الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 612
- بتاريخ: 26 - 03 - 1945
معروف الرصافي
1875 -
1945
نعى العراق هذا الأسبوع شاعره الباقي، فوجمت لمنعاه ألسن، وجزعت لفقده نفوس! ثم قرأنا أن بغداد قد غسلت شاعرها الراحل بالدموع وشيعته بالحسرات، وكنا قرأنا من قبل أن الرصافي في أعقاب عمره كان يطلب الغذاء الكفِيّ فلا يجده، ويلتمس الدواء الضروري فلا يناله!
لفظ معروف الرصافي أنفاسه الأخيرة في حجرة مظلمة مقرورة لا
يلطف جهومتها نور ولا نار، ولا يخفف وحشتها خليط ولا جار؛ ولم
تقع عينه الشاخصة وهو في نزاع الروح إلا على ورقة هنا وكتاب
هناك، أو على خادمه الأمين يتماسك لحظة ويتهالك أخرى، والدنيا
التي صحبها الشاعر سبعين عاماً يدل على جمالها العيون، ويغري
بمتاعها الأفئدة، لم تُجد عليه ساعة الوداع بيد رفيقة تغمض عينيه، ولا
بعين حبيبة تذرف دمعة عليه!
كان الرصافي - أحسن الله إليه - لسان العراق الصادق، ينقل عن شعوره، ويترجم عن أمانيه، ويحدو لركبه المجاهد في سبيل استقلاله وعزته بالحداء الحماسي المطرب، ويصور خلجات نفسه ووساوس أحلامه بالشعر الصريح المعجب؛ وظل هو والزهاوي وشوقي وحافظ ومطران حقبة من الدهر يؤلفون الأوتار الخمسة لقيثارة الشعر العربي الخالص. ولكل وتر درجته في الرنين والجهارة والأثر.
والرصافي أشبه بحافظ من الزهاوي بشوقي. وإن شئت فقل كانا الوترين الرابع والخامس في القيثارة: صوت عريض ضخم، وذبذبة ضيقة محدودة.
كان هذان الشاعران يتشابهان في أسلوب العيش وأسلوب الفكر. كانا صدًى لهتاف الجمهور في السياسة والاجتماع، ورجعاً لأنين المساكين في الألم والشكوى. وكانا يتقاربان في جوانب من ضيق الثقافة وقلة الاطلاع وبوهيمية الحياة. ولكن الرصافي كان متميزاً على
نظرائه جميعاً بالصراحة الجريئة والاستهتار البالغ. كان يعيش ليومه وينطلق على هواه ويستجيب لغريزته، فيفعل ما يشاء، ويقول ما يعتقد، ويطلب ما يشتهي، ثم لا يبالي أين يقع ذلك كله من رأي غيَره. ولا مراء في أن لهذه الحرية المطلقة أصلاً في مولده ونشأته. كان أبوه من بدو الكرد وأمه من بدو العرب. وكانا فقيرين فولداه ببغداد في مهد بدوي خشن. ثم نشَّآه على أخلاق البادية الأصيلة. ثم أرخيا له الحبل وتركاه يعدو ويروح على مقتضى فطرته. ثم تبناه بالروح عالم العراق الأستاذ محمود شكري الألوسي فلقنه في اثني عشر عاماً أصول المعقول والمنقول من علوم الدين واللغة والأدب. ثم حاول أن يقبسه أشعة من نور سلفيته وتقواه، ولقبه بالرصافي رجاة أن يخلف معروفا الكرخي في صوفيته وزهده. ولكن غرائز معروف كانت أقوى، ومطامحه كانت أبعد، فخرج من هذه الرياضة الطويلة مسلم اللسان جاهلي القلب.
ووجد الرصافي العراق على فترة من الشعراء ينتظر أبا نواسه المبعوث، فصدح على ضفاف الرافدين صدحاته المعروفة فأصغت إليه الأسماع واهتزت له القلوب. ورأى الناس في أمثال قصائده:(المطلقة) و (أم اليتيم) و (اليتيم في العيد) أسلوباً من الشعر لم يعرفوه فأكبروه. وحاول أن ينفض عن نفسه غبار المتربة فزاول التعليم في المدارس بغداد. ثم كان من الذين صارعوا استبداد عبد الحميد بقوافيه المسمومة؛ فلما خر الطاغية وأعلن الدستور تعاظمه النصر وازدهته الشهرة، فاعتقد كما كان يعتقد الشعراء أن له أن يقول وعلى الناس أن يفعلوا، وأن له أن ينفق وعليهم أن يبذلوا. فذهب إلى الأستانة يطلب المجد بواسطة شعره، فكان قصارى أمره أن يكون خوجة في مدرسة أو محرراً في صحيفة. ثم سما به الحظ درجة فانتخب نائباً في مجلس (المبعوثان) عن لواء المنتفق؛ وظل في عاصمة الخلافة مدة الحرب الماضية حتى أعلنت الهدنة. وكانت ثورة العرب على الترك يومئذ قد انجلت عن عرش أمية في دمشق يجلس عليه فيصل الأول، ومن حوله سيوف الثورة وألسنتها من أمثال ياسين ونوري وجعفر ورستم وساطع. وجاء الشاعر الطماح يبحث عن مكانه في الدولة العربية الجديدة فلم يجد. فانقلب بعد طول الصبر وإدمان السعي إلى فلسطين خائب الأمل كاسف البال يبتغي العيش فيها من طريق التعليم. فلما انتقل العرش الهاشمي من الشام إلى العراق سنة 1921، عاد الرصافي إلى وطنه ورجا أن ينال
في بغداد ما لم ينله في دمشق. وتهيأ خليفة النواسي لينادم خليفة الأمين، وإذا الأمل الفسيح والطموح البعيد يسفران عن وظيفة في وزارة المعارف! حينئذ تفجر غيظه المكتوم على السلطان ورجاله فأعلنها شعواء بالهجاء المقذع والتهكم الفاحش. ووسعه (معاوية بني هاشم) بحلمه، وتغمد إساءته بإحسانه، ففتح له الطريق إلى مجلس النواب ثم عاد فأغلقه دونه.
ونال الخذلان والحرمان من نفس معروف ومن جسده ففتر نشاطه وتراجع شعره، ورضي من دهره بالمهلكات الثلاثة: شرب العرق ولعب الورق واستباحة الجمال!
وعلى هذه الحال المضنية أدركه الفقر والمرض والموت دون أن يجد آسيا من إيمانه، ولا مواسياً من إخوانه!
قلت لصاحبي ذات ليلة من لياليَّ في بغداد: أريد أن أزور الرصافي فقد زارني مراراً ولم أزره. فقال: أتشجع على أن تدخل حي البغايا؟ فقلت له: وما صلة هذا بذاك؟ فقال إنه يسكن بينهن، وقد تزوره واحدة أو أكثر منهن. فقلت له: هلم، فما يسع زواره من العذر يسعنا. ودخلنا البيت فإذا هو بيت الشاعر الأعزب المتلاف، لا أثاث ولا نظام ولا حرمة. وكلمة الشاعر هنا بدل الأديب تدلك على أن ليس بالمنزل مكتب ولا مكتبة؛ فقد كان الرجل لا يقرأ، وإنما كان يتكئ على شدة ذكائه وحدة فهمه، ويكتفي بما حصل في شبابه من أدبه وعلمه. كان في الردهة قوم يأكلون ويشربون، وفي حجرة النوم آخرون يسمرون ويلعبون، وكان الرصافي يتصدر هؤلاء، في يمناه كأس، وفي يسراه ورق. فلما رآني فض اللعب وأقبل بأنسه عليّ. ثم أخذ يشرب ويتحدث بالغة العارية عن الحقائق العارية في غير اكتراث ولا تحفظ. ويظلم الرصافي من يقيد عليه في مثل هذه الحال. ولكن نداماه يروون شعره أو يذيعون حديثه فيبلغ صاحب المُلك فيغضب، أو صاحب الحكم فيعجب، أو صاحب الدين فيصخب، أو صاحب الخلق فيثور. وكل أولئك يعادون الرصافي، ولكنهم يهابونه لشخصيته، ويحترمونه لعبقريته، ويتربصون به سوء المصير
هذه صورة مصغرة لحياة الفقيد الكريم، أما عقيدته فالأمر فيها لله لا للناس، وأما شاعريته فالحكم عليها للناقد لا للمؤرخ. وقد يكون لنا إليها عودة. . .
احمد حسن الزيات
الرقص.
. .
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
نشر أحد الكتاب مقالة صالحة في (البلاغ) الغراء ذكر فيها الرقص وبيّن محاسنه، وحض الناس عليه. والرقص شيء حسن لا يجادل في فضائله وحسناته مؤمن
(الرقص) شيء حسن
…
ليس به من حرج
أقل ما فيه ذهاب
…
الهم عن قلب الشجي
وقد كان الآباء المتقدمون يتعلمون الرقص ويرقصون. ولإسحاق الموصلي (كتاب في الرقص والزفن) ذكره ياقوت في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)
وفي (السيرة الحلبية): (عن أبي بشر أن النبي وأبا بكر مرا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون فلم ينكرعليهم، وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا من التكسر)
وقال ابن عساكر في تاريخه الشهير:
(كان العباس بن الوليد بن عبد الملك فارساً سخياً، وكان يقال له فارس بني مروان، وافتتح مدناً وحصوناً من بلاد الروم. وكان الوليد يجد بالعباس ابنه وجداً شديداً، وكان له من قلبه أحسن موقع، فأدبه بجميع الآداب حتى علمه الرقص وضرب الطبل)
وفي كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطب): (كان المنصور بن أبي عامر)(سلطان الأندلس) قد عزم في يوم على الانفراد. فأمر بإحضار من جرى رسمه من الأدباء والندماء، وأحضر الوزير (أحمد بن شهيد) في محفة لنقرس كان يعتاده، وأخذوا في شأنهم. فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله، وطما الطرب، وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا، وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى أبن شهيد. فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس فجعل يرقص وهو متوكئ عليه، ويرتجل، ويومئ إلى المنصور وقد غلبه السكر:
هاك شيخاً قاده عذر لكا
…
قام في رقصته مستهلكا
لم يطق يرقصها مسثبتاً
…
فانثنى يرقصها مستمسكا
عاقه عن هزها منفرداً
…
نقرس أخنى عليه، فتكا
من وزير فيهمُ رقاصة
…
قام للسكر يناغي ملكا
أنا لو كنت كما تعرفني
…
قمت إجلالاً على رأسي لكا
قهقه الإبريق مني ضاحكاً
…
ورأى رعشة رجلي فبكى
وهذه قطعة مطبوعة وطرفها الأخير واسطتها. وكان حاضرهم ذلك اليوم رجل بغدادي حسن النادرة سريعها، وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه. فلما رأى ابن شهيد يرقص قائماً مع ألم المرض الذي يمنعه من الحركة قال: لله درك يا وزير! ترقص بالقائمة وتصلي بالقاعدة. . . فضحك المنصور، وأمر لابن شهيد بمال جزيل ولسائر الجماعة وللبغدادي)
وفي (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار): (قال محمد بن المؤمل: كنت مع أبي العتاهية في سميرية ونحن سائرون إلى (أشموني) فسمع غناء من بعض تلك النواحي فاستحسنه وطرب وقال لي: أتحسن أن ترقص؟ فقلت: نعم.
فقال: فقم بنا نرقص.
فقلت: في سميرية؟ أخاف أن نغرق.
قال: إن غرقنا أليس نكون شهداء الطرب؟. . .)
وفي (كتاب الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني: (قال عبد الله ابن جعفر: يا غلام، مر فلانة أن تخرج، فخرجت معها عود، فقال عبد الله: إن هذا الشيخ (يعني صديقاً له) يكره السماع. فقالت: ويحه! لو كره الطعام والشراب، كان أقرب له إلى الصواب. فقال الشيخ: فكيف ذاك وبهما الحياة؟
فقالت: ربما قتلا وهذا لا يقتل. فقال عبد الله: غني
لمن ربع بذات الجيش
…
أمس دارسا خَلَقا
فغنت، فجعل الشيخ يصفق ويرقص ويقول:
هذا أوان الشد فاشتدي زِيَمْ ويحرك رأسه، ويدور حتى وقع مغشياً عليه. . .)
وذكر القوصي في الوحيد أنه كان للشيخ ابن الفارض جوار بالبهنسا يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد
وللشيخ برهان الدين القيراطي:
حبذا مجلس أنس
…
ضمنا بعد شتات
مجلس يرقص فيه
…
طرباً قاضي القضاة
وفي (يتيمة الدهر) لأبي منصور الثعالبي: كان القاضي التنوخي في جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على التبسط في القصف، وهم ابن قريعة وابن معروف والقاضي التنوخي وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، كذلك كان الوزير المهلبي، فإذا تكامل الأنس، وطاب المجلس، ولذ السماع، وأخذ الطرب منهم كل مأخذ - وهبوا ثوب الوقار للعقار، ويرقصون أجمعهم. وإياهم عنى السري بقوله:(مجالس ترقص القضاة بها) فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في التوقر والتحفظ بأبهة القضاة، وحشمة المشايخ والكبراء.
هذا قليل من كثير من أخبار الرقص والراقصين من السلف الصالح، فكبيرة أن نحرم ما حللوه، وأن نستهجن عملا قد استحسنوه، وهم الناس عندنا، وهم لنا قدوة. بيد أنّا نقول: إلا يرى الكاتب الفاضل والعقلاء من أهل الرجولية والحزم أنا (معشر العرب) أحوج في هذا الوقت إلى إتقان فن (الإنقاذ) منا إلى تعلم فن (الرقص)؟ و (اليوم أمر وغداً خمر) وأنا حقيقون أن نتمثل بما تمثل به البطل الأموي (عبد الملك بن مروان) حين أقبلت عليه تلك الحوراء الباهرة وهو في محرابة (أبن الأشعث):
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
…
دون النساء ولو باتت بأظهار
حتى إذا نجونا مما نحن فيه أجبنا داعي الطرب، ورقصنا الرقص العجب؟
الواحد!.
. .
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
(البحيرة الكبيرة من المنبع الصغير هذه الحرب من قلب
واحد. صمامات التيارات العظمى. الفرد المنشود عالم معقد
التبادل بين الفرد الواحد والإنسانية الجامعة. توزيع الدنيا على
الأفراد والأفراد على الدنيا. من جذور الشجرة الإنسانية إلى
ثمارها. لابد لحياة الشجرة من اعتراف كل جزء فيها بكل
جزء)
تظهر بوضوح قيمة الفرد البشري الواحد، ومبلغ آثار تصرفه، في تدبير تشرشل أو هتلر أو روزفت أو إينونو أو أبن سعود أو ستالين أو أيزنهاور أو أمثالهم. فإن تصرف أحدهم يجر على أمته إما الحسن والفخار، وإما السوء والدمار.
ففي أمثال هؤلاء يتبين كيف يجر فرد واحد العالم، أو شعبه وراءه فيخفضه أو يرفعه. ومعنى هذا أن الفرد البشري ذو قيمة كبرى في حياة الاجتماع، وأن وضعه هذا يحتم عليه وعلى الدولة أن يحترسا دائماً من سوء تصرفاته، وما يجلبه على الاجتماع من الضرر.
فتصرف الفرد في الحياة الاجتماعية أشبه بتصرف ماء مستبحر من ثلم رخو، على أرض منخفضة، يبدأ ضعيفاً، ثم لا يلبث أن يتحول سيلاً حَدوُراً لا يستطاع ردُّه.
ومهما قيل في حكم الديمقراطية المطلقة، والشورى الفضفاضة، فروح الانتقال والبطولة، وفتح آفاق جديدة تتركز غالباً في فرد واحد. وخصوصاً عند الأزمات الخطيرة، ويكون هذا الفرد حينئذ كموضع نبع الماء في البحيرة التي يكونها، ويكون آثاره وعظمته بها. فموضع النبع صغير، ولكنه هو البحيرة الكبيرة في الواقع!
وكيف انبثق هذا الدمار في هذه الحرب على العالم؟ لقد انبثق من قلب رجل واحد ملئ قلبه بالحقد والضغينة على الذين رآهم لم ينصفوا أمته. وتجمع الحقد والضغن في قلبه، كما يتجمع القيح والصديد والرَّحَضُ في رأس خراّج، فيصيب جسم أمته بالحمى والرعدة، ولا
يمكن سده إلا بعد التصفية النهائية.
فهل بعد هذا يحتقر بعض الأمم شئون الفرد الواحد ويتركونه مهملاً، زاعمين أنه لا وزن له إزاء الأمة أو العالم؟!
وهل قام الخير، أو قام الشر إلا بواحد؟ الواحد هو أساس العدد اللانهائي.
وهكذا إذا أراد الله أن يتصل بالناس جميعاً اتصال تغيير في نظمهم المعاشية والسياسية والدينية، وضع يده في قلب واحد، وسلط منه تياراً خفياً على الجميع. فإذا كان يريد خيراً بالعالم أطلق تيار الخير من قلب رجل خير، وإذا كان يريد نقمة وقصاصاً أطلق تيار الصعق والحرق السريع أو البطيء من قلب رجل شر.
فلنجتهد أن نجعل قلوب الأفراد مواضع ليد الله حين يريد الخير.
والعناية والمشيئة الإلهية التي تخرج وجوه الناس ونفوسهم وعقولهم صوراً شتى متمايزة مهما كثرت الأعداد، بحيث لا يتشابه وجهان، ولا يتماثل عقلان في كل شيء حتى ولو كانا لتوأمين، ترشدنا إلى أن نرى في كل فرد جانباً متميزاً من الإنسانية، وأنه موضع عناية وقصد من مخرجه.
ولو فهمت الدولة قيمة القصد في الفرد الواحد وخطره في الحياة في حالتي صلاحه وفساده، إذن ما كانت تسمح لنفسها أن تترك فرداً دون أن تمر عليه بمنظار مكبر يكشف عن أدوائه ومنافعه.
فالفرد إما بؤرة ظلام نجس وفساد متنقلة تحمل الجراثيم الفتاكة معها حيث حلت. . . وإما بؤرة صلاح وطهارة وإشعاع تحمل وتعكس عوامل الحياة والجمال معها حيث حلت. وشتان ما بينهما! فكيف تهمله الدولة هذا الإهمال الشنيع وهو ما هو في جسمها؟!
لو أفلت فرد شرير شيطاني من قيادتها وحراستها إذا لعاث فساداً في حرثها ونسلها وعمرانها. ولو ضاع فرد ملكي من رعايتها وتعهدها وتشجيعها، إذاً لضاع عامل عظيم من عوامل نموها وارتقائها وسعادتها. ولعل فيه ما يرفع النوع كله.
ويظن أكثر الناس أنه يكفي لإنشاء (الفرد الإنساني) أن تطرح بذرة منوية في رحم من الأرحام، تولد بعد مدة، فتنمو حتى تكون ذلك الجسم المعهود الذي يملأ أسواق الحياة، ونسوا أنهم في إنشاء شجرهم وغراسهم وحيوانهم يسلطون يقظتهم وعملهم وتعهدهم الدائم،
حتى يحصلوا على ما يريدون من الأصناف المطلوبة المرغوبة. وأنهم يستهترون ويحاربون الآفات التي تدنو من حرثهم وحيوانهم.
إلا إن الإنسان المنشود عالم معقد ليس الجسم الظاهر إلا وعاءه وقالبه! أما سره ومعناه ولبابه كما يريد رب الحياة من (النوع) فأمور لا تظهر إلى عالم الاجتماع إلا إذا اجتمعت لها عوامل الحياة الصالحة بنسب موزونة.
وإن الروح التي عنها يتحدثون هي نتيجة تفاعل الحياة الحيوانية في الجسم مع نتائج التربية والبيئة والتعليم وجميع المؤثرات. إنها كائن ينفصل عن الجسم كنتيجة وجود هذه العوامل الأرضية المختلفة. وإن من أدواتها ذلك اللوح الخفي السريع التأثر الذي ينطبع فيه ما يقع عليه، أو يتخايل أمامه من المؤثرات.
فالذين يلقون بذور الإنسان في الأرحام ولا ينتقونها قبل إلقائها، ولا يهيئون الجو الصالح وهي في مستودعها، ولا البيئة الصالحة وهي في نشأتها، ويتركونها هكذا تتداولها العوامل الطبيعية مصادفة؛ هؤلاء ينبغي ألا ينتظروا من الحياة أن تعطيهم تلك الوحدات الإنسانية المنشودة القريبة من الكمال في صفات نوعها.
والإنسانية ملك الفرد، والفرد ملك الإنسانية. وما كان من المستطاع أن يحصل الفرد الإنساني ما يحصله الآن من الأفكار والمعلومات والتجارب والأرزاق والمتاع لو أنه عاش فريداً متأبداً، أو لو أنه اعتزل حياة الاجتماع.
فنحن جميعاً بازاء بحار المعاني يأخذ كل فرد منا غرفة منها يلونها في إنائه الخاص، ثم يقدمها إلى غيره من الناس. وكلما أضيف فرد إلى المجموع زاد أفق من آفاق الحياة في الأرض. ولن يمكن أن يحل فرد محل آخر، فان كل ثمرة إنسانية لها سر خاص لا يرى في سواها. وإني ما أجلس مع فرد ما إلا أرى فيه صورة للدنيا لست أراها في مجلس مع غيره.
ومن العجيب أن كل فكر يريد أن يطبع الإنسانية على غراره ويحملها على حياة تصدق منطقه، مع أن التوزيع والتمايز بين الوحدات الإنسانية قانون مطرود.
وينطوي فكر كل فرد على صورة للدنيا غير الصور التي في أفكار الآخرين، فكل فرد يرى الدنيا من خلال نفسه، والأكوان عدد العقول.
وما أعجب أن تنظر إلى وجوه الناس ورءوسهم! إنها صفحات يبدو للناظر العجلان أنها سطحية ضحلة. ولكنها للناظر المتملي المتفرس تقذف به إلى لا نهائية ذات أعماق. والعيون هي مسالك تلك الأعماق!
وكذلك يثير وجه كل فرد وعقله صورة من صور الدنيا. وكل فرد كأنه الحياة كلها مستقلة. حتى ليخيل إليك أن الدنيا الإنسانية تنقص بموت فرد واحد، وأن مكانه لا يملؤه غيره سواه علا أم سفل، علم أم جهل. فتوزيع الدنيا على الأشخاص، وتوزيع الأشخاص على الدنيا يعطي صورة فنية أو حبكة مسرحية يحشد فيها الفن الرفيع والإخراج البديع.
ولذلك قالت التوراة والقرآن: (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً. . .)
ومن هنا جاءت قداسة الحياة الفردية في الشرائع، واستنكر الاعتداء عليها استنكاراً إجماعياً. وقد أعطت الإنسانية الفرد حرية تخيلتها لنفسها واستوحتها من إحساسها العام وضميرها المشترك.
والإنسانية كجسم شجرة واحدة، فيها جذور لا بد أن تعيش في الطين والظلام والعفونة لتحلل غذاءها وتأخذه عناصر بسيطة تركب منه ما تشاء من اللباب والقشور والأزهار والثمار والعطور إلى آخر ما في عالم الأشجار.
وفيها سيقان لا بد منها لتحمل غيرها وترفعه إلى عالم الجو والضوء والنسمات.
وفيها أوراق تبلغ من الكثرة حداً كبيراً يرتفع إلى مستوى الزينة ويشترك في صميم العمل الضروري لحياة الشجرة، لأنها رئات يتنفس بها الشجر.
وفيها أزهار وهبها واهب الحياة العطر والجمال، وأخرج فيها روحاً خاصاً يخيل للناس أنها ليست من عالم الطين والعفونة والتحلل والظلام.
وفيها ثمرات هي صناديق أسرار الشجرة ومستودع حياتها المقبلة. وهي روح الشجرة تحمل سر نوعها من الماضي للمستقبل.
ولا مفر من اعتراف كل جزء من الشجرة بكل جزء آخر لتحيا جميعها. ولا بد أن يعلم كل جزء أنه وضع في موضعه الرفيع أو الوضيع ليخدم نفسه ويخدم الجميع. والسفالة في الموضع أو العلو فيه، والعلانية أو الخفاء كلها نظرات اعتبارية في الظاهر، والحقيقة أن
نصيب العمل واحد، والنتيجة واحدة: هي حياة الشجرة بحياة أجزائها، وحياة الأجزاء بحياة الأم.
وينبغي ألا ينظر جزء من الشجرة لآخر، وإنما ينظر لليد التي وضعته في كل ليؤدي دوره وخدمته، ويكفي عزاء لما سفل واختفى أن حياته كثيراً ما تكون أثبت وأدوم مما علا.
ويكفي عزاء لما علا وارتفع عن سرعة فنائه أنه أجمل وأشهر. وكلا المعنيين جدير أن يحار بينه وبين قسيمه الاختيار.
إلا إننا ممثلون نؤدي أدواراً يرسمها ويحملنا عليها مؤلف رواية الحياة ومخرجها، بديع السموات والأرض! فينبغي أن نعرف مواضعنا الحقيقية من الكون، وأدوارنا فيه نؤديها على أكمل وجه، ثم نختفي وراء (الكواليس) إلى يوم إصدار الرواية الأخرى التي سنؤديها في المسرح الأكبر، في الكون الواسع!
فقط اضمنوا لكل عامل بارع مهما كانت مواد عمله خسيسة أو كريمة مكافأة وتكريماً وتعظيماً لمواهبه. ولا تقصروا اهتمامكم وتمجيدكم على الأجزاء الرفيعة الملونة المزوقة من شجرة الإنسانية: والساسة والحكام والأثرياء، ومن إليهم من الذين خصهم المجتمع الجاهلي بالاحترام، بل امنحوا وقدموا ذلك الاهتمام والتمجيد لكل عامل بارع في عمل من أعمال الحياة الإنسانية، تتفتح لكم أبواب من سعادة الحياة ما كنتم تتصورون أن وراءها شيئاً ذا قيمة وتأثير في حياتكم يعادل تأثير السياسة والحكم وما إليها.
اقضوا على تخصيص الحكام وذوي السلطان والثراء بتعظيمكم وخشيتكم، وانظروا لغيرهم كذلك من العمال والكناسين وغيرهم وكرموهم كرامتهم، فان لهم في الدولة أثراً لا بد منه كآثار (أصحاب الدولة)!.
عبد المنعم محمد خلاف
اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كلمبس
للآنسة دولت حسن الصغير
نشر في مقتطف فبراير الماضي نص خطبة ألقاها الأب الفاضل أنستاس الكرملي، بين فيها أن أبناء يعرب القدامى اختلفوا إلى جزر القصدير ببحر المانش، وعرفوا تيار الخليج واتخذوه لهم ناقلا إلى تلك الربوع المعروفة الآن باسم المكسيك. واستدل على ذلك من الأسماء العربية للحيوان والطير التي تعرف بها إلى اليوم في تلك البقاع.
وكنت أحسب قبل مطالعة كلمته الرائعة، أنه سيورد من المراجع العربية ما يثبت أن من أبناء قحطان من اقتحم البحر المحيط ليرى ما به من الأخبار والعجائب ويقف على نهايته. غير أن الأب - أبقاه الله ذخراً للعروبة - اعتمد في كل ما قرره على مصنفات الأغراب فحسب، إلا ما وجده نبها بنفسه.
وليس لي أن أفند ما جاء به العلامة من تحقيقات لغوية، فما إلى هذا رميت في هذا المقال - ولكنني سأعني بالتحدث عمن ركب من العرب البحر المحيط قبل أن يركبه كلمبس، معتمدة على ما جاء بالمصادر العربية
ثبت قطعاً أن خرستوف كلمبس ليس أول من حط رحاله بالدنيا الجديدة، ولكن رحلته إليها هي التي فتحت أعين الناس على هذا العالم الجديد، فبدئ من بعده الظعن إليه والاستعمار.
حدثنا الأب أنستاس بنبأ رحلة الراهب برندان إلى جزيرة إيسلنده (المعروفة عند العرب باسم ثولي)، وجزائر الكناري (الخالدات)، ثم نزوله على الساحل الأمريكي في النصف الثاني من القرن السادس، كما حدثنا بخبر بعض الرهبان الأرندليين - الذين كانوا يدهشون لركوب العرب تيار الخليج القادم من المكسيك - ونزولهم في القرن الثامن الميلادي إلى سواحل أمريكا الشرقية. غير أن التاريخ غمط حقوق بعض الرواد المغامرين من يعرب، الذين ركبوا الأهوال محاولين اختراق الخضم المحيط المعروف في ذلك الحين باسم بحر الظلمات.
الكرة الأرضية والبحر المحيط عند العرب:
نقل العرب كتاب المجسطي لبطليموس القلوذي في مطلع العصر العباسي، وقالوا في أزياجهم وكتبهم الجغرافية إن الأرض كروية. جاء في مروج الذهب للمسعودي: (ذكروا أن
الأرض مستديرة، ومركزها في وسط الفلك، والهواء محيط بها من كل الجهات، وأخذوا عمرانها من حدود الجزائر الخالدات في بحر أقيانوس إلى أقصى عمران الصين) و (علموا أن الشمس إذا غابت في الصين كان طلوعها على الجزائر العامرة المذكورة التي في بحر إقيانوس. وإذا غابت في هذه الجزائر كان طلوعها في أقصى الصين. وذلك نصف دائرة الأرض، وهو طول العمران الذي ذكروا أنهم وقفوا عليه). ولعمري إن هذا تحديد دقيق لما يعرف اليوم جغرافيا نصف الكرة الشرقي.
وقال المسعودي أيضاً: (إن أقصى العمران في المشرق إلى حدود بلاد الصين والسيلي إلى أن ينتهي إلى بحر أقيانوس المظلم المحيط. وأقصى عمران المغرب ينتهي إلى بحر إقيانوس المحيط أيضاً).
فكأن الأقيانوس المحيط كان - بحسب ما عرفوه - متصلا من أقصى العمران في المشرق إلى أقصى العمران في المغرب. وهو ما يعرف اليوم جغرافيا باسم نصف الكرة الغربي.
وتواترت الأخبار قديما بأن بحر الظلمات هذا لا تدرك غايته، ولا يعلم منتهاه. وأنه بحر لا تجري فيه جارية ولا عمارة. جاء في كتاب الشريف الإدريسي - نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق - (ولا يعلم أحد ما خلف هذا البحر المظلم، ولا وقف بشر فيه على خبر صحيح، لصعوبة عبوره، وظلام أنواره، وتعاظم موجه، وكثرة أهواله، وتسلط دوابه، وهيجان رياحه. وبه جزائر كثيرة منها معمورة وغير معمورة).
وكان يعزز ما تواتر عليه الناس عنه، أسطورة مأثورة عن قدامى اليونان تقول بأن هرقل بنى أعمدة من النحاس والحجارة. حداً بين بحر الروم والأقيانوس. وعلى أعلاها كتابه وتماثيل مشيرة بأيديها أن لا طريق ورائي لجميع الداخلين إلى ذلك البحر المحيط. وأشار المسعودي إلى هذه النصب بما نصه. (وعلى هذا البحر المحيط مما يلي الأندلس، جزيرة تعرف بقادس مقابلة لمدينة شذونة. . وفي هذه الجزيرة منارة عظيمة عجيبة البنيان، على أعاليها عمود تمثال من النحاس يرى من شذونة وورائها لعِظَمه وارتفاعه. ووراءه في هذا البحر على مسافات معلومة تماثيل أخرى في جزائر يرى بعضها مع بعض، وهي التماثيل التي تدعى الهرقلية، بناها في سالف الزمان هرقل الجبار، تنذر من رآها أن لا طريق وراءها ولا مذهب، بخطوط على صدرها بينة ظاهرة ببعض الأقلام القديمة، وضروب من
الإشارات بأيدي هذه التماثيل تنوب عن تلك الخطوط لمن لا يحسن قراءتها. صلاحا للعباد، ومنفعاً لهم من التغرير بأنفسهم في ذلك البحر).
وكان الحكماء والجغرافيون من العرب، يعرفون أن هذا البحر موصل إلى الهند. فقد جاء في كتاب السماء والعالم لأرسطو في الدليل على صغر الأرض أن الموضع الذي يدعى أصنام هرقل، يختلط بأول حد من حدود الهند. ولذلك قالوا إن البحر واحد)
رواد المحيط من العرب
واقتحام أبناء قحطان بحر الظلمات، وركوبهم أهواله أمر لا مرية فيه، وقد بسط الأب أنستاس الدليل على ذلك نقلا عن هيرودوتس وعن استرابون. ونحن بدورنا نبسط الدليل نقلا عن المصادر العربية.
جاء في مروج الذهب صفحة 71 في ذكر الكلام عن البحر المحيط (وله أخبار عجيبة، وقد أتينا على ذكرها في كتابنا (أخبار الزمان) في أخبار من غرر وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم ومن تلف، وما شاهدوا منه وما رأوا).
وإذا لم يحفظ لنا التاريخ قول المسعودي في أخبار من ركب هذا البحر، فقد ذكر لنا الإدريسي في كتابه الجغرافي النفيس قصة الاخوة المغرورين أو المغررين الذين خرجوا من لشبونة، وضربوا في عرض المحيط، ثم عادوا يقصون على الناس مشاهداتهم. ولعلهم حاولوا عبثاً إقناع القوم بوجود دنيا جديدة وآفاق حديثة، وراء لجج المحيط، فرماهم البعض بالغرور والبعض بالتغرير. قصتهم ولا ريب، كانت معروفة قبل المسعودي - والأرجح أنها وقعت في القرن الثالث الهجري - التاسع المسيحي - وتناقلها الناس بعد ذلك فلحقها شيء من التحوير والتبديل، شأن جميع الروايات التي تجري على الألسن وتدخل في عداد الأساطير. لذلك سنورد القصة كما استقاها الإدريسي من الأفواه في منتصف القرن السادس الهجري - الثالث عشر الميلادي.
قال في كتاب - نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق -
(من مدينة لشبونة، كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات، ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه كما تقدم ذكرهم. ولهم بمدينة لشبونة بموضع من قرب الحمه، درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين، إلى آخر الأبد. وذلك أنه اجتمع ثمانية رجال كلهم أبناء عم،
فأنشئوا مركباً حمّالاً، وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر. ثم دخلوا البحر في أول طاروس (كذا) الريح الشرقية. فجروا بها نحو من 12 يوماً، فوصلوا إلى بحر غليظ الموج، كدر الروائح، كثير القروش، قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف. ثم فردوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب 12 يوماً، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها، ولا ناظر إليها. فقصدوا الجزيرة، فنزلوا بها، فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري. فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها. فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب 12 يوماً إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث. فقصدوا إليها ليروا ما فيها. فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك. فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر، فأنزلوا بها في دار. فرأوا رجالا شقراً زعراً شعور رؤوسهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب.
فاعتقلوا فيها في بيت ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفيما جاءوا، وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم. فوعدهم خيراً، وأعلمهم أنه ترجمان الملك.
فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك. فسألهم عما سألهم الترجمان عنه، فأخبروه بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب، ويقفوا على نهايته. فلما علم الملك ذلك ضحك، وقال للترجمان: خبر القوم أن أبي أمر قوماً من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهراً إلى أن انقطع عنهم الضوء، وانصرفوا في غير حاجة ولا فائدة تجدي.
ثم أمر الملك الترجمان أن يعدهم خيراً، وأن يحسن ظنهم بالملك ففعل. ثم صرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية، فعمر بهم زورق، وعصبت أعينهم، وجرى بهم في البحر برهة من الدهر؛ قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها، حتى جيء بنا إلى البر فأخرجنا، وكتفنا إلى خلف، وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس، ونحن في ضنك وسوء حال من شد الأكتاف؛ حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بأجمعنا، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة، فحلونا من وثاقنا، وسألونا،
فأخبرناهم بخبرنا. وكانوا برابرة. فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا لا، فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين. فقال زعيم القوم: وا أسفي. فسمي المكان إلى اليوم أسفي، وهو المرسى في أقصى المغرب)
والذي نستخلصه من رواية الإدريسي، أن الاخوة الذين نعتوا ظلما باسم المغررين أو المغرورين، ركبوا البحر المحيط من لشبونة عاصمة البرتغال الحالية، فضربوا في عرضه غربا، ثم انعطفوا نحو الجنوب، فوطئوا أرض جزيرة بها غنم وتين بري، بعد مسيرة أربعة وعشرين يوما؟. ونحن نستبعد أن تكون جزيرة الغنم هذه إحدى جزر اللازورد (أزوره) لأنها تقع غرب لشبونة لا إلى جنوبها الغربي؛ ولأنها جزر مسكونة من قديم الزمان عرفها القرطاجنيون والنورمانديون والعرب، كما جاء في دائرة المعارف الفرنسية. وقد هاجر إليها فريق من عرب أسبانيا بعد طردهم من الأندلس.
والذي نظنه، هو أن هؤلاء الاخوة حطوا رحالهم في إحدى جزر برمودة أو جزر الانطيل، إن لم يظعنوا إلى أحد أنحاء المكسيك، بلاد التين البري (وفصائل الصبير)، والتي كانت تزخر بقطعان الماشية المعروفة عند الغربيين باسم البافالو. (بالفرنسية أو قطعان اللاما إحدى فصائل الأغنام الأمريكية. والذي استوقفنا فيما تواتر على ألسنة الناس في هذه القصة هو ذكر الغنم والتين البري. أما الغنم فكانت الدنيا الجديدة عامرة بقطعان البافالو واللاما - وكاد النوع الأول ينقرض الآن لأن المستعمرين الأوربيين أكثروا من صيده للانتفاع بجلده - وأما التين البري فنحسب أنه تعبير وصفي لفصائل العائلة الصبارية التي تنبت في أمريكا الوسطى عامة وسواحل عامة وسواحل المكسيك خاصة، وهي مشهورة بها كشهرة مصر بنيلها وأهرامها. أفيحق لنا أن نظن أن ما هبط إليه الاخوة (المغامرون) كان أحد أنحاء المكسيك التي منها يخرج تيار الخليج ويعرج فيها:
هذا رأي لا يحمل إلا على محمل الظن. . والله أعلم
وهناك قصة لمغامر آخر اقتحم البحر المحيط، ولا يعرف إلا الله مصيره ومن تبعه. في النصف الأول من القرن الثامن الهجري (أوائل القرن الرابع عشر الميلادي) يحدثنا ابن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار عن الملك موسى بن أبي بكر أحد ملوك (مالي) في السودان الغربي، وكان معاصرا لصاحب مسالك الأمصار في أيام
الملك الناصر بن قلاوون. قال (قال ابن أمير حاجب والي مصر، عن الملك موسى ابن أبي بكر: سألته عن سبب انتقال الملك إليه فقال: إن الذي قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك. فجهز مائتين من السفن، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، وأمر من فيها ألا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته، أو تنفذ أزوادهم. فغابوا مدة طويلة، ثم عاد منها سفينة واحدة، وحضر مقدمها، فسأله عن أمرهم فقال: سارت السفن زمنا طويلا حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة واد له جرية عظيمة، فابتلع تلك المراكب وكنت آخر القوم، فرجعت بسفينتي. فلم يصدقه. . فجهز ألفي سفينة، ألفاً للأولاد، وألفاً للأزواد. واستخلفني، وسار بنفسه ليعلم حقيقة ذلك. وكان هذا آخر العهد به وبمن معه). فهل وصل هذا الملك المغامر بقافلته العريضة المزودة إلى بر السلامة أم ابتلعته ومن معه لجج المحيط؟ لا نحسب أن إقدام هذا الملك الجسور على اقتحام البحر كان من قبيل الظن بان للمحيط غاية تدرك، فلربما كان لديه من الأبناء والوقائع ما دعاه أن يكذب مقدم السفينة العائدة، ويركب أهوال البحر بألفي سفينة ليصل إلى غايته.
ومما يغلب على الظن أن كلمبس وقف على خبر الاخوة المغرورين، وعرف أنهم هبطوا إحدى الجزر فيما وراء المحيط - ولعله كان على علم بنبأ رحلة برندان - ولا جدال في أنه اطلع على ترجمات الكتب الجغرافية العربية التي تقول بكروية الأرض، وبأن البحر المحيط موصل إلى الهند. ثم استطاع أن يقنع الملكة إيزابلة، وسار بسفنه الشراعية الثلاث في 3 أغسطس سنة 1492 متخذا سبيله في المحيط غرباً، ثم جنوبا بغرب، حتى وصل في 12 أكتوبر إلى جزيرة غواني هاني (التي عرفت فيما بعد باسم سان سلفادور) وكأن معاصريه لم يجدوا فيما أتى به بدعاً، ولم يروا فيه أول مقتحم لبحر الظلمات. فضرب لهم مثل البيضة المعروف، ومات في بلد الوليد عام 1506 آسفا محسورا.
وبعد فهذه حقائق مستقاة من المصادر العربية، تثبت أن أبناء يعرب جابوا بحر الظلمات قديما. على أن أخبار مقتحميه منهم وما شاهدوا منه وما رأوا لم تلق من الناس والمؤرخين الأقدمين اهتماماً كبيرا. وهناك ولا ريب كثير من رواد المحيط الناطقين بالضاد ركبوا في قوافل بحرية كبيرة مثل ملك (مالي)، بيد أنهم لم يجدوا من يؤرخ لهم. ولا ريب أن بعضهم حط رحاله في ربوع أمريكا الوسطى وجزائرها. لذلك لا نعجب أن رأينا فيها كثيراً من
الأسماء العربية العائدة إلى الحيوان والطير.
(لإسكندرية)
دولت حسن الصغير
يوحنا الدمشقي
للدكتور جواد على
تتمة
ومن آراء هذا القديس أن النبي الكريم كان قد تلقى تعاليمه من أحد أتباع (آريانوس)(المتوفى سنة 336 للميلاد) والذي كان قد أنكر ألوهية المسيح فحرمه مجمع نيقيا ? الذي انعقد في عام 253 للميلاد، ثم أكد هذا التحريم المجمع الثاني الذي انعقد في القسطنطينية. وكان من أشد خصومه (أثناسيوس) رئيس أساقفة الإسكندرية القائل على العكس بألوهية المسيح.
وهو قول ردد صداه المستشرقون فيما بعد. وقد فاتهم بأن البدعة (الأريوسية) أو (الآريانية) لم تكن معروفة في البلاد العربية، فلا يمكن أن يكون الرسول قد تعرف إلى أحد من أتباع هذه الشيعة. وقد فاتهم أيضاً بأن النسبة إلى (الأريوسية) كانت شائعة بين الفرق النصرانية، فكانت كل شيعة من الشيع النصرانية تنسب الشيعة المعارضة لها إلى هذا الإسكندري الذي حرمته مجامع المسيحيين. وقد سلك يوحنا في مواضع من ميامره مع (المنوفيسيتين) والمعارضين الآخرين نفس هذا السلوك، ونسبة دراسة النبي على أحد (الأريانيين) - وهو قول واهٍ لا تؤيده الشواهد التاريخية - هو من هذا القبيل.
وخلاصة ما يمكن أن يقال، هو أن يوحنا كان قد خاف على دينه من الزوال، وهو رجل دين وصاحب عقيدة، وأنه وهو في بلاط خليفة دينه يخالف دينه عرضة للمناقشة في الدين وهدف للجدال كما كان يحدث ذلك دوماً لكل ذّمي يتولى مركزاً سامياً في قصور أمراء المسلمين. وقد ساءه ما رآه من دخول أبناء دينه أفواجا أفواجا في الإسلام، فأراد أن يضع لهم منهجاً ثابتاً في الكلام وطريقاً واضحاً لإخوانه من أبناء دينه كما يفهم ذلك من ميامره ومن كتابه الذي ألفه في الرد على المسلمين.
وغريب أمر أولئك الذين يتصورون بأن المسلمين الأولين كانوا كالحجارة الصم لا يحسنون سؤالا ولا يدرون جواباً. وفي القرآن الكريم والحديث الشريف والسير والمغازي والأخبار
أسئلة وأجوبة مختلفة في مسائل الكون والعالم والبعث ويوم الدين والأفعال والأعمال والخطير من الدنيا والحقير. وهم إن شكوا في كل شيء فلن يستطيعوا الشك في صحة القرآن وفي صحة روايته كما كان ينطق به الرسول. والقرآن وحده كفيل وخير شاهد على صحة ما نقوله.
ولا عبرة ببعض ما ورد في بعض الكتب مثل ما جاء في (كنز العمال) من أن القدريين سموا بهذا الاسم لأنهم (اشتقوا قولهم من النصارى) أو عبارة (اشتقوا أقوالهم من قول النصارى) إذ ورد في الأخبار (القدرية مجوس هذه الأمة).
ولو ذهبنا مذهب بعض المستشرقين ومذهب أهل الرأي والقياس لوجب علينا أن نقول بأن القدرية أخذت قولها هذا من المجوس، وهو قول يناقض المعروف؛ إذ المعروف بأن المجوس كانوا يقولون بالجبر لا بالاستطاعة والاختيار.
الحق أن ما ذكره يوحنا وما بنى عليه بعض المستشرقين هو من قبيل (الأفكار العامة) التي تخطر على كل بال، من قبيل تلك الأفكار التي ترددت على عقول البشرية منذ أول يوم هبوطها على سطح الأرض حتى اليوم. إنها من قبيل الأفكار العامة التي عالجتها أدمغة الوثنيين كما عالجتها أدمغة أصحاب الأديان بل وحتى الشعوب الابتدائية والقبائل البدوية، وما كان ظهور مثل هذه الأفكار في الإسلام بحادث غريب وقد عالج الإسلام أموراً أعقد من المواضيع التي نتحدث الآن فيها بكثير.
ولنعد الآن إلى الموضوع. ظهرت في الإمبراطورية البيزنطية المسيحية وفي ردهات المسيحية فكرة غريبة هي فكرة (تحريم الصور) وقد انتشرت هذه الفكرة بسرعة كبيرة في سوريا وفي مصر وفلسطين فتحطمت الصلبان وأحرقت التصاوير، ونادى الناس حتى في الإمبراطورية البيزنطية بأن الصور والصلبان والزخرفة رجس من عمل الوثنية والشيطان. وشاعت أسطورة ذكرها ثيوفانس خلاصتها أن أحد اليهود، وكان يكره النصارى، تمكن من إقناع الخليفة يزيد الثاني بضرورة تحطيم الصلبان وتمزيق التصاوير كي يطول عمر الخليفة. فأصدر الخليفة أمره في الحال بوجوب تحطيم كل ما هو موجود من صلبان النصارى. ويذكرون أيضاً بأن إمبراطور القسطنطينية، وهو الإمبراطور (ليو) تأثر بعد ذك بأفكار أحد السريان، وكان قد وقع في أسر المسلمين، فاعتنق الإسلام وسمى
نفسه (بشراً)(بسر) وغدا من أعداء الصلبان والتصاوير وكان ذلك في عام (726) للميلاد.
عندئذ أصدر الإمبراطور أمره في عام 726 للميلاد بتحريم الصلبان والتصاوير. وقد نفذ الأمر الإمبراطوري الرسمي في كافة أنحاء الإمبراطورية البيزنطية، وتبرم صاحبنا يوحنا من هذا الأمر الملكي الرسمي واعترض عليه بست رسائل ألفها تفنيداً لهذا الأمر ولمن قال بهذه البدعة من أتباع الملوك.
وفي هذا التحريم أصل إسلامي ملموس وإجابة لدعوة النبي الكريم، تلك الدعوة التي حققها يوم أمر بتحطيم أصنام الكعبة وأصنام الطائف وكل صنم آخر قائم. ذلك ما قاله نفر من المستشرقين. على أن هنالك جماعة أخرى رأت غير هذا الرأي؛ رأت هذا التحريم مصدره تلك الفكرة اليهودية التي كانت قد حرمت تصوير المخلوقات الحّية وقاومت التصوير مقاومة عنيفة. وقد انتقلت هذه الفكرة إلى المسلمين وانتقلت على زعمهم من المسلمين إلى المسيحيين.
وتطرف هؤلاء فقالوا بأن الأحاديث التي رويت عن لسان الرسول، والتي حرمت التصوير، إنما ظهرت في هذا العهد الذي أعلنت الحكومة البيزنطية فيه أمرها بتحطيم الصلبان.
ورد في الحديث: من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ). واستعمل بعض المحدثين لفظة (تصاليب) بدلا من (تصاوير)، قال القسطلاني:(تصاليب أي تصاوير كصليب النصارى). وهذا ما يجعل للمشكلة صلة بالمشكلة التي أثارها (الإمبراطور ليو) في الإمبراطورية البيزنطية. ويلاحظ أيضاً بأن يوحنا لم يتحامل في رسائله التي ألفها للدفاع عن الصليب والتصوير على المسلمين كتحامله على اليهود. على عكس ثيودور أبو قرة أحد تلاميذه الذين احتذوا حذوه ونهجوا منهجه، فلقد تحامل هذا على المسلمين تحاملا شديداً وعنفهم تعنيفاً مراً لأنهم كانوا سبب هذا التحريم. لم تنفع هذه الحملة الصليبية التي أثارها هذا الموظف المسيحي في بلاط أمير المؤمنين في الشام شيئاً. قد يكون يوحنا نجح بعض الشيء في إثارة جذوة نار تلك المشاكل الكلامية التي ظهرت قبله بزمن وفي صبها في جداله مع المسلمين بقالب منطقي يوناني أثر على أسلوب الكلام
عند المسلمين، ولكنه فشل في الحيلولة بين المسيحيين السوريين وبين الإسلام
وآثر يوحنا وهو في أواخر حياته الاعتزال في دير من أديرة الدنيا النائية ليوجه تفكيره نحو خالقه، فاختار دير (القديس سابا) قرب القدس ليكون محله المختار. وقد ظل في هذا الدير إلى أن جاءه أجله المحتوم بين عامي 748 و751 للميلاد على أكثر الروايات.
جواد علي
سياسة التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
- 2 -
لم يقتصر أمر التعدد في معاهد المرحلة الواحدة من التعليم مع ما يصحبه ذلك التعدد من اختلاف ثقافات المدرسين على تعليم البنين، بل سرى نفس الداء إلى معاهد البنات كذلك. خصوصاً في المرحلة الثانية منها حيث وجدت مدارس الفنون الطرزية ومدارس الثقافة النسوية والمدارس الثانوية والأوليات الراقية والتربية النسوية ومدارس المعلمات الأولية وغيرها، وحيث وجدت في هذه المدارس طوائف مختلفة الثقافات من المعلمين والمعلمات اللواتي تخرجن في مدارس التدبير بأنواعها والتعليم العام الإضافي ومدرسة المعلمات والسنية ومعهد التربية والفنون إلى غير ذلك مما أدى إلى تفكك تعليم الفتاة بسبب تعدد المعاهد وعدم انسجامها وقلة توافقها وترابطها، فخلقنا جواً ملائماً كل الملاءمة لتفاوت الطبقات في معاهد البنات كما سبق أن خلقناه في معاهد البنين مع أن الوظيفة الأساسية للمرأة في الحياة تكاد تكون محدودة معروفة وهي طبعاً الزوجية والأمومة. وكان لهذا كله أثره القوي الفعال في خلق التنافر والقضاء على التعاون بين الأفراد المثقفين من أبناء الأمة الواحدة وبناتها ذلك التعاون الذي هو أساس بناء وحدتها وعماد نهضتها قي كل أعمالها ومشاريعها التي تنهض بها الجماعات والطوائف المختلفة.
ولقد بدأ الاضطراب في سياسة إعداد المعلمين والمعلمات للتعليم العام في هذا البلد منذ ألغيت المدرسة السنية للمعلمات ومدرسة المعلمين العليا التي خرجت في نحو ربع قرن من الزمان عدداً كبيراً من رجال التعليم اضطلعوا ولا زالوا يضطلعون بأكبر قسط في تثقيف الناشئين في مختلف المدارس والمعاهد. ولم تستطع مصر مع الأسف أن تحصل على ما يسد فراغ هاتين المدرستين؛ فمعهد التربية العالي بشقيه الذي قام على أنقاضهما ليعد معلمين ومعلمات للتعليم العام لا يلتحق به إلا طالب منته من الدراسة في إحدى كليتي الآداب أو العلوم بالجامعة. وأنّى لطالب منته في إحدى هاتين الكليتين راغب في ولوج معترك الحياة العامة بعد الدراسة الطويلة أن يفكر في إعداد نفسه من جديد ليكون معلماً! أنَّى له ذلك وحظ المعلمين من متع الحياة ومتع الوظيفة ضئيل لا يُقدم عليه إلا من أكرهته
الظروف للالتجاء إليه! لهذا كان الانصراف عن المعهد خصوصاً من خريجي كلية العلوم الذين تتخاطفهم الشركات. ولهذا بقي هذا المعهد سنين طويلة وعدد خريجيه من قسم الرياضة والعلوم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة. ولهذا وجدت في مصر أزمة شديدة في الحصول على هذا النوع من المعلمين. ثم أَّنا لم نواجه الأزمة مع الأسف بما تستحقه من عناية فوقفنا إزاءها مكتوفي الأيدي ننتظر كل عام ما يجود به المعهد من خريجين قليلين حتى اصطدمنا بالحقيقة الراهنة المؤلمة الخاصة بعدم وجود المعلمين الضروريين للمعاهد التي تنشأ ولملئ الوظائف التي تخلو، واضطررنا إلى حل تلك الأزمة بحلول سريعة غير موفقة كالاستعانة بغير الفنيين من حملة البكلوريا وغيرهم. وزادت بذلك هوة الخلافات في ثقافات القائمين على أمر إعداد النشء وتثقيفهم كما هوى مستوى التعليم نفسه هويا كبيراً. ولما أحسسنا بذلك أخذنا نعالجه بعلاجات وقتية ضئيلة الأثر كالدروس الصيفية لغير الفنيين وما إلى ذلك. ثم جاء تقرير مجانية الابتدائي وما تبعه من إقبال أبنائنا على هذا التعليم ضغثاً على أبالة، إذ اضطررنا إلى التوسع فيه دون أن نعمل أي ترتيب لإيجاد المعلمين الضروريين. وأصبح المدرس يواجه أمامه عدداً كبيراً من التلاميذ لم يسبق له مثيل في الفصل الواحد حتى أصبح عسيراً على المدرس الفني أن يسوس هذا الجم الغفير أو أن يفيدهم، فما بالك بالمدرس غير الفني أو المدرس الضعيف أو المدرس المبتدئ قليل الخبرة! إنها لحالة تستدعي الاهتمام وتستدعي العلاج. إن مسألة المعلم الكفء ذي الضمير الحي هي أول ما يجب أن تفكر فيه الدولة الرشيدة الحريصة على مستقبل أبنائها وتربيتهم وثقافتهم قبل أن تخطو خطوات واسعة في نشر تعليم مشكوك عند الكثيرين في صلاحيته من حيث نوعه ونظامه وإنتاجه. وإن التفكك والانحلال القائم في كثير من المعاهد بسبب وجود عناصر متعددة من المعلمين ذوي الثقافات المختلفة والآراء المتنافرة التي لا يمكن أن توحي بالانسجام والتعاون لكفيل بأن يبقي حالة المدرسة المصرية بعيدة كل البعد عن الأخذ بأساليب التربية الحديثة مهما دعونا إليها ومهما نبهنا إلى ضرورتها ومهما حاضرنا فيها. ذلك لأن عناصر المعلمين المتعددة المتنافرة لا يمكن أن تجد من تنافرها الوقت ولا أن تتملكها روح التوفر على البحث والعمل للصالح العام، فكل منها لاه بنفسه وبمستقبله الخاص وبالتعصب لثقافته وبالظهور على غيره. وهي أمور كلها تزيد في هوة الخلاف
المؤدي إلى التفكك والانحلال؛ وسيمتد ذلك التفكك والانحلال دائماً وبطبيعة ما للمدرسة من أثر في التكوين، إلى طبقات الأمة المختلفة خصوصاً منها أولئك الذين يتولون أعمالا موحدة ومرافق ذات غايات واحدة. ولن يمكن القضاء على تلك الخلافات وتوحيد الاتجاهات إلا بتوحيد الثقافات. ولن يتم لنا ذلك إلا بإيجاد المدرسة الموحدة التي تعد المعلمين الذين يقومون بتدريس مختلف العلوم في مدارسنا. أما وقد قُضي على مدرسة المعلمين العليا من زمن بعيد فلاشك في أن المصلحة تقضي بإدماج دار العلوم ومعهد التربية بعد شروط اللحاق بهما وجعلهما معهداً واحداً لإعداد معلمي المواد المختلفة. وإنا نسوق هذا الاقتراح للرجال المسئولين خصوصاً بعد تلك البحوث القيمة التي أجراها مؤتمر أساليب التربية الحديثة والتي تبين منها (أن الأمر يتطلب معلماً يفهم روح التربية وأهدافها فهما واضحا ويؤمن بها إيماناً قوياً يدفعه إلى الجهاد في سبيل تحقيقها) كما جاء في القرار الثاني من قرارات المؤتمر. ولا شك أن هذا المعلم النموذجي لن يندفع إلى ذلك الجهاد إلا إذا تعاون معه زملاؤه وأمن كيد عناصر أخرى تؤذيه في جهاده وقد تحاربه وقد لا تقدره. والمعلم الموحد الثقافة هو المعلم الوحيد الكفيل بالاضطلاع بهذا الجهاد في سبيل تحقيق الهدف المطلوب. يقول أحد قادة التربية الغربيين (أعطني المعلم الكفء واتركه بغير برامج يخرج لك من النشء رجالا. أما البرامج التي لا يقوم على تنفيذها المعلم الكفء مهما حسنت فإنها لا تخرج إلا أطفالا كباراً أشباه الرجال وما هم برجال) فمسألة المعلم الكفء الذي يفهم مهمته ويفهم روح التربية وأهدافها والذي يتعاون مع زميله على قدم المساواة لما بينهما من تجانس في التعليم والثقافة، وتوافق في الاتجاه والإحساس بالمسئولية هي مسألة المسائل ومشكلة المشاكل في مصر. وقد أعارها المؤتمرون جل اهتمامهم لأنها لا يصح أن تتجاهلها أية هيئة تعليمية
إن أمامنا مثلا رائعاً نحسه ونلمسه بين أيدينا اليوم يوضح لنا أثر الثقافة الموحدة في بناء كيان وحدات الأمة وتدعيمها وتقويتها. ذلك المثل هو جامعة فؤاد الأول بمختلف كلياتها. فقد ضن البعض في مبدأ تكوينها أن لا فائدة ترجى من الجمع بين عدة مدارس عالية وجعلها كليات في جامعة واحدة. فان ما يدرس في كلية الهندسة اليوم مثلا هو ما كان يدرس في مدرسة المنهدسخانة قديما مضافا إليه التطور الذي أوجده الزمن في فنون
الهندسة الحديثة. وكان من الممكن البقاء على مدرسة المهندسخانة القديمة مع إدخال ما استدعاه التطور الحديث فيها.
نعم كان ذلك ممكنا وتبقى كلية الهندسة مستقلة كل الاستقلال بل بعيدة كل البعد عن كلية الحقوق وعن غيرها من الكليات الأخرى. كل ذلك صحيح، ولكن أنى يكون لنا عندئذ بفكرة الوحدة الهائلة العظيمة التي تضم عدداً كبيراً من الكليات تحت لوائها في إدارة واحدة يشرف عليها جميعاً مدير واحد يضم شتاتها ويوحد صفوفها لتسير في اتجاهات متوازية إلى غرض واحد؟ أنى يكون لنا عندئذ بتلك الوحدة الجامعية التي تضم الآلاف المؤلفة من شبابنا تحت لواء واحد يعملون جميعاً في تلك الصفوف المتوازية المتقاربة المتعاونة سائرة في اتجاه واحد لا يصطدم بعضها ببعض ولا يتعارض بعضها مع بعض إلى هدف واحد تهفو إليه مصر كلها وتنزله المنزلة الأولى من نفسها وتضعه في السماك الأعلى من آمالها؟ فلا شك إذن أن فكرة الوحدة الجامعية فكرة رائعة توحي إلى الشباب بالوحدة والقوة وتقضي على كثير من تلك الخلافات السخيفة التي يؤدي إليها اختلاف الثقافات. فهي مكسب هائل وربح عظيم ربحته مصر فدفعها نجاحها في الحصول على هذا الكسب أن خلقت في العاصمة الثانية أختا للأولى تشاركها في مسئولياتها وتسير في نفس اتجاهاتها مما سيؤدي أن شاء الله إلى خلق غيرها وغيرها بفضل توفر البحث وتضافر الجهود.
نسأل الله أن يسدد خطى العاملين لرفع شأن الثقافة وتوحيد اتجاه التعليم ومقاصده للنهوض بالناشئين أبناء الجيل الحاضر نهوضاً يتناسب مع مركز مصر بين أمم الأرض عامة وبين أمم الشرق والعروبة خاصة في ظل جلالة الفاروق المفدى.
عبد الحميد فهمي مطر
محمد بن عبد الملك الزيات
للأستاذ عبد اللطيف ثابت
جلس عبد الملك بن أبان بن أبي حمزة إلى ولده محمد يحدثه عن تجارة الزيت، ويروي له من تجاربه ويصف له مشاهده الممتعة في رحلاته التي كانت تنتهي بذكائه وصبره وجرأته إلى التوفيق، إذ كان يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد، فيثرى من وراء ذلك ثراء عظيما، ويعد لما جمعه من المال في تجارة الزيت من مياسير الكرخ، وينصحه في لهجة العاطف الحاني أن يحذو حذوه، ويسلك مسلكه، فيتعلق بالتجارة ويتشاغل بها؛ ولكن الفتى وقد سمت به همته، وطمح إلى ما لا يطمح إليه السوقي الذي تشغله التجارة وملازمتها عن قصد المعالي - يأبى أن يصغي إلى حديث أبيه إلا بمقدار أن يسمعه، فيجيب عنه بإباء يؤكده أنه لا يشتغل إلا بالأدب وإلا بما هو من وسائل الأدب، لأنه يحس من نفسه بدوافع تدفعه إلى ما لا يرمقه إلا كل ذي همة وثابة، ونفس تطمح إلى العلا.
وهاهم أولاء لداته يشهدون له بكفايته في العلم والأدب، ويثنون على ذكائه وقوة إدراكه وسرعة بديهته، ومقدرته على حل ما يشكل عليهم من مسائل العلوم لا في النحو واللغة فحسب، بل فيهما وفي غيرهما من سائر العلوم. وهذا أبو عثمان المازني وقد عرفه لما قدم بغداد في أيام المعتصم يقول لأصحابه وجلسائه، إذا خاضوا بين يديه في علم النحو فاختلفوا فيما يقع فيه الشك - ابعثوا إلى هذا الفتى الكاتب، يعني محمد بن عبد الملك الزيات، فاسألوه واعرفوا جوابه فيفعلون، ويصدر جوابه بالذي يرتضيه أبو عثمان ويوقفهم عليه. فهذه الثقة من أترابه وغيرهم من أبناء عصره، تدفعه في قوة أن يخالف أباه عبد الملك ويراغمه، فيلزم الأدب ويطلبه ويخاطب الكتاب، ويلازم الدواوين، ويجيب أباه في قوة الواثق المطمئن - وقد قال له ذات يوم: والله ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك، وليضرنك، لأنك تدع عاجل المنفعة، وما أنت فيه مكفي، ولك ولأبيك فيه مال وجاه، وتطلب الآجل الذي لا تدري كيف تكون فيه. فيجيبه: والله لتعلمن أينا ينتفع بما هو فيه أأنا أم أنت؟ ثم يشخص بعد قليل إلى الحسن بن سهل وزير المأمون، فيمدحه بقصيدة أولها:
كأنها تثّني خطوها
…
أخنس موشي الشوى يرعى القلل
فيعطيه الحسن عشرة آلاف درهم، فيعود إلى أبيه فائزاً منتصراً، فيبتسم أبوه في رضا،
لأنه تاجر يسره أن يرى الدراهم والدنانير ثم يقول له لا ألومك على ما أنت فيه. ولكن محمد بن عبد الملك لا يقنعه أن يصله الحسن بعشرة آلاف درهم، إذ ليس ذلك قصارى غايته مما تطمح إليه نفسه، بل يطلب أن يمثل بين يدي الوزير فيؤذن له فينشده:
لم أمتدحك رجاء المال أطلبه
…
لكن لتلبسني التحجيل والغررا
وليس ذلك إلا أنني رجل
…
لا أطلب الورد حتى أعرف الصَدرا
فيقدره الحسن قدره، ويعترف له لأنه شاعر مجيد لا يقاس به أحد من الكتاب إلا إبراهيم بن العباس الصولي. على أن الصولي مقل وصاحب قصار ومقطعات، ومحمد بن عبد الملك شاعر يطيل فيجيد ويأتي بالقصار فيجيد.
ويأبى إلا أن يصل إلى الغابة في أن يأخذ الحجة على أبيه بصدق نظره وصحة رأيه فيما هو يرمي إليه من الاشتغال بالأدب، فينتهز فرصة واتته بادر إلى افتارضها، فرد بها حقاً لأبيه كاد يضيع: ذلك أن إبراهيم بن المهدي وثب على الخليفة المأمون، ولما لم يكن لديه من المال ما يعينه على أمره، اقترض من مياسير التجار ما هو في حاجة إليه من المال، وأخذ من عبد الملك بن أبان فيمن أخذ عشرة آلاف درهم، وقال له: أنا أردها إذا جاءني مال، ولم يتم أمر إبراهيم، فاستخفى حيناً ثم ظهر، ورضى عنه المأمون، فطالبه الناس بأموالهم فقال: إنما أخذتها للمسلمين وأردت قضاءها من الفيء لو تم لي الأمر، والأمر الآن إلى غيري
وعلم محمد بن عبد الملك بقصة القرض، فعمل قصيدة يخاطب فيها المأمون بما يوقظ موجدته على إبراهيم بن المهدي، وأطلع أبن المهدي عليها، وقال له: لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأبعثن بهذه القصيدة إلى المأمون، فخاف ابن المهدي أن يقرأها المأمون فيتدبر ما قاله فيوقع به، فقال له: خذ مني بعض المال ونجم على بعضه، ففعل بعد أن حلفه إبراهيم بأوكد الأيمان ألا يظهر القصيدة في حياة المأمون؛ فوفى له بذلك، ووفى إبراهيم برد المال كله. ويسر أبوه بهذا كله ويعجب، ومن هذه القصيدة ما يأتي:
فو الله ما من توبة نزعت به
…
إليك ولا ميل إليك ولا ود
ولكن إخلاص الضمير مقرب
…
إلى الله زلفى لا تخيب ولا تكدي
أتاك بها طوعاً إليك بأنفه
…
على رغمه واستأثر الله بالحمد
فلا تتركن للناس موضع شبهة
…
فإنك مجزي بحسب الذي تسدي
فقد غلطوا للناس في نصب مثله
…
ومن ليس للمنصور بابن ولا المهدي
فكيف بمن قد بايع الناس والتقت
…
ببيعته الركبان غوراً إلى نجد
ومن سك تسليم الخلافة سمعه
…
ينادى به بين السماطين من بعد
وأي امرئ سمي بها قط نفسه
…
ففارقها حتى يغيب في اللحد
ومنها:
فان قلت قد رام الخلافة غيره
…
فلم يؤت فيما كان حاول من جد
فلم أجزه إذ خيب الله سعيه
…
على خطأ إذ كان منه على عمد
ولم أرض بعد العفو حتى رفعته
…
وللعم أولى بالتغمد والرفد
فليس سواء خارجي رمى به
…
إليك سفاه الرأي والرأي قد يردي
ومن هو في بيت الخلافة تلتقي
…
به وبك الآباء في ذروة المجد
فمولاك مولاه وجندك جنده
…
وهل يجمع القين الحسامين في غمد
ويظهر لما اشتهر به من العلم والفضل والبراعة في الأدب أثره، فينتظم في سلك الكتاب بديوان الوزارة، ويظل يعمل لا يزيد على غيره من الكتاب شيئاً، ولا يمتاز عنهم بشيء إلا بما وهبه الله من علم وأدب.
ويتولى الوزارة للمعتصم أحمد بن عمار بن شاذي البصري، ويرد على الخليفة من بعض عماله كتاب يقرؤه الوزير عليه، وكان في الكتاب ذكر الكلأ، فيسأله المعتصم: ما الكلأ؟ فيقول: لا أعلم، وكان قليل المعرفة بالأدب، فيقول له المعتصم: خليفة أمي، ووزير عامي! وكان المعتصم ضعيف الكتابة، ثم يأمر أن يبصروا من بالباب من الكتاب، وتشاء الأقدار التي تيسر كل إنسان لما خلق له، أن يكون بالباب محمد بن عبد الملك الزيات، ويدخلونه إلى الخليفة فيسأله: ما الكلأ؟ فيجيب: الكلأ العشب على الإطلاق، فان كان رطباً فهو الخلا، فإذا يبس فهو الحشيش، ثم يشرع في تقسيم أنواع النبات فيعلم المعتصم فضله فيستوزره ويحكمه ويبسط يده.
ويبلغ الفتى بالوزارة الذروة مما كان يطمح إليه، فيعلو شأنه وتنفذ كلمته، ويدل بما عرف عنه من العلم والفضل فيشترط إذ بتولي الوزارة ألا يلبس القباء وأن يلبس الدراعة ويتقلد
عليها السيف بحمائل فيجاب إلى ذلك فيمتاز بهذا أيضاً عما سبقه من الوزراء.
ويبدو في وزارته شديد البأس، عظيم المنة، قوي الإرادة قاسي القلب، لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا بل هو يرى الرحمة خوراً في الطبيعة وضعفا في المنة ويقول عن نفسه ما رحمت شيئا قط. ولا يقف في حقده دون نكبة من يحقد عليه، غير مبال بصروف الزمان وتقلب الدهر. اتخذ في أيام وزارته تنورا من حديد في داخله مسامير محدودة قائمة كرؤوس المال يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال فكيف انقلب أحدهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه فيجد لذلك أشد الألم، حتى إذا جأر إليه المعاقب يطلب الرحمة أجابه بكلمته السابقة إن الرحمة خور في الطبيعة:
ومن يتصف بمثل صفاته هذه ويكون في مثل شأنه هذا يكثر حساده ويشتد عليه أعداؤه.
ومن هم حساده وأعداؤه؟ إنهم عظماء الرجال في عهده: كالقاضي أحمد بن أبي داؤد، ويحيى بن خاقان، وإبراهيم ابن العباس بن محمد بن صول، وعلي بن جبلة، وأبي دلف القاسم ابن عيسى:
كتب إليه علي بن جبلة يقول، وكان قد قصد أبا دلف في بعض أمره:
يا بائع الزيت عرج غير مرموق
…
لتشغلن عن الأرطال والسوق
من رام شتمك لم ينزع إلى كذب
…
في منتماك وأبداه بتحقيق
إن أنت عددت أصلا لا تسب به
…
يوما فأمك متى ذات تطليق
ولن تطيق بحول أن تزيل شجا
…
أثبته منك في مستنزل الريق
الله أنشأك من نوك ومن كذب
…
لا تعطفن إلى لؤم لمخلوق
ماذا يقول امرؤ غناك مدحته
…
إلا ابن زانية أو فرخ زنديق
فأجابه محمد بن عبد الملك
اشمخ بأنفك يا ذا السيئ الأدب
…
ما شئت واضرب حذاك الأرض بالذنب
ما أنت إلا امرؤ أعطى بلاغته
…
فضل العذار ولم يربع على أدب
فاجمح لعلك يوما أن تعض على
…
لجم دلاصية تثنيك عن كثب
إني اعتذرت فما أحسنت تسمع من
…
عذري ومن قبل ما أحسنت في الطلب
صبراً أبا دلف في كل قافية
…
كالقدر وقفا على الجارات بالعقب
يا رب إن ما أنشأت من عرب
…
شروى أبي دلف فاسخط على العرب
أن التعصب أبدى منك داهية
…
كانت تحجب دون الوهم بالحجب
ثم اتصلت المهاجاة بينهما زمنا بسبب تعصب علي بن جبلة لأبي دلف وليس غريبا ولا فضولا أن يتعرض علي بن جبلة لهجو محمد بن عبد الملك لا يحمله على ذلك إلا انتصاره لأبي دلف وإخلاصه له وتفانيه في حبه، فقد تعرض أبن أبي جبلة لغضب المأمون وناله ما ناله منه بسبب أبي دلف إذ قال فيه:
إنما الدنيا أبو دلف
…
بين باديه ومحتضره
وإذا ولى أبو دلف
…
ولت الدنيا على أثره
وقال:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها
…
وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدي طرف إلى أحد
…
إلا قضيت بأرزاق وآجال
فأحفظه عليه، فليس يعقل أن يخشى سلطان محمد بن عبد الملك وهو لم يخش سلطان الخليفة وإن كان محمد بن عبد الملك قد بلغ من السلطان مبلغا جعل الناس يتملقونه، فيرضون عمن يرضى ويغضبون على من يغضب.
وهذا إبرهيم بن العباس الشاعر تنقلب صداقته لمحمد بن عبد الملك عداوة شديدة، وشحناء عظيمة ولا سبب لذلك فيما يغلب على الظن إلا أن ابن عبد الملك حسد إبراهيم حظه من الوجهة الأدبية فهو كاتب حاذق بليغ، فصيح منشئ، وهو إلى هذا شاعر مجيد يقول عنه أحد شعراء عصره لو تكسب إبراهيم بالشعر لتركنا في غير شيء. وحسد كذلك نباهة شأنه، وعلو قدره، حتى لقد تنقل في الأعمال الجليلة والدواوين إلى أن تولى ديوان الضياع والنفقات بسر من رأى - وكأنما كان يخشى منه ابن الزيات على نباهته أن يحملها، وسلطانه أن يذهب به، فهو يحمل عليه وينال من دينه وشرفه، ويرسل إليه أبا الجهم أحمد بن سيف ويكلفه أن يبحث بدقة في شئونه عسى أن يكشف عن أخطائه ويظهر من أغلاطه ما يأخذه به في غير حذر من لوم، فيكتب إليه إبراهيم.
وإني لأرجو بعد هذا محمداً
…
لأفضل ما يرجى أخ ووزير
ولكن محمداً يقيم على أمره وأبا الجهم يلج في تحامله. فيكتب إبراهيم أيضاً إلى ابن الزيات
شاكيا أبا الجهم نائلا منه، واصفاً إياه بالكفر، إذ هو القائل لما مات غلامه يخاطب ملك الموت:
تركت عبيد بني طاهر
…
وقد ملأ والأرض عرضا وطولا
وأقبلت تسعى إلى واحدي
…
ضرارا كأن قد قتلت الرسولا
فسوف أدين بترك الصلاة
…
وأصطبح الخمر صرفا شمولا
فينسب محمد لشدة عصبيته على إبراهيم هذا الشعر له ويرميه بالكفر دون أبي الجهم، ويأبى أن يصغي لتوسلاته إليه شعراً أو نثراً ولا ينقذه منه إلا الخليفة الواثق فهو الذي يرفع عنه، ويأمره أن يقبل منه ما رفعه من المال برغم ما ثبت عليه من عجز في إدارته في ديوان الضياع بما كشفه أحمد بن المدبر، حين جمع المتوكل بينه وبين إبراهيم فأخذ يروي من عجزه أمثلة لا تفتقر - وقد اعترف إبراهيم نفسه بعجزه وقال: إني لم أدفع أحمد بحجة ولا كذب عليّ في شيء مما ذكر. وينظر فإذا الناس يتحامون إبراهيم أن يلقوه، وقد انحرف عنه محمد به عبد الملك، حتى الحارث بن بشتخير الزريم المغني، وكان صديقاً مصافياً لإبراهيم يهجره فيمن هجره من الإخوان. فيكتب إليه إبراهيم:
تغير فيمن تغير حارث
…
وكم من أخ قد غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما
…
غنينا وما بيني وبينك ثالث
ويحس إبراهيم أن ابن الزيات رُدَّ عنه، فيبسط لسانه فيه ويهجوه كثيراً، ويقول له:
أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة
…
وقصر قليلا عن مدى غلوائكا
فإن كنت قد أوتيت عزا ورفعة
…
فإن رجائي في غد كرجائكا
ثم يبلغه أنه مات فيقول:
لما أتاني خبر الزيات
…
وأنه قد صار في الأموات
أيقنت أن موته حياتي
ويعاديه أحمد بن دؤاد فيهجوه ابن الزيات كثيراً ويجمع أحمد الشعراء ويحرضهم على هجاء ابن الزيات، ثم يقول فيه وقد بلغه أن أحد الشعراء هجاه بقصيدة عدتها سبعون بيتاً
أحسن من سبعين بيتاً هجا
…
جمعك معناهن في بيت
ما أحوج الملك إلى مطره
…
تغسل عنه وضر الزيت
يعير ابن الزيات بتجارة الزيت، فلما بلغ البيتان ابن الزيات كتب إلى القاضي أحمد يعيره ببيع القار وكان أبوه يبيعه
يا ذا الذي يطمع في هجونا
…
عرضت بي نفسك للموت
الزيت لا يزري بأحسابنا
…
أحسابنا معروفة البيت
قيرتم الملك فلم ننقه
…
حتى غسلنا القار بالزيت
ونشد أبو تمام محمد بن عبد الملك قصيدة يقول في مطلعها (لهان علينا أن نقول وتفعلا) فيثيبه عليها ثم يوقع له
رأيتك سهل البيع سمحا وإنما
…
يغالي إذا ما ضن بالشيء بائعه
فأما الذي هانت بضائع بيعه
…
فيوشك أن تبقى عليه بضائعه
هو الماء إن أجممنه طاب ورده
…
ويفسد منه أن تباح شرائعه
فيجيبه أبو تمام منكرا عليه هذا التوقيع
أبا جعفر إن كنت أصبحتُ شاعراً
…
أسامح في بيعي له من أبايعه
فقد كنت قبلي شاعراً تاجراً به
…
تساهل من عادت عليك منافعه
فصرت وزيراً والوزارة مكرع
…
يغص به بعد الذاذة كارعه
وكم من وزير قد رأينا مسلطا
…
فعاد وقد سدت عليه مطالعه
والله قوس لا تطيش سهامها
…
ولله سيف لا تفل مقاطعه
وقد حمل أبا تمام بقسوة ملاحظته أن يرد عليه رداً ثقيلا فيه هجاء وفيه تذكر بما قد يؤول إليه أمره مما يتمناه له حساده وأعداؤه وقد صار أبو تمام بهذا أحدهم.
(للحديث بقية)
عبد اللطيف ثابت
الشيخ عبد العزيز البشري
لمناسبة انطواء عامين على وفاته
للأستاذ منصور جاب الله
طويت صفحة المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري في غمار الأحداث فلم تفه الأقلام حقه بحسبانه من أدباء العربية المعاصرين الذين خدموا لغة الضاد وتميزوا بجزالة الأسلوب ورصانة العبارة ووثاقة المعنى.
والحق أن المرحوم البشري كان من حواريي تلك المدرسة الأدبية المحافظة التي نشأت في أعقاب الثورة العرابية، ولقد شرح بنفسه مدى تأثره بأسلوب المويلحيين في الجزء الأول من كتاب (المختار). ولو قد رجعنا إلى أساليب الكتاب قبل هاتيك الثورة لها لنا مقدار تهافتها وركاكتها وبعدها عن أوضاع اللغة الصحيحة ونحوها وصرفها، ومن ثم كان لنا أن نزعم أن الثورة العرابية خدمت - عن طريق غير مباشر - اللغة العربية بما أذكت من الكتاب والخطباء.
ولقد نشأ الشيخ البشري في بيت علم ونعمة وحفاظ، فكان أبوه شيخاً للأزهر حقبة ليست بالقصيرة وكان من الأساتذة المتبحرين في الفقه على المذهب المالكي، فلم يشأ أن يخالف عن تقاليد أسرته فانخرط في سلك طلاب الجامع العتيق، بيد أن النهضة الحديثة كانت أضواؤها تأتلق في جنبات الأزهر بين طائفة قليلة من الطلاب وطائفة أقل من الأشياخ. وكان أن أصدر المرحوم إبراهيم بك المويلحي صحيفته الأسبوعية (مصباح الشرق) وفيها نقد للشخصيات المصرية في القرن التاسع عشر وفيها (حديث عيسى بن هشام) لمحمد بك المويلحي بأسلوبه التهكمي الجزل، وهكذا فتن (البشري الصغير) بالأدب والأدباء وعزف عن حلقات الدرس في الأزهر ودأب على مراسلة الصحف الأدبية القائمة حينذاك، وما كاد يظفر بإجازة العالمية حتى طلبته وزارة المعارف ليكون محرراً فنياً بها.
حدثنا رحمه الله فيما حدثنا أنه كان مغرما بالفن من صباه، وأنه وقد أدرك من المطربين عبده الحمولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وغيرهم، كان لا يفوته مجلس من مجالسهم الموفقة، وإذ كان صغيراً والناس ما يبرحون على الحفاظ والاحتشام، كان ما ينفذ من الخدم والأحراس إلا بالرشوة في أيديهم أو بالزوغان من أعينهم، وكان
يمضي الليل ساهراً جله ما تغمض عيناه سويعات قلائل مع مطلع الفجر.
وكان الشيخ البشري يوافي الصحف بمقالاته التي تشيع في جوانبها الجزالة والترف اللفظي، غير أنه كان يطالع كل مقالة على ملأ من إخوانه قبل نشرها، وأخبرنا رحمه الله أنه كان ينهج في رسائل (في المرآة) نهج المويلحي الكبير في تحليله الشخصيات دون خدش للأعراض أو إسفاف في الأداء. وذكر أن أحداً من الزعماء إذا عرف أن نوبته قد أقبلت في (مرآة السياسة الأسبوعية) طوى ليله ساهراً لا يغمض له جفن حتى يطالع ما كتبه عنه البشري!
لقيته رحمه الله أول ما لقيت صيف عام 1928، وكان يصطاف في ضاحية (شوتس) الجميلة في رمل الإسكندرية، فتعارفنا من يومها وتوثقت بيننا الصداقة فكان لا يهبط الإسكندرية حتى يعلمني بمقدمه فلا نكاد نفترق طوال مقامه بالثغر البسيم. ولما أراد أن يسوّي من مقالاته المبثوثة في الصحف كتاباً، عهد إلي فأذكيت جماعة من النساخين في مكتبة بلدية الإسكندرية ونقلت بيدي طائفة منها مما كنت أحتفظ به من صحف ومجلات. وقد أحجم عليه رحمة الله طويلا عن جمع مقالاته في كتاب ثم أجاب طلبة أصدقائه على تكره واستثقال، وأشار إلى ذلك في مقدمة الجزء الأول من كتاب المختار فقال:(وكثيراً ما استحثني صُدقائي على أن أُسوَّي من تلك الرسائل مجموعات أطبعها وأنشرها للناس، فإذا اعتلوا على عذري بأن هذا الذي أصنع مما لا أراه يرتقي إلى هذا المكان، رحت أجاريهم بظاهر من القول، وفي التعليق على مشيئة الله تعالى من الكذب منتدح)
وكان أسلوب البشري وسطاً بين الترسل والسجع، وكانت فواصله بعيدة المدى، وتتقاصر حينما يمزح أو يداعب، ونستميح القارئ في أن نعرض عليه مثلا من الازدواجات (البشرية) الرائعة. قال رحمه الله على لسان مغرم صب (إنني ما رأيت دُرةَّ قط إلاّ حسبت أنها انتزعت من ثغرها، ولا أبصرت مرآة قط إلا ظننت أنها استعيرت من صدرها، ولا طالعت وردة ناضرة إلا خلتُ أنها قطفت من خدَّها، ولا تمثّل لي غصن من ألبان إلا أحضرني صورة قدها، ولا سطع لي عبير إلا شعرت أنه من شذاها، ولا فصحني نور إلا قدّرت أنه من إشراق محياها، ولا سمعت شّدو القُمري إلا سمعتها تتكلم وتلغو، ولا طاف بي النسيم إلا تمثلتها تلعب وتلهو؛ ولا طلعت الشمس إلا رأيتها فيها، ولا استتم البدر إلا
خلتها تعلو على الدنيا كبراً وتيها. وإني لأرفع بصري إلى السماء فأرى لها هودجاً في موكب السحاب، وأخرج إلى الفلاة فإذا هي يترقرق بها السراب، فهي سعدي وهي نحسي، وهي نعيمي وهي بؤسي، وهي لذتي وألمي، وهي صحتي وسقمي، وهي نعمتي وبلائي، وهي حياتي وفنائي)
وقال البشري الشعر في صباه، وكان يرسله في جريدة (الظاهر) هجواً في المرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد تشيعّاً منه للمرحومين مصطفى كامل ومحمد المويلحي، ثم أجبل زمانا، فلما توفي صديقه المرحوم الدكتور حلمي المنشاوي في ريق الشباب ومشرق الفتوة جرى لسانه بالشعر مرة أخرى ونشرت له (الرسالة) قصيدة باكية في ربيع عام 1934، وكانت آخر قصيدة له فيما أعلم؛ فلم يقل بعدها شعراً.
والشيخ البشري. كما عرفه أصحابه، حسن العشرة، بارع الحديث، سريع الخاطر، يجيد المفاكهة، ويستضحك بنوادره الباكي الحزين. ومن ثم اتخذه كثير من عظماء المصريين صاحباً وخدينا، وقبلوا وساطاته وشفاعاته في الناس، ولكنه كان إلى ذلك عصبي المزاج يثور لأقل بادرة، وفي سبيل ذلك يهدر الصداقة القديمة، ومن أجل هذا المغمز كان كثير من أصدقائه يتقونه ويتحاشونه، ويخافون سقطات لسانه.
زرته في مطالع عام 1934، وكان يسكن بضاحية الزيتون، فأخذ بيدي وأدخلني قاعة الاستقبال وأشار بيده إلى صور معلقة إلى الجدار قائلا (هؤلاء الثلاثة الذين أجلّهم وأحترمهم بين المصريين جميعاً) وتفرست في الصور فإذا هي لعظماء ثلاثة: المرحوم أحمد شوقي بك، والدكتور علي إبراهيم باشا، والدكتور عبد الحميد بدوي باشا. وقد رجعت الآن إلى كتابه (المختار) فألفيته يهديه إلى صديقه المرحوم محمد راغب عطية بك الوزير السابق بهذه العبارة (أهدي عصارة ذهني مدة الحياة، إلى من أهدت مودته إلي أحلى ذكريات الحياة).
كان الشيخ عبد العزيز البشري أديبا ملء إهابه، ولو قد قصر عملة على الأدب والكتابة لجاء فيهما بالعجب العجاب، ولكن أريد له أن يكون موظفا، وأريد له أن يكون رئيساً إدارياً، وليس ينتقص من قدر الأديب الصحيح سوى الوظائف التي لا توائم طبائعه، ولا تتفق مع سليقته، ومن ثم بدأ عجز أديبنا العظيم واضحاً حين جيء به وكيلا لإدارة
المطبوعات، ثم مراقباً إداريا لمجمع اللغة العربية، وقد توفي وهو يشغل المنصب الأخير، كان لابد مما ليس منه بد، وترك رحمه الله الحبل للغارب لبعض صغار الموظفين، فأحفظ ذلك سائرهم، وكان فيهم أدباء معروفون، وكان فيهم أصدقاء قدماء له. فقام ذلك دليلا على أن الأديب الممتاز ينبغي ألا يشغل عن الأدب بما هو دون الأدب.
وبعد، فلقد غدا عبد العزيز البشري في المنسيين، لا بل لقد أصبح وأمسى في المذكورين. وبين أيدينا الساعة كتاب (المرآة) وهو أول كتاب من نوعه في الأدب العربي، يجد فيه ويمزح، ثم لا يقول إلا حقا، وبين أيدينا جزءان من كتاب (المختار) وقد جمع فيه أروع وأجمل ما أرسله في الصحف الدائرة، ثم هو قد ألف كتاب (التربية الوطنية) لتلاميذ المدارس وشارك في وضع (المجمل في الأدب العربي) لطلبة المدارس الثانوية. ومثل هذه الآثار مجتمعة ومتفرقة لا ينسى صاحبها، ولسوف تمضي سنون وسنون وهذا البلد وبلدان العروبة قفر من بيان البشري الساحر وملحه الطريفة، وشخصيته الفذة. تداركه الله برحمته، وجزاه عن لغة الضاد أحسن الجزاء.
(الرمل)
منصور جاب الله
رسالة الفن
المنسوجات
في الخلافة الإسلامية
للدكتور ر. ب. سارجنت
لقد طغت صناعات الغرب على جميع أنحاء العالم في أثناء القرون الثلاثة الماضية، حتى أوشكنا أن ننسى أن صناعات الشرق، ولا سيما الشرق الإسلامي وبيزنطة، كانت تتهافت عليها البلاد الأوربية تهافتاً عظيما. يحدثنا رحالة البلاد الغربية في القرن السادس الهجري أن الإسكندرية كانت تموج بحركة الملاحة وسفن النقل البحري من جميع ممالك أوربا حتى أقصى حدودها الشمالية في البلطيق وإسكندناوة، بله العديد من التجار الذين كانوا من جهات أبعد في الشرق كالهنود وغيرهم. وليس ثمة شك في أن تلك السفن حملت معها (الإسكندراني) الثمين وهو نسيج من التيل المطرز بالحرير. وأغنية رولان، التي كتبت في القرن الحادي عشر، والتي كانت تصف حوادث عصر سابق بمدة طويلة لتاريخ كتابتها، تذكر جثة مكفنة بقطعة من نسيج الإسكندراني. وكما انتقلت تجارة المنسوجات إلى الغرب عن الطريق البحري، كذلك انتقلت إليه عن الطريق البري على الساحل الشمالي الأفريقي، كما أنها انتقلت إلى أوربا الشرقية كما يستدل على ذلك من العملة الإسلامية التي ترجع إلى ذلك التاريخ والتي عثر عليها في الطريق الرئيسية لأوربا الشرقية والسهول الشاسعة لبلاد الروسيا، مما وصل إلى بعض البلاد التي في أقصى الحدود الشمالية لبلاد الروسيا. ويحدثنا ابن فضلان أن الروس كانوا يتجرون مع البلاد الإسلامية في فراء القندر والسمور والسنجاب، إذ كانوا يجلبونها من الشمال بطريق الماء على نهر الفولجا، ويأخذون بدلها المنتجات المصنوعة في العالم الإسلامي المتمدن.
وكانت فرنسا، وإيطاليا، والدويلات الألمانية، وأسبانيا، وغيرها من بلاد أوربا تستورد المنسوجات من الشرق الأوسط لاستعمالها في القصور الملكية
والأغراض الدينية في المعاهد الكنسية الغنية، حيث معظم النماذج المعروفة لتلك المنسوجات لا تزال باقية حتى اليوم، ولا سيما ما هو باق منها في الأقطار البلطيقية.
وعلى مقتضى ما تقرؤه في دفاتر الحسابات الملكية الإنكليزية التي ترجع إلى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، كان ملك انكلتره قد اشترى منسوجات إسلامية ليضعها في كنيسة وستمنستر. ولقد اطلعت في سجلات النفقات البيتية لملوك اسكتلاندة في سنة 1331 ميلادية، على أصناف تشتمل على قطع من الحرير الرقيق من إنطاكية وطرسوس وطرابلس الشام.
وفي عهد الخلفاء العباسيين - بل في عهد الخلفاء الأمويين كذلك - كان بلاط الخليفة يستورد منسوجاته الثمينة من مجموعة عظيمة من المصانع التي تملكها الدولة لصناعة تلك المواد الثمينة وكانت تعرف تلك المصانع باسم مصانع الطراز. ويقول رحالة العرب إنه كانت توجد مصانع للطراز في كثير من بلاد فارس، ومصر، وأفريقية الشمالية، وأسبانيا، كما يذكرون أنه كانت هناك مصانع للطراز في صقلية، وسوريا، والعراق، واليمن. ومن المرجح أن المنسوجات كانت تحمل من هذه المصانع إلى قصور دمشق ثم بعد ذلك إلى قصور بغداد، حيث كان يلبسها رجال البلاط أو ينعم بها هدايا قيمة وتكريما للمنعم عليه بتلك الخلع، من رجال الدولة، حتى الشعراء والمغنين كما تحدثنا بذلك القصص الطريفة التي تملأ كتاب الأغاني. على أنه ليس شك في أن هذه المصانع لم تكن من اختراع العرب الذين غادروا الصحراء وورثوا نظم وطرائق العيش عن البيزنطيين والفرس. ويشير الجهشياري إلي أن ديوان الخراج كان يستعمل اللغة اليونانية في الغرب واللغة الفارسية في الشرق، حتى حدث التعديل بنقل لغة الديوان إلى العربية. وهو يذكر ثبتا بالمنتجات الخاصة بكل إقليم، والتي حملت إلى بغداد بصفتها جزءا من الخراج وكثير منها كان من المنسوجات. فمن المرجح إذن أن ديوان الخراج كان على اتصال وثيق بإدارة مصانع الطراز. ويختلف المؤرخون في أصل نشأة الطراز، أكانت في مصر أم في العراق؛ ولكن المرجح أن الطراز كان في كل من القطرين منذ زمن لا تعيه الذاكرة، بقية من نظام الضريبة النوعية التي كانت تدفع
ولقد كان الطراز من الأهمية في عصر العباسيين بحيث عين له رئيس خاص بادارته، ولم يقنع هارون الرشيد بشخص أقل من جعفر البرمكي نفسه لإدارة ديوان البريد، ودار ضرب النقود، ودار الطراز - وهي وظائف لابد أنها كانت تدر الخير. وبانحلال الخلافة العباسية
انحلالا تدريجيا شرعت الإمارات الصغيرة تستولي على دور الطراز السلطانية أو تنشئ دوراً جديدة، وعلى الخصوص في الأندلس وأفريقية الشمالية. ولإمام اليمن مصنع ملكي للطراز في صنعاء من المرجح أنه منحدر انحداراً مباشراً عن مصنع الطراز الذي كان للخلفاء.
وفي تاريخ غير معروف أنشئ مصنع ملكي للطراز على الضفة الشمالية لنهر دجلة بالقرب من الرصافة، ولا بد أنه كان يضم مساحة كبيرة من الأرض. وكانت بغداد كما هو المنتظر من دخلها الضخم وبلاطها المترف وسكانها الذين يقدرهم بعض من يحتج بهم بمليونين من الأنفس - أعظم مركز لصناعة المنسوجات في العالم الإسلامي. وكانت حلل ولاية العرش تصنع في دار الطراز حتى في العصور الأخيرة للخلفاء العباسيين المغلوبين على أمرهم والذين كادوا لا يملكون من سلطان الحكم أكثر من اعتمادهم لأولئك الذين كانوا يغتصبون السلطة في أيديهم. فقد كانوا مثلا يرسلون مجموعة من الحلل الملكية لأمير مثل محمود الغزنوي، محتوية على منسوجات بغداد الخاصة. وقد عثر علماء الآثار القديمة على نماذج موشاة بالكتابة من صنع دار الطراز ببغداد في أجزاء أخرى من الإمبراطورية الإسلامية.
وكان من الطبيعي أن أنواعا شتى من المنسوجات كانت تصنع أو تباع في العاصمة الإسلامية. فاليعقوبي يحدثنا عن تجار للمنسوجات الخراسانية بالقرب من ناحية الكرخ وكانت بعض أجزاء مدينة بغداد تسمى بأسماء النسيج الذي تصنعه أو تبيعه فالنسيج الذي من صنف التستر كان يشترى من حي التستارية. وتستر مدينة من مدن خوزستان على رأس خليج العجم. ومن الشائق أن نذكر أنه كان في تلك الولاية كثير من مصانع الطراز ترجع نشأتها إلى عهد الدولة الساسانية التي كان ملوكها قد نقلوا الصناع من حدود رومية ليؤسسوا صناعاتهم في جنوبي بلاد العجم وفي العراق. وربما كانت الثياب الديبقية تصنع في حي الديبقية على نهر عيسى، وهو طبعا نسيج أصله مصري، كما أنه قد يكون أكثر الأنسجة تردداً على الألسنة وأعلاها قدراً في ذلك العصر. ويصف لنا الغرناطي نسيج العتابي بأنه مقلم كجلد حمار الوحش، وهو حيوان يقول عنه إنه من فصيلة الحمير، وقد رآه في القاهرة وعندما مات ذلك الحيوان حفظ جلده وحشي قطنا لعرضه في أيام المواسم.
ولقد رأت الحكومة في تلك الصناعة الرائجة، صناعة الأنسجة، مصدرا لجلب الضرائب، فحاولت في القرن الرابع الهجري أن تفرض ضريبة على جميع المنسوجات المصنوعة من الإبريسم أو القطن في المدينة، مقدرة أن تجلب تلك الضريبة ألف ألف درهم للخزانة العامة. ولكن الضريبة كانت مكروهة وسببت اضطرابات عنيفة، فقررت الحكومة فيما بعد ترضية الشعب بفرض ضريبة على المصنوعات الحريرية فقط. وأنشئ مكتب بجوار بركة زلزل، وكانت جميع البضائع التي تدفع عليها ضريبة تختم هناك بخاتم الحكومة، وهو نظام يثير العجب لانطباقه على الأساليب الحديثة الآن.
(البقية في العدد القادم)
عن مجلة الأدب والفن الإنكليزية
في البيت.
. .
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
أيا غرفةً مرموقةً لِصْقَ غرفتي
…
مطفَّأة الأنوار رَهْناً بظلمةِ
أرى بابَك المطروقَ أمسى موصَّداً
…
ومخدعُ زوجي أنتِ، بل أنت جنّتي
فأدعو بزوجي وهى جدُّ سميعةٍ
…
لأمري، ولكن الصدى رَجْعُ دعوتي
لقد كنتِ يا زوجي لدى الصبح موقظي
…
وكنتِ حسيبي في خروجي وأوبتي
فما ليَ لا ألقاك يومي وليلتي
…
وبابُك من بابي على قيد خطوة
أرى من خلال السجف نوراً مُشَعْشَعاً
…
من الشمس، لكن لا أرى شمس مهجتي
وأسمع للأطيار تزقو كما زَقَتْ
…
وللوُرق تُزجي سجعةً بعد سجعة
فأين فتاتُ الخبز تُلقينه لها
…
فيَنْقُرن منها حبَّةً إثر حبّة
عرفن أوانَ الأكل فهي كعهدها
…
تراَءى صفوفاً فوق سورٍ وأيكة
تَألَّفْتهِا يا إلفَ قلبي وأنسّه
…
فماليَ في هذا الحِمَى نَهْبَ وحشة!
ألا تسأليني كيف أصبحتُ؟ في الضحى
…
وتَرْجين لي طيبَ الكرى في العشية
عَهِدْتُك لا ألقاكِ حتى تَزَيَّني
…
أَلمْ تفرغي لي من حُلِيٍ وزينة
شريكةَ عيشي، أسفر الصبحُ فاطلعي
…
أَعِدّي فَطوري وانتقي ليَ حُلَّتي
مكانك خالٍ في الخوان فأقبلي
…
فيهَنا طعامي من حديث وطلعة
وإني لغادٍ للخروج كعادتي
…
فأين ودَاعي بالوصيد وقُبلتي
أغضْبًي بلا ذنب وفي غير مَغضبٍ
…
وأنت الرضى والصفح عن كل زلة
وكنتُ أعزَّ الناس عندك برهةً
…
أهنْتُ عليك اليومَ من بعد عزةّ؟
معاذ الهوى! ما إن صمدتِ لجفوةٍ
…
ولكنه حكمُ القضاء المشَّتت
نَأى بك عني للمنية غائلٌ
…
ولولا المنايا ما سكنتِ لفرقتي
فأعدمني بيتي وعيشي وجنتي
…
وكانت هنا في غرفة لِصق غرفتي
أمرُّ فأزوي الطرفَ عنها تألماً
…
وكان إليها ما مررت تَلَفُّتي
ويفجؤني أن يفتحَ الباب فاتحٌ
…
كأنْ كشف اللحَّادُ عن جوف حفرة
أطامن صوتي - إن همست - محاذراً
…
وأحبس أنفاسي وأخلس مشيتي
وما بي حذارٌ أن أنبَّه هاجعاً
…
ويا ليت يصحو الميْتُ من بعد هجعة
ولكن مزيجٌ تارةً من تهيب
…
وخوف، وطوراً من خشوع وحرمة
وولله لا أدري أتفكير عاقلٍ
…
أفكر؟ أم هذي سمادير جُنةً
الخطيئة الأولى
للشاعر إدوار حنا سعد
فتحتْ بابها وقالت تقدمْ
…
سكتَ الليلُ والغرام تكلمْ
ما لكفيك ترجفان وكفي
…
فيهما مستكينة تستسلم
ذاك ميعادنا وهذا هوانا
…
فماذا تهمُّ حيناً وتُحجمْ
ليلة كالخلود بعد اشتياق
…
تَتدَنَّى بها الليالي وتّنُعم
هتف المخدع الأنيق الوردي:
…
الغرام العنيف واللهو عندي
والتهاويل والستائر قالت
…
إن تقواك هاهنا ليس تُجدي
فدخلنا إليه كفاً بكف
…
من فنون الهوى. . . وخداً لخد
وسباني إغراؤها وهي تخفي
…
نار أشواقها دلالاً وتُبدي
أسكرتني العطور والأنوارُ
…
فاترات وأحرقتني النار
فإذا الغرفةُ الصغيرة تغدو
…
علماً لا تحدُّه الأبصار
وغيوماً مُوردَّات الحواشي
…
وسمعاءً تحفها الأسرار
ورياضاً إعصارهن نسيم
…
وبحاراً نسيمها إعصار
لم يعد للوجود سرٌّ يباح
…
كلُّ ما فيه غامضٌ أشبّاح
ويدٌ عانقت وأخرى تراخت
…
وأسًى يبتدي ونعمى تتُاح
أجريح شفته كأس التداني
…
أم بريءٌ قد أثخنته الجراح؟
لا جديدٌ ولا قديمٌ ولكنْ
…
حلم وانتباهة وصباح
ضحك الفجر ساخراً وبكاني
…
حين غادرت معبد الشيطان
هارباً كالذئاب تحت ظلال
…
من أسىً فائر ومن أشجان
حاقداً تملأ السموم كياني
…
وخجولاً من كل وجه يراني
آه يا رب بعد طول تسام
…
لحقت بي حقارة الإنسان
أتراني أخطأت أم ذاك ضعف
…
كامن في دمائنا لا يكفُّ؟
سنه آدمٌ وأورثنيه
…
أم جديدٌ على شبابي يرف؟
والخطايا كريهةٌ غير إنيَّ
…
قد وجدت الأجساد ليست تعف
تُهت في حيرتي فوجهت عيني
…
للرحيم الذي يقيل ويعفو
أنت أنقذت من شراك الغواني
…
يُوسفاً بالهدى وبالبرهان
فلماذا تركتني يا إلهي
…
في سمادير جوهَّا الفتان
كلما قلت قربتني صلاتي
…
زعم القلب أنه غير دان
لا على الشك يستريح فؤادي
…
يا إلهي ولا على الإيمان
أنا يا رب تائه وغريقُ
…
بعُد الشط والتوت بي الطريقُ
فاتحاُ قلبيَ الشجي لنجوا
…
ك فأين السنا وأين الرحيق؟
ابعث النور في حياتي وهدهد
…
نزواتي لعلني أستفيق
وابعث النار في هشيم شكوكي
…
على شكي تقضي عليه الحريق
جيفة
لشارل بودلير
بقلم الأستاذ عثمان علي عسل
أتذكرين يا حبيبتي ما رأيناه صباح هذا اليوم المشرق من أيام الصيف الجميلة؟ أتذكرين هذه الجثة البشعة وهي راقدة على فراش قد تناثر عليه الحصى. وقد رفعت ساقيها في الهواء كفاجرة تلهبها الشهوات، ينضح منها العرق سما، وكشفت عن بطنها المفعم بروائح منتنة بفتور واستهتار. كانت الشمس تسلط أشعتها على هذه الجيفة كأنما تريد أن تصليها وتسويها فترد إلى الطبيعة ما وسقته، مبعثراً في ذرات لا تحصى. وكانت السماء تنظر إلى هذه الجثة الرائعة كأنها زهرة تتفتح، وكانت رائحة العفن الشديدة حتى كدت تسقطين على الأعشاب مغشياً عليك. وكان الذباب يطن حول هذه الأحشاء المجفرة التي تنبعث منها حشرات صافات سود تنحدر كأنها سائل ثقيل على هذه الأسمال الحية، وهي تعلو وتهبط كالأمواج، وتندفع في صخب، فيخيل إلى المرء أن الجسد وهو ينتفخ بأنفاس خفية يستمر في الحياة بتكاثر أجزائه. كان هذا الحشد يردد أنغاماً غريبة، كأنه ماء جار، أو ريح عاصفة، أو وسوسة حبوب تُذرَىَّ بمنسفة في الهواء بحركات متسقة. غابت معالم هذا الجسد عن الأنظار، فلم تعد تبدو للعين إلا كحلم أو رسم أولي لصورة سيرسمها الفنان من ذاكرته بعد حين على لوحته المهجورة. وكان ثمة كلب قلق قابعاً وراء الصخور، ينظر إلينا شزراً، مترقباً لحظة ذهابنا ليعود فيلتهم العظمة التي تركتها من هذا الحطام. على أنك وا حسرتاه! ستصيرين يوماً كهذه القمامة المدنسة، كهذا النتن المخيف، أنت يا نور عيني، يا شمس حياتي، أنت يا ملاكي، يا هيامي. بلي! إلى مثل هذا المصير سينتهي بك المطاف، يا ملكة الجمال، بعد أن تتلى على روحك الصلوات الأخيرة، فترقدين تحت الأعشاب والأزهار، ويبلى جمالك بين الرمَّم. وحينئذ خبري يا حبيبتي الفاتنة، خبري الدود الذي سيلتهمك بقبلاته، إنني سأحتفظ بصورة غرامي الزائل وروحه المقدسة.
البريد الأدبي
الأستاذ ساطع الحصري بك
ورد القاهرة في الأسبوع الماضي على الرحب والسعة المربي الكبير الأستاذ ساطع الحصري بك. زعيم النهضة العلمية في العراق، والمستشار الفني لوزارة المعارف في سورية، واحد أقطاب الفكر في الشرق، ومؤلف الكتاب القيم (دراسات عن مقدمة ابن خلدون)؛ ورد القاهرة يستجم قليلا بعد أن قضى سنة في العمل المتصل، متنقلاً من مدن الشام إلى قراه، يزور المدارس، ويدرس المناهج، ويبحث النظم، حتى استطاع أن يضع للتعليم في سورية دستوراً على أحدث الطرق التربوية الحديثة يلائم نهضتها ووطنيتها وعقيدتها ووحدتها، ثم أخذ يدعو إليه ويدافع عنه حتى نفذ. وقد نزل الأستاذ في فندق شبرد، فأقبل عليه المشوقون إليه والمعجبون به يرحبون بمقدمة وينعمون بلقائه.
معرض سيدات القاهرة
المعرض الذي أقيم في نادي سيدات القاهرة خلال هذا الشهر، لا يقل في مستواه عن أي معرض شاهدناه. والرسوم المعروضة كلها من رسم سيدات وآنسات، والبعض منهن لسن مصريات، ولكنهن عشن في مصر واستوحين تربتها السمراء وسماءها الصافية ومشاهدها المختلفة.
واحسن صور هذا المعرض من عمل الآنسات مرجريت يزبك وجان كوهين ومنيرفا فرح وكلو بادارو، ولكل طابعها وشخصيتها المميزة.
فرسوم الآنسة يزبك مفعمة بالعاطفة الشابة، وفي صورها شيء من الشاعرية، وهي ترسم وكأنها تصلي أو تغني وتبذل كل حرارة قلبها في الصلاة أو الغناء
وللآنسة جان كوهين صورة شخصية لرجل (دكتور هيكمان)، والآنسة جان رسامة بارعة ناضجة، قد وفقت فيما رسمت توفيقاً كبيراً، فأعطتنا خلاصة شخصية الرجل الذي رسمته، ويبدو أنه رجل ممتاز، فالصورة تنطق بالعمق والعزم ويقظة الحيوية النفسية.
أما لوحات الآنسة منيرفا فرح - وهذه أول مرة أسعد فيها برؤية صورها - فهي خير برهان على أن الآنسة الفنانة تجد جديداً يهز مشاعرها في الأشياء التي تصادفنا كل يوم ولا نحفل بها. وهي حين تعرض علينا صورها تشركنا في عواطفها المتجددة، وتفتح عيوننا على ألوان من الجمال كثيراً ما نغفل عنها. وتلك هي رسالة الفن.
والآنسة عطيات فرج توفق أحياناً فتبلغ مستوى زميلتها وصديقتها (جان) وتقصر أحياناً، وهي غالباً ما تحمل لوحاتها أكثر مما تطيق هذه اللوحات احتماله من الأشكال والألوان، فتضيع (الوحدة الفنية) ويتوزع اهتمام الناظر المتأمل، ويبدو اها تبذل في عملها مجهوداً كبيراً، ولكن كل هذا الإجهاد لا يصل بها دائماً إلى غايتها، ولألوانها طابع قاتم، وليس لنا اعتراض عليه ما دام وحي شخصيتها واحساساتها، ولا شك أنها في طريقها إلى النجاح الكامل.
وقد وقفت الآنسة أنايت شمليان في منظر من مناظر الطبيعة الصامتة، ولكنها لم تبلغ المستوى نفسه في لوحيتها (العارية) و (زهور).
وهناك فنانات ما زلن في منتصف الطريق: ففي صور (ماريان بيرسن)، نجد أن الإحساس أقوى من الأداء، ومع ذلك فهو إحساس لم يتركز بعد، كما أن الألوان غير ناضجة، وفي صور (عم رضوان) للآنسة قدرية علوية نجد المظهر الخارجي للشيخ المسن، ولكنها لم تنجح في نقل صورته النفسية.
ونعتقد أن المستقبل والاجتهاد، كفيل بأن يصل ببعض هؤلاء الفنانات إلى مستوى أرقى، واللواتي بهذه الجملة الأخيرة، هن الآنسات: قدرية علوية، ومفيدة شعبان، وكوكب يوسف. والمعرض في مجموعة مجهود لا بأس به.
نصري عطا الله سوس
نقص إرشاد الأريب
إجابة عن تساؤل الأستاذ أحمد أحمد آل صالح المذكور في عدد (الرسالة 160) أقول: إننا لا نستطيع أن نتهم ياقوتا الحموي بإغفال بعض الفحول، غير أن الكتاب لم يصل إلينا كاملاً، كما ذكر ذلك الغرباني مرجليوث في مقدمة الطبعة الأولى. وأمر آخر هو أحد الوراقين كان لفق جزءاً وباعه للغرباني مرجليوث على أنه من (إرشاد الأريب)، فطبعه وألحته بطبعته، وراج ذلك على الدكتور الرفاعي فنشره في طبعته الأخيرة. ونفس ياقوت لا يخفى على الحاذق.
وفي دار الكتب المصرية، مختصر لإرشاد الأريب، لعله يتيسر لنا الإطلاع عليه قريباً، فنستبين منه بعض ما خفي علينا من أصله.
فلسفة الإسكندرية القديمة
حاضرنا الأستاذ يوسف كرم، المدرس بكلية الآداب، بجامعة فاروق الأول، بقاعة المحاضرات لجمعية فؤاد الشبان المسيحيين، عن فلسفة الإسكندرية القديمة، وهي الحلقة الأولى من سلسلة محاضرات تقيمها الجمعية عن مدنيتنا الخالدة، الإسكندرية، في شتى العصور.
على أن ظاهرة لفتت نظري في محاضرة الأستاذ كرم، عن أصل الفلسفة! هل الفلسفة أصيلة في اليونان؟ لقد أكد لنا الأستاذ كرم، كما فعل كل مؤرخ للفلسفة من كتابنا المعاصرين، - ما عدا الدكتور غلاب فيما ذكر - أصالة الفلسفة اليونانية، وقال الدكتور كرم، متابعاً في ذلك أرسطو وأشياعه، إن طاليس الملطي هو أبو الفلسفة بلا منازع! فما قول الأستاذ كرم في إننا ننازع طاليس هذه الأبوة، ونزعم أن الشرق هو أبو الفلسفة.
على أن الأستاذ كرم أمتعنا كل الإمتاع باستعراضه التلخيصي لتاريخ الفلسفة منذ أن وضع لبنتها طاليس - فيما يرى أستاذنا الفاضل - إلى آخر عهد الأفلاطونية الحديثة بالإسكندرية، وأن أبناء الثغر من رواد الحضارة الجديدة ليتطلعون إلى بعث جديد، يحسون اليوم إرهاصاً بوشك حدوثه، وإن غداً لناظره قريب.
(الإسكندرية)
علي حسن حموده
حول اسم كتاب
اطلعت على ما كتبه الأستاذ منصورجاب الله فيما يصل بتخطئه عنوان كتاب (الفاروق عمر)، ثم رد الأستاذ عبد المتعال الصعيدي والأديب احمد إبراهيم الغرباوي عليه، وكان من المصادفة أني كنت أقرأ ساعتها نص ابن الأنباري (على أن اللقب إذا كان أشهر من الاسم) فوجدت الأستاذ منصوراً محقاً في قوله لأن اسم سيدنا عمر اشهر من لقبه، والعامة عندنا لا يكادون يعرفون لقب ثاني الخلفاء الراشدين، على حين أنهم يحفظون اسمه حفظاً.
وأما ما ذكره الزرقاوي من ألقاب الخلفاء تقدم على أسمائهم فهذا نادر لا يقاس عليه، وبحسب القارئ أن يسأل نفسه: هل يقولون هارون الرشيد أو الرشيد هارون، وهل يقول
عبد الله المأمون أو المأمون عبد الله. . . ليجد عند نفسه الجواب الصحيح. وقد أشار السيوطي إلى هذه المسألة اللغوية، وقال إنها (تخصيص لإطلاق وجوب تأخير اللقب)
وكان حرياً بسعادة الدكتور هيكل باشا ان يجري على المشهور من أقوال اللغةويدع التخصيص الذي أورده السيوطي وغيره.
ومن هان لا نرانا نميل إلى قول الأستاذ الصعيدي من أن الأستاذ منصور جاب الله كان متعتنا في تخطئة اسم كتاب مؤلفنا الكبير، وإنما كان رجلا يسعى وراء الحق، ولو كان متعتنا حقيقة لما أقدم على تخطئة رجل له من المكانة في وطنه وي بلدان العروبة ما له.
(الإسكندرية)
عبد العزيز جادو
الكتب
فيلسوف العرب والمعلم الثاني
لمعالي الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا
هذا الكتاب من تأليف معالي مصطفى عبد الرزاق باشا الرئيس الفخري للجمعية الفلسفية المصرية. وهو أول كتاب في سلسلة بحوث الجمعية التي تعمل على (إشاعة التفكير الفلسفي في أوسع نطاق بنشر طائفة من المؤلفات في تاريخ الفلسفة، وما بعد الطبيعة، والاجتماع، وعلم النفس، على أن تعالج حقيقة هذه العلوم من اسهل الطرق وأقربها مأخذاً) على حد ما جاء في التصدير
وكتاب فيلسوف العرب والمعلم الثاني يحقق هذه الأغراض كل التحقيق، فقد عرض معالي مصطفى باشا للموضوعات بما هو معروف عنه من التحقيق العلمي، مع نفاذ الفكر، وعمق النظر ورقة الأسلوب، وبراعة الاستهلال ولطف الانتقال
وموضوعات الكتاب أوسع من عنوانه، فإلى جانب فيلسوف العرب وهو الكندي، والمعلم الثاني وهو الفارابي، نجد الشاعر الحكيم المتنبي، وبطليموس العرب أبن الهيثم، وشيخ الإسلام أبن تيمية.
وإذا كان المقصود هو التعريف بشخصية هؤلاء الأعلام، على الأخص وإن حجم الكتاب لا يتسع للإحاطة بتفصيل مذاهبهم، فقد اكتفى معالي الوزير بتحقيق حياة بعضهم، وعرض الجانب الفلسفي عند البعض الآخر، وهي جوانب كلها طرافة. انظر إلى ما كتبه أبن تيمية، تجد قطعة من الأدب الرفيع استهلها بقوله (في أواخر سنة 728 هـ. كان في قلعة دمشق إمام من أئمة المسلمين، شيخ جاوز السابعة والستين من عمره، يعاني ألم الاعتقال والسجن، وحيداً، ليس معه إلا أخ يقوم بخدمته. وكان الشيخ يقاسي فوق ألم السجن ألماً آخر، هو على نفسه أشد وقعاً: فقد منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا له دواة ولا قلماً ولا ورقاً. وكتب عقيب ذلك بفحم يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النقم). . . أليس هذا عرضاً للفلسفة بأسلوب الأدب
(* * *)
وا إسلاماه!
للأستاذ علي احمد باكثير
بقلم الأستاذ لبيب السعيد
بعد أن ردت مصر الصليبيين في المنصورة المجيدة لم ينالوا من الإسلام خيراً، خرجت إلى (عين جالوت) ترد التتارهم الآخرين؛ ووقف سلطان مصر المظفر قطز على رأس جيشه يثخن بيده في أعدائه الطغاة، بيد أن هؤلاء مكروا مكراً كاد يرديه لولا أن برز فارس مسلم ملثم رد عليهم مكرهم وتلقى المكروه من دون السلطان ثم هتف وهو يعاني الموت:(صن نفسك يا سلطان المسلمين، ها قد سبقتك إلى الجنة).
لم يكن هذا الفارس سوى جلنار: زوجة السلطان وحبيبته. وقد جعل السلطان يقبلها ويقول لها في ذهول وجزع: (وا زوجاه! وا حبيبتاه!) فنادته وهي تجود بروحها: (لا تقل وا حبيبتاه قل: وا إسلاماه!).
وانطلق السلطان إلى المعمعة يصرخ: (وا إسلاماه!). ورجاله معه يرددونها ويلقون في قلوب الذين كفروا الرعب، ولا يزالون يجاهدونهم ويغلظون عليهم حتى يجيئهم النصر ويشفي الله صدور المؤمنين.
تلك هي القولة التاريخية التي اتخذها صديقنا الأستاذ علي باكثير عنواناً لروايته الجميلة.
كانت جلنار وقطز رقيقين في جملة الرقيق أيام آل أيوب، ولكن لهنا قصة حافلة بالعبر، فهما سلالة بيت بعيد النسب في المجد، فأما هي فأبنت السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، وأما هو فابن عمتها. وقد نزلت افجع الأحداث بآلها فبادوا جميعاً في ظروف تموج الهول، وسلم هذان من الموت ليباعا في الأسواق وليذوقا ضروباً من الهوان. وفرق الدهر المشت بينهما أمداً ثم جمعتهما الأقدار أخيراً ليكونا سلطاني المسلمين وليكتبا في تاريخ الإسلام صفحة جد نضيرة.
تجلو الرواية أياما مجيدة لسلف المسلمين. وفصولها جميعاً تنطوي على رسالات سامية، فهنا معرض خلق وبطولة باهرين، وهناك حديث وطنية وتضحية مثاليتين، وهنا دعوة قوية إلى الاستمساك بالحق والحماسة له، وثم حوافز للمجد وزراية على الضعف والضعفاء. ولكنك على كثرة ما تواجهك هذه المعاني لا تحس أن الكاتب تكلفها، بل تدرك
أنها - مع علو نمطها - ليست الشيء الذي وضعت له الرواية وتلك لا ريب من خصائص القصة الفنية الناجحة.
ولقد عرض المؤلف أشخاصاً يتعذر على القارئ نسيانهم لوفرة ما لذوا شعوره وناجوا ضميره. فكيف ينسى مثلاً (ممدود) أبو قطز وصهر جلال الدين ووليه الحميم ومستشاره الحصيف الأمين؟ وكيف ينسى (سلامة الهندي) الخادم الوفي الذي حمل الطفلين: قطزا وجلنارا - وكان اسماهما في طفولتهما محمودا وجهادا - إلى الهند يوم أغرق نساء بيت (خوارزم شاه) في اليم تفادياً من ذل الإسار، والذي قاسى ما قاسى ابتغاء الوفاء، والذي مات هماً بالغلامين إذ بيعا في أسواق النخاسة وجزعاً عليهما من تفرق الشمل؟ وكيف ينسى (غانم المقدسي) السري الصالح وزوجته البارة؟ و (الحاج علي الفراش) الخادم الخير الذي لا تمنعه ضآلة منزلته من إسداء الجميل؟ و (ابن الزعيم) المحسن البار والوطني المسلم المجاهد؟
فأما (الشيخ عز الدين بن عبد السلام) العالم الذي لا يشتري بدينه ثمناً قليلاً، والسياسي الخالص العقيدة، والمجاهد الصادق البأس، والزعيم الذي يجد الناس في زعامته أنواراً وآمالاً، فما ألطف وما أجل وما أنفع ما جرى به عنه قلم المؤلف في روايته. إن القارئ كلما حكى المؤلف عن عز الدين شيئاً لتحويه موجات روحية، وإن نفسه لتسمو وتسمو.
وفي الرواية صفحات أخرى كثيرة كأنها لعذوبتها فيوض من الشعر كتبها المؤلف بأسلوب مسيطر ينتزع للرواية منزلة طيبة بين الآثار الأدبية.
فطفولة (جهاد) الحلوة ومعابثة أبيها إياها وطموح (محمود) وبطولته وغرامه بتدمير التتار وهو بعد في طفولته يجتاز الحياة على جسور من الأوهام والأحلام، والحب الأكيد بين الطفلين، ومناجاة جلال الدين لأبيه حين أخطأ جلال وقسا على بلد إسلامي. . هذه كلها فيها جمال مؤثر ورقة تلفت القلوب، وفيها دقة وحذق تساوقان علم النفس مساوقة ملحوظة.
والحب الذي كان بين قطز وجلنار، الحب العظيم الذي كأن السماء كانت ترعاه، والذي نعما به وشقيا، هو في كل مراحله من أمتع ما في الرواية وأكثره استهواء للب وهزاً للعواطف.
حدث المؤلف عن الحبيبين في فترة من أيامهما قال:
(وحليت الدنيا في عينيهما فصارت رياضاً وأنهاراً ووروداً وأزهاراً وطيوفاً من ضياء الشفق البهيج، وروحات من نسيم الفجر العليل يتقلبان في أيام كلها أصيل وليالي كلها سحر.
ومن مثل هذا النسق العالي كانت كتابة (باكثير) عن ذلك الحب الفائق، ومن مثله كان وصفه للطبيعة في بعض جنبات روايته.
بقي أن نعتب على مؤلفنا الموهوب ما حشد به روايته من أسماء كثيرة لأناس في العهد الأيوبي لم تكن الرواية - في رأينا - بحاجة إلى ذكرهم.
ونحن نستميح صديقنا المؤلف في أن نسأله: ما هذه الحيدة عن الطابع الأدبي الخالص في بعض أنحاء الرواية حين يسوق أحداث التاريخ غير مدبجة بيراع الأديب فلا هي خفيفة ولا هي محبوبة بل هي مجهدة للقارئ مزعجة إياه. لقد قال مثلاً في أحد المواضع: (فلما كان يوم السبت لست بيقين من ذي العقدة سنة 657 حصل كيت وكيت) فانظر كيف يثقل هذا على من يقرأ قصة أدبية محضاً. إن اللمحات بله العبارات الأدبية - وخاصة إذا كانت من أديب تمرّس بالقصة وتوفر عليها مثل مؤلفنا البارع - كانت كفيلة جداً بأن تشق لنا مسالك التاريخ في الحدود التي تناسب روايته بوصفها أثراً أدبياً لا كتاباً تاريخياً. إن القصة الفنية كاللوحة - كم هو معلوم - والرسام يرسم الصورة للشيء القديم فيجعلنا بفنه ندرك تاريخ هذا الشيء، دون أن يضع عليه اسم يوم أو شهر أو سنة. ألا وإن الفطرة الفنية الذواقة على نقيض العقلية العلمية لا تحفل كثيراً بالتواريخ ولا تعني بالأسماء إلا بقدر. وأظن إن الأستاذ المؤلف إذا عني بتقديم روايته لمسابقة وزارة المعارف في الموعد الذي ضرب للمتسابقين أعجل عن بث مواهبه الفنية في تلك الأجزاء. ولو فعل لكانت روايته يقيناً من أرفع الآثار الفنية لدينا.
وبعد فلا بد أن نقرر أن المؤلف كان في جل روايته نافذ القوة، وأنه - فيما خلا المواضع المشحونة بالتاريخ لغير داع فني - بلغ فيما عرضه أقص ما يبلغه مؤلف في نفس قارئه من الانفعال والأثر القوي.
لبيب السعيد