المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 615 - بتاريخ: 16 - 04 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦١٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 615

- بتاريخ: 16 - 04 - 1945

ص: -1

‌المدرسة الرمزية

للأستاذ عباس محمود العقاد

(. . . استرعى نظري نوع من الأدب أسموه بالرمزية، ولا أعلم حتى الآن تعريف هذا النوع، وقد نبهني إليه تلك الإنذارات التي وجهها الأدباء إلى الشباب المحدثين بالآداب أن يكفوا عن تلك الطريقة الرمزية فإنها عقيمة النتاج لا تجدي نفعاً. فما هي الرمزية في الأدب؟ وهل هي تقتصر على الآداب العربية فقط عدا الآداب العالمية؟ وما هي نتائجها المضرة؟. . .)

(بغداد - الكاظمية)

جعفر آل ياسين

والرمزية التي يسأل عنها الأديب البغدادي قديمة في العالم، لأن الناس عرفوا الكتابة بالرموز قبل أن يعرفوا الكتابة بالحروف، ولأن الكهانات الأولى كانت تستأثر بأسرار الدين وتضن بها أن تذاع للعامة على حقيقتها الصراح، فكانت تعمد إلى الرموز أحيانا للتعبير عن تلك الأسرار.

ثم ارتفع حجر الكهانات عن أسرار الدين فتكلم الناس فيها وافصحوا عما يعتقدونه من خفاياها، ولكن الولع بالأسرار والبحث عن الغوامض والغيوب طبيعة في بعض النفوس لا تخرجهم منها صراحة القول ولا إباحة التفكير المطلق لمن يشاء، فظهر هؤلاء بين المسلمين كما ظهروا بين الأمم المسيحية والإسرائلية، وقسموا عندنا العلم إلى علم شريعة وعلم حقيقة، وأرادوا بعلم الشريعة ما يبدو على ظواهر الأشياء، وبعلم الحقيقة ما ينفذ إلى بواطن الأسباب المغيبة عن العقل المكشوفة للبصيرة، وقابلهم عند الأمم الأخرى جماعة المتعمقين الموكلين بالغوامض والأسرار وهم المعروفون باسم الخفيين أو الـ ولا يزال لهم مريدون ودعاة في كل عصر من عصور الآداب.

لكن المقصود بالرمزية في الأدب الحديث هو تلك المدرسة التي راجت في أوائل القرن الحاضر وظهرت في فرنسا على أعقاب مدرسة (البرناسيين) أصحاب القول بجمال القالب وأناقة النفس والعكوف على المحاسن الظاهرة في أساليب الشعر والنثر وصياغة العبارات، وعندهم أن الصقل المحسوس هو آية الجمال والبلاغة في جميع الفنون.

ص: 1

فلما راج مذهب البرناسيين هذا في أواخر القرن الماضي ظهر الرمزيون يعارضونه ويغلون في إنكاره ويذكرونهم بما نسوه من أسرار المعاني التي لا تبرز على وجوه الكلمات، وينبهونهم إلى جمال الوحي والإيمان الذي أهملوه في سبيل الصقل المحسوس والرونق البارز على صفحات الأساليب.

وقد كان الرمزيون على حق لولا الغلو الذي يندفع إليه أصحاب كل مدرسة جديدة حين يتصدون لحرب المدارس الأخرى فيذهبون من أقصى النقيض إلى أقصى النقيض.

فالأدب لا يستغني على الوحي والإشارة، وأبلغ الفن ما يجمع الكثير في القليل ويطلق الذهن من وراء الظواهر القريبة إلى المعاني البعيدة التي تومئ إليها الألفاظ ولا تحتويها إلا على سبيل التنبيه والتقريب.

ولكن هذه المدرسة غلت وتمادت في الغلو حتى قام من دعاتها من يجعل الغموض والتعمية

غرضاً مقصوداً لذاته ولو لم يكن من ورائه طائل، وخيل إليهم أنهم مطالبون بالتعبير عن أنفسهم بالرموز وإن أغنتهم الحروف الواضحة والكلمات المفهومة، فلم تعمر مدرستهم طويلاً وسقطت في الأدب الفرنسي كما سقطت في آداب الأمم التي انتقلت إليها.

وقد أملى لأتباع هذه المدرسة في الغلو أنها قامت للدعوة في العصر الذي ظهر فيه (فرويد) وبشر بمذهبه القيم عن الأحلام ودلالتها على الوعي الباطن وما يستكن فيه من الأسرار المكتومة والنوازع المكبوتة. وخلاصة هذا المذهب فيما يرجع إلى (الرمزية) أن الأحلام هي لغة الرمز التي يعبر بها (الوعي الباطن) عن شعوره المكبوت؛ فالرجل المبتلى في الخوف من عدو منتقم أو من وهم مسلط عليه يرى في نومه وحشاً ينقض عليه وينهشه بأنيابه؛ والرجل الطامح إلى المجد يرى أنه سابح في السماء على رؤوس الناس، أو يرى أن الناس بالقياس إليه كالنمال في جانب الفيلة الضخام. وهكذا تتمثل معاني (الوعي الباطن) رموزاً جسدية، لأن الإنسان لا يتمثل المعاني في أحلامه وأمانيه بل يتمثل فيها ما يرى بالعين ويلمس باليد ويسمع بالأذن ويترجم من لغة الفكر إلى لغة الحواس على أسلوب الخيال المعروف.

فما هو إلا أن راجت كلمة (الوعي الباطن) ورموزه في الإصلاح وخيالات الفنون حتى تلقفها أذناب المدرسة الرمزية كما تلقف الببغاوات صيحات الآدميين بغير فهم ولا روية،

ص: 2

وخيل إليهم أن (الوعي الباطن) خلق جديد أنبته (فرويد) في بيئة الإنسان بعد أن كان معدوماً في الأجيال الماضية، وفاتهم أنه أقدم من الوعي الظاهر وأنه لم يزل يعمل عمله في الآداب والفنون وفي المعيشة اليومية منذ عرف الناس الشعور والتفكير، ولن يزال كذلك خفياً في مكانه القديم ما دام الإنسان هو الإنسان، وكل ما صنعه فرويد أنه نبه الأذهان إلى وجوده لا أنه أوجده من العدم في الزمن الحديث.

وبعد أن كان الرمزيون لا يتجاوزون في دعوتهم التذكير بوجود الأسرار والمعاني التي توحي إليها أصبح أولئك الببغاوات ينكرون الحس الظاهر وينكرون الحواس وعملها ولا يدينون بشيء غير ما يسمونه رموز الوعي الباطن وأحاجيه.

فبطل الوضوح عندهم كأنه نقيصة أو كأنه خروج على الحقيقة، وتقررت التعمية عندهم كأنها هي البيان دون كل بيان، وكأنما (الوعي الباطن) قد كشف في الزمن الأخير ليلغي العيون والآذان ويغرق الناس قي ظلمات لا تدركهم فيها أنوار النهار.

ومن آفات فرنسا الولع بالأزياء والمدارس التي كأنها أزياء تخلع بين كل صيف وشتاء، فما هو إلا أن يسمع فيها باسم الدعوة الجديدة حتى تقفوها مدرسة هنا ومدرسة هناك، وحتى تتقاسمها الفنون المختلفة فيبشر بها المصورون والنحاتون كما يبشر بها الشعراء والكتاب، وينتقل الأمر من حيز التفكير إلى حيز الصفقات والمساومات. فيأخذ المتجرون بالصور في جمع اللوحات التي يبيعها إياهم فقراء الفنانين بدريهمات معدودات، ويحتفظون بها حتى يحين الأوان لإبرازها والمتاجرة بها، فإذا بمجلة من المجلات التي يملكها أولئك التجار أو يستأجرونها قد نشرت فصلا مطولا عن (المدرسة الجديدة) المزعومة وتلتها مجلة أخرى تناقضها وتنحى عليها، وإذا بالمدرسة الجديدة بعد هنيهة قد أصبحت في دوائر الفن أحدوثة الفضوليين والأصلاء، ومحور الهجوم والدفاع، ويحضر إلى باريس في هذه الآونة أناس من أصحاب الثروات الأمريكية أو أصحاب الألقاب الروسية العريقة ممن يصطنعون الوجاهة ويفاخرون باقتناء التحف النادرة، ويودون أن يرجعوا إلى بلادهم وفي جعابهم أحدث ما يتحدث به أصحاب الأذواق وأدعياء التنظر في الثقافة والآداب الفنية، فإذا بهم قد وقعوا في الفخ المنصوب واستبضعوا اللوحات والتماثيل من تلفيقات تلك المدرسة الجديدة بألوف الجنيهات، وهي كلها لا تساوي مئات الدراهم عند بائعيها الماكرين.

ص: 3

وهكذا تخرج إلى الدنيا (مدرسة جديدة)، وتبقى فيها ما بقيت صالحة لتلك الصفقات الخادعة، ثم تنطوي وتخلفها دواليك مدرسة أخرى على هذه الوتيرة، ولا تعقب بعدها أثراً من الآثار الباقية في عالم البلاغة والجمال.

وقد راجت الرمزية في الكتابة والشعر، كما راجت في النحت والتصوير، وشوهدت صور لبعض الناس لا يعرفها أصحابها، ولا يتفق اثنان من المصورين أنفسهم على عرفان ملامحها أو تفسير الغرض منها. وسئل واحد من هؤلاء المصورين عما يعنيه بهذا الخلط الذريع، فقال بلهجة هؤلاء المخرقين التي هي مزيج من لغة الدجالين والببغاوات: إن الكتاب الإنجليزي يقع في يد الرجل الذي لا يفهم الإنجليزية فلا يبصر فيه إلا خليطاً مشوشاً من الخطوط والنقاط. . . فهل يفهم من ذلك أنه كذلك، وأنه لا يشتمل على معنى من المعاني التي يدركها الإنجليزي، أو من يفقهون اللغة الإنجليزية؟

وهذا كلام دجالين وببغاوات لا يفهمون ما يقولون، لأن الناس لا يختلفون في رؤية الشمس كما يختلفون في فهم مئات الكلمات التي تدل عليها باللغات الإنسانية، ولأنهم لا يختلفون بالعيون والآذان والأفواه كما يختلفون بالألسنة والعبارات، وليس بين الرجل وبين مشابهة الإنجليزي في قراءة كتابة إلا أن يدرس الإنجليزية فينفذ إلى ما وراء الخطوط والنقاط من الألفاظ ومعانيها، فما هي الأداة التي يستعين بها الإنسان على فهم الصور التي لا تشبه أصحابها؟ أهي أداة الوعي الباطن، وهو لا يتماثل في رجلين اثنين على نحو واحد؟ أيصبح كل إنسان (فنا) وحده لأنه وحده صاحب الوعي الباطن الذي توارثه من آبائه وأجداده وأضاف إليه ما أضاف من مذكوراته ومنسياته؟

وكل مدرسة من هذا القبيل فهي مدرسة بكماء لا تستطيع أن تشرح مذهبها للناس إلا بمزيج من كلام الببغاوات، وكلام الدجالين.

ليكن الوعي الباطن حقيقة لا شك فيها، وهو كذلك حقيقة لا شك فيها، ولكنه كان حقيقة لا شك فيها من أقدم عهود المثالين والمصورين والشعراء في التاريخ، وقد عمل في شعر هوميروس عمله البديهي، كما عمله في شعر المتنبي والشريف وبيرون ولامرتين، وإنما كان يعمل عمله دون أن يلغي العيون والآذان، ودون أن يلغي الأذواق والأذهان، وعلى هذا ينبغي أن يمضي في عمله سواء ظهر فرويد أو لم يظهر في عالم الوجود، لأن فرويد لم

ص: 4

يخلقه في طبائع الناس حتى يخلفه خلق جديد لم يكن معلوماً قبل مئات السنين، فقصارى ما في الأمر أنه سماه وفسر معناه، وترك العيون تنظر كما كانت تنظر، والآذان تسمع كما كانت تسمع، والأجسام البشرية تغدو وتروح كما كانت تغدو وتروح.

فالرمزية سليمة في حدودها الأولى، وهي حدود الاعتراف بالخفايا والأسرار، ولكنها دعوة مريضة عوجاء حين تنكر الوضوح لأنه وضوح وكفى، وتشيد بالتعمية لأنها تعمية وكفى.

وميزان الصدق في هذا المذهب أن يكون الرمز ضرورة لا اختيار فيها. فأنت تفصح حتى يعييك الإفصاح فتعمد إلى الرمز والإيحاء لتقريب المعنى البعيد لا لإبعاد المعنى القريب. والأصل في الإبانة عن الذهن أو النفس أن يحاول المبين جهده توضيح معناه حتى تعييه العبارة فيلجأ إلى الإشارة، فلا يكتب بالهيروغليفية ما يقدر على كتابته بالحروف الأبجدية، ولا يؤثر الكناية وهو قادر على التصريح.

أما من يقول بنقيض ذلك فليس عنده في الحقيقة ما يقول، وإنما هو مزيج من الببغاوات والدجالين يلفظ بالكلام ولا يفقه معناه، ويخلط الحق بالباطل على النحو الذي قدمناه.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌في عيد المعري

من حلب إلى دمشق

للدكتور عبد الوهاب عزام

عميد كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول

كان أعظم ما رأيت من آثار حلب ذلك اليوم مقبرة الفردوس وكنت سمعت بها، وحرصت على رؤيتها في زورتي لحلب قبل ثماني سنين فأُعجِلت عنها آسفاً.

وهي مقبرة نادرة بنيت على هندسة المساجد، أو مسجد اتخذت أروقته للقبور. يدخل داخلها إلى صحن شرقية وغربيه رواقان في مستوى الصحن وفي جهة القبلة منه مسجد، وفي الجهة الشمالية عقد كبير فوق رواق مرتفع. والرواقان اللذان على جانبي الصحن بهما قبور أكثرها قديم وبعضها حديث. ويرى الداخل إلى المسجد ثلاث قباب: الوسطى وهي الكبرى تقوم فوق مصلى، وعلى جانبي هذه القبة قبتان أخريان تحت كل منهما حجرة كبيرة فيها قبور: فالبناء في جملته مقبرة مشيدة على هيئة مسجد. . . وما رأيت فيما رأيت من الآثار الإسلامية مقبرة أخرى على هذه الشاكلة. وشمالي هذا البناء حديقة ذابلة يشرف عليها رواق كبير خارجي وراء الرواق الداخلي الذي في شمالي الصحن. وعلى جوانب الصحن والمسجد كتابة كثيرة أعجلني ضيق الوقت عن قراءتها كلها. وهي آيات من القرآن وأبيات، وكلمات مأثورة.

وكان في عشية ذلك اليوم، يوم الخميس 11 شوال، احتفال حلب بذكرى المعري، فاحتشد جمع عظيم في فناء المدرسة الثانوية وقد أخذت زينتها من الأعلام والمصابيح، وتكلم هناك من أدباء العربية: السيد طه الراوي، والدكتور طه حسين، والأستاذ عبد القادر المازني؛ وأدباء وشعراء آخرون وكان يوماً مشهوداً.

وأصبحنا نتأهب للمسير إلى اللاذقية وودنا أن نفسح الوقت للتلبيث في حلب. وفصلنا من مدينة سيف الدولة ضحوة الجمعة فضربنا صوب الغرب والجنوب في سهول خصبة فيها آثار الكدح والدأب حتى لاحت إدلب بيضاء بين أشجارها. وأكثرها أشجار الزيتون، وكانت سيارتنا متقدمة فوقفت في ظاهر البلد ليلحق بنا الركب. ثم دخلنا المدينة فإذا حشد

ص: 6

منظم من رجال الحكومة والمدرسين والطلبة يسر العين والقلب، والموسيقى تدوي فتبث ألحانها في هذا الجمال فإذا هو كله موسيقى مؤتلفة، واستقبلتنا طالبات صغيرات ينشدون أناشيد للبلاد العربية كلها، ويقدمن الأزهار إلى ضيوفهن. هنالكم اجتمعت ذكرى الماضي وصور الحاضر وأماني المستقبل، في أصوات هؤلاء الناشئات العربيات. فكان هذا ثقلا على القلب فزع منه إلى العيون يستنجد دمعها فذكرت قول البحتري:

وقفة بالعقيق نطرح ثقلاً

من دموع بوقفة في العقيق

ورأيت أحد الأصدقاء من أدباء دمشق يغالب دمعه. وقد لقيني من بعد فقال: تبين لي أنا لم نكن وحيدين في الشجى، وأن غيرنا غلبته عبراته في هذا المقام. وما كانت هذه العبرات إلا أمشاجاً من الفرح والحزن، والألم والأمل، والحماس والعطف. وما لا يستطاع الإعراب عنه من أشجان غامضة، وعواطف مبهمة يجمعها كلها اضطراب النفس بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، واغتباطها وطربها بما ترى وتسمع وتتخيل.

ومررنا بين الجموع لنستأنف السير فقال لي أحد الشبان: أهذه رحلة أخرى يا أستاذ؟. قلت وعيناي أفصح من لساني: أجل! رحلة جميلة جليلة ألحقها برحلاتي الماضية.

إدلب مركز قضاء سكانها زهاء عشرة آلاف. وهي معروفة بالزيتون والقطن والبطيخ. ولكثرة الزيت بها عرفت بصناعة الصابون حتى سميت إدلب الصابون. كذلك أخبرني بعض الرفقاء من الشام.

وبعد مسيرنا عن إدلب علونا أرضاً جبلية فسرنا في حدور وصعود حتى جئنا جسر الشغور. وهو قرية كبيرة عبرنا عندها جسراً على مجرى ماء، وشرعنا نصعد بعدها جبالاً عالية مخضرة، ومازلنا صاعدين وهابطين حتى وقفنا عند أشجار باسقة ظليلة عندها مسيل ماء قليل ينصب في حوض، ويسمى قسطل العجوز. وكانت الساعة إذ ذاك اثنتي عشر وربعاً. ويقول ياقوت: القسطل بلغة أهل الشام الموضع الذي تغترف منه المياه، وهناك استقبلنا وفد من الصحفيين قدم من اللاذقية. وكثرت على طريقنا أشجار الصنوبر. وما زالت الطريق تتمعج بنا على سفوح الجبال وفي الأودية. وكلما جزنا جبلاً لقينا أعلى منه وأروع، حتى استقبلنا طريق صعود على سفح جبل شاهق، وشفا واد هائل، فلما شارفنا القمة وقفت السيارات بغتة ولما تبلغ مأمنها من القمة. قلنا ما الخطب؟ فإذا سيارة تشتعل

ص: 7

فيها النار ليست من سيارات الركب. فزع بعضنا لهذه الوقفة في هذا المكان المخوف، ولهذا الحريق المفاجئ فنزلوا من السيارات مسرعين إلى جانب الطريق. وبينما الأستاذ المازني يتجنب هذا الخطر بعد أن نال منه الإعياء في هذا السير الشاق تقدم إليه سائل يسأله عن مطلع قصيدة لأحد الشعراء، فنال القصائد والشعراء ما نالهم من غضبة المازني.

وبعد الكلال والملال وطول السؤال بلغنا مقصدنا حرش باير. وهو حرج على قمة عالية مشرف على البحر يطلع السائر فيه على مناظر جليلة جميلة رائعة على السفح الغربي المفضى إلى الساحل، وكان هناك موعدنا للغداء في ضيافة الأديب العالم الأمير مصطفى الشهابي متصرف اللاذقية (أو متصرف جبل العلويين، واللاذقية عاصمة الجبل) وقد نعمنا بالراحة بعد التعب، والطعام بعد الجوع، وأنسنا بجماعة من التركمان يزمرون ويطبلون، وكانت جلسة فرحة مكافئة لما سبقها من تعب، وما لحقها من مسير طويل.

ومشينا بعد الغداء قليلا نطل على جمال السفوح الغربية وجلالها وروعتها ويتمنى الشعر والخيال التلبث بها. ثم ركبنا فهبطنا حتى أفضينا إلى سهل خصب يكثر فيه شجر الزيتون. ولما انتهينا إلى الساحل سايرناه شطر الجنوب حتى بلغنا بشق الأنفس المدينة التي نؤمها، وقد رددنا أسمها على الطريق في شعر المتنبي وغيره. كقول أبي الطيب، غفر الله غلوه.

لك الخير غيري رام من غيرك الغني

وغيري بغير اللاذقية لاحق

هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى

ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق

وبلغنا المدينة قبيل الغروب فأسرع بنا النقيب إلى الفندق الذي أعد لنزولنا ولحفلة المعري فندق الكازينو، وهو مشرف على البحر، متصل بأمواجه.

وكانت حفلة أبي العلاء في فناء الفندق بعد الغروب فغص المكان بالمستمعين، وتكلم في أبي العلاء أساتذة من مصر والشام، وأنشدت قصائد تشيد بشاعر العرب الفيلسوف. ثم كان العشاء والسمر في الحديقة من دار الأمير الشهابي فنسى الضيوف هناك ما لقوا من نصب النهار. وفاتتني هذه المأدبة إلا أخبارها، إذ قعد بي الإعياء عن الخروج إليها ورحم الله ابن حمديس.

فإن أك أخرجت من جنة

فأني أحدث أخبارها

وأصبحنا نسير في اللاذقية - وهي مدينة جميلة نظيفة يرجى لها في مستقبل البلاد العربية

ص: 8

شأن عظيم - إلى الشارع الذي سمي شارع أبي العلاء وهو شارع في وسط المدينة ينتهي بعقد قديم من آثار الرومان فيما يظن. سرنا إلى المكان في موكب عظيم والموسيقى تدوي والهتاف بالبلاد العربية يعلو. وتقدم محافظ الإقليم الأمير مصطفى الشهابي فافتتح الشارع فسار الموكب فيه. واللاذقية، على نجد مشرف على البحر فيها كثير من أشجار الزيتون والتين والتوت وفيها بساتين كثيرة يسقيها النهر الكبير ولها مكانة في التجارة وسكانها اكثر من عشرين ألفاً.

وبرحنا اللاذقية والساعة عشر وعشر دقائق نسير صوب الجنوب مع ساحل البحر. وجاوزنا نهيراً صغيراً يسمى نهر أبي علي اخبرني الرفقاء انه ينحدر من جبل الأقرع ويسير إلى البحر، وضربنا في سهل واسع خصب يمتد بين الساحل وجبال العلويين. ورأينا جبلة على يسارنا في شرقيها جامع ظاهر. وهي مركز قضاء جبلة وحولها بساتين وسكانها زهاء ستة آلاف.

ولجبلة ذكر في الخطوب العظيمة التي انتابت بلاد الشام بأيدي الروم ثم الصليبين. وكانت حين الفتح الإسلامي حصنا للروم فلما جلوا عنه بنى معاوية حصنا آخر وبلدة، وينسب إلى جبلة جماعة من العلماء.

وقاربنا الجبال فسايرناها بعيدين من الساحل، ثم عاج بنا الطريق إلى البحر فمررنا ببلدة بانياس وقلعة المرقب، وما زلنا في طريقنا بين البحر والجبل نمر بقرى قليلة ونعبر جسوراً على مجاري مياه سائلة من الجبال إلى الساحل، ونمر بأشجار من الزيتون في الحين بعد الحين حتى بلغنا طرطوس والساعة إحدى عشرة ونصف. فنزلنا إلى حديقة هناك صغيرة بجانب بناء كنيسة عتيقة سماها بعض الكتاب الأوربيين نوتردام دي طرطوس تشبيها لها بكنيسة نوتردام دي باريس. دخلنا البناء وهو معطل يحتاج إلى الترميم. وكان قد اتخذ مسجدا ووضع له منبر. ولا ريب أن أيدي المسلمين والصليبيين تداولته إبان الحروب الصليبية. وبعد زيارة هذا المسجد جلسنا إلى حوض في الحديقة قليلاً ثم ركبنا بعد نصف ساعة من نزولنا

ومررنا على مقربة من طرطوس بخرائب عمريت. وكانت من مدن الفينيقيين الكبيرة، وبجزيرة أرواد المعروفة في التاريخ.

ص: 9

ثم تركنا البحر وطريق الساحل المؤدي نحو طرابلس بين جبال لبنان والماء، وعطفنا ذات الشمال، فضربنا في إقليم جبلي حتى لاح لنا عن يسارنا بعيداً حصن الأكراد منيفاً على الجبل، يتميز عن القمم ببياضه وارتفاعه. وهو حصن كبير قديم، شارك في خطوب الحروب الصليبية زمناً طويلاً. ويقول ياقوت:

(هو حصن منيع حصين على الجبل الذي يقابل حمص من جهة الغرب). وقال: (وملكه الفرنج وهو لا يزال في أيديهم إلى هذه الغاية، وبينه وبين حمص يوم. ولا يستطيع صاحبها انتزاعه من أيديهم.)

ثم سايرنا النهر الكبير الذي يسير حيناً مع حدود لبنان. وسألنا هناك كم بيننا وبين حمص، فقيل: أربعون كيلا. وجاوزنا بعد قليل تل كلح، وهي قرية صغيرة على سكة الحديد بين حمص وطرابلس.

والآن نطوي الطريق قراه ومزارعه لنستقبل جنات العاصي الناضرة تحي القادم إلى حمص وتبشره بدخولها.

ودخلنا حمص نضرها الله والساعة اثنتان من المساء.

فبدأنا بزيارة الزعيم الكبير السيد هاشم الأتاسي، رئيس الجمهورية قبلاً. وكانت رؤيته بلوغ أمل قديم. فنعمنا بالحديث معه في داره على قدر ما وسع الوقت الضيق. ثم خرجنا إلى الروضة، إحدى حدائق حمص العامة، وكان في ظلال الشجر أخذنا بأطراف الحديث، ثم اجتمعنا على المائدة.

وتكلم هناك الأستاذ عارف النكدي، وتلوته بكلمة. وكان لا بد لي أن أتكلم في حمص إعراباً عما جاش في نفسي من ذكر الماضي والحاضر حين دخلتها، ومما قلت:

(يملأ نفسي إعجاباً وروعة وفخاراً، أن أقف على مقربة من أعظم تمثال للبطولة المجاهدة المخلصة المطيعة، ضريح خالد بن الوليد رضى الله عنه. . .

ياقومنا، إن الفرصة قد سنحت، والزمان ضنين بفرصه، والفرص سريع مرورها، فاحذروا أن تناموا والخطوب يقظي، أو تبطئوا والزمان يسرع، أو تقفوا والفلك يدور، أو تهزلوا والزمان يجد. ألا إن تكاليف المجد شاقة، ومطالبه صعبة، وغاياته بعيدة، ولكن في ضمان العزائم المجتمعة، وفي كفالة النفوس الأبية تذليل الشاق، وتيسير الصعب، وتقريب البعيد.

ص: 10

فأجمعوا أمركم، واجمعوا كلمتكم. وتقدموا إلى العمل بقلوب ملؤها الرجاء والأمل، ورؤوس ملؤها الحكمة والروية، وأيد ملؤها النشاط والقوة. . . الخ الخ

وفصلنا من حمص والساعة أربع وثلث راجعين أدراجنا إلى دمشق الحبيبة.

وكان في دمشق ختام عيد أبي العلاء يوم الأحد رابع عشر شوال من سنة أربع وستين وثلثمائة وألف (أول تشرين الأول سنة 1944)

عبد الوهاب عزام

ص: 11

‌محمد بن عبد الملك الزيات

للأستاذ عبد الطيف ثابت

(تتمة ما نشر في العدد ى612)

وكما يسرف محمد بن عبد الملك في الظلم والقسوة، فلا يكاد يقع تحت يده مأخوذ بجريرة حتى يعاقبه أشد العقاب، وينتقم منه أقسى الانتقام، ناسياً أن الله بالمرصاد لكل ظالم قاس، وأن الزمن يومان يوم له ويوم عليه - يسرف كذلك في انتقاد الشعراء والكتاب، يدفعه إلى هذا غلوه في اعتزازه بنفسه، وثقته بعلمه وأدبه، ناسياً أن له عيوباً ومثالب شأن كل إنسان، فإذا لم يرفق بمن ينتقدهم فليس يرفق به منقذوه.

كتب عبد الله بن الحسن الأصبهاني وهو على ديوان الرسائل إلى خالد بن يزيد (إن المعتصم ينفخ منك في غير فحم، ويخاطب أمراً غير ذي فهم) فلما وقف عليه محمد بن عبد الملك قال: (هذا كلام ساقط سخيف، جعل أمير المؤمنين ينفخ بالرزق كأنه حداد).

ثم كان أن كتب محمد بن عبد الملك إلى عبد الله بن طاهر يقول:

(وأنت تجري أمرك على الأربح فالأربح، والأرجح فالأرجح، لا تسعى بنقصان، ولا تميل برجحان). فقال عبد الله الأصبهاني: (الحمد لله قد أظهر سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته من التجارة بذكره ربح السلع ورجحان الميزان ونقصان الكيل والخسران من رأس المال). فلم يلبث الأصفهاني أن انتصف منه، وقد حقدها عليه ابن الزيات حتى نكبه.

وذكر يحيى بن خاقان فانتقصه، وقال عنه: هو مهزول الألفاظ، عليل المعاني، سخيف العقل، ضعيف العقيدة، واهي العزم، مأفون الرأي. وهذا نقد، ولكنه ليس على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها النقد. وهو ناقد ولكنه في الواقع لا ينقد، وإنما يسخر سخرية من يرى الناس دونه، ويتهكم تهكماً لاذعاً لا ترتاب في أن باعثه الحقد على من يرى لهم في سماء المجد الأدبي سطوعاً، كما يحقد على من تعلو درجاتهم في الحياة فيماثلونه في دولته أو يقاربونه. ولم يكن على رغم سلطانه وقوته ننجوة من التهكم به كما يتهكم، أو السخرية كما يسخر، ولعل أشد من تهكموا به وسخروا منه في جرأة المغيظ المحنق إبراهيم الصولي الذي يقول له:

أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة

وقصر قليلا عن مدى غلوائكا

ص: 12

لئن كان هذا اليوم يوما حويته

فإن رجائي في غد كرجائكا

ويقول فيه:

قلت لها حين أكثرت عذلي

ويحك أزرت بنا المروءات

قالت فأين السراة قلت لها

لا تسألي عنهمو فقد ماتوا

قالت ولم ذاك قلت لها

هذا وزير الإمام زيات

ويقول له:

فإن تكن الدنيا أنالتك ثروة

فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر

فقد كشف الإثراء منك خلائقا

من اللؤم كانت ثوب من الفقر

ويقول فيه:

من يشتري مني إخاء محمد

أم من يريد إخاه مجانا

أم من يخلص من إخاء محمد

وله مناه كائنا ما كانا

ونظن أن محمد بن عبد الملك الذي يقول: (الرحمة خور في الطبيعة وضعف في المنة) ويقول: (ما رحمت شيئا قط) والذي يكثر أعداؤه وحساده، حتى يضيق بهم ويضيقوا به، وينال منهم وينالوا منه - تظن أن هذا الرجل لا يعرف قلبه الرفق ولا اللين ولا تحس نفسه شيئا من الأحاسيس التي تحمل على الرقة وتدفع إلى العطف، وتلفت العقل إلى ما لا يهنأ العيش به، ولا تجمل الحياة إلا بطلبه، ولعلك تستبعد أن يكون منه ما يكون من ذوي القلوب الرقيقة فيواد أو يتعشق أو يتنادر، فلا تنس أنه شاعر فهو في الواقع يجمع بين جفاء الحاكم القاسي القلب، ورقة الشاعر الذي يحس بما في الحياة من لذة وألم، وعرف ونكر.

اعتل الحسن بن وهب كاتبه، فتأخر عنه أياما كثيرة لا يأتيه رسوله ولا يتعرف خبره، فكتب إليه الحسن:

أيهذا الوزير أيدك الل

هـ وأبقاك لي بقاء طويلا

أجميلا تراه يا أكرم النا

س لكيما أراه أيضاً جميلا

إنني قد أقمت عشرا عليلا

ما ترى مرسلا إلي رسولا

إلى آخر أبيات رقيقة تضمنت عتبا رقيقا فأجابه محمد:

ص: 13

دفع الله عنك نائبة الده

ر وحاشاك أن تكون عليلا

أشهد الله ما علمت وماذا

ك من العذر جائزا مقبولا

إنني أرتجي وإن لم يكن ما

كان مما نقمت إلا جليلا

أن أكون الذي إذا أضمر الإخ

لاص لم يلتمس عليه كفيلا

فاجعلن لي حظ التعلق بالقد

ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا

فقديما ما جاد بالصفح والعف

ووما سامح الخليل الخليلا

واستقى منه الحسن نبيذاً وهو مع المعتصم ببلاد الروم فسقاه وكتب إليه:

لم تلق مثلي صاحبا

أندى يدا واعم جودا

يسقي النديم بقفرة

لم يسق فيها الماء عودا

صفراء صافية كأ

ن بكأسها درا نضيدا

وأجود حين أجود لا

حصراً بذاك ولا بليدا

وإذا استقل بشكرها

أوجبت بالشكر المزيدا

وكتب إليه راشد الكاتب وقد عاد من الحج

لا تنسى عهدي ولا مودتيه

واشتق إلى طلعتي ورؤيته

فان تجاوزت ما أقول إلى العصب

فذاك المأمول منك ليه

فأجابه محمد:

يا بأبي أنت ما نسيتك في

يوم دعائي ولا هديتيه

ناجيت بالذكر والدعاء لك الله

لك الله رافعاً يديه

حتى إذا ما ظننت بالملك ال

قادر أن قد أجاب دعوتيه

قمت إلى موضع النعال وقد

أقمت عشرين صاحبا معيه

وقلت لي صاحب أريد له

نعلا ولو من جلود راحتيه

ثم تخيرت بعد ذاك من ال

عصب اليماني بفضل خبرتيه

موشية لم أزل ببائعها

أرغب حتى زها علي بيه

وعشق جارية من جواري القيان، فكان منه ما يكون من العشاق ذوي القلوب الرقيقة ثم بيعت الجارية لرجل من أهل خراسان وخرج بها، فذهل عقل ابن الزيات حتى غشي

ص: 14

عليه، وفيها يقول:

يا طول ساعات ليل العشاق الدنف

وطول رعيته للنجم في السدف

ماذا تواري ثيابي من أخي حرق

كأنما الجسم منه دقة الألف

ما قال يا أسعفا يعقوب من كمد

إلا لطول الذي لاقى من الأسف

من سره أن يرى ميت الهوى دنفاً

فليستدل على الزيات وليقف

ويتمادى بدافع من التظرف في التشبه بشعراء المجون من أبناء عصره فيظهر الوله بغلام رآه على فرس، ويتغزل فيه على سنتهم ولا يأنف أن يذكر به، بل هو يتمنى أن لو كان فارس ذا الفارس وتؤثر عنه أمثلة من التنادر، تصور ما طبعت عليه نفسه من رقة وظرف في بديهة حاضرة وخاطر سريع وإن ظهر في بعضها متهكما ساخراً، وهو يقدر ما يجابه به أو يكتب إليه من ظريف التنادر فيطرب ويضحك، ويوقع في جو الطرب والضحك بما يريد المتنادر، بل قد يقربه إليه ويصطنعه.

فمن ذلك أنه جلس يوما للمظالم، فلما انتهى المجلس، رأى رجلا جالساً فسأله ألك حاجة؟ قال نعم، أدنني إليك فإنني مظلوم وقد أعوزني الإنصاف. قال ومن ظلمك؟ قال أنت، ولست أصل إليك فأذكر لك حاجتي. قال ومن يحجبك عني؟ قال يحجبني عنك هيبتي لك، وطول لسانك، وفصاحة قولك، واطراد حجتك. قال ففيم ظلمتك؟ قال أخذ وكيلك ضيعتي الفلانية غصباً، فإذا وجب عليها خراج اديته باسمي لئلا يثبت لك ملكها، فوكيلك يأخذ الغلة وأنا أؤدي الخراج، فهل سمعت بمثل هذا في الظلم؟ فقال محمد قولك هذا تحتاج عليه بينة وشهود وأشياء، فقال له الرجل أيؤمنني الوزير حتى أجيب؟ قال نعم أنت آمن. قال البينة هم الشهود، وإذا شهدوا فليس يحتاج معهم إلى شئ، فما معنى قولك بينة وشهود وأشياء؟ إيش هذه الأشياء إلا العي والتغطرش! فضحك وقال صدقت، والبلاء موكل بالمنطق، وإني لأرى فيك مصطنعا، ثم وقع له برد ضيعته.

ومن ذلك أن أبا دهمان المغني سرق منه منديلا ديبقيا، وأخفاه تحت عمامته، وبلغه فقال.

ونديم سارق خاتلني

وهو عندي غير مذموم الخلق

ضاعف الكور على هامته

وطوى منديلنا طي الخرق

يا أبا دهمان لو جاملتنا

لكفيناك مؤونات السرق

ص: 15

ومن ذلك أن آفة لحقت غلات أهل البت من جراد وعطش فكلمه جماعة منهم، فوجه ببعض أصحابه ناظراً في أمرهم، وكان في بصره ضعف، فكتب إليه محمد بن علي البتي.

أتيت أمراً يا أبا جعفر

لم يأته بر ولا فاجر

أغثت أهل البت إذ أهلكوا

بناظر ليس له ناظر

فبلغه فضحك ورد الناظر ووقع لهم بما سلوا بغير نظر. ولم يكن محمد بن عبد الملك مع هذا مؤثرا موادة منافسيه ولا محسنا مصانعتهم، اعتماداً على أنه أعظم معاصريه شأنا وأخبرهم بتدبير الأمر فلا يسهل على الخلفاء أن يجدوا عنه عوضا، ولكن أعداءه وهم كثيرون وعلى رأسهم القاضي أحمد بن أبي دؤاد أخذوا يكيدون له، ويوغرون عليه صدر الخليفة الواثق هرون الذي كان عليه ساخطا في أيام والده المعتصم، حتى لقد حلف يمينا مغلظة أنه ينكبه إذا صار الأمر إليه ثم يتولى الخلافة الواثق، فيستقبله أبن الزيات ببيتين هما من قوله في رثاء المعتصم.

قد قلت إذ غيبوك وانصرفوا

في خير قبر لخير مدفون

لن يجبر الله أمة فقدت

مثلك إلا بمثل هرون

ويأمر الواثق الكتاب أن يكتبوا ما يتعلق بأمر البيعة، فلا يأتي على ما في نفس الواثق في هذا الأمر إلا ابن الزيات فيرضى عنه، ويقره على ما كان في أيام المعتصم، ويكفر عن يمينه. ثم يتولى المتوكل الخلافة متسخطا على ابن الزيات، لأنه كان يتجهمه حين يدخل عليه في أيام الواثق، ويغلظ له القول يتقرب بذلك إلى قلب الواثق، ولأنه أشار بتولية ولد الواثق دون المتوكل، ويجد القاضي أحمد بن دؤاد في إغرائه به، فيجد لذلك عنده موقعاً. ويجيبه بعد أربعين يوماً من توليه الخلافة فيقبض عليه، ويقيده بما زنته خمسة عشر رطلا من الحديد، ويأمر بإدخاله في التنور الذي كثر ما عذب فيه معاقبيه في غير رحمة، ثم يراجع المتوكل الرأي فيه، ويرق له فيأمر بإخراجه، ويبادرون إليه فيجدونه قد مات.

عبد اللطيف ثابت

ص: 16

‌على هامش النقد

المدينتان

1 -

دمشق: للأستاذ محمد كرد علي

2 -

بغداد: للأستاذ طه الراوي

للأستاذ سيد قطب

أحببت أن أجمع بين هذين الكتابين في مقال؛ لأن جميع الأسباب توحي بهذا الجمع. فكلتا المدينتين حاضرة خلافة إسلامية في القديم ودولة عربية في الحديث. وكلتاهما كانت مقر نهضة ثقافية ومهبط حضارة إسلامية في التاريخ، كما أن كلتيهما اليوم تتطلعان إلى فجر جديد. ثم اتفق أن يكون الكتابان حلقتين في سلسلة (اقرأ) وأن يكتبهما كاتبان عربيان متعاصران، وأن يسلكا فيهما نهجا واحداً في التأليف على وجه التقريب!

وقبل أن أحكم على هذا النهج، أحب أن أطلع القارئ عليه كي يشترك معي في الحكم الأخير:

من عنوانات الكتابين المتتالية يتضح هذا النهج بعض الوضوح. فهذا كتاب دمشق يبدأ هكذا ويسير:

(دمشق وطبيعتها) ثم (تاريخ دمشق السياسي: تاريخ دمشق القديم. دمشق قبل الفتح العربي. دمشق في الإسلام. دمشق في عهد العباسيين. دمشق في عهد ملوك الطوائف. دمشق في عهد السلجوقيين. دمشق على عهد الدولتين النورية والصلاحية. دمشق على عهد المماليك. دمشق في عهد الدولة العثمانية. دمشق في العهد الأخير).

فإذا انتهى التاريخ السياسي على هذا النحو بدأ (التاريخ العمراني) على النحو نفسه متتابعاً من التاريخ القديم إلى الحديث. حتى إذا انتهى من تاريخ عمارتها ابتدأ (وصف القدماء والمحدثين لدمشق). فإذا انتهى هذا الوصف بالترتيب الزمني تحدث عن (سكان دمشق وخصائصهم). حتى إذا انتهى هذا الفصل تحدث عن (الحياة الأدبية والفنية والصناعية) في تدرجها حتى العهد الأخير مع تقسيم هذه (الحياة) إلى أقسام كل منها له بدء ونهاية حسب التدرج التاريخي (فالعلم والأدب لهما فصل منفرد و (الفنون الجميلة) لها فصل كذلك

ص: 17

ومثلها: (صناعات دمشق) و (تجارة دمشق). ثم يفرد المؤلف فصلا عن (غوطة دمشق) لأن لهذه (الغوطة) شأنا خاصاً وفي هتافات الشعراء بنوع خاص.

أما كتاب بغداد فتسير عنواناته على النحو التالي:

(بغداد) ويشمل بحثا عن معنى الكلمة وتاريخها. (خبر بنائها. سبب الاختيار. البدء بالبناء) ثم (شذرات من سجايا البغداديين وشمائلهم) ثم (شذور من أقوال أهل الفضل فيها نظما ونثرا). ثم (خلاصة التاريخ السياسي لبغداد) مقسما إلى ثلاثة أبواب لكل باب فصول تتمشى مع تمشي الزمن إلى اليوم. ثم تاريخ عمارة بغداد ويسميه المؤلف (الخطط والآثار) فإذا انتهى من تعدادها وبيان أماكنها تحدث عن (الحياة العقلية) مقسمة إلى (العلوم الشرعية) و (العلوم الكونية) و (العلوم اللسانية) مع فصل كل منها عن الأخرى وتنبع خطواته. ثم إذا انتهى تحدث عن (الشعر والشعراء) في عجلة واختصار.

هو نهج واحد سار عليه المؤلفان، الاختلاف فيه هو اختلاف الأداء واختلاف المستوى. ولكنه ليس اختلاف النهج ولا اختلاف الطريق.

وهو نهج لا نوافق عليه في الكتابة عن (المدن) في هذا الزمان. وإن لم ننكر ما يفيد منه القارئ العجلان من بعض (المعلومات).

أقول (المعلومات) وهي كل ما يضطلع هذا النهج بتقديمه للقارئ. ولكنها معلومات مبعثرة بعثرة هذه العنوانات التي أسلفها. مسوقة بطريقة بدائية في التأليف إذا قبلناها من مثل صاحب (تاريخ بغداد) و (خطط المقريزي) و (تاريخ ابن الأثير) وسواهم في الزمن القديم، فلسنا نقبلها من مؤلف عربي في القرن العشرين؛ نتطلب منه أن يخطو خطوة وراء (المعلومات) المتناثرة. خطوة التنسيق الفني. وخطوة (التشخيص) والإحياء.

أقول (التشخيص) وهو أفضل مناهج الكتابة عن (المدن) في هذا الأوان. . .

فالمدينة يجب أن يكتب عنها كما يكتب عن (الشخص) الحي، والشخص الحي وحدة تنمو كاملة بمرور الأيام، ولا تنمو أجزاء وتفاريق. لا ينمو جسم (الشخص) الحي وحده، وينمو عقله وحده، وتنمو نفسه وحدها. وإذا تحدثنا عنه فلسنا نبدأ بنموه الجسمي فنتحدث عنه من مولده إلى وفاته. ثم نكر راجعين إلى عقله من البدء للنهاية. ثن نكر للمرة الثالثة إلى نفسه على التوالي. إنما نحن نتناول مراحل حياته فنسجل مظاهر النمو في كل قواه التي لا

ص: 18

تنفصل ولا تتجزأ؛ والتي يموت الكائن الحي فيه إذا نحن فصلناها وجزأناها!

وتاريخ حياة (المدن) كتاريخ حياة (الأشخاص) لا ينفصل فيه النمو السياسي عن النمو العمراني عن النمو العقلي عن النمو الفني. إنما يسير هذا كله وحدة لا تتجزأ في المرحلة الواحدة، وتسير المراحل المتتالية متواصلة كالأمشاج، متفاعلة كالعناصر المختلفة في المزاج.

يجب أن تطالعني (دمشق) أو تطالعني (بغداد) بنية حية؛ تبدأ صغيرة، ثم تنمو وتنمو، ثم تتعاقب عليها الأحداث فتترك آثارها في هذه البنية الحية، التي لا تنفصل ذراتها لأنها لا تزال على قيد الحياة.

يجب أن يجتهد المؤلف في (إحياء) هذه المدينة، حتى تبرز لي شخصية متماسكة حية تعاطفني؛ وأعاطفها؛ وحتى أساير خطاها في الزمان بقلب جياش يطلع منها على ضمير منفعل، وحركة مثيرة؛ أو على حسن خامد وغفوة هامدة، أو على صراع مع الأحداث والأيام، تواجهه بقلب الكائن الحي، الذي يضطرب وينبض للأحداث والأيام.

فأين هذا كله من كتابي (دمشق) و (بغداد)؟

تبقى الموازنة بين الكتابين في دائرتهما المتواضعة! وكثيرون من الناس يشفقون من الموازنة بين الأحياء؛ وينصحون لي بالكف عن هذه الموازنات التي تثير الغيرة والخصومات!

وأنا لا أومن بهذه النصائح التي تنشأ من (تقاليد الصالونات) تلك التقاليد الناعمة الرقيقة، التي لا يمكن أن تبرأ من الجبن والنفاق. في الوقت الذي تبرأ من أعظم عناصر الحيوية، الحسم والحماسة!

كتاب (دمشق) أوسم واثمن من كتاب (بغداد) والتماسك بين مباحثه المتفرقة أدق وأعمق. ونفس المؤلف فيه أقوى وأطول. وقد عرف المؤلف حدود المجال الذي يضطرب فيه فلم يزج بنفسه في مباحث (كبيرة) لم يتهيأ لها في هذه الحدود.

مثال ذلك ما زج بنفسه فيه مؤلف كتاب (بغداد) من الحديث عن خصائص الشعر البغدادي. ذلك الموضوع الخطر الذي يحتاج الحديث عنه إلى فطرة موهوبة، وإلى بحث كذلك عميق. فلم يزد فيه على الملخصات المدرسية المعروفة. من ذلك قوله:

ص: 19

(والناقد البصير مضطر إلى الاعتراف بما لشعراء بغداد النابتين فيها والطارئين عليها من الفضل على الشعر في تنويع أغراضه، وابتكار البارع من معانيه وأخيلته، ونشر الآراء الحرة والمذاهب الجديدة، والبراعة في رسم الصور المبتكرة في الأوصاف وغيرها. كما أنه عليهم تقع تبعة إذاعة الزندقة والتشكيك في العقائد، والاسترسال وراء الأهواء. وهم أول من فتح باب الغزل في المذكر، أو - على الأقل - هم أول من وسع هذا الباب، وأغرقوا فيه أيما إغراق. كما أنهم أول من وسع هذا الباب، وأغرقوا فيه أيما إغراق. كما أنهم أول من وسع باب المجون وغالوا فيه غلواً تستنكره الطباع السليمة والنفوس المستقيمة، ولم يكترثوا لما يتقيد به المؤمنون من كرائم الخلال، ومحامد الخصال وأكثر المندفعين في هذه المسالك من الموالي الذين لم يملأ الإيمان صدورهم، ولا ارتاحت إلى عقولهم من أمثال بشار بن برد وحماد عجرد وحسين بن الضحاك وأبي دلامة. . . الخ)

ثم يجمل ما جد من الشعر ببغداد في نقط كالنقط المدرسية في مذكرات التلاميذ:

(1 - الركون إلى الأنيس من الألفاظ وهجر الغريب الحوشي.

2 -

الإكثار من الألفاظ الدخيلة ولا سيما الدالة على أنواع الخمور وضروب الأزهار وأصناف الأطعمة.

3 -

استعمال مصطلحات العلوم التي كثرت في هذا العصر.

4 -

الاهتمام بالمحسنات البديعية اللفظية منها والمعنوية كالجناس والتورية ورد العجز على الصدر والطباق. وأكثر الشعراء ولعاً بهذه المحسنات مسلم بن الوليد وأبو تمام وعبد الله بن المعتز

5 -

الميل إلى سلامة التراكيب وانسجامها مع الاحتفاظ بجزالة الأسلوب وظهور المعنى).

وعلى النسق نفسه يسرد ما جد في (معاني الشعر وأخليته) وما جد في (أغراضه وفنونه):

واعتقد أن الكتابة على هذا النحو لا تصلح لغير التلاميذ.

وبعد ففي الكتابين كما قلت (معلومات) مفيدة في اختصار ينفع المتزود العجلان. ولكن هذه المعلومات كان يمكن أن تستحيل لبنات متماسكة في بناء الكتابين لو سار المؤلفان الفضلان على منهج (التشخيص) والإحياء الذي أسلفا بيان خصائصه.

وإذا كان للنقد وظيفة فليست وظيفته هي تغيير طبائع المؤلفين المخلوقة، ولا زيادة طاقاتهم

ص: 20

المحدودة؛ ولكن وظيفته أن يوجه الأنظار إلى المنهاج الأقوم ليسلكه من يملك الطبيعة، ومن يطيق السلوك فيه.

سيد قطب

ص: 21

‌13 - القضايا الكبرى في الإسلام

قتل مالك بن نويرة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

كان مالك بن نويرة التميمي اليربوعي شاعراً شريفاً، معدوداً في فرسان بني يربوع الجاهلية وأشرافهم، وبلغ من أمره أنه كان يضرب به المثل فيقال: مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصداء، وفتى ولا كمالك. وبلغ من شرفه أنه كان يردف الملوك، وللردافة موضعان إحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو غيره من مواضع الأنس. والموضع الثاني أنبل وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم، فينظر بين الناس بعده. ولكنه كان فيه خيلاء، لما كان يرى من نبله وجماله.

وقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فيمن وفد عليه من العرب، فاستعمله على صدقات قومه بني يربوع، وقد مات صلى الله عليه وسلم وهو عامل على تلك الصدقات فلما بلغه موته اضطرب فيها فلم يحمد أمره، وفرق ما في يده من إبل الصدقة، فكلمه القرع بن حابس والقعقاع بن معبد فقالا له: إن لهذا الأمر قائماً وطالباً، فلا تعجل بتفرقة ما في يدك. فقال:

أراني الله بالنعم المندى

ببرقة رحرحان وقد أراني

تمشي يا ابن عوذة في تميم

وصاحبك الأقيرع تلحياني

ويعني أم القعقاع، وهي معاذة بنت ضرار بن عمرو.

وقال أيضا:

وقلت خذوا أموالكم غير خائفٍ

ولا ناظر فيما يجيء من الْغَدِ

فإن قام بالأمر المُخَوَّف قائمٌ

منعنا وقلنا الدِّينُ دينُ مُحمدِ

يعني أنهم لا يدينون إلا له، فإذا مات لا يدينون بعده لانتفاء أمر النبوة.

فلما فعل مالك ذلك في كثير من العرب الذين ارتدوا ومنعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل أبو بكر إليهم خالد بن الوليد وغيره في جيوش من المهاجرين والأنصار، وكان فيما أوصاهم: إذا نزلتم فأذنوا وأقيموا، فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شئ إلا الغارة، ثم اقتلوا كل قتلة الحرق فما سواه، فإن أجابوكم إلى داعية

ص: 22

الإسلام فسالموهم، فإن هم أقروا بالزكاة قبلتم منهم، وإلا فلا شئ إلا الغارة ولا كلمة.

وقد قصد خالد بن الوليد مالكاً بعد أن فرغ من أسد وغطفان وغنى، فلما علم مالك بقصده ندم وتحير في أمره، ففرق قومه في أموالهم ونهاهم عن الاجتماع، فلما وصل خالد إلى مكانهم لم يجد فيه أحداً، فبعث السرايا وأمرهم برعاية وصية أبي بكر رضى الله عنه، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع وغيرهم، وقد اختلفت السرية فيهم، وكان أبو قتادة رضى الله عنه فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد بحبسهم، وكانت ليلة باردة لا يقوم لها شئ، وجعلت تزداد برداً، فأمر خالد مناديا فنادى: أدفئوا أسراكم. وكان في لغة كنانة إذا قالوا: ادفأنا الرجل وأدفئوه، فذلك معنى اقتلوه، وفي لغة غيرهم: أدفئوه من الدفء. فظن القوم أنه يريد القتل، فقتلوهم على هذا الظن، وكان ضرار بن الأزور هو الذي قتل مالكا، فخرج خالد وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه. وقد وقع خلاف بين القوم في قتلهم، وقال أبو قتادة لخالد: هذا عملك. وقد عاهد الله ألا يشهد حرباً بعدها أبداً.

وهناك رواية أخرى أراها أقرب من هذه الرواية، وهي أن خالداً راجع مالكا فيما فعله، فقال له مالك: إني آتي بالصلاة دون الزكاة. فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً، لا تقبل واحدة دون أخرى. فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك. ففهم خالد أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: وما تراه لك صاحباً، والله لقد هممت أن أضرب عنقك. ثم تجاولا بالكلام طويلا، فقال له خالد: إني قاتلك. فقال له مالك: أو بذلك أمرك صاحبك؟ فقال له خالد: وهذه بعد تلك، والله لأقتلنك. ثم قدمه فضرب عنقه وعنق أصحابه، وقد اختلفوا أيضاً في قتلهم على هذه الرواية، ومن يؤاخذ خالداً يرى أن هذا ليس بصريح في الكفر، لأن مثل هذا يمكن أن يعد من جفوة الأعراب، ويجوز أن يكون قد عنى بصاحبه أبا بكر

وكان لمالك امرأة فائقة في الجمال، تسمى أم تميم بنت المنهال، فلما قتله خالد تزوج امرأته قبل أن يستبرئها، ثم تركها حتى ينقضي طهرها، فأكثر في ذلك القالة على نفسه، حتى أتهمه أناس بأنه إنما قتله لأجل أن يخلفه عليها.

فلما قتل مالك قصد أخوه متمم بن نويرة أبا بكر ينشده دم أخيه، ويطلب إليه في سبيلهم،

ص: 23

وكان شاعراً جيد الشعر، فلما وصل المدينة صلى مع أبي بكر الصبح، ثم أنشد:

نعم القتيل إذا الرياح تناوحتْ

تحت الإزار قتلتَ يا ابن الأزْوَرِ

أدعوته بالله ثم قتلَتهُ

لَوْ هُو دعاك بذمة لم يغدر

فقال أبو بكر: والله ما دعوته ولا قتلته. فقال:

لا يضمر الفحشاء تحت ردائه

حلو شمائُلهُ عفيف المِئزَرِ

ولنعم حشو الدرع أنت وحاسراً

ولنعم مأوى الطارق المُتَنَوِّر

ثم بكى حتى سالت عينه، ثم انخرط على سية قوسه مغشياً عليه، ولما أفاق طلب من أبي بكر دم أخيه، وأخذ يدافع عن قضيته بالشعر والنثر أحسن دفاع، ومضى يطري أخاه ويذكر محاسنه ويرثيه حتى لفت أهل المدينة إليه، وصار شعره حديث أنديتهم ومجالسهم، ومن ذلك قصيدته المشهورة في الرثاء، وهي معدودة من عيون المراثي:

لَعَمْريِ وما دهري بتأبين مالكٍ

ولا جَزِعٌ مما أصاب فأوجعَا

لقد كَفَّنَ المنهال تحت ردائه

فتى غير مِبْطَان العَشيّات أرْوَعَا

وقد صلى يوماً الصبح مع عمر بن الخطاب، فلما انفتل من صلاته سأل عنه فقيل إنه متمم بن نويرة ، فاستنشده قوله في أخيه، فأنشده هذه القصيدة حتى بلغ إلى قوله:

وكنا كندمانيْ جذيمة حقبةً

من الدهر حتى قيل لن يتصَّدَعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا

لطول اجتماع لم نَبِت ليلةَ مَعَا

فقال عمر: هذا والله التأبين، ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيدا بمثل مارثيت به أخاك.

وكان عمر رضى الله عنه من الذين رأوا مؤاخذة خالد بقتل مالك وتزوجه امرأته قبل استبرائها، فذهب إلى أبي بكر وقال له: إن في سيف خالد رهقا، وحق عليه أن يقيده. وأكثر عليه من ذلك.

فلما رأى أبو بكر ذلك كتب إلى خالد أن يقدم عليه، فأقبل قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء، وعليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامة قد غرز فيها أسهما، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع السهم من رأسه فحطمها، ثم قال: أقتلت امرءوا مسلما ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك. فلم يكلمه خالد، وظن أن رأي أبي بكر على رأي عمر فيه.

ص: 24

فلما دخل على أبي بكر سأله عما فعل، فأخبره بما كان منه وذكر عذره فيه، ثم شهد قوم من السرية أن مالكا وقومه أذنوا وأقاموا وصلوا، وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شئ فقتلوا.

فرأى أبو بكر أن خالدا لا يعدو أمره أنه تأول فأخطأ، وأن الشهود مع هذا مختلفون في شهادتهم، والجناية في الشرائع الحديثة يكفي مثل هذا في سقوطها في حال السلم، فما ظنك بحال الحرب، فلا يصح أن يؤخذ خالد بالقود مع هذا وهو ذلك البطل الذي أبلى في حروب الردة أحسن البلاء، حتى قضى على تلك الفتنة التي كادت تقضى على الإسلام في مهده، وتعيد بلاد العرب إلى ما كانت عليه من وثنية مظلمة، وفوضى هادمة مخربة، وما كان مالك إلا ممن أغواهم الشيطان فأوقدوا نار تلك الفتنة في بلاد العرب، فذهبت فيها نفوس كثيرة من المسلمين كانت دماؤهم أذكى من دم مالك، وكانوا أكرم على الله منه، وإذا صح أنه عاد إلى الإسلام فقد عاد إليه والسيف مصلت على رأسه، فهو إسلام محوط بالشك، لا يصح أن يؤخذ فيه إسلام لم يجد الشك إليه سبيلا، ولم تزعزعه الفتن كما زعزعته.

فلما نظر أبو بكر إلى ذلك كله حكم بعذر خالد فيما فعل، وتجاوز له عما كان في تلك الحرب، ولكنه عنفه على مبادرته بتزوج امرأة مالك قبل أن تمضي مدة استبرائها، ثم قضى لمتمم ابن نويرة بدية أخيه من بيت المال، وحكم له برد السبي.

فخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر وعمر لا يزال جالسا بالمسجد، فقال له خالد: هلم إلى يا ابن أم شملة. فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه ودخل بيته.

وقد أصر عمر على رأيه في خالد حتى صارت إليه الخلافة، فكان من أول ما بدأ به أن عزل خالدا من قيادة جيش الشام، وولى مكانه أبا عبيدة بن الجراح، ولاشك أن أبا بكر كان أدق نظراً في هذا من عمر، وقد قال لعمر لما ألح عليه أن يعزله، وقال له أن في سيفه لرهقا: لا يا عمر، لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين.

فرحمك الله يا أبا بكر، لقد عرفت أن مثل خالد من أبطال التاريخ إنما يحيا لأمته، فلا يضيره أن يعزل من قيادة أو نحوها، وإنما يضير ذلك أمته التي تحرم من حسن جهاده، وتتعرض جيوشها للهلاك حين تفقد قائدها المدرب، وبطلها الذي يقودها من نصر إلى نصر، وما الأمة إلا بزعمائها، وما الجيوش إلا بقادتها، فلا يليق أبدا أن نغمط جهادهم بهنة

ص: 25

من الهنات، ولايصح أن ننسى ماضيهم المجيد لزلة من الزلات، فهم بشر مثلنا يصيبون ويخطئون، فيجب أن يعذروا في خطئهم، لأنهم لا يقع منهم من عمد، والعصمة لله وحده.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 26

‌كلمة لابد منها

للأستاذ علي الطنطاوي

ولقد كنت أود أن أجد من نشرها بداً - غير أن ما تنشره صحف مصر ومجلاتها في موضوع الأدب الشامي والتعريف بأهله لمن نعرف ومن ننكر من الكتاب أوجب نشرها - وأنا اعرف قولهم (العبرة بما قيل لا بمن قال) ولكن ذلك في الحقائق التي يستقل العقل بتمحيصها ووزنها، والحكم عليها بالصحة أو الفساد، أما الأخبار الممكنة التي تحتمل الصدق والكذب، كقولنا: إن لفلان أسلوباً بارعاً، وفلان بليغ، وله كذا من الكتب، لمن لم يسمع بفلان هذا ولم يقرأ له، فلا يمكن الحكم عليها بالتصديق أو بالتكذيب، وبالقبول أو بالرد، إلا بعد معرفة حال راويها ومخبرها، ومبلغه من الاطمئنان إلى خبره وحكمه، فإن كان عدلاً ضابطاً، والضبط في الأدب هو التمرس به والذوق فيه وفهمه، والعدالة ألا يميل به حب ولا بغض، وأن يحكم على الرجل بأثره، فلا تمنعه عداوته مجوداً من الثناء عليه، ولا صداقته مسيئاً من نقده. فان كان كذلك قبل خبره وإلا رده، وأنا أقول آسفاً إن مجلات مصر لما فتحت صدرها لمن يعرف قراءها بالمجهول من أدب الشاميين، جاءتها مقالات من أشخاص هم أكثرهم وكبير مطلبه أن يرى اسمه منشوراً في هذه المجلات، ومنهم من لم يكد يضع من قبل سواداً في بياض، فنشرت لهم كل الذي جاءها منهم وحكمتهم في قارب الأدباء، وجعلتهم من أهل الترجيح في الأدب، فكتبوا أشياء لا يفهم منها الجاهل بأدبنا شيئاً، ويضحك منها العارف به أو يشنعوا على صاحبها، ومنها ما يخرج في جملته وتفصيله عن أن يكون دعاية لمن كتبه ولأصحاب الكاتب وأصدقائه، وحشراً لهم بين مشايخ الأدب والمقدمين فيه، ثم كانت الطامة التي لا أقول إنها الكبرى لأني لا أدري ماذا يجيء من بعدها، فنشرت مجلة محترمة مقالة في ذنبها اسم لم نسمع به، خلط فيها صاحبها وخبط، وانتهى به الخلط والخبط أن نحل رياسة الأدب في الشام رجلاً ليس منه في العير ولا النفير، وليس منه فرس ولا بعير. وأشهد لقد ضحكنا منها في مجالسنا كأشد ضحك ضحكناه قط. ولكن القراء لم يضحكوا لأنهم لا يعرفون من الأمر إلا أنه (كف عدس. . .)، ولأنهم يثقون بأن هذه المجلات لا تقدم لهم إلا حقاً، ولا تنشر إلا لأديب أريب.

وأنا لا أنكر منافع (التشجيع) ولقد كتبت فيه وأثنيت على أهله، ولكن هذا التشجيع إذا بلغ

ص: 27

هذا المبلغ صار أذى لن يشجع، وضرراً على الأدب وأهله، لأن من يشجع على الادعاء والغرور والعدوان يؤذي ولا يبقى فيه مصطلح، ويصدق أنه صار زبيبا وإن كان في ذاته حصرماً حامضاً يلذع اللسان ويجرح الحلق، ويكون عند نفسه أستاذاً جليلاً، وعلماً مشهوراً وهو عند الناس تلميذ صغير. . . ولأن الأدب إذا كثر الأدعياء فيه والواغلون عليه، وتصدر الجهلة مجالسة وامتهن العلماء الأبيناء هان الأدب وسقط. وهل في الهوان أهون من أن يكتب (زيد) من الأدباء مائة مقالة، يبذل فيها الغالي من عمره ومن قوته، ومن دم قلبه وضياء عينيه، بعد أن استعد لها بالدرس والتحصيل وسهر الليالي في مدارسة كتب العلم ومطالعة أسفار الأدب، وصرم في ذلك الدهر الأطول فيأتي (عمرو) فيختصر الطريق، ويقفز من فوق الجدران فلا يقرأ شيئاً ولا يكتبه، ولكن يكتب مقالة يقول فيها عن نفسه: إن له مائة مقالة أو يسخر صديقاً له ليقول عنه إنه أحسن من (زيد) ذاك، وأرسخ منه في الأدب قدماً، وأضخم منكباً، وأعلى هامة، ويصدق ذلك القراء ويستوي عندهم الرجلان. أو هو يسب العاملين بدلا من أن يعمل، وينقص أقدار الرجال ليزيد بما ينقص منهم، ويعلو بما يظن أنه يخفض من منازلهم. . .

. . . خبروني بالله إن كنتم تعلمون، كيف يكون التدجيل إن لم يكن هذا تدجيلاً؟!

أما إنني لا أدعو إلى احتكار الأدب وما في سوق الأدب احتكار، ولكن أدعو المجلات المصرية المحترمة أن تتريث في نشر ما يحمله إليها البريد من مقالات النقد والتقريظ والكلام في الأدب وأهله حتى تعرف الكاتب، ومبلغ الثقة يخبره وحكمه، ومكانته في بلده، وألا تدع أسماء الكبار من أدباء الأقطار العربية مضغة في فم كل محب للشهرة، يشتهي أن يكون كاتباً ولم يعد للأمر عدته

وأنا لا ألوم الشباب أن يستمرئوا التدجيل ويستسهلوا طريقة، ويستصعبوا الجد والدأب ودخول البيوت من أبوابها. فهذا هو شأن الشباب، وكلنا كان كذلك أو كان قريباً منه، ولكنا لم نجد مجلات تعيننا عليه ووجدوها، وها أنذا قد دانيت الأربعين، وأظن أني كتبت من الصحائف المنشورة ما يزن أرطالاً، وإني والله ما أبعث اليوم بمقالة إلى مجلة إلا مستحيياً منها ألا تكون للنشر صالحة، وخائف أن تصير لقي، أفلا يحق لنا أن نعجب من صفاقة أقوام من هؤلاء الكاتبين وأن نعتب على هذه المجلات المحترمة، إذ تضع الشيء في غير

ص: 28

موضعه فتجود في غير مجاد، وما لكل ناشئ اليوم لا يرضي بأقل من الرسالة والثقافة فلا ينشر فيها غذرمته. . . فقد كنا نتمنى جريدة يومية تنشر لنا فما كنا نصل، ونحن يومئذ أقل من أكثرهم اليوم جهلا!

ولقد كنا سألنا مجلات مصر أن تنشر لأدبائنا وتعرف بأدبنا وعتبنا عليها إنها لا تفعل؛ ولكنا لم نرد إلا الأدباء حقا لا أن تنشر لكل من يسود صحيفة ويضعها في ظرف ويبعث بها إلى المجلة. . . ثم تحمل ذلك علينا وتنسبه إلينا وتمثل به على أدبنا، وتقبل حكم صاحبه علينا يرفع منا من يشاء ويخفض من يريد.

والسبيل لا سبيل سواها هي تكليف أحد أدبائنا المعروفين ممن لا يطعن على شخصه وإن خولف في رأيه البحث في أدب الشاميين بحثاً علمياً منظماً خالياً من أثر الحب والبغض، مؤيداً بالدليل مستنداً إلى التحليل فينظم أدوار هذا الأدب وطبقات أهله من جهة السن، ومن جهة الأسلوب والبلاغة، إذ رب شاب هو أبلغ بلاغة، وأصفى ديباجة، وأعلى أدباً، من شيخ يحمل أمجاد نصف قرن، أي أنه يؤرخ أدبنا على نحو ما نؤرخ الأدب القديم الذي تقطعت بيننا وبين أهله أسباب الميل والنفار والحب والكراهية. أما هذا الطريق الذي سارت عليه مجلات مصر إلى الآن فحسبنا ما لقينا من وعره ووحشته والتوائه.

القاهرة

علي الطنطاوي

ص: 29

‌صوت من العالم الآخر

(مهداة إلى روح أبي العلاء مؤلف رسالة الغفران)

للأستاذ نجيب محفوظ

- 1 -

مقدمة

(سودت هذه الصحائف يد ميت. كتبها بعد أن فارق الحياة

واطمأن إلى مضجعه الأخير. ويبدو هذا - أول وهلة - غريبا

لا يصدق؛ ولكنه يغدو لا غرابة فيه إذا تذكرنا حكمة قدماء

المصريين التي أملت عليهم أن يودعوا قبر الميت آثاره وما

كان يحبه أو ينتفع به في دنياه، كي تتمتع روحه - إذا زارت

القبر وعاودت الجسد ليلة بعد أخرى - بما كانت تتمتع به في

دنياه من مسرات الحياة. فان كان الميت كاتبا أو دعوا قبره -

بطبيعة الحال - كتبه وأوراقه، وربما تسلت روحه بالكتابة

كما كانت تفعل في الدنيا. وهذا ما يبدو أنه كان الواقع في

الحال التي نحن بصددها فقد اكتشفت في العهد الأخير مقبرة

لكاتب اسمه توتي من كتاب الأسرة التاسعة عشرة، عثر بها

على مخطوط من البردي تدل القرائن على أن صاحب المقبرة

- أو روحه على الأصح - كتبه على أثر الدفن مباشرة. وهو

ص: 30

يحوي حقائق غريبة لا يدري الحي عن أكثرها شيئا، ولا يمكن

أن توضع موضع الاختبار والتجربة. وقد أثارت من الدهشة

ما هز الأفئدة جميعاً. ويقتصر عملي على ترجمة هذا

المخطوط العجيب دون تعرض للتفسيرات التي أثيرت حوله،

ولا للجدل الذي اكتنف هذه التفسيرات. وللقارئ أن يري فيما

جاء به رأيه، بيد أنه ينبغي أن نذكر دائما أنها خطرات ميت.

وإليك ترجمة هذا المخطوط).

ترجمة المخطوط الهيرغليفي

يا إلهي! ماذا يعوز هذا القبر من طيبات الحياة الفانية؟! إنه قطعة من صميم الحياة حافلة بما لذ وطاب. لقد حليت جدرانه بصور الجواري والخدم، وفرش بأفخر الأثاث، وأجمل الرياش. وبه ما أشاء من أدوات الزينة والعطور والحلي؛ وفيه مخزن مفعم بالحبوب والبقول والفاكهة. وهاهي ذي مكتبتي حملت إليه بمجلداتها الحكيمة، وما يحتاجه الكاتب من الأوراق والأقلام. هي الدنيا كما عهدتها. ولكن هل ثمة طعم للدنيا في حواسي الآن؟! أبي حاجة إلى متعة من متعها؟! جهد ضائع ذلك الذي بذله الذين هيئوا هذه المقبرة. بيد أني لا أستطيع أن أنكر أمراً غريباً هو أنه ما فتئت نفسي تنازعني إلى القلم. يا عجبا! ما لهذه الأوراق تناديني بسحرها المحبوب؟! ألا يزال بي موضع لم يمح منه الموت منازع الضعف والهوى؟ أقضي علينا - معشر الكتاب - أن تشقى بضاعتنا في الحياتين؟! على أية حال لا يزال أمامي فترة انتظار أبدأ بعدها رحلتي الأبدية. فلأشغل هذا الفراغ بالقلم. فلطالما دان القلم الفراغ بالجميل.

رباه! ألا زلت أذكر ذاك اليوم الذي فصل بين الحياة والموت من عمري؟! بلى. في ذلك اليوم غادرت قصر الأمير قبيل الغروب، بعد عمل شاق، تعناني فيه الجهد، حتى قال لي

ص: 31

الأمير (توتي. . . كف عن العمل. ولا تشق على نفسك). وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود. فأخذت في طريقي المعهود متسمتا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بيتي الجميل.

يا آمون المعبود. ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي اثر من جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع. ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المضني، أما هذه الرعشة المزلزلة، فطارئ جديد، امتلأت منه رعباً. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتى يورده التهلكة؟ انطويا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك. وأغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يناديك، وأخذت في الطريق قلقاً متأوهاً. وعند عتبة البيت طالعني وجه زوجي رفيقة شبابي وأم أبنائي. فهتفت بي (توتي أيها المسكين. مالك تنتفض. ما لعينيك مظلمتين. . .؟!) فقلت لها محزوناً مكتئباً (يا أختاه. . وقع المحضور. . . وحل الخبيث بجسم زوجك. هئ الفراش ودثريني. ونادي الحكيم والأبناء والأحباب: قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه. فاضرعوا معه. واسألوا له الشفاء!) وحملتني اليوم غادرت قصر الأمير قبيل الغروب، بعد عمل شاق، تعناني فيه الجهد، حتى قال لي الأمير (توتي. . . كف عن العمل. ولا تشق على نفسك). وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود. فأخذت في طريقي المعهود متسمتا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بيتي الجميل.

يا آمون المعبود. ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي أثر من جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع. ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المضني، أما هذه الرعشة المزلزلة، فطارئ جديد، امتلأت منه رعباً. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتى يورده التهلكة؟ انطويا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك. واغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يناديك، وأخذت في الطريق قلقا متأوها. وعند عتبة البيت طالعني وجه زوجي رفيقة

ص: 32

شبابي وأم أبنائي. فهتفت بي (توتي أيها المسكين. مالك تنتفض. ما لعينيك مظلمتين. . .؟!) فقلت لها محزونا مكتئباً (يا أختاه. . وقع المحظور. . . وحل الخبيث بجسم زوجك. هيئي الفراش ودثريني. ونادي الحكيم والأبناء والأحباب: قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه، فاضرعوا معه. واسألوا له الشفاء!) وحملتني التي تهواني على صدرها. وجاء الحكيم فجرعني الدواء وأشار بإصبعه إلى السماء وقال لي: (توتي. . . أيها الكاتب الكبير! يا خادم الأمير الجليل! أنت في حاجة لرحمة الرب. فادعه من أعماق قلبك). ورقدت لا حول لي ولا قوة. يا آمون المعبود جلت حكمتك! ألم أصحب سيدي الأمير إلى الشمال في جيوش فرعون؟ ألم أشهد القتال في صحاري زاهي؟ ألم أحضر قادش مع الغزاة البواسل؛ بلى أيها الرب. ونجوت من الرماة والعجلات والمعارك. فكيف يتهددني الموت في قريتي المحبوبة الآمنة بين أحضان زوجي وأمي وأبنائي؟! وغرقت في أبخرة الحمى. واشتد الدوار برأسي، وسال بلساني الهذيان، وشعرت بيد الموت ترتاد قلبي. ما أقساك أيها الموت! أراك تتقدم إلى هدفك بقدمين ثابتتين وقلب صخري، لا تتعب ولا تسأم ولا ترحم، لا تهزك الدموع، ولا تستعطفك الآمال. تدوس حبات القلوب، وتتخطى الأماني والأحلام. ثم لا تبدل سنتك ولو كان الفريسة في ربيع العمر الزاهر. توتي في السادسة والعشرين ذو بنين وبنات، ألا تسمع؟ ماذا يضيرك لو تركت أنفاسي تتردد في صدري؟ دعني ريثما أشبع من هذه الحياة الجميلة المحبوبة. إنها لم تسؤني قط ولم أزهد فيها أبداً. أحببتها من أعماق الفؤاد ولا أزال على العهد. كانت الصحة طيبة والمال موفورا والآمال كباراً. ألم تحط بكل أولئك خبراً؟ ومن حولي قلوب محبة ونفوس والهة، أفلا تنظر إلى الأعين الدامعة؟ كأني لم أعش ساعة واحدة في هذه الحياة الجميلة المحبوبة. ماذا رأيت من مشاهدها؟ ماذا سمعت من أصواتها؟ ماذا أدركت من معارفها؟ ماذا ذقت من فنونها؟ ماذا جربت من ألوانها؟ أي فرص ستضيع غداً؟ أي نشوات ستخمد! أي عواطف ستهمد! أي مسرات ستبيد! ذكرت ذلك جميعه. ودارت بخلدي أشياء أخرى لا حصر لها ولا حد، ما بين مفاتن الماضي وسحر الحاضر وأماني المستقبل. وجرت أمام حواسي الورود والحقول والمياه والسحاب والمآكل والمشارب والألحان والأفكار والحب والأبناء وقصر الأمير وحفلات فرعون والرتب والنياشين والألقاب والفخر والجاه وتساءلت: أيمضي كل هذا إلى

ص: 33

الفناء؟ وانقبض صدري أيما انقباض وامتلأت حزناً وكمداً، وهتفت كل جارحة لي (لا أريد أن أموت). وتتابعت جحافل الليل. فغلب النوم الصغار. ولبثت زوجي عند رأسي وأمي عند قدمي، وانتصف الليل ونحن على حالنا. ثم استدار وأوغل في الرحيل، ثم بهتت ذوائبه بزرقة الفجر. هنالك داخلني شعور غريب بالرهبة وتولاني إحساس بالخوف. وأطبق السكون وأنذر بشيء خطير. ثم شعرت بيد أمي تدلك قدمي وتقول بصوت متهدج (بني. . . بني!) وهتفت زوجي المحبوبة (توتي ماذا تجد؟) ولكني لم أستطع جوابا. لا شك أن أمراً استثار جزعها. ترى ماذا يكون؟ هل لاح في وجهي النذير؟ وتحولت عيناي على غير إرادة مني نحو مدخل الحجرة. كان الباب مغلقاً بيد أن الرسول دخل، دخل دون حاجة إلى فتح الباب. فعرفته دون سابق معرفة فهو رسول الفناء دون سواه. واقترب مني في خطى غير مسموعة: كان مهيباً صامتاً مبتسماً ذا جمال لا يقاوم سحره فلم تتحول عنه عيناي. ولم أعد أرى من شئ سواه. وأردت أن أضرع إليه ولكن لم يطاوعني اللسان. وكأني به قد أدرك نيتي الخفية. فازدادت ابتسامته اتساعا. فآنست منه رفقاً. ولم أعد أبالي شيئاً. انجابت عني وساوس الليل وأحزانه وحسراته. وغفلت عن دموع من حولي. ووجدت نفسي في حال من الاستهانة والطمأنينة لم اعهدها من قبل. سلمت في محبة لا نهائية وتركت جسمي في المعركة وحيداً! رأيت - دون مبالاة ألبته - دمي يقاوم في عروقي، وقلبي يدق ما وسعه الجهد، وعضلاتي تنقبض وتنبسط، وأنفاسي تتردد من الأعماق، وصدري يعلو وينخفض. وشعرت بالأيدي الحنون تسند ظهري وتحيط بي. رأيت ظاهري وباطني رؤية العين بغير مبالاة ولا اكتراث. وقد تحول الرسول عني إلى جسمي وأخذ في مباشرة مهمته في ثقة وطمأنينة والابتسامة لا تفارق شفتيه الجملتين. وشاهدت نسمة الحياة المقدسة تذعن لمشيئته فتفارق القدمين والساقين والفخذين والبطن والصدر، والدم من ورائها يجمد والأعضاء تهمد والقلب يسكت، حتى غادرت الفم المفغور في زفرة عميقة. سكن جسمي وصمت إلى الأبد. وذهب الرسول كما جاء دون أن يشعر به أحد. وغمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة. وأني لم أعد من أهل الدنيا. . .

للكلام بقية

نجيب محفوظ

ص: 34

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

651 -

والشيب يغمزها بألا تفعلي!

في (كتاب الأذكياء) لابن الجوزي: قال العتبي: رأيت امرأة أعجبتني صورتها فقلت لها: ألك بعل؟ قالت: لا. قلت: أفترغبين في التزويج؟ قالت: نعم، ولكن لي خصلة أظنك لا ترضاها. قلت: وما هي؟ قالت: بياض برأسي. قال: فثنيت عنان فرسي، وسرت قليلاً. فنادتني أقسمت عليك لتقفن، ثم أتت إلى موضع خال فكشفت عن شعر كأنه العناقيد السود. فقالت: والله ما بلغت العشرين ولكن عرفتك أنا نكره منك ما تكره منا.

فقال: فخجلت وسرت وأنا أقول:

فجعلت أطلب وصلها بتملق

والشيب يغمزها بألا تفعلي

في (الأغاني): قالت امرأة لبشار: أي رجل أنت لو كنت أسود اللحية والرأس! قال بشار: أما علمت أن بيض البزاة أثمن من سود الغربان؟ فقالت له: أما قولك فحسن في السمع، ومن لك بأن يحسن شيبك في العين كما حسن قولك في السمع. . .؟ فكان بشار يقول: ما أفحمني قط غير هذه المرأة.

652 -

فإنا لله وإنا إليه راجعون!

قال الجاحظ في (الحيوان): بينا داود بن المعتمر الصبيري جالس معي إذ مرت به امرأة جميلة، لها قوام وحسن وعينان عجيبتان، وعليها ثياب بيض، فنهض داود، فلم أشك أنه قام ليتبعها، فبعثت غلامي ليعرف ذلك. فلما رجع (داود) قلت له: قد علمت إنما قمت لتكلمها فليس ينفعك إلا الصدق، ولا ينجيك مني الجحود، وإنما غايتي أن أعرف كيف ابتدأت القول، وأي شئ قلت لها، وعلمت أنه سيأتي - بآبدة - وكان مليا بالأوابد - قال: ابتدأت القول بان قلت: لولا ما عليك من سيمياء الخير لم أتبعك. فضحكت حتى استندت إلى الحائط، ثم قالت: إنما يمنع مثلك من اتباع مثلي والطمع فيه ما يرى من سيمياء الخير، فأما إذ قد صار سيمياء الخير هو الذي يطمع في النساء، فانا لله وإنا إليه راجعون. . .!

653 -

لعن الله شر الثلاثة

ص: 36

اطلع مروان بن عبد الحكم على ضيعة له بالغوطة فأنكر منها شيئاً فقال لوكيله: ويحك إني لأظنك تخونني

قال: أتظن ذلك ولا تستيقنه؟

قال: وتفعل؟

قال: نعم (والله) إني لأخونك، وإنك لتخون أمير المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون الله. فلعن الله شر الثلاثة.

654 -

أردت أن أقول بعد يوم

قال الحمدوني: بعث إلى أحمد بن حرب المهلبي في غداة السماء فيها مغيمة، فأتيته والمائدة موضوعة مغطاة وقد وافت عجاب المغنية فأكلنا جميعاً وجلسنا على شرابنا. فما راعنا إلا داق يدق الباب فأتاه الغلام فقال: بالباب فلان. فقال: هو فتى من آل المهلب ظريف نظيف. فقلت: ما نريد غير ما نحن فيه. فأذن له فجاء يتبختر وقدامى قدح شراب فكسره فإذا رجل آدم ضخم، وتكلم فإذا هو أعيا الناس، فجلس بيني وبين عجاب، فدعوت بدواة وكتبت إلى أحمد بن حرب:

كدر الله العيش من كدر العي

ش فقد كان صافياً مستطابا

جاءنا والسماء تهطل بالغي

ث وقد طابق السماع الشرابا

كسر الكأس وهي كالكواكب الدري

ضمت من المدام رضابا

قلت لما رميت منه بما أكره

والدهر ما أفاد أصابا

عجل الله نقمة لابن حرب

تدع الدار بعد شهر خرابا

ودفعت الرقعة له فقال: ألا نفست فقلت بعد حول؟ فقلت: أردت أن أقول بعد يوم فخفت أن يصيبني مضرة ذلك. وفطن الثقيل فنهض. فقال: آذيته، فقلت: هو آذاني.

655 -

فما أخذت بترك الحج من ثمن

قال ابن جريج: ما ظننت أن الله ينفع أحداً بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى كنت باليمن فسمعت منشداً ينشد قوله:

بالله قولا له غير معْتبة:

ماذا أردت بطول المكث في اليمن؟

ص: 37

إن كنتَ حاولتَ دنيا أو ظفرتَ بها

فما أخذت بترك الحج من ثمن

فحركني ذلك على ترك اليمن والخروج إلى مكة فخرجت فحججت.

656 -

لا يتيه وزير في وزارته

قال أبو العيناء: كان عيسى بن فرخان شاه يتيه على في ولايته الوزارة. فلما صرف رهبني. فلقيني فسلم علي فأحفى. فقلت لغلامي: من هذا؟ فقال: أبو موسى. فدنوت منه وقلت: أعزك الله، والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك. فالحمد لله على ما آلت إليه حالك. فلئن كانت أخطأت فيك النعمة لقد أصابت فيك النقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك. ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزهنا عن قول الزور فيك؛ فقد والله أسأت حمل النعم، وما شكرت حق المنعم.

فقيل له: يا أبا عبد الله لقد بالغت في السب، فما كان الذنب؟ فقال: سألته حاجة أقل من قيمته، فردني عنها بأقبح من خلقته

657 -

سارت مشرقة وسرت مغربا

ذكر بعض الأكابر أن بعض أهل الظاهر في عصر الحافظ ابن حجر كتب على تائية ابن الفارض وأرسل إلى بعض العظماء من صوفية الوقت ليقرظه، فأقام عنده مدة ثم كتب عليه عند إرساله إليه:

سارت مشرقة وسرت مغربا

شتان بين مشرق ومغرب

فقيل له في ذلك، فقال: مولانا الشارح أعتني بإرجاع الضمائر والمبتدأ والخبر والجناس والاستعارة وما هنالك من اللغة والبديع، ومراد الناظم وراء ذلك كله.

658 -

رفعة. . .

في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب): قال علي بن عدلان النحوي الموصلي: حضرت بدمشق عند محمد بن نصر بن عنين الشاعر وزير المعظم، فجاءته رقعة طويلة عريضة خالية من معنى، فارغة من فائدة؛ فألقاها إلي قائلا: هل رأيت قط أسقط من هذه مع طول وعرض، فتناولتها فوجدتها كما قال، وشرعت أخاطبه، فأومأ إلي بالسكوت وهو مفكر، ثم

ص: 38

أنشدني لنفسه:

وردت منك رقعة أسأمتني

وثنت صدري الحمول ملولا

كنهار المصيف ثقلا وكربا

وليالي الشتاء بردا وطولا

فاستحسن أهل المجلس هذه البديهة، وعجبوا من حسن المعنى.

659 -

كتاب أمير المؤمنين لا يكون ملحونا

في (تاريخ بغداد) للخطيب:

كتب (المهدي) إلى عبيد الله بن الحسن العنبري - وهو قاضي البصرة - كتابا فقرأه عبيد الله فرده، فحمل عبيد الله إلى المهدي فعاتبه، فكان فيما عاتبه به أن قال له: رددت كتابي! فقال عبيد الله: يا أمير المؤمنين، إني لم أرد كتابك، ولكنه كان ملحونا، وكتاب أمير المؤمنين لا يكون ملحونا. فصدق المهدي مقالته وأجازه ورده إلى عمله.

660 -

وألقيت عليك محبة مني

في (رسالة الصداقة والصديق) لأبي حيان التوحيدي:

ابن سمعون الصوفي: ما يقف البشر على بعد غور قوله تعالى: (وألقيت عليك محبة مني، ولتصنع على عيني) فإن في هاتين الكلمتين مل لا يبلغ كنهه. ولو أن أرق الناس لسانا وألطفهم بياناً أراد أن يتوسط حقيقة هذا القول لم يستطيع، ونكص مبهورا. ثم قال: اللهم، حبب بعضنا إلى بعض، واجمع شملنا إلى رضاك عنا مع إحسانك إلينا؛ إنك أهل ذلك والجواد به.

ص: 39

‌هذا العالم المتغير

للأستاذ فوزي الشتوي

خلجات الأصابع تدل على تفكيرك

خلجات أصابع يدك تبين محتويات عقلك. فعندما تجري عملية ضرب ويدك مرفوعة في الهواء، فإن اهتزازات أصابعها تكون أقل من اهتزازاتها وأنت تستجم. ويزيد هذا الاهتزاز قبلما تنطق بالجواب بصوت مرتفع.

وقد ذكر هذه الحقيقة الدكتور جون فرنش في نشرة الأبحاث السيكولوجية فقال: إن كمية الاختلاج تزيد بسرعة على أثر صوت مرتفع، أو عقب مؤثر يستدعي استجابة، فإذا طلب إليك أن ترفع يدك في الهواء وتقبض بيدك الأخرى على جهاز معين فان فترة خمود قصيرة تحدث قبل يصبح اهتزاز أصابعك كاملاً.

ويقصد الدكتور فرنش بكمية الاختلاج المسافة الكلية التي يهتزها طرف الإصبع بعامل الاختلاج في ثانية واحدة، وهذه الحركة تختلف باختلاف الظروف المحيطة بالإنسان وهي في اعتباره ظاهرة عضوية (فسيولوجية) توصل دراستها إلى معرفة اتجاهات العقل وتفكيره.

وتوصل الدكتور إلى هذه المعلومات بتجارب أجراها على خمسة أفراد وباستخدام جهاز خاص بذلك فكان يلبس الإصبع السبابة كستباناً متصلاً بعصا طويلة مرتفعة إلى أعلى وتنعكس العصا والإصبع على مرآة محدبة بحيث تتضخم اهتزازات العصا إلى عشرة أمثال الواقع. ثم صور هذه الانعكاسات فحصل على اختلاجات الإصبع مضاعفة عشر مرات.

معدن جديد يستغل

يعد معدن الليثيوم من أخف المعادن إذ يبلغ وزنه النوعي 20 % من وزن الألومنيوم. وهو معدن فضي اللون تفوق الكمية الموجودة منه في كوكبنا الأرضي مثيلاتها من معادن الرصاص أو القصدير

وقد كان معروفا من زمن بعيد، ولكن الصناعة لم تستطيع استغلاله إلا في السنوات

ص: 40

الأخيرة؛ فإن الأخصائيين في المعادن تمكنوا من تركيب عدة أخلاط معدنية منه بإضافته إلى المعادن الأخرى. وكانت هذه الأخلاط ثمينة من الناحية الصناعية حتى حرم تصديره

وأزيلت عنه أخيراً قيود التصدير وأبيح استخدامه في الصناعات العامة مما ينبئ له بمستقبل كبير؛ فإن خفة وزنه وشدة مقاومته أتاحتا الفرصة في صناعة أدوات النقل وغيرها إلى توفير كميات الوقود أولا وزيادة السرعة ثانياً فضلا عن رخص الأسعار

لقاح ضد البرد

تدعي بعض شركات العقاقير الطيبة أنها تمكنت من تحضير مصل يقي الإنسان الإصابة بالزكام وما يتبعه من أنواع البرد. وقد حذرت الجمعية الأميركية الناس من تصديق مثل هذه الأقوال كما طلبت إلى الأطباء اعتبار جميع هذه الأمصال في مرحلة التجارب

وبنيت الجمعية بيانها على دراسات قام بها لفيف من الأطباء. وتضمنت هذه الدراسات عدداً كبيراً من أنواع اللقاح مما يتناوله الأفراد عن طريق الفم أو الحقن أو الرش داخل تجاويف الأنف، وكانت نتيجة هذه الدراسات أن أنواع اللقاح كانت سلبية النتيجة، إما لأنها استخدمت مع أفراد قلائل وإما لأنها استخدمت لمدة قصيرة

وقالت الجمعية في تقريرها إنه يجب على الأطباء ألا يشجعوا استخدام هذه العقاقير. فإن أراد الأطباء اختبارها فيجب أن تخضع لقيود خاصة تكشف عن فوائدها أو مضارها حتى لا يتكرر وصفها أو تحضيرها

ويلجأ بعض الأطباء إلى أخذ مواد اللقاح من المريض نفسه، وقد يكون هذا أكثر نفعاً للمرضى أو المعرضين للإصابة بالبرد ولكن الثابت أن أمراض البرد ما زالت تحتفظ بغموضها.

بقايا الدم لقاح

تجمع بعض الهيئات الأمريكية الطبية كميات الدم من المتطوعين لتقدمه إلى الجرحى من الجنود لتعوض به ما يفقدون من دماء حتى يستعيدوا صحتهم، ولكن هذه الهيئات لا تستخدم كل مواد الدم بل تنقص بعضه لإنقاذ الجنود، وتستغني عن المواد الأخرى

وأدت الأبحاث التي أجريت أخيراً إلى أن هذه البقايا الدموية جليلة النفع فهي تستخدم كمادة

ص: 41

لقاح ضد كثير من الأمراض ومنها مرض الحصبة كما قال لفيف من أطباء مصلحة الصحة هناك في بيان نشروه أخيراً في مجلة الجمعية الطبية الأميركية

ويؤخذ من هذا البيان أن التجارب أجريت على 814 طفلا أعمارهم بين ستة شهور وست سنوات لقحوا بمستحضرات هذه البقايا وعرضوا للعدوى بوضعهم مع أطفال آخرين مصابين بها

وكانت النتيجة أن نجى من العدوى 654 طفلا وأصيب 160 بحصبة خفيفة و13 طفلا أصيبوا بالعدوى العادية. وبدون هذا اللقاح كان من المؤكد إصابة 80 في المائة منهم بالإصابات العادية

بكتريا لصنع الفيتامينات من الإنسان

يتاح للإنسان أن يحصل على أنواع من الفيتامينات التي يحتاج إليها في غذائه اليومي من نفس جسمه كما قال البرفيسور الفيجم الأستاذ بجامعة وسكونسين

ففي الجسم مصانع للفيتامين. وتدير هذه المصانع أنواع من البكتريا التي تسكن الأمعاء. وقد عرف العلماء هذه الحقيقة منذ جيل من الزمن حينما رجحوا وجود علاقة بين البكتريا التي تسكن الأمعاء وبين طول حياة الإنسان

وتبين الأبحاث الأخيرة تقدماً ملموساً في دراسة هذه الأنواع من البكتريا وإفرازاتها مما يرجى معه إطالة الحياة البشرية وتحسن الصحة العامة

وآخر هذه الأبحاث يدل على أن أنواع البكتريا المنتجة لأنواع الفيتامينات تختلف باختلاف الأحياء. فهي في الكلاب أو القطط تخالف مثيلتها في الدجاج أو القردة أو الإنسان. وتختلف في كل من هذه الأنواع باختلاف ألوان الطعام التي يتناولها، فبكتريا الحيوانات من أكلة اللحوم تخالف مثيلتها عند أكلة النباتات. ويدخل في هذا النطاق نصيب كل منها من الفيتامينات في طعامها.

لافتات للطيارين

وضعت مصلحة الطيران المدني في أميركا نظاماً لإرشاد الطيارين إلى مواقعهم. وذلك بإنشاء 100. 000 لافتة (يافطة) في أميركا. وتقرر أن يكون سمك الحروف التي تكتب

ص: 42

بها اللافتات من 9 إلى 20 قدما حتى يراها الطيارون من ارتفاعاتهم الشاهقة. وهي تكتب على الحوائط أو السطوح المرتفعة حتى يسهل على الطيارين رؤيتها كما أنها ستكتب بمواد مشعة تضئ بالليل. ويذكر في هذه اللافتات خط طول المكان وعرضه واسم المدينة كما يرسم سهم يبين الاتجاه الشمالي إلى غير ذلك من المعلومات التي يحتاج إليها الطيار أثناء رحلته وترشده هذه اللافتات أيضاً إلى أقرب مطار يستطيع الهبوط فيه.

فوزي الشتوي

ص: 43

‌حيرة.

. .!

للأستاذ عبد الرحمن صدفي

أأهرب من ذكراكِ، أم لست أهربُ؟

وهل من وفاءٍ أن يُجنّ المعذَّبُ؟

أأترك هذا البيت قد كان عشَّنا

وكُنَّا به الإلفَّين والأرض مَعْشَب؟

تناغيني بالحب والكتب وحدَنا

ويا حبذا مغناك مغنىً ومكتب

أأتركه تركَ الطريد، كآدمٍ؟

ويا ليت أني ذلك الزوج والأب

طريدٌ ولا حَوّاء تُبدل جنتي

بأخرى، فحوَّائي قَضَت قبل تُنجب

أو أبْقَى أوفِّي ذكرياتكِ حقَّها

أُحَيِّ الصبا والعلمَ فيك وأندب؟

هنا عالم الأنثى، ثيابٌ وزينةٌ

يُكَظُّ بها تخت ويزدان مِشْجب

أرى المعطفَ الشاتي تريكاً، وطالما

أفاض عليه الحسنَ عِطْفٌ ومِنكب

ويا رَبِّ، هذا الثوبُ حُلَّةُ سهرةٍ

وكان عليه العزمُ لولا المغَّيب

وألمح مرآة الجميلةَ عندها

تفانينُ حَلْيٍ: بَهْرَجٌ ومُذَهَّب

وثَمَّ قواريرٌ تضوَّع عَرْفُها

قوارير كانت لي بها تتطّيب

هنا الطيبُ والأبراد والحَلْيُ كلُّهُ

فأين التي كانت بها تتحبّب

إلى أين أمضي عنكَ، يا طيفَ زوجتي

أليس إلى السلوى مجازٌ ومهرب!!

وأمضي أسرِّي من خبالي، وإنني

لأُشفق من هذا الخبال وأعْجب

إلى شُرفتي هذي - ويا حسنَ شرفتي

على النيل تبراً تحتها يتسبسب

كَأنْ قد خَلَتْ من مجلسٍ ضمَّ شملنا،

وما إن خلا منكِ المكان المحبَّب

أأنسى التناجي في الأصائل عندها

وبالأُفُق الغربيْ نارٌ تَلَهَّب

نتابع ماَء النهر ينساب حالماً

ونحن مع الأحلام نطفو ونرسب

مناظر قد كانت، فباخ ضياؤها

وغام عليها دمعيَ المتصبَّب

فلا حسنَ، كلُّ الحسن كان بمهجتي،

وقد كان منك الفيضُ، فالآن ينضب

إلى أين أمضي عنك - رُحْماكِ - زوجتي

أمنكِ إلى ذكراكِ أمضي وأذهب

وأفزع للأسفار في جوف مكتبي

تجاورَ فيها أعجميٌّ ومُعِرب

إلىَّ جميعاً - بالتعازيم والرُّقي!

فَبي طعنةٌ مسمومة لا تُطَبَّب

ص: 44

أفيكنَّ من جرح الحياة مَخِّدرٌ

أفيكن أفيون، أفيكن قِنَّب؟

فما حاجتي علمٌ وشعرٌ وحكمةٌ،

وكيف، ويومي مستطار عصبصب

وكيف، وهذا الشعر كان نشيدَنا

وذي صفحةٌ للفن كُنّا نُقلّب

وهذي تواريخٌ، وتلك مشاهدٌ

مررنا بها سّيان شرقٌ ومغرب

وتمتد كفّي نحو سِفْر أريده

فترجع كالملدوغ مسَّته عقرب

فهذا كتابي، ربِّ! هذا كتابها

قرأناه نستقضي معاً وننَّقب

مجاميع أبحاثٍ، متون تفلسفٍ

بهن حواشيٍ، وهي ذاك المعقِّب

أيا زوجتي، قد كنت حافظ مكتبي،

وقارئَه قبلي، ونِعْمَ المرتِّب

لمن أستجدّ الكتب في كل مطلب

وقد كنتِ لا يعدو اهتمامَك مطلب

فكم من علومٍ كنتِ من نَهَم الحجى

جُهَيْنَتَها، َتْرَوْين منها وأنغب

تفوقتِ تحصيلا وحسنَ إفادةٍ

ولم تكتبي يوماً وقد كنتُ أكتب

وكنتِ ترجّين الحياةَ لتقرئي=إلى جانبي، والصِّنو للصنو يطرب

وحيدان نستوحي الدفاتر علَمها

صموتان لا نلغو ولا نتغضّب

خلونا - وفي هذا التفرُّد أُنسُنا

وفي صمتنا نجوى الهوى والتحبب

ويا زوجتي، كنتِ المدّبر عيشتي

فعيشيَ أهنا العيش طرَّا وأطيب

حرصتِ على مالي، وصُنْتِ مغيَّبي

وأخلصتِ لي في الحبّ والحبّ قُلَّب

تقومين في شأني - وثمة خادمي،

وحُبَّ من الزوج العَروب التَعرُّب

وماليَ في الأهلين بعدك عائضٌ

ولو قام منهم في ركابيَ موكب

وتلتاع نفسي إن تعهّد مَلْبسي

سواك ووفّاني الذي أتطلَّب

أأشعر أني عن تعهد زوجتي

غَنيتُ، لقد آثرتُ أني المترَّب

وما بيَ من سُخْف وما بيَ جِنَّةٌ

ولكنه الحب الشديد المؤرَّب

خيالك يا زوجي كظِّليَ إن أَسِر،

وإن أَبقَ تمثالٌ أمامي منصَّب

خيالك لا أقوى عليه، فأنه

- وقد صار جزءا من حياتي - مُغَلَّب

إلى أين أمضي عنك - لا أين - زوجتي

وما ليَ غير الموت بعدك مذهب

ص: 45

‌أصداء.

. .

للأستاذ أنور العطار

ما كان أَفْدحَ أحزاني وأعظَمَها

لو كنت أحمِلُ مِنْ ماضيَّ أَحْزَانَا

خَلَّفْتها صارخَاتٍ منْ كآبتِها

وَعُدْتُ أضحَكَ خَلْقِِ الله أجْفانَا

يا بَؤْسَ قَلْبي لو عاشَتْ بساحتِهِ

لمَادَ مِنْ عِبْئِها وانهَدَّ أركانَا

وأنت يا بهْجَتِي عُودِي ويا فَرحي

أمْلأ فؤادي تَرْنِيما وسُلْوانَا

وظُف بروحي في الآفاق حاليةً

والنَجِمِ مُتَّلها والبدر وسنانا

وهاتِ من نَغَم الأملاك قافية

وهاتِ من فلك الأفاك ألحانا

لَعَلَّني من أعاليلي وأخيلَتي

أيبتُ في رغَد الأحلام نشوانا

ُخذِ الفؤادَ صَدِيئا مِنْ كآبِتِه

وهاتِ َقلْباً من الآمالِ ريَّانا

جَمَّ الوَلُوع كثيرَ الشَّوْق لاهِبهُ

يَطْوي الليالي مَفْتونا وَهَيْمَانَا

إذا ألَمَّت بِهِ الأوْجِاع هَدْهَدَهَا

حتَّى تزَايِلَهُ بُرءاً ونِسْيانا

أطُوفُ بالغَابِر النَّائي فُيرْمِضُنِي

أني مَلأتُ رباعَ الأمْس أشْجَانَا

وأنْ طَوَيْتُ عَلى غَمٍّ صَحَائِفَهُ

وأن مَرَرّتُ بحُلْوِ العُمْرِ أسْوَانَا

وأن شَقِيتُ وكان السَّعدُ يكلَؤُني

وأن ضَجِرتُ فَذُقْتُ المرَّ ألوانَا

فلَيْتَ أحْلامَهُ دامتْ مناعِمُها

وَلَيْتَ طُول التَّشكِّي منه ما كانا

كأنَّ أصْداَءه قد خامَرَتْ كبدْي

فَفَجَّرتْنِي أشواقاً وتحنانا

يا فرحة العمر عودي غير آيسة

وأطمِعِينِي في لقاك أحيانا

لعلَّ قَلْبي وقد هاج الحنين به

يعيش في غمرة التذكار سكرانا

كأن أعرافه قد ضخمت خلدي

وأوسعتني أطياباً وَرَيحَانا

ص: 46

‌معاد الربيع

(قطعة من ديوان (أصداء بعيدة) الذي تقدمه جماعة الفكر بعد

أيام. . .)

للأستاذ العوضي الوكيل

عُدْتَ يا صاحب الربيعَ، وعُدْنا

فامضِ في الكونِ كيف شئت! وشِئْنا. . .

قَد روينا عَنكَ القصائدَ زُهرا

فارْو هَذِي القصائَدَ الزُّهر عنا!

ورسمنا ما راقنا من مرائي

ك، وهل فيك منظر لم يرقنا!؟

قد عَمرْتَ الحياةَ رُكناً فَركناً

وغَمْرتَ القصيدَ وزَناً فوزناً!

لَكَ مَسرىً أخفى من الرُّوح في الجس

م تَهادى في خاطِري واطْمأنا!

قد سَلكتَ الحياة في سببٍ مِنْ

كَ فَزِدْت الحياة سِحرا وَفنا!

أنتَ في الغصن حينما يتثنى

أنت في الطير حينما يتغنى!

ربَّ لحن سَرَى إلى النفسِ رَوْضاً

ورياض سَرينْ في النفس لحناً!

ضمَّ عَوْدُ الربيع بَلْبَلة الأك

واَنِ طرّاً فانسَقْن في النَّفس كوناً. . .

ص: 47

‌البريد الأدبي

أريحية كريمة

تأثر كريم عظيم لم يرد أن نذكر اسمه، حين قرأ وصية الرصافي المنشورة في العدد الماضي من (الرسالة) فتبرع بجنيهين مصريين لخادمه عبد، وقد أرسلناهما بالبريد المسجل إلى صديقنا الأستاذ طه الراوي ببغداد ليؤديهما إلى هذا الخادم المسكين.

جواب عن تساؤل واستفهام:

قرأت في العدد 610 من الرسالة الغراء في البريد الأدبي (ص 214) كلمة للسيد أحمد حمد آل صالح تحت عنوان (تساؤل واستفهام)، فأكبرت له إحفاءه في التساؤل، ودقة ملاحظاته في النواحي التاريخية، وأحببت أن أجيبه إلى بعض ما سأل عنه:

1 -

من أنعم النظر في معجم الأدباء الذي قام بطبعه المستشرق مارجليوث طبعتين، ثم حذت حذوه دار المأمون في طبعتها المشكولة - علم أن كل هذه الطبعات كانت عن نسخة واحدة لا ثانية لها، وإذا كانت هناك نسخ أخرى فإنما هي ناقصة مخرومة. ومن هنا يجد المتصفح للكتاب المذكور أن بعض الأعلام لم يرد منها في الكتاب إلا النزر اليسير، فإن المسمين - من الأدباء - بعمرو كثيرو العدد جداً، مع أنه لم يرد منهم في هذا المعجم إلا أربعة، وكذلك المسمون بعبد الله لم يرد منهم إلا عشرة، والمسمون بعمر لم يرد منهم إلا بضعة عشر، مما يدل بوضوح على أن قسماً كبيراً من هذا الكتاب لا يزال في طيات الخفاء. يعرف ذلك كل من تصفح هذا الكتاب من أهل المعرفة بكتب الطبقات ومعاجم الأعلام.

2 -

هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فإن لياقوت معجمين اثنين واحدا منهما للشعراء والآخر للأدباء. والظاهر أن الأمر قد اختلط على بعض الوراقين فنقلوا من معجم الشعراء ترجمات وضموها إلى معجم الأدباء مثل ترجمة الفرزدق وصريع الغواني وأبي دلامة ومن إليهم.

3 -

على أننا نرى أن نترك كلمة الفصل في الجواب لياقوت نفسه إذ قال في مقدمة كتابه هذا ما نصه: (وجمعت في هذا الكتاب ما وقع إلي من أخبار النحويين، واللغويين، والنسابين، والقراء المشهورين، والإخباريين، والمؤرخين، والوراقين المعروفين، والكتاب

ص: 48

المشهورين، وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل من صنف في الأدب تصنيفاً، أو جمع في فنه تأليفاً، مع إيثار الاختصار والإعجاز، في نهاية الإيجاز).

ثم قال: (وكنت قد شرعت عند شروعي في هذا الكتاب أو قبله في جمع كتاب في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء، ونسجتها على هذا المنوال، وسبكتها على هذا المثال في الترتيب، والوضع والتبويب، فرأيت أكثر أهل العلم المتأدبين، والكبراء المتصدرين، لا تخلو قرائحهم من نظم شعر، وسبك نثر، فأودعت ذلك الكتاب كل من غلب عليه الشعر، فدون ديوانه، وشاع بذلك ذكره وشأنه، ولم يشتهر برواية الكتب وتأليفها، والآداب وتصنيفها، وأما من عرف بالتصنيف، واشتهر بالتأليف، وصحت روايته، وشاعت درايته، وقل شعره، وكثر نثره، فهذا الكتاب عشه ووكره. . . وأجتزئ به عن التكرار هناك، إلا النفر اليسير الذي دعت الضرورة إليهم، ودلتنا عنايتهم بالصناعتين عليهم، ففي هذين الكتابين أكثر أخبار الأدباء، من العلماء والشعراء، وقصدت بترك التكرار، خفة محملة في الأسفار. . .)

ومن هذا يعلم القارئ الكريم السبب في إغفال ياقوت في معجمه هذا ذكر حسان بن ثابت والحطيئه والأخطل. . . الخ لأنه ذكرهم في معجمه الثاني. وأن من جاء ذكره من الشعراء في هذا المعجم ممن لم يشتهر بالتأليف مثل الفرزدق، فإنما هو من عمل الوراقين ليس غير.

ونحن لا نشك في أنه إذا تيسر العثور على معجم الشعراء يتبين التمايز بين هذين المعجمين.

4 -

أما الأئمة العظام الذين لم يشتهروا بقول الشعر أو النثر الفني كالإمام أبي حنيفة والإمام أحمد فلا معنى لإثباتهم في هذا المعجم. أما الإمام الشافعي، فله شعر معروف، ونثر موصوف، لا يزالان خالدين إلى يوم الناس هذا. والمعروف أن الإمام الشافعي طلب الأدب قبل أن يطلب الفقه. وقد روى الرواة أن عبد الملك ابن قريب الأصمعي قال: قرأت شعر الهزليين على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس (يعني الشافعي).

ملحوظة: ذكر الكاتب الفاضل اسم البحتري بين الشعراء الذين أغفلهم ياقوت في معجمه

ص: 49

هذا. مع أن ترجمته وردت مبسوطة في الجزء التاسع عشر من (ص248 إلى ص258) ويظهر لنا أن السبب في ذكره بين الأدباء يرجع إلى كونه معدوداً في زمرة المؤلفين، فإن له ديوان الحماسة الذي عارض به حماسة أبي تمام، وقد طبع بمصر في المطبعة الرحمانية سنة 1929 فاستحق بهذا أن يعد بين الأدباء، كما هو معدود في الطليعة من فحول الشعراء.

(بغداد - كلية الحقوق)

هاشم الراوي

في الأدب الحديث

أعتقد أن الذين قرءوا شعر الدكتور إبراهيم ناجي يلذ لهم كثيراً أن يتعرفوا رأيه في الأدب الحديث، واتجاهه في الشعر الحديث، فلا عجب إذا ما احتفت كلية الآداب، بجامعة فاروق الأول بالدكتور ناجي محاضراً في الأدب الحديث.

وقد تجلى احتفاء كلية الآداب السكندرية بالدكتور ناجي في كلمة موجزة شاء الأستاذ العميد عبد الحميد العبادي أن يقدمه إلى الحاضرين بها، فتحدث في إيجاز عن العلم والأدب، وشرح في دقةٍ وعمقٍ كيف تغزر بالعلم مادة الأدب، وكيف ينبغي أن يكون الشعر بعد أن مازجت الثقافة الحديثة بينه وبين العلم، ثم حدثنا الأستاذ العبادي عن أوجه الشبه بين العالم الأديب - الجاحظ - وبين الطبيب الشاعر - ناجي - وبين الفيلسوف المجرب، فرنسيس بيكون، ذلك الرجل الذي نحل مسرحيات شيكسبير لما كان من شهرته في الأدب، تلك الشهرة التي طغت عليها شهرته كعالم وفيلسوف مجرب

وبعد أن غادر الأستاذ العبادي منصة الخطابة وقف الدكتور ناجي وابتدأ حديثه عن الأدب، منكراً على الكثيرين من المشتغلين بالأدب فهمهم لمصطلحات الكلاسيكية، والرومانتيكية، والرمزية، سارداً بعض كلمات الرمزيين من الأدباء، وهي كلمات لا مدلول لها، وكنا نحب أن يذكر لنا الدكتور ناجي أسماء أولئك الأدباء حتى نكون على بينة من الأمر أولا، وحتى نستطيع دراسة هؤلاء الرمزيين بأنفسنا على ضوء من دراساته التي عرض لنا لوناً منها

ومهما يكن من شئ، فقد ضرب لنا الدكتور ناجي مثلاً أوجه الخلافات بين المذاهب الثلاثة،

ص: 50

فقال: إن الكلاسيكية تصنع تمثالا من المرمر دقيق الصنع، معبراً عن أرستوقراطية الفن، وترفعه عن الأحاسيس الشعبية، فتأتي الرومانتيكية فتضع أحمر في شفتي التمثال. ولا ندري، أتصنع الرومانتيكية ذلك تظرفا أم نزولا إلى منطقة المحسات الشعبية؟ أما الرمزية فتسدل على التمثال رداء من الحرير المتموج

والدكتور ناجي حريص أشد الحرص على أن يحتفظ المجدون من الشعراء والأدباء بالتراث الأدبي القديم، وأن يتمسك الأولون بعمود الشعر، أو على حد تعبيره أن يضعوا الخمر الجديد في الزجاجات القديمة. فلا جديد في الشعر يمكن أن نزعم أنه منبت عن القديم. وليس من شاعر معاصر إلا وهو متتبع خطوات من سلف. وقد ضرب الدكتور ناجي مثلا بشوقي. فقال إنه كان من أعرف الشعراء بدقائق الشعر القديم.

ولقد كان نصيب الأدب الإنجليزي - القديم والحديث - من عناية الدكتور المحاضر نصيب الأسد كما يقولون! فقد طاب له أن يسرد لنا نماذج عدة من ذلك الشعر على سبيل الاستشهاد

على أن إحجامي عن إثبات ما استشهد به الدكتور ناجي من شعر مترجم لا يمنعني من أن أعتب عليه، وهو الداعي في غضون محاضرته إلى شعر القوة، قراءته ذلك الشعر - العريان - على حد تعبيره في حشد من طالبات الجامعة، وكان بحسبه أن يشير إلى من شاء بأن يقرأ شعر (لورنس - إن يرد أن يطلع على لون من الأدب المكشوف)

الإسكندرية

علي حسن حموده

وحدة الروح والهوى:

أربعة من الشباب جمعت بين قلوبهم آمال حلوة، وعقدت بين أرواحهم أواصر القربى آلام مرة، ولم شملهم صلات من الفكر واتفاق النظرة إلى الحياة، ونزعات من خلجات الفؤاد.

كنا - ولانزال - نلتقي كل ليلة عند صديق لننفس عن نفوسنا بما نعي من أحاديث، وبما نتداول من آراء، وبما نتطارحه من أخبار الشعر والأدب: فنتعرض للحرب، وننقد الأوضاع، ونقرظ الحسن، ونسخر مما يدعو إلى السخر.

ص: 51

ففي ليلة من ليالينا اللاهية الجادة، أقبل علينا صديق، وبيده الأعداد الأخيرة من مجلة (الرسالة) الغراء. فقلت: هاتها، هاتها، هات مصر مثقفة، هات الينبوع السلسال! فقال: كلا ولكن انصت؛ فصمت وصمت الآخرون، وراح صديقنا يقرأ:(لاحت في جوانب العام المنصرم تباشير السلم كما تلوح في هوادي الليل تباشير الفجر الكاذب، فانبعثت روافد الأماني هنا، وتحلبت أشداق المطامع هناك، وابتهل العالم العربي إلى الله أن يوقيه ويلات السلم، كما وقاه ويلات الحرب، فأوحى إليه أن يتحد. . .)

وهنا هتف صديقنا الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: إنها والله زياتية يا رفاق، فقلت: لعلك تعني هذه الفقرة من المقال، فقال: أي والله، أمعن في قوله (فأوحى إليه أن يتحد) فصمتنا جميعاً نتصور مبلغ ما أوتيت هذه العبارة من جمال

ومضى صاحبنا يقرأ حتى بلغ: (ذلك وحي الضرورة نزل على قلوب الساسة فصدعوا به، وعملوا له؛ وهنالك وحي الطبيعة أوحته القرابة الواشجة، واللغة الواحدة، والوطن المشاع. والتاريخ المشترك) فصمت صاحبنا وقد غرقت عيناه بالدموع وكان مؤثراً في قراءته، فالتفت إلى صديقي الأنصاري وقلت: ماذا؟ فقال: حسب الزيات أن يبكي من جراء قلمه الأدباء! ثم وضع جبهته على كفه وراح يفكر، وللأنصاري في عوالم الفكر سبحات

يا لروعة البيان! سطور ثلاثة تجمع كل روابط العرب في بيان ضاحك باك، هذه الروابط التي يبعث ماضيها في النفس سروراً وبهجة، ويسكب حاضرها الكسير في القلب لوعةً وشقاءً!!!

سطور ثلاثة طوت التاريخ منذ خلق الله البشرية إلى اليوم الذي نعيش فيه، (فالوطن المشاع) ما هو غير هذه البلاد العربية؛ مصرها وشآمها، ونجدها وعراقها وحجازها ويمنها وحضرموتها.

ما هو الوطن المشاع غير هذه المقاطعات المقسمة المحددة المبعثرة المفرقة (واللغة الواحدة) ما هي غير لغة القرآن؟ ما هي غير لغة الخلود، لغة الضاد أمنا الزءوم وعزنا القوي، ورجاؤنا الكريم؟

ما هي (هذه اللغة الواحدة) غير ما قلت وغير ما ثار عليه صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا؟ عفى الله عنه.

ص: 52

(والتاريخ المشترك) ما هو غير هذه الصفحات الوضاء بأسطار المجد وآيات النضال؟ ما هو غير هذه السطور الشعاعة بالعظمة والخلود

ما هو هذا التاريخ المشترك غير ما نقول، ويقولون، وغير ما يقرره الشرق، فيعترف به الغرب، ما هو غير هذا وأكثر من هذا؟

وهذه (القرابة الواشجة) أليست مستقاة من الدين واللغة والرحم والوطن.

فما نحن وهذه الروابط؛ أليست داعيا قويا إلى أن نتحد ثقافةً ولغةً ووطناً؛ فنقوى بعد ضعف، ونعرف بعد جهل، ويقام لنا ويقعد، بعد أن كنا غفلا من كل عناية لا يؤبه لنا، ولا يقام لنا وزن!

لهذا فلنتحد. وقد أوحى الله إلينا بالاتحاد لننجو من حرب ما بعد الحرب.

ورضى الله عنك أبا رجاء وأرضاك.

(مكة)

عبد الله الفاطي

ص: 53

‌الكتب

أربعة كتب

1 -

القومية والعروبة

2 -

المنتخب المدرسي من الأدب التونسي

3 -

إلى الأبد

4 -

عطر ودخان

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

1 -

القومية والعروبة

هذا الكتاب على صغر حجمه يعد من أمتع ما كتب في موضوعه. سار فيه مؤلفه الأستاذ نقولا زيادة، من حياة القبيلة أو العشيرة، إلى حياة المدينة فالدولة، وذكر فيه فكرة نمو القومية والوطنية أولا، ثم وقوفها أجيالا طويلة، ثم عودتها ثانية للظهور بعد عصر النهضة الأوربية المعروفة بالرينسانس. وذكر أثر تلك النهضة في التحرر الفكري والتعبيري الذي كان من نتائجه محاولة التعبير عن النفس باللغة الوطنية: وتلك هي الخطوة لنشأة الشعور الوطني والقومي.

وللعروبة في هذا الكتاب فصل يعد، على إيجازه الكثير، تلخيصاً جيداً لتاريخ الأمة العربية، والموجات التي انساحت منها. ولو أن المؤلف أطال في هذا الفصل لاستطاع أن يلائم بين فصول الكتاب من حيث معالجة الموضوع. وذلك ما نعيبه على صديقنا المؤلف؛ فإنه لم يكتف بنصيب العروبة الضئيل في مكانها العالمي الآن، حتى جعل نصيبها في كتابه ضئيلا.

والأستاذ نقولا منصف للإسلام ومتعصب لعربيته. وهو يدعو غير المسلمين - وهو منهم - إلى إتقان اللغة العربية، وفهم القرآن الكريم فهماً صحيحاً. وفي ذلك أجران: أجر المسلم عند ربه، وأجر غير المسلم عند نفسه وعند عروبته، وعند أبنائه الذين ينشأون على منهج

ص: 54

عربي صحيح.

وهذا كلام فيه من الجمال، والسماحة، واتساع الأفق، وصدق الوطنية، وقوة الروح العربية، ما لا يصدر إلا عن فتى عربي مثل أخي المسيحي نقولا زيادة، الأستاذ بالكلية العربية بالقدس، وخريج جامعة لندن، والذي أهدى كتابه (إلى كل من علمني درساً في الوطنية).

2 -

المنتخب المدرسي من الأدب التونسي

العروبة كلها وطن واحد مهما تباعدت بها الأصقاع. ألم يكن المتنبي ينشد الشعر في حلب فتردده الدنيا في كل بلدة عربية من العراق، إلى مصر، إلى اليمن. واللغة العربية رباط يصل بين العرب والمستعربين. وقد وصل في التقديم بين العرب وغير العرب ممن أظلتهم الراية الإسلامية.

وما أحوجنا نحن العرب، في هذه الأزمان، التي تلعب فيها الأحداث السياسية أدواراً جساماً، إلى أن نصل بين تراثنا الفكري، ونصل منه ما قطعت الأيام.

في تونس أدباء، وفي تونس شعراء. ومن ثرى تونس الخضراء نبت علماء، نبتت لهم في الفكر العربي شئون، مثل ابن خلدون.

وإذا أتاحت ظروف النبوغ لرجل مثل ابن خلدون أن يشتهر في العالم العربي، وغير العربي، فإن مئات غير ابن خلدون لا نزال نحتاج إلى التعرف إليهم، والقراءة لهم.

وهذا ما فعله الأمير حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي، حين أخرج كتابه (المنتخب المدرسي من الأدب التونسي). وقد أحسنت وزارة المعارف المصرية في طبع هذا الكتاب، الذي يعرف أبناء العروبة بإخوانهم في العروبة والإسلام أهل تونس من أهل الشعر والأدب والعلم. كما أحسن سعادة حسن حسني عبد الوهاب في تأليف هذا الكتاب وإهدائه إلى كل تلميذ عربي نجيب.

والواقع أن أستاذنا المؤلف الفاضل كان متواضعاً في إهداء كتابه إلى (التلميذ)، فهو كتاب يهدى إلى المعلم والمتعلم على السواء. ولكن في الرجل تواضعاً يبعد به عن الادعاء.

لقد أمتعني هذا الأمير التونسي المتواضع العالم بهديته النفسية التي عرفتني إلى فضيلة أرضه وفصل قومه. وهم إخواننا وجيراننا. والحق أن هديته هذه باقة تونسية مختلفة الثمر، ناضرة الزهر. ولو أنها وصلت إلى أدباء القرن الرابع عشر الهجري، لعرفتنا

ص: 55

بتونس الحديثة التي يهم كل عربي أن يعرف كثيراً عن أدبائها وشعرائها وعلمائها. ولكننا نطمع منه في دراسة أخرى تصل حاضر تونس بماضيها، ولعله فاعل إن شاء الله.

3 -

إلى الأبد

هذه ملحمة شعرية جديدة للأستاذ إلياس أبي شبكة، الأديب الشاعر اللبناني المعروف. أخرجتها دار المكشوف ببيروت. وهي دار لصنيعها في النهضة الأدبية الحديثة أطواق في أعناقنا. ولقد حاولت أن أدرس شعر هذه الملحمة الفاتنة على وجه واسع إلا أن (الرسالة) الغراء قيدتني في هذا المكان الضيق وقالت لي أكتب! كما يقيد الرجل الطير في قفص ويقول له غرد!

ولست بمستطيع ذلك على سبيل يرضي عنه النقد والذوق. فآثرت أن أنقل إلى القراء بعض أبيات من هذه الملحمة تعرفهم بنفسها وتدلهم على جمالها. قال:

جنت الدنيا كما نهوى فجنى

إنما الدنيا هوى منك ومني

أنزلت عيناك في صحرائها

من سماء الحب سلواي ومَنيِّ

وقال:

أحبك. . . لا أدري لماذا أحبها

كيفاني إيماني بأني أشعر

وأهوى الذي تهوين حتى كأنني

بقلبك أستهدي وعينيك أنظر

وقال:

أحبك لا أرجو نعيما يصيبني

وأبذل من قلبي ولا أبتغي جدوى

وقد كنت أهوى فيك حسنا أناله

فأصبحت أهوى فيك فوق الذي أهوى

وقال:

كنت في الناس كالنساء فلما

جئت قلبي ظهرت شعراً ولحناً

وزرعت الآمال فيَّ نجوماً

أي كنز أحب منها وأغني؟

نحن يا ليلَ أسعد الناس فلنغ

فر لهم كل ما يقولون عنا!

ولقد كنت وأنا أمضي في قراءة هذا الديوان - أو هذه القصيدة الفريدة - أخط بقلمي على كل موضع فيه منها جمال. فلما كثرت الخطوط خرجت من هذه المهمة بأن القصيدة كلها نشيد عذب من الجمال. فأهنئ الأخ الشاعر (إلياس أبو شبكة) على تحفته، وأشكره على

ص: 56

هديته. والقصيدة كلها - على اختلاف أوزانها وقوافيها - تجري على نغم حلو الرنين مستقيم الوزن

ولقد وقفت وأنا أقرأ هذه القصيدة عند بيت أعجبني وهو:

سوف نغدو في الورى أسطورة

ينقل الناس الهوى عنك وعني

أترى في أي ديوان قرأت مثل هذا البيت؟ ولأي شاعر ينسب هذا المعنى؟ ألم يقل شوقي في مصرع كليوباترة:

غننا في الشوق أو غنى بنا

نحن في الحب حديث بعدنا

نعم قال شوقي ذلك. ولكن الياس أبو شبكة زاد عليه قوله (ينقل الناس الهوى عنك وعني) وتلك زيادة شرح وبيان زاد بها المعنى حلاوة وليست من فضول الكلام.

4 -

عطر ودخان

اشتهر الأستاذ محمود تيمور بالقصة وله فيها مكان مشهور أما أدب المقالة فلم يطالعنا منه إلا هذا الكتاب الجديد (عطر ودخان). فهو محاولة أولى من قلم تيمور؛ ولكنها محاولة ناجحة، فإن أفكار تيمور التي كان يبثها في خلال قصصه ومسرحياته نراه اليوم يبثها في خلال طائفة من المقالات الممتعة.

ولكن أليس لنا أن نتساءل لماذا عدل تيمور عن فن القصة في معالجة المشكلات إلى فن المقالات؟ هل وجد في المقالة متسعاً للعلاج لم يجده في القصص والمسرحيات؟ جواب هذا السؤال عند تيمور نفسه. ولكننا نستطيع أن نؤكد له أن هذه المقالات فيها من المتعة الفنية الكثير. وأن فيها من روح القصصي الكثير. وأن فيها نفوذاً إلى دقائق الحياة عالجها تيمور في هدوئه ورفقه أكثر مما يعالج الكتاب الاجتماعيون بالأرقام والمستندات. . .

وأول شئ في هذا الكتاب فصل عن الرجعية الحميدة وكونها من دعائم النهضة الحديثة. فالأستاذ تيمور في هذا الفصل العميق ينادي بأن نأخذ من الجديد ما يبقى على شخصيتنا ويجعلها قوية نامية. وينادي بأنه ليس من المستطاع قطع الصلة بالماضي قطعاً باتاً مهما يكن من أمره ومهما تكن المصلحة في هذا القطع. فما يدعو أليه ولاة التجديد من نفض اليدين من تراث الماضي مضاد للطبيعة القاهرة التي جعلتنا زبدة ذلك الماضي. وهذا كلام جميل وخاصة أن الرجل كمحمود تيمور عرف ثقافة العرب وثقافة الغرب. ولعل هذه

ص: 57

الصرخة الكريمة من تيمور مضافة إلى صرخات المعتدلين تحمل المغالين في تحقير القديم على أن يخففوا من غلوائهم.

وهذا الفصل الأول جعله تيمور جداً كله، ولهذا صدر به كتابه الجديد، إلا أن في الفصول التالية جمعاً بين الجد والدعابة. ودعابة تيمور كالجد لأنه يرسلها في جو من الحياء والاستحياء والوقار فيختلط على قارئه الأمر ولا يدري أجاداً كان أم مداعباً. . .

ومحمود تيمور بارع في الصور الوصفية للرجال، ولا شك أن لوحاته الثلاث لشقيقه إسماعيل باشا تيمور ولصديقه زكي طليمات وبشر فارس هي مما يحملنا على أن نستزيده من مثلها لأخواننا الأدباء. . .

محمد عبد الغني حسن

ص: 58

‌المسرح والسينما

نقد فيلم (القلب له واحد)

تأليف وإخراج بركات. إنتاج آسيا

القصة:

تصور طبقتين مختلفتين، الطبقة الأولى تعقدت نفوس أصحابها بحب المظاهر وهذه يمثلها ملك هانم وابنتها منى، والطبقة الثانية صفت نفوس أصحابها فساروا في الحياة سيراً طبيعيًا لا يعتوره مغالاة ولا تكلف، وهذه تمثلها سعاد. والجميع في بيت واحد هو بيت شوكت بك، فملك زوجته تحوط ابنتها منى برعايتها وحنانها. وسعاد - ابنته من زوجته الراحلة - منطوية على نفسها ترسل تغاريدها شجية فيستمع لها الجدم ويمسحون دموعها فتتعزى بعطفهم وتنسى ما ألم بهم من حرمان. وهنا شاء المؤلف أن يكون هناك صراع بين الفتاتين حول رؤوف فأيهما ستفوز؟ هذه منى بجمالها المتكلف تلاحق رؤوف في كل مكان وتحاول - بمعاونة أمها - أن تطويه، وتلك سعاد لا تملك من السلاح إلا البساطة والسذاجة وعلى الرغم من ذلك فلا يتردد رؤوف في اختيار سعاد فأنساها بذلك ما لقيته في الحياة من شقاء. فغنت سعاد ولكن غناءها في هذه المرة يختلف عما اعتادت أن تغني به فكان ذلك خير ختام للقصة.

هذا هو ملخص لقصة الفيلم وقد وفق المؤلف في إبراز فكرته في بساطة محببة وأسلوب لطيف خال من الافتعال الذي نلمسه في أكثر الأفلام.

التمثيل:

صباح - قامت بدور (سعاد) فنجحت كممثلة أولاً لأن المخرج لم يرهقها بتعاليمه وإنما تركها على سجيتها فاستطاعت أن تكون ممثلة وممثلة عظيمة، أما كمطربة فقد تعاون زكريا والقصبجي ورياض على تكييف صوتها، واستطاعت هي أن تأسر الجمهور بصوتها وهي تغني (أروح وألا ما أروحش - وانا مالي كده متخده - وبشويش على عقلك بشويش - وحيرانه يا ربي)

أنور وجدي: قام بدور (رؤوف) وكان من الممكن أن يكون هذا الدور درة أدوار أنور

ص: 59

العاطفية. ولكن المخرج كان يعلم أن أنور ليس بالممثل العاطفي، فجعل كل مواقف النجوى بينه وبين صباح أقرب إلى الفكاهة وحسناً فعل، فقد نجحت تلك المواقف وخاصة عند لقائهما على شاطئ النيل وفي البيت حين ظنته سارقاً. والحقيقة أن أنور يجيد تمثيل دور العاشق العابث، أما العاشق الجدي الذي كان جديراً أن يسند إليه هذا الدور فلم تعثر عليه السينما المصرية بعد.

سليمان بك نجيب - قام بدور - (شوكت بك) وكان عليه أن يكون ضعيفاً مستسلماً في أول الفيلم فكان الضعيف المستسلم ثم كان عليه أن يثور في آخر الفيلم فثار وهنا. وهنا فقط ظهرت موهبته. ميمي شكيب - قامت بدور (ملك هانم) وهو دورها الذي تجيد تمثيله من غير شك. فردوس محمد - قامت بدور (الدادة) فأدته على أكمل وجه، أما محمد كامل وإسماعيل يس وعبد الحميد زكي وعبد النبي محمد (فريق الخدم) فكانوا موفقين كل التوفيق. يحيى مراد - نجم جديد ظهر في بعض الأفلام ولكنه في هذا الفيلم أثبت موهبته على الرغم من قصر دوره. الضوء، والصوت، والمناظر. لا بأس. .

الإخراج: لم يخل الإخراج من بعض الهنات كان من الممكن تلافيها مثال ذلك: مهاجمة العصابة للسيارة من غير أن يحاولوا الاستخفاء حتى على النظارة، والمغالاة في معاملة ملك ومنى لسعاد (والعريس) الذي جاء لخطبة سعاد على صورة مشبعة بالافتعال وموقف سعاد وهي تنتظر والدادة. وإجادة سعاد للرقص مع أنها ترقص لأول مرة، وموقف سعاد من رؤوف في نهاية الفيلم، وليس بمعقول أن تخدع فتاة - مهما كانت سذاجتها بشاب أنيق مثل رؤوف بأنه (غلبان ومسكين ومش لاقي ياكل). وعلى الرغم من هذه الملاحظات فقد قفز بركات بفن الإخراج قفزة موفقة نهنئه عليها.

أما بعد، فإذا كانت السينما في مصر لم تزل موسوعة يحوي الفيلم الواحد مواقف متعددة. درامية وكوميدية ورقصاً واستعراضاً وغير ذلك فإن مخرج هذا الفيلم قد نجح في المزج بين هذه الأشياء وفي نفس الوقت عالج مشاكل اجتماعية لها خطرها في أسلوب رائق متجدد خال من الافتعال والتكلف والحشو، ولا يسعني إزاء هذا المجهود إلا أن أهنئ آسيا وأتمنى لبركات ولجميع من اشتركوا في الفيلم اطراد التقدم.

عبد الفتاح متولي غين

ص: 60