزمت العودة إلى فرنسا، في منتصف تموز، ودعني على المحطة وألقى عليّ نظرة كلها حب وعطف، وقال لي: إلى الملتقى! ولا تنس أن منزلي هو منزلك. ثم اختفى بين الجموع وإنساني البحر الواسع، وشواطئ الوطن المحبوب كل ما عداهما.

فقالت الفتاة:

- أهذا هو الشرق؟ يا ضياع أحلامي!

فهز الأستاذ كتفيه، وعاد يقول بصوت خافت: وبعد أمد من رجوعي عينت مدرساً في مدرسة ماجيدي الثانوية في الألب، فلبثت فيها مدة، وتزوجت فيها، وكنت جد مشغول بأمور المدرسة، حتى أنه لم يكن في وقتي ساعة واحدة خالية، وإذا أنا ذات يوم أفاجأ بكتاب عليه خط رديء، وطابع من طوابع (النزهة)! فإذا هو من الشيخ، وإذا هو يخبرني بمجيئه مع امرأته وولديه ليقضي عندنا عدة أشهر، كأنما جاء يتقاضاني بدل ما أحسن إلي، وتصوروا وقع هذه المفاجأة على امرأتي التي أغمي عليها من شدة الدهشة، ولم أر أبداً من الانغماس في هذه المهزلة، ولا سيما وأنهم أبحروا دون انتظار جوابي.

نزلت إلى مرسيليا أنتظرهم، فوجدت شيخاً غريباً في سراويل متهدلة وطربوش، ومعه امرأة ضخمة، على رأسها منديل أسود والى جانبها بنت صغيرة. واتفق أن تفتحت أبواب السماء يومئذ فهطل المطر غزيراً، حتى شعرنا أن السماء قد هبطت على الأرض فدخلنا مقهى قريباً، ولكن البنت ارتاعت منه، فملأت الدنيا بكاء ولم تشأ السكوت، وأخيراً أزفت ساعة القطار فركبناه إلى ماجيدي، والناس يرمقونني يحسبون أني أنقل إلى البلد (سركا) غريباً. وبلغنا المنزل، فكان استقبال زوجتي بارداً، وجاءت ساعة الطعام، فلم تألف أيديهم الأكل بالشوكات والصحاف، وانتشروا بعد الطعام في قاعة الأكل وفي الغرف المجاورة، وبكى الطفل بكاء شديداً، فبكت زوجتي أيضاً، ووقعت أنا في حيرة بينهما، فلعنت الشرق

ص: 39

ومن شاد بذكره.

ولما كانت صبيحة الغد سمعت وأنا نائم أصواتاً غريبة تمتزج بأحلامي، فصحوت فإذا بزوجتي ترقص أمام السرير، وتغني وتصيح: لقد سافروا يا بيير، لقد سافروا!. .

ونظرت فإذا الشيخ قد ترك لي بطاقة صغيرة، فيها جملة واحدة عربية، حملتها إلى من يترجمها لي، فإذا فيها: - وداعاً! لقد علمت الآن أن منزلك ليس منزلي.

دمشق:

(ذو الطاءين)

ص: 40

‌ناحية خفية من نواحي السودان

القعب

مصحة ومصيف جميل

بقلم أبو القاسم محمد بدري

القعب واحة مشرفة بين صحراء محرقة، يشتد بها الحر ويعنف فيها القر، تكاد تصعب فيها السكنى وتستحيل الإقامة، لولا أن الله وهب لنا تلك الواحة البهيجة، والروضة النضرة، فتوقت إليها السكنى وطيبت بها الإقامة وحببت فيها الحياة.

ليس القعب واحداً في عدّه، ولا شاسعاً في بعده فهو عدة واحات متقاربة الأطراف مختلفة الأسماء، متحدة المنفعة والدواء، سُميت بالقعب في مجموعها، ولكن لكل قعب منها اسم خاص به، كقعب اللقية وهو أشهر، والسواني، وأبو نمل، وما إليها، مما يبلغ العشرة أو ينيف عدّاً.

يشغل القعب جزءاً كبيراً في الجزء الغربي من مديرية دنقلا، ويبعد عن النيل بضع ساعات، ويسافر إليه بالمطايا نظراً لقلة السيارات في هذه المدينة، ولكنها ستعم في المستقبل القريب كل أنحائها ولا سيما بعد أن انتظم طريق المواصلات بالسيارات بين مديريتي دنقلا وحلفا. ولا يفوتنا أن مشقة السفر هذه لا تمنع الوصول إليه على متون الإبل بأجرة زهيدة وزمن وجيز، وخصوصاً إذا توجه المسافر إليه من مدينتي دنقلا وأرجو، أو من إحدى القرى المنتثرة بينهما على طول الطريق، ويبتدئ موسمه عادة في آخر فصل الصيف في الزمن الذي يقرب أو يتم فيه نضج البلح الذي له - على ما يزعم البعض - أثر كبير في الشفاء وصحة البدن، ويصنع منه شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، منه ما هو سائغ الطعم لونه أصفر مشرب بحمرة، حلو لذيذ لا يسكر، يسمى (الشربوت) ومنه ما هو مُر المذاق حائل اللون يسكر في الغالب، ويطلق عليه (الدكاي) وكلا النوعين مفيد للصحة، محدد للنشاط، مقو للبدن.

والقعب بلدة طيبة المناخ غنية خصبة الثرى وافرة النعيم، يؤمها البدو صيفاً ويرحلون عنها شتاء ينتجعون الكلأ والماء، ويطلبون الغنى والثراء من أكف المرضى وأيدي السائحين

ص: 41

الذين يفدون إلى القعب زرافات ووحداناً من أقصى جهات السودان وبعض البلدان الأخرى. يقاضونهم أجراً على عملهم ومسكنهم، ويمنحونهم فيضاً من نعمهم. وفضلهم، على أن هاته الأجور وتلك المنح لا يأخذونها من جراء الكراء وتملق النزلاء وحب الاستجداء، كلا، ففطرة البدوي الصميم تأبى عليه أن يتطلب الغنى والجاه من سبل كهذه، لولا أن حاجات العيش الملحة ومطالبه الكثيرة ترغمه على أن يتقبلها كارهاً طائعاً إذ لا سبيل لعيشه بدونها؛ وهو لسمو نفسه وكرم يحتده لا يقبلها إلا بعد أن يرهق بدنه في هناء ضيفه وخدمة نزيله لما رُكّب فيه من طباع الكرم والنجدة والمروءة، وبعد أن يقدم له قرى فاخراً وهدايا جميلة من حمر النعم، وطيب الغنم، ومشتهى الأزاذ، وهي كل ما تصل إليه يد ذلك البائس الكريم، والبدوي إلى ذلك لطيف المعشر بسام الثغر، سريع البدار إلى لقاء الزوار، يستقبلهم بطلاقة ويحييهم يبشر، ويستدبرهم بكرم غيب وطيب ذكر، تلمح في وجهه سمات السذاجة المشوبة بالجهل، وآيات الوداعة الممزوجة بالأنفة والإخلاص مع بساطة عيش وهدوء نفس، وصبر جميل على معاناة النوائب والشدائد.

وهؤلاء البدو لا يختلفون - عادة - عن باقي العرب في أساليب العيش والسكنى وطرق التفكير والتدبير في شئون الحياة، فعيشهم تغلب عليه البساطة، يعتمدون في غذائهم على الألبان واللحوم وبعض التمر والحبوب، أما مسكنهم فحقير متواضع، مصنوع من القش والوبر وخشب النخيل، إلا أنه مع تواضعه وحقارته نظيف الحجرات بارد الظل والنسيم، بديع الشكل. ويعتمد البدو كثيراً في جلب قوتهم على الاحتطاب، وهو أهم موارد رزقهم لفقر بلادهم المجدبة التي لا تصلح أن تكون إقليماً زراعياً مع خصوبتها لندرة الأمطار وصعوبة الري.

وأرض القعب رملية ناصعة تصمد طوراً حتى تكون نجداً، وتهبط آخر حتى تنحدر إلى وهد أو سهل فسيح تنتشر فيه هنا وهناك كثبان الرمل المتقاودة، وقد قامت فوقها أشجار النخيل الباسقة حانية أغصانها الخضراء المورقة فوق سفح الوادي وحول حافة الينبوع، ومن بينها تتدلى أقناء البلح موشاة بصفرة الذهب وحمرة العقيق، فيتكون من ذلك منظر طبيعي جميل تتجلى فيه الطبيعة بأجلى معانيها وأروع صورها الفاتنة الساحرة. هناك تحت ظلال النخيل وفوق الرمال وحوالي الينبوع، حيث تخلد النفس إلى الراحة وتنعم بالهناء

ص: 42

والصفاء، تحسن المتعة وتطيب المسرة ويلذ الأنس، بل هنالك وحده يصفو العيش، وتسعد الحياة ويحلو المقام. .

وكأني بك وقد جلست عند الأصيل فوق ربوة عالية تسرح الناظر وتمتع الخاطر بمشهد الغزالة عند الغروب، وهي تستل أشعتها الشاحبة من أحضان الوادي الكئيب بعد أن زفت إليه تحية الوداع، وبعدما ألقت عليه نظرة ساجية تفيض بالألم الممض والحزن العميق. أو نهضت من فارشك مبكراً فألفيت الشمس تهبط من خدرها باسمة مشرقة تشيع الحرارة وتنشر الضياء، وتبعث الحياة في جوف ذلك المهمة القفر، وبين جوانب الطبيعة الصامتة، فيستيقظ الطير من سباته الطويل ويصدح بأغاريد الصباح بنغمة سحرية أخاذة وصوت عذب حنون. وهنالك حول الينبوع النمير وبين مدارج السبل ترى فتيات البدو السذج في ثياب فضفاضة وقد بدون سافرات الوجه في صورة مليحة تسحر اللب وتستهوي القلب، لم تعبث بها يد الحضارة الفاسدة، ولما تنل منها مظاهر التجمل الخادع والتكلف المزري الشائن، خرجن يردن الماء وبأيديهن الجرار وهن ينشدن نشيداً يدوياً ساذجاً في لفظه حلواً في معناه، فتمتزج تلك الأغاريد العذبة بهاته الأناشيد السحرية فتتولد منها نغمة قوية مشجية هي كل ما في تلك الطبيعة الجافة الغليظة من موسيقى رائعة، وصوت رخيم. في المساء، وما أسعد سويعات المساء في ليالي القمر البيضاء، إنها والله داعية أنس ومسرح لبانة، ومذادهم، ومعهد سرور. وما أجمل تلك السويعات التي تنفقها في السمر مع بدوي ساذج وديع، يجلس معك ويسمع منك، ويتحدث إليك بأحاديث ممتعة خالية من الحقد والحسد والنميمة. أو تلك التي ترتاد فيها مواطن الرقص في سبيل لذة بريئة، ووراء متعة طاهرة، حيث ترى الفتيان يصفقون والفتيات يغردن، والكل يقف في حركة مستديرة ومن بينهم الراقصة النحريرة، ترقص على توقيع الدف ونغمات العزف، وتتمايل في حركات ريفية واهتزازات بدوية تستلهمها من فن الطبيعة، وتستوحيها من جمال الطبيعة، ولكنها مع سذاجتها وبساطتها بديعة، لأنها صدرت عنها عفو الخواطر، وبدرت منها دون تكلف في الظاهر، وقد يستمر هذا الأنس حتى مغيب القمر ومطلع السحر، وفي النهار تشغل الوقت في عملية الدفن، وماذا عسى أن تكون عملية الدفن هذه؟ وهل هي نوع من أنواع التسلية أو وسيلة من وسائل المعالجة، أو ضرب من ضروب الرياضة؟ وهل اتخذت المعالجة

ص: 43

بالقبر طريقة للحياة؟ وليس بعجيب أن تنشأ من القبر الحياة كما قد يطغى على الحياة القبر.

إن عملية الدفن هذه ضرورية للقعب ضرورة (الحمام) للمصيف و (الدفء) للمشتى. ولا أعدو الحقيقة إن قلت إن قلت إن أثرها في جلب المنفعة ودفع الداء أبعد من ذلك وأسمى: فهي بمثابة العلاج الناجع والدواء الوحيد لشتى الأمراض التي استعصى علاجها بالعقاقير والأدوية المختلفة. وكم من مريض لصب جلده من الهزال، وارتهكت مفاصله من الإعياء، وطحطته العلل والسقام، وكان إلى الموت أقرب منه إلى الحياة، جاء إلى القعب ومكث به قليلاً فاستحال هزاله سمناً وضعفه قوة، وتجددت فيه قوى الحياة المضمحلة، وانتعش فيه روح الأمل البائد. وأنواع الأدواء التي يمكن علاجها في القعب عديدة، منها ما هو عضال يصعب علاجه، وما هو وسط يخشى استفحاله، وما هو يسير يسهل استئصاله. وهي في الغالب كل أنواع الأمراض العصبية والروماتزم (داء المفاصل) وبعض العلل الباطنية المزمنة، والشلل بنوعيه الجزئي والعام. . الخ. ومهما يكن من شيء، فعلاجها أمر موكول إلى التجربة والاستقصاء أكثر منه إلى شيء آخر. على أنه قد يشفى منها الكثيرون بعد ما يقطع الأمل في شفائهم. ولا يزال الأطباء في حيرة من أمر القعب لم يهتدوا حتى الآن إلى معرفة حقيقته معرفة تامة تستند إلى البحث العلمي الصحيح، وقد اكتفوا من ذلك بالإشارة إلى جودة هوائه وصحو سمائه، وأثرهما الحسن في نفوس المرضى، وإسداء النصح لمن يستشيرهم في الذهاب إليه من ذوي العاهات والأمراض. وللناس أقوال متضاربة وإشاعات عديدة يتناقلونها ويروونها عن القعب. فمنهم من يذهب في القول إلى أن مصدر قوته السحرية هذه إنما هي عذوبة الماء، ويزعم أناس أنها جودة الهواء، ويجزم فريق آخر أنها أكل الأزاذ والشواء. وعلى كل حال فحقيقة القعب لا تزال غامضة حتى يستجليها البحث والاستقصاء، ويتولى ذلك نخبة من شبيبتنا المثقفة تحت إشراف الحكومة وبتعضيد الشعب. وبالمناسبة ألفت نظر الجميع إلى وجوب العناية والاهتمام بشأن القعب، وذلك طبعاً بتوفير كل معدات الراحة والرفاهية، وتشييد المساكن الفخمة، وتنظيم طرق المواصلات حتى يسهل السفر إليه والإقامة فيه، فيكثر بذلك عدد المصطافين والمرضى، وحينئذ نحصل على مورد لا بأس به من موارد الرزق نصلح به أحوال البلاد خصوصاً هذه المديرية البائسة في مثل هذه الأزمة الطاحنة

ص: 44

ولعلك تشتاق إلى معرفة طريقة الدفن، ولشرحها نقول في إيجاز: تشق الأرض على شكل أخدود أو حفرة أو قبر أو كما شئت فسمه، ثم ينصب حول هذا القبر المزعوم سياج من أعواد النخيل يسقف ويغطى من الجوانب بأغطية كثيفة تحجب أشعة الشمس عنه، ويكون في شكله أشبه شيء بالتابوت، ويترك حتى يبرد أديمه، ثم يأتى بالشخص المراد دفنه، وبعد أن يجرد من جميع ثيابه يضطجع ويهال عليه التراب ويدفن كل جسده ما عدا رأسه ووجهه، ويستمر على هذه الحال بضع دقائق يضيق خلالها نفسه، وتسري في جسمه حرارة خفيفة في بدء الأمر تأخذ في الاشتداد كلما طال مكثه، ويشرع في إخراجه متى بدت عليه مظاهر التعب والضيق. والمدة المحددة لدفنه تستغرق ما بين عشر دقائق وخمس عشرة دقيقة. وبعد خروجه من ذلك القبر يكون مغبر الصورة معفر الوجه والبدن ملبداً بالتراب الممزوج بالعرق في شكل يثير منك الضحك والعجب وبعد الانتهاء من الحمام يشعر بخفة في بدنه وسرور يغشى نفسه، ويلتهم بعد ذلك طعامه بشهية ونهم عجيبين، وتكرر هذه العملية مرة أو مرتين أو مرتين في اليوم على حسب استطاعة المرء ورغبته، وهي تفيد - على الوجه الأصح - جميع لأمراض العصبية والروماتزم والفالج، ولعل مفعول هذه الحرارة المكتسبة من الدفن يقرب في الغالب - على ما أظن - من مفعول الحمام الشمسي في معالجة هذه الأمراض. ويبتدئ زمنه المناسب من الساعة الثامنة صباحاً والساعة الخامسة في المساء في الزمن الذي تلائم فيه الحرارة الجسم. والدفن ضروري للمرضى. أما ما عداهم فعلى سبيل التسلية والرياضة، ومع ذلك فمنفعته لا يستهان بها في الفتك بالأمراض عند بدئها وإزالة الضعف والنحافة وتقوية العضلات والبدن.

كلية غردون (سودان)

أبو القاسم محمد بدري

ص: 45

‌مصطفى كمال

سيرة حياته

للكاتب الإنجليزي آرمسترونج

تلخيص وتعليق حنفي غالي

هنالك في الجي العثماني بسالونيك في بيت حقير متهدم، قائم فوق أحد التلال في ظل حصن عتيق، رأى الطفل مصطفى نور الحياة عام 1881، في عصر كانت الإمبراطورية العثمانية تعالج سكرات الموت من جراثيم الأمراض الخلقية والاجتماعية التي تنخر فيها، وتكاد تلفظ النفس الأخير، لولا أن قضت السياسة الأوربية في ذلك الحين أن يبقى (الرجل المريض) ليذود الدب الروسي عن حياته، ويحول دون امتداد طغيانه حتى يوافيه أجله المحتوم. فكأن العناية الإلهية قد أرسلت الطفل العظيم في هذا العصر لتبصره بموطن الداء، وتهيئه لتأدية رسالته لإنقاذ أمته.

كان أبوه علي ريزا رجلاً مغموراً نزح من ألبانيا إلى سالونيك طلباً للعيش وسعياً وراء القوت، فابتسم له الأمل فيها نوعاً ما، واشتغل كاتباً بإدارة الدين العثماني، ولم يكن مرتبه الضئيل ليقوم بمطالب أسرته، فزاول تجارة تعينه على الحياة.

أما أمه زبيدة فكانت كسائر النساء العثمانيات، قعيدة البيت لا ترى نور الشمس إلا من قوته، ولا تغادره إلا في رفقة أحد محارمها لتعود ذويها أو جيرانها الأقربين، فظلت في ظلام دامس من الجهل بشئون العالم الخارجي لا تلم حتى بمبادئ القراءة والكتابة، ولكنها كانت ربة أسرة بحق تعرف كيف تدبر أمورها بحزم، وتسوسها بنظر بعيد، في مزاجها شيء من الحدة، وفي محياها سيماء النبل والسيادة. يمتزج في عروقها الدم الألباني بالدم المقدوني، وكانت أقرب إلى الرجولة في بنيانها، مديدة القامة، قوية الصحة، وقد آثرت الحياة بجوار الريف الذي أحبته ونشأت في أحضانه، فظل لها خلق أهله من إيمان عميق ووطنية صادقة، واستمساك بالقديم، وعقل رجيح صائب الحكم في مسائل الحياة الأولية، وكانت ككل امرأة عثمانية تهب نفسها، وتصفي ودها لزوجها وأطفالها الثلاثة الذين توفى أحدهم في طفولته، ولم يبق سوى مصطفى وأخته مكبولا.

ص: 46

كان مصطفى هزيلاً نحيلاً، وكان طفلاً في سنه، كهلاً في خلقه. فلست ترى فيه جذل الأطفال ومرحهم. بل وقار الرجال ورزانتهم، وكان عصي النفس عسير القياد، كثير التمرد على أوامر والدته، فإذا همت بتأديبه ثار واهتاج، وكان قليل المخالطة للداته من الأطفال مستقلاً بنفسه عنهم، اعتزل أبوه منصبه فأراد أن يعلمه الاتجار ليساعده ويعينه، ولكن أمه أرادت أن تفقهه في دينه، فأرسل إلى مكتب ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة ويستظهر القرآن. ثم إلى مدرسة شمس أفندي حيث بدت بواكير نبوغه.

وفي ذلك الحين فجعت الأسرة بموت عائلها، فأضحت في فقر مدقع، وبؤس ملح، فلجأت زبيدة إلى أخيها فأوى إليها وعطف عليها، واحتضن مصطفى وأخرجه من المدرسة وأبقاه معه، وناط به رعي الماشية وإطعامها، ومال الفتى إلى هذا اللون من الحياة واطمئن إليه، إذ كسب منه قوة في بنيته ومتانة في صحته، ولم تزده الأيام إلا حباً له وشغفاً به، وإباء لكل ما يرمي إلى انتزاعه منه، ولكن الأم الحكيمة لم تنزل على هوى الفتى الغرير، فأغرت أختاً لها بالإنفاق على تعليمه وكان لها ذلك. ألحق فتانا مرغماً بإحدى مدارس سالونيك، فألفى البون شاسعاً بين حياته الأولى الحرة الطليقة، وبين حياته الجديدة السجينة المقيدة، فأضحى دائم الثورة كثير التبرم بنظام الدرس، ولكنه ظن كما كان شديد الإعجاب بنفسه، كثير التفاخر على أقرانه، قليل المخالطة لهم حتى في ألعابهم المدرسية، فإذا هموا بمضايقته والتحرش به، ناضلهم بشدة، وردهم على أعقابهم مدحورين، فاشتد بغضهم له ونفورهم منه وإنكارهم لكبريائه، حتى اشتبكوا في شجار معه وشكوه إلى أحد المدرسين فصفعه صفعة أطارت صوابه، ففر من المدرسة وعاد إلى ذراعي أمه، وعبثاً حاولت أن تعيده إليها رغم توسلها بالترغيب حيناً وبالإرهاب أحياناً، فاقترح خاله إرساله إلى المدرسة الحربية بسالونيك، لأن التعليم فيها لا يكلفهم من النفقات كثيراً ولا قليلاً، وهي تحت رعاية السلطان عبد الحميد، فإذا ظهر تفوق الفتى ارتفع إلى مرتبة ضابط، وإلا التحق جندياً بالحرس السلطاني. فمستقبله على أي حال واضح مأمون. وما كانت الأم لترضى بهذا أو تميل إليه، إذ كانت تريده فقيهاً على غرارها في التقى والورع، ولكن فتانا الثائر نال منه الاقتراح كل منال، وأخذ منه كل مأخذ، فما كانت نفسه الطموح لتقنع بما تريده الأم. بل هو يريد أن يرتدي حلة الجندية التي يرتديها تربة أحمد ابن أحد جيرانهم، ويخطر بها غادياً

ص: 47

رائحاً في زهو وإعجاب، ويمني نفسه بأن يكون ضابطاً يصدر أوامره فيتلقاها مرءوسوه بالإذعان والخضوع، ولم يطل بفتانا الانتظار بل عول على نفسه في تحقيق غايته. فلجأ إلى ضابط متقاعد من معارف أبيه، ورجاه أن يكون ولي أمره لدى المدرسة المذكورة. ثم تقد م للامتحان فجازه، والتحق بها دون أن تعلم أمه من الأمر شيئاً، وهكذا أرادت الأم شيئاً وأراد الله شيئاً آخر، فكانت إرادته جلت قدرته أرحم بالفتى وبأمته من الأم الورعة الزاهدة، وفي المدرسة وجد الفرصة التي هيأتها له الأقدار في عالمها المحجوب، فبرزت مواهبه رائعة في الرياضة وسائر العلوم الحربية، أما خلقه فظل كما هو، بل زاد مزاجه حدة وطبعه تمرداً، يثور لأقل نقد يوجه إليه، أو لوم يلقى عليه، وكان يحب دائماً أن يكون قبلة الأنظار ومدار الحديث، ولم يكن أبغض إليه من أن يرى نفسه خاملاً ذاهباً في غمرة الإهمال، إذ كان شديد الشعور بشخصيته، قوي الإحساس بارتفاعها عن أقرانه، حتى كان يرد من حاول الاتصال به منهم قائلاً (أنا لا أريد أن أكون واحداً من أمثالكم) ويمضي في سبيله قدماً لا يلوي على شيء، كذلك كان لرغبته الملحة في التفوق والتبريز، شديد الحسد لكل من بذه منهم، ولعلك تعجب حين تعلم أن هذا الفتى الجافي الخلق الفظ الطباع يلعب الغرام برأسه، فيرى دائماً يخطر في أبهى ملابسه وأزهاها، مداعباً للفتيات مغازلاً لهن، محاولاً الاستيلاء على قلوبهن، ولكن لم العجب؟ أو ليست هي الطبيعة تأبى إلا أن تبرز العظيم في جميع أدوار حياته نمطاً شاذاً؟

ومهما يكن من أمر فتانا فقد نبغ نبوغاً لفت نظر أحد أساتذته وأسمه مصطفى، فأختاره مشرفاً على إحدى الفرق الصغرى ووكل إليه إلقاء بعض الدروس، ولتشابه الاسمين ميز الأستاذ تلميذه بإضافة اسم كمال، فأصبح يعرف منذ ذلك الحين باسم مصطفى كمال، وقد تخرج في المدرسة في سن السابعة عشرة. ثم أرسل إلى المدرسة الحربية العليا بموناستير

(يتبع)

حنفي غالي

ص: 48

‌مشهد ومكة

بقلم الأستاذ أمين الخولي

المدرس بكلية الآداب

سارت الرسالة في عددها التاسع والخمسين، بكلمة ناقدة للأستاذ عبد الوهاب عزام، عن كتاب (جولة في ربوع الشرق الأدنى) للرحالة محمد ثابت، وقد عناني من هذه الكلمة تفضيع الأستاذ عزام خطأ الرحالة في قوله عن شيعة إيران: إنهم يفضلون مشهداً على مكة فنشطت لكتابة هذه الكلمة لا إنصافاً للناقد والمنقود، فهذا شيء قد يكون عند غيري حسابه، إنما عنيت بذلك لثلاث: إحداهن حب الحقيقة، وإنها لحقيقة أن تبتغى لذاتها، ويجمل إلى الناس تصحيح وخالفها تطوعاً. وثانيتهن: أن في هذا الحديث عن تفضيل الشيعة مشهداً على مكة مثلاً شيقاً طريفاً للباحث النفسي عن فرق ما بين العقيدة والفكرة، وصلة ما بين العقل بمنطقه، والاعتقاد بسلطانه. كما أن أمثال هذه الحقائق النفسية هي الأصول القوية لتفسير التأريخ تفسيراً صحيحاً صادقاً. والثالثة: أننا حين نعمل جادين، وندعو محبين الوحدة الإسلامية، وتقريب ما بين الشعوب الإسلامية على تنائي ديارها، واختلاف أنظارها، يجب أن نعرف الحقائق على ما قد يكون بها من قسوة أو شدة، إذ لا غناء في إنكارها، ولا خير لنا في تناسيها أو نسيانها.

قال الأستاذ الناقد (وأفظع من هذا كله قوله عن إخواننا شيعة إيران، إنهم يفضلون مشهداً على مكة، وكيف يعقل أن أمة مسلمة شديدة الغيرة على دينها تعتقد أن الحج إلى مكة فرض، وقاعدة من قواعد الإسلام، كيف يعقل أن هذه الأمة ترى زيارة مشهد افضل من الحج إلى مكة؟. ربما بالغ عامة الإيرانيين في تعظيم مشهد وغيرها من المزارات الشريفة، كما يبالغ عامة المصريين في تعظيم مسجد سيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيد البدوي، وإبراهيم الدسوقي: ولكن عمل العامة لا تفسر به عقائد الأمة. وهذه كتب الشيعة بين أيدينا تنطق بخلاف ما زعم الكاتب)(ص1399 عدد 59 من الرسالة).

والأستاذ عزام خير من يعرف أن القياس قليل الجدوى وضائع الأثر في مثل هذا المقام. فما لا يعقل وما يعقل قد يُعتقد ويهرب معتقده من الحوار فيه أو الجدال حوله، بل يهرب من طلب النفس تفسيره؛ على أن الأستاذ لو أنصف لذكر من كتب الشيعة التي بين أيدينا

ص: 49

شيئاً بعينه يفند هذا الزعم، أو يحتسبه على العامة، فيرد عليهم بدعتهم، كما ترد على عامة المصريين بدعمهم في تعظيم المشاهد المصرية والقبور، ولكنه لم يفعل فلم يرح القارئ.

وكيف يكون الأمر إذا كانت كتب الشيعة تقرر هذا التفضيل المكاني بقسوة وعنف؛ وتجعل مكة وبيتها الحرام ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لكربلاء، وإلا هوى الله بها في نار جهنم!!. وهذا عالم فارسي شيعي من المحدثين قد أشرب روح العصر واعتداله أو تساهله إن شئت، وهو مع ذلك ينقل عن قديم كتبهم هذا التفضيل؛ بل يعد المروى فيه متواتراً عندهم!! ذلك العالم هو الشيخ أحمد بن عبد الله الكوزه كناني، صاحب روضة الأمثال في تفسير آيات التمثيل بالقرآن الكريم، وكتابه مطبوع في فارس ومنه نسخة في دار الكتب المصرية.

عقد الشيخ فصلاً (في فضيلة أرض مكة وفضائل بيت الله.) الخ ص187. واستطرد في خلاله بفصل عنوانه (في أن أرض كربلاء أفضل من الكعبة) ص 188 وفيه يقول ما نصه: -

(أقول قد ورد في أخبارنا الخاصة أن أرض كربلاء أفضل من الكعبة مثل ما في البحار عن. . . عن أبي عبد الله. . . قال إن أرض الكعبة قالت منْ مثلي: قد بني بيت الله على ظهري، يأتيني الناس من كل فج عميق، وجعلت حرم الله وأمنه؛ فأوحى الله إليها أن كفي وقري، ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر، فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا ما تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي افتخرت به، فقري واستقري، وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً، غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم) إلى مرويات أخرى في هذا المعنى آخرها قول الرسول عليه السلام (يقير ابني في أرض يقال لها كربلاء هي البقعة التي كان عليها قبة الإسلام التي نجى الله عليها المؤمنين الذين آمنوا مع نوح في الطوفان)، ونختم هذا الفصل بقوله (والأخبار في هذه المعاني في خصوص كربلاء متواترة من أرادها فعليه المجلد الثاني والعشرون المسمى بمزار البحار).

فليس الأمر من مبالغة العامة، ولا من عمل العامة الذي لا تفسر به عقائد الأمة ولا نكر على الرحالة، ولا فظاعة فيما أخبر به.

ص: 50

أنا لا أقول بصحة هذه المرويات بل تواترها، وليس يعنيني في شيء مطلقاً أن يستمسك إخواننا الشيعة بها؛ بل أحب ألا يكون لذلك أثر حتى تتضاءل الفروق بين المسلمين، ويهون التقارب، لكن ما لا نحبه قد يواجهنا صارخاً به الواقع.

واكتفى بهذه الكلمة قائلاً مع الأستاذ عزام في ختام كلمتي: إنني لراج أن يتم التعارف بين الأمم الإسلامية، حتى لا يكتب بعضها عن بعض إلا عن علم وروية، وتثبت وانصاف، والله ولي التوفيق.

أمين الخولي

ص: 51

‌اليابان تلقي على الشرق درساً

للأستاذ محمد مختار المحامي

جاء في الصحف اليومية منذ عهد قريب أن مصانع اليابان أخرجت سيارات زهيدة الثمن في طاقة كل شخص أن يقتنيها وهي تريد أن تغمر بها أسواق العالم، وقد كان لهذا الخبر رجة عنيفة في جميع الدول، فقد أوقعها في حيرة شديدة إزاء هذا التيار الجارف الصادر من أقصى الشرق.

منذ نصف قرن تقريباً استيقظت اليابان من أحلامها، وبخطوات العمالقة اقتحمت الهوة التي تفصلها عن الحضارة الغربية الحديثة فتركت وراءها قروناً غطت فيها في سبات عميق، ورفعت الحجاب عن أعين الشرق ونبهته إلى الحقيقة التي غابت عنه، وأظهرته على باطل ما يلقي إليه المستعمرون من أن الشرق يعيش في الماضي، وأن من المحال إحياءه وجعله يسير في طريق التقدم لأن وجهه دائماً إلى الخلف، وقد قبلنا هذا الاتهام وآمنا به، وفعل فينا فعل التنويم المغناطيسي إلى أن أتت اليابان ففكت طلاسم هذا السحر، وكنا قد نسينا أن نشأة الفلسفة والعلم والآداب وكل أديان العالم لم تكن إلا في الشرق، فكيف تتهم أراضيه بالعقم وعقوله بالخمود، وهي التي قد حملت مشاعل الحضارة وقت أن كان الغرب يتخبط في الظلام؟

لقد دهش العالم أيما دهشة حين حطمت اليابان الحواجز التي كانت تحجزها عن العالم بين يوم وليلة، ثم خرجت منتصرة أيما انتصار، فقد فعلت ذلك في وقت قصير كالوقت الذي تغير فيه الثياب، لا الوقت الذي توضع فيه أسس حضارة جديدة، وقد أظهرت أصدق مظاهر قوة الخصب والقدرة على العيش في هذه الحياة الجديدة، فقيل إن هذا الانقلاب ليس إلا مسخة من مسخ التاريخ، أو فقاعة كفقاقيع الصابون كاملة في استدارتها ولونها، جوفاء في قلبها ومادتها. ولكن اليابان أثبتت أن تطورها لم يكن لحظة دهشة قصيرة، أو فرصة من فرص مد الزمن وجزره.

الحقيقة أن اليابان قديمة وحديثة في آن واحد، فهي لم تترك تراث الشرق القديم وثقافته التي تدفع الإنسان إلى البحث عن القوة والسعادة الحق في أصل نفسه والتي توحي إليه برباطة الجأش عند مواجهة الخسائر والأخطار، وبالتضحية التي لا تحسب حساباً للكسب

ص: 52

وبتحدي الموت. فاليابان زهرة من أزهار اللوتس تنمو بسهولة ورشاقة محافظة على الأعماق التي منها نمت، ومع ذلك فقد تسلقت اليابان إلى آخر ما وصل إليه الغرب وصارت تعج فيها الحضارة الحديثة بكل مسئولياتها.

إذن الحياة والقوة كائنتان في الشرق، ولكنهما كامنتان تغطيهما قشرة ميتة يجب أن تزول، لأن الاحتماء بالميت موت، واحتمال أخطار الحياة حياة.

ولا يظن أحد أن اليابان قد وصلت إلى ما وصلت إليه بالتقليد، لأننا لا نستطيع تقليد الحياة والقوة لأمد طويل، بل إن التقليد مصدر من مصادر الضعف، فهو يعوق طبيعة الأمة الحقيقية، لأنه كالباس هيكل عظمي لإنسان ما، إهاب إنسان آخر.

لقد استمدت اليابان غذاءها من الغرب، ولكنها لم تستمد منه حيويتها، بل احتفظت بروحها، وهذه هي المعجزة التي بهرت أعين العالم، فقد علمت عن حق ويقين أنه لا يمكن قبول المدنية الغربية على علاتها، تلك المدنية التي لم تحل بعد أعظم مشاكل الوجود كالتنازع بين الفرد والدولة، وبين العمل ورأس المال، وبين الرجل والمرأة، والتنازع بين شره الكسب المادي والحياة الروحية للإنسان، وبين أطماع الأمم المنظمة والمثل العليا للإنسانية، تلك المدنية التي تتغنى بالحرية، ثم تأتي بأقسى ضروب العبودية، تلك المدنية التي يفقد الإنسان تحت تأثير سحرها كل ثقة في المثل العليا التي جعلته من قديم الزمن إنساناً.

والحق يقال إن النفس الشرقية بما انطوت عليه من قوة روحية وحب للبساطة واعتراف بالواجبات الاجتماعية عليها أن تحكم العقل الشرقي إذا أرادت أن تشق طريقاً وسط هذه المعمعة الغربية، وعليها ألا تلقي وراء ظهرها تراث الأجيال الماضية كما تلقي الملابس البالية، إذ أن هذا التراث في دمها وفي نخاع عظمها وفي تكوين لحمها، وفي ألياف مخها، وهو يكيف دون أن تشعر ودون أن تريد كل ما تضع عليه يديها بتكييفه الخاص.

ومن تراث الماضي وغذاء الحاضر المستمد من الغرب عليها أن تخرج خلقاً جديداً لا مجرد تكرار، ولتكن لنا من اليابان عبرة

إنّا لنصغي إلى ما يقوله الغربيون من أن مدنية الشرق ليست إلا فلسفة لاهوت، فإن الأصم يرى في اللعب على (البيانو) حركات أصابع مجردة عن نغم الموسيقى، وهم لا يعرفون إننا قد بنينا تقاليدنا على أساس من الحقائق التي تدخل الطمأنينة والسلوة في قلب الإنسان،

ص: 53

والتي تجعل وجدانه دائم اليقظة والحياة.

لقد واجهت الشمس المشرقة العالم فكانت الأولى في الشرق في هذا السبيل، ولقد أشعلت الأمل في فؤاد الشرق فحق عليه أن يقدم لها الثناء، ومن يدري فقد يكون هذا بشيراً بأن يعم النور الخالد هذا المكان الذي بزغت فيه شمس الآدمية لأول مرة.

محمد مختار المحامي

ص: 54

‌ليلى العفيفة

للمرحوم الأستاذ محمد عبد المطلب

. . . لعل أسمى مراتب العظمة الإنسانية في الحياة الدنيا هي تلك الكلمة الصغيرة التي تفني الأجيال وهي باقية، وتتقلب الأزمنة وهي ثابتة، وتخفت الكواكب والأقمار وهي متلألئة متوهجة، والتي اسميها؛ ويسميها الناس معي (. . الخلود. .)!!

نعم. . إن أعظم ما في الحياة الدنيا وأبقى ما فيها من خير هو الخلود من غير شك. . وإذا قلنا إن الخلود هو أمتع ما في الحياة من جمال وروعة، فلأننا نريد أن نقول أيضاً إنه صعب المنال عسر الإدراك. لا يتشرى إلا بأعز ما في النفس البشرية، وأغلى ما فيها. . وهي الحياة. . فمن ضحى بحياته، أو كان على استعداد لتضحيتها في سبيل سعادة غيره ورفاهيته ورفع الظلم عنه نال الخلود لأنه أناله لغيره، أو حاول أن ينيله إياه - إن قصر أجله عن إتمام ذلك -

ومن ضحى بوقته وراحته في سبيل تثقيف الغير وتعليمهم، وتهذيبهم ونشر نور العلم بينهم. لن يفنى وإن فني جسمه، ولن يُنسى وإن اختفى شخصه، ورجع إلى الأرض التي منها نشأ وعليها تربى.

فالحياة والذكرى ليستا وقفاً على الجسوم الحية المتحركة. . وإنما هي رهينة تلك الأعمال الجليلة التي أداها أصحابها، وعلى تلك الخدمات الصادقة التي بذلوا في سبيلها راحتهم وشبابهم، والتي لن تفنى حتى يفني الفناء، ولن تزول حتى تتبدل الأرض غير الأرض والسموات.

فكم من حي لا تعرفه إلا نفسه، وكم من ميت بلى عظمه وفني جسمه، ومع كل فهو يملأ القلوب بحبه، ويملأ الدنيا بذكره واسمه.

ومن هؤلاء الخالدين المرحوم الأستاذ (محمد عبد المطلب) الذي تعرفون عنه أكثر مما أعرف، وتقدرون أعماله الجليلة كما أقدر، وتؤمنون بعبقريته الفذة كما أؤمن، وتعترفون بشاعريته الخصبة السامية كما أعترف، وتفخرون بدرره اللامعة - التي حلى بها جيد العربية - كما أفخر.

لهذا فإني أعتقد أنكم تودون أن تقرءوا له شيئاً لتمتعوا أنفسكم بسحر هذا الشاعر البدوي

ص: 55

الذي سيدهشكم الآن بأسلوبه الحضري الرقيق، وبتفكيره المصري الذي نعجز عنه ونحن فيه.

وقبل أن أعرض للأستاذ المرحوم شيئاً أود أن أقول: إنه كان من أسبق الشعراء إلى تأليف الروايات، فله في دار الكتب من عشرين سنة مضت روايتا (المهلهل) و (امرئ القيس) وله أيضاً عدة روايات وضعها للمدرسة السعيدية وقت أن كان مدرساً بها:

وكأن المرحوم شعر بحاجة المسرح المصري إلى روايات عربية سليمة التفكير رقيقة التعبير، فوضع له في سنة 1909 رواية (ليلى العفيفة)، ولكن حظ المسرح التعس حال دون ذلك لأن الأستاذ لكثرة أعماله في مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي لم يستطع إتمام القصة، وحاول في أواخر أيامه أن يتمها ولكن الموت القاسي عاجله، فحرمنا من تراث أدبي نافع. على أننا سنعرض الجزء الذي كُتِب من (ليلى العفيفة) بنت لكيز، وهي التي حاربها الزمن على يد أبيها بضع سنوات، فأذاقها مُرّ الحياة وشقاء العيش، وذل الأسر. . . ولكن الله جلت قدرته أنالها سعادتها مضاعفة، ورد عليها فتى قلبها وبطل أحلامها جزاء وفائها وإخلاصها. . .

ولعل القارئ يدهش من هذا ويعجب، إذ كيف يحارب رجل ابنته ويذيقها الألم الممض، ويمنع عنها سعادتها ورفاهيتها. والمعروف أن الآباء يتسابقون إلى جلب السعادة لبناتهن؟!

ولعله لا يدهش ولا يعجب عندما أقول له: حقاً إن الآباء يفعلون هذا وأكثر من هذا، ولكنهم في مسألة واحدة، بل وفي لحظة واحدة يهدمون حياة بناتهن، ويسقونهن كأس الموت مترعة، ويقاومون شعورهن، ويتجاهلون إحساسهن، ويدفعونهن إلى الهاوية باسم المحافظة عليهن. فترى الرجل منهم عندما يعلم أن ابنته تهوى إنساناً وتحبه، وتود من صميمها أن يكون رجلها. تراه في هذه اللحظة قد تنمر وركب رأسه الأخرق، ووقف بينها وبين من تحب رافضاً زواجهما، آبياً جمعهما؛ بل يزوجها ممن يحب هو ويريد، محتجاً بأنه أعرف منها بمصلحتها! فتكون الطامة، وتكون النهاية السوداء في أغلب الأحايين!.

وهذا ما حصل فعلاً مع ليلى بنت لكيز فإنها كانت مخطوبة لابن عمها البراق، وكان الحب يجمعهما برباطه المقدس. فرأى لكيز بعقله الأخرق، وحماقته المجنونة أن يفسد هذه الخطبة، وأن يقبل خطبة عمرو بن ذي صهبان لابنته طمعاً في ماله وشجاعته!. . فأنظر

ص: 56

إليه وقد زاره أحد بني كليب لينهاه عما فعل حرصاً على البراق ورحمة بابنته التي تحبه وتهواه:

كليب: ما لأبي ليلى حزيناً مطرقاً؟

لكيز:

أرقني شغل بليلى أرقا

جمّع من همي ما تفرقا

عمرو بن ذي صهبان لما حققا

أن لها في الحسن جدا صدقا

وفي المعالي غاية لن تلحقا

بادر في خطبتها مستبقا

كليب:

رام ابن ذي صهبان صعب المرتقى

إن سمع البراق أو تحققا

بأن عمراً باب ليلى طرقا

أرعد كالليث لنا وأبرقا

وطبق الأرض علينا طبقا

لكيز:

ولكن عمراً بالأيادي سبقا

قلدنا نعماءه وطوقا

يجود كالغيث علينا غدقا

إذا بنا صرف الليالي أحدقا

كليب:

لكنه ليس من البراق

أحق بالطاهرة النطاق

نقية الأعراض والأعراق

وهو فتى الجيش لدى التلاقي

وما لبكر غيره من واق

إذ تأخذ الخطوب بالخناق

وتلعب الأرواح بالتراقي

في يوم هول مظلم الآفاق

حتى إذا يئس كليب هدده بقوله:

إياك يا ابن العم أن تجيبا

فإن فيه اللوم والتأنيبا

وإن ليلى - إن تكن أريبا -

تأبى سوى ابن عمها خطيبا

وهو وان كان لها حبيباً

فما أتت نكراً ولا عجيبا

فلا يزال السيد الأريبا

في قومها والبطل المهيبا

يكفيهم البأساء والكروبا

ص: 57

فيغضب لكيز من قول كليب ويستأسد قائلاً:

ويحك! هل ليلى ترد أمري

برد هذا وقبول عمرو؟

رضيتُ عمراً أن يكون صهري

ما حجتي في رده؟ ما عذري؟

أليس في منعيه عين الغدر

ولو أبى البراق إلا هجري؟

فليجر في قطيعتي ما يجري

وقد أنصف كليب كل الإنصاف حينما ذكره بأنه غدر بابن أخيه فقال له:

يا أبا ليلى كفى. فالحقوق. أنكرتها. ذلك الغدر

وأحاديث الجفا. والعقوق. كررتها. حلوها مر

غضب البراق. مر لا يطاق. وله العذر

ولكن أترى لكيزاً يأبه لهذا ويهتم به؟ كلا وإنما يمعن في قسوته، ويسترسل في شدته، ويأبى إلا تنفيذ ما رآه. ولو كان ما رآه هو الخطل بعينه، فاسمع إلى ابنته ليلى وقد عرفت من أمرها ما عرفته: فأخذت تشكو إلى الله ظلم أبيها، وتعدد مناقب ابن عمها، وتبثه لواعج غرامها. ثم تعرج على خطيبها المكروه فتتمنى من الله أن يقبض روحها قبل أن تزف إليه، فتواسيها صديقتها سلمى فلا تستمع إليها، ولا تزداد إلا أنيناً، وإلا حسرة على بعاد براقها.

ليلى:

رب! كم تبلو وتمتحن

إن قلبي شفه الحزن

كلما قلت انجلت محن

عاودتني بعدها محن

سلمى:

هل أتى عن ركبنا نبأ

محزن، من بعد ما ظعنوا؟

ليلى:

لا، ولكني أرى جللاً

عاجلاً يسعى به الزمن

يا ابن عمي إن لي كبداً

قد يراها بعدك الشجن

إنما البراق خير فتى

فيه بنت العم تفتتن

صده عني أبي سفها

وأبي في رأيه أفنن

وأتى عمرو ليخطبني

فأذلتهم له المنن

ص: 58

ليت شعري ما الذي خبأت

لي من أحداثها اليمن

ليتني يوم أزف له

يحتويني قبله الكفن

سلمى:

إن في الأيام معتبراً

والليالي بيعها غبن

اصبري ليلى! ولا تهني

إن عزم الحر لا يهن

ليلى:

ارحمي يا سلم والهة

غلقت من قلبها الرهن

وارحمي البراق فهو بنا

قد جفا أجفانه الوسن

وكما قلنا من قبل أن أرواح العاشقين متجاوبة تشعر بشعور واحد، وتحس بإحساس واحد وفي وقت واحد. فإننا نستطيع أن نقول هنا إن براق أحس ما أحسته ليلى، وشكا مما شكت منه، فقال لصديقه عقيل:

براق:

يا عقيلا، يا عقيلا،

ما ترى الليل طويلا؟

ما لنجم الليل لا يبغي عن الأفق أفولا؟

عقيل:

طال ليلى وهو أولى

بعد ليلى أن يطولا

براق:

بالأسى قد عيل صبري

عقيل:

أي نعم، صبرك عيلا

يا ابن روحان رويدا

واصبر الصبر الجميلا

براق:

إن يحل دوني فإني

عن هواها لن أحولا

يرتضى مثل ابن ذي صهبان من ليلى حليلا

إن ليلى يا عقيل

لا ترى مني بديلا

ص: 59

ظلموني ظلموها

أغضبوا السيف الصقيلا

أنا إن لم أسق عمي

بالردى كأساً وبيلا. . .

فيخاف عقيل من هذا التهديد ويخشى عاقبته. . ويشفق للكيز أن يقتله ابن أخيه فيقول لصديقه بخبث:

عقيل:

أوَ ترضى يُتْمَ ليلى؟

فيستفيق براق حينما يسمع اسم ليلى، وتأخذه عليها الشفقة والرحمة، ويخاف كرهاً إن هو نفذ تهديده. . فيكرر صديقه الخبيث قوله:

عقيل:

أوَ ترضى يُتْمَ ليلى؟

براق:

لا ولا، حسبي ذهولا

قطع السيف يميناً

تترك العم قتيلا

والفتى من كان للأهل

ين مسماحاً وصولا

غير أن براق يرى أن من المستحيل عليه معاشرة أهله، وقد حطموا قلبه وفتتوا كبده فيقول:

غير أني لا أرى عن

أرضكم إلا الرحيلا

يا لقومي للنوى زم

وا عن الحي الحمولا

والى البحرين في

صبح غد، حثوا الرعيلا

حتى إذا كان الصباح رحل براق إلى اليمامة ليأسو جرحه، وينسى ما هو فيه من عذاب وألم. فهل ترى الأقدار ساعدته؟ أم أنها كانت تعد له من مخبآتها ما أثار شجونه واستفز رجولته وألهب حميته وهو العربي الصميم؟

نعم إن الأقدار حاربته وعذبته، فإنه ما كاد يستقر في اليمامة حتى علم أن قومه في حرب ضروس مع طيئ وخزاعة. فماذا يعمل؟ أيذهب ويحارب معهم حتى ينتصروا وهم هم الذين عذبوه ومزقوا قلبه. .؟ أم يتركهم لأعدائهم يسومونهم سوء العذاب يذبحون أبناءهم

ص: 60

ويستحيون نساءهم؟ إنه إن فعل هذا فقد لحقه العار وركبه الذل، وناهيك بعار العرب وذلهم، على أنه مع هذا وذاك لم ينس أن يتهكم ويعتد بقوته فيقول:

أتاني أن قومي جد فيهم

من الحدثين شر مستطير

أناخت بينهم حرب عوان

ضروس للردى فيها زئير

وما أدري أيذكرني لكيز

إذا استعرت وطار لها زفير؟

وهل هو بابن ذي صهبان يغني

إذا عميت على القوم الأمور؟

وما إن ينتهي براق من قوله حتى يخبره خادمه بضيوف يطلبونه، وسنرى الآن من أخلاق براق ما يدهشنا، وما يثير إعجابنا.

الضيوف:

نزلنا بأبي نصر

سلام يا أبا نصر

دعوناك إلى أمر

فهل تصغي إلى الأمر؟

بنو عمك قد جاروا

ومدوا سبب الشر

وقد خانوك من قبل

بمحض البغي والغدر

فخالفنا وأيدنا علي

هم واسع في النصر

نحالفك على منشئ

ت في بر وفي بحر

براق:

ذروني لست أترك آل قومي

وأرحل عن فنائي أو أسير

بهم ذلي إذا ما كنت فيهم

ولكن لي بهم شرف خطير

أأنزل بينهم إن كان يسر

وأرحل إن ألم بهم عسير؟

وفي أثر هذا القول الذي خيب ظن القوم يخرجون وهم يتميزون غيظاً ويحترقون ألماً. بل وفي إثره أيضاً يعلم براق بموت أخيه وانكسار قومه، وأسر أغلبهم وفيهم (ليلى) فيطير عقله، وينخلع قلبه، ويسافر تواً إلى قومه ويجمع شملهم وينظم عقدهم. ويشاء الله أن ينتصر انتصاراً حاسماً وأن يشتت أعداءه، ويمزقهم شر ممزق ثم يرجع بحبيبته ليلى ليستأنفا سعادتهما وحبهما، وهو يقول:

يا ليل قومك عنك قد نكلوا

يا خجلتي يا بئس ما فعلوا

ص: 61

أفأسلموك وأمعنوا هرباً

وتخطفتهم دونك السبل؟

أم كانت الجلى فما ثبتوا

وعن الحريم لهولها ذهلوا؟

أهلوك لا ميل ولا كُشُف

عند اللقاء، إذا هم نزلوا

إن يخذلوك فرب معترك

عميت به النجدات والحيل

هذه عجالة رأينا من الخير للأدب أن ننشرها للناس لتكون ذكرى طيبة للأستاذ الخالد، ولتكون نواة صالحة، وقدوة حسنة لمن يود أن يكتب الشعر العربي الرصين للمسرح المصري. رحم الله الفقيد وأسكنه مساكن الشهداء والصالحين.

محمد السيد المويلحي

ص: 62

‌من طرائف الشعر

وحي المصيف

ليلة البدر

للشاعر الوجداني أحمد رامي

غبرت أعدّ ليالِي العُمُر

وأرتقب البدر حتى ظهرْ

وفي القلب أمّنية للقاء

وفي النفس عاطفة للسمرْ

أسوق إليك حديث الشجون

وأشكو إليك صروف القدر

وأرسل شعري على مِزهري

فأسمع منك حنين الوتر

تعالَيْ إلى زورق سابح

نشقُ عليه عُبَاَب النَّهَرْ

ونبصر بدرَ الدجى زاهياً

يرصّع أعطافه بالبِدَر

وفي الشاطئين حسان المغاني

تجلّت لأعيننا كالصوَر

سجا الليل إلا اصطفاق الشراع

وأبلس إلاّ حفيف الشجر

بقلبي شكاةٌ تكتمتها

وقد كتم القلب حتى صبر

توالى المغيب وكان الغروب

وعيني على الموعد المنتظر

ظللت أودع شمس النهار

وأستقبل الليل بين الذّكر

خلا الكون إلا نجىّ الفؤاد

تناغى مع الموج لمَّا هدر

هنا البحر أقبل آذيُّه

هنا النيل طالَعه وانحدرْ

تلاقى الغريبان بَعد النوى

وضِنّى الذي ارتجى ما ظهر

ص: 63

‌تعالي

له أيضاً

تعالي نسعد الروح الحزينا

فقد قرّت نواة الوجد فينا

حرمت هوى ترضين إلفاً

وعزّ عليّ من أهوى خدينا

كلانا ناشد قلباً حنوناً

وكلّ يحتوي القلب الحنونا

تعالي كفكفي الدمع السخينا

فكم أرسلت بالدمع الجفونا

عرفتِ الحزن في فجر الليالي

وذقت من الأسى فيه فنونا

وملت عن الهوى ونأيت عنه

فذكرنا اللقاء وما نسينا

بكيت مودة وبكيتُ شجواً=ومن يبك العهود يكن أمينا

فواسيني ترى قلبي حنوناً

وباكيني ترى دمعي هتونا

أحمد رامي

ص: 64

‌من الأدب الغربي

الضجر

للشاعر الإنجليزي هنري لنجفلو

ترجمة محمد متولي بدر

يا قَدَما من سُرى الليالي

ورحلة العمر والسنين

أدمتكِ أحجارها ففاضت

فجاجها بالدم الثخين

تجرين بالعبء - والأماني

تفرُّ - موصولةُ الأنين

ها أنا أوشكت أن أوافي

لبيتك الهادئ الأمين

هناك ننسى الذي رعانا

ومضَّنا، في حمى السكون

لشدَّ ما أرهقت فؤادي

يا قدمي رحلةُ السنين!

ويا يداً، لا أراكِ إلا

كثيرة الوثب والنضال

آناً مليكاً ومستبداً

وتارة موطئ النعال

الجود يُعْليكِ بالعطايا

والفقر يدنيك بالسؤال

أنا الذي خضت مستميتاً

معترك العيش بالمقال

يا طالما رحتِ في شقاء

تَشكيَن من كثرة الأمالي

كم أنا يا عدتي حزين ال

فؤاد من دائكِ العضال!

وأنت يا قلب يا صغيري

يا دائم الخفق والوجيب

أراكَ تهتاج بين هذي ال

ضلوع كالثار الغضوب

كأنما أنت - والأماني

بعيدة - ملتَ للغروب

يا عجباً! هل رماك رامٍ

غير أمانيك بالخطوب؟

نار كنار الغضى وجمر

متقد ثائر الشبوب

الآن فاهدأ فسوف نرضى

وتنطفي شعلة اللهيب

وأنت يا روح، يا حياتي

يا هبة الرب والسماء

هبطتَ من عالم خفي

أنقى وأصفى من الضياء

ص: 65

يا روح، هذي سحائب العم

ر كالأواذيَّ في الفضاء

تُمْعُن في سيرها وراحت

تنتهب النور في ظَمَاء

يا لي من العمر! كيف ولَّى

وانحدرت شمسه ورائي؟!

يا لي من الموت! كيف حانت

واقتربت ساعة اللقاء؟!

محمد متولي بدر

ص: 66

‌العلوم

بعض الأسماك الغريبة بالبحر الأحمر

للدكتور كرسلاندا

مدير محطة الأحياء البحرية بالغردقة

لم تمض بضع سنوات قليلة على إنشاء الجامعة المصرية حتى فطنت إلى أهمية البحر الأحمر من الوجهة البيلجية. فأقامت على شاطئه الغربي محطة الأحياء البحرية بالغردقة لمساعدة البحاث من العلماء على دراسة هذا البحر واستنباط أسراره. وهنالك في هذه المحطة يمكننا أن نشاهد دون ما عناء تلك الحيوانات الغريبة التي تختلف كثيراً عن حيوانات البحار الشمالية والبحر الأبيض المتوسط، والتي لم يرها حية إلا نفر قليل من العلماء تكلفوا في سبيل ذلك من المال والعناء الشيء الكثير.

ويكفي أن تجرف قاع البحر - قريباً من مرسى المحطة حيث تغزر الحشائش - بجرافة صغيرة كي تحصل على نحو من ثلاثين نوعاً من الأسماك الصغيرة، أغلبها غريب في شكله وعاداته. ومن هذه الأسماك فرس البحر والأسماك الأنبوبية الفم ولا يبدو فرس البحر لأول وهلة من الأسماك، لولا زعانفه الصغيرة. وقد فقد زعنفته الذنبية فليس يفيد الذنب في العوم، وإنما يلتف حول الحشائش التي يعيش بينها فرس البحر فيمسك بها. أما الأسماك الأنبوبية الفم فبرغم جسمها العضوي الشكل الكثير الحراشيف، فهي أشبه بالأسماك العادية من فرس البحر ويمكننا أن نرى جلياً حلقة الاتصال بينها وبين فرس البحر. فهنالك واحدة من الأسماك الأولى ذات ذنب قابض قد فقد زعنفته، فإذا أخذت هذه السمكة وثنيت رأسها بزاوية قائمة ونفخت بطنها حصلت على فرس البحر. . كل هذه الأسماك تشابه الحشائش البحرية في لونها، وتحمل نقطاً حمراء قاتمة أو سمراء تشبه تماماً صدأ الحشائش التي تعيش بينها.

وتبلغ مشابهة الأسماك للحشائش أقصاها في نوع ماصة الفم

فهذا النوع يبلغ في الطول ثمانية سنتيمترات، ومع ذلك تصعب رؤيته جداً بين الحشائش التي يعيش بينها، حتى خارج الماء. ويخيل لناظر الصورة أن هذه السمكة سهلة الرؤية

ص: 67

لشكلها الغريب، ولكن جسمها الرقيق ذا اللون الأخضر وزعانفها الصدرية العريضة والنقط السوداء المنتشرة عليها، كلها تكسبها شكلاً يحول كثيراً دون رؤيتها الحشائش خارج الماء. فكم تتعذر رؤيتها في مكانها الطبيعي؟

وهناك جنس آخر لا يمُتّ إلى الأسماك الأنبوبية الفم بصلة يعرف بالأمفسيل يشبه الأولى في فمها الأنبوبي الماص، وتغطي جسمه حراشيف كبيرة ملتصق بعضها ببعض، تكسب السمكة صلابة في الحركة - وجسم أسماك هذا الجنس مفرطح رقيق صلب، فهو أشبه شيء بحد السكين، ولا ينتهي بالذنب كالمعتاد، فقد تحول هذا من مكانه الأصلي وتقدم قليلاً نحو الجهة البطنية. وستدل من زعانفها الصغيرة على بطء حركتها - ولا يمكننا أن نتكهن كيف يعيش هذا السمك الغريب، إذ يصعب الحصول عليه حياً أو على الأقل في حالة جيدة، وذلك بالرغم من صلابة حراشيفه التي هي بالنسبة إلى حجمه أقوى من درع التمساح. والمفروض كما وصف بولانجيه في كتابه (المربي المائي) أن هذه الأسماك تتغذى على الحيوانات المائية الدقيقة تمتصها بفمها الأنبوبي.

وتعطينا الأسماك الأنبوبية الفم مثلاً من الأمثلة النادرة بين الأسماك، إذ يحتفظ السمك ببيضه حتى يفقس، وبيرقاته حتى تتطور وتصبح قادرة على الأخذ بأسباب الحياة. والذكر وحده هو الذي يرعى النسل، فله كيس بطني تضع الأنثى ببيضها وتثبته ببعض على شكل كرة، تمسكها بفمها فتسد فتحته حتى ليستحيل الغذاء، والغريب أنها مع ذلك تتنفس - ومن طبيعة الأسماك الكبيرة أن تأكل الصغيرة، سواء أكانت من نوعها أم لا. وهنا نرى جلياً ظهور غريزة تخالف تماماً الطبيعة العامة للأسماك، وهي تشبه في ذلك غريزة بعض الأقراش الكبيرة يقال إنها تأوي صغارها في فمها - ولا يمكننا أن نقول إن مثل هذه الأسماك يمكنها أن تتعرف صغارها، فإن عقل الحيوانات لم يصل إلى الدرجة الدنيا التي يمكنه معها تمييز صغارها إلا في ملايين السنين بعد أن بلغت الأسماك نهاية تطورها المخي.

وعائلة السكوربينويد كلها أسماك قبيحة المنظر، لها أشواك حادة في كل مكان يمكن أن يظهر فيه الشوك. وكلها ضارة إذا أمسكت، وبعضها خطر يهدد الحياة. إذ أن للأشواك غدداً سامة - ومن أفراد هذه العائلة أسماك صغيرة تعيش بين الحشائش المائية أيضاً، ونحصل

ص: 68

عليها بالجرافة. وهذه أدنأ أفراد العائلة وأقلها تخصصاً. فنشأت من ناحية أسماك منتفخة كثيرة التجاعيد والنتوءات (شكل3) هي أقبح المخلوقات، يبدو التمساح بجانبها حيواناً جميلاً وديعاً. وقد بلغت هذه الأسماك حد مشلبهة الصخور المرجانية في شكلها ولونها حتى لتكاد تستحيل رؤيتها في موضعها الطبيعي إذا وطئها إنسان عاري القدم أو بحذاء رقيق أصابه ألم مبرح قد ينتهي بالموت، وهيغير منتشرة هنا، وأن كان يوجد منها نوعان. وشيء واحد نحمده لها، ذلك أنها تلوذ بالفرار إذا أوجست خيفة أو لمحت إنساناً يسير على الشعاب، فإذا هرعت سهل رؤيتها لوضوح زعانفها الصفراء الفاقعة، في أحد النوعين، وخطوط عريضة بيضاء في ذنب النوع الآخر، فيها تحذير من شرها.

وذهب التطور من الناحية الأخرى إلى سمكة تعرف هنا بالجنّخ - (شكل4) - وهي وأن شابه جسمها جسم الأسماك العادية ملاسة، إلا أن لها رأساً مجعداً كبقية أفراد عائلتها. والزعانف في هذه السمكة تأخذ شكلاً غريباً، إذ تطول أشعتها كثيراً وتصير أشبه شيء بريش الطيور، وليست كزميلاتها تهاب أعداءها، وتحاول التخفي بمشابهة الصخور والأعشاب، بل تبدو جلية واضحة بألوانها الزاهية الجميلة. فجسمها مخطط أسمر وأشهب، بينما ريشها الطويل ملون بالأحمر والأسمر والأبيض. وتكثر الجنانخ (جمع جنخ) هنا - وقد اعتدت أن أزور صخرة مرجانية قريبة من المحطة لأتمتع بمشاهدة المرجان اللين النامي عليها ولألاحظ النجوم الريشية تخرج من جحورها، وتنشر ريشها ساعة الأصيل. وقتئذ يخرج الجنخ من مضجعه ويعوم بتؤدة وهوادة، حتى إذا وصلت إلى هذه الصخرة، دفعت برأسها إلى أسفل، ونشرت أجنحتها الكبيرة أفقياً، ورفعت زعنفتها الذنبية، وهي كالزعانف الظهرية الخلفية والشسرجية رقيقة شفافة تصعب رؤيتها في الماء. وتمكث هكذا طويلاً دون حراك، ولا تزال الغاية من عملها هذا سراً خفياً

البحر الأبيض المتوسط بحر النور والألوان، ولكن الخبيرين بأحيائه يشدههم كثيراً زهاء الألوان في أسماك البحر الأحمر عندما يزورون الغردقة - لا يقتصر ذلك على الأسماك الدقيقة، التي تسبح كالفراش بين الشعاب المرجانية، أو التي يحاور بعضها بعضاً في الكهوف بين المرجان - بل يتعداها إلى الأسماك الغذائية الكبيرة. وقد يظن من ليس لهم خبرة إلا بأسماك المنطقة المعتدلة، أن الصور التي نشرها روبل سنة 1829 لم تكن إلا

ص: 69

محاولة ضعيفة لتصوير ألوان هذه الأسماك، وأن فيها قدراً من المغالاة غير يسير، إذ ما كان في استطاعة الطباعة في ذلك العصر أكثر من ذلك. والحقيقة إن روبل لم يغال مطلقاً، بل أن معظم الصور جاءت كأدق ما يكن عمله الآن بالطرق الحديثة، فقد يجتمع في بعض الأحيان الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر إلى غير ذلك جنباً إلى جنب في خطوط أو بقع، دون أن يختلط أحدهما بالآخر وأحياناً تمتزج هذه الألوان الواحد بالآخر في أجمل صورة. وأخرى قرمزية لا يداخلها لون آخر، غير أن لها بريقاً فضياً يكسبها جمالاً لا نجده في أي سمكة فارقت الحياة، مهما بلغت من الجمال في حياتها.

كيرس كرملانر

مدير محطة الأحياء البحرية بالغردقة

ص: 70

‌القصص

أقصوصة من الأدب المجري

الأنشودة

بقلم الكاتب المجري يوليس كرودي

(إن ينفق المرء وقته في الليل، تحت نافذة، ومن وراء حجاب، ولا يعمل شيئاً إلا أن يفكر في امرأة، أمر حاوله بلا ريب كل إنسان في هذه الحياة). والحق أنه من السخف أن تجد رجلاً رزيناً يسير في الطريق نهاراً رافع الرأس، يحمل من وقت إلى آخر، إذا ما جاء الليل على ارتكاب الحماقة تحت تأثير الجوي والأفكار التي تحملها الخفافيش؛ فيذهب ليلاً ويتربص تحت نافذة، بينما لا يشعر إنسان بأمره، وليس لعمله أي معنى، إذ ربما كانت السيدة المنشودة تحلم في مثل هذا الوقت بأوراق (اليانصيب، أو تحلم برجل آخر؛ أو يعمد إلى تلاوة نظم بوشكين تحت الأشجار، بينما لا يصغي إليه إنسان سوى الليل. . . والله شهيد على إنه ليس ثمة حياة أكثر خزياً وإثماً من حياة رجل عاشق!)

دونت هذه الأسطر فيما مضى حين كنت أعتقد من الضروري أن أسطر على الورق بعض مشاعري، في مذكرة عتيقة ذات غلاف أحمر، وقد مرّ على ذلك زمن طويل، وكنت يومئذ في العشرين؛ وكنت ألاحظ كثيراً من الأشياء المختلفة التي لا أتنازل اليوم بالالتفات إليها. وكنت أحب السياحة في العربة من مدينة إلى أخرى، فكنت أحفظ أسماء نسيت أصحابها، وأدون في مذكرتي بكل عناية ما أقف عليه في الفنادق العتيقة، محطات أسفاري؛ ففي فندق (الوردة البيضاء) كانت هناك آنسة خادمة تدعى فالي، وكانت تتعلم الفرنسية خفية؛ وسمعت صاحب حانة ليلية في الطريق الأعظم يتحدث عن الإمبراطور فرانز يوسف، ويقول أنه مرّ وهو فتى من هذا الطريق في عربة تجرها أربعة جياد؛ وفي بلدة صغيرة تحف بشوارعها الأشجار وتتدلى أغصانها ذابلة، وتأتي إليها أصوات الأجراس خافتة من وراء التل كأنما تأتي إليها من أجراس البلدة المجاورة، كانت هِرَرة هزيلات تجوب طرقاتها يوم الخميس المقدس، وثمة رجل في فناء داره يشمر عن ساعديه ويحتسى النبيذ الأحمر ويقرأ في جريدة عتيقة، وهو كئيب كأنه متسول ترك هنالك جيش الإمبراطور؛

ص: 71

وترى فوق التل أطلال كنيسة متهدمة تنعى حظها، وعن بعد مجرى نهر يترقرق بين القصب القصير؛ ففي تلك البلدة كنت أطوف ذات مساء، غريباً لا يعرفني أحد، لأن سائقي احتسى من الشراب أكثر مما يجب، وأبى قطعاً أن يواصل السير في ذلك الحلك الذي يغمر كل شيء.

والحق أني لست أذكر بعد اسم تلك البلدة، ولابد أنها تقع في ناحية من شمال المجر، فقد كان لها قنطرة مغطاة ودار بلدية ذات تماثيل للقديسين. وكان المطعم يسمى (الفندق الأرجواني) فذهبت أتمشى وحيداً غريباً، لأن سائقي أبى إلا أن يتسلل هذا المساء إلى مكان معين، وأذكر أني اخترقت حديقة صغيرة؛ وكان ثمة في المقهى الصغير محصلة تقرأ جريدة مصورة وهي تعتمد رأسها بيديها اللتين تغوصان في شعرها المتهدل ووراء باب مدهون باللون الأبيض يبدو فناء صغير يجلس فيه بعض الموظفين في صديريات سود وهم يدخنون (السيكار) إلى جانب الكؤوس الصغيرة؛ وكنت تسمع عن بعد شخصاً لعله طالب ينفخ في مزمار، ويغني تلك الأنشودة التي أولها:(إذا ما ابتعدت يا حبيبي) فقلت لنفسي: أجل توجد هنا أيضاً قلوب، وتوجد عواطف. . . وكان ذلك المساء ربيع، وربما كان الطالب المذكور قد رسب في الامتحان

وكانت الحديقة تمتد جانباً في قفر مطبق، يذكرك بقفر فناء المحكوم عليهم، ولابد أنها تكون في العصر منتجع الشيوخ، والضباط أو ذوي المعاشات، يفكرون في موتاهم أو في خليلاتهن القديمات؛ وكانت أشجار الصنوبر التي ترتفع فوق كل مقعد هزيلة محزنة كأنها حياة تصرمت وانطفأت في غمار السل؛ وكان يعمر هذه المقاعد أحذية عتيقة وسترات خرجت عن الثرى، وفوق الحصى الصغير الذي يغطي الممشى، ترسم العصى الباهتة التي ربما كانت في شبابها أيادي مظلات، خطوطاً ذاهلة

جلست على مقعد، وأخذت أفكر في شتى الأمور المحزنة: في نساء البلدة المسكينات اللاتي يرتدين أثواباً شديدة الحفيف ويبكين أكثر مما يضحكن، وفي الرجال الحزانى الذين يتجملون توقعاً لرؤية الأميرة الحسناء، ولن تأتي الأميرة قط، وفي المحادثات العقيمة التي تدور حول المائدة المقفرة أو في السرير المضني لمعرفة من هو أغنى إنسان في البلدة؟ وفي الشهر القادم ستأتي فرقة تمثيلية إلى (الفندق الأرجواني). . . وكثيراً ما يعرف

ص: 72

الأزواج أن لزوجاتهن عاشقاً!

آه، تباً لحياة البلدة الصغيرة من حياة محزنة ذات رائحة كرائحة كسرات الخبز؛ وفيها يضج المرء بالضحك، ولكنه لا يستطيع أن يتناول فيها عشاءه. رباه، إن النساء هنا لا يتكلفن العناية بالنظافة، إذ يستوي ذلك عند الرجال.

شعرت أنني جد تعس، إذ قضى على أن أضيع وقتي في تلك النزهة الحقيرة المحزنة في البلدة الصغيرة، بدلاً من أن أجلس في مقهى فخم في مسكولك أو كأساً أو بودابست.

وكانت نغمات المزمار قد انقطعت حيناً، ولكنها عادت فدوت في الحديقة ذاتها. وإذن فقد كان الموسيقي الفتى موجوداً هنالك؛ وكان يقوم في ركن المكان إلى جانب الحاجز منزل عتيق له نوافذ صغيرة جداً، حتى لا يتسنى لغير رأس امرأة رشيق جداً وهزيل جداً أن يبرز منها

وكانت النجوم مزورة لا تسطع في ذلك المساء المظلم، وربما لم تك ثمة نجوم فوق تلك البلدة الموحشة. وكان هنالك مصباح زيتي ينشر ضوءه، ويتأمل ذات اليمين وذات الشمال وجلاً كأنما يخشى أن يقيم رجال المطافئ احتفالهم في تلك الليلة، وعلى بعد تقوم منازل ضيقة، لا يعمل ساكنوها بلا ريب شيئاً طول حياتهم إلا أن يقتصدوا وأن يبكوا، ولا يفكر نساؤها منذ العشرين في شيء سوى غسل الثياب

وكان صاحب المزمار يعزف أنشودة محزنة تحت الأشجار، ولا ريب أنه كان يقصد بعزفه ما وراء الحاجز، وربما كانت لأنشودته صبغة غرامية، وربما كان مؤلفها الشاعر المتوفى يحيى فيها القمر أو الصبية ذات العينين البراقتين؟ بيد أنني لم آنس فيها شيئاً غير الذلة والمرارة والفقر، والسلوة الوحيدة لفتى مسكين من القرية. . . رباه، وكنت قد عرفت يومئذ خادمات فرنسيات

وأخذت الموسيقى تنحدر إلى الأنين شيئاً فشيئاً، وكانت الأنشودة تضرع تضرع السائل، إلى سيدة لا تريد - وربما كانت أيضاً حمقاء آثمة - أن تصغي من فوق الحاجز إلى اعتراف فتى، لعله في ظروف أفضل كان يصلح أن يكون فارساً في ملعب، أو حاجباً في حانة ليلية في بودابست يلقى على الغانيات أجوبة ساخرة. . . كان المزمار يئن كالهرة المريضة، وكأنك ترى وجهاً شاحباً لفتى تعس لا يملك من المال ما يمكنه من التلهي بلعبة

ص: 73

(الخشب)(لعبة مجربة قومية)، وكان البؤس المؤلم الساحق والثياب الخلقة، والمستقبل الذي ينذر بما هو أشنع، كلها تبكي في الأنشودة، ذلك المستقبل الذي ربما استجابت فيه السيدة الخفية إلى التضرع، وأتت للفتى البائس بعدة أولاد لا خير فيهم

نهضت من مكاني وسرت لأبحث عن ذلك الفتى الذي يعزف بمزماره بين الأدغال

وقد كان حدثاً ذا محيا حزين بائس، وربما كان كاتب مسجل في البلدة؛ وكان مكشوف الرأس، وشعره الأشقر كث منفوش قائم كالمسامير

فقلت له بمنتهى الخشونة: عد إلى منزلك، ولا تسمم هواء هذه الحديقة؛ ألا تشعر بالخزي إذ تذل نفسك على هذا النحو من أجل امرأة؟

ثم هرولت فأيقظت سائقي من سباته؛ وفي الليلة نفسها غادرت البلدة الصغيرة، التي شعرت فيها بمثل ذلك الأسى من جراء عازف سخيف.

ص: 74

‌5 - سافو

لأوجييه اميل

ترجمة الأستاذ محمود خيرت

حنا - لنر الآن ماذا أكتب إليك: (لا أنسى عطفك على بزيارتي يا فني) ولكن متى كان ذلك (يقرأ) إبريل من هذه السنة. . إذن فقد أقدمت على زيارته وأنت معي. . .

فني - شفقة به وحياتك عندي

حنا - (يقرأ): (وإني أفكر الآن في أمر ولدنا. .) ولك منه ولد؟

فني - نعم. فماذا تريد الآن

حنا - ها. ها. ما أكبر فخرك بهذه البذرة التي نبتت في السجن!

فني - (صارخة شامخة في غضبها) لا تزد على ذلك حرفاً

حنا - وما أجمل طفلاً أبوه فرومان وأمه سافو!

فني - لا تسبه فهو ولدي

حنا - (وقد غلبته صرخة الأمومة) حسناً

فني - (بصوت مخنوق) قضى الأمر بيننا، فعد إلى أهلك لعلك تسعد إلى جانبهم

حنا - يا لك من قذرة!

فني - يا لأمك وابنة عمك من حواصير!

حنا - ماذا؟ (يهم بضربها فتحتقره هازة كتفيها)

فني - حقيقة إنك نذل. أخرج الآن من هنا.

حنا - على هذا عزمت (يأخذ حقيبته وعند ما يصل إلى الباب يلقي الخطاب في وجهها ثم يختفي فتتناوله وتضعه فوق المائدة وهي تبكي وتنشد)

فني - ظلموني وأسرفوا=حين نّموا وأرجفوا

كم تخيّلت أنه

ذو شعورٍ فيعطف

فإذا الطبع واحدٌٌ

دبّ فيه التعسف

وإذا من بذكرِه

كنت في الحب أهتف

حانثٌ في يمينه

واعدٌٌ وهو مخلف

ص: 75

قُضى الأمر لم يعد

لي من الناس مُنصفُ

الفصل الرابع

(في أفينون منزل أسرة جوسين إلى اليمين، وله حديقة بئرها في الجهة اليسرى، وعلى بعد نهر الرون. والأشخاص حنا ووالداه وإيرين ثم سافو وهم عدا سافو على المائدة حيارى لحزن جنا، وعندئذ تشير ديفون إشارة فيخلو المكان إلا منها ومن ولدها.)

ديفون - مالك يا حنا؟

حنا - أمي!

ديفون - (تمسح رأسه بكفها) مم تشكو يا ولدي؟

حنا - لا أدري!

ديفون - لا تكذبي. أحدث لك حادث هناك؟

حنا - كلا. يا أمي

ديفون - إذن لم تعجلت العودة حتى كأنك فررت إلينا فراراً؟.

حنا - لا، لا شيء يا أمي

ديفون - لعل امرأة خدعتك أو حباً غير موفق صادفك؟.

لا تخف عن أمك شيئاً يا حنا. إنك لا تجهل مالك في فؤادها من الحب.

حنا - أمي. ما أخطأت ولكني شفيت

ديفون - أصدقني يا حنا

حنا - كانت يا أماه ثورة ولكني نسيتها، فهل أستحق بعد ذلك صفحك عني؟.

ديفون - وماذا فعلت مما يستوجب صفحي يا ولدي؟

حنا - آه ليتك يا أماه تنزلين إلى أعماق نفسي؟

ديفون - إن حنو الأمهات يخترق الحجب فتتكشف لهن الأحزان والدموع

حنا - ليقاسمن أبنائهن إياها

ديفون - نعم يا بني حتى تغسلها قبلاتهن. تشجع يا حنا وإذا عادت إليك همومك فأستحلفك ألا تكتمها عني

حنا - سأفعل يا أماه ودعيني أضمك

ص: 76

ديفون - نعم. نعم تعال فادفن همك عند صدري (يضمها)

حنا - الآن خف حمل ألمي. وهدأت ثورتي. وربما أخطأ الحزن بعد ذلك طريق قلبي ما دمت إلى جانبي

ديفون - إذن أدعك لأزف إلى أبيك هذه البشرى، فإنه يطرب إذا رأى نور السكينة يتلألأ في عينيك

حنا - نعم أسرعي إليه يا أمي (تخرج أمه)

إيرين - (مقبلة على حنا) ماذا يحزنك يا أبن عمي؟

حنا - لست السبب على كل حال يا إيرين

إيرين - ألست صديقتك. أنسيت مريم ويوسف؟. إنني ساعة الأسى أندفع إلى صدر صديق تذيب حرارته همي ويطرد حديثه وحشي

(يدخل سيزار)

سيزار - (مسرعاً إليه) حنا

حنا - (مندفعاً إليه) أبي

سيزار - (لإيرين) اذهبي أنت لديفون

إيرين - ولم لا لأبقى؟

سيزار - قلت لك اذهبي

إيرين - كأنك غاضب عليّ؟

سيزار - لا. ولكن دعينا الآن (تخرج حزينة)(لولده) آه يا ولدي المسكين. إنها هنا. . .

حنا - (مضطرباً) هنا؟ أو عادت؟

سيزار - نعم وتلح في أن تراك!

حنا - سافو؟

سيزار - نعم هي يا ولدي. أحسبتني عميت عن أمركما وأنت تكتمه عنا. ولكن تشجع عند مقابلتها يا حنا

حنا - سأكون عند نصيحتك يا أبي، ولقد كنت من برهة أنتفض وأتلوى. أما الآن فسأستقبلها بقلب ثابت. نعم نعم يا أبي (سيزار يخرج وتتقدم سافو بخطى بطيئة وهي تنظر

ص: 77

حولها حتى إذا وقع بصرها عليه أسرعت نحوه ثم وقفت فجأة)

سافو - (بعد سكوت طويل) لا تعتب على إذ عدت وما ودعتك الوداع الأخير. وقد كنت وأنا بعيدة عنك أشعر بألم خفي يعذني. أما الآن وقد رأيتك فقد ذهب ألمي.

حنا - إنني لا أحمل لك في نفسي غلاً

سافو - (والألم يرجها) ماذا؟ آه لو تعلم كم بكيت وكم هدني الجهد حتى لا ادري كيف أنني لم أزل من بين الأحياء (بدهشة) أتراني تغيرت؟

حنا - وهل تقيميين دائماً هناك؟

سافو - وأين تريد أن أقيم، وهناك تلك الذكريات التي أحيا عندها باللم. وكثيراً ما كنت على أثر البكاء تقتلني وحدتي فأضطر إلى العمل لأتسلى. وكم من مرة كنت أستيقظ عند الصباح باسمة فأرتدي ثوبي الأبيض وأصلح شعري على ما كنت تحب، ثم ألزم نافذتي إلى مغرب الشمس، وأنا أتسمع خطواتك وأتلمس عودتك، حتى إذا يئست أغلقها واستسلمت لحزني.

(يتبع)

محمود خيرت

ص: 78

‌الكتب

ما قل ودل

بقلم أحمد الصاوي محمد

جزءان في نحو 580 صفحة طبع دار الكتب

عنوان هذا الكتاب هو نفس العنوان الذي يتخذه مؤلفه منذ أعوام عنواناً لما يكتب كل صباح في جريدة الأهرام الغراء، وما يحتويه الكتاب هو مجموعة مختارة من هذه القطع التي غدت تقرن باسم كاتبها.

ولمؤلف ما قل ودل طابع خاص يسبغه على مقالاته؛ فهو يتناول من مادة الحياة اليومية مسائل الساعة، ما بين اجتماعية وأدبية واقتصادية، ويعالجها بايجاز ولكن بوضوح؛ ويميل بنوع خاص إلى تناول المسائل الاجتماعية وعلاقات الجنسين ومسائل الزواج والأسرة، ويبسط فيها آراءه المحدثة وتعليقاته، ولكنك تأنس دائماً فيما يكتب حرارة الإخلاص، وحسن المقصد ومحاولة الإصلاح.

وعندنا أن عنصر الفن يتغلب عند الأستاذ الصاوي على عنصر الكتابة، فهو يكاد يرسم أكثر مما يكتب؛ ومقالاته تبدو كأنها صور سريعة لما يتناول، ويخيل إليك في كثير من الأحيان أنك تتأمل فيما يكتب صورة رمزية ناطقة لما يجول في ذهنه. وأسلوبه بسيط واضح ينم عن خفة روح ودعابة مستملحة في كثير من الأحيان، وهو لذلك لا يتكلف اختيار اللفظ أو إجادة البيان، لأنه يتجه دائماً في خطابه إلى الرجل (المتوسط)، والى الشباب اليافع؛ ولا يهمه أن يمزج من مقتضيات البساطة والسلاسة في عرض ما يريد لمن يريد. وهذا أسلوب له أنصاره ومؤيدوه؛ ولكن له معارضوه أيضاً، ممن لا يسيغون مثول الألفاظ العامية إلى جانب الألفاظ العربية بمثل هذه الحرية وهذا الإسراف؛ وقد يسيغون وجود اللفظ أو العبارة العامية لضرورة محلية لا يؤديها البيان الفصيح؛ ولكن كثرة الألفاظ العامية مما يذهب دائماً بقوة الأسلوب وروائه، وإن كانت تكسبه في بعض الأحيان لوناً من الخفة والدعابة.

ولسنا بحاجة بعد ذلك إلى أن نقدم الكتاب ومؤلفه، ففيما يكتبه الأستاذ الصاوي كل صباح

ص: 79

في الأهرام الغراء خير تقدمة، ولكن الذي نريد أن نهنئ الأستاذ الصاوي عليه حقاً، هو توفيقه في حل مشكلة النشر والتوزيع بطريقة يغبط عليها، فما زال الكتاب في مصر يعانون متاعب هذه المشكلة؛ وليس في مصر ناشرون يعتمد على فطنتهم وأمانتهم وحسن تقديرهم؛ وما زالت معظم جهود المؤلفين نهياً لتجار الكتب. وقد وفق الأستاذ الصاوي إلى تجنب طغيان هؤلاء السادة، واستطاع في شجاعة ولباقة أن يتجه إلى قرائه رأساً وأن يقدم إليهم كتابه بطريق الاشتراك؛ واستطاع أن يخرج لهم كتابه في جزءين كبيرين، وفي أتقن طبع وأجوده، محلى بالصور الرمزية الممتعة؛ وذلك كله بثمن لا يتجاوز عشرة قروش للجزءين!

وإنا لنرجو أن يكون في هذا المجهود الموفق عبرة للناشرين فيحد من جشعهم وطغيانهم؛ وأن يكون فيه درس يستفيد منه الكتاب والمؤلفون.

كما نرجو لمؤلف (ما قل ودل) ما هو جدير بأدبه وفنه من تشجيع وتقدير.

ص: 80

‌المهاتما غاندي

حياته وجهاده

للأستاذ فتحي رضوان المحامي

أثارت شخصية غاندي وحياته ومبادئه الروحية، وأساليبه السياسية في الأعوام الأخيرة كثيراً من الاهتمام في جميع أنحاء العالم؛ وكان غاندي منذ سنة 1920 أعظم شبح يروع السياسة البريطانية في الهند، وكان لذلك الرجل الذي يضطرم جسمه النحيل بقوة روحية هائلة في الأعوام الأخيرة مواقف اهتزت لها السياسة البريطانية، واضطرت أن تنحني أمامها، أشهرها موقف سنة 1930 حينما أعلن العصيان المدني الأكبر، وأشهر دعوة عدم التعاون، واضطرمت الهند من أقصاها إلى أقصاها بدعوته، واضطرت حكومة الهند إلى اتخاذ أشد الإجراءات الدموية لسحق الثورة، واضطرت الحكومة البريطانية أن تصرح على لسان اللورد ايروين حاكم الهند أنها ترمي إلى السير بالمسألة الهندية إلى منح الهند استقلالها الذاتي، وأنها تعقد لبحثها مؤتمراً خاصاً هو الذي عرف بمؤتمر المائدة المستديرة، والذي استدعى غاندي من أعماق سجنه إلى شهوده، بعد أن التزمت حكومة الهند بوقف الإجراءات الاستثنائية، وإعادة النظر في ضريبة الملح؛ ومن مواقف غاندي المشهورة أيضاً، موقف منذ عامين في مسألة المنبوذين حينما أعلن أن يصوم حتى الموت ما لم تعدل الحكومة البريطانية موقفها نحو المنبوذين؛ ولبث غاندي في صيامه حتى أشرف على الموت، واضطرت الحكومة البريطانية في آخر لحظة أن تنزل عند وجهة نظره نحو المنبوذين اتقاء لموته، وما يجره ذلك الموت في الهند من العواقب الخطيرة.

هذه الحياة العظيمة الفياضة بمواطن الكفاح القومي المضطرم، ومواطن القوة الروحية الهائلة، يتناولها الأستاذ فتحي رضوان في سفر كبير تربى صفحاته على الثلاثمائة. وقد سبق أن نشر الأستاذ فتحي رضوان عن غاندي عدة فصول قيمة في بعض الصحف اليومية، ولكنه يقدم الينا الآن دراسة كاملة متصلة عن حياة هذا البطل القومي الممتاز. فأعوام غاندي الأولى، ثم مراحل الدراسة في الهند وفي انكلترا، ومرحلة الحياة العملية الأولى في المحاماة، ونزوح غاندي إلى جنوب أفريقية. حيث هاله ما رأى من اضطهاد مواطنيه وجهاده في سبيل إنصافهم، وبث الدعوة الأولى إلى عدم التعاون، وظفره في هذا

ص: 81

الكفاح؛ ثم استئناف العمل في الهند، ونمو الدعوة إلى عدم التعاون، وحياة السجن والمحاكمات المختلفة، ومراحل الكفاح القومي المختلفة حتى سنة 1930 - هذه كلها يفصلها الأستاذ فتحي رضوان في إفاضة وترتيب ووضوح - ونلاحظ فقط أن المؤلف فاته أن يشرح أدوار المسألة الهندية، وما اتخذته السياسة البريطانية نحوها في الأعوام العشرة الأخيرة، وأعمال لجنة الإصلاح الدستوري وما يتعلق بها. فهذه كلها مسائل هامة يجب أن يستوعبها كتاب بوضع عن غاندي؛ ونلاحظ أيضاً أنه لم يتناول مراحل الكفاح التي خاضها غاندي في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وقد كان حرياً به أن يتناولها.

وفي حياة غاندي عبر قومية عميقة يجب أن يستعرضها شباب الأمم الشرقية المغلوبة. ومن واجب الشباب المصري أن يدرس هذه الحياة الفياضة بمواطن الكفاح القومي. وبين الهند ومصر محنة مشتركة، وعدو مشترك. فيجدر بشبابنا المثقف أن يقرأ حياة المهاتما غاندي. وأن يدرس ما فيها من أسرار العظمة ومقومات البطولة القومية.

(ع)

ص: 82