المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 613 - بتاريخ: 02 - 04 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦١٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 613

- بتاريخ: 02 - 04 - 1945

ص: -1

‌المذاهب تتقارب

للأستاذ عباس محمود العقاد

من أهم الأنباء التي نقلها إلينا البرق في الشهر الماضي ذلك النبأ الذي يلخص نظام التوريث والوصية في البلاد الروسية، وفحواه أن القوانين الجديدة تبيح لمن يشاء أن يترك ميراثه لمن يشاء، بعد أن كانت التركات من حق الدولة وحدها إن لم يكن للمتوفى ورثة أو أقارب.

سئلت منذ تقدمت الجيوش الروسية في الأرض الأوربية: ماذا يكون مصير أوربا أمام الدعوة الشيوعية واحتلال الروس للأقطار التي يحتلونها الآن وقد يحتلونها إلى ما بعد انقضاء الحرب بسنوات؟ فقلت: إن الروسيا لن تكون شيوعية ماركسية في ذلك الحين، لأنها ستقترب من النظم الاشتراكية المعتدلة، ثم تقترب من النظم الديمقراطية، وسيكون للديمقراطية حظ السبق إلى التطور السريع في مسائل الثروة والتأمين الاجتماعي، فتحل المشكلات التي عجزت الماركسية عن حلها بعد ربع قرن من التجارب والمحاولات، فإن توفق الديمقراطية إلى الحل الحاسم في جميع هذه المشكلات فهي موفقة لا محالة في الابتداء الذي يكفل لها حسن الانتهاء أو حسن التقدم والاطراد في الطريق.

وقد يقتضي الأمر بضع سنوات قبل أن تصطبغ الماركسية بالصبغة الأخيرة التي تقربها من الديمقراطية، فلا نقول إن الماركسية اليوم قد تغيرت كل التغيّر ولا أنها قد رجعت في مسألة الطبقات عن القواعد التي قام عليها المذهب منذ أعلنه دعاته في القرن الماضي، ولكنا نقول إنها شرعت في النقلة التي لا رجوع فيها، وإن المسألة بعد ذلك مسألة الوقت والمناسبات.

والذي تغير حتى الساعة من أصول الدعوة الماركسية غير قليل فأول عوارض التغير هو العدول عن نشر الدعوة في العالم والاكتفاء بالتجارب الميسورة في البلاد الروسية وما جاورها، وقد كان هذا مبعث الاختلاف الشديد بين الزعيمين الكبيرين تروتسكي وستالين.

وجاءت بعد ذلك عوارض أخرى لم تكن تدور للينين - فضلاً عن كارل ماركس - في حساب. فاعترفت الحكومة السوفيتية بالكنيسة وبعض النظم الدينية، ثم اعترفت بالوطنية التي كانت تعتبر في عرف كارل ماركس وأصحابه بقية من بقايا رأس المال، ولجأ

ص: 1

الزعماء إلى إثارة النخوة في صدور الشعب بتسمية الحرب الحاضرة (حرباً وطنية) وإحياء التراث الوطني في الأغاني والمواكب والمسرحيات.

وعمد ديوان التعليم إلى التفرقة بين الجنسين في المدارس الابتدائية والثانوية، مع حرص الماركسيين على إعلان المماثلة التامة بين الرجال والنساء في جميع الأعمال وجميع الكفاءات.

وقد سلم ولاة الأمر الروسيون في الملكية الصغيرة وسلموا في تفاوت الدرجات والأنصبة على حسب اختلاف الأعمال، وسلموا في معاملة الصناعات الفردية بغير النظام الذي يعامل به الأجراء في المصانع الكبيرة، ونشأت عندهم طبقات ممتازة في المعيشة تبعاً لامتيازهم في الوظائف المدنية أو العسكرية.

وكل هذا والروسيا بمعزل عن العالم يتخيل أبناؤها أن الإصلاح في ظل الديمقراطية مستحيل، وإن إنصاف العمال مع قيام رأس المال ضرب من الأساطير، فإذا ارتفعت الحواجز غداً وأبيح للروسيين السفر إلى أنحاء العالم وأبيح للأجانب السفر إلى روسيا فلا بد من تبدل الأحوال في أمد قصير، ولا بد من تغير النظر إلى حقائق الأمور. فإن الشيوعي الذي يعلم يومئذ أن الأمور تنصلح في ظل الحكم الديمقراطي، وأن العمال ينالون من خيرات الدنيا في البلاد الأخرى فوق ما ينالونه في الجمهوريات التي تسمى بجمهوريات العمال لن يثبتوا على توجسهم من الديمقراطية ولا يأسهم من صلاح الأمور على يديها، ولن يثبتوا على تعصبهم للشيوعية، ولا حصر الخير كل الخير في دعوتها، ولا سيما بعد التوسع في تطبيق مذاهب التأمين الاجتماعي وإنصاف العاطلين والعجزة والشيوخ، وشعور الروسيين حكومة وشعباً بضرورة التعاون بينهم وبين سائر الحكومات والشعوب.

والأرجح عندنا أن سياسة العزلة الروسية لن تدوم بعد الحرب بزمن طويل، ونعني بسياسة العزلة تصعيب السفر على الروسيين وتصعيب الدخول إلى الأرض الروسية على الأجانب، فإن قيام هذه العزلة لا يتاح لمن يريد، بعد تشابك المصالح وتواتر الأخبار والعلاقات من هنا وهناك، وبعد احتياج الساسة الروس إلى بسط قضاياهم السياسية، وتحصيل المواد الصناعية والسلع التجارية التي لا يستغنون عن توريدها والمبادلة عليها

ص: 2

وعقد الصفقات الطويلة أو القصيرة بشأنها، وربما أحس هؤلاء الساسة قبل غيرهم بضرورة التيسير في مسألة السفر من بلادهم والسفر إليها، لأنهم يأمنون بذلك معارضة المنكرين لكل تغيير في الأساليب الماركسية إذا وجب أن يغيروها ويقتربوا بعض الاقتراب من النظم الديمقراطية، فإنما يصعب الخروج على قواعد كارل ماركس لمن يجهل أعمال الإصلاح وأحوال العمل في البلاد الديمقراطية ويمتنع عليه أن يعقد المقارنة بينها وبين أعمال الإصلاح وأحوال العمال في الجمهوريات السوفيتية، فإذا تيسرت هذه المقارنة للمتعصبين المتعنتين لم تقم الحوائل الحاسمة دون التغيير درجة بعد درجة، ومرحلة بعد مرحلة حتى يتم التقارب والتوفيق بين أطراف المذهبين، أو بين أطراف المذاهب التي تتناول مسائل الإصلاح ومشكلات الاجتماع.

وقد كان من قوانين العدل المروغ منها عند الماركسيين أن تحرم الوراثة كما تحرم الملكية. ولكن تحريم الوراثة فيما نرى أدنى إلى الظلم والمفارقة من تحريم الملكية حيث كانت في المال أو العقار، لأن الحكومات والقوانين لن تمنع الإنسان أن يرث عن أبيه أمراضه وعيوبه وسوء العلاقة بينه وبين غيره، فليس من حقها أن تمنعه ميراث الخير الذي يصل إليه أو تقطع الصلة بينه وبين مساعي أبيه، وإذا كان للمجتمع حق في ميراث الفرد الغني فليس للمجتمع أن يجهل حق بنيه وبناته وأقرب الناس إليه.

فاليوم يرجع الشيوعيون إلى الاعتراف بالميراث والتوصية بعد الاعتراف بالملكية الصغيرة مدى الحياة، وإذا كانت الأملاك المنتجة للثروة لا تزال في الجمهوريات السوفيتية مستثناة من حيازة الأفراد فالديمقراطية نفسها لا تمنع استيلاء الدولة على هذه الأملاك، ولا تمنع مشاركة المجتمع في التركات الكبيرة بحصة تربى على حصص الأبناء الأقربين.

نعم إن الملكية الصغيرة في الجمهوريات السوفيتية تخالف الملكية الصغيرة في الأمم الديمقراطية، لأنها هناك أشبه بالحكر الذي يستغل بإشراف الدولة ولا يجوز لمن يستغله أن يتصرف فيه بالبيع أو الهبة أو التأجير، ولكنه - كائناً ما كان - أقرب إلى الديمقراطية منه إلى الماركسية في أساسها. فهو قد تجاوز منتصف الطريق في اتجاه الديمقراطية، ولا سيما بعد تسويغ التوصية والميراث.

وليست الشيوعية وحدها بالمذهب الذي يقترب في إبان الحرب - وبعد الحرب - من

ص: 3

المذاهب الاجتماعية على اختلافها.

فإن الديمقراطية مثلها تقترب من ناحية إلى الاشتراكية كما تقترب من ناحية أخرى إلى النازية أو الدكتاتورية. وإنها لمضطرة لا محالة إلى العدول عن خطة الهوادة والإغضاء في معاملة الخارجين على مبادئ الحرية الفردية والحرية القومية، ومضطرة لا محالة إلى العدول عن خطة الحيدة التامة - من قبل الحكومة - في الرقابة على شؤون الثروة ومسائل الأرزاق، ومضطرة لا محالة إلى اختصار (الإجراءات) الشكلية التي كانت تعوق حركة العمل في الحكومات البرلمانية، وهي اليوم بما تفرض من الضرائب على التركات وعلى الأرباح المفرطة والمرافق العامة أصح اشتراكية من مذاهب الاشتراكيين، لأنها تشارك الأفراد في أملاكهم الخاصة وغلات تلك الأملاك وتنقلها إلى المفتقرين إليها، على سنة الدعاة الشيوعيين الذي جعلوا شعارهم:(من كل حسب ما يستطيع، ولكل حسب ما يحتاج إليه).

إلا أن الفرق بين الديمقراطية والشيوعية في هذه الحالة أن الديمقراطية تدع الفرد مستطيعاً لجمع الثروة حتى يؤخذ منه العون الاجتماعي على حسب ما يستطيع، أما الشيوعية فقد سلبت الفرد نخوة المنافسة وحمية الطموح إلى التفوق، وتركت له شيئاً واحداً وهو أن ينتظر المدد من المجتمع على حسب الحاجة إليه.

ومن ثم لا يبقى بعد الحرب مذهب اجتماعي واحد كما كان قبلها أو أراد دعاته أن يبقى، وإنما تتقارب مع الزمن حتى يخلص منها مذهب واحد جامع لمحاسنها معتبر بمساوئها، والديمقراطية هي المذهب الغالب عليها في النهاية لأنها هي المذهب الذي لا يصطدم في أساسه بموانع التطور والاقتباس، فالشيوعية التي تبيح الملكية وتبيح الميراث تناقض أساس المذهب الذي قامت عليه، والدكتاتورية التي تنكر على الزعيم قداسته تناقض أساسها وتنتزع حجتها في محاربة الديمقراطية، ولكن الديمقراطية التي تحد الملكية على سنة المساواة، أو تزيد في سلطان الوزير المقيد برقابة النواب والناخبين لا تزال ديمقراطية في الصميم ولا تنقض مبدأ من المبادئ التي تقوم عليها الحرية الفردية، وتعاون الأمة ذلك التعاون الذي يشمل الطوائف والأفراد.

ما من حركة إنسانية هي شر محض من مبتدئها إلى منتهاها حتى الحرب العالمية وما

ص: 4

أشنعها وأقساها.

فلعل هذا التصالح بين المذاهب التي تسعى إلى خدمة الإنسان هي ثمرة الخصومة التي تسفك فيها دماء بني الإنسان، ولن يزال الارتقاء غنيمة غالية الثمن في تاريخ أبناء آدم وحواء.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌علم العرب الأقدمين بالجراد

للدكتور محمد مأمون عبد السلام

وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة

عرفت شعوب الشرق الأوسط من حاميين وساميين الجراد وأحواله وأطوار نموه وتحركه من أقدم العصور. يدل على ذلك ما ورد في كتب العهدين القديم والجديد، وما جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وما لدينا من أمثال العرب القدماء وأشعارهم. فوصف سفر الخروج (12 - 13) غاراته على مصر أبلغ وصف:(ثم قال الرب لموسى مد يدك على أرض مصر لأجل الجراد ليصعد على أرض مصر ويأكل كل عشب الأرض وكل ما تركه البرد. فمد موسى عصاه على أرض مصر فجلب الرب على الأرض ريحاً شرقية كل ذلك النهار وكل الليل، ولما كان الصباح حملت الريح الشرقية الجراد فصعد الجراد على كل أرض مصر وحل في جميع تخوم مصر شئ ثقيل جداً لم يكن قبله جراد هكذا مثله ولا يكون بعده كذلك، وغطى كل وجه الأرض وأكل جميع شجر الثمر الذي تركه البرد حتى لم يبقى شئ أخضر ولا في عشب الحقل في كل أرض مصر).

ووصف سيدنا سليمان أسراب الجراد في أمثاله بقوله: (الجراد ليس له ملك ولكنه يخرج كله فرقاً فرقا).

وجاء في القرآن الكريم (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين).

وورد أن النبي الكريم كان يصلي ظهراً والجنادب تنقز من الرمضاء. وفي حديث عمر رضي الله عنه أنّ رجلا قال أصبت دباة وأنا محرم، قال اذبح شويهه. وفي حديث ابن عباس أنه دخل مكة رجْل من الجراد فجعل غلمان مكة يأخذون منه فقال:(أما إنهم لو علموا لم يأخذوه) يعني بذلك أنّ صيد الجراد مكروه في الحرم. وفي الحديث الشريف (كأن نبلهم رجْل جراد). وذكر الجراد في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال ليت عندنا منه قفعة أو قفعتين. قال ذلك لأنه غذاء محبوب عند العرب. وسئل النبي كيف الناس بعد ذلك؟ قال دباً يأكل شداده ضعافه حتى تقوم عليهم الساعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن مريم جاءت فجاءها طبق من جراد فصادت منه - أي قطيع من الجراد. وورد أن عائشة

ص: 6

رضي الله عنها أرسلت إلى النبي جراداً محسوساُ أي سوى على النار. وفي حديث غزوة حنين (أرى كتيبة حرشف) أي فرقة من الرحالة شبهوا بالحرشف أي الجراد لكثرتهم.

وقد ورد الجراد بأسمائه المختلفة في أمثال العرب وحكمهم وأشعارهم فقالوا (إذا أجدب الناس أتى الهاوي والعاوي) والهاوي هو الجراد والعاري هو الذئب. وسمي الجراد بذلك لأن له هويا أو دويا يعني صوتاً. وقد سمى بعض العرب خيلهم بالجرادة والخيفانة، تشبيها لها به في خفته وسرعته، فسمى عبد الله بن شر حبيل فرسه بالجرادة. وجرادة العيار اسم فرس في الجاهلية لأعرابي اسمه العيار صاد جراداً وهو جائع ودسها في النار وصار يخرجها واحدة واحدة ويأكلها حية وهو لا يدري من شدة الجوع فطارت منها جرادة فقال:(والله إن كنت لأنضجهن) فضرب ذلك مثلا لكل من أفلت من كرب. وقيل كانْ العيار رجلا أعْلَم أخذ جرادة ليأكلها فأفلتت من عَلَم شفته، ويصف العرب الفرس والناقة السريعة بأنها خيفانة لسرعة عدوها وخفتها وطمورها كالجراد قال عنترة:

فغدوت تحمل شكتي خيفانة

مرط الجراء لها نميم أتلع

وقال امرؤ القيس:

وأركب في الروع خيفانة

لها ذنب خلفها مسبطر

وقال مشبها الخيل بالحرشف:

كأنهم حرشف مبثوث

بالجو إذ تبرق النعال

والحرشف ضرب من الجراد قال الراجز:

يا أيها الحرشف ذا الأكل الكُدَم

يعني الشديد الأكل.

ويقول العرب في أمثالهم (صر الجندب) وهو مثل يضرب للأمر يشتد حتى يقلق صاحبه. والأصل في هذا المثل أن الجندب وهو الجراد إذا أرمض من شدة الحر لا يستقر على الأرض بل يطير فيسمع لرجليه صرير. وقد وصف ذلك أحد شعرائهم بقوله:

قطعت إذا سمع السامعون

من الجندب الجون فيها صريرا

والجندب من أسماء الإساءة في لغة العرب فتراهم يكنون به الظلم والغدر والداهية فيقولون (وقع القوم في أم جندب) إذا ظلموا. قال الشاعر:

قتلنا به القوم الذين اصطلوا به

جهاراً ولم نظلم به أم جندب

ص: 7

أي نقتل به غير القاتل.

وكان من عادة العرب أن يسموا الأشخاص بأسماء الجراد، فورد أن جرادة اسم امرأة في الجاهلية غنت للرجال الذين أوفدهم عاد إلى البيت الحرام بمكة يستسقون لتلهيهم عن السقاية. وفي ذلك يقول ابن مقبل:

سحراً كما سحرت جرادة شربها

بغرور أيام ولهو ليال

ويقال إنه كان بمكة في الجاهلية مغنيتان يقال لهما الجرادتان مشهورتان بحسن الصوت والغناء، وقيل إنهما مغنيتان للنعمان. وجندب اسم رجل.

وعادة أكل الجراد قديمة عند شعوب الشرق الأوسط فقد أحله الله لبني إسرائيل على لسان كليمه موسى (هذا منه تأكلون الجراد على أجناسه، والدبا على أجناسه، والحرجوان على أجناسه والجندب على أجناسه). وكان يحي بن زكريا عليهما السلام يقتات بالجراد والعسل وهو يتعبد في البرية.

وقد أحل أكله للمسلمين على لسان النبي الكريم (أحلت لكم ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال). وورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الجراد في غزواته، فقد ذكر ابن أوفي (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستاً كنا نأكل معه الجراد)، ولذلك كان العرب يصطادونه ويكتسبون لعيالهم منه كما قال المبرد:

إذا أكل الجراد حروث قوم

فحرثي همه أكل الجراد

وللعرب في أكله طرق فكانوا يقشرونه أي ينتزعون رؤوسه وقوائمه ويسمونه الجُلُف ومفرد جليف كما ذكر قيس ابن الحطيم في وصف امرأة:

كأن لباتها تبددها

هزلي جراد أجْوافه جلف

وكانوا يجففونه ويسحقونه ويضيفونه إلى الدقيق لصنع الخبز ويطبخونه في المرجل ويسمونه الهميشة لأنه يغلى بعضه في بعض فيسمع له حركة. ويشوونه على النار ويسمونه المحسوس، وكان العرب يأكلون بيض الجراد وبيض الضب ويسمونه المكن قال أبو الهندي عبد المؤمن بن عبد القدوس:

وما في البيوض كبيض الدجاج

وبيض الجراد شفا القرم

ص: 8

ومكن الضباب طعام العري

ب لا تشتهيه نفوس العجم

ولم يعتبر العرب الجراد حشرة بل كان في عرفهم من صغار الطير لذلك سموه طيفورا أو طويئراً.

والجراد من صميم حشرات بلاد العرب لكثرة ما ورد من أسمائه في العربية. وقد سمي جراداً لأنه يجرد الأرض أي يدبشها أو ينمشها أو يحتنكها أي يلتهم كلأها فيتركها جرداء من جرد الشيء قشره وجرد الجلد نزع عنه الشعر. ومنه الرجل الأجرد. والجرد من الأرض الفضاء الذي لا نبت فيه. قال الشاعر يصف حمار وحشي يأتي الماء ليلا ليشرب.

يقضي لبانته بالليل ثم إذا

أضحى تيمم حزما حوله جرد

والجردة أرض مستوية متجردة. ومكان جَرِد وأجرد وجَرَد لا نبات فيه. وفضاء جرد وأرض جرداء جردها الجراد أو القحط تجريداً. وفي الحديث (كانت فيها أجارد) أي مواضع متجردة من النبات. والسنة الجارود هي المقحطة الشديدة المحل. ويقول العرب جردت الأرض فهي مجرودة إذا أكلها الجراد.

والجراد اسم للجنس يطلق على الذكر والأنثى على السواء، ويسمى العرب ذكر الجراد بالعنظب أو العصفور أو الجندب. وقيل الجندب والقمل هو الصغير من الجراد قال الشاعر:

يغالين فيه الجزء لولا هواجر

جنادبها صرعى لهن فصيص

أي صوت. ويسمون الأنثى من الجراد العنظوانة نسبة إلى العَنظ وهو الكرب لأنها تحدث الكرب والشدة قال جرير:

ولقد رأيت فوارسا من رهطنا

عَنَظُوك عَنْظَ جرادة العيار

(أي لازموك وغموك) وتسمى الأنثى أيضاً السرعوفة أو العيساء أو المرادة أو الدباساءة. ومن أسماء الجراد الحسبان المذكور في القرآن الكريم (فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيداً زلقا).

ومنها الحاسة لأنه لا يدع في الأرض شيئاً إلاّ حسه أي لم يترك منه شيئاً. ومنها أيضاً السرواح لأنه يسرح. ومن أسماء الجراد أيضاً الجائح لأنه يجتاح كل شيء أي يستأصله، ومنها الجادي لأنه يجدي أي يأكل كل شيء. قال عبد مناف الهذلي:

ص: 9

صابوا بستة أبيات وواحدة

حتى كأن عليها جادياً لُبسَداً

واللبد هو الكثير.

والدَّيجَان هو الكبير من الجراد.

والجُنْدُعُ أو الخَنْدَع أو الحندع جندب أسود له قرنان طويلان وهو أضخم الجنادب.

وكان العرب على علم بأطوار نمو الجراد وتطوره وتزاوجه فقالوا غرزت الجرادة أو رزت أو متحت أي أثبتت ذنبها في الأرض لتسرؤ أي تدفن بيضها في الأرض فهي غارزة، والمغرز هو موضع بيضها، والجرادة السرؤ هي التي أسرأت أو سرأت أي ألقت السرء أي المكن وهو البيض. ويطلق العرب المكن على بيض الضب كذلك كما سبق القول.

ويقول العرب مكنت الجرادة فهي مكون إذا كانت حبلى أي جمعت البيض في جوفها وحفظته فيه فإذا ألقته فهي السلقة. فإذا لم يكن في جوفها بيض فهي جرادة صفراء.

وإذا انقف الجراد بيضه أي ألقاه فإنه يتنفس عن السروة وهي صهباء إلى البياض وهذه تصبح دبا عندما تأخذ في الحركة قبل أن تنبت أجنحتها أي قبل أن يطير فتكون الأرض لوجوده مدبوءة أو مدبية وواحدته دباة. والدبى اسم مكان بالدهناء يألفه لجراد فيبيض فيه. والدبا يكون في أول أمره قمصاً كالعث صغراً (الطور الحوري الأول) ثم يصبح كالقمل سوادا ويسمى الحبشان (الطور الحوري الثاني) فإذا سلخت الحبشان صارت يرقاناً فيها جدة سوداء وجدة صفراء (الطور الحوري الثالث) وجميع هذه الأطوار يسميها العرب خرشفاً وهي أشره ما يكون، ويسلخ اليرقان المعين أو الخيفان وتظهر فيه خطوط مختلفة من بياض وصفرة (الطور الحوري الرابع) ثم يصبح مرجلا أو كتفاناً لظهور أوائل أجنحته ولأنه إذا تحرك لا يطير بل يقفز في الأرض مثل المكتوف الذي لا يستعين بيديه إذا مشى، ويسمى، كذلك عتاباً لأنه يعتب أي يقفز (الطور الحوري الخامس) ثم يصبح غوغاء حين يخف للطيران (الطور الحوري السادس). وقد سمي العرب السفلة المتسرعين إلى الشر من الناس بالغوغاء لكثرة لغطهم وجلبتهم. ثم يصبح عند ما يطير جراداً (الطور البالغ). والمسيح هو الجراد إذا صار فيه خطوط سوداء وصفر وبيض وتسييح الجراد هو ما يخرج منه من ألوان شتى حين يزحف.

ص: 10

وقد عرف العرب الكثير عن أعضاء الجراد، فقالوا إن للجرادة تأشيرة وهي التي تعض بها والتأشير أيضاً شوك ساقية أما الأشرتان أو الاثناء أو الأطواء فالعقد التي في رأس الذنب كالمخلبين وبها يرز الجراد أي يدفن بيضه في الأرض، ويقال للمخلبين اللذين تحت الساقين المنشاران. والنخاع هو الخيط الذي في حلق الجرادة كاللسان. والبخنق جلباب الجراد على أصل عنقه والمنكبان هما رؤوس الأجنحة - والأجنحة أربعة: اثنان أعلياّن غليظان هما الظهران واثنان سفليان رقيقان هما القشران والحؤشوش أو الجوش أو الجوشن هو صدر الجراد وله ست أيد وهي في الجوشن. وسرم الجراد هو ما خلف الجوشن وهو ذنبها

وكان العرب على علم بتجمع الجراد وهجرته وتفرقه فقالوا حوم الجراد في السماء أي حلق. وسام الجراد سوما إذا دخل بعضه في بعض. وهمش إذا تحرك ليثور. وارتهش إذا ركب بعضه بعضاً حتى لا يرى معه تراب. وقالوا الشفترة تفرق الجراد. والجراد المشفتر هو المتفرق قال الشاعر:

فترى المرو إذا ما هجرت

عن يديها كالجراد المشفتر

وعيران الجراد هي أوائله المتطرفة القليلة - وأرجال الجراد أي جماعة أو طوائفه تسمى القفعة. فإذا كانت غير كثيرة فهي الشيتان. أما إذا كانت كثيرة فهي الطبق أو الثوالة لتثولها وتراكبها. ورجل الجراد هي قطعة أو خيط يملأ مكاناً بقدر ميل فإذا كان أكثر من ذلك فهو زحف. فإذا سد الأفق من كثرته فهو السد أو العارض أو العرض، فإذا كان أقل من ذلك فهو الحذقة. وصرير الجراد وفصيصه هو صوته، وحنشزته هي صوت أكله.

وقد وصف شعراؤهم ثوران الجراد وتحركه وأضراره أبلغ وصف. فقال ساعدة:

رأى عارضاًً يهوي إلى مشمخرة

قد أحجم عنها كل شيء يرومها

والعارض كما قلنا هو السرب العظيم من الجراد يرى كالسحاب في ناحية من السماء كأنه يسد الأفق. ومنه قول العرب أتانا جراد عرض أي كثير.

(البقية في العدد القادم)

الدكتور محمد مأمون عبد السلام

ص: 11

‌العناية الإلهية

للكاتب الفرنسي (لامنية)

للأستاذ زكريا إبراهيم

(. . . إلى اللآنسة المهذبة (ا. م): يا فتاتي: إن العناية الإلهية

ترعانا، فدعيني أضع بين يديك هذه القطعة الجميلة الرائعة

التي تعبر - في بساطة مقدسة - عن تلك العناية الإلهية

الفائقة. . .)

ز. إ.

كانا جارَيْن، يعيش كل منهما مع زوجته وأبنائه الصغار، ولا همَّ له سوى توفير أسباب الحياة لأسرته.

وذات يوم، طافت برأس أحدهما خواطر مزعجة، فقلقتْ نفسه، واضطرب باله، وأخذ يفكر في نفسه قائلا:(ماذا يكون من أمر زوجتي وأبنائي، لو عَدَا عليَّ عادي الموت أو المرض؟).

وألحَّت عليه هذه الفكرة، فلم يجد للخلاص منها سبيلا. وهكذا أخذت الخواطر المزعجة تأكل قلبه، كما تأكل الدودةُ الثمرةَ التي تختبئ فيها.

أما الآخر، فقد طافت بذهنه هذه الفكرة نفسها، ولكنه لم يتوقف عندها، ولم يِعْرها أدنى اهتمام، بل قال في نفسه:(إن الله يعرف كل خلائقه، وهو يعتني بها جميعاً، فلابدَّ أنه سيعتني بي، أنا وزوجتي وأبنائي).

وهكذا عاش مطمئناً هانئاً، بينما رفيقه في حيرة وقلق واضطراب، ولم يستطع - لحظة واحدة - أن يستمتع بالراحة والهدوء

وذات يوم، كان صاحبنا يعمل في حقله، وقد ارتسمت على وجهه أمارات الحزن والكآبة، من فَرْط ما به من قلق وهَمّ، فرأى بعض العصافير، وهي تدخل إلى إحدى الشجيرات، ثم تخرج منها، ثم لا تلبث بعد قليل أن تعود إليها.

ص: 13

وحينما اقترب من تلك الشجيرة، رأى عشَّين متجاورين، في كل منهما عصافير صغيرة، لم ينبت لها الريش بعد!

وعاد الرجل بعد ذلك إلى عمله، ولكنه يرفع بصره من وقت إلى آخر، وينظر إلى تلك العصافير التي تروح وتجئ حاملةً القوت إلى صغارها: وذات مرّة، كانت إحدى الأمهات عائدة إلى عشها ومعها القوت الذي جلبته لصغارها، فانقضّ عليها نسر كاسر، ومضى بها، وهي تتلوَّى في قبضته، وترسل الصرخات الأليمة المدوية!

وحينما وقعت عينا الرجل على هذا المنظر لجَّت عليه خواطر السوء أكثر من ذي قبل، فزاد قلقه واضطرابه، وأخذ يفكر في نفسه قائلا:(إن في موت الأم موتاً للأبناء، فماذا عسى أن يفعل أبنائي، لو قُدّرَ أن أموت، وما لهم من معين سواي؟).

وظل الرجل طوال اليوم حزيناً كاسف البال، وبات طيلة ليلته ساهداً لم تكتحل عيناه بنوم.

وفي اليوم التالي، حينما عاد إلى عمله في الحقل، فكّر في نفسه قائلاً:(تُرَى ما الذي صار من أمر الصغار الذين خلّفتهم تلك الأمّ المسكينة، لابدّ أن يكون عدد كبير منهم قد مات جوعاً) ومضى الرجل إلى الشجرة، لكي يرى بعينيه ما حدث وألقى الرجل نظرة على الشجيرة، فراعه أن الصغار جميعاً في أحسن حال، ليس بينهم من يبدو ضعيفاً أو خائراً أو موشكا على الموت) ولما كانت الدهشة قد بلغت به كل مبلغ، فقد اختبأ ليرى بنفسه ما الذي سيحدث.

وبعد لحظات، سمع الرجل صرخة خفيفة، ولمح صاحبة العش الآخر، وقد أسرعت تحمل القوت لصغارها، وصغار رفيقتها التي اقتنصها النسر. ورأى صاحبنا هذه الأمّ الرحيمة وهي توزع القوت على الصغار جميعا بلا تفرقة ولا تمييز، فيصيب كل منهم طعامه، ولا يُتْرك واحدٌ منهم يتيماً لا عائل له!

وفي المساء، مضى الرجل إلى جاره المؤمن، يروي له ما رآه بعيني رأسه.

وعند ذلك قال له رفيقه: (فيِمَ القلق والاضطراب إذن؟ إنَّ الله لا يتخلّى عن عباده أبداً، وهذه محبَّته لها أسرارٌ لا سبيل لنا إلى معرفتها. فحسبنا أن نؤمن، ونأمل، ونحبّ، ولنواصل السير في طمأنينة وسلام.

(وإذا قّدر لي أن أموت قبلك، فإنك تصير أباً لأبنائي، وإذا قّدر لك أن تموت قبلي، فإنني

ص: 14

أصير أباً لأبنائك.

(أما إذا قُدّر لنا نحن الاثنين أن نموت قبل أن يصبح أبناؤنا رجالاً، فسيكون أبوهم، عندئذ ذلك الأب الذي في السماء!)

زكريا إبراهيم

مدرس بمدرسة السويس الثانوية

ص: 15

‌على هامش النقد:

هذه الشجرة. . . للعقاد

للأستاذ سيد قطب

هذا كتاب يجئ في إبانه لتصحيح مقاييس كثيرة في عالم التفكير والشعور، وفي عالم الأخلاق والاجتماع، تجاه مسألة من أكبر مسائل الحياة، بل تجاه مسألة الحياة: مسألة الجنسين، وعلى أي أساس تقوم بينهما العلاقات.

هو كتاب يجئ في إبانة لأنه يرتفع بهذه المسألة فوق السفسطات الذهنية، وفوق تقاليد (الصالونات) وفوق الفتنة التافهة أو المغرضة بالمرأة (المسترجلة) التي كادت تصبح زياَّ من أزياء (المودة) يفتن بعض الرجال (المتأنثين) فتنة الأزياء الجديدة للمرأة في كل زمان!

يرتفع بها فوق هذا كله ليردها إلى منطق الحياة، وإرادة الطبيعة. ثم إلى وظائف المجتمع وقوانين الأخلاق، المستمدة من منطق الحياة ومن إرادة الطبيعة. وقد آن لنا أن نرد كثيراً من الأوضاع إلى هذا المنطق الأصيل، إذا شئنا أن نرجع إلى سواء الفطرة الخالدة، التي قد تفسد في بعض الأجيال لملابسات خاصة ولكنها تعود إلى الصلاح حتماً، لأن الحياة لا تستقيم طويلاً في عزلة عن هذه الفطرة الأصيلة.

والمسألة حين ترتفع إلى هذا المستوى، لا يعود الحديث فيها هو الحديث عن حقوق المرأة وحقوق الرجل، ولكن عن حقوق الحياة من وراء المرأة ووراء الرجل، ولا يعود المرجع فيها إلى إرادة هذا الجنس أو ذاك، ولكن إلى إرادة الطبيعة التي صاغت الجنسين، لتصل بهما جميعاً إلى تحقيق إغراضها وأغراض الحياة.

ومن هنا نصل إلى المنطق الفاصل، الذي يعود كل منطق سواه عبثاً وسفسطة، وتظرفاً يصلح (للصالونات) والمجتمعات؛ ولا يصلح لبناء الحياة وإقامة المجتمعات!

والعقاد هنا في ميدانه الأصيل: ميدان التحليل والتعليل، للبواعث النفسية والكوامن الفطرية، والسمات الشخصية. وهو الميدان الذي يقف فيه متفرداً في الشرق العربي الحديث.

ويجب أن نقف هنا وقفة قصيرة لتوضيح ما نعنيه بالتحليل والتعليل. فليس أكذب على العقاد من شبهة شائعة عنه عند من لا يفرقون بين ألوان المنطق الإنساني في الحياة

ص: 16

والفنون.

تقوم هذه الشبهة على أساس أن المنطق الفكري هو الذي يغلب على كتابات العقاد. . . وهذا في الواقع هو مفرق الطريق في اعتقادي - بين من يفهمون ومن لا يفهمون. بل بين من يشعرون ومن لا يشعرون، حين يتذوقون الفنون!

أن للعقاد منطقاً قوياً جارفاً. . . هذا صحيح. . . ولكن أي منطق؟ إنه (المنطق الحيوي) كما عبرت عنه في مقالة سابقة في الرسالة منذ أكثر من عام. وذلك حيث أقول:

(مدرسة العقاد هي مدرسة المنطق الحيوي. والنسبة هنا إلى (الحياة) وإلى (الحيوية) جميعاً. . . إلى (الحياة) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو ما تقوله الحياة وما تصنعه، ومنطقها هو المنطق المطاع في جميع الأحوال.

كلُّ ما تَصنعُ الحياة يُرجَّى

من بنيها قبولُه واغتفارهُ

فإذا أنكروا قبيحاً ففي القب

ح من الموت لونُه أو شعاره

وإلى (الحيوية) لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل هو باعثه، ومدى الحيوية في هذا الباعث. وقد تتشابه مظاهر الأعمال والأقوال، ولكنها تتفق في (الرصيد) المكنون لها من الباعث الحيوي، فيتوحد الحكم عليها. وقد تتفق مظاهرها، ولكنها تختلف في الرصيد، فيكون ذلك مناط الاختلاف). إلى أن جاء في ذلك المقال نفسه:

(ولقد كان العقاد - بما فيه من يقظة الحس وقوة الحواس - وشيكا أن يبذل إعجابه كله للحياة المحسوسة الظاهرة، وللحيوية المتدفقة في الحس والغريزة، لولا قسط من (الصوفية) - ولا يعجب أحد لهذه الكلمة - ففي العقاد إيمان عميق بقوة مجهولة تصرف الحياة والناس، وتسيطر على أقدار الفرد والنوع (والصوفية في أساسها البسيط هي هذا الإيمان بالمجهول). ولكن هذه القوة المجهولة التي يؤمن بها العقاد إنما تصرف الحياة والناس، وتسيطر على أقدار الفرد والنوع لمصلحة هذه الحياة نفسها، وللرقي بالإنسانية في معارج الكمال، لا لغرض آخر من الأغراض التائهة المجهولة. وهذا القسط من الصوفية - بهذا المعنى - يمتزج بالحيوية الحسية، فيخرج منهما مزاج جديد، فيه من هذه وفيه من تلك، على غير تحيز بينهما ولا انفصال.

(ولقد كان العقاد كذلك - بما فيه من صحو الذهن ويقظة الوعي - وشيكا أن يبذل قواه كلها

ص: 17

للفكر والمنطق، لولا فيض من حيوية الطبع، يجرف قوى الذهن والوعي، فتستحيل جنوداً لهذا الطبع الحي، تضرب بسلاحه، وتستمد من القوة، وله عليها السيطرة في النهاية!)

في هذا الذي اقتبسناه إيضاح لطبيعة المنطق عند العقاد، ولأسس التحليل والتعليل التي نعنيها. وفيه كذلك تفسير لكل آراء العقاد في الكون والحياة، وفي الأدب والفن، على السواء.

وما لهذا أو ذلك وحده سقنا هذا الاقتباس. ولكن لأنه يصلح كذلك أساساً للحديث عن (هذه الشجرة)!

إنه يتحدث عن أسلحة المرأة وأسلحة الرجل في الحياة، فيردها إلى أهداف الحياة وإلى مصلحة النوع، وإلى إرادة الطبيعة. فسلاح المرأة هو الإغراء، وسلاح الرجل هو الإرادة. وتعليل ذلك فيما يلي:

(وليس للمرأة أن تريد غير هذا النوع من الإرادة، لأسباب عميقة في أصول التركيب والتكوين.

(وموقف الجنسين من الاستجابة لمطالب النوع يهدينا إلى حكمة هذا الفارق من طريق قريب.

فالذكور من جميع الحيوانات قد أعطيت القدرة - بتركيبها الجسدي - على إكراه الإناث لاستجابة مطالب النوع طائعات أو مقسورات. ولا يتأتى ذلك للإناث على حال من الحالات الجسدية، فغاية ما عندهن من وسيلة أن يهجن الرغبة في الذكور وأن يجعلنهم يريدون، ولا يستطيعون الامتناع عن الإرادة.

(فهذا الفارق ملحوظ في أعمق أعماق التركيب الجسدي من كلا الجنسين، منذ نشأ الفارق بين ذكر وأنثى في عالم الحيوان. وحكمته ظاهرة كل الظهور، لأنها هي الحكمة التي توافق بقاء النوع، وارتقاء الأفراد جيلا بعد جيل.

(فالإغواء كافٍ للأنثى، ولا حاجة بها إلى الإرادة القاسرة. بل العبث تزويدها بالإرادة التي تغلب بها الذكر عنوة؛ لأنها متى حملت كانت هذه الإرادة مُضيَّعة طوال مدة الحمل بغير جدوى: على حين أن الذكور قادرون إذا أدوا مطلب النوع مرة، أن يؤدوه مرات بلا عائق من التركيب والتكوين، وليس هذا في حالة الأنثى بميسور على وجه من الوجوه.

ص: 18

(وإكراه الأنثى على تلبية إرادة الذكر لا يضير النوع ولا يؤذي النسل الذي ينشأ من ذكر قادر على الإكراه وأنثى مزودة بفتنة الإغواء، فهنا تتم للزوجين أحسن الصفات الصالحة لإنجاز النسل: من قوة الأبوة، وجمال الأمومة، ويتم للنوع مقصد الطبيعة من غلبة الأقوياء الأصحاء القادرين على ضمان نسلهم في ميدان التنافس والبقاء. . .

(وعلى نقيض ذلك لو أعطيت الأنثى القدرة على الإرادة والإكراه لكان من جراء ذلك أن يضمحل النوع ويضارّ النسل، لأنه قد ينشأ في هذه الحالة من أضعف الذكور الذين ينهزمون للإناث. . .!

(وكيفما نظرنا إلى مصلحة النوع وجدنا من الخير له أبداً أن يتكفل الذكور بالإرادة والقوة، وأن تتكفل الإناث بالإغواء والتلبية، بل وجدنا أن فوارق البنية قد جعلت السرور في كل من الجنسين قائماً على هذا الأساس العميق في الطباع. فلا سرور للرجل في إكراهه على مطلب النوع، بل هو منغص له، مضعف من لذة حسه. أما المرأة فقد يكون استسلامها لغلبة الرجل عليها باعثاً من أكبر بواعث سرورها، ولعله أن يكون مطلوباً لذاته كأنه غرض مقصود. بل هو في الواقع غرض مقصود لما فيه من الدلالة على توفق الأنثى إلى إغواء أقوى الذكور. ومن البداهات الفطرية أن تتظاهر المرأة بالألم والانكسار في استجابتها للنوع، لأنها تفطن ببداهتها الأنثوية إلى هذا الفارق الأصيل في خصائص الجنسين)

بمثل هذا المنطق المستلهم مباشرة من الحياة يسير العقاد في (هذه الشجرة) فيتحدث عن: (غواية المرأة، وجمال المرأة، وتفاوت الجنسين، وتناقض المرأة، وحب المرأة، وأخلاق المرأة، وحقوق المرأة، والجنس، والحب، ومعاملة المرأة) وهي الفصول التي تضمنها كتابه، ثم يختمها (بمقتطفات عن المرأة من كتب المؤلف) تتساوق مع آرائه التي أبداها في الكتاب، وتدل على عمق هذه الآراء في نفسه، وأصالتها في طبيعته، وأنها ليست وليدة الاطلاع وحده، ولا وليدة التجربة وحدها، ولكنها قبل هذا وذلك وليدة الطبع المستقيم، والفطرة السليمة، التي تستمد عناصر شعورها وتفكيرها من صميم الحياة والطبيعة.

ولولا أننا معجلون - لضيق الفراغ - لاقتبست هنا كثيراً من الفقرات الدالة على هذا كله في ذلك الكتاب، الذي أعده من أعظم ما كتب العقاد

ص: 19

ولكن هنا ملاحظة جديرة بالتسجيل. ذلك أن العقاد في كتابه هذا إنما يتحدث عن (الأنثى الخالدة) وراء أوضاع المجتمع، ووراء أزياء الحضارة، الأنثى التي طعمت من الشجرة المحرمة - لأنها ممنوعة - وأغوت رجلها فأكل، والتي لن تزال تطعم من كل شجرة محرمة - لأنها ممنوعة - وتغوي رجلها فيأكل! وتأويل هذه الفتنة بالممنوع، وتأويل قدرتها كذلك على الإغواء هو الذي تكفل به بعض فصول الكتاب!

والعقاد مهيأ بطبيعته، لأن تتكشف له (الأنثى الخالدة) من وراء المرأة المتجملة، والأوضاع الطارئة. وهو القائل في كتابه (شاعر الغزل) عن طبيعة عمر بن أبي ربيعة:

(إنما تأتي خبرة ظرفاء المجالس من تقارب الإحساس بين المرأة وبين هذه الطائفة من اللاهين والمتغزلين، فهم يحسون كما تحس، أو على نحو قريب مما تحس، وهم يشبهونها بعض الشبه فيصدقون في الحكاية عنها، والتحدث بخوالج نفسها. وفرق بعيد بين هذا وبين الرجل الذي يعلم طبع المرأة وهو يخالفها في طبعها، ويستجيش ضمائرها، لأن هذه الضمائر تجاوبه مجاوبة الأنثى للذكر، فيعرف من مجاوبتها كيف تضطرب نفسها، وتتقلب هواجسها وخواطرها)

الرجل الأول هو عمر بن ربيعة، والرجل الثاني هو العقاد.

وإن هذه الاستجاشة وتلك الخبرة الناشئة عنها لواضحتان كل الوضوح في هذا الكتاب!

سيد قطب

ص: 20

‌التكتم في البحث العلمي

للأستاذ خليل السالم

لا يصيخ العلماء اليوم لصرخة الضمير الحي، الذي يهيب بهم أن يخففوا من غلواء إنتاجهم المهلك واستكشافهم المدمر، فالأسلحة السرية تثب من مكامنها، وتعبث بحياة البشر آنا بعد آن، وتهدم من معالم الحضارة عمراناً بعد عمران. ولا يذهبن الخاطر إلى الفتك والتدمير مقصوران على الأسلحة السرية وحدها، ولكن هذه أكثر إزعاجا وأفعل في بث الرعب والفزع لأنها كالعدو المفاجئ يخرج من الظلام في حين لم يحسب له الإنسان حساباً ولم يوطن نفسه عليه

والأمم التي تؤمن بالعلم، وتؤمن بفعاليته القوية في ابتكار أساليب الهجوم والدفاع الناجعة، هذه الأمم تفتح المختبرات وتجهزها بالمعدات والآلات، وتغدق عليها وافر الأموال والميزانيات، وتجند العلماء للعمل فيها. وطبيعي بعدئذ أن تحيط أبحاثهم بسياج حصين من الكتمان الشديد وتحزم النشر وتقتل حرية البحث.

وقد يرضى بعض العلماء بهذا الوضع الشاذ البعيد عن روح العلم الإنسانية، فما اسهل أن تكسب الحكومات في الأزمات والضروف الحرجة عطف العلماء وتعاونهم وتآزرهم، فهم يرضون ظناً منهم بأنهم يخدمون مصلحة الأمة ويقودون الجيوش إلى غاية النصر، ويؤكدون الذات في المعترك الدولي. ونجد نفراً آخر غير قليل يجد نفسه مجبراً على هذه الخدمة القهرية والوحشية تحت ضغط النظام القاسي الذي يحيا فيه، ليؤمن أسباب الحياة التي ما كان ليبلغها لولا انسجامه مع روح العمل وتفانيه فيه. فالسلطة لا تستخدم عالماً حراً ينشئ أسرار بحثه، ويبشر بصراحة العلم المثالية؛ وإنما تلاحقه بصنوف الاضطهاد والضغط، وتسوقه للقيام بأعباء عمل آخر لا ترتاح له نفسه ولا يتسق معه طبعه.

ولذلك نجد في أيام الحرب مبرراً لهذا الجو البغيض الكريه الذي يحيا فيه البحث العلمي المنتج. ولكننا لا نجد مبرراً شرعياً يسوغ للنظام المقاسي أن لا يمتع العلماء بالجو الفسيح الطلق في أيام السلم أيضاً.

فقد درجت مؤسسات الصناعة أن تعد المختبرات المجهزة تجهيزاً فنياً حديثاً، وتعين للأشراف عليها العلماء الذين لمعت أسماؤهم في الحقل الفني الذي فيه، وترصد

ص: 21

المخصصات الطائلة لابتكار وسائل التحسين والسرعة في الإنتاج. وتوفير المواد الخام واقتصاد الطاقة المستنفذة، وإن لم يكن لها مختبرها الخاص بها. تكلف علماء الجامعات القريبة بحل المشكلة الراهنة أو إجراء التجارب الضرورية. . وهي في كل هذا تقيد الباحث وتشترط حفظ البحث سرياً. فيحرم على الباحث أن يتصل بغيره من أنداده ويتبادل معهم الرأي والنقاش، وتمنعه أن يستعير كتابا من مكتبة ما خشية أن يشتم من مادة الكتاب رائحة البحث، تعقل لسانه فلا يصرح أو يقول. وتتمادى بعض الصناعات في هذا التكتيم والتستر، فترفض أن تجيب أي سؤال يتعلق بماهية البحث، أو عدد الباحثين في مختبراتها، أو مقدار المبالغ المكرسة للبحث، ولا تبوح بأسماء مديري المختبر فيها. ولا تعلن أخبار التحسين والكشف أبداً. . والصناعة التي تحيا في جو التزاحم والتنافس ترى أن هذا الكتمان حق مشروع لها، فهي لا تمول العلم إلا لتستغل نتائجه في التجارة والإحتكار، فلا قيمة لأي كشف تستطيع الصناعات المنافسة أن تقلده وتستفيد منه.

ولكن هذا التكتم خطر على العلم المجتمع، يعبث بمقدرات الأول، ويمنع المجتمع من النفع والكسب ويحصرهما في فئة جشعة محدودة: خطر على تقدم العلم لأن انقطاع العلماء عن المراسلة المتبادلة والتفاهم الحر يضاعف الجهود المضاعة لاكتشاف حقيقة واحدة في منشآت متعددة، والإتيان بثمر كثير. ويقطع التكتم عن العالم معين الخبرة والإيحاء الخارجيين اللذين كانا في ظروف ليست قليلة سبب الاكتشافات والاختراعات.

والأبحاث الآمنة جانب النقد والنقاش يخرج مبتورة ناقصة تضرب في طياتها الفوضى والترجيح، وخصوصاً عندما يكون مدير الشركة شخصاً لا يمت إلى العلم بصلة، كما هي الحال في أغلب الأعيان، يشيع التدجيل في البحث، ومع ذلك أخطار الخلق السيئ المتولد في نفس العالم، كالتنفس الدنيء على حقوق التسجيل وابتكار ما يساعد يد الشر ومعاول الهدم أن تعيث وتفسد وتدمر.

والخطر الأكبر يحيق بالمجتمع، فالصناعة تكره العالم على الصمت حتى تحتكر السوق وترفع الأسعار وتجني الأرباح. قد ظهر هذا الخطر أوضح ما يكون في عمليات التسجيل وصناعة العقاقير والأدوية. فهذه تصنع من مواد موفورة رخيصة، ولكن أسرار صناعتها الغامضة تجعل في إمكان الصناعات أن ترفع أثمانها ارتفاعاً فاحشاً بحيث تسمح للمرض

ص: 22

أن يزهق أرواحاً لا تعد ولا تحصى لأنها لا تجد لديها ثمن الدواء.

وتتصرف الصناعة بالمكتشفات السرية كما يروق لها، فمنها ما يقتل في المهد، ومنها ما يوضع على الرف، ومنها ما يطبّق في وقت متأخر مهما تكن حاجة المجتمع لها ماسة بالغة. وفي كثير من الأحيان ترفض الصناعة مبدأ التحسين قطعاً لئلا تموت الصناعة فلا يسمح مثلاً بتحسين مصابيح الكهرباء أو صمامات الراديو أو شفرات الحلاقة إلا ضمن نطاق مخصوص. لأن التحسين يقلل الاستهلاك والتلف فتقل تبعاً لذلك الأرباح، ولاهم للصناعة إلا أن تغمر الأسواق بالبضائع الرائجة سواء طالت خدمتها أو قصرت.

وكذلك يسيء هذا التكتم للصناعة أن تهمل التفكير بخدمة المجتمع، وتطيع قوانين المباراة التجارية قبل كل شيء آخر. وعندما تأمن ضغط المباراة التجارية كأن تعقد الشركات العامة في حقل واحد الاتفاقات بينها على تبادل البحوث واتحاد الآراء وتوحيد الأسعار، وإدخال التحسين في المصانع على نسق واحد وفي وقت واحد. وبذلك يكون هذا التكتم استغلالا بشعاً لطاقة العلماء الذهنية ومال الجمهور المستهلك

لذلك قرر مجلس جامعة كمبردج في فرصة ماضية أن تعلم العمدة بكل كشف جديد، فإن رأت أن تطبيقه يزيد في رضاء المجتمع وسعادة الأفراد، سمحت للصناعة باستغلاله واستثماره، وإن رأت غير ذلك استعملت سلطتها القانونية في كبته وقتله قبل أن تشتريه الصناعة وتفيد به، ويؤسفنا أن نقول إن النظام الرأسمالي السائد لم يسمح لهذا القانون أن يتنسم روح الحياة.

وإليك ما رد به العلامة رومور على الذين لاموه على كشفه النقاب عن أسرار صناعة الفولاذ وفضحه هذه الأسرار بعد أن مكثت سراً مكتوماً على طول الأجيال السابقة قال: (لقد وجهت إلي انتقادات متضاربة بعد اجتماع الأكاديمية، وإني لا أجد في نفسي نزوعاً قوياً للرد عليها. استغرب المنتقدون أن أفشي أسراراً كان يجب أن تبقى مكتومة محصورة في الشركات التي تستثمرها لمصلحتها أولاً ومصلحة الوطن ثانياً. . . ولكن ألا يتبرأ هذا الشعور من النبل ويناقض روح العدل الطبيعي. .؟ ومن أين لنا أن تكون مكتشفاتنا ملكاً خاصاً لنا بحيث لا يكون للمجتمع أي نصيب فيها؟! إن واجبنا الأول المهم أن نساعد المجتمع ونسعى للمصلحة العامة. . . والشخص الذي يكون بمقدوره أن يفعل خصوصاً

ص: 23

عندما لا يكلف أكثر من أن ينطق ويقول شخص مقصر في واجب نبيل، والظروف التي تبرر له ذلك ظروف حقيرة مستهجنة. قد يكون حق في تذمر البعض من المجتمع لا يكيل المديح للمكتشفين ولا يفيهم حقهم من التقدير والإكبار، وإنما ينظر بعين التقديس والإعجاب لأبحاثهم ما دامت سراً مستغلقاً حتى إذا ما أعلنت صرخ بملء فيه (أهذا كل ما هنالك؛). . . ولكن أيكفي هذا لنمسك عن المجتمع ما هو بأمس الحاجة أليه، وما يحتمل أن يجني منه المغانم الوافرة؛ أيحق للطبيب أن يرفض تقديم الإسعاف والمساعدة لمريض مخطر حينما لا يتأكد من تقدير المريض له واعترافه بالجميل؛. . . إن نفسي لا تقر النظام الكريه الذي تبناه جيراننا في كتم الأسرار. . إن هناك ما هو أهم وأسمى من هذا كله. . . هو واجبنا نحو الإنسانية بأسرها. فالعلماء العاملون في حقل العلم لترقية وتقدمه يجب أن يكونوا اخوة ورفاقا ومواطنين في عالم واحد. . .)

إننا لننظر إلى المستقبل القريب بعين الرجاء والأمل: الرجاء بأن تزول من العالم هذه العلل المستعصية الفتاكة، والأمل بأن تكشف هذه الأزمة عن انتشار مبادئ الحق والحرية والعدل والمساواة في كل الشعوب.

(السلط - شرق الأردن)

خليل السالم

(ب. ع. من الدرجة الأولى في الرياضيات)

ص: 24

‌السيد جمال الدين الأفغاني

أستاذ الوحدة الإسلامية

للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

تمهيد تاريخي

كان السيد جمال الدين الأفغاني أستاذ (الوحدة الإسلامية)، الذي أقامها مذهباً، وأوضحها منهجاً، وخلفها في العقول وفي القلوب عقيدة اجتماعية وفكرة سياسية لها أشياع وأتباع، فتردد صداها في كل مصر من أمصار العربية، وظهر أثرها في كل قطر من الأقطار الإسلامية، حتى أصبح اسم ذلك المصلح العظيم لا يذكر إلا مقروناً بالدعوة لتلك الوحدة، مميزاً بالجهاد في ميدان هذه الفكرة.

كان جمال الدين الأفغاني أستاذ (الوحدة الإسلامية) الذي رفع لواءها، على أنه لم يكن أول من فكر فيها أو أقترح الرأي بها، فهم يقولون إن صلاح الدين الأيوبي قد دعا هذه الدعوة، وأراد أن يجمع دول الإسلام وولاياته عندما رأى دول الصليب قد تجمعت واحتشدت لتتخطف مجد الهلال من كل جانب، وعلى أي حال فقد طويت دعوة صلاح الدين بظروفها وملابساتها، وانتهت حملة الصليب على الهلال إلى غمرة شاملة، قضاها الشرق العربي مخدور الأعصاب، مجزور الأسباب، مهدوم الكيان والبنيان، بعد أن خذلته أمراض الفرقة، وفرقته أغراض الطمع، وقتله الجمود والخمود، فكان له ماض وكأنه لا يمت إليه، وكان له حاضر ولكنه لا ينتفع به، وكان أمامه مستقبل ولكنه ليس له.

هذه حقيقة لم يختلف في تقريرها أحد من الباحثين الذين عنوا بشؤون الشرق واهتموا بتشخيص دائه المزمن سواء أكانوا من الغربيين أم من الشرقيين، وإن اختلفوا في التعليل لهذه الحقيقة والتماس الأسباب التي أدت إليها، على أن هناك إلى جانب هذه الحقيقة حقيقة أخرى لا بد أن نذكرها في المقام، وهي التي شهد بها البحاثة الاجتماعي المعروف الدكتور جوستاف لوبون إذ يقول في هذا الصدد: (ولئن كانت دولة العرب لم تعد ترى إلا في كتب التاريخ فإن المعنى الديني الذي هو أساس تلك الدولة قد ظل حياً ذائعاً، وبقي محمد صلى الله عليه وسلم من أعماق قبره يسود تلك الملايين العديدة الساكنة أفريقية وآسيا المترامية

ص: 25

بين مراكش والصين والمنثورة بين البحر الأبيض وخط الاستواء. .).

غير أن هذا المعنى الذي يشير إليه جوستاف لوبون، والذي بقي حياً في قلوب أمم الشرق، وظل يربط نفوسهم برباط الوحدة، استحال آخر الأمر في قلوبهم وفي نفوسهم وفي تفكيرهم إلى وضع معكوس مقلوب عما كان عليه آباؤهم من قبل، وليس لباساً ملفقاً من الأوهام والأضاليل والترهات، أجل! فقد كان الدين في قلوب الآباء قوة تتدفق بالحياة والحركة فأصبح في قلوب الأبناء إشارة ضعف وجمود، وكان في نفوس السابقين مظهر عزة وفخار، فصار في نفوس أولئك اللاحقين دلالة ذلة وانكسار، وكان في تفكير السلف صلة تصلهم بما في الدنيا من أرقى معاني الحرية والاستقلال فانعكس في تفكير ذلك الخلف إلى بلادة تفيض بالخضوع والاستسلام، حتى كنت لا تلمس في ذلك الجسم الطويل الممدود في أفريقية وآسيا من معاني الدين إلا الحسرة على مجد كان لهم، والبكاء على سلطانٍ ضاع من أيديهم، وإنهم لفي يأس من رجعة ذلك إليهم، كأن ما ذهب قد ذهب الأيام بحقيقته، فكان هذا مما فتح الباب لبعض المستشرقين في اتهام الدين الإسلامي في طبيعته وتعاليمه، فقرروا أنه هو الذي أفضى بالشعوب الإسلامية في الشرق إلى ما هم فيه من الانحطاط، وأن عقيدة القضاء والقدر هي التي أدت بهم إلى البلادة والخمول والاستسلام، ومن العجيب أن هذه التهمة الباطلة المغرضة قد راجت في الغرب، وجازت على بعض أبناء الشرق، على الرغم من أنها ظاهرة البطلان، واضحة البهتان. . .

كانت تركيا تحمل لواء الخلافة الإسلامية، وتبسط جناح السيادة على أقطار الشرق العربي فيما تحكم من الأقطار والإمارات، ولكن تركيا كانت تعني بأملاكها في أوربا أكثر مما تعني بشؤون الشرق العربي وشؤون أقطاره، ولم تكن لها صلات صحيحة تقوم على المودة بين أبناء العروبة، ولم تكن ترعى حقوق الرابطة الإسلامية كما يجب أن تكون الرعاية، بل لقد صارت سياستها في الشرق آخر الأمر مثلا شروداً في الظلم وخنق روح القومية بين أبناء الأقطار العربية، والاستبداد في القضاء على كل مظهر من مظاهر الاستقلال والتعاون بينهم، وعندما تنمر الاستعمار الأوربي وأخذ يتطلع لافتراس ممتلكات تركيا أو الشيخ المريض كما كانوا يقولون، لم تبادر تلك الإمبراطورية المتداعية إلى تدارك هذا الأمر برأب الصدع وإقامة جبهة إسلامية قوية في الشرق لمواجه هذا الخطر، ولقد أراد السلطان

ص: 26

عبد الحميد أن يحقق هذه الغاية استجابة لدعوة السيد جمال الدين، كما سنشرح ذلك فيما بعد، ولكنه أخفق، لأنه أراد أن يقيم هذه الوحدة لا من حول تركيا ولا من حول الفكرة الإسلامية، بل من حول شخصه هو، فالتاث عليه الأمر، وجرت الأحوال في طريقها المحتوم، وانطلقت الدولة في سياسة الأقطار العربية على أساليبها الفاسدة، وخطتها الجامدة، فكان ذلك مما عجّل بتقليص ظلها عن الشرق، فاحتل الفرنسيون تونس في سنة 1881، واحتل الإنجليز مصر سنة 1882، ثم أغارت إيطاليا على طرابلس في سنة 1911، ثم وثبت فرنسا مرة أخرى فاستولت على المغرب في سنة 1912، ثم قامت الحرب الماضية فكانت نهايتها نهاية تركيا في حكم الشرق العربي جميعه. . .

الهمزة الأولى. . .

ولعل حملة نابليون على مصر كانت أول هزة هزت أقطار الشرق العربي، وحركت من وجدانات أبنائه، فإن تلك الحملة كانت كما يقول (كلوت بك) أشبه شيء بصاعقة هوت من السماء على الشرق، فأيقضته منزعجاً من سباته الطويل العميق، إذ كانت الأساليب العتيقة فيه قد بقيت إلى ذلك العهد على حالها لم يتناولها تغيير ولا تبديل، وكانت الدولة العثمانية قائمة بحروب طويلة ضد الروسيا والنمسا، ففازت بالنصر تارة وباءت بالخذلان أخرى، لكن هذه الحروب لم تغير شيئاً من أفكارها العتيقة، وكانت الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية تعتقد أنها بعيدة المنال على من يرومها بفتح أو قهر، وأنه لا يمكن أن يوجد على سطح الأرض دولة تبلغ مبلغها عزاً ومنعة لأن ذكرى الفتوحات القديمة كانت لا تزال عالقة بأذهانهم. .)

لهذا كله كانت تلك الحملة هزة هزت أعطاف الشرق العربي، واتجهت به وجهة جديدة مغايرة، ولم تكن تلك الحملة بما يكتنفها من الظروف والملابسات موجهة إلى مصر فحسب، ولكنها كانت تريد أن تتخذ من ذلك باباً إلى أقطار الشرق جميعها، وإذا كانت تلك الحملة قد فشلت من الناحية الحربية والسياسية، فإنها لا شك قد نجحت من الناحية العلمية والفكرية، وكانت الاتجاهات التي اتجه إليها نابليون في إنشاء المجالس النيابية والوطنية، مما فتح الأعين وهز النفوس بالتشوق إلى وضع جديد من أوضاع الحكم يقوم على الشورى والرأي، وأكثر من ذلك فقد وقف أبناء الشرق بواسطة هذه الحملة على ما دعت

ص: 27

إليه الثورة الفرنسية من مبادئ سياسية وغايات اجتماعية في تحقيق العدالة والإخاء والمساواة، فكان لهذا كله اثر في الأفكار والميول ظهر فيما بعد. .

محمد على والوحدة. .

وتم الأمر لمحمد على باشا في حكم مصر والاستقلال بها عن الدولة العثمانية، وقد كانت لذلك العاهل العظيم مطامع وآمال كبار في إقامة إمبراطورية عربية شرقية تقوم على أطلال الإمبراطورية العثمانية المتداعية، أو على الأقل تقوم تجاهها في الشرق حفظاً للتوازن الذي يجب أن يقوم أمام الغرب الطامع، والتي كانت الحملة الفرنسية نية من نياته المتحفزة المتنمرة، وكان محمد علي يرى أن تحقيق آماله هذه منوط بشيئين أساسيين: سطوة السيف، وقوة العلم، ومن ثم فقد أرسل بجيوشه الفتية تحت قيادة ابنه إبراهيم لتحقيق هذه الغاية في ميادين الحرب، كما أرسل بالبعوث العلمية إلى أوربا لتكون سنادة لهذه الغاية، وتدعيما لسلطان السيف فيما يطويه من الممالك والأمصار، ولقد سئل إبراهيم باشا عندما شدد الحصار على عكا وأوشك حصنها أن ينهار أمام قواته: إلى أي مدى ستقف في فتوحك إذا ما تم لك الاستيلاء على عكا؟ فقال: إلى مدى ما يتكلم الناس وأتفاهم وإياهم باللسان العربي، ومما يؤثر عنه أنه كان يقول: أنا لست تركياً فإني جئت مصر صبياً، ومنذ ذلك الحين قد مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دماً عربياً. . .

إذا كان محمد علي يقصد إلى إقامة إمبراطورية تقف حدودها عندما يتكلم الناس ويتفاهمون باللسان العربي، وإذن كان ذلك الرجل العظيم يرمي إلى هدف معلوم مفهوم، وهو إقامة وحدة بين الأقطار العربية بحد السيف وسلطان القوة، على نحو الإمبراطورية العظيمة التي أقامها الفتح الإسلامي، والإمبراطورية الممتدة التي أقامها الفتح العثماني، فهو لم يتنكب الوضع التاريخي السابق الذي اتخذه مثالا وقدوة في تحقيق مطامعه، وقد كاد الأمر يتم له، لولا يقظة الدول الأوربية وتألبها عليه، إذ تبينت حقيقة مطامعه وخطر قيام هذه الإمبراطورية العربية على أطماعها في الشرق، فتآمرت على تحطيم أسطوله في معركة (نافارين) ووقفت إلى جانب تركيا تتحداه في مطامعه، وتحتم عليه أن يعود أدراجه، فاستطاعت بذلك أن تغير وجه التاريخ، وأن تقلب أطماع محمد علي رأساً على عقب، وأن تقضي على آمال ذلك البطل العظيم في إقامة وحدة عربية أو على التحقيق في تأسيس

ص: 28

إمبراطورية عربية إسلامية. .

وأنت في الواقع لا تستطيع أن تجد فرقاً يذكر في تقدير محمد على بين العربية والإسلامية، فإن الرجل كان يتكلم بقوة السيف، والذي يتكلم بقوة السيف لا يعنيه غالباً البحث في الألفاظ والاهتمام بوضع الاصطلاحات والتدقيق في تحديد الفرق بينهما، كما يصنع الذين يجلسون على المكاتب فيرسمون الخطط، ويحسبون الخطوات، ويهتمون في حسابهم بالأصفار والفروق بين الأصفار، ويقدرون أن إنشاء الأمم وحياة الشعوب نظرية هندسية يقدر قياسها بالدرجة وأجزاء الدرجة، إنما كان قصد محمد علي كما قلنا إلى تأسيس إمبراطورية تقوم بين أجزائها وعناصرها على الوضع السابق في قيام الإمبراطورية العربية والإمبراطورية العثمانية، وأنت حر في نعتها بالعربية أو بالإسلامية أو بالعلوية، فهذه كلها ألفاظ مترادفة تؤدي إلى مدلول واحد، وغاية ما كان ينظر إليه محمد على هو وحدة اللسان العربي، وكأنه كان يريد بهذا إشعار الأقطار التي تدخل حوزته بأنه عربي لأنه يتكلم هذا اللسان، حتى لا يشعروا بأن حكمه عليهم صورة أخرى من الحكم العثماني، وأنه فرع من تلك الشجرة فيؤثروا أن يستمروا على العيش في ظلال الأصل بدل الفرع ما دام الوضع هو هو لم يتغير. .

إسماعيل والوحدة الأفريقية

ودالت دولة محمد علي، أو قل دالت أطماعه في إقامة الإمبراطورية التي كان يريدها، فلما كانت أيام إسماعيل باشا، كانت في نفس ذلك الخديوي نزعة طموح من نزعات محمد علي، وكانت تتخلله رغبة في الفتح، ولكنه كان يقف في هذه الرغبة عند إقامة وحدة أفريقية تشمل حوض نهر النيل من المنبع إلى المصب، وما يتصل بذلك من الأقطار القريبة والأمصار التي لا بد منها، وقد أرسل بعض الحملات الحربية في سبيل تحقيق هذه الرغبة، وقد استطاع إسماعيل أن يشغل الأذهان بعض الوقت بمسألة (الوحدة الأفريقية)، وأعاد سيرة محمد علي في بعث البعوث العلمية، واندفع في الأخذ بمظاهر المدنية الأوربية حتى يكون لمصر الصدارة في ذلك بين الأقطار المجاورة، ولكن شتان ما بين محمد علي وإسماعيل، فقد كان محمد علي يجند جميع مرافق البلاد لخدمة جيوشه والإنفاق عليها، وكانت هذه الجيوش تجلب له ما تجلب من المغانم والأسلاب، ولكن إسماعيل كان يستدين

ص: 29

وينفق على حملاته، وكانت هذه الحملات تأخذ دائماً ولا تعطي شيئاً، وجرت الأمور معكوسة، وأثقلت الديون كاهل إسماعيل، وذهبت فكرة (الوحدة الأفريقية) كما يذهب أمس من اليوم، مضت وكأنها لم تكن. . .

فآمال محمد على، وآمال إسماعيل من بعده إنما كانت هزات سياسية، ونزعات إلى التآلف والوحدة في ظل القوة والفتح والاستعمار، فانتهت بانتهاء الظروف التي لابستها، ولم يكن لها أثر إيجابي في النفوس، ولم تنحدر إلى العقول والقلوب عقيدة لها أشياع وأتباع، ولكنها خلفت وراءها أثرين متقابلين، وتيارين متضادين، أحدهما في الشرق، وهو تنبه الأذهان، وتفتح الأفهام، والطموح إلى حياة المجد والاستقلال، والتميز الشخصي بين ممالك الإمبراطورية العثمانية، وثانيهما في الغرب، وهو تنبه المطامع ويقظة المآرب في نفوس الدول الغربية المتحفزة لوضع يدها على تركة الشيخ المريض، والقيام مقام الدولة العثمانية المتداعية على أقطارها في الشرق. . .

(للكلام بقية)

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 30

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي

641 -

جعلته عجوزاً في محرابها

في تاريخ الطبري: ذُكر عن عُمارة بن عقيل أنه قال: قال لي عبد الله بن السمط. علمت أن المأمون لا يبصر الشعر؟ قلت: ومن ذا يكون أعلم به منه؟ فوالله إنك لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره. قال: إني أنشدته بيتاً فلم أره تحرك له. قلت: وما الذي أنشدته؟ قالَ: أنشدته:

أضحى أمام الهدى المأمون مشتغلاً

بالدين، والناس بالدنيا مشاغيل

فقلت له: إنك والله ما صنعت شيئاً، وهل زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها، في يدها سبُحتها؟ فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها وهو المطوق بها. هلا قلت فيه كما قال عمك جرير في عبد العزيز بن الوليد:

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه

ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

فقال: الآن علمت أني قد أخطأت.

642 -

شهود طبقات

في (محاضرات الأدباء): قال سهل بن دارم: كان في البصَرة شيوخ يشهدون بالزور، وشرطُ بعضهم درهم، وآخرون يشهدون وشرطهم أربعة، وآخرون شرطهم عشرون درهما. فسألت عن ذلك فقالوا: أصحابُ الدراهم يشهدون ولا يحلفون، وأصحاب الأربعة يشهدون ويحلفون، وأما أصحاب العشرين فيشهدون ويحلفون ويباهتون.

643 -

خذها فاشتر بها زيتا

كان ابن الدقاق الأندلسي الشاعر المشهور يسهر في الليل، ويشتغل بالأدب، وكان أبوه فقيراً جداً، فلامه وقال له: نحن فقراء ولا طاقة لنا بالزيت الذي تسهر عليه. فاتفق أن برع في الأدب والعلم ونظم الشعر فقال في أبي بكر عبد العزيز صاحب بلنسية قصيدة منها:

ناشدتُكَ الله نسيمَ الصَّبا

أنَّي استقرت بعدنا زينبُ؟

لم تسرِ إلاّ بشذا عَرفها

أولاً، فماذا النَّفَسُ الطيب

ص: 31

إيه وإن عذبني حُبُّها

فمن عذاب النفس ما يعذب

فأطلق له ثلاث مائة دينار فجاء بها إلى أبيه وهو جالس في حانوته مُكبّ على صنعته فوضعها في حَجْره وقال: خذها فاشتر بها زيتاً. . .

644 -

أستعين بالله عليكما!

وقف أحمد بن أبي خالد الأحوال وزير المأمون بين يدي المأمون، وخرج يحي بن أكثم من بعض الأماكن فوقف، فقال له المأمون: اصعد، فصعد وجلس على طرف السرير معه. فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، إن القاضي يحيى صديقي، وممن أثق به في جميع أموري، وقد تغير عما عهدته منه.

فقال المأمون: يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم، وما يعد لكما عندي أحد، فما هذه الوحشة بينكما؟!

فقال له يحيى يا أمير المؤمنين، والله إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، ولكنه لما رأى منزلتي منك هذه المنزلة خشي أن أتغير له يوماً فأقدح فيه عندك، فأحب أن يقول لك هذا ليأمن مني، وإنه والله لو بلغ نهاية مساءتي ما ذكرته بسوء عندك أبداً.

فقال المأمون: أكذلك هو يا أحمد!

فقال: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: أستعين بالله عليكما فما رأيت أتم دهاء ولا أعظم فتنة منكما.

645 -

شهيد. . .

في (الأغاني): قال محمد بن عبد الملك لبعض أصحابه: ما أخرّك عنا؟ قال: موت أخي. قال: بأي علة؟ قال: عضت إصبعه فارة فضربته الحمرة.

فقال محمد: ما يرد القيامة شهيداً أخس سبباً، ولا أنزل قاتلاً، ولا أضيع ميتة، ولا أظرف قتلة من أخيك. . .

646 -

فشكرت رضواناً ورأفة مالك

قال أبو الفضل أحمد بن محمد الخازن في أبي القاسم هبة الله بن الحسين الأهوازي الحكيم وقد أضافه وأدخله بستانه وداره وحمّامه:

ص: 32

وافيت ساحته فم أر خادماً

إلا تلقاني بوجه ضاحك

ودخلت جنته، وزرت جحيمه

فشكرت رضواناً ورأفة مالك

والبشر في وجه الغلام أمارة

لمقدمات حياء وجه المالك

647 -

. . . وأنا آكل عيونهم

في (نفح الطيب): حضر القاضي أبو الوليد هشام الوقشي يوماً مجلس ابن ذي النون فقُدّم نوع من الحلوى يعرف (بآذان القاضي) فتهافت جماعة من خواصه عليها يقصدون التنديرعليه، وجعلوا يكثرون من أكلها. وكان فيما قدم من الفاكهة طبق فيه نوع يسمى (عيون البقر) فقال له المأمون: ياقاضي، أرى هؤلاء يأكلون أذنيك!

فقال: وأنا أيضاً آكل عيونهم، وكشف عن الطبق، وجعل يأكل منه. وكان هذا من الاتفاق العجيب.

648 -

فاشدد يديك بها. . .

اشترى رجل من أصحاب يعقوب الكندي الفيلسوف جارية فاغتاظت عليه، فشكاها إلى يعقوب، فقال جئني بها لأعظها، فجاء بها إليه فقال: يا لعوبة، ما هذه الاختيارات الدالات على الجهالات؟ أما علمت أن فرط الاعتياصات، على طالبي المودات، الباذلين الكرائم المصونات؛ من الموبقات المؤذنات بعدم المعقولات.

فقالت الجارية: أما علمت أن هذه العثنونات، المنتشرات على صدور أهل الركاكات، محتاجات إلى المواسي الحالقات؟

فقال يعقوب: لله درها! فلقد قسمت الكلام تقسيما فلسفيا فاشدد يديك بها. . .

649 -

سبل الغواية والهدى أقسام

كان عبد الرحمن بن أبي عمار من قراء أهل مكة، وكان يلقب بالقس لعبادته، ثم شغف بقينة من مولدات المدينة اسمها سلامة، وافتتن بها وغلب عليها لقبه، فقيل لها (سلامة القس) ومن قوله في فتنة عشقه:

قد كنت أعذل في السفاهة أهلها

فاعجب لما تأتي به الأيام

فاليوم أعذرهم وأعلم أنما

سبل الغواية والهدى أقسام

ص: 33

650 -

كلانا على طول الجفاء ملوم

قال إبراهيم بن العباس: ما رأيت كلاما محدثا أجزل في رقة، ولا أصعب في سهولة، ولا أبلغ في إيجاز، من قول العباس ابن الأحنف:

تعالي نجدد دارس العهد بيننا

كلانا على طول الجفاء ملوم

ص: 34

‌هذا العالم المتغير

للأستاذ فوزي الشتوي

الراديو المصور في بيتك

قفز العالم خطوات واسعة عقب الحرب الماضية في ميادين العلم والاختراع، فتناولت أيدي الناس أدوات كانوا يعتبرون الوصول إليها حلماً عسير التحقيق. وينبئ عهد ما بعد الحرب الحالية بخطوات أوسع؛ فالتقدم العلمي عدة المتحاربين وسلاحهم الخطير في مفاجأة خصومهم، حتى قال أحد كبار الساسة إنها حرب علمية، وحرب مخترعات واكتشافات.

ومن الخطوات الحاسمة التي خطتها هذه الحرب التحكم في موجات الأثير، فأدخلت كثيراً من التحسينات على أجهزة اللاسلكي مما سمعنا عنه في توجيه القنابل الطائرة والصواريخ. ومنها أيضاً حديث الراديو المصور (التليفيزيون)

فتصور أنك جالس في دارك، وبضغطة خفيفة من إصبعك على زر صغير تعرض أمامك على شاشة صغيرة ما يمثل من المسرحيات في دار الأوبرا الملكية، فتسمع أصوات الممثلين والممثلات، وترى حركاتهم بالألوان الطبيعية، كما لو كنت جالساً في قاعة الأوبرا.

لم يعد هذا حلماً، بل هو حقيقة واقعة تستعد شركات اللاسلكي لتقديم أجهزته إلى الناس بعد الحرب. تمت الكثير من أبحاثه ولكنها لا تزال من الأسرار العسكرية التي لا تباح إذاعتها. ولا تختلف نظرية نقل الصور عن زميلتها نقل الأصوات كثيراً، ففي كلتا العمليتين تتحول الإشارات الصوتية أو الضوئية إلى إشارات كهربائية تنقل في الأثير.

فإذا تجاوزنا عملية نقل الأصوات بحكم وجود آلات الإذاعة بيننا فإننا نلخص عملية نقل الصور في ثلاث مراحل:

1 -

تحويل الإشارات الضوئية إلى إشارات كهربائية.

2 -

نقل الإشارات الكهربائية إلى مسافات بعيدة.

3 -

إعادة الإشارات الكهربائية إلى إشارات ضوئية.

ولم تكن هذه المسائل الثلاث من الأمور الهينة، فقد كان من السهل تحويل الإشارات الصوتية إلى إشارت كهربائية، لما بين الإشارتين من صلة وثيقة عرفها الإنسان من زمان

ص: 35

بعيد واستعملها في التلغراف والتليفونات بمساعدة المغناطيس.

ومن المعروف أن كل جسم يشع ضوءا يختلف باختلاف لونه. فكمية الضوء المشعة من جسم أسود تخالف مثيلتها من جسم أبيض. وعلى هذا الأساس تحول الإشارات الضوئية بانعكاسها على أجهزة حساسة للضوء يسمونها الخلايا الضوئية، تصنع موادها من مركبات معدنية شديدة الحساسية.

وهذه الأجسام تتأثر بكمية الضوء المنعكسة عليها وتقلبها إلى إشارات ضوئية تنشر في الأثير بأجهزة خاصة حتى إذا تلقاها جهاز استقبال عكس الإشارات الكهربائية بنفس الخلايا الضوئية إلى ألوان تراها العين المجردة.

وعملية إرسال الصور الملونة أكثر تعقيداً من عملية إرسال الأبيض والأسود، ففي الحالة الثانية ترسل الصورة مرة واحدة. أما في الصور الملونة فترسل الصور ثلاث مرات كما قال جون بيرد مكتشف الراديو المصور.

فقد وجد بالدرس أن أكثر الألوان أساسها ثلاثة: الأحمر والأزرق والأخضر. فترسل في أول الأمر الانعكاسات الحمراء وحدها، ثم الزرقاء فالخضراء، ولأن سرعة إرسالها شديدة جداً فإن العين لا تدرك اختلاف أوقات إرسالها بل تندمج الألوان الثلاثة في بعضها البعض مكونة الانعكاسات المطلوبة.

مطاط من اللبن

يستعمل حامض اللبن كعنصر أساسي في إنتاج المطاط الصناعي، فبإضافته إلى مواد أخرى ينتج عجائن (باغة) مختلفة وهذه تحول إلى مطاط. وحامض اللبن هو المادة التي تسبب حموضة اللبن ويمكن الحصول عليه بكثرة من مصانع منتجات اللبن من جبن وزبد وغيرها

رطل جبن يكفي 25 شخصاً

من المشاكل التي تواجهها السفن ضيق المساحة اللازمة لشحن البضائع والمعدات المطلوبة. وقد صنع أحد مصانع اللبن آلة كلفتها 5000 جنيه لتضغط الجبن وتخلصه من المياه التي يتشبع بها فيكفي الرطل منها 25 شخصاً، وتنتج هذه الآلة 180 قرصاً في

ص: 36

الدقيقة الواحدة

المربع بدل المستدير

استبدلت شركات اللبن بالزجاج المستديرة آخر مربعا. فقد وجدت أن الزجاج المستدير يحتاج لمساحة واسعة، فالثلاجة التي تتسع لخمسة وعشرين زجاجة مستديرة تتسع ل 36 مربعة. ووزن الزجاجة المستديرة 18 أوقية بينما وزن المستديرة 22 أوقية

أضخم رافعة (ونش) في العالم

شيد في وادي تنيس بالولايات المتحدة أضخم آلة رافعة مزدوجة لرفع الأثقال وارتفاعها عن قاعدتها 400 قدم. ويستطيع كل من ذراعيها حمل ثقل وزنه 23 ألف رطل ونقله إلى أية مسافة على بعد 150 قدماً من المركز. وهي مجهزة بأدوات كهربائية تساعد على سرعة تحميلها، وتتحرك بحمولة كاملة بسرعة 375 قدماً في الدقيقة فإن كانت فارغة تحركت بسرعة 750 قدماً في الدقيقة.

لإصلاح الإطارات

تستعمل القوات العسكرية آلة كهربائية تصلح إطارات السيارات الخارجية وتقوي مطاطها بالتسخين الداخلي. وهذه العملية لا تؤثر على الجزء الداخلي للأطار، وتضيف هذه العملية إلى عمر الإطار 100. 000ميل، ووزن الآلة 500 رطل فقط.

المقاعد تحول إلى أسرة

أضيفت بعض الأجهزة التي تساعد الطائرات في الهبوط إلى الأرض إلى أسرة المرضى في المستشفيات. فيتيسر للمريض بضغطة صغيرة من إصبعه على زر خاص أن يحول السرير إلى مقعد مريح جداً دون أن يتحرك من مكانه

ويقترح بعضهم إضافة هذا الجهاز إلى مقاعد الطائرات وعربات السكك الحديدية فيتاح للركاب في الأسفار الطويلة تحويل مقاعدهم إلى أسرة ينامون عليها إن أتعبهم الجلوس

ويقترحون أيضاً استعمال ستائر نوافذ العربات على نظام متحرك فإن أراد المسافر أو المسافرة الاختفاء عن عيون بقية الركاب حرك الستائر التي خلف مقعده والتي أمامها فتكون لمقعده غرفة صغيرة.

ص: 37

دبابة الأعماق

صنعت دبابة تستطيع السير في قاع المحيط تحت طبقة من الماء عمقها 200 قدم. والغرض منها إخراج كنوز البحار. وتسع هذه الدبابة رجلين لقيادتها ولالتقاط ما يصادفها، فلها أيد خارجها تتحرك بآلات من الداخل، ويستطيع قائدها البقاء داخلها من 10 إلى 12 ساعة على أن يستعملوا أوعية أوكسجين، وبذلك يستغنون عن أنابيبه المتصلة بسطح الماء. ويسهل إنزال هذه الدبابات ورفعها من سفن الإنقاذ.

تعب المعادن

اخترعت آلة لطرق سطوح المعادن بسرعة كبيرة فتمنعها من الكسر. فكثيراً ما تتعرض معادن بعض الأدوات لضغط أكثر من احتمالها (فيتعب) الحديد حتى إذا عرض للضغط مرة أخرى كسر. ولكن طرقه المتوالي بهذه الآلة يجعل سطح المعدن يتداخل في بعضه. وتمتلئ الفراغات التي قد تحدث من ثنيه فيتحمل العمل أضعاف المدة المقررة له.

صلب ينافس الخشب

تمكن المخترعون من الحصول على نوع جديد من الصلب الخفيف الذي ينتظر أن ينافس الخشب ويفوقه في بناء منازل ما بعد الحرب، فمن مميزات هذا الصلب أنه غير قابل للاحتراق، وأكثر مقاومة من الخشب، وأقل ثمنا، كما أنه يساعد على سرعة البناء. وقد صنعت منه عدة منازل، وصدرت إلى أنحاء العالم المختلفة حيث تشيد هناك فان أريد نقلها إلى مكان آخر فكت ونقلت.

الصور الملونة بالبرق

سجلت إحدى الشركات اختراعا ينقل الصور الملونة بالأجهزة السلكية أو اللاسلكية إلى أية بقعة من أنحاء الأرض. وترسل هذه الصور بالطريقة العادية لنقل الصور ذات اللون الواحد ولكن في ثلاثة ألوان مختلفة، وهي الألوان المستعملة في الأفلام الملونة. وبهذه الطريقة تستطيع الصحف إعدادها للطبع بمجرد تسلمها.

دراجة رخيصة

ص: 38

صنع أحد الأمريكيين دراجة تسير بسرعة 30 ميلا في الساعة ويتكلف سيرها ساعة كاملة أربع قروش. وهذه الدراجة ذات ثلاث عجلات يسهل تسييرها بالبدالات كما يسهل تسييرها بالكهرباء وقوة محركها ربع حصان، ويمكن تشغيله في أقسى درجات البرودة. وقد كلفه صنعها بأكملها تسعة جنيهات ونصف ولها في مؤخرتها سلة توضع فيها الأشياء التي يراد حملها ولو كانت طفلا.

لتفريغ شحنة الطائرات

استنبط أحد المخترعين سيارة لشحن حمولة الطائرات أو لتفريغها في دقائق. فلهذه السيارة سطح مرتفع يعلو ويهبط تبعا لارتفاع باب الطائرة. وبنفس هذا السطح حصير يدور إلى أعلى أو إلى أدنى بأجهزة آلية، فإذا أريد تفريغ الطائرة أدير إلى أسفل وإذا أريد شحنها أدير إلى أعلى فتوضع الأمتعة أو البريد على الحصير فيرفعها أو يهبط بها.

علاج الجنون بالكهرباء

وفق الدكتور جورج تومبسون إلى علاج بعض حالات الجنون المعروفة بالشيزوفرانيا (انقسام الشخصية) بواسطة الصدمات الكهربائية في المخ. فبعد أن يسلط على المريض التيار الكهربائي يستغرق في النوم لمدة سبع دقائق يفيق بعدها وهو أحسن حالاً.

وكانت حالات الجنون تعالج من قبل بواسطة صدمات الأنسولين ولكنها كانت في بعض الأحيان تقتل المرضى. ويقول الدكتور تومبسون إن 76 % من الحالات التي عالجها شفي أصحابها ولم يمت من الألف حالة التي أجرى عليها تجاربه مريض واحد. كما أنها لم تؤد إلى زيادة حالة المرض أو إلى تعقيدات أخرى

عشرون مليونا بدون مأوى

يقدر عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مأوى عقب هذه الحرب بعشرين مليوناً من الأنفس، ويقدر من يشتغلون في تشييد منازلهم بمليون ونصف المليون من العمال يربحون ما لا يقل عن 200 مليون من الجنيهات.

ص: 39

‌رسالة الفن

المنسوجات في عهد الخلافة الإسلامية

للدكتور ر. ب. سارجنت

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

وكما كانت بغداد مركز الصناعة، كانت كذلك مركز الأناقة في الزي. وفي كتب الأدب العربي كتب وفصول تبحث في آداب البلاط الملكي وأزياء أهله، نجد ذلك مثلا في كتاب اللطائف والمعارف للثعالبي، كما نجد خير نموذج له في كتاب الموشي لمؤلفه الوشاء، وهو يحتوي على قسم خاص بثياب المتأنقين والحلل التي يرتديها ذوو المناصب. ففي صفحة 124 (من الطبعة التي حررها برونوف) يقول:(واعلم أن ثياب ذوي الفضل، والشجاعة، وأهل العلم، تتألف من القمصان الرقيقة والقمصان الغليظة المصنوعة من أنواع فاخرة من الكتان الناعم الصافي الألوان كالديبقي والجنابي. . . ويعد من سوء الرأي ارتداء ثياب ذات ألوان قبيحة مصبوغة بالطيب والزعفران كالملحم الأصفر والديبقي المضرج بالعنبر، لأن ذلك لباس النساء ولباس الراقصات والخادمات). ويصف الوشاء كذلك ما ينبغي للنساء في آداب الثياب، ولعل أفضل ما يوضح لنا كيف أن بغداد كانت عاصمة عالمية في حياتها هو تلك القوائم التي يذكرها للمنسوجات، والتي تحتوي على قمصان دارا بجرد في بلاد فارس، ومطاف سوس، وجباب فرس، والمنسوجات الاسكندرانية والخراسانية، وعباءات عدن، والنسج الأرمني المشهور، والأحذية الزنجية، أو اليمنية أو الهندية الواردة من كامباى. وكثيراً ما كانت الثياب تطرز بأنواع شتى من الكتابة العربية. فدراعة هارون الرشيد مثلا كانت محلاة في أحد جانبيها بكلمة (حاج)، وفي الجانب الآخر بكلمة (غار). على أن هذه العبارات التي كانت تحلى بها الثياب كثيراً ما كانت أبياتاً من الشعر الناطق بالظرف والدعابة كالبيتين التاليين اللذين كانت تحلى بهما عصابتها إحدى الجواري على ما يرويه صاحب كتاب العقد الفريد:

تمت، وتم الحسن في وجهها،

فكل شيء ما سواها محال:

للناس في الشهر هلال، ولي

من وجهها في كل يوم هلال.

ص: 40

ويمكننا أن نتصور فخامة الأثاث في بلاط بني العباس من الثبت الذي ذكره ابن الخطيب للسجوف والطنافس التي شاهدها في حفل استقبال الخليفة المقتدر لسفير بيزنطة سنة 305 هجرية فقد اشتمل ذلك الثبت على مطرزات ذهبية فيها صور جامات، وفيلة، وخيول، وجمال وحيوانات برية، وطيور، إلى غير ذلك، وهو لون من الفن توارثه فنانو العرب واستعملوه في العهود المختلفة بنجاح عظيم، وكان يمتزج بهذه الأصناف كلها المنسوجات الصادرة من الصين والهند ورومية، وهي منسوجات كانت مشهورة عند أهل الشرق الأوسط.

ومع أنه ليس من الممكن أن نتناول هنا بالتفصيل ذكر سائر بلاد الخلافة فإن مصر وفارس لخليقتان بذكر خاص. ففي مصر تنيس، ودمياط، ودبيق، وعدد آخر لا يحصى من البلاد الصغيرة بمنطقة دمياط والأبوانية، تصنع وتصدر كميات من التيل؛ بل إن كسوة الكعبة تصنع عادة هناك منذ أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وأنا أعتقد أن القباطي التي كانت تستعمل في الكسوة كانت في الحقيقة مصنوعة في هذه المدن. وكذلك كانت الفيوم مركزاً لنشاط صناعي عظيم، وكانت تحتوي على عدة مصانع للطراز. وكانت مصر تستورد منسوجات من الخارج. ويمكننا أن نقتبس بهذا الصدد شعر بهاء الدين زهير في التاجر البغدادي في القاهرة:

دخلت مصر غنياً

وليس حالي بخافي

عشرون حمل حرير،

ومثل ذاك نصافي،

وجملة من لآل

وجوهر شفاف

وكل من النطرون والشب اللذين كان يستعملهما الصباغون كان يوجد في مصر وكانا يصدران إلى أقطار أخرى. ويروى لنا ابن مماتي أنه كان هناك طلب كثير للشب في بيزنطة، وهو يصف لنا إدارة الإحتكار الحكومي لهذه المادة في القرن السادس الهجري. وكانت مناجم الشب في صحراء الصعيد، وكانت هذه المادة تحمل في النيل إلى الوجه البحري ومنه إلى الإسكندرية. وكان النطرون يستخرج طبعاً من وادي النطرون، كما كان الأمر على عهد قدماء المصريين، وكان النطرون احتكاراً حكومياً كذلك، ونجد أنه كان يباع في مدن دمياط وتنيس وأمثالهما. وما زال النطرون يستخرج حتى اليوم في مصر،

ص: 41

وتستغله شركة أسست في آخر القرن الماضي.

وكانت بلاد فارس شهيرة بمصنوعاتها النسيجية في عهد الخلافة، سواء في ذلك ما كان منها تحت إدارة الحكومة وما كان تحت إدارة الأفراد، غير أنه بينما ظلت التقاليد الفنية متواصلة بدون انقطاع في مصر، كان لفتح المغول لبلاد فارس أثر في إدخال عدة عوامل جديدة على تلك الصناعة. فلم يكن عمل المغول مقتصراً على تخريبهم عدة مدن قديمة وبعثرتهم للنساجين في آسيا الوسطى حتى بلاد الصين، بل إنهم بنوا أو أعادوا إنشاء مدن جديدة هامة جلبوا لها صناعا من سائر أنحاء آسيا والعاهلية الصينية. كذلك نقلوا الصناع الفنيين من مكان إلى آخر في داخلية البلاد الإسلامية. وهناك رسالة من رشيد الدين، الوزير المشهور للسلطان غازان خان، يطلب فيها إرسال نساجين من أنطاكية، وسوس، وطرسوس. إلى تبريز إحدى حواضر المغول. ويبدو لي أن التقاليد الفنية الفارسية أصبحت، منذ تلك الحقبة، تزداد تميزاً واختلافا عن نظيرتها في القسم الغربي للثقافة الإسلامية ولا يتسع لي المقام هنا أن أعرض لمصنوعات مدن البلاد التي تسمى الآن بتونس، ولا للمنسوجات الأندلسية التي خلفت آثاراً كبيرة في المنسوجات الأوربية، ولا لمصنع الطراز في بلرمو الذي عادت إليه الحياة فيما بعد على يد النورمان الفاتحين. ولعل هذه النظرات في الصناعة وتقاليد الزي في العاهلية اللإسلامية في أثناء ستة القرون الأولى من حياتها، تنقل إلى القارئ صورة ما عن تلك الحضارة الثرية المبتكرة التي ما زال تراثها في أوربا باقيا حتى اليوم.

(عن مجلة الأدب والفن الإنكليزية)

ر. ب. سارجنت

ص: 42

‌الوحدة الكبرى

للأديب محمد سليم الرشدان

أمة العرب: يا ابنة المجد عودي

وانشري للأنام عهد الجدود

في ثنايا ردائك السابع المع

طار، نفحُ العَلاءِ والتخليد

والأزاهيرُ ناديات على ها

مكِ تعلوه شارة التمجيد

أنت أغرودة الزمان وفي ذك

رك يحلو لديه عذب النشيد

أنت قيثارة الخلود ومن في

ك تعالى في الدهر صوت الخلود

لن تهوني وفي بنيك الميامي

ن ذماء وأنت بيت القصيد

نحن أبناؤك الألى ندفع الضي

م ونمشي على شفار الحديد

نبذل النفس طائعين لإسعا

دك يا أمة الفخار التليد

لتعيدي مجداً بناه الغطاري

ف أباة من الكماة الصيد

فانهض يا ربيبة العزّ والرَّف

عة إلى المفاخر، عودي!

وانفضي عن جفونك المُلُم المف

زع من بعد رقدة وهجود

وانظر مسرح الأشاوس في الير

موك، مثوى فيالق ابن الوليد

يقذف الروم بالكتائب والأق

ران من كل فارس صنديد

فإذا هم قد صيروا ساحة الحر

ب هشيماً من القنا المخضود

وأعادوا الرومان ما بين مصرو

ع، وعانٍ يجرُّ فَضلَ القيود

أمة العرب لا تنام على ضي

مٍ ولو كان في جنان الخلود

وانظري: هل ترين في الأفق النا

ئي قتاماً من الوغى المعقود؟!

ذاك سعدٌ شبَّ الحروب على كس

رى، ووافى بجحافلٍ وعديد. .

يدمغ الباطل المهين فَيُزجي

هـ ويَنُجي عليه بالتهديد

ويثل العرش المَكِين. وهل كا

ن يفلُّ الحديد غير الحديد؟

سرحى الطرف بعد ذلك واجتا

زى خُسّراسان ثَم في التصعيد

وابلغي إن أردت مزدحم الأفي

ل، وَأْتي هنال أرض الهنود

أو ما تُبصرين في حومة الحر

ب غلاماً ينقضُّ كالجلمود؟!

ص: 43

لا يغرنَك أنه الأسَدُ الْوَرّ

د بسربال يافعٍ أملُودِ

يهتف الجند باسمه حيث ترتجُّ

لاصواتهم أعالي النجود

أن ذيالك الهمامَ هو ابن ال

قاسم الفذ في العراك الشديد

يطأُ الهندَ بعد ما وطأَ السن

د ويغزو في كل قطر بعيد

يبتغي الشبقَ مع قُتيَبة ما أو

عل في الصَّين كل قرمٍ عنيد

هكذا تُنجبين يا أمة العر

ب، وذاكم من نسلك المحمود

ليت شعري، هل تسمعين من الغ

ب صدًى من صواعق ورعود؟!

ذاك لو تعلمين عُقبة! إذ أق

دمَ إِقدامَ ضَيغْمٍ مفؤود

والذي تسمعين حَمْحَمَةُ الخي

ل وزحفُ الجنود إثر الجنود

وازدِحامُ الخميس في جانب الأط

لس من بين سِيفِه والصعيد

والأهازيج داوياتٍ من الأب

طال إثرَ الغناء والترديد

واندحار العدوَّ أرهَبَه المو

ت فألوى ينساحُ عرض البيد

هكذا شَيَّد الأباة ومن كال

عرب يبنون صرح مجد عتيد؟!

أمة العرب: يا سليلة أْمجَا

دٍ توالت في مشرقات العهود

أو ما خَدَّ ثواكِ عن يوم لُذرِي

ق وأعظم بيِومه المشهود؟!

أو لم تسمعي عن البطل الفا

نك مذكي السفين خلف البنود؟!

هاتفاً في الرجال: دونكم البح

ر!! وإلا فانحوا طريق الخلود!

فاذا هم يستبسلونَ لَدَى المو

تِ، وطوبى لكلَّ حر شهيد

كَبَّروا فاستحال في أُذُنِ الجو

زاء تكبيرُهم زئيرَ أسود

وانَتضَوا خلف طارق فإذا بال

قُوطِ ما بَيْن هالكٍ وشريد

وإذا بالإسلام ينشرُ جنحي

هـ بظلَّ الخليفةِ الممدود

وإذا بالإسْبَانِ تستقبل البُش

رى بصوتِ المؤذنِ الغَِّريد

هكذا سوف نبتني الوحدة الكب

رى ونمشيِ على غرار الجدود

هكذا يُطْلَب الفخارُ! فلا نا

مت على الذلَّ مُقلة الرعديد. . .

(القدس)

ص: 44

محمد سليم الرشدان

ماجستير في الأدب والساميات

ص: 45

‌البريد الأدبي

بين شاعرين

(يعرف القراء فجيعة الأستاذ عزيز بك أباضة في زوجته من

مجموعة أشعاره (أنات حائرة)، وقد عرفوا أخيراً فجيعة

الأستاذ عبد الرحمن صدقي من أشعاره التي يوالي نشرها هنا

وفي الثقافة. وفيما يلي كلمة أرسلها إلى زميله، وهي عامرة

بروح التقدير الكريم والمشاركة في الألم الوجع)

عزيزي الأستاذ عبد الرحمن:

تتبعتُ قصائدك التي تنشر في الرسالة والثقافة. وما أظنها قصائد بالمعنى المفهوم، ولكنها دموع العين والقلب معاً تقطر في أصدق تعبير واشرفه - ولكنها الحشاشة الذائبة والنفس المنصهرة تترقق في أنصع الشعر وأسماه.

وما من شك أن هذه اللوعة التي تحترق بها أنت، قد اهتز لها في آفاقه الشعر الباكي، وابتهج بها في محيطه الأدب الحزين. فلقد أضفت إلى صحفها التي طهرتها الآلام صحفاً أخرى تضيء بأنبل الألم وفي الألم لذة مشرقة تستشعرها النفس وهي تكتوي بناره، وتراح لها الروح وهي تتنزى فوق أواره.

أما أنا، فلي شأنٌ مع دموعك، شأن غير شأن الناس. فلقد رثيت لها أكثر مما رثى الناس. ذلك أنني فهمتها أكثر مما فهمها الناس. ثم إذا دموعك أو قصائدك قد امتزجت بأحناء تفسك وأعراقها حتى لأَوشك أن يتسرب بعضها في بعض.

ثم زدتُ فأوشكتُ أن أدعّي لنفسي منها هذه المقطوعة الدامية أو ذلك البيت الأّيم. . . ولِمَ لا أفعل، إذا كنت أجد فيها صدى نفسي، وأسمع فيها همسها وزفيرها، وأستاف منها رائحة الكبد المحترقة.

هل تظنني قائلا لك: (تماسك واصبر)؟

لن أفعل ذلك فأسيء إلى وفائك وحبّك

ص: 46

ولن أفعل ذلك فأحرم الأدب من نفحاتك ولفحاتك

كان الله لك، ورضي الله عنها وعنك

أسيوط

المخلص

عزيز اباظة

الجامعة العربية

أصبحت الجامعة العربية أمراً واقعاً، وحقيقة ثابتة. وقد خلصت الجمعيات التي قامت لأجلها، والكتاب الذين دعوا إليها من التخبط في تعريق غاياتها وتحديد أغراضها وكذلك اطمأنت نفوس من كانوا يتوجسون من تأليفها، لزعيم باطل أو وهم مدخول، بأنها ستكون جامعة إسلامية تناوئ أو تقضي على كل ما هو غير إسلامي. أما الآن فقد وضح أمرها فصار في وسع كل إنسان أن يقول:

(إن الغرض من الجامعة العربية توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها، وصيانة لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها)

(وكذلك من أغراضها تعاون الدول المشتركة فيها تعاوناً وثيقاً بحسب نظم كل دولة منها وأحوالها في الشؤون الاقتصادية والمالية، والاجتماعية والصحية، والمواصلات والثقافة، والجمارك والجنسية)

وإذا سأل سائل، الرجال الذين وقَّعوا وثيقة هذه الجامعة عن رأيهم فيها سمعنا دولة النقراشي باشا يقول باسم حكومة مصر

(أنها ضرورة تدعو إليها الظروف الدولية في هذا الوقت. لقد أردتم وأردنا أن تكون هذه الجامعة جامعة سلام ووفاق وهي هذه الصورة التي سوف تراها الدول وتستقبل بها عهداً جديداً للبلاد العربية، أساسه التضامن وحسن التفاهم)

ويقول دولة السيد فارس الخوري باسم حكومة سورية:

(نحن مطمئنون إلى أن هذه البداءة المتواضعة تأخذ مجراها في طريق النمو إلى أن تبلغ

ص: 47

الهدف الأسمى الذي تتوق إليه نفس كل عربي حريص على وصل مستقبل أمته العتيد بماضيها المجيد)

ويقول دولة سمير الرفاعي عن شرق الأردن:

(أنها الحجر الأساسي للكيان القومي)

ويقول السيد أرشد العمري عن العراق:

(أن هذا الميثاق لهو الطلقة الثانية للعرب، ولكنها طلقة سليمة هذه المرة، بيد أن الطلقة الأولى لفكرة الجامعة العربية كانت للملك حسين بن علي)

ويقول السيد يوسف يس عن الحكومة السعودية:

(إن ميثاقنا سيلقاه الناس بسيطا في مبناه ولكنه سام في أهدافه وغاياته، وأهم ما تستند إليه جامعة دولنا العربية هو حسن ظن بعضنا ببعض)

ويقول السيد كرامي عن لبنان:

(نعلم حق العلم أن هذه الجامعة ليست هي غاية ما يصبو إليه العرب في مختلف أقطارهم، ولكنها خطوة مباركة، بل خطوة كبيرة جبارة نحو تلك الغاية السامية، أي اتفاق على تأسيس جامعة لدولتنا تكون أداة دائمة للتعاون الأخوي الوثيق بيننا)

ويقول عبد الرحمن عزام بك:

(الحقيقة هي أن الجامعة وميثاقها ليست إلا عنواناً لميثاق غير مكتوب، أخذه علينا آباؤنا ورسلنا من قبل وأخذناه على أنفسنا اليوم)

لقد سجلنا على رجال حكوماتنا أقوالهم لنشهد عليهم ونستشهد بها قريباً.

حبيب الزحلاوي

الإسكندرية في العصور الوسطى

الدكتور عزيز سوريال عطية، خير من يجلو لأبناء الإسكندرية ما غمض من تاريخ مدينتهم في العصور الوسطى، فقد عرض لمستمعي الحلقة الثانية من سلسلة المحاضرات الإسكندرية، التي تقيمها وتشرف على الدعاوة لها جمعية الشبان المسيحيين. أقول عرض الدكتور سوريال كيف كانت الإسكندرية في تلك الآونة كعبة الدنيا، وعروس الزمان.

ص: 48

ومن أهّم ما حدّثنا عنه الدكتور الحاضر مسألة الامتيازات الأجنبية، فقال: إنّ لهذه الامتيازات التي تخلصنا من ربقتها أخيراً، أصلا في تاريخ الإسكندرية الوسيطة، وهو أنْ قد كان ما يعرف في تلك الآونة، بالفنادق، وقصة هذه الفنادق، تصور لنا كيف كانت تنشأ بأموال النزلاء الأجانب، على أن تعود ملكيتها إلى السلطان، وللسلطان بعد ذلك أن يصدر أمره إلى كلّ فئة يُقيم كلّ منها في فندق يشرفون منه على مصالح بلادهم الاقتصادية، على إلا يعترف لهم بأكثر من صفة الضيافة!! فهل يرى الدكتور سوريال أوجه شبه بين هذه الفنادق، وبين ما يعرف اليوم بنظام السفارات؟

أما تخطيطات الإسكندرية في العصور الوسطى، فقد شرحها لنا الدكتور المحاضر شرحاً وافياً، مستعيناً بخرائط كان يُعنى بلفت الأنظار إلى ملاحظتها عند كل نقطةٍ من نقاط بحثه، فكانت فرصة طيبة ليتابع المستمعون قصة مدينتهم في إحاطة وعمق، وكانت آيةً على حرص الدكتور سوريال، على أن يحيط متتبعوا محاضرته بعناصر الموضوع المختلفة من شتى الجهات، ولقد كان الدكتور سوريال دقيقاً أجلّ الدقة، في تحفظه حين كان يحدث عن رأى لم يقل العلم بَعْدُ كلمته الفاصلة فيه.

ومن أمتع ما حدثنا عنه الدكتور سوريال، حضارة الإسكندرية الوسيطة، تلك الحضارة التي تتجلى في أروع ظواهرها حين نستعرض مراحل الديانات المختلفة، فيحدثنا الدكتور عن مسجد النبي دانيال حديثاً طلياً عذباً، متتبعاً تاريخه منذ كان معبداً في العهد القديم، إلى أن أصبح مقبرة للاسكندر - فيما يقال - ثم يحدثنا عنه في صورته الحديثة، حديث الأستاذ المحاضر الذي ألمّ بأطراف موضوعه.

- وإني اعتقد أن في هذا النشاط الفكري الذي نلمسه في الإسكندرية الآن، ظاهرة حيوية جديدة، توحي بأن ليس من البعيد أن يعيد التاريخ نفسه، فتصبح الإسكندرية كما كانت، مشعل الحضارة الجديدة، حيثما تستقر النفوس، وحين يتطلع الناس إلى مثل عليا جديدة.

الإسكندرية

علي حسن حموده

أكاديمية مصرية للعلوم

ص: 49

تألفت في القاهرة أكاديمية مصرية للعلوم، على نظام الأكاديميات العلمية في أوربا وأمريكا، وقد جعل مقرها (دار الحكمة) وتشمل بحوثها الآن العلوم الرياضية والطبيعية وعلوم الاحياء.

ويبلغ عدد أعضائها الحاليين تسعة، رؤى أن يكون كل منهم ممثلا لفرع خاص وحاصلا على درجة الدكتوراه في اختصاصه، وممن لهم أبحاث علمية مبتكرة معترف بها في العالم.

وهؤلإء الأعضاء هم - بحسب ترتيب الحروف الأبجدية - الدكاترة: إبراهيم فهمي رجب، وأحمد زكي بك، وحسن صادق باشا، وسعد الله مدور، وعلي مصطفى مشرفه بك، وكامل منصور، ومحمد خليل عبد الخالق بك، ومحمد رضا مدور، ويونس صالح ثابت.

وستعقد الأكاديمية أولى جلساتها العلمية في 3 ابريل القادم، ويستطيع من تعنيه المحاضرات التي ستلقى فيها أن يحضرها، بوصفه زائراً.

وقد وافق معالي وزير المعارف على نشر البحوث التي ستتلى في الأكاديمية على نفقة الوزارة.

ص: 50

‌القصص

ناظر المدرسة

للقصصي الروسي أنطون تشيكوف

ترجمةاللأستاذ محمد قطب

كان فيودور لوكيتش سيسوييف - ناظر المدرسة التابعة للمصنع الذي يديره كوليكين - كان يعد نفسه لحفلة الغداء السنوية. ففي كل عام بعد انتهاء الامتحانات كان المدير يقيم حفلا يدعي إليه مفتش المدارس الأولية والممتحنون ويحضره كذلك مديروا المصنع.

وعلى الرغم من الصبغة الرسمية التي كانت لهذه الحفلات فإنها كانت ذائما حافلة بالحياة والمرح، وكان المدعوون يقضون فيها وقتاً طيباً ناسين ما بينهم من فروق. وكانوا يأكلون حتى يمتلئوا ويشربون ويتحدثون حتى تبح أصواتهم، ثم يتفرقون في المساء المتأخر وقد انطلقت حناجرهم بغناء صاخب تغطي حدته على ضجيج آلات المصنع!

وقد حضر سيسوييف من أمثال هذه الحفلات ثلاثة عشر إذ كانت قد مضت عليه ثلاث عشرة سنة في نظارة تلك المدرسة. والآن - هو يعد نفسه للرابع عشر - كان يحاول أن يبدو عليه البشر وأن تبدو حركاته مضبوطة بقدر الإمكان. وقد مرت عليه ساعة كاملة وهو ينظف بالفرشاة بذلته الجديدة السوداء وقضى ساعة أخرى أمام المرآة وهو يرتدي قميصاً على آخر طراز. ولكن دبوس الرقبة لم يشأ أن يدخل في عروته بسهولة فثار الرجل وصخب وراح يوجه أعنف اللوم إلى زوجته ويهددها بعظائم الأمور.

وكانت زوجته المسكينة قد أنهكت قواها وهي تدور حوله لتقضي له حوائجه وتساعده على إعداد نفسه. والحق أنه هو نفسه قد خارت قواه آخر الأمر حتى إنه - حين أحضر له حذاؤه الملمع من المطبخ - لم يستطع أن يلبسه واضطر أن يضطجع حينا من الوقت ويشرب كوبا من الماء فتنهدت زوجته آسفة وقالت له (لقد غدوت ضعيفاً جداً، وكان الأجدر بك ألا تذهب إلى هذا الغداء أبدا)

فقاطعها غاضباً (لا أريد نصائح من فضلك!)

وقد كان ثائراً جداً. . . وكانت نتيجة الامتحانات الأخيرة تثيره أكثر من كل شيء. ومع أن

ص: 51

الامتحان قد أنتهى بصورة باهرة وحصل تلاميذ الفرقة الأخيرة على شهادات وجوائز أيضاً، وسر لهذه النتيجة رجال المصنع ورجال الحكومة سواء، إلا أن ذلك كله لم يكن كافياً لحضرة الناظر. . . فقد آذاه أن التلميذ بابكين الذي لم يكن يخطئ في الإملاء أبداً قد أخطأ ثلاث مرات، وأن سرجييف كان شديد الاضطرات فلم يعرف حاصل ضرب 17 13، وأن المفتش وهو شاب غير مجرب - قد اختار للاملاء قطعة صعبة، وأن ليابونوف - وهو ناظر مدرسة مجاورة - لم يسلك مسلك الزملاء حين اختاره المفتش لإملاء القطعة بل جعل يبتلع الحروف ابتلاعا ولم ينطق الكلمات كما هي مكتوبة!

وبعد أن ارتدى الرجل حذاءه بمساعدة زوجته ونظر إلى نفسه في المرآة مرة أخرى، أمسك بعصاه المحببة وذهب إلى الحفل. وما إن وصل إلى منزل مدير المصنع حتى حدث له حادث بسيط فقد انتابه نوبة سعال عنيفة فجعل يهتز حتى طارت قبعته من فوق رأسه ووقعت عصاه من يده. وما إن سمع المفتش والمدرسون سعاله حتى هرعوا إليه فوجدوه جالساً على أسفل السلم سابحا في بحر من العرق، فقال المفتش مستغرباً (أهذا أنت يافيودور لوكيتش؟ هو. . . أتيت؟) ولماذا لا أحضر؟)

(كان يجب أن تكون في المنزل ياصديقي العزيز فلست اليوم على ما يرام)

إنني اليوم كما كنت بالأمس. . . وإذا كان وجودي يضايقكن فأستطيع أن أرجع)

(أوه يا فيودور. لا تتحدث بهذه اللهجة! تفضل بالدخول. إنك أنت تشرف هذا الحفل لا نحن. وإننا لمسرورون برؤيتك. . . مسرورون جداً!)

وكان كل شيء في الداخل قد أعد للحفل. وكانت في حجرة المائدة المزينة بزهور (الجيرانيوم) مائدتان إحداهما - الكبيرة - للطعام، والأخرى قد وضعت عليها طائفة من المشهيات. وكان ضوء النهار الحار يدخل بقدر من خلال الستائر المدلاة على النوافذ. وكانت مناظر الطبيعة المنقوشة على الستائر وأزهار الجيرانيوم وشارئح اللحم المرتبة في الصحاف. . . تعطي كلها جوا فطريا عاطفيا يلائم طبيعة صاحب المنزل وهو رجل ألماني طيب القلب صغير الجرم تلمع عيناه بالبشر والمحبة يدعى (أدولف أندريتش بروُني) وكان يدور حول المائدة الصغيرة نشيطاً متحمساً يملأ الأكواب بالشراب، ويملأ الصحاف بالطعام محاولا بكل طريقة أن يعبر عن صداقته وأن ينشر البشر على الجميع.

ص: 52

ولما رأى سيسوييف صاح (من ذا الذي أرى؟ فيودور لوكيتش! إن هذا بديع! لقد أتيت برغم مرضك. أيها السادة دعوني أهنئكم بحضور فيودور لوكيتش!)

وكان المدرسون في ذلك الوقت قد اجتمعوا حول المائدة يأكلون المشهيات، فقطب فيودور غاضباً لأن زملاءه قد بدأوا الطعام والشراب من غير أن ينتظروه. ولاحظ من بينهم ليابونوف الذي أملى الإملاء في الامتحان فاجه نحوه قائلا:

(لم يكن سلوكك مما يجدر بالزملاء! أبداً! فأن السادة الكرام لا يملون هكذا!)

فقال ليانوف مقطباً (يالله! أما زلت تفكر في هذا الموضوع؟ أما سئمت الأخذ والرد فيه؟)

(بلى. مازلت أفكر فيه! إن بابكين لم يكن يخطيء أبداً! وانا أعرف لماذا أمليت هكذا. لقد أردت أن تطوح بتلاميذي حتى تبدو مدرستك خيراً من مدرستي. إنني أعرف كل شيء!. . .)

فصاح ليابونوف محتداً (لماذا تحاول أن تقيم معركة؟ وأي شيء حدا بك إلى إغضابي؟)

فتدخل المفتش قائلا: (مهلا أيها السادة. هل يجوز أن يتحدوا على شيء بسيط كهذا؟ ثلاثة أخطاء. . . بدلا من واحد. . . هل هذا يهم؟)

(نعم، يهم. إن بابكين لم يكن يخطيء أبداً)

فصاح ليابونوف (إنه لن يترك هذا الحديث أبدا. وهو يستغل ضعفه ومرضه فيسبب لنا المتاعب جميعاً. إنني ياسيدي لن أعاملك كرجل مريض)

فاحتد سيسوييف قائلا: (دع مرضي جانباً. فليس لك به شأن. إنهم جميعاً يرددون في وجهي المرض. . . المرض. . . المرض. كأني محتاج إلى عطفك! ثم خبرني من أين جاءتك فكرة مرضي؟ لقد كنت مريضاً قبل الامتحان. هذا صحيح لكني شفيت تماماً ولم يبقى من أثر المرض إلا شيء من الضعف)

وهنا قال مدرس الديانة الأب نيكولاى (لقد استعدت صحتك فاشكر ربك. وعليك أن تسر بهذا ولكنك سريع الغضب)

فقاطعه سيسوييف قائلا: (وأنت أيضاً. . . ما كان أحسن صنيعك! الأسئلة يجب أن تكون مستقيمة وواضحة ولكنك ظللت تسأل ألغازاً. ليس هذا ما يجب صنعه!)

. . . وأخيراً فلحوا في تهدئته وأخذوه إلى المائدة. فظل يتردد فيما يشرب حتى قرر أن

ص: 53

يشرب زجاجة كاملة من النبيذ ثم جذب إليه قطعة من فطير اللحم واستخرج ما حشيت به وقضم منه قضمة فخيل إليه أنها خالية من الملح فرش عليها الملح رشا وما لبث أن دفعها بعيداً إذ أصبحت الفطيرة غارقة في الملح. . .

وفي أثناء الغداء كان سيسوييف يجلس بين المفتش وبروني وبدأ شرب الانخاب حسب العادات المتبعة. فبدأ المفتش بقوله: (إنني أعتبر من واجبي أن اقترح عليكم شكر اللذين أخذ هذه المدرسة تحت كنفهما وإن كانا لم يحضرا هذا الاجتماع وأعني بهما دانيال بتروفيتش و. . . و. . . و. . .) فقال بروني يلقنه (وايفان بتروفيتش)

(وايفان بتروفتش كوليكين الذين لاياكلون جهداً في سبيل المدرسة وأقترح أن نشرب نخبهما. . .)

فنهض بروني واقفاً كالملدوغ وقال (أنا من جانبي أقترح أن نشرب نخب مفتش المدارس الأولية بافل جينادييفتش ناداروف! فنهض المدعون وأزاحوا كراسيهم وبداوا يقرعون الأكواب وكان النخب الثالث دائماً من نصيب سيسوييف. وبهذه المناسبة نهض واقفاً ثم أخذ يلقي كلمته بعد أن أتخذ سماء الجد وتنحنح. . . وقد بدأ كلمته بقوله إن الله لم يمن عليه بموهبة البلاغة وإنه لم يكن مستعداً للخطابة. ثم قال إنه في خلال الأربعة عشر عاماً التي قضاها ناظراً للمدرسة كانت هناك دسائس تحاك وأياد تلعب في الخفاء. بل وصل الأمر إلى حد كتابة تقارير سرية إلى السلطات التي بيدها الأمر. وقال إنه يعرف أعداءه الذين أدلوا بمعلوماتهم ضده ولكنه لن يذكر أسماءهم (حتى لا يفسد شهية أحد) وأنه برغم هذه الدسائس فإن مدرسة كوليكين كانت الأولى في المنطقة كلها (ليس من الناحية الخلقية فحسب بل من الناحية المادية أيضاً).

ثم قال (في كل مكان آخر يتناول النظار رواتب تتراوح بين مائتي روبل وثلثمائة بينما أتناول أنا خمسمائة روبل، وعلاوة على هذا فقد أعيد تقش منزلي وأثث على حساب المصنع وفي هذا العام غطيت الجدران بالورق. . .)

وأخذ الناظر بعد ذلك يتحدث عن كرم المصنع في تزويد التلاميذ بأدوات الكتابة بالنسبة لمدارس الحكومة. وقال إن المدرسة مدينة في كل هذا لا إلى رؤساء المصنع الذين يقيمون على بعد ولا يزورونها إلا نادراً، وإنما إلى الرجل الذي برغم كونه ألماني العنصر وعلى

ص: 54

عقيدة لوثرن فإنه روسي في دخيلة نفسه.

وتكلم سيسوييف طويلا. . وكان يقف بين الحين والحين ليلتقط نفسه، وكان يتصنع البلاغة وحسن التأثير حتى أصبح كلامه مملا ممجوجا. وظل يردد الإشارة إلى أعدائه ويكرر نفسه ويسعل ويمد أصابعه في الفضاء باشارات غير مناسبة، وأخيراً أنهكت قواه وتصبب العرق من كل بدنه وانخفض صوته حتى لكأنه يحدث نفسه وختم كلامه بجمل غير مترابطة (وعلى هذا فأنا أقترح شرب نخب بروني أعني أدولف أندرييتش، الذي هو بيننا. . . وبصفة عامة. . . تفهمون ما أقول. . .)

وحينما انتهى من حديثه تنفس الجميع الصعداء كأنما رش أحدهم ماء باردا فصفا الجو. . ولم يكن قد بقي فيهم أحد على مرحه إلا بروني الذي شد على يد سيسوييف مصافحا وعاد وجهه ينضح بالبشر قائلا:

(أشكرك. وأشعر بسعادة عظيمة لأنك فهمتني! إنني ارجو من كل قلبي أن يكون كل شيء حسناً ولكن يجب أن الاحظ أنك تضخم من أهميتي كثيراً وإن نجاح المدرسة يرجع في الحقيقة إليك أنت يا صديقي. فلولاك أنت لما امتازت من أي مدرسة أخرى. وقد تظن أنني أجاملك، ولكني لا أجامل أحداً. وإذا كنا ندفع لك خمسمائة روبل في السنة فلأننا نقدرك. أليس كذلك أيها السادة؟ إن ما أقول صحيح. إليس كذلك؟ إننا لن نكن لندفع لغيره مثل هذا الأجر. والواقع أن المدرسة الطيبة السمعة هي شرف للمصنع!)

فقال المفتش (لايسعني إلا أن أقول إن مدرستكم ممتازة ولا تظنوا هذا رياء، فإني لم أصادف مدرسة أخرى كهذه في حياتي. وبينما كنت أجلس لامتحان التلاميذ كان يغمرني الإعجاب. . تلاميذ مدهشون! إن معلوماتهم جيدة وإنهم يجيبون إجابات مشرقة وفي الوقت ذاته فإنهم - على نحو ما - ممتازون. ثم هم صادقون في عواطفهم، ويستطيع الإنسان أن يجزم بأنهم يحبونك يافيودور لوكيتش. إنك ناظر مدرسة لحما ودما. ولا بد أنك ولدت مدرساً. فإن فيك جميع المواهب، من ميل فطري وتجريب طويل وحب لعملك. وإنه - بالاختصار - يدهشنا - بالنظر إلى ضعف صحتك - أن نرى فيك كل هذا النشاط والفهم والمواظبة والثقة بنفسك. لقد وصفك أحدهم في اجتماع مدرسي بانك شاعر في عملك. أجل إنك لشاعر!)

ص: 55

وهب الحاضرون على الطعام كرجل واحد يتحدثون عن مواهب سيسوييف وكأنما فتح خزان فسال طوفان من الكلمات الحماسية الصادقة. ونسي الجميع خطبة سيسوييف وحالته العصبية المنكرة ووجهه المعبر عن الحقد والكراهية. وجعلوا يتحدثون بحرية حتى أولئك المدرسون الجدد المستحون الذين كانوا لا يتحدثون إلى المفتشين إلا بقولهم (سعادتكم). وكان من الجلي أن سيسوييف - في محيطه - رجل ذو حيثية.

ولما كان قد تعود النجاح وسماع المديح مدة الأربعة عشر عاما التي قضاها ناظرا مدرسة فإنه كان يستمع بغير اهتمام إلى حماسة المعجبين. .

وكان بروني هو الذي شرب نخب هذا المديح بدلا من سيسوييف، فقد انتبه لكل كلمة تقال وكان يصفق ويهلل وينحني متواضعاً كأنما كان كل هذا المديح خاصاً به هو لابناظر المدرسة. وكان يصيح قائلا:(مرحى. . مرحى! هذا حق! لقد عرفتم ما أقصد!. . بديع!!)

وكان ينظر إلى ناظر الدرسة كأنما يريد أن يشاركه فرحه وأخيراً لم يطق صبراً، فقفز واقفاً وغطى بصوته جميع أصواتهم وهو يصيح:(أيها السادة! اسمحوا لي أن أتكلم! هس! أمام كل الذي تقولونه ليس لي إلا جواب واحد: وهو أن إدارة المصنع لن تنسى ما أداه فيودور لوكيتش من الخدمات!. . .)

وساد الصمت. ورفع سيسوييف بصره إلى وجه الألماني المتورد الذي عاد يقول: (إننا نعرف كيف نقدر مجهوداته. والجواب على كلماتكم هو أن أخبركم أن مبلغاً من المال قد وضع في المصرف في الشهر الماضي من أجل عائلة فيودور لوكيتش). فنظر سيسوييف متفهماً إلى الألماني وإلى زملائه كأنه غير قادر أن يفهم لماذا وضع المبلغ لعائلته وليس له هو. وفي لحظة واحدة استطاع أن يرى جميع الوجوه المنحدرة إليه، وفي العيون المثبتة نحوه، لا إحساس العطف ولا الشفقة التي لم يكن يحتملها، بل شيئاً آخر عطوفاً رقيقاً، ولكنه في الوقت ذاته مشؤم مخيف كأنه حقيقة واقعة. شيء سري كالقشعريرة في جسده وملأ قلبه بيأس دفين، فقام فجأة بوجه ممتقع وضرب وأسه بيديه، وظل هكذا ربع دقيقة وهو يحدق في نقطة امامه، كأنه يرى الموت الذي تحدث عنه بروني. . . ثم جلس ثانية والدموع تنهمر من عينيه. وسمع من حوله أصواتاً فزعة تقول: ماذا؟ ماذا؟ ماء اشرب شيئاً من الماء!)

ص: 56

ومرت لحظة قصيرة هدأ خلاها الرجل، ولكن المجتمعين لم يعودوا إلى مزاجهم الأول. وانتهى الغداء في صمت حئيب، وفي وقت أسرع من كل المرات السابقة.

وحين عاد سيسوييف إلى المنزل ذهب تواً إلى المرآة ثم قال في نفسه وهو ينظر إلى خديه المترهلين وعينيه اللتين تحيط بهما هالة سوداء (حقا. لم يكن ما يدعوني أن أبكي كل هذا البكاء! إن وجهي اليوم خير منه بالأمس. وإن ما أعانيه هو الانيميا والزكام الناشيء من المعدة. وسمالي ناشيء من المعدة). وخلع ملابسه وقد عاد إليه اطمئنانه وقضى وقتاً طويلاً ينظف بالفرشاة بذلته الجديدة السوداء ثم طبقها بعناية ووضعها في مكانها. ثم ذهب إلى المكتب حيث تراكمت كراسات التلاميذ فأخرج من بينها كراسة بايكين وجعل يتأمل في جمال خطه. . .

وفي الوقت ذاته - بينما كان هو يفحص كراسات التلاميذ - كان طبيب المنطقة يجلس في الغرفة المجاورة ويهمس في أذن زوجته أنه لم يكن يجوز أن بيح الذهاب إلى حفلة غداء لرجل لايحتمل أن يعيش أكثر من أسبوع.

محمد قطب

ص: 57

‌المسرح والسينما

فيلم سفير جهنم

تأليف واخراج وتمثيل يوسف بك وهبي

القصة

تدور حول مدرس يحيا مع زوجه وأبنائه حياة شقية كلها فاقة وعوز، قاده الشيطان بوسائله إلى حياة لم يألفها من قبل، وغدا ذلك المدرس من هؤلاء المترفين بفضل الشيطان الذي عرف كيف يسيطر عليه ويوجهه كيفما يريد. . . ثم تنتهي حياته بفقده زوجه، وجنون ابنتهه، وسجن ابنه، وأخيراً يستيقظ المدرس من نومه فيحمد الله على أنه كان في حلم، وينادي أبناءه وزوجه ليقص عليهم رؤياه، فإذا بهم كانوا مستغرقين في نفس الحلم هذا هو ملخص لقصة (سفير جهنم). ويظهر أن

الشيطان لعب دوراً خطيراً حتى استطاع أن يخدع يوسف بك ويجعله قصة مفككة كهذه ليس لها فكرة تهدف إليها، ولا وحدة تسير عليها لتكون فيلماً!!

الاخراج

اعتمد الأستاذ يوسف بك في إخراجه على تهاويل ومفارقات. فحشد المناظر حشداً، وجمع الصور جمعاً في فوضى عجيبة تشهد أن الشيطان وحده هو الذي أوحى إليه هذه التهاويل والمفارقات.

لست أدري كيف أخرج يوسف بك قصة فيلمه على أنها حلم مع أن المدرس نفى ذلك أكثر من مرة وفي مواقف متعددة، ولا أدري أي شيطان هذا الذي يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، يعرف الغيب، ويعيد إلى عجوز شمطاء صباها، ثم يعيد إلى كهل شبابه، ثم هو بعد ذلك أو قبل ذلك يعظ الناس في مكارم الأخلاق، ويتحدث بالفرنسية حيناً وبغير الفرنسية حيناً آخر. . .

التمثيل

قام الأستاذ يوسف وهبي بتمثيل دور (الشيطان)، فعرف كيف يكون خير سفير لجهنم وعلى

ص: 58

أحداث طراز، على الرغم من مغالاته في التكلف في كثير من المواقف، وقام الأستاذ فؤاد شفيق بدور (المدرس) فوفق فيه، وكذلك وفق الأستاذ محمد كمال المصري (شرفنطح) الذي قام بدور (ناظر المدرسة)، ووفقت فردوس محمد التي قامت بدور (زوجة المدرس) أما الأستاذ عبد الغني السيد فقد نجح كممثل وكمطرب، ونجح الأساتذة محمود المليجي وفاخر فاخر، وأيضاً أمينة شريف وليلى فوزي وهاجر حمدي.

أما الأغاني، فقد نجحت أغنية (أنا روميو) تأليفاً وتلحيناً غناء وبعد، فالأستاذ يوسف بك وهبي فنان موهوب له أدواره التمثيلية الخالدة التي تضعه في مصاف الممثلين العالميين، ولكنه يأبى على نفسه إلا أن يرهقها، فيرغمها إرغاماً على الانخراط في سلك القصاصين والمخرجين، فلا تجاوبه بما يريد، لأنها - وأعني نفسه - ليس عندها استعداد للقيام بمثل هذه المهام، فماذا عليه لو ترك نفسه على سجيتها وركز مجهوده في التمثيل؟!

أعتقد أنه من الخير للفنان يوسف بك أن يدع مسألة التأليف والإخراج ويتفرغ للتمثيل ليستطيع أن يؤدي رسالته كممثل على أكمل وجه.

عبد الفتاح متولي غبن

ص: 59