المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 614 - بتاريخ: 09 - 04 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦١٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 614

- بتاريخ: 09 - 04 - 1945

ص: -1

‌الرصافي وأغاخان

أو الزعيم الأدبي والزعيم الديني

لك الله يا بن آدم، ما أغمض سر الطبيعة فيك! تزعم أن فيك عقلا

وأنت تتبع هواك، وأن لك ديناً وأنت تعبد دنياك، وأن عندك علماً وأنت

تجهل نفسك!

ما هذا الذي نرى من خذلان المنطق لك، وإسراف الرأي عليك؟ تعرف الله وتفسق عن طاعته، وتخلق الصم وتخلص في عبادته، ثم تقدس الجرائم باسم العدل، وتعتقد الأباطيل باسم العقل، وتفسد قوانين السماء وتقول إنه الشيطان، وما الشيطان إلا نفسك؛ وتزيف طبائع الأشياء وتقول إنه الحظ، وما الحظ إلا عماك!

إن من عماك لا من عبث الحظ أن يكون في بيتك الكلب يتقلد الذهب، ويتوسد الحرير، ويتهنأ اللحم، وفي جوارك الإنسان يفضح جسده العري، ويلحس كبده الجوع، ويقض مضجعه الهم

وإن من هواك لا من نزغ الشيطان أن تلح على أخيك بالأثرة والحرمان ثم ترثي لحالته؛ وإذا كان من عمل الشيطان أن تقتل القتيل فليس من عمله أن تمشي في جنازته؟

في الأسبوع الذي كان الرصافي شاعر العربية يعالج فيه آلام المرض، ويكابد غصص الموت، على الفراش القلق، في المضجع الموحش، وكل ما يملكه من حياته الطويلة العريضة أسماله البدوية وأشعاره المخطوطة، في ذلك الأسبوع نفسه كان أغا خان زعيم الإسماعيلية يقعد في كفة الميزان المأثور المشهور كما ترى، وبازائه في الكفة الأخرى مائة كيلو من سبائك الذهب المصفى، هي مثقال الزعيم العظيم في هذا العام، خرج له عنها أتباعه في الهند وفي غير الهند، ونفوسهم راضية، وقلوبهم مطمئنة!

إي والله! مائة كيلو من الإبريز الخالص، هي ضريبة العقيدة يقدمها المؤمنون المخبتون كل سنة إلى أميرهم المقدس، ورقابهم من الجلالة خواضع، وعيونهم من المهابة نواكس، فيتعطف صاحب السمو بأخذها، ليطهرهم بها، ويزكيهم لأجلها، في حلبات السباق، وخلوات العشاق، ومعابد الحب، على البحيرات الناسمة بالنعيم، والجبال الباسمة بالجمال،

ص: 1

والشواطئ المائجة بالفتنة الحياة الروحية بسببه، فما بالهم تركوه يكتب في وصيته الأخيرة هذه الفقر التي تستدر الشؤون وترمض الجوانح:

(كل ما كتبته من نظم ونثر لم اجعل هدفي منه منفعتي الشخصية، وإنما قصدت به خدمة المجتمع الذي عشت فيه، والقوم الذين أنا منهم ونشأت بينهم، لذلك لم أوفق إلى شيء في حياتي يسمى بالرفاهية والسعادة في الحياة. . . لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها؛ وكل ما عدا ذلك من الأثاث الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. . .)

أين كان ذوو النفوس الشاعرة القادرة من أتباع الرصافي حين أفرط عليه إباؤه وكبرياؤه، فانطوى على نفسه يهدهد آماله بالصبر، ويخدر آلامه بالشراب، وروحه الوثاب ينبثق انبثاق النور، وأمله الطماح يتقلص تقلص الظل؟ لو شاء الرصافي أن يهاوي السلطان، ويمالق الحكومة، وينافق الشعب، لعاش أرغد العيش وبلغ أرقى المناصب؛ ولكنه آثر الحرية على الرق، واستحب الصراحة على الرياء، فذهب شهيد كرامته وعفته.

ستقول إن الزعيم أغا خان كذلك صريح حر، وإن صراحته لسافرة وحريته الطليقة لم تبغيا عليه في قومه، ولم تجرا إلي لكلام في صلاته وصومه. والجواب أن أتباع الزعيم الديني يصورونه في نفوسهم بصورة العقيدة التي يدينون بها، ويجعلون هيكله المادي رمزاً لهذه الصورة. ولهذا الرمز ظاهرة يراه الأوزاع، وباطن يستأثر بعلمه الأتباع؛ فهم يسددون ما يبصرون من زيغه، ويؤولون ما يسمعون من باطله، ويسبلون على عمله المريب ما يسبله لصوفيون من القداسة على الطبل والدف والناي والصنج، فتصبح هذه الآلات في أيديهم غيرها في أيدي القيان والمجان، وهي في نظر الناس لا تختلف في شيء عنها. قل إنها الجهالة أو السذاجة أو البلاهة، فلن يقدح ما تقول في الحقيقة، ولن يغير من الواقع.

أما أتباع الزعيم الأدبي فإنهم يتخذون صورته من فنه وروحه؛ فلصورته في كل ذهن شكل مختلف، وفي كل قلب أثر خاص. وطبيعة هذه الصورة أو تلك الصور مشتقة من طبيعة الفن: تتضح تارة وتبهم تارة، وتختفي حيناً وتلوح حيناً، على حسب استعداد النفوس لتقبل الجمال الفني حالا على حال، ووقتاً بعد وقت. لذلك كانت عقيدة هؤلاء الأتباع في زعيمهم كالعرض المنفك: تزول ثم تؤول، فإذا زالت نسوه كما ينسون السرور والحزن واللذة

ص: 2

والألم؛ وإذا آلت سمعوه كما يسمعون البلبل على فنن الدوحة، يطربون لشدوه ويعجبون بريشه، ثم لا يعنيهم بعد ذلك أيجد الحب والغش، أم يجد الفخ والقفص. وكذلك شأن أصحاب السلطان وأرباب الحكم مع رجال الأدب، يقتبسون من عقولهم النور إذا أظلمت الخطوب، ويستمدون من نفوسهم اللهب إذا خمدت العزائم، حتى إذا استوثق لهم الأمر، وتنازعوا الغار، وتقاسموا الفئ، أنكروا ما بذل الأدباء، وقالوا بلهجة الساخر البطر: وماذا صنع هؤلاء؟ لقد قالوا وإن الكلام طبع، وكتبوا وإن المداد رخيص! ذلك إلى أن أكثر عشاق الأدب مفاليك لا يملكون لأزبابه إلا الدعاء في الحياة، وإلا الرثاء في الموت! وإذا كان لدى بعضهم فضل من القوت لم يجد في نفسه من سلطان العقيدة ما يحمله على المواساة به؛ وذلك هو الفرق بين العقيدة الأدبية والعقيدة الدينية. فالعقيدة الدينية سلبية لا تتجاوز الإعجاب بالكلام والإنفاق من الكلام؛ فإذا وجدت من يبذل في سبيلها المال كان ذلك قطعاً للسان الهاجي، أو شراء لضمير المادح، أو تزييفاً لصورة الحق، وليس في مثل هذا البذل كسب للأدب ولا نفع للأديب. ولكن العقيدة الدينية إيجابية تقوم على إعلان الفكر بالشعيرة، وتمثيل المعنى بالرمز، وتحقيق النية بالعمل. والسلطان الروحي فيها قاهر، والأثر المادي عليها ظاهر. وحسبك منها الزكوات والصدقات والأضاحي والنذور؛ ففي بعض أولئك للزعيم الديني ذهب وميزان، ومدد وسلطان، وقصور ورآسة، ثم ضريح وقداسة!

حظك يا معروف هو حظ الأديب منذ كان في الناس أدباء وفي الأرض أدب! يموت أمثالك شرقاً بالبؤس، كما يموت أمثال أغا خان غرقاً في النعمة! فلو أن ربك حقق لك ما كان يرجوه شيخك الالوسي من رسوخ قدمك في الدين، وعلو منزلتك في التصوف، إذن لخلفته في الزعامة الدينية، وبلغت من (طريقتك) ما بلغ أغا خان في الدنيا، ونلت من (صوفيتك) ما نال معروف الكرخي في الآخرة.

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌أقوال في الزكاة مهمة، لأئمة

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

أراجع من أجل الطبعة الثانية لكتابي (الإسلام الصحيح) مؤلفات القوم، فأجد في (إعلام الموقعين عن رب العالمين، وفي مفاتيح الغيب، وفي المحلى) هذه الأقوال العظيمة المهمة في الزكاة والمعونة. وهي أقوال لا تسأل راويها تفسيراً ولا تفصيلاً؛ إنها تشرح نفسها، وتعلن أمرها، وتذكر وتنذر، بل تكاد تنطق بالحق مصوتة مثل الأناس الناطقة. وقد رأيت أن أتعجل نشرها في (رسالتنا) الإسلامية، والسبق من دأب (الرسالة) ومن دأبها تعجل الخير.

- 1 -

قال الإمام عبد الله محمد المعروف بابن قيم الجوزية في (إعلام الموقعين عن رب العالمين):

إن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة. قال السعدي: حدثنا هارون بن إسماعيل الخراز: حدثنا علي بن المبارك حدثنا يحيى بن أبي كثير: حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال: لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة. قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقال: العذق النخلة، وعام سنة المجاعة. فقلت لأحمد: تقول به؟ فقال: إي لعمري.

قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟

فقال: لا. إذا حملته الحاجة على ذلك، والناس في مجاعة وشدة. وقد وافق أحمد على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي، وهذا محض القياس ومقتضى قواعد الشرع؛ فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك إما بالثمن أو مجاناً على الخلاف في ذلك. والصحيح وجوب بذله مجاناً لوجوب المساواة، وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج.

قلت: قد درأ الحد عن السارق في غير المجاعة وفي غير السنة، ففي (سيرة عمر بن عبد العزيز) للإمام أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي:

ص: 4

(. . . حدثنا زياد بن أنعم الألهاني عن عمر بن عبد العزيز أنه أتى إليه بسارق، فشكا إليه الحاجة، فعذره وأمر له بنحو عشرة دراهم)

والمثل يقول: (الخلة تدعو إلى السلة) والخلة الفقر، والسلة السرقة، قال العلامة الميداني: ويجوز أن يراد بالسلة سل السيوف. . .!

- 2 -

قال الإمام محمد فخر الدين الرازي المعروف بخطيب الري في (مفاتيح الغيب) وهو تفسيره الكبير الشهير:

1 -

إن النفس الناطقة لها قوتان: نظرية وعملية، فالقوة النظرية كما لها في التعظيم لأمر الله، والقوة العلمية كما لها في الشفقة على خلق الله، فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتصافه بكونه محسناً إلى الخلق ساعياً في إيصال الخيرات إليهم دافعاً للآفات عنهم.

2 -

إن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعياً في إيصال الخيرات وفي دفع الآفات عنهم - أحبوه بالطبع، ومالت نفوسهم إليه - لا محالة - على ما قال عليه الصلاة والسلام:(جبلت النفوس على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها) فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من المال أكثر - أمدوه بالدعاء والهمة. وللقلوب آثار، وللأرواح حرارة، فصارت تلك الدعوات سبباً لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب، وإليه الإشارة بقوله تعالى:(وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) وبقوله عليه الصلاة والسلام: (حصنوا أموالكم بالزكاة)

3 -

إن المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه فهو غاد ورائح، وهو سريع الزوال مشرف على التفرق، فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق، فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله، فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. وسمعت واحداً يقول: الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر. فقلت: بل يمكنه ذلك إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر، وإلى القيامة.

4 -

إن إيجاب الزكاة يوجب حصول الإلف بين المسلمين وزوال الحقد والحسد عنهم،

ص: 5

وكل ذلك من المهمات.

5 -

إن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة والمسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين، وعلى الإقدام على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها.

- 3 -

قال الإمام ابن حزم في المحلي:

فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات ولا فيء سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والشمس وعيون المارة.

قال عمر بن الخطاب (ض) لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين.

وعن ابن عمر أنه قال: في مالك حق سوى الزكاة.

وصح عن الشعبي ومجاهد وطاوس كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة.

. . . ويقولون: من عطش فخاف الموت ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده وأن يقاتل عليه.

فأي فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفسه الموت من العطش وبين ما منعوه منه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع والعري، وهذا خلاف للإجماع وللقرآن وللسنن وللقياس.

ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعاماً فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو ذمي، لأن فرضا على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإن كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير، وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلي قاتله القود، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله لأنه منع حقاً. وهو طائفة باغية. قال تعالى:(فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق مانع الزكاة.

تلكم أقوال الإسلامية عربية بينة. وأقول في هذا المقام وفي الختام: إنه من لم يجب داعي

ص: 6

الله وهدى (الكتاب) وشرعة سيد الأنبياء والمرسلين - وفي الوقت فسحة - فليرتقب طلعة التنين، وقسمة لينين. . .!!

محمد إسعاف النشاشيبي

ص: 7

‌علم العرب الأقدمين بالجراد

مع نبذ عن غاراته الحديثة

للدكتور محمد مأمون عبد السلام

وكيل قسم النباتات بوزارة الزراعة

بقية ما نشر في العدد الماضي

وقال جندل بن المثنى يصف غارة الجراد:

يثور من مشافر الحنادج

ومن ثنايا القف ذي الفوائج

من ثائر وناقر ودارج

ومستقل فوق ذاك مائج

يفرك حب السنبل الكنافج

بالقاع فرك القطن بالمحالج

(والكنافج هو السمين الممتلئ. والحنادج هي الإبل الضخام شبهت بالرمال).

ومن الطريف أن كتاب العرب الأقدمين كانوا على علم بأطوار الجراد، فقد وصفها صاحب المسالك ابن فضل الله العمري الدمشقي المتوفى 749هـ (1348 ميلادية) إذ قال إن الجراد صنفان أحدهما يقال له الفارس وهو الذي يطير في الهواء عالياً. والصنف الآخر يقال له الراجل وهو الذي ينزوي فإذ فرغت أيام الربيع طلبت أرضاً طيبة رخوة فتنزل هناك وتحفر بأذنابها حفراً وتطرح فيها بيضها وتدفنه وتطير فتفنيها الطيور والحر والنور فإذا تم الحول جاءت أيام الربيع تفقأ ذلك البيض المدفون وظهر مثل الديبب الصغار على وجه الأرض، وقالوا كل جرادة تبيض شيئاً كثيراً فإذا خرج ذلك من البيض أكل ما وجد من الزرع والشجر وغيرها حتى يقوى ويقدر على الطيران فينهض ويذهب إلى أرض أخرى فيفعل ذلك أبداً دائماً تقدير العزيز العليم.

وينطبق ما قاله ذلك العالم العربي على النظرية الحديثة لأطوار الجراد التي وضعها العالم الأستاذ يوفاروف الاختصاصي الشهير في الجراد وبذلك يكون علماء العرب قد سبقوا علماء الغرب في القول بنظرية أطوار الجراد بنحو ستمائة سنة.

وقد نصح كتاب العرب لمقاومة الجراد وإبادته بالتدخين، ورش النباتات بمواد طاردة، وإحراق الجراد ومطاردة فراخه إلى أخاديد محفورة يحرق فيها، وقد شرح ذلك صاحب

ص: 8

كتاب الدر الملتقط في علم فلاحتي الروم والنبط فقال. أما الجراد والجندب فيدخن مع جري الهواء بقصب القنة والقنب والكبريت وعظام الهداهد والسلاحف والتبن، ويرش على الشجر ما قثاء الحمار والترمس والملح بعد طبخه. أو يطبخ قشر الطلع بالماء حتى يخرج قوته ويرش الشجر والزرع به. ثم قال ويدق الشبوينز أي الحبة السوداء ويريب ببول الجمال على نار هادئة كذلك سبعة أيام ثم يرش ماؤه على الزرع والشجر فإنه يهلك الجراد والزنابير والزراريح وغيرها. ثم قال: وإن كان الجراد فرخاً فلتحفر له الأخاديد ثم يساق إليها ويحرق فيها أو إلى حفائر عميقة أو ابيار معطلة أو تنصب قدور كبار فيها ماء حار يلقي فيها أولاً بأول ليلاً ونهاراً.

غارات الجراد الحديثة

هذا ما أمكنني العثور عليه في مخلفات العرب عن الجراد ومقاومته. أما عن غارات الجراد في العصور الحديثة في الشرق الأوسط فأقول إن من الذين تكلموا عنها بمصر من الحديثين هو الرحالة بورخهاردت وهو سويسري كريم المحتد أرسلته إحدى الجمعيات الإنجليزية في رحلة علميه لبلاد الشرق الأوسط في عهد محمد علي فمكث بالشام عامين جاء بعدها إلى القاهرة عن طريق سينا ثم توجه صعدا إلى أسوان فوادي أم جات المتفرع من وادي العلاقي حيث شاهد أسرابا من الجراد الشره يلتهم أوراق أشجار السيال وفروعه الغضة ثم سار في وادي الطرفاوي وبه الكثير من أشجار الدوم والطرفا ونبات السنامكي ورأى أسراب الجراد تجردها من أوراقها وفروعها الغضة. ومنهم كذلك المسيو بوفيه وهو فرنسي استقدمه المرحوم الحاج إبراهيم باشا نجل محمد علي الكبير ليكون مديراً لمزارعه وحدائقه وقد أرسله في بعثة زراعية إلى بلاد اليمن وسينا وفلسطين، فلما توجه إلى سينا وصل إلى دير سانت كاترينا في أول يونية سنة 1832 فرأى قرب جبل سينا سحابة عظيمة من الجراد من نوع قال عنه إن قريب من ايدوبودا ميجراتوريا فالتهمت ما في طريقها من عشب الأرض وأشجارها فلم تبق ولم تذر.

ولم تتعد أخبار الجراد ما يقوله المسافرون والرحل عنه. فلم تعن الحكومات بأمره إلا من عهد قريب. وبلادنا بلا فخر من أسبق المماليك في دراسة أحواله والمبادرة إلى مكافحته ولعل أول مجهود حكومي في ذلك هو ما فعلته حكومتنا في غارة سنة 1891 وإليك ما قاله

ص: 9

عنها المرحوم ميخائيل بك شاروبيم في الجزء الرابع من كتابه (الكافي): -

وردت أخبار من بعض مديري الإقليمين القبلي والبحري على ديوان الخديوي وديوان الداخلية بظهور الجراد في جهات الصالحية والزنكلون وتل حوين من بلاد الشرقية. وأهوى وباروط وآها من بلاد مركزي النجيلة والدلنجات واليهودية وقبور الأمراء بالبحيرة وطود ودماريس والبرجين والأخصاص وغيرها بمديرية المنيا وأكثر بلاد القليوبية والمنوفية. وكسا أراضي الجزيرة بالبر الغربي من القاهرة، وكان ظهوره في أخريات رمضان فخاف الناس شره واهتمت الحكومة بأمره اهتماما عظيما وأرسلت إلى سائر المديرين والمحافظين بالتشديد على قطع شأفته فجدوا في تأثره، وكانت الأخبار ترد تباعا بتكاثره وانتشاره شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وفتكه بكل ذي خضرة من النبات والشجر والنخيل، وظل الحال على ذلك أياما والناس في دهشة وحيرة حتى أذن الله سبحانه بان هبت ريح في أخريات شوال سنة 1300 هـ ورياح مختلفة بعضها من الشرق وبعضها من الغرب ولبست على اشتدادها أياما فاكتسحته وحملت بعضه إلى الحوف الشرقي وبعضه إلى الجبل الغربي ولم تترك منه إلا القليل في البلاد والقرى التي نزل عليها فأباده أهلها بضرب العصي وسعف النخيل وجدوا في جمع بيضة وفرضت الحكومة قرشين لمن يأتي بأقة من بيضه، فتسابق الناس إلى البحث عن مواطنه وإخراجه منها فكان أكثره في مركز النجيلة بالبحيرة وفي الجبل الغربي وسواحل البحر وفي الفشن بمديرية المنيا.

ومن غريب ما نقل عنه أن سحابة منه نزلت على مزرعة قطن بإحدى بلاد المنوفية فأكلتها وما أتت على آخرها حتى ماتت جميعها فجاءت أخرى إلى مزرعة في جوار المزرعة الأولى فلما رأت ما أصاب الأولى فرت من النزول على شجر القطن وتحول ضرره إلى الأشجار والنباتات الأخرى. وأخبر جماعة من تجار المنوفية مديرها وحلفوا له الأيمان المغلظة بأنهم شاهدوا في بلاد مركز أشمون جريس طيراً كثيراً جداً أقرب شبها بأبي قردان ولكنه أطول منقارا وقد ترك الجبل أسراباً أسرابا واخذ يتتبع الجراد أينما وجده ويكبس عليه ويزدرد منه ألمئين والألوف ثم يتقياه ميتا وهكذا فلا يرحل عن البلد أو المزرعة إلا وقد أفنى ما فيها من الجراد وأباده، وأن بعض الجهلاء من الفلاحين كانوا يخافون من ذلك الطير فيرجمونه بالأحجار وهو لا يلتفت إلى ذلك ولم يثن له عزما. قلت

ص: 10

وقد شاهدت شيئاً كثيراً من ذلك الطير نازلا على طول الطريق من نفيشة إلى السويس وهو على هيئة صفوف الجند بعضها خلف بعض ساكن القلب لا يزعجه مزعج ولا يحركه محرك، وقد أخبرني بعض أهالي نفيشة بأنه قد نزل عليهم منذ أيام وهو يترصد الجراد الزاحف من بلاد الشرقية إلى الحوف الشرقي حتى إذا مر قام من فوره وسد عليه الطريق وجعل يضربه بأجنحته ومنقاره ويبتلع منه الألف فلا يستقر في جوفه لحظة حتى يتقياها فإذا أفلت منه شيء تعقبه وقتله ثم يعود إلى مكانه متربصا. قيل وبقى على هذه الحال أياما حتى قامت تلك الريح واكتسحت ما بقى من الجراد، فسبحان مدبر الأكوان ومسلط الأبدان على الأبدان إنه خلاق عظيم سبحانه جل شأنه).

وأغار الجراد بعد ذلك على الديار المصرية في سنة 1904 فورد أول بلاغ عن ظهوره من منطقة العريش في 21 مارس سنة 1904 ثم تلته بلاغات أخرى طول شهر إبريل عن ظهوره في الوجه البحري وشمال القاهرة. وكانت أرجاله قد جاءت من صحراء العرب وشبه جزيرة سينا، فأغارت على مديريات الدقهلية والشرقية والقليوبية وكل بلاد مصر الوسطى ومديرية المنيا حتى سمالوط. وصار يضع بيضه أينما حل. واستمرت غاراته طول شهر مايو والنصف الأول من شهر يونيه فلم يترك بلداً من بلاد مصر إلا ونزل بها. وكانت وزارة الداخلية المنوطة بمقاومته وتخليص البلاد من شره فأصدرت إلى رجالها في الأقاليم المنشورات ليحثوا الأهالي على مكافحته.

وأغار الجراد على مصر بعد ذلك عدة إغارات صغيرة في سنة 1914 شوهدت أرجاله خلالها في أسوان وكوم امبو وأدفو والمعادي وفارسكور وسيدي براني. ثم تلت هذه الغارات غارة كبرى في سنة 1915 فظهرت أسرابه أول الأمر في الواحة البحرية في شهر يناير ولكنه لم يبلغ عنه إلا في 2 فبراير. وقد شوهدت أرجال الجراد في وادي الريان والواسطي والصف والعياط وشبين القناطر ونوى وفي أسوان، ولم ينتصف شهر فبراير إلا وأطبقت جحافله على الوجه البحري ومديريات الجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وجرجا وقنا وشبه جزيرة سينا، واستمرت غاراته حتى أوائل يونيه فلم تسلم منه بلد في القطر المصري حتى واحة الفرافرة. ووقع حمل مقاومته في هذه الغارة الكبرى على عاتق وزارة الزراعة فلم تأل جهداً على حداثة سنها (ولدت سنة 1913) في

ص: 11

مكافحته مستعينة في ذلك بأحدث ما وصل إليه العلم من وسائل الكفاح مما تجده مفصلا في تقريرها عن (غارة الجراد الكبرى على مصر سنة 1915) فكان مما فعلته أن قررت مكافأة قدرها جنيه واحد لمن يدل على موضع بيض جديد في الصحراء فكشفت بذلك مغارز عديدة لبيضه فبلغ ما جمع من البيض في هذه الغارة ثلاثمائة وأربعين ألف أقة تحوي ثمانية وعشرين بليون بيضه. وبلغ مقدار ما جمع من الجراد نفسه عشرة ملايين أقة أي نحو ثمانية بلايين جرادة سوى النطاط

واستعانت وزارة الزراعة في هذه الغارة بعدة مصالح حكومية كالمالية والمساحة وخفر السواحل وعينت دوريات من الهجانة للبحث عن الجراد في الصحاري وقد بلغت نفقات هذه الحملة سبعة عشر ألفا من الجنيهات.

وأغار الجراد بعد ذلك على مصر في أواخر سنة 1929 وأوائل سنة 1930 غارته الكبرى التي كلفت البلاد في مقاومته ربع مليون من الجنيهات.

ومن ثم أخذت وزارة الزراعة في دراسة أحوال الجراد وغاراته دراسة علمية منظمة، فأنشأت فرعا لأبحاثه ومكتبا لمقاومته، وأخذت ترسل حملات الاستكشاف في صحاري مصر وبلاد العرب لتتبع حركاته ومقاومته في مواطنه قبل أن يستفحل أمره وتصعب مقاومته، وعقدت المؤتمرات مع الدول المهددة بغارته للتعاون وتبادل الرأي في مكافحته. وقد سجل الأخصائيون المصريون بوزارة الزراعة صفحة عالمية مجيدة في أبحاث الجراد وطرق مقاومته. وقد وضعت وزارة الزراعة نظاماً دقيقاً لمقاومة الجراد كفل للبلاد الوقاية التامة من شره وأذاه.

الدكتور محمد مأمون عبد السلام

ص: 12

‌وقفة على طلل!

للأستاذ علي الطنطاوي

(في حمى المسجد الأموي، وفي ظلال سوره العالي، بين مثوى البطل الأجل الملك الناصر صلاح الدين والمدرسة الكلاسية الأثرية، وبين المدرستين القديمتين السميساطية والاخنائية، تقوم المدرسة الجقمقية الخالية المائلة - التي بناها سنجر الهلالي - وجددها الملك الناصر سنة 761 هـ ثم احترقت فجددها الأمير سيف الدين جقمق فنسبت أليه).

ما مررت بهذه المدرسة الخربة المعطلة، وذكرت ما أودعتها من عواطف، وما تركت فيها من حياتي، إلا تلفت القلب، وصفى الفؤاد، واعتجلت في النفس خواطر، وانبثقت للعين صور، أقر بالعجز عن صوغها ألفاظاً مقروءة وجملاً، ووضعها في هذه القوالب الجامدة الضيقة وهي أشد انطلاقا من النور وأوسع من الزمان. . . ولا أجد إذا أردت وصفها إلا هذا الحديث المعاد، وهذا القول المكرر المعار الذي لا يفتأ الشعراء من عهد امرئ القيس الذي وقف واستوقف، وبكى واستبكى، يعيدونه ويرددونه، وهو ما يزال ومعناه جديد في كل قلب، سريع إلى كل لسان - فأسائل هذه الجدران المائلة، وأخاطب. . . هذه الغرف الخالية. . . وآه! لو تصف هذه الجدران ما رأت وتنطق الأبواب، وآه! لو تعي المغاني وتحدث المباني! وأنىّ؟! وما وعت قلوب الناس ولا وفت حتى يفي الجماد!

هذه نفسي أسائلها: هل تعرف النفوس الوفاء، وهي تدور مع الدهر الدوار كيفما دار، تلبس لكل حالة لبوسها، وتتخذ لكل يوم ميزانه. فيهون عندها اليوم ما عز بالأمس، ويرخص ما غلا ويغلو ما رخص، نرى الشخص فلا نباليه، وقبلا كان مناط حبنا، وكنا نقنع إن كان وصله حظنا من دنيانا، أو كان موضع إكبارنا وكان رضاه نهاية متمنانا، ونمر بالمكان لا نلتفت إليه وفيه ذقنا حلو العيش ومره، وفيه اثر من أنفسنا، وفيه بقايا من أعمارنا!

لقد عشت دهراً لو قيل لي فيه، إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلا وقفة التذكر والحنين، ثم تمضي لطيتك وتنساها بعد خطوات، لما صدقت! فكيف هانت على هذا الهوان، وقد كانت بالأمس نصف دنياي. وهل دنيا التلميذ إلا داره ومدرسته والطريق بينهما؟ وقد كانت أبداً في فكري وحسي: في الصباح حين أتوجه أليها، وفي النهار حين أكون فيها. وفي المساء حين أعود منها، قد تجمعت فيها أفراحي كلها وأتراحي،

ص: 13

وأصدقائي جميعاً وأعدائي، وكانت بضعة مني. بل كيف أنكرت ذلك الطفل الذي كان في سنة 1918 تلميذاً فيها يحمل اسمي وملامح وجهي؟ كيف جوزت لنفسي أن أطرح آراءه، وأهزأ بأفكاره. وأحقر ما كان يعظمه؟ لقد ذهب المسكين ولا أدري أين ذهب، وجئت من بعده، ولكني لم أنس حوادثه. فهل الذاكرة هي الشيء الفرد الذي يبقى ثابتاً في الإنسان، على حين تبدل العقول والأجسام؟

سلوا الفلاسفة إن كان عندهم علم، فما أنا بحمد الله من أهل الفلسفة!

سلوا الفلاسفة ودعوني أسترجع على باب هذه المدرسة أيامي التي ولت. ولئن عاد أقوام إلى ماضيهم ليستريحوا اليه، ويتسلوا بأذكار أحداثه، فإنما أعود إلى الماضي لاحيا فيه، وأفرّ إليه من حاضر امقته وأجتويه. وأنا رجل كلما تقدمت به السن ازداد إيغالا في عزلته، وهرباً من جماعته، فكأنه يقطع كل يوم خيطاً من هذا الحبل الذي يربط زورقه بآلاف الزوارق الصغيرة التي تمخر عباب الحياة مجتمعة، كما كانت تجتمع السفن إذ تجوز بحر الظلمات، فلا تخوض فيه ماء بل نارا، نارا من تحتها لا تعلم متى تتفجر فتزلزل أرض البحر وتشعل جبال الموج، وأخرى من فوقها تحط عليها السماء رجوما، وتفتح عليها من جهنم أبواباً، وإن عباب الحياة لأشد من ذلك شدة وأعظم هولاً

. . . حتى غدوت وقد رث حبلي وتصرم ألاخيوطا، طائفة من الأصحاب لا يبلغون عد أصابع اليدين، وأماكن هي أقل من ذلك، لا ألقي سواهم ولا أرتاد غيرها. ولم يبق لي في ليالي الطوال مؤنس أو سمير، إلا هذه الكتب التي مللتها وملتني، وصارت مودتنا تكلفاً وحديثاً مملولاً. وهذا الماضي ازداد كل يوم تعلقا به وحنيناً إليه، أما المستقبل فأخافه حقاً ولا أجرؤ على التفكير فيه

لذلك تراني إن لقيت رفيقاً من رفاق الصبا استوقفته وشممته عليّ أجد في ثيابه عبقاً من ازاهير الماضي الحلو الذي سر بنا جميعا يحملنا مرح الطفولة وعبثها اللذ، فجسنا خلال رياضه، واوغلنا في دروبه المعشبة، ومسالكه التي فتح على جانبيها الأقحوان وضحكت الشقائق، أحاول أن أستطلع من وراء هذا الشباب الذي نالت منه الليالي حتى أشرف على الكهولة، وهدته مطالب العيش وأخذت منه رواءه وبهاءه، فبدا كالشجرة المنفردة القائمة على شفير الوادي، عاجلها الخريف الظالم ببرده وعواصفه. . . أحاول أن أرى من ورائه

ص: 14

طلعة (ذلك) الصبي الفرح أبداً، الضاحك اللاهي، الذي كان رفيقي يوماً والذي أحببته وقاسمته مرحه ولهوه، فإذا لم أرها أبت أجر رجل خائب فجع في أعز آماله، وفقد أحب أمانيه إلى قلبه، وإن وقفت على معهد من معاهد الصغر، أو معلب من ملاعب الطفولة، فتشت في زواياه وأركانه، وتحسست الحجارة من جدرانه، عليّ أجد بينها ذكرى حلوة قد خبأتها يوماً ونسيتها.

ولذلك وقفت اليوم على (الجقمقية) ولكني لم أجد فيها ما أريد. لقد عدا سارقان على أحلى ذكرياتي فسرقاه في غلس الليل، كما يسرق النباشون الذهب من قبور الفراعنة، ولم يدعا لي ألا كل تافه حقير، فبماذا أتحف القراء بعد الذي صنعه معي هذان اللصان: الزمان والنسيان؟!

هذه هي المدرسة التي أودعتها عهد الطفولة وذكرياته العذاب، لا تزال قائمة جدرانها، ماثلاً بنيانها؛ وهذه هي الطرقات التي كنت أسلكها غادياً إليها من دارى ورائحاً منها إليها؛ وهذا هو (الأموي) العظيم الذي كنا نعرج عليه كل يوم بكرة وظهراً وعشية، وما بيننا ويبنه إلا أن نخرج من باب المدرسة فيدخل من بابه، نغافل (الحسكي) ونقفز، فيلحقنا بعصاه ونحن نتضاحك ونروغ منه نعدو في صحن الجامع الواسع النظيف، حتى يكل المسكين ويتعب فيدعنا مكتفياً بما تسعده به قريحته من روائع فن الهجاء، فإذا انصرف عنا، وذهب الحافز لنا على اللعب، عقلنا ودخلنا نستمع إلى أصحاب الحلقات فيه. هذا هو (الأموي) لا يزال على عظمته وجلاله، لا يدانيه في سعته وفخامته مسجد في دنيا الإسلام، غير أن صورته في ناظري قد تبدلت وامحت روعتها وبطل سحرها. وماذا تصنع الجدران والسقوف إذا ذهبت الوجوه، ومضى الساكنون، وتغيرت الروح؟ لقد أضحى الأموي غير الأموي، فلا دروسه تلك الدروس، ولا علماؤه أولئك العلماء. ولا جوه ذلك الجو. إن المدن كالأشخاص تخلق كل يوم خلقاً جديداً. وقد ماتت دمشق التي نشأنا فيها، دمشق الإسلامية المرحة الفاضلة التي لم يكن فيها ماخور مشهور ولا ميسر ظاهر ولا عورات باديات، ولا حانات ولا ملهيات، وكانت فيها المرأة لبيتها، والرجل لأهله، والعلماء عاملون بعلمهم، مطاعون في أمتهم، والحي كالبيت الواحد في تعاون أهله وتعاطفهم، والمساجد عامرة والرجولة بادية، وأهل الدين لا يأكلون به الدنيا، ولا يتخذونه تجارة. فيا أسفي على دمشق التي

ص: 15

ماتت! ويا رحمة الله على تلك الأيام: أيام لم نكن نعرف من الدنيا إلا المتع الفاضلة، والفضائل الممتعة، نلهو ونلعب ولا كَلهو فتية اليوم ولا كلعبهم. كان أقصى ما نأتيه أن نركض في الأموي، أو ننقسم عند المساء قسمين، فنقيم بيننا سوق حرب سلاحها المقالع والعصى، وقد نجرح أو نكسر، ولكننا نتعلم الرجولة والقوة ثم نرجع متفقين، وأن نتلهى عن الدرس بقراءة قصة عنتر وحمزة البهلوان، نتلقى منهما ما ينقصنا من علم الكر والفر والمبارزة والقتال، وأن نمكر بالمدرسين، وإن أممنا لهواً وأردناه، فشهود خيال الظل (كراكوز) وهو سينما تلك الأيام، ولا يراه منا إلا مقدوح في خلقه. أما التأنق والتجمل والترقق فلم نكن ندري منه شيئاً. وكان من العيب في أيامنا لبس البذلات لما تصور من أعضاء الجسم، فكنا نجيء إلى المدرسة بالقنابيز (الجلابيب)، وكنا نتعجل الشباب فنتخذ دواء (كان معروف) يطول به الشارب وينمو به قبل الأوان.

فأين أيامنا في هذه المدرسة، وهل تعود هذه الأيام؟ أين ذلك الشيخ الحبيب إلى كل نفس، الجليل في كل عين، شيخ الشام ومعلمها ستين عاماً؛ ستين عاما وهو دائب على عمله العظيم يأخذ من هذه الأمة أطفالا صغارا، فيردهم إليه شباباً متعلمين، يصب من عقله الذي يزيد على البذل في أدمغتهم، ومن إيمان في صدورهم، فتعلم من الولد وأبوه وجده. أي والله وهذه سجلات مدرسة فسلوها تنبئكم، بذلك هو الإمام الشيخ عيد السفرجلاني.

هذه هي المدرسة! هذا البنيان فأين السكان؟ أين رفاقي فيها؟ أين من كان يجمعهم مقعد واحد، وكانوا سواء في كل شيء لا يميز أحد منهم على أحد إلا بمقدار ما ينجح في درس، أو ينال ثناء من أستاذ. وكان فلان الفقير عريف الصف والمقدم في التلاميذ. وكان الشيخ يتخذ منه مثلا مضروبا لأبناء الأغنياء، ويبشره بالمجد والمال والرتب، وبأنه سيمشي على الورد المفروش حين يمشي أولئك على الشوك.

رحمك الله يا شيخنا فلقد أصبت في كل ما كنت تقول إلا في هذا. تعال انظر تر الدهر قد ضرب بيننا، ففرق الإخوان، وشتت الخلان، فتفرقوا في أفاق الأرض، وأنتثروا على سلم الحياة علاء وخفضاً، وسار الأكثرون على الأشواك فدميت أقدامهم الحافية، ومشى قوم على الورق والفل والياسمين، وحازوا المال والمجد والرتب، ولن اسمي لك أحداً كيلا أفجعك بآرائك وفضائلك!

ص: 16

لا. لا أحب أن أعود إلى هذا الحاضر فدعوني استمتع بأذكار ماضي كما يستمتع المنقطع في البادية بما بقي في سفرته من زاد المدينة التي خرج منها وأضاع طريق العودة إليها. إني أبصر كل ما حولي قد تغير فأنكره وأحس كأني صرت غريبا في وطني، ولقد كنت أنا وأخي أنور العطار لا نزال نحن إلى الوطن ونراه في صفحة البدر عند المطار، وفي صفحة دجلة على الجسر. فتسيل قلوبنا رقة وشوقا، ونحن في بغداد بلدنا وبلد اخوة لنا أعزة كرام. وطريق الشام مفتوح، فكيف بمن صار يحس أن وطنه قد طواه الزمان، واختبأ وراء السنين ولم يبق إليه من سبيل؟

فيا أيتها المدرسة - خبرينا لماذا لا نستطيع أن نعود أدراجنا في طريق الزمان - كما نملك أن نرجع في طرق الأرض؟ لماذا لا نقدر أن نقف في الفترة السعيدة من أعمارنا، كما يقف المسافر في البقعة الجميلة إذا جاز بها؟

إذن لعدت أدراجي فلصرت العمر كله تلميذاً فيك، أستمتع بجوار ذلك الشيخ النوراني، وأعيش في جو أنيس من نصائحه ومواعظه وقصصه، وأبقى أبداً ذلك الطفل الذي لا يدري ما الشر، هذا ما تمنيت أن أكونه وهيهات أن تتحقق الأماني الكواذب!

أني كلما رأيت هذه المدرسة خالية خاوية خربة لا يحفل بها أحد، ولا يذكر شيخها إنسان، أيقنت أن الجحود سجية في هؤلاء الناس. أتنسى دمشق شيخها ومعلمها الذي أحسن إليها؟ إن هذا الشيخ إن لم يكن عالما مؤلفا، ولا سياسيا حاكما، ولا فيلسوفا مفكرا، فلقد بنى في نهضة دمشق ركنا لم يبن أضخم منه عالم ولا حاكم ولا فيلسوف. لقد كان معلم أولاد ولكن أولاده صاروا قادة هذا البلد. لقد أنشأ مدرسة منظمة يوم لم يكن في دمشق إلا الكتاتيب. لقد كان مربيا بالفطرة لم يقرأ بستالوسي، ولا تعلم أصول التدريس ولكنه كان أحسن مرب رأيته. . .

. . . فيا أيها القراء لا تقولوا، ومن الشيخ عيد السفرجلاني، وماله يملأ صفحات الرسالة بأخبار نكرة في الرجال. . . فكم في ظلام النسيان من عظماء حقا، وكم في ضياء الشهرة من أصنام قائمة نظنها ناسا، وهي مبنية من جامد الصخر، أو بارد النحاس!

دمشق (المحكمة الشرعية)

علي الطنطاوي

ص: 17

‌رحلة أسوان

للسيدة وداد سكاكيني

جئت مصر من الشام في يوم وبعض يوم، تخب بنا مراكب الحديد، وأين منها مطايا البيد! حتى بلغنا القاهرة فطالعتنا مواكب النخيل على لمحات النيل، وقد غمرت الآفاق شمس حمراء مازالت منثورة الغرر، وهاجة الضياء، حتى ألقى بنا القطار على محطة باب الحديد.

دخلت مصر يتنازعني الوجوم للغربة، والشوق لبلدة طالما هفا الخيال إليها، واستقرت بها نواي وقرت بها عيني، فتغمرت من النيل، واستذريت بظل المقطم كما قال الشاعر، وقد طوفت بحدائق مصر ومغانيها، وما فاتتني مفاتن الجزيرة ومباهج الطبيعة فيها، ثم وددت أن أملأ العين من ريفها، وأستمتع بنيلها الذي يفيض على جنباتها، فمضيت في رحلة فنية إلى أسوان، أنشأها المعهد العالي لمعلمات الفنون، وهو بنية مجد للمرأة العربية، وجامعة ثقافة للمصريات، أضفت عليه عميدته الفضلى السيدة عائشة إقبال راشد من اسمها ونفسها رشداً وإقبالا.

غادرنا القاهرة مع بضع عشرة فتاة من قسم الفنون الجميلة بالمعهد، تحدوهن صديقتاي الأستاذتان إنعام سعيد وعزيزة يوسف، وهما في طليعة من أنجبت مصر من بناتها اللاتي ضممن في الجوانح حب الوطن إلى ثقافة الغرب الذي نزلن معاهده سنين للقانة الفن ونباهة الفكر، ثم عدن إلى الكنانة يطبعن الفتيات المتعلمات بمياسم التجديد، ويكشفن عن مواهبهن بالتوجيه والتسديد.

فهذه محطة باب الحديد تلقاني مرة ثانية، تحت عشية غير مبتئسة ولا واجمة، منيرة بمصابيح تكسف الشمس بسطوعها، فأين نفسي الفرحة في هذه الأمسية من قلبي المحزون حين بلغت مصر منذ عام الوحدة مهيمنة علينا؟

الآن أدرك عظمة المكان، واحسبني لولا العمائم البيض تلوح بها الهامات، والجلابيب الضافية تخفق فيها القامات، لكأني أبرح عاصمة في ديار الغرب، فقطار يؤج ويعج، وناس يغلي بهم الزمن يخفون إلى الركوب أو ينزلون من التوديع.

ودق ناقوس الرحيل فوجف القطار ثم سار تحت جنح الليل، وباتت مصر خفية في طي

ص: 19

الدجى عنا، وتغورت المصابيح كلما ابتعدنا، حتى عطفت بنا الدروب وهدهدنا في مجاثمنا دوي القطار وهدير آلاته، وكاد النعاس يأخذ بمعاقد جفوننا لولا أنس الرفيقات. ولولا مرح الطالبات واستفاضة النكتة على أطراف ألسنتهن، لغططنا في سبات عميق كما يغط الطفل حين يترجح به السرير.

وكنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنطل من المنافذ، والركب يسري كسهم نزعه العلم عن قوس الحضارة، فنمسك رؤوسنا عن صفقة الريح، ونحبس شعرنا عن التشعيث، وهاج فينا الحنين لمرأى النيل حين سكب القمر عليه شعاعه، فانسحب كسيف من فضة مسلول على أرض مصر ليدفع عنها عاديات المحن.

وأسفر الصبح على رؤوس النخيل يلتمع الندى على أوراقه الخضر، وتستدير سعفه فتبدو من بعيد كالقباب الصغيرة، ومن قريب كالمراوح المنشورة أو المظلات المرفوعة، وصاغت لنا ذكاء وجه النيل بالذهب فتألقت تلاميعه وتلوت على حواشيه، ولاح كمرآة مجلوة تتمرى بها الطبيعة على نشيد طيبة الذي كان رقراق الماء يردده لحناً مكروراً منذ الأزل باقياً على الأبد.

وأخذ يشارفنا الريف بصوره المتشابه وألوانه الكابية، وقد انطبعت بيوته بطوابع الروح المصري القديم، فلاحوه سمر الوجوه عراض المناكب، سكبوا على الأرض عرق الجبين، وعركوها بكدح الأيدي، وطفحت شفاههم بالمباسم لصباح وضاح لا يسأم القروي الفرحة بلقائه، ولو لقي هذا الفلاح من سيده بسمة الشاكر ورحمة المالك وكان أبي الخنوع، مطبوع الميل للنظافة متقبلًا للإصلاح، لعد أعز أمثاله في الدنيا، لأن ضفاف مصر الخيرة أجود أرض للزرع والإنبات

أما نساء الريف فوديعات الوجوه منتصبات القامات، يستقبلن وجه النهار غاديات بالجرار على رؤوسهن ثم رائحات من مسارب النيل، وهن يشاركن الرجل في خدمة الأرض والأنعام، وكلما وقف بنا القطار على ديار ذكرني بأرض بلادي، فمن مشارف الشام إلى مرابع بيروت يقف أولاد القرى تلقاء القطار في المحطات، بأيديهم سلال أو قصاع ممتلئة بالفواكه، ينادون على بيعها، وصنوف الباعة طوافون بخبز وأدام على سفر بغير زاد، ولم أجد مثل هذا في مسيري على درب أسوان. وجزنا أرضاً في جوارها الأقصر الحافلة

ص: 20

بالآثار، فأمعنت التحديق في تلك الجنبات التي عاشت في تضاعيفها وجوفها خيالات الأقدمين وأطيافهم، وبقيت روعة الأطلال والآثار تدل عليهم، وقد برزت من بعيد تلك العمد الفرعونية ولاحت من بين أعمدة النخيل فقلت: يا لله كأني الساعة أمضي بقطار حلب فأمر ببعلبك، وأرى عمد هيكلها الروماني تتراءى من بعيد من بين أشجار الجوز والمشمش، ورحت أذكر أرضاً على وجه الشرق تعاورت عليها الأمم من رومان وإغريق وفراعنة وفينيق، حتى بسط عليها الإسلام جناح الأمن والرحمة ووهبت لها العروبة لغة القرآن، فكان عليها خير أمة أخرجت للناس، وما نقلني من تهاويل هذا الخيال سوى بشرى الرفيقات باقتراب الوصول إلى أسوان.

وأسوان بلدة دون سعة صيداء - لبنان، تساير ضفاف النيل في مبانيها وحدائقها، وإنها لشعرية الطبيعة، هادئة المقامة، هفهافة النسيم.

على رؤوس رجالها عمائم بيض لاثوها كأنهم الهنود، ونساؤها ملتفات بالسواد ضاربات على وجوههن بخمر مصرية، سجنت الخدين وأطلقت العينين.

هنالك دعينا إلى متنزهات على النيل، فبدا ثمة نهر مصر كما يسميه أهلوها بحراً رحيب الصفحة مترامي الساحة، وحملنا ذات صباح مركب بشراع مال بنا مترنحاً على خطرات الريح، فذكرت تحت شراعه وصف شوقي (النيل نجاشي والفلك حمامة بيضاء بجناح واحد) وسألت نفسي كيف يزهد شعراء مصر وهم غنية الأدب يوصف هذه المباهج والمغاني كما زهد شعراؤنا بالشام في وصف طبيعتها ومفاتنها، وما مصر سوى النيل الذي وهب لها البركة والحياة وكتب لها المجد والخلود، فلو أحصى ما قال الفرنسيون عن نهر السين وحده لجاء أكثر من ديوان، وما نظم القدامى والمحدثون من أمم الحضارة والثقافة في وصف بلادهم تضيق به الأسفار الضخام.

ذلك دأبنا نحن الشرقيين، فننا في جيوبنا دفين، وشعورنا في جمال أرضنا وسمائنا مكبوت أو كمين. ذكرت هذا في السفينة الشراعية التي نقلتنا إلى جزيرة الملك بأسوان، التي اشتملت على حديقة واسعة فينانة، ذات أدواح باسقة عتيقة، وأشجار لفاء مثمرة حديثة الزرع أفريقية المنشأ، وقد التفت غصونها وتكاثفت أوراقها، وحشدت في الحديقة أفواف الزهر ونسقت مغارسها يد صناع، وفي هذه الجزيرة الغناء تناثرت طالبات الفنون على

ص: 21

حفافي النيل وفوق مجاثم الصخور بأيديهن الألواح والتلاوين، وطفقن يستوحين الطبيعة المصرية الجالبة ويتنافسن في رسم صورها الرائعة مرضاة لمواهبهن المتفتحة واكتساباً لتشجيع رئيستهن الفنية النابغة السيدة زينب عبده.

ولاحت لنا من على عدوة أسوان قبة الهواء تتناوح فيها الريح فوق جبل أسندت فيه رشيقات الأجسام ممن احتملن نقل الأقدام على الرمال حتى أشرفن على النيل وطوفن بمقابر الأمراء ثم صعدن في الروابي والشرفات.

وزين لنا الإلمام بالقبائل التي اعتزلت في ضاحية من أسوان كأنها الصحراء، فرأينا فيها رقص بناتها وترنح شيخاتها، وإنها لزمر تسكن المدر وتعيش على الفطرة نائية عن الحضارة، وفي ضاحية ثانية تقام كل خميس سوق عامة كسوق الجمعة في صالحية دمشق، يبسط فيها للبيع كل أوعية ومتاع، ويتنافس الباعة من نسوة ورجال في عرض بضاعتهم المزجاة، ويزدحم المساومون حولها.

ثم كان يومنا الأخير في أعز ما عند أسوان وهو الخزان، فركبنا سفينة تجري بالبخار، حملتنا في مؤنس الضحى على متن النيل إلى مجثم الخزان، فإذا هو متحبس ماء جبار رابض في قاع من جلمد الصخر، شيدته معجزة العلم الحديث بين ضفتين شاسعتين ومرتفعات راسخة، حصرت الماء الذي رأيناه منبثقاً من خلال الخزان، وكأنه أسنان مشط يرجل ضفائر عروس النيل، فكان الزبد يعلو ثم يهوي فيتفجر دقيق الرؤوس ضخم الأجسام ثم تتناثر منه الأقدام برذاذ كأنه ضباب أو دخان.

وتولع بنا صبية عوامون في النيل حول الخزان، وما راعنا إلا صغير منهم أسود الأديم قفز من ارتفاع عشرين متراً فهوى إلى الماء جنبنا وكأنه بأشق حالك، ولما غاص في الماء ثم عام أخذ يتقلب وكأنه سمكة سوداء.

وكذلك عدنا من أسوان، بمسيرة يوم، معنا لذكراها أوعية من القش موشاة بالألوان ومراوح منسوجة ذوات طرر، وقلائد من العاج سآخذها معي إلى الشام لأذكر بها أسوان كما ذكرتها من قبل إذ قرأت كتب العقاد،

(القاهرة)

وداد سكاكيني

ص: 22

‌بعد الرصافي.

. .

للأستاذ عبد الوهاب الأمين

الآن ختم جيل الشعر في العراق، وانطوت صفحة أخيرة من كتابه، بعد أن فاضت روح معروف الرصافي، فقد توفي صباح يوم الجمعة الماضي، المصادف 16 آذار سنة 1945 في الأعظمية ببغداد.

وبموت الرصافي تبدأ صفحة جديدة في عالم الشعر العراقي، وتنتهي سلسلة الشعراء الكبار الذين امتدت حياتهم بين القرنين التاسع عشر والعشرين، والذين كان أخرهم في العراق - قبل الرصافي - جميل صدقي الزهاوي.

وحياة الرصافي تختلف عن حياة كل من عاصره من الشعراء من عدة وجوه. وليس المجال متسعاً للإفاضة في تاريخ حياته، لأن ذلك لا يتسع له مجال محدود، بل الأجدر أن تقوم فئة بتدوين حياته تدويناً علمياً، ولكن نقطة الاختلاف التي أشرت إليها تنحصر في عقدة نفسية كانت بارزة فيه. هي شدة حبه المطلق للحرية بجميع معانيها، حتى لقد كان هذا الحب الجارف أشبه بالقيد الذي قيد حياته، وأثر في نفسه تأثيراً عظيماً. فهو من قبيل القيد النفسي الذي تقيد به العبيد والمتصوفون. ومن مظاهر هذا القيد الخفي في نظري، حياته الأخيرة البائسة قبيل وفاته، حيث انزوى وانقطع عن العالم، وأصبح يعيش مهملاً.

ومن المآسي النفسية أنه كان في وضعه ذاك يأنف أن يشار إلى حالته بغير ما لا يأتلف وكرامته الجريحة. فقد أذاع بياناً على الناس قبيل وفاته رفض فيه النغمة التي كانت ترددها بعض الصحف عن بؤس حالته وقال إنه يتبع فلسفة أبي العتاهية الذي يقول:

حسبك مما تبتغيه القوت

ما أكثر القوت لمن يموت

وهذه حركة تدل على أنفته وكبريائه الجريحين اللتين خفف من حدتهما السن والمرض.

ولقد أدى الإهمال وسوء الحال بصحة الرصافي إلى التردي يوماً بعد يوم مع أنه يملك جسماً يكاد يكون عملاقاً. ومن مميزاته الشكلية وضوح النظرة، وجهارة الصوت، وقوة العارضة.

عرف الناس الرصافي الشاعر الذي لا حدود لصراحته ولا رقيب على لسانه غير ما يعتقد، منذ زمن بعيد، كما عرف بكرمه الزائد وعدم انصياعه للضرورة مهما كان شكلها.

ص: 24

وهاتان الحالتان تكفيان لأشقاء فرد في العراق لا مال له ولا سلطان، ولا يعتمد اعتماد القرابة أو النسب على ذوي المال والسلطان. ولذلك كانت حياته سلسلة من تشرد ضيق الحدود، فيه فوق صفة التشرد التزام الحشمة التي ينبغي على رجل كالرصافي أن يؤدي جزيتها.

فمن غريب المفارقات أن الرصافي كان يستخدم اسمه وشهرته وحب الناس له في قضاء حوائج غيره ممن لا يرتدعون عن اللجوء إليه في طلب الشفاعات، ولعله كان أجدرهم بطلب الشفاعة لو أنه كان يأبه للضروريات، ولو أن نفسه تقيل التوسيط والرجاء.

ولقد نبذ الزي المدني منذ زمن والتزم زي البدو من العشائر، وسكن قبل مدة في الفلوجة إحدى القرى القريبة من بغداد، وعاش عيشة المتزهدين المتصوفين، ثم انتقل إلى الأعظمية قرب بغداد حيث ختمت بها أيامه.

وهذا التغير هو الآخر يدل على حبه للحرية، فإنه لم يرض أن يتقيد بالزي (الأفندي) وقبل أن يلتزم قيد اللباس العربي البدوي. ولعله لم يشعر بالنقلة شعور الذي يتفرج عليها، بل لعله لم يشعر بها مطلقاً.

لا أظن قلباً إنسانياً ينبض بحب الإنسانية لا تحركه هذه الكلمات البسيطة من وصية الرصافي التي كتبها قبل أن يموت

(لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها، وكل ما عدا ذلك من الأثاث الحقير الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. كل من اعتدى علي في حياتي فهو في حل مني. وإن كان هناك من اعتديت أنا عليه فهو بالخيار، إن شاء عفا عني، وإلا قضى بيني وبينه الله الذي هو أحكم الحاكمين).

في هذه الكلمات أتخيل الرصافي كالأسد الجريح. الأسد الذي هدت من حياته تصورات الموت وسخف الحياة الماضية. إن هذه النغمة ليست نغمة المستكين الضعيف، ولكنها نغمة القوي الذي وضح لعينه سخف القوة والأقوياء.

لقد كانت في حياة الرصافي عدة دروس جديرة بالاعتبار. ومما لا شك فيه أن ستقوم هنا وهناك حفلات التأبين، وسنسمع أصوات أولئك الذين يمجدونه ويلهجون بحمده وحمد شعره وآثاره. ولكن لن يكون لكل هذا من جواب من الرصافي نفسه، لو أنه يطلع عليهم من

ص: 25

وراء الحجب، غير ضحكة الاستهزاء والسخرية. فما كان أكثر تعريضه بهذه الأساليب التكريمية وقلة جدواها

هل سنتعظ من درس الرصافي هذا؟

أشك في ذلك.

(بغداد)

عبد الوهاب الأمين

ص: 26

‌الأفغاني والوحدة الإسلامية

للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

- 2 -

بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، اشتد إمعان تركيا في الضغط على الشرق والاستبداد بأبناء العروبة حتى فيما يمس دينهم وينال اختصاصهم، ومن ناحية أخرى أخذ طمع الاستعمار الأوربي يفتح فاه على الشرق يريد التهامه ويطمع في ابتلاعه، وقد ابتدأ يتخطف أجزاءه، ويتحيف جوانبه. مرة بالحيلة، وأخرى بالوقيعة، وثالثة بالسطوة والقوة، وكان من هذه (الرزايا التي حلت بأهم مواقع الشرق أن جددت الروابط، وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء، وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى معالجة علل الضعف، مؤملين أن يسترجعوا ما فقدوا من القوة، راجين أن تمهد لهم الحوادث سبيلا حسناً يسلكونه لوقاية الدين والشرف،. . وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجه، ويوحدون كلمة الحق في كل صقع، لا ينون في السعي، ولا يقصرون في الجهد)، وكان رأس هؤلاء المصلحين الداعين السيد جمال الدين الأفغاني رضوان الله عليه.

هال الأفغاني أن يرى الشرق بين أنياب الاستعمار الأوربي تنوشه من كل جانب وتدميه في الصميم من قلبه ووجدانه، ومع هذا فهو يغط في سبات عميق، وأهله في فرقة كلها التخاذل والتنافر، والدولة التي تحمل لواء الخلافة ليست لها صلات صحيحة - كما يقول - بأمم الشرق وأقطار العربية، وقد كان الرجل يعجب أشد العجب إذ (يرى للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم ويقينهم، يباهون بها من عداهم، حتى ليشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء) ومع هذا يراهم (في شقاق مقيم، وتنافر أليم، وغفلة عما ينتظرهم، ويلم ببعضهم).

أقول هال السيد الأفغاني ما رأى وما كان يتوقع من مقدمات الحوادث، وأفزعه ذلك الشتات في الجامعة الإسلامية، وتحقق له أن الفرقة علة الشرق المتوطنة، وداؤه المتمكن، فنهض يصيح (بأرباب الغيرة من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحجة والحق ألا يتوانوا فيما

ص: 27

يوحد جمعهم، ويجمع شتيتهم، وأن يتعاونوا على صون الوحدة عن كل ما يثلمها، فيكونوا بهذا العمل الجليل قد أدوا فريضة، وطلبوا سعادة، والرمق باق، والآمال مقبلة)، ولقد كان ذلك المصلح العظيم يرى أن قيام هذه الوحدة للمسلمين (مما تقضي به الضرورة، وتحكم به العادة، حتى يقيموا بذلك سداً يحول عنهم تدفق السيول المتدفقة عليهم من جميع الجوانب، ومن ثم ظل طول حياته ينهض بهذه الدعوة وينادي بضرورتها في كل مناسبة سانحة، وفي كل مكان تنزل به قدمه، ثم أراد أن ينظم سبيل الدعوة، وأن يقوي من صوتها وأغراضها، فأنشأ جمعية (أم القرى) وهو في مكة لتدعو إلى الجامعة الإسلامية تحت لواء خليفة واحد يسيطر على العالم الإسلامي أجمع، ثم ألف جماعة (العروة الوثقى) وهو في باريس من مسلمي الهند ومصر وشمال أفريقيا وسوريا، وأصدر بالاشتراك مع الشيخ محمد عبده مجلة (العروة الوثقى) لساناً لحالها وتعبيراً عن أغراضها، وكان هدفها وحدة المسلمين وإيقاظهم من سباتهم، وتنبيهم إلى المخاطر التي كانت تهددهم، وإرشادهم إلى سبل مواجهتها والتغلب عليها.

كانت دعوة جمال الدين تتلخص في أن الوحدة بين المسلمين ضرورة تقضي بها الطبيعة والعادة، ويؤيدها العقل والنقل، وتقرها شواهد التاريخ للجماعات البشرية، وعوامل الاجتماع والألفة بين الأمم والشعوب، وكان يضرب لذلك الأمثال والسوابق في تاريخ الوحدة الإسلامية في الصدر الأول. والوحدة الجرمانية في العصر الحديث، أما المبررات والدعائم التي تقوم عليها هذه الوحدة، فقد أشار إليها إشارة عابرة في إحدى مقالاته إذ يقول:(إن من أدرنه إلى بيشاور دولاً إسلامية متصلة الأراضي متحدة العقيدة لا ينقص عددهم عن خمسين مليوناً، وهم ممتازون بين أجيال الناس بالشجاعة والبسالة، فلو اتفقوا فليس ذلك ببدع بينهم. .)، ومعنى هذا أنه يرى أن الدعائم لتحقيق الوحدة ترجع، أولاً: إلى اتصال الأراضي وتجانس الوضع الجغرافي بين الأقطار الإسلامية، وثانياً: إلى اتحاد العقيدة التي تربط القلوب وتؤلف النفوس وتوحد بين الإحساس والاتجاه، وثالثاً: كثرة العدد، وهذا مما يجعل الوحدة قوة يحسب حسابها ويخشى بأسها، ورابعاً: ما يتجلى فيهم من صفات الشجاعة الموروثة ومآثر الرجولة الكامنة، وهذا ما يقوي الأمل في قدرة الوحدة على مواجهة الخطوب والتغلب على الصعاب التي تحيط بها، وحطم الأنياب المسنونة لا

ص: 28

نتهاشها.

ثم يشرح الأفغاني غاية ما يرجو في قيام الوحدة، ومدى ما يطمع فيه من الوضع الذي تتحقق به فيقول:(لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصاً واحداً، فإن هذا ربما كان عسيراً، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى جهده لحفظ الآخر ما استطاع، ويعتقد أن حياته بحياته، وأن بقاءه ببقائه، على أن تكون أول صيحة تبعث على الوحدة وتوقظ من الرقدة، صادرة من أعلاهم مرتبة، وأقواهم شوكة. .)، وهنا يبدو الرجل في الواقع حكيماً فطناً، وسياسياً عالماً ببواطن النفوس، فلم يركب الشطط في الطلب، ولم يسرف على نفسه وعلى الناس في الخيال، فيرجو وحدة يكون مالك الأمر فيها شخصاً واحداً، لأنه كان يعرف أن الأنانية المتسلطة على نفوس أهل السلطان لا تؤهلهم إلى إنكار ذاتهم ونسيان أنفسهم، ولا تسمح لهم بفناء أشخاصهم في شخص واحد من أجل مصلحة المسلمين ووحدتهم العامة، ولهذا وقف في رجائه عندما يسمح به الواقع، وتحود به الطبائع، ويكفي في تحقيق الغرض، ولعل الأفغاني لم يقتصد في وجه من وجوه الدعوة كما اقتصد في هذا الموضع الدقيق الذي كان يتعاظمه الناظرون في مسألة الوحدة، ويرونه عقدة المشكلة وعقبة الطريق، فتغلب عليها الرجل بالتغاضي عن مظاهر السلطان الشكلية، وإن كان أحكم الرباط المعنوي في القصد والغاية، والشعور والاتجاه، حتى يكون الجميع يداً واحداً، ووجهة متفقة، وقوة دفاعية لصد التيار الجارف، وهذا غاية ما تطلع إليه الآخذون بخطة الأفغاني من بعده، وهو الوضع الذي قام عليه (بروتوكول) الجامعة العربية وميثاقها في هذه الأيام.

وتحدث الأفغاني عن الأداة التي تهيئ للوحدة، وتجمع حولها العواطف والميول، وتغرسها عقيدة في النفوس وفي القلوب، وحاول أن يجد هذه الأداة في الصحافة التي كانت قائمة في أيامه، ولكنه لم يكن على ثقة بها، يراها قليلة الغناء والفائدة، وضرب المثل بما كان من سوء تأثيرها ودعوتها إلى التفرق والانقسام وتبديد بقايا الالتئام، وجعلها النوافذ والخصاص في بنيان الأمة أبواباً ليدخل منها الأجنبي، وكان هذا رأيه في ناشئة المدارس المدينة في مصر وتركيا لأنهم أضعفوا الأمة بدلاً من أن تنال بهم القوة والمنعة، وكل بضاعتهم التفيهق بألفاظ الحرية والوطنية والمدنية، وهم لا يدركون مغزاها ومرماها، ولا يقدرون

ص: 29

تكاليفها، وغاية ما لهم هو الإسراف في تقليد الأجانب والانسلاخ من قوميتهم، فكان أن تجاوز الرجل الأمل في هذين العاملين، وانتهى في اختيار الأداة إلى العلماء العاملين، وجعلهم مناط التكليف للقيام بهذه المهمة وطلب منهم أن يكون لهم اليد الطولى في هذا العمل الشريف، وقد وضع لهم في ذلك برنامجاً منظماً محكماً إذ يقول:(ومن الواجب من العلماء قياماً بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان الشارع، أن ينهضوا إلى إحياء الرابطة الدينية، ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطاً لروح حياة الوحدة، ويصير كل واحد منها حلقة في سلسلة واحدة، إذا أهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شؤون وحدتهم، ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعون أطراف الوشائج إلى معقل واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها في معهد بيت الله الحرام حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من شأنها، ويكون ذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الإفهام وصيانة الدين من البدع. .)

هذه هي الأداة التي وقع عليها اختيار الأفغاني، وهذا هو البرنامج الذي وضعه لدعاة الوحدة وألسنتها، والظاهر أن الرجل في هذا الاختيار وهذا الإيثار قد تمثل أمامه ما كان لهذه الأداة من القوة والسلطة في الصدر الأول، وما كان للعلماء والأمة والوعاظ يومذاك من صلة محكمة بشئون الدين والدنيا، وأمور السياسة والملك، وأحوال الناس والعباد، ثم ما كان في نفوسهم وفي قلوبهم من إباء في الحق، وغيرة على الصدق، وعزة ترتفع بهم عن منازل الخضوع والخنوع، ولكن أين هم أولئك الوعاظ والخطباء والأئمة حتى يعلق بهم السيد الأفغاني كل الأمل في رأب الصدع، وجمع الشمل، وبناء المجد. لقد وقع الرجل بحسن ظنه بعيداً عن الحقيقة، واهماً في الأمل، ولو أنه تكشف بواطن الأمور في هذه المسألة لتبين أنه اختار للأمر أداة بطل عملها، وتفككت أوصالها، وفقدت قوتها، حتى أصبحت في نفسها وفي وضعها جزءاً من العلة، وأصلاً من أصول الداء، وعجيب أن يكون هذا أمل

ص: 30

الأفغاني في العلماء والوعاظ والأئمة، وهو الذي اصطلى نارهم، وحرق بسعيرهم، وقضى حياته يشكو المناهضة منهم، والمضايقة من جمودهم وجحودهم للدين والحق تملقاً لأهل السلطان والسياسة، وهكذا عاش تلميذه الأستاذ الإمام من بعده. ولو أن العمر امتد بالأفغاني إلى تلك الأيام، ورأى ما كان من تطور الحوادث والأحداث، وعلم الزعماء والرجال الذين جاهدوا لمجد الشرق العربي، ومدافعة الاستعمار الأجنبي، وليس فيهم رأس من أولئك العلماء والأئمة والخطباء، إذن لتنكر لرأيه، ولبارك رجالاً أساء الظن بهم، فكان القادة منهم، والطلائع من بين صفوفهم.

وأخيراً ينتهي الأفغاني في الرأي إلى أن يكون لهذه الوحدة الدينية قبلة، هي قبلة الدين، ووجهة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فاختار مكة المكرمة لأنها كما يقول:(مبعث الدين، ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج العام في كل عام، يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقفها الطاهرة الجليل والحقير، والغني والفقير، فكانت أفضل مدينة تتوارد إليها الأقطار، ثم تنبث إلى سائر الجهات. . . وما هي إلا كلمة تقال بينهم من ذي مكانة في نفوسهم حتى تهتز لها أرجاء الأرض، وتضطرب لها سواكن القلوب. .)، ومن ثم كان السيد الأفغاني يطمع في أن يكون موسم الحج مؤتمراً عاماً يتلاقى فيه المسلمون بآمالهم، ويتعهدون فيه شؤونهم ومصالحهم، ويؤكدون به غاياتهم وروابطهم، وإنها لفكرة قويمة جليلة لو استطاع القائمون بأمر الإسلام والقوامون على المسلمين الانتفاع بها، لكانت للأمم الإسلامية قوة روحية لا تنفد، وعدة تعينهم على مواجهة الشدائد والصعاب، وذخراً يملأ نفوسهم بالسمو والطموح إلى آفاق المجد والارتباط المتين لاستقبال الغد.

للكلام صلة

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 31

‌فلاسفة المجتمع

الصراصير. . .!

للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي

قال لي صاحبي ليعلم ما بي. . . مالك كأن أمراً ذا بال استقل بك عن دنيا الناس. قلت: صدقت فراستك يا صاحبي على ندرة ما تصدق؛ فقد انفرجت الهوة بيني وبين دنيا الناس، وأصبحت مشغولاً بتوافه المخلوقات في دنيا الصراصير. . . وهذه الطائفة من هوام الأرض هيئة ضئيلة الخطر؛ لأنها تألف بإملاء طبعها عليها، ودفع تكوينها لها، (الجدار) المتداعي من (بيتك) الذي يريد أن ينقض وتريد أنت أن تقيمه، فلا تريد له هذه الصراصير بقاء أو سلامة، هي جادة في عبثها وأنت جاد في حذرك منها والهزيمة على البائس منكما. . .

ومن فلسفة الحياة أحيانا، أن تقذف بالسوس في لفائف العود الباكر فإما أن يتقصف أو يستطيل على الريح!!

ومن فلسفتها كذلك أن تحترم عزمة الكاسر الضاري وتشد وثاقه وتطلق عليه (الفيران) تلتطم بجبهته وتتساقط حواليها ولن تظفر بعد ذلك منه بغير تثاؤب طويل.

أعود بك يا صاحبي لقصة الصراصير. . . فهي في فلسفتها ليست بأقل شأنا من فلسفة السوس مع العود الباكر، أو جماعة الفيران مع الضاري الكاسر، وما أخالك تستريح للاسترسال في اكتناه أسرار هذا الفريق الآخر من فلاسفة المجتمع.

أعود فأقول لك: إنك إن يئست من اتقاء شر هذه الحشرات فأنت مقدم بذلك كافة جدران بيتك هدية لفتكها وعملها الخبيث.

هي مولعة أن تأكل اللبنات الطيبة، فان لم تجد جداراً تقوى عليه، انقلبت يعدو بعضها على بعض، فتتآكل وتفنى، والموقف منها ذو حيلتين: إما إن تقيم معها على الضيم الرخيص وفي ذلك اعتراف بها، وتقويم لوجودها. . . ثم فيه أخيراً تشجيع لها لتمضي على سنتها التي درجت عليها، من الاختلاف إلى كل جدار؛ تتكاثر في قاعدته، ثم تنسرب جماعاتها في تجاليدها المظلمة، تكد وتجهد، حتى يتطامن الجدار ويصبح كله قاعدة. فإذا البيت لا يصلح إلا لهذه الصراصير. . . وحيلتك الثانية معها أن تنزح وتتركها في الزوايا المظلمة؛

ص: 32

تعبث وتلهو، وتجنب نفسك بذلك فضل إحساسها بشعورك بها. . .

. . . فانتقض صاحبي قائلا: أو ترضى يا أخي أن تهزم وتنتصر الصراصير!

قلت: هي على تلك الحالتين منتصرة، تعوز رب البيت وسائل التطهير.

ثم أنسيت أنت قول الرجل العربي (خير لنا أن تغلبنا قضاعة من أن تغلب قضاعة). . . قال: وما قصة قضاعة هذه؟ فقلت: هي قصة تلخص فلسفة مجتمع مضى كان صريحاً واضحاً. تربى في كنف فلاسفة الرجال ولم يتلق تعاليمه ونظمه الاجتماعية من فلاسفة الصراصير؛ تلك الطائفة الحائرة المحيرة. . . فاطمأن صاحبي في جلسته، وأخذ يفرك جبهته بأنامله قائلا: بدأت أفهم يا أخي فقلت: وأنا بدأت أفكر في ادخارك لحديث آخر يكون كله مفهوماً، أعرض لك فيه صوراً ناصعة، لطراز آخر من فلاسفة المجتمع الحديث.

أحمد عبد المجيد الغزالي

ص: 33

‌رسالة الفن

4 -

الفن

للكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

التمثيل

كنت أتحادث مع رودان بمرسمه في أصيل يوم من الأيام، وقد أخذ الظلام يرخي سدوله فسألني فجأة:

(هل سبق لك أن عاينت تمثالاً قديماً على ضوء مصباح؟) فأجبته في شيء من التعجب: (كلا، أبداً).

(حسن، سأدهشك. فلربما بدا لك أن معاينة التماثيل في غير ضوء النهار أمر غير مألوف. صحيح أنك تستطيع أن تستجليها على أكمل وجه في وضح النهار ولكن تمهل قليلاً فسأطلعك على تجربة تخرج منها بفائدة محققة).

وعند ذلك أشعل مصباحاً أخذه بيده ثم قادني إلى تمثال من رخام قائم على منصة في ركن من أركان المرسم. كان نسخة جميلة مصغرة من تمثال زهرة مديسي وقد احتفظ به رودان هناك كيما تستعر به نار وحيه وإلهامه عندما يعمل.

(اقترب مني) قال ذلك ثم رفع المصباح إلى جانب التمثال وقربه منه حتى كاد يلمسه، وسلط الضوء كله على الجسم، ثم سألني عما عساي أن ألاحظه. ولأول لمحة أخذت أخذاً عجيباً بما بدا لي فجأة إذ أظهر الضوء وهو من ذلك الوضع نتوءات وانخفاضات هينة عديدة منتشرة على سطح الرخام مما لم أكن أتوقع مشاهدته. وهذا ما أجبت به رودان على سؤاله فصاح موافقاً:(حسنا، انتبه جيداً). وعند ذلك أدار المنصة التي يقوم عليها التمثال. وكنت لا أزال أبصر في جسم التمثال وهو يدور عدداً عديداً من تلك الفحصات التي تكاد تدق على الأعين. وبدا لي ما كان بسيطاً في أول الأمر غير بسيط، وإذ ذاك رفع رودان رأسه وصاح مبتسماً: (أليس ذلك عجيباً؟ اعترف بأنك ما كنت تتوقع اكتشاف الكثير من تلك التفاصيل. انظر إلى تلك التموجات العديدة على الجزء الذي يصل الفخذ ببقية الجسم.

ص: 34

لاحظ كل انحناءات الورك الشيقة، ثم هنا تلك، الفحصات المليحة الفاتنة التي على طول الأرداف).

قال ذلك في صوت خفيض به حرارة التعبد ونبرات الخشوع وقد انحنى فوق التمثال كأنما شغف به حباً وقال: (حقاً إنه من لحم). ثم لمعت عيناه وقال: (يخيل إليك أنه قُد من العناق والقبل لا من الحجر الصلد). وبعد أن وضع يده على الدمية قال فجأة: (عندما تلمس هذا التمثال تحس كأن الحرارة تسري فيه) وبعد لحظات قليلة عاد فقال:

(حسن. وما قولك الآن في تلك الفكرة السائدة عن الفن الإغريقي؟ يقولون، وأخص بالذكر أصحاب المدرسة القديمة الذين نشروا هذه الفكرة، إن القدماء في عبادتهم للمثل الأعلى احتقروا الجسد أيما احتقار وأرخصوا من شأنه وأبوا أن يظهروا في أعمالهم دقائق الحقائق المادية العديدة. يدعون أن القدماء أرادوا أن تجاريهم الطبيعة في خلق جمال متخيل مبسط يروق للذهن فقط ولا يستثير الحواس. ويضربون لذلك الأمثال التي يتوهمون أنهم وقعوا عليها في الفن القديم، ويتخذون من ذلك حجة على تهذيب الطبيعة وتخنيثها وقصرها على حدود ضيقة جافة فاترة عقيمة لا تمت إلى الحقيقة بصلة.

ومما لا مشاحة فيه أن الإغريق بالغوا في إظهار ما يجب إظهاره بما أوتوا من عقول منطقية جبارة. لقد أفصحوا عن أهم المميزات البارزة في النوع الإنساني، ومع ذلك فإنهم لم يطمسوا شيئاً من التفاصيل الدقيقة الحية. إنهم كانوا يقنعون بمزجها وإدماجها في المجموع. وبينما تراهم مولعين بالحركات المنسجمة المتزنة الهادئة تراهم يخضعون أو يضعفون في غير ما تعمد كل ما شأنه أن يؤثر في جمال أو رواء حركة من الحركات، ولكنهم تحاشوا أن يمحوها كل المحو.

إنهم لم يبتدعوا قط طريقة أو أسلوباً من العمايات والأضاليل، كان ديدنهم أن يظهروا الطبيعة كما يرونها، يحدوهم في ذلك حبهم واحترامهم لها. ولقد أثبتوا إثباتاً قاطعاً في كل المناسبات شغفهم الشديد بالجسد. وإنه لمن البله أو الخبل أن نعتقد أنهم كانوا يحتقرونه، إذ لم يثر جمال الجسم الإنساني شعوراً أرق وأعمق مما أثاره في نفوس الإغريق، حتى لتبدو تماثيلهم التي نحتوها كأنما يطيف بها طائف من النشوة والوله. وعلى هذا الأساس يفسر الفارق العظيم الذي لا يتصور بين المثل الأعلى الزائف عند المدرسة القديمة وبين الفن

ص: 35

الإغريقي. فبينما نرى في أعمال القدماء أن تعميم الخطوط ما هو إلا مجموع أو (كل) يتكون من التفاصيل والدقائق، نرى التبسيط المدرسي خوراً وضعفاً، نراه خاوياً كالطبل الأجوف. وبينما نرى الحياة تهيمن على عضلات التماثيل الإغريقية النابضة وتبعث فيها الحرارة والدفيء نرى دمى الفن المدرسي كأنما أثلجها الموت). وهنا صمت رودان هنيهة عاود بعدها حديثه قائلا:

سأطلعك على سر عظيم. أتدري كيف أمكن أن نحس دبيب الحياة في تمثال فينوس الذي نحن بصدده؟ بواسطة علم التمثيل. ولربما بدت لك هذه الكلمات تافه عادية ولكن صبراً فستسبر غور أهميتها بعد حين.

أخذت علم التمثيل عن معلم يسمى كنستانت كان يعمل في المرسم الذي ظهرت فيه أول مرة كمثال محترف. فبينما كان يراقبني يوما وأنا أعمل في رأس يكلله إكليل من الغار إذ صاح بي قائلا: يارودان! إنك لا تسير بهذا في الطريق السوي. فكل أوراقك منسطحة ولهذا فهي لا تبدو طبيعية. اجعل أطراف بعضها متجهة نحوك حتى يشعر من يراها أن لها أبعادا وأغوارا. عملت بمشورته؛ ولشد ما دهشت من النتيجة التي حصلت عليها.

ثم عاود كنستانت نصيحته قائلا: فلتذكر دائما ما سأقوله لك الآن. عندما تطبع في الطين أو تحفر لا تنظر إلى الجسم في طوله ولكن في ثخانته، ولا تعتبر سطحاً من السطوح إلا كحد أو نهاية لحجم ما، أو كالطرف الذي يوجهه إليك ذلك السطح. إنك أن تمارس ذلك تحصل على علم التمثيل؟ ولقد وجدت هذه القاعدة مفيدة أيما فائدة. ومن ثم طبقتها على صنع التماثيل. فبدلا من أن أتصور أجزاء الجسم مسطحات كثيرة الانبساط أو قليلة أبرزتها كنتوءات ذات أحجام داخلية. وقد حاولت جهدي أن يدل كل نتوء في الصدر أو الأعضاء على عضلة أو عظمة تحت الجلد، وهكذا يبدو صدق تماثيلي منبعثاً من الداخل كالحياة نفسها لا سطحياً تافها.

ولقد تبين لي الآن أن الأقدمين مارسوا هذا الضرب من التمثيل بحذافيره. ومما لا ريب فيه أن ما نراه من نضارة وطراوة أعمالهم التي تنبض بالحياة إنما يرجع إلى اتباعهم هذه الطريقة في أشغالهم.

وهنا تأمل رودان تمثال الزهرة من جديد ثم سألني فجأة:

ص: 36

(ما رأيك ياجيزيل؟ هل اللون صفة من صفات التصوير أو النحت؟)

فأجبته: (من صفات التصوير طبعا).

فقال: (حسن. انظر إلى هذا التمثال). قال ذلك ثم رفع يده بالمصباح إلى أعلى ما يستطيع لكي يلقي بكل الضوء على صدر الدمية ثم قال:

(انظر إلى الأضواء القوية التي على الثديين، وإلى الظلال الثقيلة التي في ثنايا اللحم، ثم إلى هذه الصفرة الباهتة، ثم إلى تلك الألوان الأثيرية التي تخفق على أدق أجزاء هذا الجسم المقدس، ثم إلى تلك الأجزاء المظللة بظلال خفيفة حتى لتبدو كأنها تذوب في الهواء وتندمج فيه. ماذا تقول في كل ذلك؟ ألا يخيل إليك أنها قطعة موسيقية مؤلفة من الأبيض والأسود أو من الأضواء والظلال؟)

(وربما بدا لك في قولي بعض التناقض الظاهري إذا ما قررت بأن المثال العظيم لا يقل مهارة في فن الألوان عن أكبر المصورين، بل عن أكبر الحفارين وذلك لأنه يتفنن بكل حذق في كل ضروب التمثيل البارز وصنوفه، ويمزج حدة الضوء بهدوء الظل فتجيء قطعة سارة ممتعة كأجمل الرسوم المنقولة عن ألواح النحاس

والآن - وقد ازدت أن أصل بحواري إلى هذه النتيجة - أقول إن اللون هو زهرة التمثيل الجميل، وإن اللون والتمثيل صنوان لا يفترقان، وهما اللذان يسبغان على كل قطعة خالدة من أعمال النحت ذلك المظهر الوضيء للجسم الحي).

دكتور محمد بهجت

قسم البساتين

ص: 37

‌من وراء المنظار

بين الأرقام والأحلام

كنت أذهب مساء كل يوم إلى حديقة نادي الموظفين في عاصمة من عواصم مصر العليا فأجلس في ركن هادئ من أركان تلك الحديقة الفسيحة ساعة أشاهد قرص الشمس وهو يغيب خلف التل في إحدى عدوتي الوادي.

وكان لا يدنو مني هناك إلا رجل إنجليزي حاسر الرأس سريع الخطى أراه كل يوم وفي إحدى يديه ساجور كلبه وفي الأخرى عصا غليظة يدخل من باب النادي في ساعة معينة لا يتقدم عنها ولا يتأخر، حتى لقد كنت أضبط ساعتي على مرآه كما أضبطها إذا انتبهت إلى صوت المدفع. وكان الرجل متى بلغ النادي يجري في حديقته ساعة يلاعب كلبه كما يفعل صبي في العاشرة، ثم يدع الكلب ويجلس غير بعيد مني على كرسي، ويمد رجليه على آخر، ويفتح كتاباً يخرجه من جيبه فيقرأ بعض الوقت ثم يبرح وكلبه النادي عند ساعة لا يتقدم عنها كذلك ولا يتأخر.

وتعارفنا أنا ومستر (للي) وهذا اسمه إلى وأنس (جوي) وهذا اسم كلبه. وأحسست من الرجل ما يشبه طبيعة المصري في سرعة الألفة، وذكرت له ذلك فضحك وامتدح في كياسة هذه الطبيعة المصرية قائلا وقد لمح على محياي ما داخلني من سرور:(هذا بعض ما أحببت من شمائل شعبكم الطيب؛ وقد عرفت الكثير منها من مخالطتي عملائي هنا في بنك بركليز).

- (هالو! مستر خفيف! سعيدة). . . . . . التفت ذات مساء على تحية مستر للي هذه يلقيها إلي بالعربية ضاحكا، ثم تقدم إلي وصافحني كما نفعل نحن المصريين كلما التقينا، ولو وقع ذلك في اليوم مائة مرة.

- (جوي! جوي! العب وحدك اليوم فلن أشاركك مرحك. . . . . . إن في توثبك دعوة إلي ولكني لن ألبيها؛ إني متعب من زحمة الأرقام في رأسي طول اليوم).

وكان الرجل يخاطب كلبه بلغته الإنجليزية كما لو كان يخاطب ابنا له. ثم التفت ألي قائلا: (لينصرف كل منا إلى كتابه فبنفسي ميل إلى القراءة) وبعد مدة ألقى كل منا كتابه ودنا مني ذلك الإنجليزي باسما وهو يقول: (والآن فلنتحدث).

ص: 38

وتبادلنا الحديث وانتقلنا من موضوع إلى موضوع حسبما اتفق؛ وكثيراً ما عدنا إلى الحرب ومآسيها وأنبائها. ثم تحدث مستر للي عن وحدته وكيف يعيش هو وكلبه. ثم استدرك قائلا: (هذا إذا لم نعتبر الكتب وما في بطونها من ناس، فهؤلاء تغص بهم الكتب أو يزدحم بهم البيت!).

وسألته عن كتابه الذي ألقاه الساعة من يده، فأجاب متهللا:(هذا مختارات من شعر تنيسون. . . لشد ما تعجبني موسيقاه ومعانيه! أجل لشد ما يبهج نفسي ويؤنس وحدتي تنيسون العظيم!. . . إني لأقدمه على الشعراء ما عدا شكسبير وملتن. . . آه لهذا الساحر!).

وكان الرجل في كلامه عن الشعر والشعراء فياض المعاني بادي التحمس. وقد بدا وجهه الوسيم المتورد كوجه غلام في أول الشباب، وظللت أنصت إليه متعجباً من هذا الذي يقضي نهاره بين الأرقام في المصرف ثم يختتمه باللعب وقراءة الشعر. وزادني إعجابا به أنه يقضي وقتاً طويلا من ليله يقرأ ويستمع للموسيقى إلى جانب المذياع.

ولشد ما أبهج الرجل أن رآني أحب ذلك الشاعر كما يحب؛ وأنصت إلي فرحا وأنا أطري بعض قصائده ثم قال: (لابد من الشعر في هذه الدنيا. لاشيء يسمو بالنفس الإنسانية كما يسمو بها الشعر. لا تصاحب من لا تجد في نفسه شعراً. . . إنني طول نهاري بين الأرقام فما كان أشقاني لولا الشعر والموسيقى. ثم هذه الحرب ما كان أتعسني بويلاتها لولا هذا الروح العلوي. . . حقا إن القراءة أعظم متعة)

وكانت الشمس قد مالت لتغيب خلف التل في العدوة القريبة، وانعكست خطوط من التل على قبة السماء، وطرزت حواشي الأفق حمرة الشفق، ثم زحفت ظلال الطفل لتشرب هذه الحمرة، وتراءت القلاع البيض على صفحة النهر الأزلي يزيد بياضها خضرة الزرع على جانبيه! والتفت صديقي الإنجليزي قائلا:(مد عينيك! هذه قصيدة رائعة فلنصل لحظة).

وصلينا خاشعين لحظة طويلة، ونهض صاحبي وهو يقول:(إن هذا التل وهذا النهر ليملآن نفسي بخيال الماضي، فضلا عما يريانني من صور الجمال) ونادى الرجل كلبه ثم قال وهو يشير إليه (إني أحب هذا الكلب لأنه شديد الإحساس بالحياة، ولذلك سميته جوي. . . آه كم أحب أن ألعب مثله فأشعر أني صبي وأنسى أني في الرابعة والخمسين!)

ص: 39

ووضع الرجل عصاه على ذراعه والساجور في عنق جوي وانصرف قائلا: (هذا برنامج كل يوم؛ ألست تحب ذلك؟

ولكم أحببت ذلك وأحببت هذا الشاعر وأغرمت بخياله الذي حبب إليه الحياة أو هونها على نفسه.

الخفيف

ص: 40

‌رضا الفاروق

(إلى صاحب المقام الرفيع أحمد حسنين باشا)

للأستاذ محمد الأسمر

(الأبيات الآتية نظمها الشاعر الكبير الأستاذ محمد الأسمر

بمناسبة إبلال صاحب المقام الرفيع أحمد حسنين باشا رئيس

الديوان الملكي من مرضه الذي فاجأه وهو يشيع جنازة

اللوردموين، منتدباً من لدن حضرة صاحب الجلالة الملك

المعظم، وقد كتبها لرفعته الخطاط المبدع الشيخ محمد عبد

الرحمن، وأحاطها بزخرف من فنه الجميل، فجاءت إحدى

طرائف القلم، ونحن ننشرها بمناسبة إبلال رفعته من مرضه

الأخير).

تماثلَ للشفاء عظيمُ قومِ

إذا مصرُ اشتكت كان الدواَء

عرفناهُ الشجاعَ، فكم دعته

شجاعتُه، وكم لبَّى الدعاء

سلوا عنهَ الأمورَ إذا ادلهمَّتْ

سلوا عنه (الرمال) أو (الهواء)

كفاهُ أنه - تفديه نفسي -

يُقدمُ نفسهُ أبداً فداء

مشي بالأمس ليس يكاد يمشي

يغالبُ عزمُه الداء العياء

يتابعُ خطوَهُ، والموتُ فيهِ،

كذا شاءتْ رجولتهُ وشاء

أروني غيرهُ لمح المنايا

تخف لهُ فما رجع الوراء

مضي قُدُماً يؤدي ما عليهِ

لواجبهِ؛ فما أسمى الأداء

يُجّثم نفسه أشياء ينسى

لديها الصارمُ الماضي المضاء

نجا من فتك (غادرةٍ) تمشَّتْ

لصدرٍ ما حوى إلا الوفاء

ولو عرفتهُ ما عرفتهُ يوماً

وصدَّتْ عن جوانحه حياء

ص: 41

فلولا الله لاقت مصر منها

ولاقي كلُّ مصريٍ عناء

تساءل معشرٌ عما شفاهُ؟!

رضا (الفاروق) كان له الشفاء

رعاه الله من ملكٍ كريمٍ

يرفُّ على رعيتهِ لواء

محمد الأسمر

خواطر في الظلام!

(من ديوان (فوق الحياة) الذي يصدر قريباً)

للشاعر عبد الرحمن الخميسي

- 1 -

أَيُّهذا الغريقُ في الهمِّ يا قَلْـ

بي سُدًى تَرتَجي نسيمَ الهناءِ

ليسَ للحزنِ يا فؤادي قرارٌ

أنتَ فيه تغوص دون انتهاءِ

مزَّقَ الصخرُ في الشواطئ جَنْبي

كَ، إذا أنتَ رُمْت بعضَ النجاءِ

اجتنبْ هذه الصخورَ حراباً

لك مسنونةً ذوات مَضاءِ!!

فعسيرٌ أراكَ تَدمَى مَزِيقاً

إنا فيكَ يا ثمينُ. . . بقائيِ

وعسيرٌ أراكَ تَنْشقُّ يا قلـ

بي أمامي فَتَستفَيض دمائيِ!

فَدَعِ الصخرَ والشواطئَ، واهبطْ

ما يشاءُ المقدورُ في الْبُرَحاءِ

إنَّ تلك المهاويَ السودَ حتمٌ

أن تعاني بها صنوفَ البلاءِ

ولئن كنتَ يا فؤاديَ تشتا

قُ إلى العيشِ فوقَ سطحَ الماءِ

فارتقبْ موجةً من القاعِ تسمو

بكَ نحو السني ونحو الهواءِ

إنما البحرُ قُلَّبٌ يا فؤادي

شأنُ هذي الحياةِ والأحياءِ

بينما قاعه على السطحِ أموا

جٌ عوالٍ تنال ثوب السماءِ

فإذا الموجُ بعد حينٍ قرارٍ

وإذا العائمُ المُقرَّب. . . ناءِ

- 2 -

يدُ مَن هذه التي دَفَعتَ بي

وبقلبي إلى خضمِّ الشقاءِ؟

ص: 42

يَدُها؟ بينما أكِبُّ عليها

طابعاً قُبلةً تبثُّ وفائيِ!

يَدها أم يَدْ الزمانِ. . . أبادتْ

نشواتي لبُعدِها وهنائيِ

يَدُها أم يدُ الزمانِ؟ أطاحتْ

بِقلاعي التي بنيتُ ورائيِ

كنتُ شَيدتُ من ظنوني قصوراً

حَرَما للحبيِبة السمراءِ

شاهقاتٍ يصفقُ الحبُّ فيها

بجناحين مِن منىً وصَفاءِ

كنتُ أعْلَيتُ من أمانيَّ حتى

شارفتْ بي مسابحَ الجوزاءِ

كنتُ. . . أوَّاهُ ما الذي هدم السا

مقَ فاندكَّ في التراب رجائي؟!

ذلك المِعوَلُ الرهيبُ. . . أراهُ

وهو يَهِوي على رفيعِ بنائي

هو في قبضةِ المقادير سّيا

نِ لديه تَبَسُّمي وبكائيِ

والليالي وراءه زاحفاتٌ

ساخراتٌ تضج في استهزاءِ

- 3 -

ذلك الليلُ. . . وهو عندي مكانٌ

ألتقي فيه بالطيوفِ الوِضاءِ

كنتُ أحيا به، كأنيَ منه

قطعةً في رحابه السوداءِ

وأبثُّ الرياحَ أوهامَ نفسي

فَتُغَني بها على الظلماءِ!!

وأُناجي الأشباحَ والفكرَ والأحـ

لامَ حتى تطلّ عينُ الضياءِ

ذلك الليلُ. . كم تَنَقلتُ فيه

يَقظاً فرطَ نشوةٍ برجائي

كنتُ أودعته مطامعَ روحي

وهو يُصغِي ويستجيشُ غنائيِ

والنجومُ التي تَلألأُ ياليـ

لُ شهودٌ أمامَ حكمِ القضاءِ

أين واريتَ ما سمعتَ من الآ

مالٍ يا هاتكاً عهودَ الإخاءِ

كيف راحت مطامعي وهي في قلبـ

كَ سرٌ تلفٌه بالخفاءِ؟!

هي زادي على الحياةِ ومائي

كيف تأَبَى عليّ زادي ومائيِ؟!

أعِدِ الآنَ للشقيِّ امانيـ

هِ وإن كُنّ كالسرابِ النائي

أيُها الكاهنُ الجليلُ الذي اهتزَّ

لشدوي وحارَ في أهوانيِ

أنتَ يا مَن نسجتُ خلدَ قصيدي

بينِ أحضانهِ وصغتُ غنائي

أيُها الشيخُ. . . يا ظلامُ. . . أعِدْ لي

أمَلي في شقيقتي الحسناءِ

ص: 43

أوحَدَتني على دياجيكَ نفسٌ

لم تفارقْ تَرَفِعي وإبائي. . .

رضيتْ قسمةً لها بانفرادي

دون عيشي كسائر الدهماءِ

حَقرَتْ ذلك القطيعَ من النا

س ولاذتْ بوحشةٍ خرساءِ

لم تعانق سوى العواطفِ والفكـ

رِ ولم تَتَشِح بغير النقاءِ

غربتي. . . غربةُ المحبةِ عن قو

مٍ أضاعوا الحياةَ في البغضاءِ

والذي يمتطي المصاعبَ في الدنيـ

احرامٌ عليه طعمُ الهناءِ

كلما طَهرَ الصباحُ جبيني

بسناه، علوتُ في استحياءِ

أبتغي النورَ في الذُّرى، وأمَنيِّ

باكتناهِ المُحَجَبات علائي

وتُصَلي خواطري وهي تسمو

بي إلى عِالم المعاني الوِضاءِ

بي طموحٌ منِ الحنين لمجهو

لٍ بعيدٍ. . . مُلَفعٍ بالخفاءِ

واشتياقٌ إلى عَوَالمَ خَلف الـ

عين، قْامت هناكَ. . . بعد السماء!!

وَمَطَاريِ من الحقائقِ يمتدُ

رفيعاً، وَيستَحِثُ ارتقائي

قدْ بلوتُ الأنامَ فانكشفَ الستـ

رُ وساَء الكمينُ تحتَ الطلاءِ

لي نفاذُ يكادُ يخترقُ الأنـ

فُسَ حتى زهدت في الأحياءِ

أنا يا ليلُ قمة. . . ومٌحال

أن تطولَ الربي إلى عليائي

كم تَطَلَعتُ. . لم أفُزِ بضريبٍ

يَتَسامى على حياةِ الرياءِ

كم تَطَلعتُ. . . ثُمَ آبتْ عُيوني

بدموعٍ سخينةِ بكماءِ. . .

كم تَطَلعتُ. . . فاخترقتٌ فضاَء

شارداً، يرتمي وراَء فضاءِ. . .

غَمَرتَ هذه الثلوجُ، ثلوجُ الـ

يأسِ قلبي فَجَمدَتْ أحنائي

لم يكن لي سوى شقيقة روحي

مُنيَةٌ بين عزلتي وخلائي

أيُّهذا الظلامُ أرجعْ لنفسي

أمَلى في حبيبتي السمراءِ

إنني قِمَة تَعالَى بها الحقُّ

غريباً عن سائرِ الأهواءِ

وَحَرَامٌ يُباعِدُ الغيمُ في الأفـ

قِ ارتفاعي ولا يزينُ علائي

وحرامٌ أطِلُّ حولي فلا ألـ

قي سوى اليأس مُنذراً بفنائي

إنما تُسأَمُ الحياة. . إذا لم

تَشدُ من حولها طيور الرجاءِ

ص: 44

(القاهرة)

عبد الرحمن الخميسي

ص: 45

‌البريد الأدبي

وصية الرصافي قبيل وفاته

إلى أصدقائي الأحرار الكرام:

أراهم يهيجون على الدوام باسم الدين، وما أظنهم يتركونني حتى بعد موتي. وليس لي من ألتجئ إليه سوى الله، وكفى بالله حافظاً وحسيباً. ليس لي من الأقارب من أعهد إليهم بوصيتي سوى معارفي من الأصدقاء الأحرار من أهل البلاد، فلذا اكتب إليهم عسى أن يقوموا بتنفيذها ولهم من الله الأجر

كل ما كتبته من نظم ونثر لم أجعل هدفي منه منفعتي الشخصية، وإنما قصدت به منفعة المجتمع الذي عشت فيه، والقوم الذين أنا منهم ونشأت بينهم، لذلك لم أوفق إلى شيء في حياتي يسمى بالرفاهية والسعادة في الحياة. لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها، وكل ما عدا ذلك من الأثاث الحقير الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. كل من اعتدى علي في حياتي فهو في حل مني. وإن كان هناك من اعتديت أنا عليه، فهو بالخيار، إن شاء عفا عني وإلا قضى بيني وبينه الله الذي هو أحكم الحاكمين.

أنا والله الحمد مسلم مؤمن بالله وبرسوله محمد بن عبد الله إيماناً صادقاً لا أرائي فيه ولا أداجي، إلا أنني أخالف المسلمين فيما أراهم عليه من أمور يرونها من الدين، وليست هي منه إلا بمنزلة القشور من اللباب. ولا يهمني من الدين إلا جوهره الخالص وغايته المطلوبة التي هي الوصول إلى شيء من السعادة في الحياة الدنيوية الاجتماعية والحياة الأخروية، ما أمكن الوصول إليه من ذلك بترك الشرور وبعمل الصالحات، وكل ما عدا ذلك من أمور الدين فهو وسيلة إليه وواسطة له ليس إلا.

بما أن عبد بن صالح الذي هو معاوني على العيش في مسكني كنت أنا السبب في زواجه، وقد ولد له بنات صغار، وليس له من أسباب المعيشة والكسب ما يجعله قادراً على إعاشتهن، أرجو من أهل الخير في الدنيا ومن أصدقائي الكرام الأحرار أن يسعوا في إيجاد شغل له يكسب به ما يقوم بأعاشتهن، وإن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.

كل ما عندي من الكتب المخطوطة التي كتبتها أنا، تباع لمن يرغب في شرائها على أن

ص: 46

يكون له حق الطبع والنشر ولا يكون لي فيها سوى الاسم، ويدفع المال الحاصل من بيعها إلى بنات عبد.

أريد أن أدفن في أي مقبرة كانت على أن يكون قبري في طرف منها وأن يكون في أرض مظلومة وهي التي لم تحفر قبلا. . .

إن كانت الحياة نعمة سابغة من الله على عباده فإن الموت رحمة واسعة منه عليهم. فالموت هو رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء. كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام.

المؤمن بالله وحده لا شريك له

معروف الرصافي

جمعية مصرية تعرب الموسيقى العالمية

لا يزال هواة الموسيقى العالمية يذكرون تلك الحفلة التي أقيمت بكلية العلوم في اليوم التاسع عشر من شهر مارس سنة 1942، ويعتبرونها فاتحة عهد جديد في تاريخ هذا الفن الرفيع. ذلك أن برنامجها اشتمل يومئذ على عشر أغان اختيرت لعباقرة الموسيقى، ونقلها نظماً إلى اللغة العربية الأستاذ كامل كيلاني فسجل بذلك فوزاً مبيناً للعربية في ميادين هذا الفن، وأثبت بالفعل للذين يتهجمون عليها بالقول أنها تستطيع بشعرها العالي وعروضها الدقيق أن تترجم أغاني شوبرت وموتسارت ومندلسون وأضرابهم بمعانيها وأوزانها وألحانها دون أن يفقد شيء من جمال المعنى ولا من سلامة الإيقاع. وقد لقيت هذه الحفلة يومئذ من النجاح العظيم والتقدير الحسن ما حفز القائمين بها إلى مواصلة الجهد في هذا السبيل، فألفوا (الجمعية المصرية لهواة الموسيقى) رئيسها الدكتور علي مصطفى مشرفة عميد كلية العلوم، وأبرز أعضائها الأستاذة محمد زكي علي وإسماعيل راتب وكامل كيلاني وعلي بدوي. وكان أول ما عنيت به أن طبعت هذه الأغاني العشر وقدمتها إلى الجمهور بكلمة طيبة جاء فيها: (. . . فنحن نستمع إلى الأغنية أو الأوبرا في كل بلد بلغة أهله. نستمتع إليها في روما بالإيطالية، وفي برلين بالألمانية، وفي لندن بالإنجليزية؛ فإذا استمعنا إليها في القاهرة سمعناها بكل لغة من لغات العالم المتحضر ما عدا اللغة العربية! فكيف

ص: 47

نقبل هذه المعرة القومية، ونرضى بهذا الهوان الفكري؟)

ثم قالت في موضوع آخر: (وقد كان علينا أن نحل مشكلة رئيسة في التدوين الموسيقي كادت تستعصي على الحل، فإن الموسيقى تكتب من اليسار إلى اليمين، على العكس من الألفاظ التي تكتب من اليسار. وقد وقفنا طويلا أمام هذه المشكلة ثم انتهينا إلى حل يجمع بين الحرص على أصول الفن الموسيقي، والوفاء للغة العربية والمحافظة على تقاليدها، فجعلنا الكلمة وحدة ظاهرة، ولم نكتف بذلك فعمدنا إلى كتابة مقاطع كل كلمة سالكين في إثباتها الطريقة العروضية، فزال بذلك كل إبهام في المقابلة بين المقاطع اللفظية والمقاطع الموسيقية وبقيت الألفاظ سهلة القراءة بادية للعيان).

وعما قريب تصدر هذه الأغاني المختارة فتسدي إلى اللغة العربية والموسيقى المصرية معروفا يخلد الشكر عليه بخلوده.

بين شاعرين

سيدي الأستاذ الكبير عزيز بك أباظه.

لا أكتب إليك للشكر على التعزية أو على التقدير. فأننا نحيا - إن سميت هذه حياة - في جو واحد، وننطوي على فجيعة واحدة. وهذه المشاركة تغني بيننا عن كل عبارة.

وما يزال لدي الكثير من الأشعار. ولعل صفحات الرسالة والثقافة تتسع لنشرها. وهذه القصائد ما نشر منها وما لم ينشر نظمت جميعها تقريباً في شهر فبراير على أثر الوفاة. فهي الحصاد المشئوم لشهر وبعض شهر. وإني لا أدري كيف نظمت، وكيف كان النظم على هذه السرعة وأنا لست من أهلها. ولكن الذي أدريه أنني ليس لي فيها شيء، وأنها (هي) صاحبتها. (فهي) التي حفزتني منذ حين إلى التوفر على إخراج ما أخرجت من كتب؛ و (هي) الآن التي تملي علي ما أنظم من قصيد بعد أن انقطعت عن قوله سنوات وسنوات. ولقد كنت ماضيا على هذا الانقطاع على الرغم من حث كرام الأصدقاء والزملاء لي على مراجعته. وأخيراً. . . أخيراً يكتب لي أن أعود إليه، وأن يكون العود غير أحمد.

أيا مُذْكري يوماً بأني شاعرُ

إليك التي فاضت بهنّ المشاعرُ

مَراثٍ. ومَن أرثي؟ شريكة عيشتي

ودَرسْي، طوتها في التراب المقابر

ولو كنتَ تدري ما ازدهيتَ قريحتي

فلا الشعرَ مذكورٌ ولا أنت ذاكر

ص: 48

ويا ربِّ، لا كانت إلى الشعر رجعة

فأني - ولو كان الخلودَ - لخاسر

كان الله في عونك وعوني.

عبد الرحمن صدفي

الأطياف الأربعة

(أصدرت (لجنة النشر للجامعيين) هذا الكتاب الذي اشتركت فيه أقلام (الاخوة الأربعة). وقد كتب أحدهم: الأستاذ سيد قطب. هذا (التعريف) للمؤلفين وللكتاب وهو يعطي لمحة عن شخصياتهم، وعن طريقتهم كذلك).

صبية وفتاة، وفتى وشاب. . . أولئك هم الأطياف الأربعة! اخوة في الدم، اخوة في الشعور. كلهم أصدقاء، وذلك هو الرباط الأقوى. إنهم يقطعون الحياة كأنهم فيها أطياف. هم أنفسهم كل ما يملكون في الكون العريض! كل ما يربطهم بالكون أن يتطلعوا إليه هنية، ليرده، صورا في عالمهم المسحور. إنهم أبدا يحملون. وقد يتفزعون في الحلم، ولكنهم إليه يعودون!

أحد هذه الأطياف تلك الصبية الناشئة. إنها موفوزة الحس أبداً، متفزعة من شبح مجهول. إنها تعبد الحياة وتخشاها. إنها تتلفت في ذعر كلما تفرست في المجهول

وأحد هذه الأطياف تلك الفتاة الهادئة. إنها ساربة في الماضي لا تكاد منه تعود! إنها شاعرة، ثروتها من التصورات أجزل من ثروتها في التعبير. إنها مستغرقة في حلم: بالمستقبل الذي لا تملك، وبالماضي الذي لن يعود.

وأحد هذه الأطياف ذلك الفتى الحائر. إنه دائم التجوال في دروب نفسه ومنحنياتها يفتش فيها ويتأملها، ولا يسأم التأمل والتفتيش. إنه يحلم في اليقظة، ويستيقظ في الأحلام!

وأحد هذه الأطياف ذلك الشاب الشارد. إنه عاشق المحال. إنه يطلب ما لا يجد، ويسأم كل ما ينال. وإنه - بعد ذلك كله - للوالد والأخ والصديق لأولئك الأطياف.

أولئك هم الأطياف الأربعة. وهذه خطراتهم في كتاب. إنها عصارة من نفوسهم وظلال من حياتهم. إنها أطياف الأطياف!

سيد قطب

ص: 49

الإصلاح الديني ومذهب ابن حنبل

كان مساء يوم الثلاثاء الماضي موعد المحاضرة التي ألقاها في مسرح الأزبكية العالم الكبير الأستاذ شاكر الحنبلي بك وزير العدل السابق في الحكومة السورية فأقبل على شهودها جمهرة كبيرة مختارة من رجال العلم والأدب والسياسة ولبثوا ساعة يستمعون إلى المحاضر العظيم وهو يتدفق بالبيان الرائع في صوت متزن ولهجة فصيحة فأبان عن شخصية الإمام - أحمد بن حنبل - وجلاها مبرأة مما رميت به من الضيق، ثم افاض في الكلام عن - ابن تيمية - ونفاذ عبقريته؛ وما رمى به من مروق وزندقة؛ وما أصابه في سبيل دعوته من سجن ومطاردة؛ وتناول الإمام ابن القيم - تلميذ ابن تيمية. وعمق تفكيره، ومرونة ذهنه، وحسن فهمه لروح الدين وما تكبده كذلك في سبيل آرائه. ثم ختم المحاضر الفاضل محاضرته ببيان أن روح الإسلام لا تقف ما يحفز المدنية إلى التقدم، ولا تقعد ما يسمو بالإنسانية إلى الكمال.

م. ع. ا

الفلسفة والدين، في جامعة الإسكندرية

لم تنس جامعة فاروق الأول أنها وريثة جامعة الإسكندرية القديمة، فقد حاضرنا مساء الأربعاء 28 مارس سنة 1945 بقاعة المحاضرات الجامعية أستاذ أعتقد أن الكثيرين من رواد الفلسفة الحديثة يعرفونه، كما أعتقد أن هؤلاء الكثيرين من الرواد يتطلبون منه الكثير من محاضراته ودراساته.

حاضرنا الأستاذ توفيق الطويل المدرس بكلية الآداب عن النزاع بين الفلسفة والدين في القرن السابع عشر.

وقد أمضينا ساعة ونصف ساعة مع الأستاذ توفيق الطويل، في رحلة فكرية شائقة، حاول خلالها أن يبرهن على أن لا تنافر بين الفلسفة والدين حتى في عصر محاكم التفتيش، وابتدأ بأن فرق بين الدين في ذاته، وبين رجال الكنيسة الذين جعلوا من أنفسهم حراساً على نصوص هذا الدين، حراساً جامدين على ظواهر هذه النصوص.

وأختار الأستاذ الطويل للتدليل على وجهة نظره ثلاث دول، كانت حركة النضال فيها بين

ص: 50

الفكر الحر وبين اللاهوتيين الجامدين على أشد ما تكون عنفاً وحدة، وهي فرنسا، وهولنده، وإيطاليا.

واختار من كل بلد من البلدان الثلاثة فيلسوفاً واحداً، لضيق الوقت، فمن فرنسا تخير - ديكارت - وعرض موجزاً من فلسفته التي بدأت بالشك، وانتقلت إلى إثبات الذات التي تشك! والتي ابتدأت بأن أخضعت حقائق الوجود إلى العقل، ثم استثنى الحقائق التي وصلتنا عن طريق الوحي، واعتبرها غير خاضعة للاختبارات العقلية، فكان ديكارت - وإن لم يوضح لنا الأستاذ المحاضر - متأرجحاً بين الفلسفة والدين، بين عقله وقلبه، ولعل في خوفه من سلطة الكنيسة، أو رجال الكنيسة بمعنى أدق، تعليلا لذلك التأرجح الذي تعرض له الأستاذ المحاضر في سرعة وخفة نلتمس له فيهما عذراً لضيق الوقت، وانفساح مجال الموضوع الذي اختاره لمحاضرته القيمة.

ومن هولندا، تحدث الأستاذ الفاضل، عن - سبينوزا - ذلك الفيلسوف الذي نادى بمذهبه في وحدة الوجود، فأثار على نفسه ثائرة رجال الأكليروس، وأقام قيامة أولئك الذين في يدهم مقاليد الأمور فأجمعوا على تكفيره، وحرمانه، واضطروه أن يعيش منبوذاً من الناس، وأن يكدح لينال بلغة من العيش تقيم أودهن بعد أن هاجر من البلد الذي أصدر قرار حرمانه، وغير اسمه، وكان ينشر مؤلفاته بأسماء مستعارة. درءاً لأخطار المصادرات، وما وراء المصادرات، مما كانت تحفل به عهود محاكم التفتيش.

أما في إيطاليا، فقد كان لجاليليو قصة - أو مأساة كما سماها الأستاذ المحاضر - تبعث على كثير من الأسى، فقد اضطهد هذا الرجل من أجل عقيدته أقسى الاضطهاد، وحوكم مرتين أمام محكمة التفتيش وسجلت مؤلفاته في القائمة السوداء - أو الفهرست!! - كما كان يطلق عليه، وقد حرص الأستاذ الطويل على أن يذكرنا أنه اختار جاليليو، وتحدث عنه كفيلسوف - على الرغم من أنه كان عالم فلك ولم يكن فيلسوفاً، لأن الفلسفة في القرن السابع عشر كانت تعتبر عالم الفلك فيلسوفاً، ولم تكن العلوم قد تحررت بعد من حظيرة الفلسفة.

والطريف، فيما عرضه الأستاذ المحاضر، من رأي جاليليو عن دوران الأرض وعن النظام الكوبرنيكي الذي قال به، أقول الطريف في ذلك أن الإسكندرية كما حرص الأستاذ

ص: 51

الطويل على أن يذكرنا بذلك، كانت سباقة في هذا المجال الخطير، فقد قال بنفس هذا الرأي من قبل كوبرنيكوس، ومن جاليليو، فيلسوف عاش في الإسكندرية، وهو أرسطو خوس!!

قصص هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، في بلدانهم الثلاثة، صادقة الدلالة على أن الاضطهادات التي حدثت، والتي كان ضحيتها هؤلاء الفلاسفة العظام، لم تكن من الدين، ولا من كل رجال الدين، وإنما كانت من تلك الفئة الجامدة التي لم يخل منها عصر من العصور ولا دين من الأديان.

ولا صحة لما يقال، من أن ازدهار الفكر لا يكون إلا حيث يتخلص من قيود الدين، فالتاريخ يحدثنا عن فلاسفة كثيرين حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة، ولعل أشهرهم من فلاسفتنا الإسلاميين هو ابن رشد الفيلسوف الأندلسي المعروف.

هذه خطوط سريعة لمحاضرة مرتجلة، جعلنا الأستاذ الطويل خلال حديث شائق في صددها، نعيش في عالم فكري بعيد عن ماديات هذه الحياة الصاخبة.

علي حسن حموده

جماعة الفكر

تألفت في القاهرة جماعة فكرية ثقافية باسم (جماعة الفكر) قوامها لفيف من أدباء الشباب، وستنشر مكتبة في شتى نواحي المعرفة.

فندعو لها بالتوفيق في إتمام هذا العمل الجليل.

-

ص: 52

‌الكتب

1 -

ابن رشد الفيلسوف للأستاذ محمد يوسف موسى

2 -

بعد الموت للأستاذ السعيد يوسف موسى

- 1 -

هذا الكتاب من تأليف الأستاذ محمد يوسف موسى المدرس بكلية أصول الدين، وهو من سلسلة أعلام الإسلام التي تصدرها لجنة دائرة المعارف الإسلامية. ويقع الكتاب في 117 صفحة من الحجم الصغير، ولكنه على صغر حجمه جيد في بابه، ولا غرو فالمؤلف مشتغل بهذا الفيلسوف من زمن، وينوي أن يضع فيه رسالة كبيرة، فهو ليس غريباً عن الموضوع. عرض أولا لعصر ابن رشد وأسرته، ثم إلى نشأته، ثم عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة، ثم عمله في نظرية المعرفة، ثم ابن رشد والغزالي، ثم انتهى إلى خاتمة المطاف، وإلى ابن رشد وأثره من بعده، وهل نجح في رسالته.

وأنت ترى أن صفحات الكتاب أضيق من هذه الموضوعات المتعددة. وقد كان المؤلف بارعاً في الإيجاز حتى يسوق جميع ما يريد أن يقول في هذا الثوب الضيق. غير أنه اضطر إلى التلميح عن بعض النظريات دون إشباع حسب ما يقتضيه المقام.

وفي الكتاب عرض جيد لحياة ابن رشد وعصره وتفصيل لمحنته ومناقشة أسبابها. وطريقة المؤلف في اقتباس النصوص وحبكها في مجرى الكلام، تدل فضلا عن الاطلاع الغزير، على امتلاك ناصية الموضوع.

وقد وفى الفصل الخاص بالتوفيق بين الحكمة والشريعة حقه إذ يستغرق 27 صفحة، بينما نظرية المعرفة تناولها في خمس صفحات ونصف. وكنا نرغب الإطالة في هذا الموضوع الذي لم تسبق الكتابة فيه، ولا يزال غامضاً. وأخاف الأستاذ محمد يوسف موسى فيما يذهب إليه من أن ابن رش يرى في الاتصال أنه (وصول العقل الإنساني إلى الدرجة العليا من الكمال، تعني إلى الاتحاد، أو الاتصال بالعقل الفعال أو الله تعالى ذاته) ص 63، 64 ثم قال:(ولا بد من توفر ثلاثة أمور فيمن يسعد بهذه النعمة أي نعمة الوصول: قوة العقل الأصلية، وكمال العقل بالفكر، وعون وإلهام غير طبيعي من الله).

ص: 53

وأكبر الظن أنه يريد أن يقول (إلهام طبيعي) لا غير طبيعي.

وتصوير الاتصال بالعقل الفعال أو الله ذاته على النحو المذكور يجعل من ابن رشد صوفياً، خصوصاً وأنه اشترط فيما بعد العون الإلهي. وبهذا لا تستقيم النتيجة التي أوردها بعد ذلك، وهي أن ابن رشد (ابتعد عن مجاهدات الصوفية. . . فهو لهذا أقل الفلاسفة الأندلسيين بل المسلمين تصوفاً) ص 64.

فهل كان ابن رشد متصوفاً، أو عنده نزعة صوفية كالفارابي مثلا؟

- 2 -

وهذه قصة ألفها الأستاذ السعيد يوسف موسى، تقع في 286 صفحة من الحجم المتوسط.

أعرف المؤلف معرفة شخصية، وأستطيع أن أؤكد لك أن هذه القصة صورة من نفس المؤلف، أودعها أحاسيسه وعواطفه وآراءه. وهذا الصدق في التعبير هو السر في قوة هذه القصة وأكبر الظن أن المؤلف لن يستطيع أن يخرج لنا مثيلا لها إلا بعد مضي سنوات طويلة، تزدحم فيها نفسه بتجارب جديدة وصور أخرى يودعها قصته الجديدة، فإن أراد أن يبين فساد حكمي فليقدم على إخراج قصة أخرى. . .

نحن في حاجة إلى القصة الطويلة في اللغة العربية، فالقصة القصيرة يكتب فيها كثيرون على رأسهم الأستاذ محمود تيمور، فهو بطل هذا الميدان. وقصة (بعد الموت) قصة مصرية صميمة، لم يتأثر صاحبها بالمؤلفات الأجنبية، فهي بذلك تسد باباً كنا نحس فيه بالنقص. وهذه خلاصة الموضوع في إيجاز.

طالبان من الريف، ذهبا إلى المدرسة داخلية بالإسكندرية، فاتصلا في المدرسة وارتبطا بصداقة وثيقة العرى. أحدهما جلال، والآخر هو الذي يقص القصة. . . رأتهما (نجوان) صاحبة بار بالإسكندرية، فأحبت جلال الذي كان متعاهداً على الزواج من هند ابنة عمه. وهنا يحدث صراع بين الوفاء للوعد، وبين الحب الجديد الذي يستغرق فيه جلال، وصاحبه معه، إلى أن يطردا من المدرسة. وتعرف هند وأم جلال، فتحضران إلى الإسكندرية تطلبان إلى نجوان التخلي عن جلال، ولا تستطيع نجوان فتقتل نفسها ويشهد جلال مصرعها ويظل ذكراها عالقة بذهنه فلا يشفي من داء حبها حتى (بعد الموت)

إني آسف لهذا الاختصار المخل، فهو لا يغني عن قراءة القصة وتذوق ما فيها من حلاوة

ص: 54

الحوار بين هذه الشخصيات المختلفة، التي يحاول صاحب القصة أن يجعلها تنطق بحقيقة المشاعر الإنسانية.

يريد المؤلف أن يقول إن الروح تبقى بعد الموت، وأنها تؤثر في ملوك الأحياء، بدليل أن موت نجوان لم يبطل حب جلال لها، ولم يصرفه إلى العودة إلى خطيبته الأولى هند وكان يراها في المنام فيفزع.

ولكن علماء النفس المحدثين يذهبون إلى خلاف ما يذهب إليه المؤلف، ويفسرون أمثال هذه الظواهر بأنها حالات مرضية يمكن شفاؤها بالتحليل النفساني. ونأخذ على المؤلف هجومه العنيف على المعلمين وعلى المدرسة وكنا نحب أن يسمو عن هذا.

الدكتور أحمد فؤاد الأهواني

ص: 55

‌من إنتاج الأدب السوداني

1 -

مهدي الله للأستاذ توفيق أحمد البكري

2 -

الطريق إلى البرلمان للأستاذ إسماعيل الأزهري

- 1 -

مؤلف هذا الكتاب الأستاذ توفيق أحمد البكري شاب سوداني ذو ثقافة عالية وذوق أدبي أصيل - ولا عجب فهو خريج كلية الآداب ومعهد الصحافة من جامعة فؤاد الأول - وإذ تصدى للكتابة عن الإمام الكبير محمد أحمد المهدي فقد تصدى بعد دراسة عميقة مزمنة ورغبة ملحة صادقة. ولعل المستر ونستن تشرشل يعنيه حينما قال في كتابه حرب النهر (إن المؤرخ السوداني الذي سيكتب تاريخ بلاده يوما ما يحب ألا ينسى أن يضع (محمد أحمد) في طليعة أبطاله، (فأن هذا الشاب النابه قد خدم بلاده خدمة محققة بنشره هذا الكتاب في سيرة ذلك الرجل، الذي لا نعلم أن أحداً استطاع من قبل أن يصور له صورة إنسانية خالية من التحامل) كما يقول الأستاذ الكبير أبو حديد.

وسيرة الإمام المهدي سيرة فيها من هدى الدين وقوة الإيمان ما ذللت أمامهما الصعاب ورضخت لمشيئتها القوة المنظمة الحاكمة! فأن رجلا نشأ بين أبوين شريفين رقيقي الحال فشب عن الطوق وثقافته دينية بحتة، وحياته تأملات صوفية عميقة، وروحه نقية زاهدة، فلا تريد من متاع الدنيا مالا ولا جاها ولا ملكا. وإنما يدعو العباد إلى صلاحهم وإلى ما يقربهم من ربهم لتمتلئ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا - وظلما - وبهذه الدعوة الطاهرة المليئة إيمانا تكأكأ عليه المؤمنون جماعات ووحدانا يرتلون قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)

استطاع، وهو الأعزل، أن يفتح ذاك الفتح المكلل بالظفر وأن يقيم دولة إسلامية دستورها الكتاب والسنة ست عشرة حجة طوالا

وإننا بصدد الإشارة إلى هذا الكتاب النفيس لا يفوتنا أن نزجي عاطر الثناء إلى لجنة دائرة المعارف الإسلامية لنشرها هذا الكتاب من سلسلتها التاريخية (أعلام الإسلام) كما نرجو

ص: 56

أخانا الأستاذ توفيق البكري أن يتم ما بدأه فيفصل ما أوجز ويسهب فيما اقتضب، لتوفي هذه الشخصية الكبيرة حقها دراسة وتحليلا.

- 2 -

(الطريق إلى البرلمان): مؤلفه الأستاذ إسماعيل الأزهري خريج الجامعة الأمريكية ببيروت ورئيس مؤتمر الخريجين العام في السودان لهذه الدورة ودورات ماضية - والأستاذ معروف بأنه البرلماني الأول في السودان، فلا غر وأن يؤلف كتابا قيما بعنوان (الطريق إلى البرلمان) في أكثر من ثلاثمائة صفحة - والعنوان كما ترى جذاب أخاذ يدل على أن هذا الكتاب يأخذ بيدي القارئ ويدخله البرلمان بسهولة ويسر! ويتضخم هذا المدلول حينما تعلم أن الأستاذ زعيم معروف! بينا أن الكتاب يتحدث عن نظم الجمعيات، كالأندية والشركات واللجان والأحزاب وغير ذلك، مرتباً كيفية تكوينها وتنظيمها وإدارتها حتى يتدرب النشء والكبار على النظم البرلمانية وأساليبها فتنشأ الأجيال المقبلة عريقة فيها مجبولة على تقديس القوانين مفطورة على حب النظام.

ولم يفت الأستاذ أن يشير إلى استخدام هذا الاسم (الطريق إلى البرلمان) كعنوان، لأن الغرض من وضع هذا الكتاب كما قال:(نشر النظام البرلماني ليصبح بفضل التدريب والمران عادة مألوفة وتقاليد متأصلة عند الصغار والكبار في (الطريق إلى البرلمان) حتى إذا دخلوه استطاعوا أن يستفيدوا من نظمه في النهوض بأممهم إلى أعلى مراتب التقدم والكمال)

والكتاب يحتاج إليه رجل الاجتماع بقدر حاجة الطالب الماسة، ويا حبذا لو قررته مصلحة المعارف السودانية في مدارسها الثانوية ليساعد على إخراج رجل الاجتماع المنشود.

الفاتح النور

ص: 57