الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 610
- بتاريخ: 12 - 03 - 1945
المجاهد الشهيد!
كنت في الريف ليلة نعى الناعي الزعيم أحمد ماهر باشا. وكان من امتحان القدَر لصبري أن يروَّعني هذا النبأ الفاجع الفاجئ وأنا في وحدة من الناس ووحشة من الطبيعة، لا أرى ولا أسمع ولا أحس غير وكيف السحاب وزفيف الريح وشفيف البرد، فأقبع في الغرفة قبوع القنفذ، وأنشر فكري في معاني هذا الرزء الوطني الفادح، أسبر غوره، وأقصي أطرافه، فأشعر بثقله كله يهبظ نفسي ويصدع قواي، فأستكين للجزع وأستسلم للشجون!
ويتمثل لعيني منظر الصريع المسجىَّ على فراشه الدامي، وحوله ابنته وزوجته وأخوته هلعين مشدوهين لا يكادون يصدقون أن هذا الجسد الهامد هو رجلهم الذي تركهم منذ هنيهة وقدرته فوق الأحداث، وهيبته طي القلوب، وذكره ملء الأسماع، وعمله حديث الألسنة، وأمله سعة الدنيا، فينفر عني النوم، ويطول علىَّ الليل، وتهون في نفسي الحياة!
وفي الصباح الباكر من يوم الأحد كان القرويون يتناقلون النبأ العظيم، وعلى كل وجهٍ سهوم الحزن، وفي كل قلب لهيب الحسرة، كأنما وشجَت بهم جميعاً قرابة الفقيد، فمصابهم فيه واحد، وحزنهم عليه مشترك. وتلك ظاهرة اجتماعية لم يسجلها مرصد التاريخ من قبل أحمد ماهر إلا سعد زغلول. وتعليل هذه الظاهرة أبين من أن يُبين؛ فقد كان ماهر كما كان سعد زعيماً شعبياً تألق اسمه في سطور تاريخنا الحديث تألق النجم الهادي، وتردد ذكره في حوادثه الجَّلى تردد النشيد الحماسي على أفواه الجند، وكان له ولرفيقه في الجهاد وخليفته في الحكم - أطال الله عمره - من فضل التدبير والتنظيم والفعل، ما كان لرئيسهما الخالد من فضل التنبيه والتوجيه والقول. ثم كان ظهور سعد للزعامة حين أبطرت الحرب الماضية نفوس الغالبين، فسطت قوة الغالب على حق الوطن، وسيطرت إرادة المحتل على رغبة الأمة، وتطامنت الرءوس فلا ترتفع، وانعقدت الألسن فلا تنطق، فتميز واشتهر بشجاعته وكفايته وبلاغته وقدرته. وكان ظهور ماهر للزعامة حين أضلت الحرب الحاضرة عقول الحاكمين والمحكومين، ففسدت الأخلاق، وماتت الضمائر، وتحكمت الشهوات، وانتهكت الحرمات، وخست المطامع، فتميز واشتهر برجولته وصراحته ونزاهته وحريته.
كلا الزعيمين كان رجل الساعة في وقته، وحديث الأماني لقومه؛ ذلك لدعوة الإيقاظ والثورة احتجاجاً على صلح كفر بالعدالة، وهذا لدعوة الإصلاح والوحدة والوحدة استعداداً
لصلح يؤمن - كما يقولون - بالحق، ومن ثَم كان الحزن عليهما حزناً شعبياً أحسه القريب والبعيد، وأخلص فيه الخصيم والولي.
والحق أن الحزن على الفقيد الشهيد قد غزا القلوب الغُلف والأكباد السود، فما ظنك بمن يعرفونه عن كثَب، أو يمتون إليه بسبب، أو يقرون بفضل؟ والإقرار بفضل أحمد ماهر قد بلغ حد الإجماع، إن لم يكن من جهة كفايته فمن جهة خلقه. والخلق في الرجل السياسي هو المزية التي يجزي عما عداها، والثروة التي لا يبلغ العلم والمال والسلطان مداها. وأخلاق أحمد ماهر كانت أخلاق الرجل الذي يعده القدر ليرفع أمته إلى الفوق ويدفعها إلى الأمام. كان أكرم الله مثواه وبرد بالرحمة ثراه، مؤمناً بما يدعو، مخلصاً فيما يعمل، صريحاً فيما يقول، جريئاً على ما يُقدم، عفيفاً عما لا يحل. وتاريخه كله مصداق لأصالة هذه الصفات النادرة فيه. جاهد في استقلال بلاده حق جهاده، ففكر وقدر، ثم جهز ودبر، وترصدته العيون، وانفجرت من حوله المخاطر، وأشفى به الإقدام على هوة الموت، فما نكص ولا وهن ولا استكان، ولم يكن يومئذ للمجاهدين أمل في منصب، ولا رجاء في حكم.
ورأَس مجلس النواب في حكومة الوفد فتجلت خلال الديمقراطية فيه: كان الوفد عنده أصغر الأحزاب حين ينتصف لغيره منه؛ وكان رئيس الحكومة عنده أضعف النواب حين يطبق (اللائحة) عليه، وكان الدستور قسطاسه المستقيم لا يصدر إلا عنه ولا يرجع إلا إليه.
وتولى المعارضة حيناً من الدهر فكان عف اللسان عن الهُجر. عف الضمير عن الفُجر، عف الفكر عن المغلطة، عف النفس عن الخديعة، يعالن بالمخالفة ويعتمد في إعلانها على الصدق والجد، ويصارح بالتهمة ويستعين على إثباتها بالحق والمنطق، وينفرد بالرأي ويجعل له من قوة إيمانه وثبات جنانه السندَ الذي لا يهي والدليل الذي لا يدفع. ومواقفه في (المجلس) و (القصر) لا تزال عطر الأفواه والأندية، فلا حاجة إلى ذكرها.
ثم رأس الحكومة، والخصومة الحزبية على أقبح ما تكون عنفاً وحدَّة، والأخلاق الاجتماعية على أسوأ ما تكون اعتلالاً وردَّة، والسياسة الدولية تتمخض عن أحداث جسام ستغير أوضاع الأرض وتبدل أنظمة الحياة، فساسها بالصراحة والسماحة والحرية والعدل، فمكن لكل ذي رأي أن يرى، ولكل صاحب قلم أن يكتب؛ ومهد لائتلاف القلوب واتحاد الكلمة
بالمسامحة لاستلال ما في النفوس من سخيمة، وبالمشاورة لتهوين ما في المعارضة من خلاف، وأوشك أن يقول لنفسه:(عدلت فأمنت فنمت يا عمر)، لولا أن الخوارج لا يزالون أحياء، وأن أبا لؤلؤة لا يزال له في مصر أبناء! وهكذا تجري تصاريف القدر بما غُيب عن ابن آدم علمه، فذهب أحمد كما ذهب عمر صريع جنون أو فتنة. ولو كان أحمد أو عمر أو سائر الأسماء العظمى علما على رجل لهان فيه الخطب وتيسر عنه العزاء، ففي كل ساعة من ساعات الليل والنهار تبتلع القبور ألوفاً من الأنفس فلا يُعقبون فراغاً ولا دهشة؛ إنما هو عَلم على ثروة ضخمة من الخلق والعلم والمواهب والتجارب عمل في تكوينها مع الطبيعة الحرة والزمان الطويل عوامل جمة وأحوال مختلفة، حتى أصبحت قوة في طاقة الإنسانية وقطعة من ثروة العالم. ففقدها يحدث في سير الحياة من الخلل ما يحدثه فقد الضرسن الصغير في الدولاب الكبير. ذلك الخلل هو الفراغ الذي يحسه الناس بموت العظيم. وعلى مقدار العظمة يكون اتساع الفراغ. وإن الفراغ الذي أحدثه في صف القادة مصرع أحمد ماهر فراغ مثله في نواحي الحياة المصرية أودى الزمن بشاغليه، ولم يستطع شَغله بأمثالهم، فاضطرب المسير وأبطأ التقدم.
نحن فقراء إلى الرجال ذوي الخلق والكفاية، وليس لنا وا أسفاه في توفيرهم حيلة، لأنهم من صنع الله لا من صنع المدرسة، ومن أثر الأسرة لا من أثر البيئة. وأمثال الأسرة الماهرية في الشرق قلية؛ أنجبت رجالا تميزوا على نظرائهم بأخلاق الرجولة. شق كل واحد منهم طريقه إلى المجد بنفسه، ثم ساروا إلى غايتهم في طرق متوازية لا تتلاقى. وعهدنا بالأسر الكبيرة إذا سما فرع من فروعها وغلظ تسلقه الآخرون كما يتسلق اللبلاب جذع النخلة. هم يعملون للمجد أكثر مما يعملون للعيش، ويبذلون للناس أضعاف ما يبذلون للنفس؛ فهم في العظماء لا في الأغنياء، وفي معنى السماء لا في حقيقة الأرض! فما أجدر هذه الأسرة أن تُدرس لتكون لأسرنا قدوة! وما أخلق الشباب أن يتخذوا لهم من رجالها أسوة! وما أحق مصر أن تجزع جزع الثكلى على من يعز الصبر عليه ويستحيل العوص منه!
احمد حسن الزيات
يوحنا الدمشقي
للدكتور جواد علي
عجيب أمر أولئك المسلمين! كانت صدورهم والله رحبة أرحب من صدور أهل القرن العشرين. هذا يوحنا الدمشقي أحد آباء الكنيسة اليونانية وأحد كبار القديسين يطعن في عقيدة المسلمين ويؤلف الكتب في الرد عليهم ويجادل علماءهم في صحة دعوى النبي العظيم، وهو مع ذلك موظف من كبار موظفي بلاط أمير المؤمنين، ورجل من ذوي الحل والعقد في دمشق عاصمة خليفة رسول العالمين.
عاصر يوحنا الدمشقي أو منصور بن سرجيوس المعروف (ينبوع الذهب) الخلفاء الأمويين وجالسهم وعمل لهم في دولتهم وكانت له دالة عليهم، كما كانت لوالده (سرجيوس) حرمة في نفوس العرب ومنزلة انتقلت إلى ابنه من بعده. كان سرجيوس هذا من الموظفين المشهورين في العهد البيزنطي ومستشاراً مالياً معروفاً، شهد الفتح الإسلامي لسورية وظل محافظاً على منصبه هذا حتى في الإسلام. ولعله كان موظفاً في عهد عبد الملك بن مروان.
أما ولده يوحنا فلقد كان من المقربين إلى الخليفة يزيد بن معاوية والأثيرين عنده. ولما توفي والده في منصبه المالي الكبير وظل في هذه الوظيفة حتى خلافة هشام (724 - 743) إذ ترك الدنيا والمركز الحكومي معا لينصرف إلى إعداد ما يلزم لحياته الثانية، الحياة الآخرة في دير من أديرة فلسطين.
ولم تصرف الوظيفة وجلالها يوحنا عن العلم والكنيسة التي كوَّنته وصقلت عقله. بل على العكس من ذلك اتخذ الوظيفة وسيلة للكنيسة والدين. وسيلة يتقرب بواسطتها إلى الرؤساء والزعماء ليخفف من شدة حدتهم إن كانت هنالك حدة ضد المسيحيين عامة وضد الأرثوذكس وضد البيزنطيين على الأخص، ولذلك كان رسولا سياسيا ودينيا في بلاط الخليفة في نفس الوقت. وقد عرف البيزنطيون ما حصل عليه قديسهم هذا من منزلة في بلاط (ملك العرب) المسلمين ولاسيما رجال الدين منهم وساسة الحكومة فكلفوه بمهمات صعاب مختلفة ووسطوه لحل مشاكل دولية معقدة. حتى تصوروا أن مركزه في سورية كان يضاهي مركز الخليفة بدليل إغداقهم عليه الألقاب التي كانوا يلقبون بها عادة خلفاء
المسلمين، ونعتهم إياه بالنعوت التي كانوا ينعتون بها عادة آل أمية ملوك الشام.
ونال يوحنا من تقدير رجال الدين والكنيسة ما ناله من تقدير الدولة البيزنطية وجماعة الحكومة. نال لقباً عظيما هو لقب (قديس) ولقب بلقب آخر جميل اللفظ والمعنى هو لقب (يوحنا ينبوع الذهب) وخصصت له الكنيسة الإغريقية يوم 4 ديسمبر ويوم 6 مايو ليكونا عيدين خاصين بهذا القديس. الذي برع في علم المنطق والفلسفة وفي الثقافة اليونانية، والذي اتخذ من المنطق سلاحا يدافع به عن الكنيسة، والذي فلسف الكنيسة الشرقية وأخضع المعارف الإغريقية الوثنية لحكم سلطان الدين المسيحي
ووهب الله صاحبنا بصراً في العلوم الزمانية فاق بصره في العلوم الدينية. برع في علوم زمانه وتقدم على أقرانه وخلاَّنه. وألف كتابه الشهير المعروف باسم (ينبوع الحكمة) اقتصر في القسم الأول منه على محاورات أرسطو. وقد جمع العلامة لوكيان تأليفه اليونانية ونشرها في (مجموعة الآباء اليونان). والعلامة الفرنسي (لوكوين)
وهو بجملته وتفصيله مرآة صافية للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في معلوماتها ومعارفها في ذلك العهد. وبحكم مقامه في الخط الأول من خطوط القتال بين الإسلام والنصرانية اضطر إلى دراسة الأسلحة التي شهرها المسلمون على المسيحيين وعلى التنقيب في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول وفي سيرة النبي وأصحابه من الأنصار والمهاجرين لعله يجد نقصاً أو ضعفاً يتخذه هدفاً يهاجمه أو ركناً يبني عليه خطة هجومه على المسلمين بدون شفقة أو رحمة وهوادة.
بهذه الروح اعتكف يدرس القرآن الكريم والحديث النبوي وهو في عصر كان فيه أصحاب رسول الله أحياء يرزقون، حتى إذا ما حفظ القرآن وما شاء من أحاديث انطلق كالأسد يزأر فاتحاً فكيه يريد موضعاً سهلا يغرس فيه أنيابه من جسم المسلمين.
بتلك الروح صار يفلي آيات القرآن الكريم وينبش في ثنايا أحاديث الرسول وأخبار أصحابه من المهاجرين والأنصار لعله يعثر على ذلك الموضع السهل الذي يهجم منه على الإسلام، أو يمكن الطعن فيه بسلاح المنطق اليوناني الذي لم يتمرن العرب عليه ولم يكن لهم به خبرة أو إلمام، والذي صّوبه الوثنيون إلى النصارى فمضى مدة في جسم الكنيسة حتى إذا ما تعلمه رجال الدين استخدموه لمحاربة خصوم الدين. وفي الفصل 101 من
رسائله وفضوله (بالآرامية، ميامي)، وهو الفصل الذي عنونه بهذا العنوان وفي مناظراته الكثيرة معلومات غزيرة تدل على اطلاع واسع على تاريخ المسلمين.
استشهد مثلا في الفصول التي كتبها دفاعاً عن المسيحية التي كانت تحتضر في سورية ومصر وفلسطين وفي المناطق العربية الأخرى بآيات من القرآن الكريم وبكثير من الأحاديث لإثبات وجهة نظره ولمناقشة المسلمين بتلك المصادر في صحة دعواهم على طريقة استخدام الكليات والجزئيات والمقدمات والنتائج والحوار والمناظرة.
وبالنظر إلى جهل أبناء دينه بأسباب الجدال الديني وبالبراهين العلمية المنطقية فإنه وضع لهم كتابا في المناظرة على طريقة السؤال والجواب على هذا النسق: (إذا سألك العربي كذا فأجيبه بكذا وليس بكذا)، وشدد على إخوانه بوجوب حفظ هذه المحاورة واتباعها حرفيا وشدد في تحريم مبادرة العربي بالسؤال خوفا من الزلل والوقوع في مهاوي الضلالة، ومن الارتباك الذي قد يؤدي إلى تغلب العربي على المسيحي في النهاية.
وهذه الرسالة حوار بين عربي مسلم وبين مسيحي جمع فيها أكثر ما كان يدور في خلده وفي خلد الجدليين من أسئلة ومن أجوبة ومن فروق بين الديانتين. خذ مثلا لذلك ما جاء في طبيعة المسيح قال: (إذا سألك العربي ما تقول في المسيح؟ فقل له إنه كلمة الله. ثم ليسأل النصراني المسلم: بم سمى المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيبه المسلم فإنه سيضطر إلى أن يقول: (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه). فإذا أجاب بذلك فاسأله: هل كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذن كان ولم تكن له كلمة ولا روح، فإن قلت ذلك فسيفحم العربي، لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين).
وفي موضع من مواضع الرسالة يجيب على اعتراض المسلمين على المسيحيين في قضية عبادة الصليب وتقديسه بقوله: (أنتم تنكرون علينا تقديس الصليب وهو خشب، في حين أنكم تقدسون حجراً أسود هو رأس (أفروديت)
ثم يستمر فيقول: (وتدعون بأنكم إنما تقدسون هذا الحجر الأسود لأن إبراهيم الخليل على زعمكم كان قد اضطجع عليه أو لأنه ربط به الناقة حينما هَّم بذبح إسحاق. وتسخرون منا لأننا نقدس الصليب الذي صلب عليه سيدنا عيسى المسيح)، وقوله هذا ظاهر البطلان لم
يأت في القرآن الكريم ولا في الحديث الشريف
جاء في القرآن الكريم: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شّبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا أتباع الظن وما قتلوه يقينا) وهذا معناه عدم اتفاق وجهة نظر المسلمين مع المسيحيين في دعوى صلب المسيح. وذهب صاحبنا مذهب المغالطة والجدل الصوري فعمد إلى التفسير وإلى الآية التالية مدعيا بأن في (ولكن شبه لهم) غموضا تفسره الآية التي بعدها (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيما) وفي هذه الآية على زعمه من الاعتراف بصحة الصلب والصليب ما لا يخفى.
ثم يقول: (وتدّعون أيضاً بأن الذبح، أي ذبح إبراهيم لإسحاق، إنما كان في مكة، ومكة بلد غير ذي زرع، وهذا موضع لا ينطبق عليه ما جاء في التوراة، وهو كتاب الله، إذا فمكة ليست بذلك المكان). ومن الأبحاث الأخرى التي تعرض لها هذا القديس مبحث تعدد الزوجات، وبعد أن ذكر نص الآية التي حددت عدد الزوجات، وبعد أن ترجمها ترجمة حرفية بحث في الطلاق، وانتقل إلى زواج النبي بزينب وتطليق زيد لها، ثم تحدث عن (التجحيش) بعد الطلاق الثالث وعن قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أَّني شئتم وقدّموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين)
وبحث في قضية عويصة، هي قضية حرية الإرادة والجبر والاختيار (مشكلة القدر)، وكانت قضية القدر من أهم المشاكل التي تعرض لها العصر الأموي لما كان لها من ارتباط بالوضع العام والسياسة فضلا عن الدين.
قسّم يوحنا العالم إلى فريقين: فريق دان بعقيدة (الجبر) والضرورة وهو فريق المسلمين، وفريق دان بحرية الإرادة أو بالقول (بالاستطاعة) وهو فريق المسيحيين. وبعد أن ذكر أن المسلمين قاطبة كانوا يدينون بعقيدة (القدر خيره وشره من الله). وذلك على عكس مدلول الكلمة والمعنى الذي خصصت به فيما بعد. قال:(إنهم إذا بقولهم هذا ينسبون الشر والقبيح إلى الله). ولماذا؟. يجيب على هذا الاعتراض بهذه الصورة. (هل يمكن أن يكون الله هو العلة والسبب والفاعل لكل شيء حتى المكروه؟ يقول المسيحيون لا، لأن الله لا يمكن أن يكون خالقاً للقبيح أو الشر - إذ يكون حينئذ ظالماً ومن المحال أن ينسب الظلم إلى الله. إن
الله جل جلاله يجازي الظالمين والآثمين فكيف يجوز أن يجازي الله شخصاً أًمر أن يقوم بعمل فقام به، أو يكون العقاب في الدنيا فضلا عن ذلك عقاباً موجهاً ضد إرادة الله تعالى، فالله أراد أن يكون ذلك الرجل شريراً فأصبح شريراً ومن الحيف إنزال العقاب بشخص لم يكن له في العمل أي استطاعة أو اختيار).
يقول يوحنا بعد ذلك (وسيتعجب العربي من هذا القول، وسيقول لك ولكنك أشركت من حيث لا تدري، وعلى المسيحي أن يجيبه فوراً ولكنك نسبت الظلم إلى الله من حيث لا تدري. ثم ليباغت المسيحي المسلم بهذا السؤال: من خلق نطفة ولد الزنا في بطن أمه؟ سيقول المسلم: الله. وعلى المسيحي أن يرد عليه بقوله: إن الزنا عمل قبيح وهو في حد ذاته شر، فالله على قولكم إذا ساعد على هذا الشر، وهو أمر لا يليق بالله تعالى).
ويجيب يوحنا على لسان المسيحي بهذا الجواب (إننا معاشر النصارى نعتقد بأن الله لم يخلق شيئاً بعد أسبوع الخلق الأول. وإنما أمر الله عبيده بعد ذلك بالاستمرار على التكاثر والإنتاج. فجعل في صلب آدم أبي البشر قدرة الإنتاج وأصبح الإنسان منذ ذلك الحين منتجاً) وظن يوحنا بأنه قد تغلب على المسلمين بهذا الجواب. وقد رّدد تلميذه أبو قرّه الذي عاصر الخلفاء العباسيين هذه النغمة في الفصول (الميامي بالآرامية) التي ألفها في الرد على اليهود والمسلمين. وكأنك تقرأ في هذه الميامي النزاع الذي كان بين القدرية والجبرية أو بين المعتزلة والأشاعرة. تقرأ في الرسالة الأدلة والبراهين التي استعملها المعتزلة في خصامهم مع الأشاعرة والفرق الأخرى تماماً.
(البقية في العدد القادم)
جواد علي
أسرار الشعراء
للأستاذ صلاح الدين المنجد
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ولنقرأ الآن صفحة أشد متعة، تتعلق بأمر ذي شأن عند الأديب، ذلك هو النقد، نقد آثاره بنفسه، ونقد الناس آثاره. والأدباء في هذا الأمر مختلفون متباينون. فهذا تهيجه الكلمة الواحدة فيثور لأخف نقد ولا يرضى عنه، وذاك لا يثور ولا يحفل بما قيل. وهؤلاء أناس يستقبلون أروع الآثار بنقد لا نقد فيه، وأولئك يستقبلون أهون الكتب بمدح وتقريظ وكلٌ يكتب عن هوى في نفسه أو غرض لديه فيسف ولا يعلو، ويتجنَّى ولا يقدر، كل ذلك لغرضه وحاجته، وقديماً قال الصوفيون (المرض في الغرض).
اسمع النقد الذي استقبلت به قصيدة كيتز المسماة (آنديميون) أروع قصيدة لهذا الشاعر، التي يقولون إنها تحوي أبياتا فرائد من الشعر الإنكليزي.
لقد كتب ناقد مجلة يقول: لقد سرق هذا الشاعر أفكار السيد هنت (وهو صحافي وشاعر معروف) وادَّعاها لنفسه. ولكنه كان أشد غموضاً منه، وهو جامد الطبع ينحت من صخر. .)
فماذا أبقى هذا الشاعر لكيتز؟ سرَّاق أفكار، وجامد الطبع ينحت من صخر! لم يبق له شيئا إذ ذاك. ولكن الناقد يمضي ويمضي معه غرضه الذي دفعه إلى هذا النقد الغث، وتبقى القصيدة وحدها خالدة لروعتها وعظمتها.
وحين أصدر الشاعر الأمريكي (ويتمن) ديوانه الخالد (أوراق العشب) قال النقدة عنه إنه مشابه كلام العوام، مفعم بالحماقات؛ وتطاول آخرون فقالوا ما ليس يُقال.
على أن هذه النّقدات ما أثرت في الشاعر ولا أبِهَ لها. وظَّل يعمل حتى أدرك الثالثة والسبعين من عمره. أما كيتز المسكين، فقد مات في السادسة والعشرين، وكان من سبب موته يأسه الشديد حين قرأ ذلك النقد السخيف.
شتان بين هذين الشاعرين! ولأن النقد غير السباب والتعريض. لقد كان عقله ذا سلطان على نفسه. أما كيتز فقد كانت نفسه الرقيقة أعظم من عقله، فتغلب عليه اليأس، وأضناه ما سمعه من سباب. وهكذا يكون النقد سبباً للأحياء ويكون أيضاً سبيلا للموت.
هذا النقد الذي قضى على كيتز، وكاد يقضي على (اندرسن) هو الذي دفع إلى المجد كوَّبه، ولوئيس، وكلودفارير، وماترلنك.
ولنعد إلى شاعرنا كيتز. لقد ثار على النقاد جميعاً، ولا شيء يؤلم حقاً كقراءة هذه الرسالة التي كتبها شلَّي بهذا الشأن إلى مدير مجلة (كويرترلي روفيو) يخبره فيها (إن كيتز المسكين قد أُلجِئ إلى حالة لا تطاق من جراء تعسف الناقد وسوء تأتيه. لقد سبب له مرضاً أحسب أن الأمل ضعيف في شفائه منه. ولقد كتبوا إلى إن أولى علامات المرض تحاكي الجنون، وأنهم جهدوا كثيراً حتى استطاعوا أن يمنعوه من الانتحار. وإلى ذلك فإن آلامه النفسية سببت انفجار وريد دموي في الرئة. وبدت دلائل السل المعوي لديه).
فأي نفس، هذه النفس الرقيقة؟
والنقَّاد في بعض الأحيان لا يفهمون ولا يقدَّرون، وقد يهرفون بما لا يعرفون. ولكنهم، على كل حال، يكتبون وينقدون. ربما رفعوا قصيدة لبيت، وربما خفضوا كتاباً لمقطع. . . لقد اتهم النقادُ هاردي طول حياته بأنه كان متشائما. ولكنه لم يحفل بما قالوا ولم يحاول أن يدفع عنه ما نسبوه ولكنه ثار يوماً، وقد بلغ الرابعة والثمانين من عمره، عند ما نقده ناقد، فكتب يقول:(إني لأدهش من أنه ينبغي أن أذكّر الناقد الأديب أمراً هو أول قواعد النقد، أمراً كان عليه أن يعرفه كما أعرفه. إن أثر المؤلف ينقد ويحكم عليه بالجملة لا بمقاطع مأخوذة عرضاً ربما تعارضت وتباينت. . .)
ويتناول تينَّسون مسألة السرقة الأدبية، فيقول:(وربما صادفوا معنى واحداً عند شاعرين، فيقولون هذا سارق وذاك مسروق منه، مع أن العين البشرية تتأمل الأشياء نفسها في العالم كله، فمن الطبيعي أن يتلاقى الشعراء. . .) ويذكر أن أديباً صينياً كتب إليه ذات يوم يخبره أن بيتين في شعره وجدهما بألفاظهما ومعانيهما في قصيدة لشاعر صيني لم تترجم ولم تنقل إلى لغة من اللغات.
ويُدلّل تينسون على عجز النقَّاد عن الفهم بقوله:
عرفت عجوزاً، زوج صياد، فقدت ولديها في البحر. فرأيتها في يوم عاصف تشير بقبضة يدها إلى البحر الهائج وتصيح:
(آه! تستطيع أن تزأر وتغضب الآن! فلشدَّ ما أبغض مرآك مظهراً أسنانك البيض. .)
قال: فلو أني ذكرت ذلك في قصيدة من قصائدي لنصح لي النقاد أن أصور عجائزي تصويراً طبيعياً لا خيالياً).
ويضرب تينسون مثلا آخر فيقول:
(قمت برحلة إلى ألبيرنة، وأنا في العشرين من عمري. فأعجبت بشلال عظيم يساقط من علو ألف قدم. فكتبت في كناشتي إنه يتساقط على ورْد، كأنه شُرعُ من القماش الناعم الرقيق.)
فلما أخرجت ذلك للناس، أعلمني ناقد، أن هذا القماش الذي شبَّهت الشُرعُ به هو نسيج يستعملونه في المسارح، ليقلدوا الشلال المتساقط، ثم أضاف (وأن السيد تينَّسون ليحسن صنعاً إن استوحى الطبيعة ولم يستوحي المسارح).
وبلغ تينسون الذروة من المجد، وقد يعجب القارئ إذا علم أن أول مجموعة شعرية صدرت له بيع منها خلال سنة كاملة نسختان فقط بعد جهد وإغراء.
وبعد، فهذى طُرُف من الأسرار. . فهل ترى أعذب من الأسرار؟
دمشق
صلاح الدين المنجد
الأميرة علية بنت المهدي
160 -
210
للأستاذ سعيد الديوه جي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
غناؤها
ورثت هذا الفن الجميل عن أمها مكنونة التي غرست في نفسها الطرب منذ نعومة أظفارها فشبت مطبوعة على التلحين والغناء والعزف، ولم تكن عُلية من المقلدات لغيرها في هذه الصنعة، بل إن أشهر المغنين كانوا يسعون إليها ويأخذون عنها. وقد وضعت ثلاثة وسبعين صوتاً، فكانت من أجمل الأصوات التي يتغنى بها في العصر العباسي. ذلك لأن الأبيات التي غنتها كانت صادرة عن روحها الشاعرة، وهي أعلم الناس بمعناها، فكانت أبدع الناس في مغناها. ولها بعض الأصوات كان يتغنى بها الكبير والصغير، والسوقة والأمير، والعالم والجاهل؛ وانتشرت بين جميع طبقات الشعب ومنها الصوت التالي وهو من نظم (وضاح اليمن) في محبوبته (أم البنين).
حتام نكتم حزننا وِإلاما؟
…
وعلام نستبقي الدموع علاما؟
إن الذي بي قد تفاقم واعتلى
…
ونما وزادت وأورث الأسقاما
قد أصبحت أم البنين مريضة
…
أخشى بما نقلوا على حماما.
وإن شهرة أخيها إبراهيم في الغناء كانت مستمدة منها، لأنها كانت كلما وضعت صوتاً استدعت إبراهيم وألقته عليه حتى يتقنه. ثم تأمره أن يعلم جواريه وجواريها هذه الألحان، فكان إبراهيم يتولى تعليم الجواري. وأحدثت عُلية ميلا كبيراً إلى الفنون الجميلة بين أعضاء الأسرة المالكة، كانت هي زعيمة الحركة وأخذ عنها أخوها إبراهيم وفاق كثيراً من أهل عصره حتى قالوا:(إنه لم يُرَ في جاهلية ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وأخته عُلية وكانت تقدم عليه) كما كان أخوها يعقوب زامراً مشهوراً وأختاها تضربان على العود ضرباً فائقاً.
وقصرها كان أشبه بمدرسة فنون جميلة يتردد في جوه ما أبدعته علية من الشعر، وما
وضعته من الألحان يزينْها عزف إبراهيم وأختيه، مزمار يعقوب ترديد الجواري، كما أنها كانت في أوقات فراغها تستدعي أخاها تطارحه الألحان أو تأمر الجواري أن يعرضن أمامها ما أخذنه عنه. وكان الرشيد إذا نظم أبياتاً يبعث به إلى بلبل بني العباس فتصوغ لها لحناً وتغنيه بها. أرسل إليها مرة هذين البيتين من نظمه:
يا ربة المنزل بالفرك
…
وربة السلطان والملك
تحرجي بالله من قتلنا
…
لسنا من الديلم والترك
فصاغت فيهما لحناً جميلا. ولما حضر عندها الرشيد أخذت تغنيه هي وإبراهيم أخوها يضرب بالعود ويعقوب يزمر والجواري يرددن علمت عُلية يوماً أن الرشيد قد غضب عليها بوشاية حاسد وهي من أعلم الناس بمعالجته. فنظمت ثلاثة أبيات وعملت لحناً فيها وألقتها على جواري الرشيد وأمرتهن أن يغنين بها في أول مجلس يجلسه فغنين:
لو كان يمنع حسن العقل صاحبه
…
من أن يكون له ذنب إلى أحد
كانت عُلية أربى الناس كلهم
…
من أن تكافا بسوء آخر الأبد
ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه
…
قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
فطرب الرشيد طرباً شديداُ، وسأل الجواري عن القصة فأخبرنه بها، فبعث إليها فحضرت فقبل رأسها وسألها أن تغنيه هي، فأعادته عليه فبكى وقال لها (لا جرم أني لا أغضب أبداً عليك ما عشت)، وبلغها يوماً أن الرشيد وأخاه منصور يتحدثان في جنة دار الخلد، فاستدعت جاريتها (خلوب) المغنية، وأمرتها أن تذهب إلى الرشيد وتغنيه هذا الصوت، وأن يضرب على غنائها بعود:
حياكما الله خليليَّ
…
إن ميْتاً كنت وإن حيا
إن قلتما خيراً، فخير لكم
…
أو قلتما غيَّا، فلا غيَّا
أما تأثير غنائها فكان عظيما، ذلك أنها تمتاز برخامة صوتها، وحسن توقيعها، وتفننها وإبداعها في كل ما تضع من الأصوات.
دخل يوماً (إسماعيل بن الهادي) على (المأمون) فسمع غناءً أذهله، فقال له المأمون: مالك؟ قال: قد سمعت ما أذهلني، وكنت أكذب أن أرغن الروم يقتل طرباً، وقد صدقت الآن بذلك. فقال له المأمون: ألا تدري من هذا؟ قال: لا والله. قال: (هذه عمتك علية تلقي على عمك
إبراهيم صوتاً).
شعرها
نشأت علية منذ نعومة أظفارها مطبوعة على قول الشعر، فشبت متفننة في قرضه، وكانت آية في الفصاحة والبلاغة. وقد ذكر (ابن النديم) أن لها ديوان شعر قد رآه. ولكن أين هذا الديوان؟ لاشك أن أيدي البلى أبلته كما أودت بصاحبته. يقول الصولي (إني لا أعرف الخلفاء بني العباس بنتاً مثلها، على أن لها شعرا حسناً جدا، وصنعة في الغناء حسنة كثيرة) وما وصلنا من أشعارها يدل على أنها صادرة عن قلب شاعر ونفس صافية وقريحة فياضة وروح نشأت على حب الفنون الجميلة، فكان كل ما صدر عنها جميلا، ولهذا كان شعرها مما يغنى به في صدر الدولة العباسية لرقته وانسجامه ووقعة في النفس. ومما يدل على انطباعها على قول الشعر أنها كانت تعبر في شعرها عن الكثير من أغراضها حتى المراسلات الخصوصية.
كانت علية جميلة في صورتها، جميلة في نفسها، جميلة في صوتها، تحب الجمال وتألف الجميل، ففاض هذا الجمال في شعرها، فكان لؤلؤا منضودا تزين به تيجان الخلفاء، ولشعرها وقع في النفس وروعة في القلب، لأنه صادر عن قلب شاعر فياض.
وعلية تقول الشعر لنفسها تعبر به عما يخالجها من الأهواء والنزعات وما يجيش بصدرها ما حب وإجلال لأهلها، وما توحيه الطبيعة من مناظرها الخلابة، أو ما تحدثه فيها الحضارة من التنسيق والترتيب. وهي أصدق شاعرة عبرت في شعرها عما كانت تعانيه المرأة في ذلك الوقت من التضييق والإرهاق، وما كانت تقاسيه من لواعج الشوق والهيام في سجنها الضيق وأغلالها المادية، وما كانت تولده هذه من انفجار تردد صداه بغداد. فالكثيرات هن البائسات اللاتي أجسادهن مكبلة في القصور وأرواحهن كانت تتمنى القبور:
بتُّ قبل الصباح إن بت إلا
…
في إزارٍ على فراش حرير
أو يحلْ دون ذاك غلق قصورٍ
…
كم قتيل من الهوى في القصور؟
ونجد في شعرها ما كان يدور بين ربات الخدور من لغات العيون والرموز والإشارات تعبر عما تكنه الصدور من الحب والشوق ولا تقدر الألسن أن تبوح به:
تكاتبنا برمز في الحضور
…
وإيحاء يلوح بلا ستور
سوى مقلٍ تخبر ما عناها
…
بكف الغيب في ورق السطور
أما أشعارها الكثيرة فهي في العشق والهوى والحب وأسبابه ووصف حال الحب ودلال المحبوب وظلمه وهجره. وقد أجادت في هذا الباب وأتت بما لم يتهيأ لغيرها من الشاعرات، بل إن الشعراء أخذوا يقتفون أثرها ويسلكون سبيلها في تعليلاتهم فهي تقول:
ليس خطب الهوى بخطب يسير
…
لا ينبئك عنه مثل خبير
ليس خطب الهوى يدبر بالرأ
…
ي ولا بالقياس والتدبير
إنما الحب والهوى خطرات
…
محدثات الأمور بعد الأمور
ولعلية غزل رقيق يستهوي القلوب، وأشعارها في هذا الباب كثيرة منها قولها:
أتاني عنك سعيك بي فسبي
…
أليس جرى بفيك اسمي فحسبي
وقولي ما بدا لك أن تقولي
…
فماذا كله إلا لحبي
فما زال المحب ينال سباً
…
وهجراً ناعماً ومليح عتب
قصاراك الرجوع إلى مرادي
…
فما ترجين من تعذيب قلبي
تشاهدت الظنون عليك عندي
…
وعلم الغيب فيها عند ربي
وعلية إذا مدحت فأنها تمدح أخاها الرشيد وابنه الأمين، وهي بهذا تجزل اللفظ وتحكم المعنى وتوفي الممدوح حقه - كيف لا؟ وهي ما تمدح إلا نفسها فتعبر عما يكنه صدرها لأخيها من الحب والاحترام وما يملأ قلبها من الفخر بآبائها وأجدادها العظام، وإذا زارها الرشيد استقبلته بقولها:
قل للإمام ابن الإما
…
م مقال ذي النصح المصيب
لولا قدومك ما انجلى
…
عنا الجليل من الخطوب
ثم تثني بالأمين سليل بني العباس ابن زبيدة والرشيد فتقول:
يا بن الخلافة والجحاجحة العلي
…
والأكرمين مناسباً وأصولا
والأعظمين إذا العظام تنافسوا
…
بالمكرمات وحصلوا تحصيلا
والقائد إلى العزيز بأرضه
…
حتى يذل عساكرا وخيولا
وإذا علمت أن الرشيد قد استزار أختيها ولم يكتب لها كتبت إليه تعاتبه:
مالي نسيت وقد نودي بأصحابي؟
…
وكنت والذكر عندي رائح غادي
أنا الذي لا أطيق الدهر فرقتكم
…
فرقب لي بأبي من طول إبعادي
وإذا ودعت أخاها الرشيد فأنها تودعه بشعرها وقلبها فتقول:
لا حزن إلا حزن نالني
…
يوم الفراق وقد غدوت مودعاً
فإذا الأحبة قد تولت عبرهم
…
وبقيت فردا والهاً متوجعاً
وإذا طالت عليها أيام رمضان وهي مشغولة بصيامها وقيامها تذكرت أيام لهوها ومرحها وحفلاتها التي كانت تقيمها في قصرها وحنت إلى ذلك بشعرها:
طالت عليَّ ليالي الصوم واتصلت
…
حتى لقد خلتها زادت على العدد
شوقاً إلى مجلس يزهو بساكنه
…
أعيذه بجلال الواحد الصمد
وإذا ما رأت تقصيراً من (طغيان) خادمتها أو خيانة من وكيلها (سباع) فأنها كانت تهجوها هجواً لاذعاً مقذعاً لا يخلو من الفحش. ومن أهاجيها الجميلة أنها حضرت حفلة زفاف ورأت مخنثاً قد تزيا بزي النساء وخضب يديه وكحل عينيه، وحمر شفتيه، وهو ينقر بالدف ويغني ويرقص والنساء قد حففن به يصفقن له ويضحكن عليه وهو مسرور بفعله هذا:
ومخنث شهد الزفاف وقبله
…
غنى الجواري حاسراً ومنقباً
لبس الدلال وقام ينقر دفه
…
نقراً أقر به العيون وأطربا
إن النساء رأينه فعشقنه
…
فشكون شدة ما بهن فأكذبا
وإذا كتبت إلى صديقتها ولم يأتها الجواب كتبت إليها تعاتبها:
يا خلتي وصفيتي وعذابي
…
ما لي كتبت فلم يُردَ جوابي؟
خنت المواثق؟ أم لقيت حواسداً
…
يهوين هجري؟ أم مللت عتابي؟
وإذا جلست في حفلاتها ولم تجد من تحب وتهوى شعرت بألم الفراق ولوعة الاشتياق زفرت من قلبها:
يا مورىَ الزند قد أعيت قوادحه
…
اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
ما اقبح الناس في عيني وأسمحهم
…
إذا نظرت ولم أبصرك في الناس
وإذا طال غياب الرشيد عن عاصمته بغداد وخلت حفلات علية منه شعرت بفراغ واسع ونقص في سرورها فلا يكمل إلا به كتبت تعاتبه:
هرون يا سؤلي وقيت الردى
…
قلبي بعتب منك مشغول
مازلت منذ خلفتني في عمى
…
كأنني في الناس مخبول
ولعلية قلب ضعيف لا يحتمل القهر والهجر، فكانت تستعين بدموعها في تخفيف أحزانها وأشجانها وتروح بها عن نفسها وتنفس كربتها:
بليت بقلب ضعيف القوى
…
وعين تضر ولا تنفع
إذا ما ذكرت الهوى والمنى
…
تحدر من جفنها أربع
وكنت تراها تتنقل في حدائق قصرها الواسعة، تمتع نظرها بأزهارها وأشجارها وتصغي إلى ترديد أطيارها وخرير مياهها وحفيف أشجارها، فينعكس هذا في نفسها فتردده شعراً، تقف على الزهرة فتشمها وتناجيها، وعلى الساقية تردد معها الألحان، وأمام الحمام تشاركه السجع، ومع الهزار تشاركه التغريد. ومن أوصافها الجميلة أنها رأت ريحانه تميل مع الريح فمال قلبها إليها فاقتطفتها وقالت:
كأنها من طيبها في يدي
…
تشم في المحضر أو في المغيب
ريحانة طينتها عنبر
…
تسقى مع الراح بماء مشوب
عروقها من ذا، وتسقي بذا،
…
ممزوجة يا صاح طيباً بطيب
تلك التي هام فؤادي بها
…
ما إن لدائي غيرها من طبيب
هذا هو الشعر الحقيقي الصادر عن شعور خالص لا أثر فيه للتكلف ولا للمبالغة والتهويل. ولها أبيات معانيها مبتكرة، وتجري مجرى الأمثال يتناقلها الناس عصراً بعد عصر منها:
رأيت الناس من القى
…
عليهم نفسه هانا
فزر غباُ تزد حباً
…
وإن جرعت أحزانا
وقولها:
ما ينظر الناس إلى المبتلي
…
وإنما الناس مع العافيه
وقولها:
الحب أول ما يكون جهالة
…
فإذا تمكن صار شغلاً شاغلاً
عفافها
كانت علية مثالاً صالحاً، وقدوة حسنة للمرأة المسلمة التي تعبد ربها حق عبادته ولا تنسى
نصيبها من الدنيا، ذات صيانة وأدب، شاركت الشعب في لهوه ومرحه وأناشيده، وترفعت من مفاسده ورذائله. قال أبو الفرج الأصفهاني (كانت علية حسنة الدين، وكانت لا تغني ولا تشرب النبيذ إذا كانت معتزلة الصلاة، فإذا طهرت أقبلت على الصلاة والقرآن وقراءة الكتب، فلا تلتذ بشيء غير قول الشعر) فعلية كانت ترفه عن نفسها بطرق وأساليب تبتكرها هي، تدفع بها سأم البطالة والعزلة، فتمرح وتلهو وتلعب دون أن تفقد شيئاً من كرامتها أو أن تتعدى حدود ربها وهي تقول:(ما حرم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما حلل عوضاً منه، فبأي شيء يحتج عاصيه والمنتهك لحرماته) فهي ترى أن أسباب اللهو المباح كثيرة، ولكن المرأة الضيقة الصدر القليلة العقل، تتبع كل ناعق، وتجيب كل داع، فتقع في شرك التهتك والعصيان. ومما يدل على ثقتها بنفسها واعتدادها بشرفها وطهارة أخلاقها أنها كانت كثيراً ما تقول (اللهم لا تغفر لي حراماً أتيته، ولا عزماً على حرام إن كنت عزمته، وما استغرقني لهو قط، إلا ذكرت سبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصرت عنه، وإن الله ليعلم أني ما كذبت قط، ولا وعدت وعداً فأخلفته) هذه هي أخلاق درة بني العباس الفريدة التي أرضت ربها بعبادتها، وخففت عن نفسها بمرحها العفيف الطاهر. وهذا ما يجب أن تكون عليه المرأة الصالحة التي تتبع كتاب الله وسنة رسوله (وأبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا)(إن لربك عليك حقا، وأن لنفسك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه)
الموصل
سعد الديوه جي
النابغون في أوطانهم
حديث عن البحتري
محمود عزت عرفه
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
. . . وللبحتري في هذا الشأن حديث عجيب.
فقد كان أحد الذين ارتفعوا بشعرهم من حضيض الجهالة والخمول إلى ذروة النباهة والمجد. ولسنا نجد في ديونه على ضخامته ما يشير به إلى حياته الأولى في موطنه (مَنْبج) سوى ما ينص عليه من عداوة بعض أهله له، برغم ما يعود به عليهم - وعلى سواهم - من فضل المال والجاه، والشفاعة لدى الخلفاء، ورفد العفاة وفك العانين. . وذلك حيث يقول في قصيدة له:
ومن الأقارب من يُسر بميتتي
…
سفهَاً، وعز حياتهم بحياتي
إن أبقَ أو أهلكْ فقد نلت التي
…
ملأت صدور أقاربي وعداتي
وَغنيتُ ندمانَ الخلائفِ نابهاً
…
ذكرى، وناعمة بهم نشواتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهمو
…
بعد الجليل، فأنجحوا طَلباتي
وصنعت في العرب الصنائع عندهم
…
من رِفْد طلاَّبٍ وفك عُناةِ
وحضي البحتري عند المتوكل بأرفع المراتب وأسنى الدرجات فكان شاعره المقرب الأثير لا تندُّ عنه في الحياة رغبة أو تبعد دونه أمنية. . ولكن شاء القدر مع ذلك إلا تزال نفسه تهفو إلى عُرض ما، فكن ينتابه القلق ويساوره الحنين إلى الإلمام بوطنه منبج، ولا ينفك بالمتوكل مستحثاً إياه على قصد هذه البلاد كلما قصد إقليما أو غشي موضعاً:
لو كنت أحسد أو أنافس معشراً
…
لحسدت أو نافست أهل الموصل
غشى الربيع ديارهم وغشيتها
…
وكلاكما ذو عارض متهلّل
فأضاء منها كل فج مظلم
…
بكما، وأخصب كل واد ممحل
فمتى تخيم بالشآم فيكتسي
…
بلدي نباتاً من نداك المسبل؟!
وكأنما شاء القدر - مرة أخرى - أن يلوح للبحتري بتحقيق أمنيته. فاضطرب حبل الأمور
على المتوكل في سامراء بسبب اتساع نفوذه الأتراك واستفحال خطرهم، ولم يكن ليخضد من شوكتهم في شيء قتله إيتاخ عام 235هـ، وكان المدبر لفتنتهم والمتولي كبر هذا الأمر فيهم. فصح عزم المتوكل على تغيير عاصمة خلافته والانحياز إلى دمشق ليكون بمنجاة من كيدهم وتطاوله. . وغدا عليه البحتري - مستحسناً محبذا - يقول:
إن دمشقاً أصبحت جنةً
…
مخضرَّة الروض عَذَاة البرق
هواؤها الفضفاض غض الندى
…
وماؤها السلسال عذب المذاق
والدهر طلق بين أكنافها
…
والعيش فيها ذو حواش رقاق
ناظرة نحوك مشتاقةٌ
…
منك إلى القرب ووشك التلاق
وكيف لا تؤثرها بالهوى
…
وصيفها مثل شتاء العراق؟!
وأنفذ المتوكل عزمه في عام 243هـ، فشخص إلى دمشق ونقل إليها دواوين الخلافة، ووطن نفسه على المقام بها. فلم يكن عجيباً حينذاك أن نسمع البحتري يقول في قصيدة له، وكأنما هو يتنفس الصعداء بعد طول اللهفة وفرط الانتظار:
قد رحلنا عن العرا
…
قِ وعن قطبها النكدْ
حبذا العيش في دمش
…
ق إذا ليلها برد!
حيث يُستقَبل الزما
…
ن ويستحسن البلد
سفرةٌ جدَّدتْ لنا ال
…
لهوَ أيامه الجدد
عزم الله للخلي
…
فةِ فيه على الرشَدْ
ويقول في موضع أخر وهو يحاول تحسين الشام في عين المتوكل، وحضه على موالاة المقام بدمشق:
أما دمشق فقد أبدت محاسنها
…
وقد وفي لك مطريها بما وعدا
- ولعله يقصد نفسه بهذا المطري الوافي بما وعد -
إذا أردت ملأت العين من بلد
…
مستحسن، وزمان يشبه البلدا
يمسى السحاب على أجبالها فرقاً
…
ويصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفاً خضلا
…
أو يانعاً خضراً أو طائراً غردا
كأنما القيظ ولىَّ بعد جيئته
…
أو الربيع دنا من بعدما بعدا
وذلك ضمن قصيدة فاخرة مطلعها:
العيش في ليل (داريّا) إذا بردا
…
والراح تمزجها بالماء من (برَدىَ)
على أن السياسة ليست شيئاً يخضع لأهواء الشعراء، فما تلَّبث المتوكل بعد استقراره بدمشق إلا ريثما يعد عدته للرجوع إلى سرَّ من را، بعد أن شغب عليه الأتراك فيها وتحركوا في طلب أرزاقهم، وكانوا قد أوجسوا خيفة من انحيازه إلى الشام، وتوقعوا أن يستعين عليهم بسلطان العرب هناك. . .
عاد المتوكل يزعم أنه استوبأ دمشق، وفي صدره مما جرى غصة؛ وانهارت آمال أبى عبادة حتى ليبدو من المفارقات الغريبة أن نراه يهيئ المتوكل بهذا الهود، ويستحسن مْاتم من إنفاذه فيقول:
لعمري لقد آب الخليفةُ جعفرٌ
…
وفي كل نفس حاجة من قفولهِ
دعاه الهوى في سرَّ من رَاء فانكفا
…
إليها انكفاء الليث تلقاء غيله
على أنها قد كان بُدَّل طيبُها
…
ورَّحل عنها أنسُها برحيله
وإفراطُها في القبح عند خروجه
…
كأفراطها في الحسن عند دخوله
وقد لبست بغدادُ أحسن زيَّها
…
لإقباله، واستشرفت لعُدوُله
ويثنيه عنها شوقه ونزاعه
…
إلى عرض صحن الجعفري وطوله
وقد أصبح قسارى أمل البحتري بعد هذا الحادث أن يلم بموطنه في زيارات قصيرة خاطفة، يواكبه فيها من ألطاف الخليفة ومبراته ما يرضي غروره، ويظهر لقومه منزلته وجاهه. وإنه ليخاطب المعتز في ذلك، وكان من أحظى الناس عنده، فيقول:
هل أطلعنَّ على الشآم مبجَّلاً
…
في عز دولتك الجديد المونقِ؟
فأرمَّ خلة ضيعةٍ تصف اسمها
…
وألمَّ ثمَّ بصبية لي دردق؟
شهران إن يسرت إذنيَ فيهما
…
كفلا بألفة شمليَ المتفرق
وإن المعتز ليعرف هذا الشعور من نفس البحتري فيبره ويكرمه، ويحمله على الجرد العتاق إلى موطنه منبج، حيث يلقى هنالك أهله، ويتعرف رجال ضيعته (الضائعة) كما يقول. والخليفةُ يصحبه الطرف والهدايا تحملها عشرة من خيل البريد وفيها بدر المال وخلع الديباج، وجوادان أصيلان: كميت وأبلق وسيف صقيل في إهدائه تشريف وتنويه. .
وفي ذلك يقول أبو عبادة:
تجانف بَي نهجُ الشآم وطاعَ لي
…
عنانٌ إلي أكناف منبج مطلقُ
أسرُّ صديقا أو أسوء ملاحياً
…
وأنشر آلاءً بطولك تنطق
حملتَ على عشرٍ من البْردِ مركبي
…
عجالاً عليهن الشكيم المحلق
وأكثرت زادي من بدورٍ تتابعت
…
لجُودك فيهن اللجيْنُ المطرق
ومنتسبانِ للوجيه ولاحقٍ
…
كميتٌ يسر الناظرين وأبلق
ومن خلع فازتْ بلبسك فاغتدي
…
لها أرج من طيب عَرفك يعبق
عليها رداءٌ من حمائل مرهفٍ
…
صقيل يزلُّ الطرف عنه فينزلق
وبوفاة أبى عبد الله المعتز عام 255هـ أفل نجم البحتري من سماء الخلافة في سر من رأى. إذ لم يكن موضعه لدى المهتدي أو المعتمد - وقد خلفا المعتز على التتابع - بالموضع الذي يرضي طموحه، أو يكافئ سابق منزلته لدى المتوكل وابنه. وكان الذي جرى من الأحداث على عهد المتوكل والمنتصر ثم المستعين والمعتز قد خلف في نفس الشاعر أثراً من اليأس عميقا، وجعله قليل الثقة بالناس وبالحياة. . يقول الشعر في مناسباته لأنه من واجبه أن يقوله لا لأنه متأثر بما يدور حوله، وبدت عليه في أخريات أيامه نزعة قوية إلى الانزواء في بلدته يراقب منها تيار الحوادث في صمت واعتبار. استمع إليه يخاطب أبا الصقر إسماعيل ابن بلبل - الذي وزر للمعتمد بين عامي 272 و 278هـ - فيقول:
بقيت، فكائن جئت بادئَ نعمة
…
يقلُّ السحاب أن يجيء رسيلها
وأعطيتَ طلاَّب النوافل سُؤْلهم
…
فمن أين لا تعطي القصائد سولها؟
ووليت عمال السواد، فولني
…
قرارة بيتي مدة لن أطيلها!
. . وهكذا لا يتشهّى البحتري من جاه الولايات الذي يسبغه الوزير على خلصائه؛ إلا أن يدعه يلوذ بقرارة بيته، متجانفاً بنفسه عن مزالق السياسة وفتنها بعد أن طال في ذلك حبه وإيضاعه. وإنه في موضع آخر ليطلب إلى الوزير أن يعتق (رقبته) بصرفه إلى بلده.
وقد شمل امتنانك كل حي
…
فهل مَنٌّ يُفك به أسيرُ؟
وأعتقت الرقاب فمر بعتقي
…
إلى بلدي، وأنت به جدير!
وما كان اعتزال البحتري في منبج إلا شراً أجاءه إليه ما هو شر منه. ذلك أنه كان ودع أرغد عيشه وأطيب أيام حياته بتوديع عهد المتوكل الذي شهد بعينيه مصرعه الرهيب. .
وكانت فترة (المعتز) في حياة البحتري أشبه شيء بخفقة المصباح الأخيرة حين يصارع الظلمات ولما تخمد منه الأنفاس.
ولعل أشد الأشياء على نفسه ما كان يعالجه من جفاف الحياة في منبج بعد أن نعم بالمقام الطيب سنين متطاولة في بغداد وسر من رأى؛ ثم جلوسه إلى حاكمها مجلس (الرعية) من الراعي، بعد أن كان لا يرى إلا جليس خليفة أو وزير أو أمير خطير. . .
وكانت أيام المتوكل ونجيه الفتح - وأمثالهما ممن بسطوا على البحتري ظلال نعمائهم - تبدو له كأحلام سعيدة تمتع بها حينا، ثم انقشعت عن حسرة في نفسه وشجى. وإنه ليعبر عن شعوره بذلك أصدق التعبير حين يقول ضمن قصيدة بعث بها إلى أبي الصقر -
مضى جعفر والفتح بين مرمَّل
…
وبين صبيغ بالدماء مضرَّج
أأطلب أنصاراً على الدهر بعدما
…
ثوى منهما في التراب أوسي وخزرجي؟
أولئك ساداتي الذين برأيهم
…
حلبت أفاويق الربيع المثجج
مضوا أمماً قصداً وخلفت بعدهم
…
أخاطب بالتأمير وإلى (منبج)
وتوفي البحتري في منبج، بداء السكتة، عام 284هـ.
وكان قد أربى من عمره على الثمانين.
(قوص)
محمود عزت عرفه
صور فلسفية:
الفيلسوف المتوحد كير كجورد
(1813 - 1855)
للأستاذ زكريا إبراهيم
كير كجورد فيلسوف دنمركي متصوف، نشأت فلسفته في حضن الدين، وتكونت بفضل تجربته الروحية الخاصة وعزلته النفسية العميقة. وهو واحد من أولئك الفلاسفة القليلين الذين استطاعوا أن يحيوا حياة العزلة والتفرد وأن يحتملوا ما يجيء مع هذه الحياة من قلق وجزع ولهفة. ولم يكن كير كجورد فيلسوفا يتخذ من الفلسفة صناعة له، أو عالماً لاهوتياً كل همه أن يشتغل باللاهوت، وإنما كان أولا وبالذات، إنساناً مشتعل الوجدان، مشبوب العاطفة، تشيع في نفسه سورة القلق، وتضطرم في باطنه جذوة الألم؛ يجتذبه العالم من ناحية، وتؤرقه الرغبة في القداسة من ناحية أخرى. وهو إلى هذا وذاك، إنسان غني في مواهبه، ثري في إيمانه، عميق في نظراته الصوفية. هو رجل متوحد انطوى على نفسه، وعاش حياة أقرب ما تكون إلى حياة الأنبياء، فاستطاع أن يتوصل إلى فلسفة مخالفة لكل الفلسفات التي كانت موجودة في عصره؛ فلسفة تعتبر وجود الذات هو وحده الحقيقي، وترى في عزلة الذات، الحقيقة الوحيدة الثابتة. أما النزعات الفلسفية التي كانت موجودة في عصر كير كجورد فقد نظر إليها فيلسوفنا نظرة معادية، واعتبر فيها (سقوطاً) للذات، ومن ثم فقد هاجم الفيلسوف الألماني هيجل مهاجمة عنيفة وحارب فكرته عن الروح المطلقة، وحاول أن يفقد الإيمان الضائع بالتحول عن عالم الفلسفة إلى عالم الدين
وقد اتخذ كير كجورد كل ضروب التخفي والتستر، حتى يستطيع أن يأمن عدوان خصومه، فكان يطبع مؤلفاته موسومة بأسماء مصطنعة مثل اسم (قنسطنطين قنسطنطيوس أو اسم (جوهانس كليماكوس). . ولعل السبب في ذلك أن الوجدان الجائش الذي كان يعمر نفسه والذي كان هو يريد أن ينقله إلى الناس لم يكن من السهل أن يصل إلى عالم شاعت فيه الأفكار الهيجلية. فلذلك اضطر صاحبه إلى أن يصطنع أساليب التخفي التي تجنبه الخصومة والعداء. ومع ذلك فإن هذا الوجدان لم يستطع أن يستحيل إلى تصورات عقلية
تكون مذهباً، فتمثل في محاولات رمزية وصور مجازية متباينة.
وإذا نظرنا إلى بعض الصفحات التي كتبها كير كجورد عن (الظلمات الروحية) للنفس التي تبحث عن الله فأننا نجد فيها نبرة صادقة قوية تشهد بتجربة صوفية عميقة. والواقع أن المشكلة التي واجهت كير كجورد باعتبارها المشكلة الوحيدة الهامة إنما هي مشكلة الإيمان، فقد بدا لكير كجورد أنه لا سبيل إلى إثبات حقيقة الإيمان إلا بإنكار عالم العقل والمنطق (وهو العالم الذي يعرف له كير كجورد قيمته، وإن كان في نظره متجسداً في هيجل). ومن ناحية أخرى فإن إيمان كير كجورد لم يكن مقترنا بمجموعة من المبادئ العامة أو الحقائق المطلقة (كما هو الحال عند أصحاب المذهب البروتستنتي الذين لا يرتبطون بكنيسة قوية تجمع بينهم في وحدة قوية شاملة) ولذلك فقد كان بطبيعته إيماناً منطلقاً سهل التحول، لا يتوفر فيه أي عنصر من عناصر اليقين أو الطمأنينة. ومثل هذا الإيمان لا يعسر أن يرتبط بالقلق والجزع والتمزق الداخلي في نفس صاحبه؛ بل إنه ليصبح حقيقياً بقدر ما يقترن به من هذه العوامل النفسية.
وهنا لعبت التجربة الروحية التي عناها كير كجورد دورها الأساسي الهام: فإن كير كجورد كان قد خطب فتاة أحبها وأحبته فاستقر رأيه على أن ينقض هذه الخطبة، واعتبر تضحيته هذه قبيل تضحية إبراهيم الخليل وظن أنه كان لديه إيمان حقيقي كما كان لدى إبراهيم، فإن المعجزة لا بد أيضاً أن تحدث، وبالتالي فإن خطيبته لابد أن تعود إليه كما عاد أسحق إلى أبيه. بيد أن خطيبته لم تعد إليه، فأدت به هذه التجربة إلى اعتبار الإيمان سراً عميقاً لا سبيل إلى اكتناهه؛ وانضافت إلى هذه التجربة نزعته اللاعقلية فذهب كير كجورد إلى القول بأن المؤمن (أو رجل الإيمان) يعيش بالضرورة في شك مرير قاتل من جهة الإيمان نفسه. فأنت إذا اعتقدت أن لديك إيماناً فكأنك بذلك تجدف على الإيمان.
ولكن كير كجورد لا يدعنا في هذه الحالة من التمزق الداخلي، بل سرعان ما ينقذ الإنسان من السقوط الكامل، فيثبت - في لمحة سريعة باهرة - عالم المعجزة، وعالم الحرية الإنسانية والصلة الفائقة للعقل بين الله والإنسان. ولكنه إثبات يعتمد على الذوق الصوفي واللمع الروحية، مما لا سبيل إلى العثور عليه عند فيلسوف آخر غير كير كجورد الصوفي المتوحَّد!
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسَعاف النشاشيبي
624 -
مقالة أبى ذر جندب
في (تاريخ الطبري): أتى أبو معاوية فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله - يا أبا ذر - ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره. قال: فلا تقله. قال: فلاني لا أقول: ليس الله، ولكن سأقول: مال المسلمين. وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى به جباههم وجنوبهم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس. فكتب معاوية إلى عثمان: إن أبا ذر قد أعضل بي، وقد كان من أمره كيت وكيت فكتب إليه: جهز أبا ذر إلى، وابعث معه دليلا، وزوده وارفق به. فلما قدم المدينة ودخل على عثمان قال: يا أبا ذر، ما لأهل الشام يشكون ذرَبك؛ فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا. فقال: يا أبا ذر، علَّي أن اقضي ما علَّى، وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد. ودخل أبو ذر على عثمان وعنده كعب الأحبار، فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف وقد ينبغي للمؤدي الزكاة إلا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات. فقال كعب: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجه. . .
625 -
هؤلاء مماليكنا. . .!
(إخبار العلماء بأخبار العلماء): بلغ ثوسيوس (الشاعر اليوناني) أن عدواً له اغتابه فقال هذا الشعر (على طريقة يونان): بلغنا أن كلباً وقرداً اجتازا بمقبرة سباع، فقال القرد للكلب: اصعد بنا لنترحم على هؤلاء الموتى. فقال الكلب، ومن أين هذه المعرفة بينكما؟ قال القرد: سبحان الله! أما تعلم أن هؤلاء مماليكنا؟ قال الكلب: والله ما أعلم شيئا من هذا ولكني كنت أحب أن يكون أحدهما حاضراً وتقول هذا.
626 -
ليس للشيطان ذنب
(تاريخ بغداد): قال مالك بن أنس: لهؤلاء الشطار ملاحة، كان أحدهم يصلي خلف إنسان فقرأ الإنسان: الحمدُ الله رب العالمين حتى فرغ منها ثم أرْتِج عليه، فجعل يقول: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، وجعل يردد ذلك فقال الشاطر: ليس للشيطان ذنْب إلا أنك لا تحسن القراءة.
627 -
نحب فيها المال والجاها
الشميس الأندلسي:
لله في الدنيا وفي أهلها
…
معمْياتٌ قد فككناها
منْ بَشرٍ نحن، فمن طَبْعِنا
…
نحب فيها المال والجاها
دعني من الناس ومن قولهم
…
فإنما الناسُ أخلاَّها
لم تُقبِل الدنيا على ناسكِ
…
إلا وبالرحب تلقَّاها
وإنما يعرضُ عن وصلها
…
من صَرفَتْ عنهُ محيّاها
628 -
فسماهم الزوار ستراً عليهم
قال العباس بن خالد البرمكي: كان الزوار يسمون في قديم الدهر إلى أيام خالد بن برمك - السؤَّال، فقال خالد: هذا اسم أستثقله لطلاب الخير، وأرفع قدر الكريم عن أن يُسمى به أمثال هؤلاء المؤملين، لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبا، ولكنا نسميهم (الزوَّار)
وفي ذلك يقول بشار:
وكان ذوو الآمال يُدعون قبله
…
بلفظ، على الإعدام فيه دليل
فسماهم الزوار ستراً عليهم
…
فأستاره في المجتدين سدول
629 -
بين إمامين. . .
في كتاب (سحر العيون):
من بديع الاتفاق أن قاضي القضاة شيخ الإسلام بدر الدين محمود (العيني) الحنفي لما ولي مشيخة المدرسة المؤيدية التي بباب زويلة مالت منارتها فبلغ ذلك قاضي القضاة شيخ
الإسلام شهاب الدين أحمد بن (حجر) العسقلاني وكان بينهما ما يكون ما بين المعاصرين فأنشد بديهة:
لجامع مولانا المؤيد رونق
…
منارته تزهو على الفخر والزين
تقول وقد مالت عليه تمهلوا
…
فليس على حسني أضر من (العين) ى،
فلما بلغ ذلك العيني أجابه بهذين البيتين، والمشهور أنهما من نظم الشيخ شمس الدين النواجي على لسان العيني:
منارة كعروس الحسن إذ جليت
…
وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا خطأ
…
ما أوجب الهدم إلا خسة (الحجر)
630 -
افتح عينيك
قال صاحب كتاب (سحر العيون):
كنت حاضراً في مجلس بين يدي شيخنا المرحوم برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن الملاح - وقد سأله بعض أبناء الأتراك أن يقرأ عليه في العروض، فكسر العين من العروض، فقال له الشيخ: افتح عينك.
631 -
فكيف تدعي أنه لا حقيقة لشيء
في كتاب (تلبيس إبليس) لابن الجوزي: حكى أبو القاسم البلخي أن رجلا من السوفسطائية كان يختلف إلى بعض المتكلمين، فأتاه مرة فناظره، فأمر المتكلم بأخذ دابته، فلما خرج لم يرها، فرجع إليه فقال: سرقت دابتي. فقال: ويحك! لعلك لم تأت راكبا، قال: بلى، قال: فكرْ، قال: هذا أمر أتيقنه فجعل يقول تذكرْ فقال: ويحك، ويحك! ما هذا موضع تذكر، أنا لا أشك أنني جئت راكباً. قال: فكيف تدعي أنه لا حقيقة لشيء وأن حال اليقظان كحال النائم، فوجم السوفسطائي.
في (العقد) لابن عبد ربه: دخل رجل على المأمون فقال لثمامة بن الأشرس: كلمة: فقال له ما تقول؟ وما مذهبك؟ قال: أقول: إن الأشياء كلها على التوهم والحسبان، وإنما يدرك منها الناس على قدر عقولهم، ولا شيء في الحقيقة. فقام إليه ثمامة فلطمه لطمة سودت وجهه. فقال:(يا أمير المؤمنين) يفعل بي مثل هذا في مجلسك؟ قال ثمامة: ولعلي إنما دهنتك
بالبان، ثم أنشأ يقول:
ولعل آدم أمنا
…
والأب حوا في الحسابْ
ولعل ما أبصرت من
…
بيض الطيور هو الغراب
وعساك حين قعدت قم
…
ت وحين جئت هو الذهاب
وعسى البنفسج زئبق
…
وعسى البهار هو السذاب
-
همس الساعة
للدكتور عزيز فهمي
تَعُدُّ الثوانيَ همساً ونفضا
…
وتزْحَفُ زحفاً وتنبض نبضاً
وتداني البعيدَ وتُقْصى القريبَ
…
وتجْمَعُ شمْلا وتُبْعِد أرضا
تَواَرثها الناسُ جيلاً فجيلاً
…
وشكَّلَها من تَوالي وقضَّا
تصوَّرَها البعضُ في عين هِرٍ
…
إذا الهِرُّ تَثبَّت جفنا وغّضَّا
ولَوْلا الأهِلّةُ لمْ تَعْدُ عَنها
…
مواقيتُ للناسِ والحجَّ تُقضَى
إذا الشَّمسُ خَلْفَ الغُيومِ تَوارَتْ
…
هَداكَ سَناها وَلمْ تَألُ حَضَّا
تُوَحَّد بين اللغات وتُقْضِي
…
إلى اَهْلِهنَّ بما هُوَ أفْضىَ
تُبَشَّر صَبَّا بِوَصْل الحَبيب
…
فَتُحْي الشَّبَابَ الذي كانَ غَضّا
وَمِنْ عَجَبٍ أَنْ يُبينَ الجَمادُ
…
وينطق جَهراً ويُمعن خَفْضا
تُبين وتُفْصِحُ في صَمْتها
…
فَتُوجِبُ فَرْضاً وتُسِقطُ فَرْضا
وَتهْمِسُ: ما فاتَ ودَّعْتَه
…
فَشيّعْتَ حيناً وَفارَقْتَ بَعْضا!
وهَيَهْاتَ يَرْجِعُ ما قد مضى
…
وَهيهاتَ يَقْبَلُ حُكمِي نَقْضا
أُتْعرِضُ عني لِتَسْمَعَ لَغْواً
…
وتَلَقي منَ اَلناسِ نَوكَي ومَرْضَي؟
ومعظمهم لو علمت دَعِيٌّ
…
يُريكَ الودادَ وَيُضْمِرُ بُغْضَا
سِواَيَ يُرائيكَ في مَحْضَرٍ
…
ويفْربكَ - إِنْ غِبْتَ - غمْزاً وَعَضاَّ
وغيري يبُثُّكَ ما تَشْتَهي
…
وَيَهْزأُ مِنْكَ إذا هُوَ أَغْضىَ
أنا الوَقْتُ أُمْلي علي عاداتي
…
وَفَتْكَيِ مِنْ فَتكَةِ السَّيْفِ أَمضَى
فإنْ شِئْتَ بادِرْ إلى عَزْمَةٍ
…
فَعَزمْي يَكادُ يُسَلُّ وَيُنْضَى
وَخَلَّ المقاديرَ تجْري المَدى
…
وَدَعْ ما يريبك ما دَامَ غَمْضَا
تَنَبَّه! تنبه. . . ولا تُرْجِئنَّ
…
إلى الغَدِ وأنْهَضْ لأَمْرِكَ نَهْضَا
غَدٌ مَوْعِدٌ العاجزينَ وَوَهْمٌ
…
تمنَّيكَ إِنْ رُمْتَ للريَّح قَبْضَا
غَدٌ - لوْ عَلِمْتَ - غُيوبٌ فَعَجّلْ
…
وَبادرْ لَعَلَّك في الغَدِ ترْضَى
سَتَنْدَمُ بَعدَ فَوات الأوانِ
…
وتَجُني الأمانِيَ صاباً وغَضَّا
حَذَارِ، حَذَارِ وَلَا تَلْحَنيِ
…
فَكَمْ قَدْ بَذَلْتُ لَكِ النُّصْحَ مَحْضاَ
وَأَنذَرْتُ حَتّى مَلَلْتَ النذَّيرّ
…
وّلوْلَا مَلاُلكَ مَا عادَ مَضَّا
وَلو قدْ أَصَخْتَ لَقِيت الحتوفَ
…
بدرْع يَصُدُّ فَيَزدادُ وَمْضَا
تَضِنَّ بِفَلْسٍ ضَنين الشَّحيحِ
…
وَتُسِرفُ في العمْرِ جَهْلاً وَفوْضَى
فَيا لَلضَّلالِ! تَضِنُّ بِدُونٍ. . .
…
وَتُرْخِصُ كَنْزاً وجَاهاً وَعِرْضَا!
عزيز فهمي
صدى الفاجعة
للأستاذ سيد قطب
(لم تكن إلا مرات معدودة جلست فيها إلى فقيد مصر العظيم ثم هأنذا أعاني من الفجيعة فيه كأنها فجيعتي الخاصة. . . فيا ويح لأولئك الذين عاشروه، فأحبوه. ووارحمتا له كيف يعيشون. . .؟)
جَفّ الرثاء بخاطري المفجوعِ
…
وَصَمتُّ لا أُفضي بغير دموعي
إني ذهلتُ عن المصاب بوقعه
…
حيناً، ذهول الواهم المخدوع
فضللت أُنصت للرجاء، وأتّقي
…
صوت اليقين الفاجع المسموع
أيموتُ؟ كلا! لا يموت وهذه
…
مصر تُرجَّي نجمه لسطوع
أيموت والأحداث تهتف باسمه؟
…
أتكون تلك هُتَافةَ التوديع؟
قُل أيها الناعي سواه، فما أرى
…
أني - وإن جاهدتني - بسميع!
واويلتاه! أئنها لحقيقةٌ
…
جلّتْ عن الإيجاف والترويع؟
صمت الذي قد كان ألحن حجةً
…
وتحدثت طعناته بنجيع
متفجرات بالدماء كأنها
…
كلماته في قوة ونضوع
كلماته الللائي نبضن بقلبه
…
ودماؤه من ذلك الينبوع
يا واهب الوادي مَربع حياتِه
…
ما بال عمرك لم يكن بمريع؟
يا مانع الوادي العزيز بنفسه
…
ما بال عمرك لم يكن بمنيع؟
خطفتك عادية المنون وخلفت
…
وطناً يعالج سكرة المصروع
لخلا مكانك ليس يملأ رحبه
…
إلا الأسى وتفُّجعُ المفجوع
لخلا مكانك والبلاد تهيأت
…
تخطو إلى أفق رسمتَ وسيع
وتلفتت تصغي لصوتك هادياً
…
في المدلهمَّ ورأيك المسموع
فصمتَّ - ياللهول - صمتة واجم
…
ماضٍ لغير تأوُّب ورجوع
واهاً لمصر ويا فجيعة أهلها
…
في الرائد المتفرَّدِ المتبوع!
طريقي
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
طريقي إلى بيتي؟ نعِمْتَ، طريقي
…
إلى خير محبوبٍ وخير رفيق
طريقي إلى دنيا غرامٍ ونشوة
…
وفردوس أرض ناضر وأنيق
وهيكل تفكيري، وقدس عبادتي
…
وآية توفيقي، وكنز حقوقي
تقلبت في عيني كريهاً معبّساً
…
وكنت تلقَّاني بوجه طليق
شجيراتك اللفاء تُقعي كأنها
…
أفاعٍ على أذنابها بمضيق
نهارك مغبرٌ، وشمسك سمجة
…
كأن شروقاً فيك غير شروق
وجوك خنّاق أَبيتُ لثقله
…
بأنفاسِ مضغوط الضلوع خنيق
كذا أنت مذ جازت سراتك في الضحى
…
جنازة زوجي، زوجتي وصديقي
تسير وئيداً للتراب، وخلفها
…
أنا الأرمل الباكي أجرَّر سوقي
طريقي! لقد جازتك أيام أنسنا
…
بخطوٍ له حلو الأناة رشيق
فما لك، قد مرَّتْ عليك حميلةً
…
ولم ترتجف زلزالَ غير مطيق
طريقي! ومازالتَ الطريق، وإنما
…
إلى وحدتي من بعدها وحريقي
إلى البيت مبناه، وأما صميمه
…
فكالقبر مكشوفاً وغير سحيق
طريقي، طريقي! كل دُورك ظلمةٌ
…
بغير بريقٍ - وهي ذات بريق
إذا سرت فيك اليومَ سِرْتُ كأنني
…
جنازتها - نحو الحِمام طروقي
قطعتَ، فأوْصِلْ شائقاً بمشوق
…
وإلا، فتَعْساً لي، وتعس طريقي
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
مستقبل الطيران
يتنبأ أحد مصممي الطائرات أن الترف والراحة فيها سينافسان الترف والراحة في عابرات المحيط الكبيرة. فيستطيع المسافر أن يطوف حول العالم في 14 يوماً تشمل زيارات فرعية لمناطق متعددة تستعمل فيها الطائرات التي تهبط عمودياً فتهبط في أماكن لم يفكر أحد في زيارتها لوعورة مسالكها.
وتزود طائرات ما بعد الحرب بغرف طعام خاصة وغرف للملابس ولأنواع التسلية والتلفزيون والراديو، كما تجهز بمقاعد مريحة خاصة بنحاف الأجسام أو ضخامها. أما متاع الأشخاص فينتظر أن يفرد له ظهر الطائرة لتوفير داخلها وستوالي هذه الطائرات رحلاتها في مواعيد منتظمة، وقد صنعت طائرات تسع الواحدة منها 48 مسافراً وتكفي لنوم 24 مسافراً.
عمر الفرد 130 سنة
يقولون إن ابنك أو ابن ابنك سيعيش 130 سنة في أتم صحة، لأن هذا العمر سيكون متوسط عمر الإنسان بعد جيل أو جيلين، فقد لوحظ أن متوسط عمر الحيوان يساوي خمسة أضعاف أو ستة أضعاف عمر بلوغه، وعلى هذا الأساس يكون المتوسط العادي لعمر الإنسان بين 125، 150. ويميل العلماء إلى ربط طول عمر الإنسان بتغذيته، فيوصون بالألعاب الرياضية، والهواء الطلق، والشمس والفيتامينات، والنوم 8 ساعات والحمامات الباردة.
ويعللون سهولة الوصول إلى هذا المستوى من العمر بالتقدم الطبي واتجاه الأبحاث إلى الناحية الإنشائية في جسم الإنسان.
الموسيقى والأمراض العصبية
أجرى المجلس الاستشاري الأهلي للموسيقى في الولايات المتحدة إحصاء لدراسة مدى استعمال الموسيقى في المستشفيات للأمراض العصبية ونتيجة استعمالها في شفاء
الأمراض، فأجابه على استفتائه 209 مستشفيات يتراوح عدد أسرة الواحد منها بين 33 و 8000 سرير. ويستعمل الموسيقى منها 192 مستشفى. ولم تستطع المستشفيات الأخرى الحصول على أدواتها بسبب صعوبات الحرب ونقص الأيدي العاملة وغيرها.
ويدير الحفلات الموسيقية في 160 من هذه المستشفيات موسيقيون محترفون أو مرضى موهوبون أو أندية سمر خاصة. وتستعمل الاسطوانات الموسيقية في 152 من المستشفيات، وهناك إجابات بأنها تستعمل الموسيقى كأداة علاجية في حالات بعض الأمراض العصبية، وأجابت 134 بأنها تستعملها لغرض العلاج والترفيه.
ويرى أكثر مديري المستشفيات أن الترفيه نوع من العلاج، على أنهم يعتبرون الاشتراك في توقيع القطع الموسيقية في جماعة أكثر تأثيراً في المرضى من مجرد الإصغاء إليها، فان روح الاشتراك مع الجماعة يكسب المرضى حب التعاون والصداقة ويساعدهم على تذليل صعوبات الكبت عندهم.
وقال المشرفون على علاج المرضى في أحد المستشفيات إن ضوضاء الطبول وأصواتها ذات تأثير مقلق لجميع حالات المرضى، بينما الموسيقى والأغاني الشعبية الهادئة ذات تأثير ملطف. وهناك شبه إجماع على أن الموسيقى لا تصلح كعلاج فعلي بل إنها قد تكون خطرة على بعض المرضى إذا اختير نوع غير ملائم لهم مما قد يؤدي إلى زيادة ارتباكاتهم العقلية ويقوي أفكارهم المشوهة.
عينات دم من الأعضاء الداخلية
صرح الدكتور جيمس ليري في اجتماع الجمعية الطبية للأبحاث أنه صار من السهل الحصول على عينات دم من القلب أو الكبد أو الكلى مباشرة، وذلك بامرار أنبوبة رفيعة طويلة ومرنة من الكوع. وترجع أهمية هذه العينات إلى خلوها من تأثيرات الدم في الأوعية الدموية الأخرى مما يساعد الطبيب على تشخيص المرض بدقة.
وليست العملية معقدة كما قد تبدو، وإن كانت رحلتها طويلة، فان الأنبوبة تمر داخل أحد شرايين الكوع ويلاحظ سيرها بجهاز خاص فتشاهد وهي تسير إلى الجزء الأيسر للقلب ومنه إلى الشريان المؤدي إلى الكبد أو الكلى أو غيرها من الأوعية.
وأجريت هذه العملية في السنتين الأخيرتين في 3000 حالة بدون أن يصحبها أو بعقبها
أي رد فعل أو ضرر.
من البيض لقاح ينقذ الحياة
هي قصة فتح جديد في عالم الطب، هي قصة الصراع بين الصحة والمرض وبين الموت والحياة، أعلنت على الناس ثمراتها الأولى في سنة 1931 فجنوا نضجها في إبان الحرب. هي قصة مربية الفيرس ذلك الحي الدقيق المسئول عن كثير من الأمراض المستعصية مثل التيفوس والحمى الصفراء والأنفلونزا والحصبة وشلل الأطفال.
ولولا هذا الكشف لانتشرت الأوبئة الفتاكة بين الجنود والمدنيين كما حدث في 1918 - 1919 حينما أزهق وباء الأنفلونزا عشرين مليوناً من الأنفس. ولكن نجاح الدكتور جودباستور ومساعدته الدكتورة اليس وودرف أنقذ العالم من الأوبئة، كما وضع الأحجار الأساسية لوقاية الناس من أمراض عدة تسببها عائلة الفيرس.
وهذا الميكروب دقيق لا تراه الميكرسكوبات العادية، ويخالف سواه في وسائل تغذيته وحياته، فبينما الميكروبات الأخرى تعيش في أوساط مختلفة مثل الآجاراجار والحم، فإنه لا يعيش إلا على أنسجة حية إن ماتت قضى معها. وكان الأطباء يربونه لعمل اللقاح في القرود والطيور، ولكنهم لم يحصلوا منه على المقادير اللازمة لكفاية عدد من الناس فضلا عن أمة كبيرة. فاللقاح الواقي هو ميكروب المرض، ميتاً أو ضعيفاً، يلقح أو يحقن به الجسم فيكتسب مناعة ضد المرض نفسه.
بدأ الدكتور جودباستور أبحاثه لتربية الفيرس في الدجاج، وفي مرض جرري الطيور. وهداه البحث إلى الاستعانة بالبيض المخصب فهو يحتوي على أنسجة حية. فكان يفتح قطعة صغيرة من قشرتها ليمرر الفيرس، ثم يغلقها ثانية بغشاء شفاف يرى من خلاله ما يحدث داخل البيضة. وبعد أربعة أيام صارت أغشية البيضة سميكة وملتهبة فعرف أن مجموعات الفيرس تنمو وتتغذى على جنين البيضة.
وأعلن نتيجة بحثه في سنة 1913، فلم يجد من الأطباء إذناً صاغية. وأهملوا قيمة أبحاثه كما أهملوا في سنة 1929 نبأ اكتشاف الدكتور فلمنج للبنسلين، ولكنه انتقل إلى المرحلة الثانية. فأي أنواع الفيرس ينموا في البيض وأيها لا ينمو؟ فجرب فيرس الجدري البشري فحصل من البيضة الواحدة على كميات لقاح تكفي 1000 فرد فأي هدية ثمينة رخيصة
يقدم للعالم.
وانتشرت أنباء نجاح الدكتور جودباستور، فصنع الألمان كل لقاح الجدري من البيض. ونجح الدكتور بيرنت في استراليا وربى فيروس الأنفلونزا في البيض. وأدركت الهيئات المختلفة أهمية الكشف الجديد فجربه معهد روكفلر لتربية فيرس الحمى الصفراء، فكان النجاح باهراً.
وما زالت المعاهد الطبية تقدم إلى العالم كل يوم لقاحاً جديداً، فقد أعلن الدكتور هرالدكوكس أن عدد أنواع الفيرس التي تنمو في البيض 25 نوعا، منها التيفوس ومرض نوم الخيل الذي قتل في سنتين 80 ألف حصان. ولفيرسه خطره على الناس أيضاً، فإنه فتك بسبعين في المائة ممن أصيبوا به ومن نجوا من الموت أصيبوا بانهيار في أعصابهم أو جنوا.
وهناك أمراض لم ينجح الباحثون بعد في كشف سر تربية فيرسها، ومثال ذلك مرض شلل الأطفال. ولكن العلماء يعتقدون أن التوفيق إليه قريب بفضل تقدم فن تربية الفيرس في البيضة، وما توصلوا إليه من تحسينات في أدوات حقن جنينها بالميكروب في أنحاء جسمه المختلفة. فمرة يحقن الفيرس في المخ، وأخرى في النخاع الشوكي، وثالثة في الجلد، ورابعة في العضلات، إلى غير ذلك من الأجزاء وهم يرجون أن تظهر أعراض المرض في أحد هذه الأعضاء فيتاح لهم صنع لقاحه ويكشفون سره.
وكانت القوات المحاربة الأمريكية من أسرع الهيئات التي استعانت بأبحاث الدكتور جودباستور، فوفرت على جنودها شر الإصابة بالأوبئة الفتاكة التي تعتبر من لوازم الحرب في المناطق الحارة في المحيط الهادي، وبالتالي تيسر لهم النصر في معارك القتال المختلفة. ولولا هذا الاكتشاف وما أضفناه على الجنود من صحة وطمأنينة لانقلب ميزان هذه المعارك، فالجندي المريض عبء على الجيش تخسر وحدته جهده، كما تزيد جهد الأقسام الطبية مما قد يؤجل النصر إن لم يمنعه.
فوزي الشتوي
رسالة الفن
الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
- 2 -
الواقعية في الفن
في نهاية شارع الجامعة الطويل، وقريباُ من الشان دي مارس يوجد (مخزن الرخام) في ركن منعزل مهجور يشعرك بأنك في الريف. في فناء هذا المخزن الذي تكسوه الأعشاب ترقد قطع رخامية غبراء ثقيلة مبعثرة، تبدو في مواضع منها كسور حديثة العهد تنم عن بياض ناصع. تلك هي أحجار الرخام التي احتفظت بها الدولة للمثالين الذين تشرفهم بعمل تماثيل لها.
ويقوم إلى جانب من هذا الفناء عدة مراسم خصصتها الدولة لمختلف المثالين، تبدو كأنها مساكن للطلبة من طراز جديد، وهي بمثابة مدينة صغيرة للفنانين، يجللها هدوء عجيب. يشغل رودان مرسمين من تلك المراسم، يعمل في واحد منها ويضع في الآخر سبائك الجص لقطعته المعروفة (باب جهنم)، تلك القطعة التي تسبي العقول برغم أنها لم تكتمل بعد.
ولقد اعتدت أن أزوره هنا أكثر من مرة في آخر النهار، عند ما يوشك أن ينفض يده من عمله اليومي. فكنت أجلس على كرسي وأرقبه وهو يعمل، وأرتقب تلك اللحظة التي يرغمه فيها الظلام على الكف عن العمل، ولكن كان حرصه على الانتفاع بآخر شعاع من أشعة النهار يلهب أعصابه ويصيره كالمحموم.
وهأنذا أراه يسوي ويشكل تماثيله الصغيرة من الطين بسرعة خاطفة. وهو يجد في ذلك ضربا من التلهي والتسلي يجنح إليه في الفترات التي تتخللها عمله الوئيد الذي يبذله في صنع التماثيل الكبيرة. ثم انه يجد في تلك الدراسات العجلي التي تؤدى للتو واللحظة متاعا ولذة لأنها تعينه على إمساك حركة رشيقة أو إيماءة جميلة عابرة، قد لا يتاح لصدقها الآبق
أن يُدرس دراسة عميقة طويلة.
أما طريقته في العمل ففريدة في بابها. فترى في مرسمه كثيراً من المثل الآدمية العارية تمشي الهوينا أو تستريح، يؤجرهم رودان لكي يرى فيهم الجسم العاري يتحرك بكل ما في الحياة من حرية، فهو يلاحظهم في غير انقطاع؛ وبذلك أمكنه أن يلم برؤية العضلات في حركاتها وسكناتها. إن الجسد العاري الذي نعتبره نحن المحدثين علانية شاذة، والذي لا يرى فيه المثاليون إلا طيفاً لا يدوم لأكثر من جلسة أصبح منظراً أصبح منظراً مألوفا لدى رودان.
وإن الدراية المستمرة بالجسم الإنساني، تلك الدراية التي أكتسبها قدماء الإغريق من ملاحظة الألعاب الرياضية كالمصارعة ورماية القرص والملاكمة وغيرها من صنوف الألعاب الرياضية، والتي أباحت لفنانيهم أن يتكلموا بحرية عن الجسد العاري اكتسبها صانع (المفكر) أو رودان بجعل الآدميين العرايا يذهبون ويجيئون أمام عينيه باستمرار. بذلك استطاع أن يستكنه المشاعر التي تعبر عنها كل هنة من هناة الجسد. ويعتبر الوجه عادة المرآة الوحيدة التي نرى فيها النفس، كما يبدو لنا أن تحرك أعضاء الوجه هو المظهر الخارجي الوحيد للروح. وفي حقيقة الأمر الواقع أنه لا توجد عضلة من عضلات الجسم لا تعبر عن التغيرات التي تطرأ على الشعور الداخلي، كلها تعبر عن فرح أو حزن، عن يأس أو أمل، عن تعقل أو جنون. إن الذراع المنبسطة أو الجسم المسترخي ليبسم في رقة وحلاوة مثلما تبسم الشفاه أو العيون، ولكي يصبح المرء قادراً على تفسير كل خلجة من خلجات اللحم وجب عليه أن يوطن نفسه على قراءة ذلك الكتاب البديع - وهذا ما فعله أساطين الفن الأقدمون، وساعدتهم عليه ظروف مدينتهم أما رودان فقد توصل إليه في عصرنا هذا بقوة إرادته الخاصة. إنه يتبع مثله بنظراته الفاحصة النهمة ويتنسم في هدوء روح الحياة التي تختلج فيهم، ويعجب بطراوة هذه الفتاة التي تنحني لتلتقط إزميلا، أو بجمال أخرى ترفع ذراعيها لتصفف شعرها الذهبي فوق رأسها، أو بخطران شاب يمشي عبر الغرفة، وعندما يأتي هذا أو ذاك بحركة أو وضع يروقه يطلب منه تواً أن يستبقي ذلك الوضع ثم يهوي إلى طينه ويعمل بسرعة فلا يلبث أن يخرج تمثالا صغيراً إلى الوجود، ثم ينتقل بنفس السرعة إلى غيره يشكله ويسويه بالطريقة ذاتها.
وفي إحدى الأمسيات، عندما أخذ الليل يرخي سدوله الكثيفة على مرسمه جرى لي حديث مع المعلم عن طريقته بدأته بقولي:
(إن ما يدهشني منك أنك لا تشتغل على وتيرة أقرانك. إني لأعرف الكثير منهم وقد رأيتهم يعملون، فهم يجعلون المثال يعتلي خشبة تسمى العرش ويأمرونه بأن يتخذ كذا وكذا من الأوضاع، وفي العادة يثنون أو يبسطون ذراعيه ورجليه حسبما يروق لهم، ويحنون رأسه أو يمدون جسمه كما لو كان بنتا من بنات الأطفال؛ ثم يشرعون بعد ذلك في العمل. أما أنت فعلى النقيض من ذلك، تنتظر حتى يأخذ مثالك وضعاً من الأوضاع التي تروقك فتقوم بانتساخه حتى لكأنك أنت الذي تأتمر بأمرهم ولينسوا هم الذين ينزلون على أمرك).
وكان رودان متشاغلا بلف نماذجه الصغيرة بلفائف مبللة فأجابني في هدوء.
(أنا لست رهين أمرهم وإنما أنصاع لأوامر الطبيعة، أما زملائي فلهم ولا ريب أسبابهم التي تدعوهم إلى الاشتغال على النحو الذي ذكرت، ولكن اعتسافهم الطبيعة على هذا النحو ومعاملتهم الإنسان معاملة الدمى تجعلهم يخاطرون بإنتاج تماثيل متكلفة لا تنبض بالحياة، أما أنا ينشد الحقيقة ويدرس الحياة كما ترى فسوف أحرص على ألا أنهج نهجهم. إني أستخرج الحركات التي إلا حظها من الحياة ولكنني لا أفرضها ولا أصطنعها، حتى إذا ألجأني الأمر وأنا أشتغل بموضوع ما أن أطلب من المثال أن يتخذ وضعاً معينا ثابتاً فأني أشير إليه بأن يأخذ ذلك الوضع متحاشيا جهدي أن أمسه لأضعه في الموضع المطلوب، لأني لا أنقل إلا ما تقدمه لي الحقيقة على الأثر. إني أطيع الطبيعة في كل شيء، ولا أحاول قط أن أسيطر عليها، وكل ما تصبو إليه النفس هو أن أكون عبدها الوفي الأمين)، فأجبته في شيء من الخبث والمداورة (ومع ذلك فأنت لا تبرز الطبيعة في أعمالك بنصها وفصها) فتوقف قليلا وهو ممسك باللفائف المبللة ثم أجابني وهو مقطب الأسارير.
- نعم إني أبرزها بنصها وفصها
- ولكنك تضطر إلى تغيير. . .
- لا أغير منها فتيلا
- ولكن البرهان على أنك تغير منها هو أن السبيكة لا تعطي من التأثير مثلما يعطيه عمل يدك من الأحوال.
ففكر لحظة ثم قال:
هذا حق! لأن السبيكة أقل صدقاً مما تطبعه يدي في الطين أو تحفره في الحجر يكاد يكون مستحيلا على أي مثال أن يحتفظ بوضع حي طيلة الوقت الذي يلزم لعمل سبيكة منه
ولكني أحتفظ بجملة الوضع بمخيلتي وأصر على أن يتطابق المثال على ما وعته مخيلتي من ذلك الوضع. وأكثر من ذلك أن السبيكة لا تظهر إلا المظهر الخارجي، ولكني أظهر بجانب ذلك الروح التي هي بلا ريب جزء من الطبيعة أيضاً. إني أرى الحقيقة كاملة ولا أقصر نفسي على رؤية المظهر الخارجي. إني أبالغ في إظهار الخطوط التي تعبر أحسن تعبير عن الحالة النفسية التي أتولى تفسيرها)
وكان يريني وهو يتكلم تمثالا من أروع تماثيله قائماً على منصة قريبة، هو تمثال لشاب راكع رافع ذراعيه المتوسلتين إلى السماء كأنما تنهش كيانه الألم، جسمه مائل إلى الوراء، وصدره ناهد وحلقه متوتر من اليأس، أما يداه فممدودتان إلى مخلوق وهمي تتوقان إلى إمساكه، ثم قال لي:
(انظر، لقد أوضحت انتفاخ العضلات التي تفصح عن الألم، فهنا وهنا وهناك قد غاليت في توتير أربطة العضلات التي تدل على تدفق الصلاة وحرارتها) وبعد ذلك أشار إلي أقوى وأبرز ما بالتمثال من أجزاء، وهنا صحت به متهكماً:
(لقد أصبت منك مغمزا يا أستاذي. تقول بنفسك إنك تفصح، وتزيد، وتبالغ. . فترى من ذلك إذن أنك غيرت من الطبيعة) فأخذ يضحك من عنادي ويقول:
(أبداً، أنا لم أغير منها شيئاً، وعلى فرض أني فعلت ذلك فأني لم أكن أتوقعه وقتذاك، فالإحساس الذي سيطر على مشاعري وقتئذ أراني الطبيعة كما نقلتها. فإذا ما أردت تنقيح ما رأيت وجعله أكثر جمالا لما أنتجت شيئا طيبا) وبعد برهة عاود حديثه قائلا:
(إني أوافقك على أن الفنان لا يرى الطبيعة كما يراها السوقي لان عواطفه تكشف له عن الحقائق المخبوءة تحت ستر المظهر الخارجي، وعلى كل حال فالقاعدة الوحيدة في الفن هي أن تنسخ من الطبيعة ما تراه. ويرى المشتغلون بجمال الفنون أن أية قاعدة مغايرة لهذه يكون مآلها إلى البور، فليس ثمت من طريقة لتحسين الطبيعة، والأمر الوحيد هو أن ترى. آه، حقيقة أنه ليس في مقدور رجل من أوساط الناس ممن ينسخون الطبيعة أن يأتي بعمل
فني لأنه في الواقع ينظر ولا يرى، ولو أنه استطاع أن يتتبع كل دقائقها بإنعام لجاءت النتيجة تافهة لا خطر لها، ولكن لم تخلق مهنة الفنان لأوساط الناس الذين لا يمكن أن يكتسبوا مواهب حتى من أجل النصائح والإرشادات.
فالفنان - على نقيض ذلك - يرى بمعنى أن عينه المركبة على قلبه تقرأ عميقاً في أغوار الطبيعة، وهذا يفسر السبب الذي يجعل الفنان لا يعتمد إلا على عينيه فقط).
(للكلام صلة)
محمد بهجت
البريد الأدبي
عالمية الاسكندر
في هذه الأيام التي يتفاوض فيها أقطاب العالم لوضع نظام عالمي أو قريب من العالمي، يضمنون به الإشراف على القوميات الختلفة، ووضعها في نظام منسجم متناسق، قد يكون من الطريف أن نشير إلى محاولة لتطبيق فكرة العالمية قام بها صاحبها منذ أثنين وعشرين قرناً أو ما يقرب من ذلك، تلك هي محاولة الاسكندر المقدوني التي أراد به أن ينفذ هذه الفكرة في النصف الثاني من القرن الرابع قبل المسيح.
لم يكن العالم الهلّيني في ذلك الوقت قد اتسع أفقه بعد ليشمل نطاقاً
أوسع من نطاق (المدينة الحرة) الذي نادى به أرسطو في (سياسته)
والذي عبر به خير تعبير عن النظام السياسي الوحيد الذي كان يدركه
العالم الهليني حينذاك.
وإذا كانت بعض المدن الإغريقية قد حاولت أن ترتفع قليلا عن هذا الأفق لتضع نظاماً أوسع، كأثينا التي حاولت أن توجد نظاماً إمبراطورياً تكون هي سيدته، فمع ذلك نجد أنها لم تستطيع أن تمتد بنظامها هذا الجديد لتشمل به شعوباً أخرى غير شعوب العالم الهليني.
فلما ظهر الاسكندر، نظر نظرة أخرى جديدة، وقام بمحاولة بعيدة عن إدراك الإغريق، أراد أن يوجد (دولة) تكون حدودها هي حدود العالم المعروف إذ ذاك، فكيف عمل على تحقيق هذه العالمية، وكيف دبر النظام الذي يستطيع به أن يضمن تناسق أجزائها، وما مدى تأثير الظروف التي أحاطت بالعالم إذ ذاك في هذا النظام، وأخيراً ما مقدار نجاحه في تحقيق فكرته؟
نظر الاسكندر حوله فوجد بين يديه فتوة وقوة يستطيع بها أن يناضل وأن يتغلب، ووجد العقبة الوحيدة التي قد تعترض طريقه، وهي الإمبراطورية الفارسية، قد تفككت وأصبحت على شفا الانهيار، وإذن فليحقق عالية عن طريق إمبراطورية يكسبها بسيفه، وليجمع بين الشرق والغرب في نظام يكون هو على رأسه، وهكذا يسيطر الاسكندر على آسيا الصغرى وسوريا وفينقيا ومصر، ثم يتوغل في آسيا حتى يصل إلى شواطئ المحيط، ويود الوصول
إلى الشواطئ المقابلة لولا أن تعاجله منيته.
عمل الاسكندر إذن على أن يوجد (المادة) التي سيطبق فيها نظامه العالمي، ثم انتقل إلى دور آخر، هو تطبيق النظام نفسه، وهنا تقابله المشكلة، فلكي يضمن تحقيق فكرته لابد أن يسيطر بنفسه على إمبراطوريته، ولكن إذا كانت هذه السيطرة الإمبراطورية مما يتفق ونظم الشرق، الذي جرب قبل ذلك نظام الإمبراطورية تحت سيطرة الفراعنة والفرس، فهي مما يتناقض تناقضاً تاماً مع نظام المدينة الذي درج عليه الهلينيون والذي قامت على أساسه الحضارة الهلينية.
وإذن فالاسكندر أمام مشكلة، إن وضع نظامه على أساس المدينة الحرة فقد ضاعت سيطرته، وضاعت بالتالي فكرته الأولى التي يرمي إليها من وراء هذه السيطرة، وهي العالمية. وإن قضى، في سبيل سيطرته، على نظام المدينة الحرة، فقد قضى على الحضارة الهلينية التي قامت هذا النظام، والتي كان يرمي قبل كل شيء إلى أن تسود (عالمه) الجديد.
فليفكر الاسكندر إذن في طريقة يسيطر بها على إمبراطوريته دون أن يقضي على الأساس الأول للحضارة، الهلينية، طريقة يجمع بها بين (ملكية) الشرق و (مدينة) الغرب.
وهنا يلجأ الاسكندر إلى خير طريق يربط بين النظم والأفكار على اختلافها وتباينها، ذلك هو الطريق الديني. ليسبغ الاسكندر على نفسه سمة دينية مقدسة، يجمع بها بين سيطرة الشرق والغرب، الذي تشغل الأفكار الدينية فيه إذ ذاك المقام الأول. . .
وهكذا يسعى الاسكندر إلى أن تكتسب سيطرته شكل الحق الإلهي، بل أكثر من ذلك أن يصبح هو نفسه إلهاً.
وهكذا نراه يحج في مصر إلى معبد آمون حيث يحصل على اعتراف من الكهنة بأنه ابن الإله (آمون)، ولآمون إذ ذاك مكانته سواء في مصر أو في العالم الإغريقي، الذي أخذ في ذلك الوقت يضعه في مصاف آلهته الكبار.
ثم تراه مرة أخرى في فارس يحيط نفسه بهالة كثيفة من الطقوس الدينية، والمراسيم التي تقدم إلى النار القريبة من عرشه، والتي تمثل فكرة الحق الإلهي للملك.
هذه محاولة للعالمية قامت في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد قضت بقضاء صاحبها، فهل
تنجح محاولات العالمية في القرن العشرين؟
لطفي عبد الوهاب
تساؤل واستفهام؟
قرأت معجم الأدباء لياقوت الحموي وهو المعجم الذي قامت بطبعه دار المأمون. وبعد البحث والاستقصاء لفت نظري خلوة من كثير من الشخصيات، إذ قد وجدت أن نخبة صالحة من الرجال البارزين لم تذكر في هذا المعجم. فإما أن تكون قد ضاعت من الأصل - وهو احتمال ضعيف - وإما أن يكون ياقوت قد أغفلها، وهذا هو موضوع التساؤل.
لقد كان في جملة من أغفل ذكرهم من الشعراء والأدباء شخصيات مختارة أمثال حسان بن ثابت والأخطل والكميت وجرير وبشار والبحتري وأبى تمام والمتنبي وابن زيدون وعمر بن أبى ربيعة وابن الرومي وابن المعتز وأبى فراس ومسلم بن الوليد (وقد ذكر ترجمة ولدُه سليمان)، ومن الأدباء والرواة والفلاسفة أمثال الحسن البصري والرئيس ابن سينا وابن سيرين والإمام أحمد والإمام أبي حنيفة والإمام مالك والبخاري ومسلم وعبد الحميد الكاتب والغزالي والفارابي والرازي والأصمعي وأبى بكر الخوارزمي وابن الزيات وعلي بن الفرات وعمرو بن مسعدة وابن خفاجة والفضل بن يحيى والفضل بن الربيع والحسن بن سهل وإسماعيل بن صبيح والحسن بن وهيب وبني موسى بن شاكر وأبى الحسن الأشعري والوزير محمد بن علي بن مقلة (أشار ياقوت في ترجمته لأخي الوزير الحسن بأنه سيذكره في بابه ولكني لم أعثر على ترجمة له) وعبد الله ابن قتيبة (ذكر ياقوت ترجمة لولده أحمد) وابن المقفع ويعقوب بن إسحاق الصباح الكندي ومالك بن دينار والقاضي الفاضل وغيرهم ممن يصعب حصرهم في هذه العجالة. في حين أنه ترجم لشعراء كثيرين منهم الفرزدق وصريع الغواني وأبو دلامة وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم ممن هم دون من أغفلهم شهرة ومنزلة، وهنا موضع التساؤل؟
إذا فرض أن ياقوت قد أغفل ذكر هؤلاء أو قسماً منهم فما هو يا ترى السبب الذي حمله على إغفال أمثال هذه الصفوة المختارة؟ وما هو السر في ذلك؟ وهل من الجائز أن يقال إنه تعمد عدم الترجمة لهم أو لقسم منهم لأسباب ودواع تمت إلى سياسة حكام عصره
ومسايرة ميولهم؟ تلك الميول التي ربما كانت لا تحبذ الترجمة لأحد من أولئك؟ وإذا كان كذلك فما هي تلك الميول، وهل كانت ظاهرة أمستترة؟ وما هي الدوافع لها؟ وإذا قال قائل إنه اقتصر في معجمه على شخصيات الأدباء فقط، فأقول إنه ذكر كثيرين ممن اشتهروا بالشعر دون غيره كما مر آنفاً. وقد ترجم للإمام الشافعي كما ترجم لأناس اشتهروا بالعلوم الفقهية والنحوية، أو في اللغة والقراءة. فهل لا يرى رجال الأدب اليوم أن إغفال ياقوت - إذا صح - لمثل تلك الشخصيات يعتبر نقصاً كبيراً في قيمة معجمه الأدبية، أو على الأقل إهمالا من ياقوت وغمطاً لحقوق أولئك الرجال؟ وهو يجب أن يتصف به كاتب أخذ على عاتقه تدوين حياة الناس. وإذا كان ياقوت قد قال إنه جعل معجمه قاصراً على من اشتهروا بالأدب؛ فما هو المقياس الذي يقيس به ياقوت الرجل ليكون أديباً في نظره؟ وما هو معنى الأدب عند ياقوت؟ وعلى أي شيء يشتمل؟ وهل إن الوراقين أو بعضهم - وقد حشرهم ياقوت في زمرة الأدباء - يعتبرون من الأدباء في العصر الحاضر؟
هذا بحث مقتضب جاء على عجل، إلا أنه لا يخلوا من حقائق كما أنه لا يخلوا من غوامض تريد من يزيح الستار عنها. فإلى أدباء العصر ولاسيما من عرفوا ببحوثهم القيمة واشتهروا بتحقيقاتهم العلمية والأدبية الثمينة أوجه قولي هذا راجياً أن يتفضلوا بكشف النقاب عما خفي واستغلق ولهم على ذلك شكر التاريخ وثناء الأدب والله الموفق.
(الزبير - البصرة)
احمد حمد آل صالح
شرح لامية العجم، سحر العيون، نزول الغيث
تعليقاً على ما نشره العلامة المحقق الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي في صفحة 181 من (البريد الأدبي) للرسالة الغراء بعددها 607 بتاريخ 19 فبراير سنة 1945 تحت عنوان شرح لامية العجم - لم أقف على المصنف المذكور لصلاح الصفدي مطبوعاً في بولاق والذي أعرفه من طبعاته المتداولة طبعة معوض فريد (المطبعة الوطنية) بالإسكندرية سنة 1290هـ وأخرى طبع المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1305هـ
أما كتاب (سحر العيون) المنسوب لأحد تلامذة شهاب الدين أحمد الحجازي الشاعر
المصري أحد علماء القرن التاسع فمطبوع طبعة حجر بمصر سنة 1276هـ
ومن بواعث الأسف أن (نزول الغيث) لابن الِدماميني لا يزال مخطوطا وتوجد منه أكثر من نسخة بدار الكتب المصرية فلعل هذا التعليق يهم المتتبعين لحركة النشر من قراء الرسالة الغراء، ومن الخير أن يدوّن للحقيقة والتاريخ.
يوسف كركور
شكر وتعليق
قرأت في (الرسالة) الغراء مقالاً للناقد الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن عن كتابي (محمد عبده) الذي ظهر منذ شهور في سلسلة (أعلام الإسلام) فوددت أن أوجه إلى الناقد الفاضل أحسن التحية للروح الجميلة التي أملت عليه مقاله الكريم الذي خصني فيه بكلمات طيبات، مما شاء له أدبه الجم وفضله الموفور. وودت أن أنوه أيضاً بسماحته وإنصافه، وهما خصلتان شريفتان من بين خصال أخرى محمودة تجلت في نقده لكتابي.
والواقع أن ما أورده صديقنا الأستاذ من ملاحظات على كتابي هو الحق البريء من الشبهات؛ وليس يسعني هنا إلا أن أهنئه على ما حباه الله من حدس صائب وذوق سليم.
غير أن لي تعليقًا على ملاحظتين وردتا في ثنايا المقال، وأرجو من هذا التعليق أن أبين الحقيقة فيما يتصل برسالة لي عن الأستاذ الإمام كتبتها أثناء بعثتي بأوربا، وقدمتها إلى السربون لنيل الدكتوراه في الفلسفة من تلك الجامعة، وتقوم وزارة المعارف المصرية بطبع تلك الرسالة وستظهر قريباً باللغة الفرنسية. وقد ظن الأستاذ محمد عبد الغني حسن كما ظن غيره أن كتابي عن (محمد عبده) في سلسلة أعلام الإسلام موجز لرسالة الدكتوراه، والواقع غير ذلك: فإن عنايتي في رسالتي الفرنسية كانت موجهة كلها إلى (آراء محمد عبده الفلسفية والدينية)، وبعبارة أخرى إلى فلسفة الأستاذ الإمام ومذهبه في الدين والأخلاق والاجتماع.
ولم يظهر من هذا البحث بالعربية إلا فصول مختصرة قلائل نشرت في (الرسالة) و (الثقافة) و (مجلة الأزهر) و (مجلة العلوم) أما (محمد عبده) في (أعلام الإسلام) فقد كتب خصيصاً لهذه السلسلة، ولم أقصد منه إلا التعريف بسيرة الرجل كما كان، لا كما يريده
بعض الناس أن يكون. وهذا ما أدركه الأستاذ محمد عبد الغني حسن، وكشف عنه بإشارات ألمعية وبيان نفاذ. وما أحسبني إلا قد انتهجت لهذه الغاية طريقا سويا مفتوحا لا عوج فيه ولا يحوجنا إلى بدعة (المفاتيح) هذه التي يجري وراءها بعض (المحدثين) في هذه الأيام.
أما ما استدركه الأستاذ الناقد من أنني لم أشر إلى المراجع التي وردت فيها أقوال من استشهدت بهم، فاستدراك ينصب لا على كتابي وحده، بل على أكثر الكتب التي ظهرت إلى الآن في سلسلة (أعلام الإسلام): لأن المجال أمام المؤلفين ضيق محدود، وهم كما رأى الأستاذ نفسه، (مقيدون بقدر الصفحات لا يتعدون حدوده). وأنا أؤكد لصديقي عبد الغني حسن أن هذا القيد الذي أشار إليه كان أثقل على نفسي من أي شيء سواه.
أما ما لاحظه الأستاذ عبد الغني من ورود بعض الأعلام بالحروف الأول دون ذكرها كاملة فمرجعه إلى أن تلك الأسماء إنما أوردتها كما هي في نصوص من كلام محمد عبده نفسه، ولم يكن يسعني أن أغير فيها ما دمت أنقلها اقتباسا (وقد وضعتها بين أقواس صغيرة إشارة إلى هذا)، ولم يكن ثمة حاجة ملحة للكشف عنها لأنها أسماء أشخاص مغمورين ممن لا خطر لهم وان كانوا من أصحاب المناصب الكبيرة. وعندي أنه كان من الميسور إغفال أسمائهم بالمرة، دون أن يؤثر ذلك في سياق الكلام أو يقلل من مغزى الرواية.
وأود أخيراً أن أوجه خالص الشكر إلى صاحب (الرسالة) الذي هيأ لنا هذه الفرصة الممتعة للوقوف على مثال طيب من النقد النزيه الصادر عن خلوص النية وسداد النظرة وصدق الشعور.
عثمان أمين
الحوماني في فلسطين
هبط فلسطين منذ أيام الأستاذ محمد الحوماني صاحب مجلة (العروبة) في بيروت، وناظم ديوان (حواء)، وناقل رسالة الأدب العربي إلى أمريكا. وقد احتفل به جماعة الأدباء في يافا، وألقى مختارات من شعره في قاعة المعهد البريطاني هناك. وأقامت له اللجنة الثقافية في جمعية الشبان المسيحية في القدس حفلة دعي إليها جمهور غفير من المثقفين، وأنشدهم في نهايتها كثيراً من قصائده العصماء.
حول كتاب (الفاروق عمر)
لا نريد أن نعرض هنا لتقريظ كتاب (الفاروق عمر) لسعادة الدكتور هيكل باشا، ولا لنقده، فذلك أمر لم يحن حينه، وإنما نحب أن ننبه وهم لغوي وقع في عنوان الكتاب، ذلك أن أصحاب اللغة من بصريين وكوفيين، نصوا على أن الاسم يتقدم على اللقب في جميع الأحوال، فيقال:(عمر الفاروق) ولا يقال (الفاروق عمر).
ويبدو أن الكاتب الكبير قاس اسم مؤلفه الجديد على اسم الكتاب السابق له المعنونَ (الصديق أبو بكر) ولا قياس في هذا، حيث لم تنص كتب اللغة على الترتيب بين اللقب والكنية كما نصت على الترتيب بين الاسم واللقب. ولعل سعادة الدكتور هيكل باشا يتدارك هذا الأمر في الطبعة الثانية من الكتاب، وفقه الله.
(الرمل)
منصور جاب الله
القصص
التعس. . .!
أقصوصة روسية
للأستاذ عبد اللطيف النشار
لست أعرف لماذا يعتقد كثير من الناس أن المقادير تعني بحظوظ الملوك والأبطال لا بالرجال العاديين، وأن الرجال العاديين لا شأن للأقدار بهم كأنها لا تلحظهم
لم يكن بطل هذه القصة من الملوك ولا الأبطال، ولكن الأقدار لم تكن في عناده أقل حرصاً على الانتصار منها في عناد (أوديب) الملك، حتى يظن المرء أنها تركت كل مشاغلها وتفرغت (لإيجور شيمو دانوف) مدة الثلاثين عاما التي قضتها في حرب معه.
ولد (إيجور) لأبوين غير معروفين لأنه لقيط. وكان مولده في قرية من قرى سيبريا. وترك عند باب تاجر من أغنياء التجار اسمه (إيجور) ومن ثم أطلق عليه هذا الاسم، وكان في الأعوام الأولى من حياته سعيداً تتهيأ له من أسباب الرفاهية ما لا يتهيأ أوفر منه لابن أمير.
وكان التاجر الغني وزوجه يقصران عنايتهما عليه حتى استثار بذلك حقد الأقارب وحسدهم، فألبساه الحرائر وأطعماه الشهي ونادياه بأحب الأسماء، وامتلأ الطفل والتف عوده، ولكن بقيت فيه نعسة الزيادة في الطعام. وهكذا ظل طول عمره ممتزج اليقظة بشيء من النعاس.
وكان شعره أصفر ناعماً وقوامه ممتلئاً قصيراً. ولكن سمنته مازالت تقل كلما كبر حتى صار هزاله محزناً في أخريات أيامه
لما بلغ السابعة من العمر مات اللذان تبنياه موتاً شنيعاً إذ تحطمت بهما عربة القطار، ولم يشك أحد في أنه أبنهما وكانت هذه النكبة أول حلقة في سلسلة أحزانه
وكان أول ما فعله ورثة التاجر أن جردوا (إيجور) من ثيابه الحريرية وطردوه من المنزل. ولقد كان الموت مقدوراً عليه في الطريق لولا أن رحماء آخرين أخذوه من الطريق فأرسلوه إلى الإصلاحية.
ولم يكن الطفل مذنباً ولكنه لم يكن هناك مكان يؤويه غير هذا المكان، وهكذا كان أمر المقادير. ولقد قبل الطفل هذا الانتقال من السعادة الكاملة إلى الشقاء الكامل بنفس وطنها على المذلة، وهناك عرف الضرب كما عرف الجوع، وسمى لصا فلم يغضب لشيء من ذلك ولم يتمرد، بل بدأ يستشعر الحب لهذا المكان ويخلص بقلبه لأولي الأمر فيه. ونسي سعادته الماضية كل النسيان فلم يعد يتألم من حالته الجديدة حتى ولا في معرض الذكرى ولعل المقادير رأت في هذا السلوان شيئاً من السعادة فأنكرته عليه. وذلك أن النار شبت في الإصلاحية ذات ليلة من ليال الشتاء فاحترقت المديرة وأبناؤها الثلاثة ونجا (إيجور) بعد أن تعرض للموت. وكان حاضراً في وقت إطفاء الحريق رجل من رعاة الغنم فأصر على يأخذه معه لأن البناء أصبح غير صالح للسكنى
وقال إيجور لراعي الغنم وهو ذاهب معه: (لعلهم يجددون بناء (الإصلاحية؟) وكان يقول ذلك وهو يبكي فأجابه الراعي لا تخف فان بناءها سيعاد)
وأخذه إلى مدينة (سمارا) ولم يلحظ الدافع الذي حدا بالطفل إلى إلقاء هذا السؤال. ولقد كان الدافع في الحقيقة هو عزمه على العودة بعد تجديد البناء. وهذا عمل لم يعمله إنسان من قبل، بل المعهود أن كثيرين قد فروا من الإصلاحية ولم يتطوع أحد بالذهاب إليها. ولكن هذا العزم يدل على مزاجه الخاص الذي ساعده على احتمال ما أصابه من الحوادث. ولقد كان الطفل بغريزته عدواً للتمرد فأنكر على نفسه الفرار من الراعي ليذهب إلى سجن الأطفال، ولكنه راجع نفسه في ذلك بأن ذهابه إلى السجن كان بدافع آخر هو الاستسلام للقدر الذي قضى عليه بأن يعيش في السجن
وفر الطفل من سمارا ثلاث مرات عاد فيها إلى سيبريا. ولكنه ضبط مرتين وضرب ضربا مبرحا، ونجا في المرة الثالثة، ولكنه ضل الطريق في مجاهل سيبريا. وعلى الرغم من ذلك فان الأخطار والمتاعب لم تضل عنه فقد كان الدب يطارده في الغابة، وقطاع الطرق يهاجمونه في الطريق، والأشرار يعتدون عليه في المدن. وكان إيجور يجوع أحيانا ليشتري (ياقة) ويخشى على ثيابه أن تتمزق ولهذا كان يفر من طريق الأشرار. وكان شريفاً على الرغم من إقدامه على سرقة الثياب مادام في حاجة إليها ولا يملك ثمنها، ولم يكن يعد هذا ذنباً.
ولما اعتاد هذه الحالة انطفأت نار شوقه إلى الإصلاحية وظل ينتقل من مدينة إلى مدينة حتى إذا بلغ السابعة عشرة وجدناه في تفليس عاملا في مصلحة التلغراف وكان مغتبطاً بهذه الوظيفة التي أهله لها حسن ملبسه وظل نظيف الثياب في الأعوام الثلاثة التي كان فيها مثالا لحسن الخلق والمعاملة. وشعر فيها السعادة التامة الماضية حتى كأنه قد نسيها
ولما بلغ الحادية والعشرين صار من دأبه التغني بأنشودة غرامية فسمعته فتاة ووهبته قلبها. ومن هذا العهد ظهر سوء الحظ مرة أخرى وكأنه كان مختفياً فجأة بشرٍ مرعب، فلقد ماتت هذه الفتاة بالجدري. وعلى الرغم من أن إيجور كان مطمئنا لكل هذه الحوادث فقد بدا أثر الحادث الأخير على وجهه فأفقده رواءه وارتسم عليه الهم والألم. وفي خلال هذا العام التحق بالجندية وكان يكره البحر وأسفاره ولكنه عين في فرقة البحريين في الأسطول واضطر إلى السفر في البلطيق فأصيب بمرض من أمراض البحر، وبدلا من أن يعطف عليه الجنود لمرضه صاروا يضحكون منه. وانقضى عامان كانت السفينة في خلالها راسية على بعض شواطئ أفريقيا، وكان أهل هذه الجهة من السودانيين الذين لا يعرف إيجور شيئا من لغتهم، ولم يكن معه مال ليعيش معهم ولكن هكذا شاء القدر أن يهرب من السفينة ويشرد في تلك المجاهل
ولم يزل يمشي حتى وصل بعد ثمانية عشر شهراً إلى القاهرة فتجددت له السعادة، لأن القاهرة خير مكان يستطيع أن يعيش هادئاً فيه. وتزوج واشتغل صانعاً في أحد المعامل، ولما كان قنوعا فقد اقتصد جزءاً من المال وعزم في النهاية على فتح حانوت لصنع الأحذية ولكن قبل أن ينفذ هذا العزم اعتقل صاحب المصنع وصودرت أمواله بسبب إفلاسه. وكان إيجور قد حفظ أمواله عنده فصودرت أيضاً.
في ذلك اليوم هرب إيجور من القاهرة ولم يزل ينتقل من بلد إلى بلد ومن صناعة إلى أخرى كاليهودي التائه، وركب البحر ثلاث مرات فغرقت السفن ونجا. وعلى الرغم من ذلك فقد ظل مطمئنا كأن الذي أصابه ليس إلا حوادث عادية يتعرض لمثلها كل إنسان.
وأخيراً وصل إلى نابولي فأخذ يبيع بها السلع متجولا. ومن هناك سافر إلى سويسرا وكانت لغته قد أصبحت مزيجاً من الروسية والعربية والإيطالية. وألف هذا النوع من الحياة وأمهله القدر فصار لا يتعرض لأخطار جديدة وايسر وبدا اليسار عليه.
ولكنه لم يكن قد تعود هذه الحالة فتاقت نفسه إلى المخاطر ليتعرض لصدمات الأقدار، فبدا في نفسه نزوع وحنين إلى ماضيه المستهدف، وان شئت فقل إنه أصبح في حالة عقلية قلقة بسبب الراحة التي لم يعتدها. وبالرغم من مقاومته نفسه فقد عجز عن كبح عزمه على العودة إلى مجاهل أفريقيا حيث تلفحه الشمس المحرقة ويتعرض لأذى الزنوج والحيوانات المفترسة
وسافر من مرسيليا على ظهر سفينة إلى الجزائر فغرقت السفينة على مسافة قليلة من الشاطئ الفرنسي فأعيد إلى باريس. ولكن ما الذي يفعله الباريسيون بمخلوق تعس كهذا. . .؟
وضعوه في معرض وكتبوا على قفصه (مخلوق تعس) وصار الأغنياء والأطباء والمفكرون يذهبون ليسمعوا منه قصته ويروا شكل جمجمته الصغيرة وعينيه الضيقتين ليصلوا إلى تعليل لتعاسته. ولكن كان ذاك على غير طائل
واستفاد إيجور من هذا العرض مالا كثيراً فعزم على استئناف العمل وعاد يعمل ويقتات. ولكن القدر أبى عليه أن يستريح فتشبثت بذهنه فكرة لم يستطع إلا تحقيقها وهي أن يعود إلى سيبريا فيبحث عن أمه المجهولة، فعاد، ولما وصل إلى روسيا كانت الثورة قد نشبت فجردته من أمواله عصابات اللصوص والته في خندق. وأبى عليه حظه أن يموت فيستريح ومن أجل ذلك نجا بأعجوبة واستأنف تجواله، ولما وصل إلى القوزاق اشتغل كاتباً وكادت الراحة تعرف طريقها إليه ولكن التفكير في أمه لم يتركه. ولذلك سافر إلى سيبريا
ولما وصل إلى البلدة التي ولد فيها كان قد بلغ الثلاثين من العمر، وفي يوم وصوله وكان جواز السفر الذي ابتاعه من موسكو قد باعه إياه رجل اتضح أنه مجرم سياسي محكوم عليه بالإعدام - في يوم وصوله وقع هذا الجواز في يد الحكومة فأعدمت (إيجور) بغير تحقيق. . . اعتقاداً منها بأنه ذلك المجرم السياسي
وهكذا شنق إيجور فلم يبكه صديق أو قريب ولم يذكره ذاكر، وهل يذكر الناس من ضحايا الأقدار غير الأبطال والملوك؟
عبد اللطيف النشار
المسرح والسينما
فيلم (أحب البلدي)
تأليف وإخراج حسين فوزي
إنتاج شركة أفلام الشباب
القصة
قامت فكرة القصة - إن كانت لها فكرة - على أساس الإشادة بطبقة (أولاد البلد) والتنديد بالطبقة (الراقية) تنديداً أحسب أنه لا يتفق مع الواقع في كثير ولا في قليل. ولست أدري لماذا يعتمد أكثر المخرجين عندنا على عرض هذه الفكرة بالذات في أكثر أفلامهم؟! وإن كنت أدرى أن الفن أكبر من أن يستغل في هذا التملق الرخيص المبتذل، وليس بمعقول أن حياة الطبقة الراقية أو الطبقة الغنية عندنا تنحصر في (الرجس والخمر والميسر) وحياة (أولاد البلد) كلها (شهامة ورجولة وكرم)، وإنما المعقول أن لكل طبقة - على وجه الأرض - مزاياها وعيوبها، وأعتقد أنه من الخير لأهل الفن في مصر أن يدعوا هذا التهريج الأجوف ويعملوا للفن وللفن وحده يمكن أن يوجد عندنا نهضة فنية صحيحة.
الإخراج
حفل الإخراج بفجوات متعددة في أغلب المشاهد. مثال ذلك:
أقام (عادل) حفلة خيرية لجمع التبرعات لمساعدة (الأسطى إبراهيم)، ولم يحضر هذه الحفلة إلا نفر قليل من أبناء البلد. فكيف تسنى له أن يحصل على ثمن (جوز خيل) مع أن أي تبرع لم يزد عن خمسين قرشاً، وكيف هربت (شربات) من المنزل وأين كان أبوها وأين كانت أمها؟! وكيف غادر عادل منزل أبيه مطروداً ولم يتدخل جده في هذه المسألة؟! وكيف يشفى مريض قرر الطبيب أن مرضه خطير بكلمة (بابا وماما)؟! وكيف تذهب نازك إلى منزل لم تعرفه من قبل ولم تسأل أحداً عن مكانه، وكيف تركها والدها تذهب إلى ذلك المنزل في منتصف الليل بدون مبرر؟! وما الداعي للمشاجرة التي حدثت في (الصالة) وكان من الممكن عدم حدوثها بكلمة، وما هو عمل مختار في (الصالة) وبأي حق يضرب
(زبون) ولا يتدخل أحد؟! وكيف عرف (الأسطى إبراهيم) نبأ اشتغال ابنته بالرقص؟! ولماذا لم يمنعها من ذلك إذا كان لا يوافق على اشتغالها بالرقص؟! وهناك أخطاء متعددة لا يتسع المجال لسردها فنكتفي بهذا القدر.
التمثيل
قامت تحية كاريوكا بتمثيل دور (شربات) فنجحت فيه، والذي لوحظ عليها أنها عندما كانت تبكي في بعض المواقف تبدو كأنها تبتسم، وقام الأستاذ أنور وجدي بتمثيل دور (عادل) فعرف كيف يقوم به على أكمل وجه. وقام الأستاذ محمود المليجي بتمثيل دور (شوكت بك) فوفق على الرغم من أن الدور لا يناسبه. وكذلك وفقت سامية عبد العزيز على الرغم من أنها أصغر من أن تكون (أم عادل) وكذلك نجح الأساتذة: حسن فايق - مختار حسين - كامل الصاوي - أما شكوكو فننصح إليه أن يخفف من (تهريجه) وأما شافية فقد نجحت كمطربة فقط.
الأغاني
أحسب أنهم لم يأتوا فيها بجديد تأليفاً وتلحيناً.
التصوير والديكور والصوت
بدت أكثر المناظر رديئة، ولم يكن الديكور متقنا، ولم يكن الصوت واضحاً.
كلمة أخيرة
أعتقد أن الوقت قد حان ليراجع أصحاب الشركات السينمائية أنفسهم من حيث الطريقة التي ألفوا إخراج أفلامهم بها (أو) عليها، فالهدنة قد قربت، والأفلام العالمية سوف تغرق سوقنا (ناطقة بلغتنا) مقدمة لنا خير الموضوعات لأخلد المؤلفين فما بالنا نحن لا نزال نعتمد على إقحام (الغناء والرقص والتهريج) في كل فيلم غير مبالين أن يجيء موضوعه تافهاً، وسياقه مفككاً. . . مع أن شيئاً من العناية بالقصة والقاص يوفق بين المزاج الشعبي الذي يريده أصحاب الشركات والنجاح الفني الذي يقاوم - إلى حد - طغيان الفيلم الأجنبي. . . لكلم أتمنى أن يراجع (تجار السينما) في مصر أنفسهم!!
عبد الفتاح متولي غبن