المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 616 - بتاريخ: 23 - 04 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦١٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 616

- بتاريخ: 23 - 04 - 1945

ص: -1

‌إلى صاحب المعالي عبد الرزاق السهوري بك

رأي واقتراح

إن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق

المدرسة، ولكن من الممكن أن ننقل العلم عن طريق المدرسة،

ولكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق

الترجمة

يا صاحب المعالي، إن أخص ما يميزك على نظرائك في العلم والحكم أنك تقدس الحقيقة وتطلب الحق. وإن سبيلك إلى ذلك عقل راجح واضح يتعمق ويتبسط، ويحيط ويستوعب، ويدقق ويحقق، ويستقرئ ويستنبط؛ فإذا رأيت الحق في جانبك أقنعت ومنطقك سديد وحجتك ملزمة؛ وإن رأيته في الجانب الآخر اقتنعت وعقلك راض ونفسك مسلمة. وقد أجمع الذين عرفوك أن في مناقشتك الرأي أو في مطارحتك الحديث متعةً للعقل والذهن؛ لأنك توضح الخطة وتحدد الرسوم وتعين الغاية، ثم تعرض الرأي عالما بما تقول، وتسمع الرأي فاهماً لما يقال، ثم تعارض القول بالقول، وتوازن الدليل بالدليل، ثم تحكم الحكم المسبب لك أو عليك فلا تدع للمكابرة والمماراة سبيلاً إلى استئناف أو نقص!

لذلك أحببت أن أتقدم إلى معاليك برأي يتصل بالتقافة؛ ويقيني أنك إذا اقتنعت به أمضيته؛ وإذا أمضيته كان حرياً أن يضيف عصر الفاروق إلى عصر عصور بركليس وأغسطس والمأمون ولويس الرابع عشر، وهي كما تعلم العصور الذهبية التي تحدد المراحل المتعاقبة للإنسان المتمدن في طريقه إلى المعرفة.

تعلم معاليك أن أدبنا الجديد لا يزال ناقصاً في نوعه قاصراً في بيانه. ناقص في نوعه لأنه أنكر قديمه وجهل جديد الناس، فلم يغذه ماض ولم يمنه حاضر، فظل مخدج الخلق لا هو حي ولا هو ميت. ولقد كان أدبنا القديم في حدود مراميه اللسان العام لخوالج النفس الإنسانية في أكثر بقاع الأرض، فلم تكن هناك فكرة تجول في ذهن كاتب، ولا صورة تتمثل في خاطر شاعر، إلا وجدت في هذا الخصم المحيط صدفة تستقر فيها. فلما تحولت

ص: 1

عن مذاهبه الأنهار، وجفت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة المحدودة لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل حيناً بعد حين. فالقارئ العربي الحديث لا يجد فيما أثر منه ولا في أكثر ما استجد فيه غذاء عقله ولا رضا شعوره؛ لأن المأثور منه ناقص لانقطاعه عن سير المدنية، والجديد منه ناقص لخلوه من الآداب الأجنبية. والغريب المخجل أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية! فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله؛ ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العباقرة العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه ونشرهما على حسابه!

فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة؛ فإن لكل أمة مزايا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم؛ والمحاكاة والاحتذاء من أقوى العوالم أثراً في الأدب.

والأدب العربي قاصر في بيانه، لأنه مقطوع الصلة بحضارة العصر، فلا يستطيع أقدر كتابنا أن يتحدث عما يستعمل من ماعون وأثاث، ولا أن يصف ما يركب من باخرة أو طائرة، ومجمعنا اللغوي على ما نرى من نشاه لن يقدم إلى الناس معجمه المنتظر إلا بعد جيل أو جيلين، حين يكون كل شيء في العالم قد تغير أو تطور، فيصبح معجمه في الجدة يومئذ كمعجم (لسان العرب) اليوم! والزمان يا معالي الوزير يسرع، والعالم كله يجد، والساري على مركب العجز لا يلحق، والبيان قاصر لصف الخرس، واللغة الناقصة ثلاثة أرباع الجهل.

وما قلناه في اللغة والأدب تقوله في العلم والفن؛ فإن ما في العربية منهما لا يعدو في الغالب أن يكون ملخصات مجهولة النسب، أو مقتبسات قليلة الغناء، إذا نفعت أحداً فإنما تنفع طلاب المدارس. أما الشعب الظامئ إلى المعرفة فلا يجد بين يديه من أمهات الكتب العلمية والفنية ما ينفع غليله ويسد عوزه. وما دام المر كذلك فسيظل اللسان العربي والعقل العربي محصورين في حدود القرون الوسطى لا يواكبان ركب الحياة، ولا يسايران تقدم الفكر.

ص: 2

إن العلوم اليوم أوربية وأمريكية ما في ذلك شك. وإن الفروق التي باعدت بين الشرق والغرب في مدلول الإنسانية الراقية إنما يجمعها كلها لفظ العلم. وهذا العلم الذي يسخر السموات والأرض للإنسان الضعيف، ويذلل القطعان الملايين للراعي الفرد، سيبقى غريباً عنا ما لم ننقله إلى ملكنا بالتعريب، ونعممه في شعبنا بالنشر؛ ولا يمكن أن يصلنا به أو بديننا منه كثرة المدارس ولا وفرة الطلاب، فإن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق المدرسة، ولكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق الترجمة.

فالترجمة إذن يا معالي الوزير هي الوسيلة الأولى لدفع القصور عن اللغة، وسد النقص في الأدب، وكشف الظلام عن الأمة. وبحسبنا أن ننقل معجماً من المعاجم العلمية الأوربية لتصبح لغتنا كاملة وثقافتنا شاملة؛ فإنا مضطرون في أثناء الترجمة أن نضع المصطلحات الحديثة لكل علم وفن، فلا يتم المعجم حتى تتم اللغة. وإذا نقلنا إلى العربية نتاج القرائح لأقطاب العلوم والفنون والآداب من الإنكليز والأمريكان، والفرنسيين والألمان، والروسيين والطليان، أصبح هؤلاء العالميون جزءاً من كياننا الأدبي، وركناً في بنائنا العلمي، نعتز به ونستمد منه ونفتت فيه ونزيد عليه، كما فعل آباؤنا الأقدمون بما نقلوه من علوم الإغريق والهنود واليهود والسريان والفرس.

لذلك أرى - ورأيك الأعلى - أن تنشأ دار للترجمة مستقلة عن ديوان الوزارة، يكون لها من جلالة القدر ونباهة الذكر ما للجامعتين؛ فإنها على اليقين ستكون جامعة شعبية لا تقل عنهما في الخطر والأثر؛ أو قل إنهما الميدانان المتقدمان وهي مركز التموين الذي يمدهما بالميرة والذخيرة والمدد. ثم يختار لها مائتان على الأقل من المترجمين النابغين في لغتهم وفي اللغات الأوربية الثلاث، ينقلون الآداب الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً، فلا يدعون علماً من أعلام الأدب والعلم والفن والفلسفة إلا نقلوا كتبه ونشروها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية.

هذه الدار ستنقل إلى العربية كل يوم أربعمائة صفحة مصححة منقحة مهيأة للنشر، قد تكون كتابين أو كتاباً أو جزءاً من كتاب على حسب النظام الذي يوضع لها. فإذا فرغت من ترجمة الموجود فرغت لترجمة المستجد، فلا يكون بين ظهور الكتاب في أوربا وظهوره في مصر إلا ريثما يترجم هنا ويطبع. أما نفقات الدار فلا تزيد على مائة ألف جنيه؛ وقد

ص: 3

تنقص إلى نصف ذلك إذا ساهم فيها الأمراء والأغنياء وجامعة الدول العربية. على أن ما ينفق في سبيل هذا العمل العظيم يقل مهما كثر في جانب ما يؤتيه من تجديد اللغة، وتطعيم الأدب، وتعريب العلم، وتعميم الثقافة، وتدعيم النهضة، وتسيير القراءة، وتشجيع القارئ، وفي تحقيق منفعة واحدة من هؤلاء تخليد لذكر من قام بهذا العمل أو شارك فيه أو أعان عليه؛ فما بالك إذا حقق هذه المنافع جمعاء؟

ذلك جوهر الفكرة يا معالي الوزير عرضته عليك، أما النظر في تأثيلها وتفصيلها فأتركه إليك.

احمد حسن الزيات

ص: 4

‌النيف في العدد

للأستاذ محمد إسعاف النشاشبي

في مقالة (أبو العلا المعري) في الرسالة الغراء 604 في الحاشية رويت هذا الخبر في (الموشح):

(نظر يعقوب الكندي في شعر أبي تمام فقال: هذا رجل يموت قبل حينه، لأنه حمل على كيانه بالفكر. ويقال: إن أبا تمام مات لنيف وثلاثين سنة)

فقال لي في القاهرة عالم كبير: (لثلاثين سنة ونيف)

فقلت: هذا ما جاء في (لسان العرب) - عنيت المعجم - ولكن المبرد في (الكامل) في مواضع كثيرة قدم هذا المؤخر. ومثله غيره من الأدباء وكتاب السير والمؤرخين والعلماء. والذي ورد في (الموشح) هو كلام الإمام المرزباني لا ريب فيه، ولا تبديل وقد بعثني تنبيه ذلك العالم على إملاء هذه الأحرف.

لم تجئ (النيف) مع العدد - حسب ظني - في كلام جاهلي أو إسلامي متقدم، فهي في هذا الاستعمال إسلامية متأخرة أو مولدة متقدمة. وإذا صاحبت قولاً جاهلياً أو إسلامياً متقدماً فقل: أنه مصوغ أو مبدل أو هو من عند راوية المحدث. ذكر المسعودي في (المروج) هذه الجمل من خطبة منسوبة إلى علي (رضى الله عنه): (وقد زعمت قريش أن أبن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحروب. تربت أيديهم! وهل فيهم أشد مراساً لها مني، لقد نهضت فيها وما بلغت الثلاثين، وها أنا ذا قد أريت على نيف وستين)

ورواية الرضي في (المجموعة النهجية)(وها أنا ذا قد ذرفت على الستين)، ورواية المبرد في (الكامل):(ولقد نيفت اليوم على الستين)

فإن قال الإمام ما قال فليس هناك إلا (ذرفت أو نيفت على الستين) فاعرف ذلك ولا تثق بما روى المسعودي.

لم يقل ابن دريد في كتابه (جمهرة اللغة) - وهو أقدم معجم بعد العين - في النيف إلا هذا (النيف الزيادة من قولهم نيفت على السبعين أي زدت عليها) ولم يزد. . .

ولم يحدث سيبويه في (الكتاب) ولا ابن سيده في (المخصص) في تلكم اللفظة في باب العدد بشيء.

ص: 5

يقول الجوهري في صحاحه: (النيف الزيادة، يخفف ويشدد، وأصله من الواو، يقال: عشرة ونيف ومائة ونيف)

وقال اللسان: (الأزهري: يقال: هذه مائة ونيف - وبتشديد الياء - أي زيادة، وعوام الناس يخففون ويقولون ونيف، وهو لحن عند الفصحاء. الأصمعي: النيف والنيف كميت وميت. قال اللحياني: يقال: عشرون ونيف ومائة ونيف وألف ونيف، ولا يقال إلا بعد عقد.

وفي (المصباح): قال أبو العباس: الذي حصلناه من أقاويل حذاق البصريين والكوفيين أن النيف من واحد إلى ثلاثة، والبضع من أربع إلى تسع، ولا يقال نيف إلا بعد عقد نحو عشرة ونيف ومائة ونيف وألف ونيف.

وفي (همع الهوامع): هما - يعني البضع والبضعة - من ثلاث إلى تسع، وبذلك فارقه النيف فإنه من واحد وفارقه أيضاً في أنه يكون للمذكر والمؤنث بغير هاء.

فالنيف كما يستدل مما أورده الجوهري والأزهري واللحاني والفيومي - تتأخر ولا تتقدم، تعطف على العدد، ولا يعطف عليها. وقد قدم المبرد فقال في كامله (رغبة الآمل ج3 ص181:. . . فقال الحسن ونحن إذ ذاك نجري على نيف وسبعين ألف ملاح. ومثل ذلك في ج 4 ص 197 وج 7 ص 244 وفي ج 8 ص 95 وأنا أروى هذا الخبر بكامله إكراماً لبطولة المهلب وبنيه ورجاله وبطولة قوم شجعان يقول شاعرهم وقائدهم:

ألا أيها الباغي البراز تقربن

أساقك بالموت الزعاف المقشبا

فما في تساقي الموت في الحرب سبه

على شاربيه فاسقني منه واشربا

قال أبو العباس:

وجه الحجاج إلى المهلب رجلين أحدهما من كلب، والآخر من سليم يستحثانه بالقتال، فقال المهلب متمثلاً:

ومستعجب مما يرى من أناتنا

ولو زبنته الحرب لم يترمرم

وقال ليزيد: حركهم، فحركهم فتهايجوا وذلك في قرية من قرى إصطخر، فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فطعنه فشك فخذه بالسرج، فقال المهلب للسلمي والكلبي: كيف نقاتل قوماً هذا طعنهم! وحمل يزيد عليهم، وقد جاء الرقاد، وهو من فرسان المهلب على فرس له أدهم وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل

ص: 6

يزيد ولى الجمع، وحماهم فارسان، فقال يزيد لقيس الخشني: من لهذين؟ قال: أنا. فحمل عليهما، فعطف عليه أحدهما، فطعنه قيس الخشنى فصرعه، وحمل عليه الآخر فعانقه، فسقطاً جميعاً إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعاً. فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء فحجزوا بينهما، فإذا معانقة امرأة، فقال قيس مستحيياً، فقال له يزيد: أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقالت: أرأيت لو قتلت، أما كان يقال قتلته امرأة.

ولم يناقش العلامة المرصفي في (رغبة الآمل) صاحب (الكامل) في موضع من المواضع الأربعة في حين أنه نبه على أشياء غير قليلة في كتابه.

والحريري الذي اعتاد تخطئه الصواب في (درته) لم يغلط إلا من خفف النيف.

وقال أبو بكر الخوارزمي في إحدى رسائله (ص132 مطبعة الجوائب): في نيف وسبعين من جماعة شيعة.

ومثل هذا الاستعمال في مروج الذهب ج 2 ص 195 وج 3 ص 58.

وفي تاريخ الطبري ج11 ص 212.

ومثله في (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) ج1 ص 216 وج 2 ص141 وج 4 ص215 وج 16 ص219 وج 17 ص231 وج 18 ص81.

ومثله في (معاهد التنصيص) ج1 ص102 وج 2 ص116 و182 وفي (كليات أبي البقاء) ص360.

ذلكم ما جاء في مصنفات القوم، وقد نزل النيف في أقواله حيث نزل. وإنا لنستبعد تبديل ناسخين فيها. فما الذي حملهم على تقديم الزيادة على المزيد عليه؟

هل قاسوا النيف على البضع في بعض حالاته فقالوه، أو استخفوا هذا التركيب فمشوه. وهل عليهم فيما أتوه من حرج؟

وهل نؤخر نحن معشر العرب في هذا الزمان أو نقدم. .؟

محمد إسعاف النشاشيبي

ص: 7

‌لماذا تفلسف الإنسان؟

للدكتور محمد البهي

يعتبر مؤرخو الفلسفة القرن السادس قبل الميلاد بداية التفلسف الإنساني. والفلسفة إذا قيل في شأنها إنها محبة الحكمة، والتفلسف إذا عبر عنه بأنه البحث عن الحكمة، فمن غير شك أيضاً أن الفلسفة في أول عهدها مجموع المعارف التي حررها الإنسان أو استخلصها من المعارف السابقة على عهدها، وأن التفلسف في بداية عهده أيضاً نظر الإنسان في هذه المعارف السابقة لاختيار ما يصلح منها في رأيه للبقاء. فالفلسفة هي معارف مختارة، والتفلسف هو إعمال الروية في تصفيف المعارف التي كانت متداوله في الجماعة الإنسانية إلى حين التفلسف في القرن السادس قبل الميلاد.

والتفلسف إذا كان تصفية واختيار يفرض طبعاً وجود مجموعة من المعارف بعضها محلاً للتصفية والاختيار. وقبل عهد التفلسف كانت هناك معارف متداولة في الجماعة الإنسانية، ولكنها كانت كلها معارف إلهية، أي كانت منسوبة إلى الآلهة، وكانت طائفة بالذات هي طائفة رجال الدين أو من تسمى بالكهنة تقوم بشأنها وتتعهدها بالحفظ والتناقل والشرح. وما عدا هذه الطائفة من طوائف أخرى كانت تقف من هذه المعارف موقف القابل المطيع الذي لا يسمح له بمعارضة أي نوع منها ولو معارضة نفسية داخلية، فضلاً عن معارضتها بالتفنيد عن طريق الحجة أمام آخرين، فهذه المعارف لها قداستها من الجميع، وقداستها تمنع نقدها وتحتم قبولها.

والإنسانية في جماعات مختلفة وفي أجيال متعددة قبلت المعارف الدينية، وقبولها يتضمن تقديسها وعدم نقدها، وتقديسها وعدم نقدها ينسحب إلى تقديس من يقوم بأمرها وعدم معارضته. وما عرف للإنسان من عمل فيها كان عبارة عن شرحها شرحاً عقلياً يساعد على رواجها لدى أصحاب القلق النفسي من التابعين للدين. وبهذا كان عقل الإنسان في خدمة التعاليم الدينية ولتأييد قداستها وقداسة القائمين بأمرها. وقد نسترسل فندعى أو خدمة الإنسان لهذه التعاليم عن طريق عمله العقلي لم يكن لعهد وجودها ونشأتها فحسب، بل استمرت أيضاً في مراحل تطورها. والإنسان بعقله كما أيدها أيضاً وقد دخلتها صنعة الدين. وربما كان تعظيم طائفة الكهنة وتميزها عن بقية الطوائف في الأمم الشرقية القديمة

ص: 8

من عمل الإنسان المؤيد أو من نتائج تأييده لتلك التعاليم عن طريق عمله العقلي، ولم يكن بوحي أصل من أصول أديان تلك الأمم.

وقبل التفلسف الإنساني أو قبل التفلسف الإغريقي في القرن السادس قبل الميلاد كانت تسيطر إذا على معارف الجماعة الإنسانية عدة مظاهر:

1 -

كانت المعارف الدينية وحدها هي التي تقود الإنسان.

2 -

وكانت طاعة الإنسان لهذه المعارف ناشئة عن تقديسه لها واعتقاده بعصمتها.

3 -

وكان القائم بأمر هذه المعارف، سواء بتعليمها وتلقيها أو بشرحها وتحديد مدلولات عباراتها، طائفة معينة هي طائفة الكهنة.

4 -

وعمل الإنسان العقلي كان مرتبطاً بأصول هذه التعاليم وفي خدمتها ولغاية تمكينها من النفوس الحائرة.

وإذا كان القائم بأمر التوجيه في الجماعة الإنسانية طائفة معينة، وإذا كانت في توجيهها تصدر عن إرادة الله ومن تعاليم وسيط في الكون وهو الرسول، وإذا كان غيرها من الطوائف في الجماعة عليه أن يخضع ويطيع فحسب، فليس هناك من ضمان في أن يبقى توجيه الطائفة المعينة في دائرة التعاليم الأولى للدين. وليس هناك من ضمان أيضاً في أن يكون شرحها لهذه التعاليم في حدود الغاية التي يبغيها صاحب الرسالة، بل يجوز أن تجعل هي من الدين سراً تختص بعلمه دون بقية التابعين وهو غير ما عرض على هؤلاء التابعين، ويجوز أن تشرح ما عرف لهؤلاء باسم الدين بما تراه هي لا بما يهدف إليه الدين نفسه. وإذا جعلت من الدين سراً خاصاً بها فليست هناك لأحد استطاعة في أن يراقبها فيه، وإذا فسرت ما عرفه الناس من تعاليم الدين بما تراه هي فإسناد التوجيه إليها خاصة وقيامها وحدها دون سواها بأمر هذه التعاليم يحميها من التجريح ومن رميها بأتباع الهوى والغرض في التفسير. ثم نسبتها إلى مقدس هو الدين يزيد في حميتها وفي إبعاد الأغراض الخاصة عنها.

وفي طبع الإنسان إذا شعر بالتمييز أن يطمع في أن تتسع دائرته حتى ليود أن يصبح طبيعة أخرى مغايرة لطبيعة الإنسان ولكنها أرقى منها. ورجال الدين أو طائفة الكهنة كانت متميزة لأنها اختصت بمعرفة الدين وشرحه والقيام عليه، وطمعت أيضاً في أن يزداد

ص: 9

تميزها. وقد زاد حتى عدت في بعض العهود أبناء للآلهة أو من سلالتها كما اعتبرت بعض الطبقات الأخرى عبيداً لها.

وانقسمت الجماعة الإنسانية عندئذ إلى قسمين متقابلين: قسم شريف هو طائفة الكهنة، وقسم أخر خسيس هو العمال والأكرة.

وإذا الإنسان أو ادعى تميزه إلى حد أن يعتبر طبيعته مغايرة لطبيعة من دونه، في الوقت نفسه يتولى هو أمر هذا الذي دونه، فتوليه للأمر يصدر فيه عن الشعور بالمفارقة. والكهنة كذلك جعلوا تكاليفهم ورسومهم في العبادة مختلفة أيضاً.

وهكذا آل الدين الذي شأنه أن يسوى بين الناس في الطبيعة ويجعل تفاوتهم في بعدهم أو قربهم من مثله الأعلى، إلى أن يكون عاملاً في التفريق بين طبائعهم. وهكذا آل أمر رجال الدين إلى أن يكونوا طبقة متميزة، وآل توجيههم إلى أن يكون إملاءً للمحافظة على تميزهم أو للمحافظة على بقاء دولتهم. وبالتالي أصبح الدين صناعة محتكرة، وأصبحت المعرفة المسيطرة على الجماعة الإنسان إلى سعادته، بل لإسعاد طائفة معينة.

هذا المصير الذي صارت إليه المعرفة الدينية، وصار إليه رجال الدين فيما قبل القرن السادس قبل الميلاد، وصارت إليه الجماعة الإنسانية، حمل بعض الناس على أن يثور، وعلى أن يسلك طريق الفكر في ثورته للرد والإقناع. ولم تكن ثورته الفكرية حباً في معالجة الجدل، بل لوضع حد لامتهان الإنسان، ورد اعتبار الإنسان، وتخليص الإنسان من الإنسان، وإسعاد كل فرد من الإنسان لا طائفة معينة بالذات. وتوجه هذا البعض إلى تعاليم الكهنة لا ليقرها ويقبلها كما كان الشأن بالنسبة إليها بل لينقذها. ومعيار نقده ليس السماع والرواية، وليس الإذعان للعصمة والقداسة، بل عقله ومنطقه.

وأطلق على هذه الثورة الفكرية تفلسفاً. والنفر الذي رفع علم هذه الثورة كان من الإغريق. والشرق إذا كان فكر قبل هذا، وأنتج في محصول الفكر البشري، فقد كان على نحو ما بينا في دائرة الدين ولخدمة المعارف الدينية. والإصلاح التي قامت في الشرق لرفع مستوى الإنسان ورد اعتباره وإزالة الفوارق الطائفية كانت إصلاحات دينية كالزرادشتية والبوذية. فالأولى كانت تعديلا دينياً أو إصلاحاً دينياً للديانة الشعبية الآرية التي قامت على عبادة النار والطبيعة المحسوسة، والثانية كانت تعديلاً للبراهمية التي حولت الجماعة الهندية إلى

ص: 10

طبقات متفاوته في الطبيعة.

وبنشأة التفلسف تكونت الفلسفة، وأصبح في الجماعة الإنسانية نوعان من المعرفة: المعرفة الدينية، والمعرفة الفلسفية أو الإنسانية. وإذا كانت الأولى يدعى فيها العصمة، فالثانية للإنسان أن يصوب أو يخطئ فيها. وإذا كانت مبادئ الأولى محدودة لأنها وقف على الوحي، فالثانية قابلة للزيادة والنماء لأنها في متناول كل الأجيال الإنسانية. وإذا كان رجال الدين هم المحافظون في كل أمة بحكم موقفهم من عدم التصرف في معارف الدين، فالفلاسفة هم رجال الثورة الفكرية وأصحاب التطور في توجيه الإنسان. وإذا كان رجال الدين يضعفون من قيمة الإنسان واعتباره، وقد يلغون أثره في الحياة، ويردون كل أثر فيها إلى الله، لتتضاعف بذلك عظمة الإله، فالفلاسفة يشيدون بالإنسان وينسبون إليه أثراً ويسندون إليه فعلاً في تغيير الحياة نفسها.

والفيلسوف وإن كان رجل ثورة على التعاليم الدينية، فثورته في الواقع على التعاليم التي كونها الإنسان باسم الدين، والتي ربما قلب بها أوضاع الدين وحرف بها هدفه. والفيلسوف وإن رمى بالإلحاد فرميه به عادة من رجال الدين، وليس بلازم أن يكون منكراً للدين وإن أنكر تعاليم رجاله. ولكنه مع عدم إنكاره الدين لا يبلغ مبلغ رجل الدين في إلغاء وجود الإنسان بغيه إظهار عظمة الله.

ولأن التفلسف في بدايته كان خروجاً على تعاليم رجال الدين وعلى المألوف من المعارف المسيطرة على الجماعة الإنسانية عد الفيلسوف مناوئاً لرجل الدين وعدت الفلسفة عدوة للدين. وبمقدار ما في القضية الأولى من صدق بمقدار ما في الثانية من مبالغة. إذ الأديان في طبيعتها تنظر إلى أفراد الإنسان نظرة مساواة وتهدف إلى إسعادهم جميعاً، وكذلك الشأن في الفلسفة، وفقط طريق أحدهما قد يختلف عن طريق الآخر.

وكما لم تستطع الفلسفة أن تلغى الأديان كذلك هذه لم تستطع إلغاء الفلسفة، بل الفلسفة إن لم تنته إلى ما ينتهي إليه الدين، تعترف بحيز له لا تستطيع السير فيه إذا اقتحمته، والدين في وضعه الأصلي إذا لم يشجع التفكير الإنساني في دائرة ما يرسمه له يدع له مجالاً خاصاً به، لا يبدى - إذا أبدى - رأياً في ناحية من نواحيه إلا عن طريق الإجمال.

وما بين الفلاسفة ورجال الدين، فلأجل توجيه الإنسان. فالفلاسفة يرون أن رجال الدين لما

ص: 11

لتعاليم الدين الذي ينسبون إليه من قداسة، ولما لهم هم أنفسهم من طبيعة إنسانية تميل إلى الجاه والسلطان، قد يكون لهم خطر على الإنسان في قيادتهم له إن احتكروا الدين وجعلوا فهمه وفقاً عليهم وحدهم. فلكي لا يقع هذا الخطر يذكر الفلاسفة بتفلسفهم الإنسان بقيمته واعتبار وجوده، حتى لا يكون انجذابه إلى تعاليم رجل الدين عن غير روية واختيار. ورجال الدين لأنهم يرون في الفلاسفة منكرين لإفهامهم الدينية ومفرقين بين الدين وتعاليمهم، ومحرضين الإنسان على عدم الانقياد لهم في يسر وسهولة يقررون بعد الفلاسفة عن التوجيه الصحيح للإنسان ويصورونهم منحرفين عن الدين.

وإذا كانت الفلاسفة في بدايتها تكونت من المعارف الدينية، فالفلاسفة في العصور المختلفة إلى عصرنا نشئوا تنشئة دينية وكانوا من رجال الدين قبل أن يصيروا من رجال الفكر، وإن اختلفت بدايتهم عما صاروا إليه، فليس لأنهم أنكروا الدين، بل لأنهم خالفوا رجال الدين في تصويرهم للدين وعرضهم له.

وإذا كان تفلسف الإنسان في أول الأمر لرفع طغيان الإنسان باسم الدين، فلم تزل حرية التفكير التي هي أساس التفلسف وسيلة الإنسان السلمية لتكبح اعتداء الإنسان باسم أي شيء آخر.

محمد البهي

ص: 12

‌صلوات فكر في محاريب الطبيعة

للأستاذ عبد المنعم خلاف

مع العالم الأكبر

لنا نحن الآدميين عالم صغير، هو الأرض. شغلنا به وبصغاراته عن العالم الأكبر وغاياته، بل إن لأكثرنا عالماً لا يعدو أن يكون بيته أو حجرته أو حقله أو وظيفته أو ديناره أو كأسه أو بطنه، إلى آخر هذه التفاهات.

وقد مضينا نقطع العمر هكذا دائرين على هذه الصغارات كما يدور الذباب على القاذورات والعفونات. . . وكأنه لا يعنينا من شأن هذا العالم الأكبر الذي نرى معالمه العظيمة في السماء تضيء لنا، وتنادي عيوننا بنورها إلى النور الأكبر الذي يضيء ذلك العالم، ما نراه ولا ما نراه، لنتجه إليه بآمالنا وأفكارنا ومساعينا، ولتتسع سماحة نفوسنا باتساع عالمنا الذي يشغل بالنا؛ فإن الذي يتجه إلى الكثير ويعنى بالعظيم، قليلاً ما يخاصم على القليل والحقير. وإن السر في سماحة النفس التي شغلتها السماء فلم تخلد إلى الأرض، هو هذا الاتجاه إلى مفاتح الرحمة وكنوز الثراء وخزائن النور الأعلى!

لهم عذرهم أولئك الذين مضوا قبل التاريخ، وقبل معرفة جدود الأرض وضآلتها ومركزها الصغير في الكون، أن تشغلهم أنفسهم أو ديارهم الضيقة، أو جزرهم المنثورة في محيط مائي، أو واحتهم الضالة في بيداء، وأن يحسبوا أن العالم ضيق لضيق ما يعرفون. . .

ولكن، لا عذر لأبناء هذا الزمان الذي يتلقى صغارهم وناشئوهم كثيراً من حقائق الكون وأوضاع الأرض وأخبار الأمم مما لم يبسر عشر معشاره لفلاسفة تلك الأزمنة التي خلت وبادت

كما كان يشير الرواد الأولون بأيديهم صوب الدروب والبقاع المجهولة التي كشفوها ورادوها، ينبغي أن يشير الآن رواد الحياة والعلوم للناس إلى الطريق الذي يجب أن يسيروا فيه وحده إلى حقائق الوجود الحالي وعلومه ومعارفه. . . ينبغي أن يشير المعلمون والآباء للأطفال إلى ذلك الطريق. . . ويفتحوا مداركهم على فجاج الحياة ومناجع الأسرار، وأن يشعروهم رهبة الرحلة في هذا الكون!

ينبغي أن يقول الوالد الجسدي أو الروحي لولده عند ما تتفتح مداركه ويستطيع التمييز: يا

ص: 13

بني إني جئت الحياة مثلك. وقبلي جاء أبي وأبو أبي، في حبل نسل طويل يتصل بآدم أبي البشر. . . لنرى هنا ما تراه أنت اليوم بعيونك الجديدة. وقد أصاب عيني الكلال من كثرة التحديق إلى مشاعل النور التي تراها فوق. . . ولم يشغلني عنها من ظلمات الأرض. وحسبك نظرة بالليل الرهيب لترى أن عينيك غريبتان في هذه الظلمات! لأنها لم تصنع لها غربة روحك في كثافة جسمك التي لم تخلق لها. . .

يا بني إن عينيك مخلوقتان لنور الشمس والنجوم التي تعرفها في السماء. . . وكذلك روحك مخلوقة لنور الكون وروحه. ولا تستطيع حياة الظلام الأرضي. . . فأرفع عينيك إلى منابع نورها، وارفع روحك إلى منبع نورها. . . يا بني إننا ألقينا في ظلمات هذه الأرض لغرض عظيم خفي من أغراض واهب الحياة. ثم لا نلبث أن نرفع ونعود إلى ذلك العالم الذي ألقينا منه.

يا بني فكر دائماً في أن تتخذ سلماً تعرج عليه روحك إلى هذا العالم، ولا تخلد إلى الأرض إخلاد حشراتها وحيواناتها الدنيئة. ولا تدم النظر إلى تفاهاتها وحقارتها وضيقها، لئلا يضيق نظرك وخلقك وفكرك، وتعشى عيناك من رؤية النور، وهو ما يجب أن تبصر به. . . شتان بين عقلين أحدهما يحدق في النور والثاني يأبى أن يرفع عينيه إليه.

الأول أوسع وأعلم وأروح. . والثاني أضيق وأجهل وأكثف. . . لأنه مطارد ملهوف خائف من فوات فرصة حياة الظلام التي لم ير غيرها إلى غير رجعة، فهو يملأ منها كل أوعيته، وكلما امتلأ غاص حتى لا يبقى منه على سطحها إلا ما يبقى من فقاعة على سطح وحل وحمأ مسنون!

على عتبة من عتبات الكون!

إنما مثل الله، جل جلاله، مع أحدنا حين أخرجه من العدم إلى الوجود، وأدخله هذه الأرض ليريه من عجائب ملكوته ما يشير به شهوته وتطلعه للخلود، وحبه للمتاع بملكوته وعجائب صنعه، كمثل غنىٍ أخذ بفقير جائع عارٍ إلى قصره الفاخر، وأوقفه على عتبته وفتح له الباب، فرأى من موقفه هذا ما أثار شهوته للطعام والمتاع والسكني في هذا البيت. . . ولا شك أنه سيسأل هذا الغنى ويتمنى عليه أن يمنحه دخول هذا القصر والخلود فيه والمتاع بما به من بهجة وتعاجيب وثراء. . ولا شك أن موقفه الصحيح ينبغي ألا يكون شغل

ص: 14

النفس بعتبة المنزل، ورؤية واجهته وحدها بدون تطلع إلى ما وراءها. . .

كذلك هذه الأرض إنما هي عتبة من عتبات ملكوت الله الذي لا نرى إلا جزاءاً ضئيلاً من سطحه في السماء. . . ينبغي لنا ألا نخلد إليها وننسى ما وراءها. بل ينبغي أن نسأل الله مالك هذا الملكوت الأعظم، ونلح في السؤال أن يدخلنا إلى واسع ملكوته ورحاب رحمته وسبحات جماله وأفانين صنعه. . .

ذلك هو الموقف المعقول إن كنا ذوى طبع سليم وعقل غير مصروف ومزاج غير مؤوف!

دود!

رأيت دوداً حقيراً شنيعاً يرعى في جيفة كلب بشراهة، فتذكرت مصيري وفزعت. . .

ثم رأيت فكري يقول في رنة أسف وألم وتحد: أنت يا هذا الدود تأكلني وتمزق أوصالي وتغيبني في جوفك. . . ثم تفنى أنت أيضاً.!

لي الله! لك الله يا جسدي وأعضائي التي تجمعت لأكون! لكما الله يا قلبي ويا مخي! يا موضعي الأسرار الذهبية مني! والله لما اختزنتماه من معاني الحق والجمال والحب والخير والإيمان إن كان مصيرها كمصيركما!

هبوا أحشائي السفلى ومواضع القذر في جسمي تفنى هذا الفناء وتصير إلى المصير الرهيب؛ ولكن ما بال رأسي وقلبي يفنيان مع هذه الأنجاس والأقذار.! ما بال الرأس يساوى القدم واللسان يساوى الظفر!!

أنا فتى هذا الفناء مع الكلاب!!

كلا! لست هذه الأوصال. . . ولكنها دوابي وآلاتي أركبها وأعمل بها، تفنى وتتجدد في حياتي وتتهدم وتتخرب بعد مماتي. . . أنا الساكن المستخفي في جسمي ولا أراه! والذي يحدثني الآن ويحاكمني ويدير هذه الآلات ويوجهها. . ذلك كائن آخر له شأن آخر. . .

إنه هو الذي يتخلى عن تلك الأوصال. وسواء بعده رأس وقدم، وعين وظفر؛ فإنها آلاته ترساً ومسماراً، وجهاً أوقفا، لابد له منها ليعلم بها ما هنا ويستكمل شئونه.

إنه هو الذي ينظر أوصالي في جوف الأرض ويتعجب من شأنها معه الآن، وشأنها بعد أن يتخلى عنها. . .

إنه هو الذي يذكرها الآن بمصيرها لتجد وتعمل وتأخذ نصيبها من الإحساس والشعور

ص: 15

والفكر والعلم والقوة والنزوع قبل ألا تستطيع.

أنه راصد يقظ دائماً وراء الحس والفكر، يقول هذا حسن وهذا قبيح، وهذا حق وهذا باطل. . .

إنه من عالم الصحو المطلق، والإدراك الكلي، والخلود السرمدي، والانطلاق الحر، والجمال الدائم. لا يفزع من ذلك المصير الحقير لنعله الباليه التي بها يسير في أوعار الأرض وأشواكها ومجهولاتها ومهولاتها، بعد أن يقضي منها أوطاره. .!

إن هذه الأوصال طين مزوق، لبسته روح الحياة فمنعت عفونته وظلمته، وقللت كثافته. . . ثم لا يلبث إذا فارقته أسرار الحياة أن يختمر ويتخلل، شأنه شأن كل نوع من طين الأرض، يوقد عليه في حرارة الحياة. . . فلا بأس أن يذهب روح الحياة ويتركه يرتد إلى ما كان. . .

ومن الطين وروح الحيوان تولد كائن آخر هو الإنسان الذي يستعلى على ذلك المصير الفاني، ويتعلق بالفكر العالي، والجمال السني، والكمال السري. . . هو الذي فزع حين رأى جيفة الكلب، وأبى حكمه ويقينه أن يكون مصيره مصير روح هذا الكلب، وإن سلم لقميصه المادى أن يجيف كما جيفت جثة الكلب. . .

عطر الخلود ورباه:

خبرت الحب، فلم أره من أشياء هذا العالم الفاني. . . وإنما هو من الخالد. . . هو عطر الخلود ورباه، يهب حين يتماس قلب بقلب فلا يشعر به غيرهما. . .

وإذا صح أن الحب في أكثر حالاته البشرية هو عاطفة مهددة للزواج والشعور بالجنس، أو أنه خدعة لتحقيق مآرب من امتداد النوع. . . وإذا صح أن ثمرة الغريزة هي الولد، والنسل هو امتداد الشخصية الأبوية، وأنه صورة من صور الخلود الذي تتعلق به وتتمناه كل ذات لنفسها. . . إذاً فقد صح قولي، إن الحب هو صبوة النفس إلى عالم الخلد. . .

ويحس الفرد حين يصرعه الحب، ويغدو قلبه في يد هذا الطفل العابث الدائم الطفولة، أنه يتهافت على موارد الحياة، ويهفو قلبه إلى جميع مصادر الأنس والبهجة والتفتح والخفة والطيش إلى ما تعزف النفس عنه حين لا تكون في قبضة ذلك الطفل. وهذا يؤيد عندي أن الحب هو مفتاح الشعور العميق بالحياة، وأكبر دافع إلى خوض غمارها وخبر شعابها.

ص: 16

وليس يكون تصوير الحب أصح وأوفق من تصوير قدماء اليونان إياه، حين صوروه طفلاً. فالشعور بالطفولة وارتداد النفس إليها بين المحبين، هو أخص صفاته وسماته؛ إذ هو يرد الشيخ والكهل إلى حب الحياة والتجمل والتزين لها، كحب الأطفال وتجملهم. . .

ولا غرابة مع هذا أن يكون الحب مستشاراً سيئ الرأي. . . لأن طفولته تمنعه من سداد الأحكام!

عبد المنعم خلاف

ص: 17

‌مقالات في كلمات

للأستاذ علي الطنطاوي

مقدمة

كان عندنا مدرس (فاضل)، يعلمنا إنشاء ولا ينشئ، ويريد أن يجعلنا كتاباً وما كان قط كاتباً ولا صاحب قلم، وكان مما لقننا من مسائل هذا (الفن. . .) ولم نستفد منه لأننا لم نعمل به، أن القطعة الأدبية يجب وجوباً لا جوازاً أن تجيء في أحد عشر سطراً، في كل سطر إحدى عشر كلمة، فإن زادت على ذلك فهو الإسهاب الممل الذي وصفه أهل البلاغة، وإن نقصت فهو الإيجاز المخل، وأن الموضوع إن انتشر على الكاتب واتسع كان عليه أن يأخذ من أطرافه، ويضم بعضه إلى بعض، ولو بتر في سبيل هذا النظام (الأحد عشري) عضواً منه أو هدّركناً، حتى يعود إلى حده، ويدخل في أحد عشر سطراً لا تزيد، وإن ضاق عن ذلك وكان في أقل منه مجزأة ودلالة على القصد ووفاء بالمرام، كان على الكاتب أن ينفخ الموضوع حتى يكبر، أو يركب له فوق أعضاء أخر، ولا بأس أن يخرج مخلوقاً مشوهاً عجيباً. . .

لقد مرّ على هذا المدرس دهر طويل، وأكبر الظن أنه قد ذهب إلى رحمة الله، ولكني كلما عرضت لي فكرة لا تبلغ أن يكتب فيها مقال ذكرته، فأنا أضيع صوراً وخواطر كثيرة لأنها تجئ في الجملتين أو الثلاث ولا تؤلف مقالا، ومن حقها عليّ وحق القراء ألا أضيعها، وأن أدونها كما هي. . .

لذلك فتحت هذا الباب (مقالات في كلمات) أطرقه كلما تجمع لدى من هذه الكلمات ما يصلح للنشر:

ردوا علينا فننا

كنت أجوز أمس سوقاً في حي بلدي من أحياء القاهرة، أسرع الخطو لأنجو من هذا البلاء الذي يأخذ بالعين والأنف والأذن، قذارة ورائحة مزعجة وضجة مدوية، وفي بعض هذا ما يهرب منه، وإذا بي أسمع صوتاً تيقظت له روحي وتنبهت أعصابي، صوتاً منبعثاً من قهوة هناك ذكرني أيامي الخوالي وبلدي ومجالسي لي فيه. وا شوقاه إلى هذه المجالس!

ص: 18

صوتاً أبصرته يطفو على وجه هذه الأمواج العاتية من ضجة السوق وصراخ الباعة، يرقص نورانياً، ثم يذهب في جوانب السوق القذرة فيغسلها، ويطهرها ويحيلها جنة شممت عبيرها، ورأيت وردها، وسمعت تغريد بلابلها، ذلك الصوت هو (دور) قديم للصفتي طالما سمعته فلم أمله، ولم تبل في أذني جدته، هو دور (يا الله اصلح الحال) الذي يقول فيه، يصرخ صرخة متألم محروق (أنا على نار في انتظار مطلوبي) و (يا اللي عليك العين تبكي أشوفك فين) يرددها وما أحلى ذلك الترداد إذ يقلب فيه الأنغام والقلوب، وهذا هو سر فننا، وفيه براعة المغنى من مغنينا، أما الغافلون فيسحبونه ترداداً نمطياً، وقولاً معاداً، وهو السحر، وهو الفتنة. . . لقد نسيت منه السوق، ونسيت يومي، وعشت مع هذا العاشق الذي تبكي عينيه على حبيب لا يدري أين مقره ومثواه. وأبصرت مأساته، ولمست جرحه الدامي، وأحسست دمه الآني.

يا ناس، افهموا عنا، وسلوا قلوبكم، ودعوا التقليد، فلئن كان العلم عالمياً لا جنس له ولا وطن، فالفن لعمر الفن ما كان عالمياً ولن يكون. حاولوا أن تطربوا الإفرنج بغنائكم. إنكم لن تطربوهم ولا تطربون أنتم لغنائهم، ولكن منا من يستشعر قوتهم وضعفنا، فيخادع نفسه رياء وتقليداً. يا ناس، هذه أغانينا، لا ما تنقلونه إلينا من هناك. إنها لنا وحدنا. إنها ألفت من خفقات قلوبنا، وأشواق محبينا، وزفرات عشاقنا، ودموع آلامنا، ودماء أكبادنا. ألا ترون المغنى ينطلق بها صوته حراً ممتداً، على حين نرى أصحاب هذا الفن (الجديد)، يغنون ملوية أشداقهم، يعتصرون الحناجر اعتصاراً، فيخيل إليّ وأنا أسمع منهم (آه. . .) وهم يرجمون ألفها، أني أمام نفساء تصرخ من آلام الوضع!

أليس حراماً عليكم يا أيها الموسيقيون، أن تحرمونا هذه المتعة بفننا الذي هو لنا، وأن تأتونا بكل غريب عنا! ألم تدركوا أن أذواق الناس لا تنشرح إلا للشرقي الأصيل؟ أنسيتم كيف هتف السامعون في كل قطر عربي لصوت (على بلد المحبوب وديني) لأنه لحننا، ومعانيه معانينا التي نحس بها؟ ما لنا وللجندول وأهل الجندول؟ ما لنا ولأنغام الإفرنج التي لا طعم لها في حلوقنا؟! إن كان لابد من تجديد. فهاتوا مثل تجديد سيد درويش!

أما إنني قد أعجب بعبد الوهاب، ولكني أطرب لدور الصفتي أما الطرب الحق الذي يهز نفسي ويبلغ قرارتها، فللعتابا الشامية، والأبوذية البغدادية، وهذه الأغاني البلدية المصرية!

ص: 19

أي والله وقولوا عني ما شئتم!

لذة الخمول

إن من دأبي كلما هبطت بلداً لا أعرف فيه، أن أجوب طرقاته وأضرب في سككه على غير هدى، أمشي حيث يدعوني بصري وتحملني رجلاى، وكلما رأيت مشهداً استوقفني وقفت عليه، أستمتع بالجديد ألقاه، ولا يلقاه الناس جديداً لطول ألفتهم إياه، وأعجب من الأمر لا يعجبون منه. . . لذائذ خصصت بها من بينهم وحدي!

وأختزن هذه الصور في موضع الذكريات من نفسي إلى اليوم الحاجة إليها، كما يدخر مصور السينما ما يصور من المشاهد ليضعه في مكانه من (الفلم).

وسر المتعة في هذا التطواف أني أرى الناس ولا يرونني، لأن جهلهم بي يصرفهم عن الانتباه إليَّ، فأكون كمن يلبس (طاقية الإخفاء) فيحس الحرية والانطلاق وأنه هو وحده مكافئ لهؤلاء الناس كلهم، وتلك هي لذة الخمول والنكارة، وإنها لأكبر من لذة الشهرة. ولأن أمر في الطريق لا يعرفني فيه أحد أحب إلي من أن يشير بإصبعه إليَّ كل واحد، وإذا كان الرجل المعروف يزهى وينتفخ فإنه يتقيد ويتضايق إذ يحس أنه مراقب، تعد عليه أنفاسه، وتحصى حركاته وسكناته، وإن المجهول المغمور أهدأ منه بالاً، وأسعد حالاً. . . فلا تحسدوا أهل الشهرة على شهرتهم، بل اغبطوا أهل الخمول على خمولهم. . .

مجلة أوتوماتيكية:

من أعجب ما رأيت في مصر، وما أكثر عجائب مصر، مجلة لا يدري صاحبها من أمرها إلا أن يرسل الورق إلى المطبعة وأن يدفع الحساب، أما الكتابة فيها وإعداد مقالاتها فيقوم به صاحب المطبعة بالمقص، فهو يقطع من الجرائد والمجلات والرسائل ما يراه يصلح لها، والمنضد يصف حروفه، والطابع يطبعه، ثم ترسل المجلة إلى المشتركين والباعة، وأعجب من هذا كله أن صاحبها المكتوب اسمه في رأسها بالقلم الجلي لا الثلث، لا يقرؤها ولا يطلع عليها أبداً، ولا يحاول أن يعلم ما الذي نشر فيها. . .

. . . والناس يسمونه صحفياً، وأديباً، وكاتباً، ووزارة المعارف - فيما سمعت - تشتري من مجلته أكثر مما تشتري من مجلة الرسالة مثلاً. . . ويقال بأن هذا العصر عصر

ص: 20

الحقائق، لا عصر التدجيل!

التطبيع:

التطبيع: هو الخطأ المطبعي كما سماه الأديب الضليع واللغوي المحقق، الذي لم يسم عضواً في المجمع اللغوي في مصر، النشاشيبي.

وإن في قلبي من التطبيع لحزات وغصصاً، أكتب المقالة وأبعث بها إلى المجلة، فتجيئني وقد حرفت فيها الكلمات وصحفت، وبدلت وغيرت، وزلزلت عن مواضعها وزحزحت، وأتى بما لا يخطر لي على بال ونسب إليّ ووضع عليه اسمي، ولو عرفت العامل الذي صنع بي ذلك لأخذت بخناقة، ثم لم يشف غيظي منه إلا أن أنزل عليه ركلاً ولكماً، ولكني لا أعرفه ولا أناله، فليعلم ذلك القراء، حتى إذا استشكلوا شيئاً أو وجدوا خطأ قدروا الضمير المستتر فيه إلى العامل قبل إعادة الضمير فيه إليّ، أو سألوني عنه قبل أن يأخذوني به.

القاهرة

علي الطنطاوي

تصويب

وقع تطبيع في مقالة (كلمة لا بد منها) في العدد 615 من الرسالة وهو:

الخطأ

العمود

السطر

الصفحة

الصواب

ردّه

2

2

392

ص: 21

ردَّ

يشنعوا

2

9

392

يشفق

يخرج

2

9

392

لا يخرج

فلا ينشر

2

12

393

ينشر

نصل

2

13

393

نصل إليها

ص: 22

‌العلم الحديث والعمران

للأستاذ نقولا الحداد

يقوم عمران البلاد على نتاج العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية، ودماره يقوم على هذه أيضاً.

المدينة الغربية الحديثة هي مجموعة الاختراعات المادية العملية العجيبة التي أثمرها هذا العقل الإنساني القدير في القرن الماضي ونصف الحاضر مستندة إلى العلوم الرياضية والطبيعية ومقترنة بتوسع الشؤون الاجتماعية من اقتصادية وسياسية وصحية.

وأسوأ مساوئ هذه الاختراعات التي تعاظم شأنها مع تقدم العلم أنها كانت أفعل العوامل في تقويض العمران وإطفاء نور المدنية. فما ابتكرته هذه المدينة الحديثة من علم واختراع كان مقوضاً لأركانها وهادماً لبنيانها. وقد يكون في المستقبل العامل الوحيد لفنائها (كدودة القز ما تبنيه يهدمها).

سطعت هذه المدينة الغربية حتى غلف ضياؤها سطح الكرة الأرضية، وكادت تغمر النوع الإنساني بلوامع السعادة والهناءة، لولا ما اعتورها من غياهب النزعات السياسية والاقتصادية، فكانت هذه النزعات تثير ثورات الشعوب والأقوام بعضها على بعض فتطفئ تلك اللوامع بألوف منتجات الكيمياء والبخار والكهرباء التي تمتع بها العالمان القديم والجديد مما يعمله كل إنسان وبألوف تلك المنتجات وما أضافته عقول الحرب إليها يتدمر الآن عمران العالم كله. لذلك يقول بعض قصار النظر:(لا كان العلم والاختراع ولا كان هذا الدمار).

وقد خفي على هؤلاء أن الذنب ليس ذنب العلم والاختراع، وإنما هو ذنب هذا العقل الإنساني العجيب الذي ابتدع هذا العلم الأرضي الباهر، ولم يبتدع إلى جنبه خلقاً سماوياً ساطعاً.

لهذا أمكن جيش الشياطين والأبالسة أن يغزو ملكوت الإنسان ويفتحه وستتب فيه ويملكه. فليس الذنب ذنب العلم، بل هو ذنب النفس الأمارة بالسوء، أصلح النفس وطهرها فيطهر العلم من عوامل الشر ويعمل للخير وحده. ماذا كان نصيب الشرق من هذه المعمعة التي التحم فيها العقل المبدع والنفس الأمارة بالسوء.

ص: 23

كان أن الشرق سرق من فردوس الغرب بعض ثمار علمه وشاركه بالتمتع بها ولكنه لم يشاركه في فلاحة ذلك الفردوس وزراعته. على أنه لما جاء دور التدمير أصاب الشرق ما أصاب الغرب من ويلات التدمير. وأقل ما منى به الشرق أنه ازداد عبودية للغرب في السياسة والاقتصاد وغيرهما، وبالتالي أصبحت سعادته الحيوية متوقفة على الفضلة من سعادة الغرب. وهذا الفقر في السعادة جزاء ذلك الفقر في العلم. وكيف يمكن أن تغتني بالسعادة ونحن لم نشترك مع الغرب في تحصيلها بل نسرق فضلاتها منه؟

لا يمكن أن نرفع عن رقابنا نير العبودية للغرب إذ لم نباره في العلم العملي والاختراع والاصطناع. لو كان لنا علم وقوة اختراع وأمكننا أن نخترع الطيارة واللاسلكي والبارجة والغواصة، إلى غير ذلك مما لا يحصى من الاختراعات لاستحال على الغرب أن يستعبدنا وأن يبتذ ثرواتنا وأن يزعزع كياننا وأن ينغص عيشنا.

أخذنا العلم الحديث عن الغرب فلا حرج، ولا عيب أن نقتبس العلم منه. الغرب اقتبس قلبنا من الشرق. ولكن أية فائدة عمرانية استفدنا من هذا العلم؟ هل استفدنا منه أن نخلص من الاتكال على الغرب؟ هل استطعنا أن نستقل عمرانياً أو اقتصادياً على الأقل؟

منذ بنى خزان أسوان إلى اليوم ونحن نتحدث عن توليد الكهرباء منه. واصطناع السماد بواسطتها فلماذا لم نولدها؟ - ليس ذلك لأنه لا يوجد عندنا رأس المال اللازم لهذا العمل العظيم، ولا لأن الحكومة عاجزة عن تقديم المال، ولكن ليس عندنا مهندسون كهربائيون ويجرءون أن يقدموا على هذا العمل أو يوثق بكفايتهم. وليس عندنا الآلات والأدوات اللازمة لهذا العمل ولا مصانع لها عندنا. ولذلك نعرض المشروع على المهندسين الأجانب مضطرين. فإذا لم يتفق الأجانب معنا على هذا المشروع لا يتكهرب خزان أسوان. وقس عليه كثيراً من المشروعات الاقتصادية العمرانية الكبيرة التي نحن محرومون منها لقصور فينا. إذا فماذا استفدنا من هذا العلم الذي اقتبسناه؟ ما استفدنا إلا أن شبابنا حصلوا على بعض الثقافات الفنية العملية التي تمكنهم من الارتزاق فقط. ولكن بعد الحصول على وسائل الاسترزاق لم يستمر المثقفون في طلب المزيد من العلم بعد الحصول على الدبلوم التي توصل إلى حرف الارتزاق. قلما نرى مثقفاً يستمر في الدراسة بغية الاسترداد من المعرفة، ولا ترى مثقفاً قصد البحث في العلم بغية اكتشاف نظرية علمية أو استخراج

ص: 24

حقيقة جديدة. والأرجح أن معظم الذين تخرجوا وغنموا الشهادات التي تخولهم حق العمل لم يعودوا يفتحون كتاباً لترويض عقولهم وتوسيع معارفهم لكي تحفز أذهانهم للبحث والتفكير والاستنباط.

أكسلا كان هذا الإهمال أم عجزاً أم ضعفاً عقلياً أم قلة ثقة بالنفس وتمادياً في الاتكال على الغرب؟

فلقلة اكتراث المثقفين بالمطالعة لا نرى في مطبوعاتنا اليومية إلا النزر اليسير من المؤلفات العلمية المفيدة التي تحتوى على كل ما استجد من الحقائق العلمية، وكل يوم تظهر معلومات جديدة في العلم. ولكن الذين كانوا في معاهد العلم قبل ظهورها لم يقفوا عليها لأنهم لم يجدوها في مطبوعاتنا الجديدة. وإذن فكأنهم لم يثقفوا الثقافة التامة.

لا نرى من المطبوعات الجديدة عندنا واحداً في المائة حتى ولا واحداً في الخمسمائة من المؤلفات العلمية التي تلم بكل جديد من العلم. لا نرى إلا مئات المؤلفات في الأدب والقصص واللغة والتاريخ الخ. ولكن بكل أسف لا تقوم المدنية على الأدب. ولولا ما نقتبسه من علم الغرب لكنا بلا مدنية عصرية نجارى بها العالم.

الأدب ليس قوام المدنية وإنما هو حلية لها. فإذا كانت المدنية مزينة بأجمل الحلي وأثمن الجواهر ولكن على بدنها أطمار الجهل العلمي فهل نقول إنها حسناء رائعة الجمال؟

وكيف تحيا وتترعرع وهي بدن سقيم وجسم ضعيف. وكيف يبدو جمالها وهي لا قلب ولا روح. ليس بالقصائد والقصص وروائع الأدب اخترعت الطيارة والسيارة واللاسلكي والسينما والمطبعة إلى غير ذلك من ألوف الاختراعات التي يتمتع بها البشر الآن. الأدب وحده لا يبنى مدنية أو عمراناً بل هو ثانوي في بناء العمران وإنشاء المدنية.

بكل أسف نقول إن الأدب طغى عندنا على العلم حتى كاد يختفي هذا وراء الغيوم، ولم يعد المثقف وقليل الثقافة يرى في سوق الطباعة إلا قليلاً من الأدب الجميل وكثيراً من الأدب السخيف. فكيف يمكن أن تكون لنا مدنية ذاتية خاصة بنا وغير مستعارة وغير مزيفة؟

لسنا فقراء في رجال العلم. ولكننا فقراء في قراء العلم حتى من المثقفين، وأغنياء بقراء الأدب الفكاهي وبقليل من الأدب الراقي الصافي. ولذلك قل الذين يؤلفون في العلم ويقدمون ثمرات العلم الحديث.

ص: 25

لولا بعض المجلات التي تعنى قليلاً بطرائف العلم الحديث، ولولا بعض المؤلفين الذين أغرموا بالمطالعة والتأليف والنشر لكان عندنا قحط علمي يعنون مدنية زائفة.

حبذا لو أمكن إحصاء إقبال القراء على المؤلفات العلمية ذات القيمة لكي نعلم هل نحن جادون في التقدم العلمي، وأن هذا التقدم يبشرنا بأننا مقبلون على مساهمة الغربيين في الإنتاج العلمي والاختراع والاكتشاف لكي نستبشر بالاستقلال العمراني الحقيقي وعدم الاضطرار إلى الاتكال على الغرب في بنيان مدنيتنا.

إذا عرفنا أن للمؤلفات العلمية ونحوها إقبالاً من القراء كبيراً عرفنا أننا نبني عمراننا وليس الغربيون يشيدونه. هل يا ترى من وسيلة لهذا الإحصاء لكي نعلم في أية درجة نحن من التقدم العلمي؟

نقولا الحداد

ص: 26

‌الأفغاني والوحدة الإسلامية

للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

- 3 -

ماذا كان يرجو السيد الأفغاني من وراء الوحدة؟ وماذا كان يعلق عليها من الآمال والأغراض؟ ويحدد لها من الأهداف والغايات؟

لقد كان الرجل يقف من ذلك بادئ الأمر عند مسألة المسائل، فكان كل ما يرجو أن تكون الوحدة قوة دفاعية تقف في وجه الاستعمار، وتقوم (سداً يحول عن المسلمين السيول المتدفقة عليهم من كل جانب)، ومعنى هذا أنه كان يرجو من الوحدة أن تكون وقاية وحماية، هدفها الوقوف في وجه الخطر وكفى، ولكنا نراه بعد ذلك يتوسع في الأمل، ويتفسح في الغاية، إذ يقرن (بالميل إلى وحدة تجمع، الكلف بسيادة لا توضع!!، ويطمع أن يرى المسلمين (تتلاقى هممهم، وتتلاحق عزائمهم في سبيل الطلب، فيندفعون للتغلب على الذين يلونهم، كما تندفع السيول على الوهاد، وألا تقف حركتهم دون الغاية مما نهضوا إليه. .!!

وكأن الرجل قد رأى نفسه في القمة من الرأي والقوم لا يزالون يدرجون عند السفح، وكأنه أدرك أنه بلغ في التوسع بالأمل مبلغاً تتعاظمه النفوس، وتستهوله العزائم، فأخذ يلتمس كل وجه من وجوه التدليل على ما يجب من الحماسة لهذه الغاية الضرورية، وراح يبذل كل ما في وسعه من اللباقة والزلاقة ليصل بهذا الرأي إلى أطواء القلوب ومكامن العقيدة، فنراه يقرر أن الوحدة والسيادة (أمران خطيران، تحمل عليهما الضرورة تارة، ويهدى إليهما الدين تارة أخرى، وكل منهما يطلب الآخر ويستصحبه، بل يستلزمه)، وبعد أن يتمشى الأفغاني في شرح هذا الاستلزام من الناحية النظرية، يجنح في الاستدلال إلى ما يدل عليه (تصفح تاريخ الأجناس، واستقراء أحوال الشعوب في وجودها وفنائها، وما درجت عليه سنة الله في الجمعيات البشرية، من جعل حظها من الوجود على مقدار حظها من الوحدة، ومبلغها من العظمة على حسب تطاولها في الغلب. .!!، ثم ينتهي في أسلوبه هذا إلى الوتر الحساس، وتر الدين المشدود بالقلوب، فيقرر (أن الوفاق والغلب ركنان شديدان من أركان الديانة الإسلامية، وفرضان محتومان على من يستمسك بهما، فمن خالف أمر الله فيما

ص: 27

فرض منهما عوقب من مقته بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. .!!، ولكنه لا يخلص من هذه النتيجة إلا بعد أن يدعمهما بكثير من آيات التنزيل ومأثور السنة ومواقف الإسلام. .

فما هذا؟ أهي أحلام المجد، ونعرات مثالية كانت تملأ رأس الرجل وتفعم وجدانه؟ أم هي دعوة إلى الممكن يؤدى إليهما الإمكان ويحتملها الجهد؟! يبدو لنا أن الأفغاني وضع أمامه صورة الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الزاهر، وسلطانها الغالب، وأخذ يرسم للمسلمين صورة مماثلة لها ويضعها أمامهم الغاية الرشيدة التي يجب عليهم بلوغها والأخذ بأسبابها، فكان صنيعه هذا كصنيع الحكماء فيما تصوروه في قيام (المدينة الفاضلة)، كل ما عندهم أن يصح الرأي في أذهانهم ولا شأن لهم إذا لم يصح في عالم الواقع الذي عليه الناس، وهكذا راح الرجل يموج في أمل طويل عريض، ويقف بالرأي عند غاية نحتاج في إدراكها إلى رجال وحبال كما يقولون، وفاته أنه كان يهز جسماً فقد حيويته، وينادى على عالم ضاعت معالمه، فليس هذا مما يكفي في إيقاظه، ولكنه كان يحتاج إلى بعث جديد، وخلق من طراز آخر.

فالأفغاني لم يكن في أمله هذا بالرجل السياسي الذي يرسم طريق الخلاص على ما تسمح به الظروف والملابسات، وما يمكن أن يكون في عالم الواقع الماثل بما يصح أن تبلغه الجهود ويؤدي إليه الاستعداد، ولكنه كان ينزع نزعة مثالية يضع بها الأمل فوق العزم، وينتهي فيها إلى غاية أكبر من الجهد، وهل كان من الممكن أو من المعقول أن ينهض العالم الإسلامي الذي فرقه الاستعمار، وقتله الجمود، وفقد كل عدة مادية، وقوة معنوية، فيقف بين عشية وضحاها جبهة مدافعة، وقوة متسلطة، أمام الغرب الطاغي، والاستعمار الزاحف بما لا مثيل له في التاريخ من أساليب السياسة والفكر، وافانين العدة والذخر، فيا ليت شعري، ألم ير الأفغاني، وهو الذي طرف بكثير من أنحاء الدنيا كيف كان الغرب يسير بالبخار وبالكهرباء على حين كان الشرق في ذلك الوقت لا يزال يركب الجمل؟!.

إنها في الواقع حقيقة لم تغب عن فطنة الأفغاني، ولم تغرب عن إدراكه النافذ، فعلى الرغم من أنه كان يثق ثقة كبيرة بالقيمة العددية واحتشاد الجموع، فأنه لم يقف بأمله عند تحقق الوحدة وجمع الكلمة، بل أخذ يدعو إلى الاستعداد المادي (واكتناه أسباب تقدم الغرب

ص: 28

والوقوف على تفوقه وقدرته)، وإنه ليضرب للمسلمين المثل في ذلك بأمة الروس، وهي كما كانت (أمة متأخرة في الفنون والصنائع عن سائر أمم أوروبا، وليس في ممالكها ينابيع للثروة، ولكن كانت، فليس هناك ما يستفيضها من الأعمال الصناعية، فهي مصابة بالحاجة والفاقة والعوز، غير أن تنبيه أفكار آحادها لمل به يكون الدفاع عن أمتهم، واتفاقهم على النهوض به، وارتباط قلوبهم صير لها دولة تميد لسطواتها رواسي أوروبا. لم يكن للروسيا مصانع لمعظم الآلات الحربية ولكن لم يمنعها ذلك عن اقتنائها، ولم يرتق الفن العسكري إلى ما عليه جيرانها، إلا أن هذا لم يقعد بها عن جلب ضباط من الأمم الأخرى لتعليم عساكرها حتى صار لجيشها صولة تخيف، وحملة تخشاها دول أوربا. .)

وهذا صحيح، صحيح في عالم المعقول، وفي عالم الإمكان، وهنا يسير الأفغاني بأمله في الوحدة إلى طريق عملي، ويهدي إلى أسلوب واقعي، كان من الضروري أن يكون في إدراك الغاية، وبلوغ الهدف، وهو الذي كان فعلا فيما أخذت به الأمم الإسلامية في نهوضها وفي توثبها إلى حياة العزة والحرية، وما من شك في أن الأفغاني كان يعلم أن هذا الطريق يستغرق في اجتيازه مسافة من السنين والأعوام، وأنه لا يؤدي إلى نتيجة عاجلة يستطيع العالم الإسلامي بلوغها في أيام، ولكنه على الرغم من ذلك كان ينادي وبهيب ويتعجل الغاية ويطمع أن يرى القوم عندها بين طرفة عين وانتباهتها، وهنا يبدو الأفغاني مرة أخرى مسرفاً الأمل، مغرقاً في الرجاء.

إن بناء الأمم والشعوب يتمشى مع الزمن وتطور الأيام، ولن تستطيع دعوة من دعوات الإصلاح أن تؤتي ثمرها وأن تتحقق النتيجة من ورائها إلا إذا نضجت واستوت وأشربتها النفوس والقلوب عقيدة راسخة ثابتة، فالمبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية لم تستطع القوة أن تحققها طفرة، ولم تقدر المقصلة أن تفرضها رغباً ورهبة، ذلك لأن الزمن لم يكن قد أنضج تلك المبادئ بعد، فشبت الثورة واستطار لهيبها في أرجاء العالم، ثم همدت وماتت وقد خلفت من ورائها تلك المبادئ يحققها الزمن بما في قدرته على الإنضاج والتسوية، ولا يزال الزمن يجد في تحقيقها إلى اليوم. وكذلك كانت الثورة العرابية، تلك الثورة التي قامت كما نعلم تروم خطة واسعة وغاية كبيرة كانت لا تزال نجوى في المجال الفكري والعقلي عند القادة، ولم تكن قد انحدرت بعد إلى قلب الشعب في مكان العقيدة، ولهذا فشلت الثورة

ص: 29

بها فجأة كما قامت فجأة، وانتهت على أهون ما يكون كما ابتدأت بأهون ما يكون. ولو أن الشعب كان يضم جوانحه على ما تنادي به الثورة من المبادئ والأغراض، وما تهدف إليه من المطامح والغايات، لما أفلحت الدسيسة في خذلانه، ولا وجدت الخيانة مكاناً بين صفوفه، ولما سلم في الجولة الأولى وجعلها بداية النهاية.

فما نحسب أن الأفغاني كان يخفى عليه إدراك هذه الحقيقة، ولكنه كان ينظر إلى طغيان الاستعمار على الشرق وإلى المطامع التي أنشبت أظفارها بعنقه، فكان يفزع لسوء المغبة، ويجزع من التراخي أمام الكارثة، ويصرخ بدعوته إلى رأب الصدع وحشد الجهود وفي الأمل بقية. وإن من الظلم للتاريخ وللرجل أن نتهمه بالفشل وأن نصف مسعاه بالخيبة، فحسبه نجاحاً أنه رسم الطريق، وهيأ الأذهان، وأقام فكرته عقيدة كان لها أكبر الأثر في توجيه الشرق الإسلامي إلى مجالي النهوض والتجمع، وإن ما وصلنا إليه من وضع في الوحدة لثمرة من ثمرات ذلك الرجل العظيم.

لقد أيقظت دعوة الأفغاني الشرق، كما أفزعت الغرب، وعلى الرغم من أن الرجل كان يبذر آراءه في تربة غير صالحة من طول ما تراكم عليها من صدأ الجهل واستبداد الظلم ويأس الخنوع، فقد استطاع لصدق غيرته وشدة نخوته وقوة شخصيته أن يصل بها إلى قرارة النفوس والقلوب، وأن يحشد لها جهود الغيورين، وأن يقيم لها دعامة قوية من التلاميذ والمريدين، وبهذا أصبحت تياراً فكرياً مضاداً لأطماع الاستعمار الأوروبي من جهة ولمفاسد الاستبداد العثماني من جهة أخرى، ولم يكن الاستعمار الأوروبي الطامع بجهل خطر هذه الدعوة عليه إذا ما نجحت، ولم تكن تركيا دولة الخلافة والرئاسة تنظر إليها بعين الشك والريبة، بل كانت تراها فكرة هدامة، ودعوة إلى التمرد على (الإسلامية) التي تمثلها الخلافة، فكان من الطبيعي أن يكون الأفغاني ومريدوه والمتشيعون له هدفاً للمناهضة والتنديد والاتهام. وكان أول تهمة ألقيت على الأفغاني وأتباعه في دعوتهم أنهم دعاة عصبية وتعصب. وقيل يوم ذاك إنهم يريدون النهوض بالمسلمين على حساب الطوائف الأخرى التي تقطن البلاد الإسلامية، وارتفعت صيحات كثيرة تندد بالتعصب وبالمسلمين (الجامدين) الذين يدعون إلى العصبية. ارتفعت هذه الصيحات من جانب الغرب وفي وسط الشرق الإسلامي نفسه، وكان لها أثر ملموس في مناهضة الوحدة على الوضع الذي كان

ص: 30

يريده الأفغاني، وإنها لتهمة مغرضة ينكرها الرجل كما ينكر دعاتها، ولهذا اضطر الرجل أن يرسل هذه الصيحة للتحذير والتنبيه في العدد الثامن من العروة الوثقى إذ يقول:(لا يظنن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحياناً ومدافعتها عن حقوقهم تقصد الشقاق بينهم وبين من يجاورهم في أوطانهم، ويتفق معهم في مصالح بلادهم، ويشاركهم المنافع من أجيال طويلة، فليس هذا من شأننا ولا مما نميل إليه، ولا يبيحه ديننا ولا تسمح به شريعتنا، ولكن الغرض تحذير الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً من تطاول الأجانب عليهم، والإفساد في بلادهم، وقد نخص المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجانب، واستأثروا بخيراتها، وأذلوا أهلها أجمعين. . .)

فالأفغاني لم يكن داعية تعصب ديني بالمعنى المفهوم في الغرب، ولم يكن داعية تعصب جنسي يقف عند صلات الدم، ولكنه كان ينادي في ذلك بروح الإسلام السمحة، وقد لبث هو وتلاميذه يصولون في مجالس الدعوة بهذه الروح وفي هذا الاتجاه، وإذا كانوا في كتاباتهم قد دعوا إلى العصبية، فإنما هي العصبية للنهوض والأخذ بأسباب التقدم، ولو أننا رجعنا إلى كتاباتهم لرأيناهم يستعملون العربية والشرقية مرادفة للإسلامية، وإنما دعا الأفغاني أتباعه إلى الوحدة الإسلامية لتكون أعم وأشمل، وليدخل في حسابها أمم إسلامية لا تمت إلى العربية ولكن لابد من ضمها إلى الوحدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأن (الإسلامية) كانت كما يقول بعض الكتاب:(رمزاً لروح خاص، وعقلية خاصة، وحضارة خاصة أيضاً)، وقد كانت الرباط المتين الذي ربط أجزاء الإمبراطورية العربية على طولها وامتداد في أفريقية وآسيا وأوروبا، وقد كانت تركيا نفسها تحكم هذه الشعوب وتبسط سلطانها على جميع الطوائف في الشرق باسم الإسلام وحمل لواء الخلافة الإسلامية.

والواقع أن الأفغاني لم يكن واهماً في اختيار العامل الديني للوحدة وجمع الكلمة، فقد ظل هذا العامل يكيف التفكير الاجتماعي والاتجاه العمراني في الشرق آماداً طويلة وقروناً متعاقبة، ولم يكن العامل من العوامل في تحريك الوجدانات والعواطف وسحر العقول والقلوب مثل ما كان لذلك العامل العريق الذي صنعه الزمن وقواه التاريخ وأرسخته المشاعر المستغرقة، فكان اختيار الأفغاني اختياراً طبيعياً ضرورياً لا غبار عليه ولا

ص: 31

مناص منه، لأنه أمسك برابطة قوية متينة لا تقوى عليها إلا رابطة راسخة تستندها قوة دافعة، ولو أن الرجل تنكب هذا الطريق ونظر إلى الاعتبار السياسي بعيداً عن هذه الرابطة لما صنع شيئاً، ولضاعت صرخته في واد.

(للكلام صلة)

محمد فهمي عبد اللطيف

ص: 32

‌صوت من العالم الآخر

للأستاذ نجيب محفوظ

- 2 -

غمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة، وأني لم أعد من أهل الدنيا، ماذا حدث؟! وما الذي تغير فيّ؟! مازلت في الحجرة. والحجرة كما كانت، فأمي وزوجي تحنوان على جسمي، ولكن حدث شيء بلا ريب، بل أخطر الأشياء جميعاً. لم أوخذ على غرة. ولو كان بي قدرة على الكلام لأجبت زوجي - حين سألتني (توتي. . . ماذا تجد؟) بأني أموت. ولكني فقدت قدرتي على الكلام وغيره. فلم أوخذ على غرة كما قلت، وشعرت بزورة الموت كما يشعر المضطجع بدبيب الكرى وتخدير النعاس. ثم رأيته جهرة. والذي لا شك فيه أن الموت مؤلماً ولا مفزعاً كما يتوهم البشر، ولو عرف حقيقته الحيّ لنشده كما ينشد نشوة الخمر المعتقة، وفضلاً عن هذا وذاك فلا يخامر المحتضر أسف ولا حزن بل الحياة تبدو شيئاً تافهاً حقيراً إذا ما تخايل في الأفق ذاك النور الإلهي البهيج. كنت مكبلاً بالأغلال فانفكت أغلالي. كنت حبيساً في قمقم فانطلق سراحي. كنت ثقيلاً مشدوداً إلى الأرض فخلصت من ثقلي وأرسلت وثاقي. كنت محدوداً فصرت بغير حدود. كنت حواس قصيرة المدى فانقلبت حساً شاملا كله بصر وكله سمع وكله عقل، فاستطعت أن أدرك في وقت واحد ما فوقي وما تحتي وما يحيط بي، كأنما هجرت الجسم الراقد أمامي لأتخذ من الكون جميعاً جسماً جديداً. حدث هذا التغيير الشامل الذي يجل عن الوصف في لحظة من الزمان، بيد أني ما برحت أشعر بأني لم أغادر الحجرة التي شهدت أسعد أيام حياتي السابقة. كأن العناية وكلتني بجسمي القديم حتى ينتهي إلى مستقرة الأخير، فجعلت أتأمل ما حولي في سكون وعدم اكتراث. وقد غشى جو الحجرة حزن وكآبة، وأخذت أمي وزوجي تتعاونان على إنامة جسمي على الفراش، ثم قبلت زوجي جبيني. ولثمت أمي قدمي، ونادتا أبنائي والخدم. وراحوا جميعاً يعولون وينتحبون، رأيت جسمي - صاحبي القديم - بملامحه المعهودة راقداً لا حراك به، وقد ابيض لونه وشابته زرقة وتراخت أعضاؤه وأطبق جفناه، ومضى الحاضرون يسكبون عليه الدمع الغزير يكادون يهلكون كمداً وحزناً وغماً. ومضيت أنظر إليهم بعدم اكتراث غريب كأنه لم تربطني بهم يوماً آصرة قربى! ما هذا الجسم

ص: 33

الميت! لماذا تصرخ هذه المخلوقات؟ ما هذا الأسى الذي جعل من سحنهم دمامه شوهاء! كلا لم أعد من أهل هذه الدنيا، ولم يردني إليها صراخ أو بكاء، وددت لو تنقطع أسبابي بها لأحلق في عالمي الجديد. ولكن وا أسفاه، إن بقية من حريتي لم تزل عزيزة علي، أسيرة إلى حين. فلآخذ نفسي بالصبر وإن شق علي. وجاءت أمي بملاءة وسجت الجثة، ثم أخرجت العيال والخدم، وأخذت زوجي من يدها، وغادرتا الحجرة، وأغلقتا الباب. لم يغيبا عن ناظري لأن الجدران لم تعد حائلاً يحجب شيئاً عن بصري، فرأيتهما وهما تغيران ملابسهما وترتديان السواد، ثم اتجهتا نحو فناء الدار وهما تحلان من ضفائرهما وتحثوان التراب على رأسيهما، وخلعتا النعال وهرعتا إلى باب الدار، وانطلقتا تصوتان وتلدمان، ومضت تصرخ (وا أبناه) فتصرخ زوجي (وا زوجاه) ثم تهتفان معاً (يا رحمتا لك يا توتي المسكين! خطفك الموت ولم يرحم شبابك) وتركتا الدار على تلك الحال من العويل والنواح، وأخذتا في طريقهما، حتى إذا مرتا بأول دار تليهما برزت لهما ربة الدار في ارتياع وصاحت بهما:(مالكما يا أختاي!) فأجابت المرأتان (خربت الدار، وتيتم الصغار، وثكلت الأم، وترملت الزوج، يا رحمة لك يا توتى!) فصوتت المرأة من أعماق صدرها وصاحت (وا حر قلباه. . يا خسارة الشباب. . . يا ضيعة الآمال. . .) وتبعت المرأتان وهي تحثو التراب على رأسها وتلطم خديها، وكلما مررن بدار برزت ربتها وانضمت إليهن، حتى انتظم الحشد نساء القرية جميعاً، وتقدمتهن امرأة دربة بالنياحة، فجعلت تردد اسمي وتعدد فضائلي، وذهبن يقطعن طرقات القرية باعثات الحزن والأسى في كل مكان. هذا اسمي تردده النائحات، ما له لا يحركني؟!

أجل، لقد صار الاسم غريباً غرابة هذه الجثة المسجاة، وبت أتساءل: متى ينتهي هذا كله؟ متى ينتهي هذا كله؟! وعندما أتى المساء جاء الرجال وحملوا الجثة إلى بيت التحنيط والصراخ يطبع علينا، ووضعوها على السرير بالحجرة المقدسة. كانت الحجرة مستطيلة ذات اتساع كبير، وليس بها نافذة إلا كوة تتوسط السقف، وفي الصدر قام السرير، وعلى الجانبين رفعت رفوف رصت عليها أدوات الكيمياء، وفي الوسط - تحت الكوة - حوض كبير مليء بالسائل العجيب، وخرج الرجال فلم يبق إلا رجلان، وكان الرجلان حكيمين من المشهود لهما في فنهما، فأخذا في عملهما دون إبطاء، وقد جاء أحدهما بطست، ووضعه

ص: 34

على كثب من السرير، ثم تعاونا معاً على تجريد الجثة من ملابسها حتى بدت عارية لا يحجبها شيء. فعلاً ذلك في هدوء وعدم اكتراث، ثم قال الذي جاء بالطست وهو يغمر عضلات صدري وذراعي:(كان رجلاً قوياً. . . أنظر!)؛ فقال الآخر: (كان توتي من رجال الأمير، يؤاكله ويشاربه، وفضلاً عن ذلك، فقد خاض غمار الحروب!)؛ فقال الذي جاء بالطست متحسراً: (لو أن الأجسام تعار!)؛ فأجابه الآخر ضاحكاً: (أيها العجوز، ما جدوى جسد ميت؟!)؛ فقال وهو يهز رأسه: (كان قوياً حقاً!)؛ فقال الآخر ضاحكاً وهو يتناول خنجراً حاداً من أحد الرفوف: (فلنختبر قوته!) وطعن الجانب الأيسر فيما يلي الصدر بخنجره، حتى غاب نصله، وشقه حتى أعلى الفخذ، وأعمل في الداخل يده بمهارة ودربه، ثم استخرج الأمعاء والمعدة، وأودعها الطست، وقفاها بالكبد والقلب، فسرعان ما رأيت باطني جميعاً، ولم يستغرق ذلك إلا دقائق معدودة، فالرجل من مهرة المحنطين الذين أتقنوا عملهم أيما إتقان، ورحت أنظر إلى باطني بعناية، وبخاصة إلى معدتي التي عرفت بقوتها ونشاطها، ولم يحل غلافها دون رؤية ما بداخلها بفضل تلك القوة السحرية التي اكتسبها بصري، فرأيت فيها مضغ الأوزة والتين وبقايا النبيذ التي تناولتها على مائدة الأمير مساء الأمس، وذكرت قوله حين عزم علي بالطعام (كل يا توتي واشرب، وتمتع بالحياة أيها الرجل الأمين!). . . رأيت وذكرت دون أن يعرفوني أي تأثر أو انفعال، ودون أن يزايلني عدم الاكتراث العجيب، ثم حولت بصري إلى قلبي فرأيت عالماً حافلاً بالعجائب. رأيت بشغافه آثار الحب والحزن والسرور والغضب، وصور الأحبة والرفاق والأعداء، وقد ترك الهيام بالمجد به فجوة عمقها ما خضت من معارك في بلاد زاهي والنوبة، ولاحت على رقعته مشاهد مروعة لميادين القتال، وأجزاء ملتهبة دامية من أثر ذلك الطمع العنيف الذي بعثني للكفاح بلا رحمة حتى ضممت إلى أرض أسرتي قطعة أرض تجاورها نازعني عليها جار بضع سنين. رأيت فيه جل حياتي وما عانيت من الأهواء، أما الرجل فمضى في عمله يحدوه الهدوء والمران، فأتى بكلاب دقيق وأولجه في أنفي باحتراس حتى تمكن من هدفه، ثم وجهه بدراية وعنف وجذبه بسرعة، فسال مخي الكبير من منخري مادة رخوة تذرو في الهواء ما تجمع فيها من لوامع الفكر ولآلئ الآمال ودخان الأحلام. هذه أفكاري منقوشة أمام عيني، فإذا قارنتها بنور الحق الذي يتخايل

ص: 35

لروحي بدت تافهة مشوهة، لقد قاتلها المثوى الذي آوت إليه: رأسي ومخي، هاأنذا أقرأ القصيدة التي صغتها في وصف قادش! وهاهي ذي الخطب التي ألقيها بين يدي الأمير في المناسبات المختلفة، وهذه آرائي في آداب السلوك، وهذه الحكم الذي حفظتها عن حقائق النجوم كما جاءت في كتب قاقمنا! كل أولئك أزاحه الرجل مع فتات المخ فاستقر بين الأمعاء والمعدة في الطست الدامي، غير ما تناثر على الأرض فداسته الأقدام. قال الحكيم وهو يعيد الكلاب إلى موضعه (الآن صارت الجثة نظيفة!) فقال صاحبه ضاحكاً (ليتك تجد بعد موتك يداً ماهرة كيدك!) وحمل الحكيمان ما تبقى من جسمي إلى الحوض الكبير، وأناماه فيه، فامتلأ بالسائل الساحر وغرق فيه، ثم غسلا أيديهما وغادرا المكان، وقد أدركت أن الحجرة لن يعاد فتحها قبل كرور سبعين يوماً - مدة التحنيط - فمسني الجزع، ووقع في نفسي خاطر أن أنطلق بروحي إلى العالم لألقى عليه نظرة الوداع. . .

(للقصة بقية)

نجيب محفوظ

ص: 36

‌سياسة التعليم ووحدة الأمة

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

- 3 -

تم والحمد لله ميثاق الجامعة العربية العتيد بعد أن وافقت عليه المجالس النيابية في البلاد الدستورية والحكومات في البلاد الأخرى، فعمّ الابتهاج وشمل السرور بذلك نفوس أبناء العرب جميعاً

ولقد اقترح بعض المتحمسين جعل يوم توقيع هذا الميثاق وإعلانه عيداً قومياً عربياً تحتفل به هذه الدول في كل عام تقديراً لهذه الوحدة وتذكيراً. وحق لهم أن يقترحوا ذلك وأن يدعوا إليه وإنا لنشاركهم في هذه الدعوة. فهو عيد وأي عيد. قال عنه عزيز مصر ومليكها المفدى إنه أسعد يوم في حياته. وكيف لا نسعد به جميعاً وهو اليوم الذي وضع فيه الحجر الأساسي في إعادة بناء مجد الأمة العربية التليد، فجعل وحدتها في تعونها وتناصرها أمراً واقعاً وسياسة عملية محققة تضم شتاتها وتجمع وحدتها وتؤلف بين قلوبها وتقوى أواصر المودة والإخاء بين أبنائها. وقد أصبح من آمالها القريبة المنال إن شاء الله توحيد تشريعاتها وقوانينها بحيث تستقي جميعاً من منبع واحد وتنهل من معين واحد وترجع كلها إلى أصل واحد وتدور حول محور واحد هو ملتقى آمالها وجامع عناصر قوتها ووحدتها فتصبح بذلك أمة موحدة اسماً ومعنى، تسير بمختلف فروعها إلى غايات نبيلة واحدة وأهداف سامية واحدة مشتركة. وإن أهم ما يحقق تلك الوحدة ويجمع فلولها ويقوي أواصرها لهو توحيد الثقافة فيها ووضع البناء الذي بدأ يتكون من لبنات صغيرة مفككة على أساس من الرابطة القوية المتماسكة حتى لا يشذ طفل في رجولته المستقبلة، ولا تضل جماعة بعد ذلك اتجاهها نحو الغايات السامية والأهداف العظيمة الموحدة.

من أجل ذلك تشخص أبصارنا وأبصار رجال التربية والتعليم والثقافة في مختلف دول الجامعة إلى وزارة المعارف المصرية التي بدأت تنظم نفسها على أسس جديدة فتية، آملين أن تتجه في سياستها الحديثة إلى جمع أشتات بني العروبة في تثقيفهم وتعليمهم وتربيتهم، وأن تعمل جهدها على تقريب المسافات وتقليل الفروق بين مختلف الثقافات وتوحيد الاتجاهات في الأخذ بأساليب التربية الحديثة في مختلف معاهد العلم والتعليم في دول هذه

ص: 37

الجامعة الفتية. وإن خير ما تعمله في هذا السبيل أن تبدأ بالدعوة إلى مؤتمر جامع من رجال التربية والتعليم في مختلف دول العروبة يعقد في مصر لتبحث فيه الأسس التي تراعى في وضع سياسة تعليمية عامة موحدة على أساس من التفاهم والتناصر والتعاون والاتصال المستمر الدائم وتبادل المنافع والآراء العلمية بين معاهد هذه الدول الناطقة بالضاد فعسى أن يكون ذلك الخير قريباً.

لقد أحسنت هذه الوزارة في تنظيم نفسها وفروعها على أساس ثابت من اللامركزية بعد أن طال تأرجح هذه الفكرة فيها تأرجحاً كاد يودي بها. وإن خير ما في هذه الفكرة لهو إعطاء سلطة واسعة لنظار المدارس حتى تكون المدرسة كخلية مستقلة تنظم نفسها حسب ظروفها وبيئتها المحيطة بها وتوجه أبناءها إلى دراسة وافية لتنتفع بهم وينتفعوا بها وإلى تعرف مركز بيئتهم وأحوالها وكل ما يتصل بها وتعرف علاقاتهم بإخوانهم في الوطنية المصرية وأبناء عمومتهم في مختلف دول الجامعة العربية، وإلى ما تستلزمه تلك العلاقات الحديثة والقديمة من ضرورة التفاهم والتآزر والتعاون والتناصر في سبيل العمل للخير الخاص والخير العام (تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان) فإذا كانت المدرسة المصرية إلى اليوم، لا تزال مع الأسف نواة لأخراج شعب مشتت الاتجاه متباين التفكير غير موحد الثقافة بسبب تفرع التعليم في مدارسنا منذ البداية، وبسبب تشتته في المرحلتين الأوليين منه اللتين هما عماد الثقافة العامة وأساسها، وبسبب تنوع طوائف المعلمين في المعهد الواحد وتنكر بعضهم لبعض وتنافر بعضهم مع بعض وعدم تعاون بعضهم مع بعض كما أسلفنا، فقد أصبح لزاماً قد تزعمت مصر دول العروبة أن نعمل جهدنا لوضع أساس المدرسة الموحدة في المرحلة الأولى من التعليم خاصة وفي المرحلة الثانية منه عامة، وأن نبذل كل ما في وسعنا لإيجاد المعلم الموحد الثقافة المستقل التفكير الحي الضمير، ليكون دعامة قوية للأمم العربية جمعاء وعوناً لها على توحيد ثقافتها وتكاتف أبنائها والسير بهم قدماً في صفوف متوازية إلى أهداف الجامعة وأغراض الوحدة.

نعم أصبح لزاماً أن نكون المعلم تكويناً جديداً يتفق مع هذا الوضع الجديد ومقتضيات أحواله، وأن نبصره بانبثاق هذا الفجر الجديد الذي غمرنا بضيائه، وأن نوجهه التوجيه الملائم ليكون خير قدوة لأبنائه وخير حافز لهم على متابعة النهوض بالبناء الجديد. وإن

ص: 38

خير ما نفعل في هذا السبيل أن نوحد معاهد تخريج معلمي التعليم العام توحيداً يضمن لأبناء الجيل المقبل في دول الجامعة تفاهماً وتناصراً وتعاوناً. وأن نبني ضمير المعلم الجديد لا على أساس المادية الجشعة التي تنتابنا في كل مكان فتحط نفوسنا وتقوى سلطان الهوى فينا وتفرق جموعنا وتفكك وحدتنا وتفصم عرى محبتنا، بل على أساس من السمو الإنساني والتكوين الروحي الذي يقوى ضمير المعلم ويرفع من نفسيته ويحببه في جهاده ويسعده في شقوته، فيقبل على التضحيات المطلوبة منه عن طيب خاطر ونفس طيبة تدفعه إلى العمل في بناء لبناته بهمة لا تعرف الكلل وقوة لا يتطرق إليها ضعف ولا ملل. ثم ينفث تلك الروح القوية العالية في أبنائه فتشب أجسامهم تملؤها أرواح طيبة وضمائر قوية تتضافر على العمل للخير العام في بناء صروح السلام العام.

إن العالم العربي يحق له أن يصبو إلى كل ذلك، ويحق أن يصبو إلى الاشتراك الفعلي مع الموكب العالمي في بناء صرح السلام العام. وقد كان أسلافه أول المنادين (اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام) فتجاوبت أصداء ذلك النداء الحار في مشارق الأرض ومغاربها، فكان العرب خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. لقد تخبط قادة الأمم في هذه الأيام المريرة في تنكب طرق السلام لما أصاب نفوسهم من الجشع المادي والشغف بالسيادة وحب الاستعمار. وإن الصوت الخافت الذي يرفعه العرب اليوم ضد ذلك لابد له من أن يستمر ولابد له من أن يقوى، ولابد له من أن يعلو حتى يسمع الآذان الصم! ولن ينهض بهذا العبء الثقيل الدائم ولن يضع أساسه حقاً إلا المعلمون الصادقون المخلصون المتعاونون المتضامنون المتآزرون، فاعملوا على تكوينهم، واعملوا على الإكثار منهم، فهم أصحاب الأثر القوى الفعال الذين لا يضل سعيهم والذين قيل فيهم قول لا يفهمه الفكر المادي الحديث إنهم ورثة الأنبياء.

عبد الحميد فهمي مطر

ص: 39

‌أحاديث عابرة

التجديد في الشعر

كما يراه شاعر القطرين خليل بك مطران

في جلسة شاعرة مع شاعر القطرين خليل بك مطران - أحد الأوتار الخمسة في قيثارة الشعر العربي الحديث - كما يقول أستاذنا الزيات، تشقق بنا القول، وتنقل بنا الحديث في شجون من الأدب، فأدى بنا ذلك إلى الحديث عن قديم الشعر وجديده، وإلى الكلام عن الشعراء المجددين والمقلدين. . . وكانت فرصة طيبة أن أسأل الأستاذ الجليل عن علة عدم تقدم الشعر الحديث، وقصوره عن مجاراة الشعر العالمي في باقي اللغات، فأخذ - حفظه الله - يتحدث في بيانه الرائع عن محاولته الأولى وإخوانه من متقدمي شعراء هذا الجيل في هذه السبيل، قال:

ظل الشعر العربي منذ فجر حياته محدود الأغراض، مقيد الأفق، لم تنفسح له ميادين الخيال، ولا مجالات التجديد، بسبب طبيعة البيئة التي نشأ فيها، والأرض التي درج عليها. والغايات التي كان يهدف لها. . .

وكان المبرزون من شعراء العرب ينسجون على منوال من تقدمهم من الجاهلين، ويترسمون خطاهم، ويسيرون على هديهم، فلا يجتاز خيالهم وصف البيئة التي يعيشون فيها، ولا يمتد إلى ما وراء ذلك من آفاق واسعة وأحاسيس إنسانية، اللهم ما كانت تسبق إليه طبيعة الشاعر الفنية بين الحين والحين - على غير قصد وفي غير تعمد - في سياق قصيدة، إذ تجد البيت أو البيتين كأنما ساقهما محض المصادفة، وإلهام الفطرة! وكان أن حدد علماؤهم للقصيد شروطاً لا يتعداها الشاعر ولا يتخطاها. . . فإن هو جاوزها عد مقصراً، وأخذ ذلك عليه. ومن أهم هذه الشروط وحدة القافية، وقد كان ذلك - فيما أرى - أهم عوائق نهضة الشعر، وبخاصة في عصرنا الحديث الذي تنوعت فيه ألوان الحضارة، وتغيرت فيه أهداف الشعر ومقاصده، وأضحت له أغراض غير التي كانت له بالأمس؛ فلم يعد لشعر المناسبات تلك الأهمية التي كانت له، ولا لوصف البيئة التي يعيش فيها الشاعر ولا راحته ولا دياره ما كان لها من روعة وبهاء وقد دفعني ذلك كله منذ بدأت أحاول الشعر إلى أن أنهج به منهجاً آخر يجاري ما نحن فيه من حياة، ويتمشى وتلك الحضارة

ص: 40

التي يدفع بها إلينا الغرب ونتلقاها نحن عنه، سواء في الثقافة وتنوع أغراضها، أو الاجتماع وتعدد مراميه؛ وكان أن أخذت أنقل إلى العربية آثار كبار شعراء الغرب وأدبائه من أمثال شكسبير وكورني وراسين وفيكتور هوجو، وألفريد دي موسيه وغيرهم من الإنكليز والفرنسيين، متوخياً أن تكون نماذج أدبية سواء في روعة أخيلتها، أو تعدد مقاصدها، أو سعة أفقها، أو ما تحمله في طواياها من جدة المعنى وروعة اللفظ وبراعة الأداء.

ثم حاولت أن أقحم في الشعر العربي نظم (الملحمة) وما كان له أن يدخل في هذا الفن إلا إذا تحلل من وحدة الروى، ولكني أردت بتجربة منظومة أن أبين نهاية ما يستطاع بالروي الواحد، أنشأت على سبيل المثال قصيدة (نيرون) في نحو من أربعمائة بيت من بحر واحد ورويّ واحد، تخيرت لها حرف الراء حتى أبرز للقراء أقصى ما تصل إليه طاقة الناظم بالقافية الواحدة. على أن اللغة العربية تعطى في الروي الواحد ما لا تعطيه لغة أخرى بإطلاق. ولكن التزامه فيها من أسباب ضعف التبسط إذا أريد القصص الطويل، أو الوصف الدقيق بالتحليل والتفصيل، فلهذا عمدت بما قدمته من المثال إلى أن أصور للأذهان أين موضع العجز عندنا عن مجاراة الشعر القصصي والوصفي والتحليلي عند الأمم التي لم تلتزم وحدة القافية.

وقد انتفع بمحاولاتي ومحاولات أخر من شعراء عهدي، نفر غير قليل من شعراء هذا الجيل، وتمسك آخرون بما ورثناه عن شعرائنا الأقدمين؛ ومازلت أؤمن بصدق نظرتي في أن التزم القافية الواحدة هو الذي يقعد بالشعر العربي عن مجاراة نظيره في آداب الأمم الأخرى التي لا تلتزم قافية واحدة كما يقعد بالشاعر عن التحليق فيما يرد من آفاق بعيدة المدى. . ولن يعيب القدماء ما آثروا للشعر من النهج، ولن ينقص من جمال ما أتوا به من الروائع، ولكن ما لا ريب فيه هو أن طبيعة الحياة قد تغيرت عما كانت عليه من قبل، إذ تعددت مناحيها، وتشعبت مراميها، وتباعدت أطرافها. وما كان لنا في ظروف حياتنا وما تزودنا به حضارة العلم الحديث من وسائل شتى للعيش، وضروب مختلفة للترفيه، أن نظل كآبائنا في نطاق محدود من الخيال ووسائل الفن. ولن يتأتى لنا - فيما أرى - أن نجاري ما يتحفنا به أدباء الغرب من روائع، إلا إذا تحللنا من ذلك القيد الذي ظل الشعر العربي

ص: 41

يرسف فيه منذ قرون طوال. ولا شك في أن ذلك - مع المحافظة على ما امتاز به الشعر العربي من مقاطع وأوزان - يفسح لنا ميادين التفكير ويؤدي بنا إلى أن نستطيع الإنتاج بأنفسنا، وتزويد الثروة الأدبية العالمية بثمرات جديدة من وحي بلادنا، وفيض عواطفنا وأحاسيسنا، ويومئذ نكون قد عرضنا للعالم ما تمتاز به لغتنا من جزالة وسعة، وما يوحي به شرقنا - مهبط الأديان ومنزل الوحي - من حكمة، وما تفيض به قلوب أبنائه من سمو في العاطفة وعلو في التفكير. هذا رأي اقتبسناه من حديث للشاعر الكبير نعرضه لشعراء الشباب، والرأي لهم الآن

س. العناني

ص: 42

‌رثاء البشرى

بمناسبة مرور عام على وفاته

لشاعر القطرين خليل مطران بك

وا رحمتا ليَ من صروف زماني

أَنَّي رمت رَأَت السهامُ مكاني

إني لأسأل والرفاق تحملوا

أتُرى يطيل عذابيَ الملوان

من مبلغ السلوان مقروحَ الحشا

سدت عليه مسالك السلوان

منعاك يا عبد العزيز أمضّى

وأضاف أشجاناً إلى أشجاني

فاجأتني بالنأي قبل أوانه

هل حرقة كالنأي قبل أوان

أتسوء إخواناً ملكت قلوبهم

ظرفاً وكنتَ مسرَّة الأخوان

رَبَّ البيان وأنت بالغ شأوه

أعجزت بالسبق البديع بيانه

أدب يخال مطالعو آياته

أن الكلام مثالث ومثاني

فقت الذين أخذت عنهم يافعاً

وبززت من جلوا مِن الأقران

هذا بإجماع فماذا عارضت

دعوى دعني من سَنَي البرهان

لا خير في زمن إذا ما طاولت

فيهِ الصِّعادُ عواليَ المُرَّانِ

أحدثتَ أسلوباً وكنت إمامَهُ

وبقيت فَذّاً فيه مالك ثان

جمع السهولة والجزالة لفظه

تتخالفانِ حِلىً وتأتلفان

ديباجة عربية مصرية

نقشت برائعة من الألوان

مَن للنوادر تَجَتْني منها النهى

ما تشتهى من طيبات مَجَان

مَن للبوادر لا يجود بمثلها

بل الروية أَحْضَرُ الأذهان

من للدعابة وهي قد قَرَنت إلى

حلم الشيوخ فراهَةَ الشبان

إن ثَقَّفَتْ لطفت وفي ضحكاتها

إيماضُ برقٍ لا انقضاض سُنان

نُهَلٌ تساقاها القلوب فتشتفى

غلَلٌ وتُقضَى للقلوب أمان

بدوات أَلْبقِ كاتب ومحدث

صافي البداهة بارع التبيان

في جِدِّهِ ومزاحه متصرفٌ

بيراعة خلابة ولسان

أخَلا من البشرى عصر لم يكن

فيه على ذاك المثال اثنان

ص: 43

شخص قليل ظِلُّهُ طاوي الحشى

يمشي فلا تتوازنُ الكتفان

طلقُ المحيا إذ تراه وربما

نَمَّت بكامِن دائه العينان

حُبَّت ملامحه بمسْحَةِ أُدْمَةٍ

هي من (مِنا) إن شئت أو (عدنان)

وبعارضيه الهابطين وَلِمَّةٍ

شعثاَء لم تُلْمَمْ من الثَّوَران

وَمَضنّةٌ يطوي عليها صدرَه

وكأنه أبدا عليها حان

من ذلك التمثال لاحت للورى

آيات أيِّ حجىً وأيِّ جَنان

حُسنُ المنارة في سطوع ضيائها

لا في زخارفها ولا البنيان

أما خلائقه فقل ما شئتَ في

جَمِّ المروءة راسخ الإيمان

ما ضاق صدراً وهو أصدق مسلم

بتخالف الآراء والأديان

نعم الفتى في غيبة أو مشهد

نعم الفتى في السر والإعلان

بالعدل يقضى في الحقوق وبالندى

يقضى حقوقَ الأهل والجيران

يسعى كأدأب من سعى لِمُهمه

مهما يجشَّم دونه ويعاني

متشمراً بغدوِّه ورواحه

عَجِلَ الخُطى مسترسل الأردان

لو كان ما في جِدِّهِ في جَدِّهِ

لعلت مكانته إلى كيوان

لكنه لم يُلْفَ يوماً عاتباً

أو طالباً ما ليس في الإمكان

ورعى حقيقة نفسه وأجَلَّها

عن أن تبدل عزةً بهوان

ما منصب فوق المناصب أو غنى

فوق المطالب غاية الفنان

مهما يزاول فالكرامة عنده

هي في إجادته وفي الإتقان

ماذا يكون سليل بيت صالح

عالي المنارة باذخ الأركان

الوالد الشيخ الرئيس وَوُلْدهُ

شَرْواه في أدب وفي عرفان

صبراً جميلاً يا أخاه وأنت مَن

بحجاه يدركُ حكمه الرحمن

كم في القضاء تلوح للفطن الذي

وَلى القضاء سرائرٌ ومعان

وعزاءكم يا آلهُ أن الذي

تبكونه في نَعْمة وجِنان

وعزاءكم يا معجبين فضله

فيما دنا ونأى من الأوطان

ص: 44

‌انتهينا.

. .!

للأستاذ سيد قطب

انتهينا. قد مضى الماضي جميعاً ومضيْنا

انتهينا. لم نَعدْ نسأل أيّانَ وأيْنا

أو نمدَّ اليوم للأحلام والأوهام عينا

انطوى الحلم الذي لاح زماناً وانطوينا

ويد الدهر تمشّت تسبل الستر علينا

اضربي في زحمة الأرض على غير طريقي

فكرةً ضلت وحُلماً يتوارى عن مفيق

ولقًى يقذفه الموج إلى الشط السحيق

وهوًى يخسره الفن، على عين الصديق

وسنى يطمسه الليل إلى غير شروق

وأنا المكدود فلْيلقِ إلى الأرض عصاه

آنَ للمجهد أن تسكن في الأرض خطاه

آنَ أنْ يصمت لا تهتف شوقاً شفتاه

آن أن يغمض لا توقظه وَهْناً رُؤاه

جاوز الجهدُ قواه، فتهاوت قدماه

طال هذا الحلم حتى صار في النفس عيانا

ومضينا في طريق الوهم تنساب خطانا

تهدم الأيام ما نبني فتبنيه رؤانا!

ونخوض الشوك يُدمينا فتمضي قدمانا

تتبع الوهم الذي صاغ من الشوك جناناً

يا لهذا الحلم والأيام تمضي والليالي

عابثات بالأماني وهو يمضى لا يبالي

يغلب الواقع في الأرض بتحليق الخيال

ص: 45

ويَرى خلف الروابي والصحارى طيف آل

فيرود الأفق ظمآن مشوقاً للظلال

قد مضى، والعمر يمضي والأماني والزمانْ

وانتهينا وصحا بعد الأوان الحالمان

عجبا! قد كان حلمٌ! ليت شعري كيف كان؟!

العيان اليوم كالحلم وحلمي كالعيان

صمت الدهر عياءً ومضى يعطو الزمان

ص: 46

‌نشيد عسكري

عاش الملك

للشاعر الأستاذ محمد الأسمر

هيَّا بنا إلى الأمامْ

هيّا بنا، هيّا بنا

المجدُ في الدنيا زِحامْ

فزاحموا نحوَ المُنى

واسعَوْا إلى خير الوطنْ

عاشَ الملكْ، عاشَ الوطنْ

عاشَ الملكْ، عاشَ الوطنْ

نحن الحياةُ للبلادْ

ونحنُ أنصارُ العَلَمْ

إذا دعا داعي الجهادْ

كُنَّا بها أُسْدَ الأجَمْ

نذودَ عن أرضِ الوطنْ

عاش الملكْ، عاش الوطنْ

عاشَ الملكْ، عاش الوطنْ

يا مصرُ يا كَنْزَ الوجودْ

نحنُ على الكنزِ أُسودْ

ونحنُ أمثالُ الجدودْ

نفني ونعطيكِ الخلودُ

يا مصرُ يا خيرَ وطنْ

عاش الملكْ، عاشَ الوطنْ

عاشَ الملكْ، عاشَ الوطنْ

هيّا بنا، هيّا بنا

نبني الخلودَ والبقاءْ

نبني ونرفعُ البِنا

المجدُ في الدنيا

لمّا بنى اللهُ السماءْ

بنى لنا مجدَ الوطنْ

عاش الملكْ، عاشَ الوطنْ

عاشَ الملكْ، عاشَ الوطنْ

ص: 47

‌البريد الأدبي

الزار ظاهرة اجتماعية أفريقية

حاضرنا الأستاذ علي أحمد عيسى، في مدرج كلية العلوم، بجامعة فاروق الأول، عن الزار كظاهرة اجتماعية أفريقية.

فابتدأ بأن قال: إن هذا الموضوع الجديد على الباحثين الاجتماعيين في مصر لا يعتمد على الكتب، أو المراجع، بقدر ما يعتمد على المشاهدة عن كثب. كان أول عهد اهتمام الأستاذ المحاضر بهذا الموضوع الخطير حين وجهه إلى دراسته البروفيسور (هوجارت) الأستاذ بجامعة فؤاد الأول - وكان أستاذاً لمحاضرنا الفاضل في سنة 1935

وقد أخبرنا الأستاذ عيسى، أنه عثر على كتاب في - طب الركة! - يرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر، أورد مؤلفه حديثاً عن الزار لأول مرة في مصر، واستدل الأستاذ المحاضر بذلك، على أن تلك الظاهرة الاجتماعية لم تكن معروفة في مصر قبل ذلك القرن، ثم حدثنا عن سيدتين كتبتا عن هذا الموضوع أيضاً وفصلتا بعض طقوسه هما: زينب فواز، وحواء غرزوزي، وكانت من سيدات القرن التاسع عشر.

أما المصادر الأوربية، فقد ذكر الأستاذ الفاضل أن البروفيسور (تشيروللي) تحدث عن الزار في دائرة المعارف الإسلامية.

وخلاصة رأى العلماء في صدد هذا الموضوع أن الحبشة هي المنبت الأول لهذه الخرافة، وقصة الزار في الحبشة تبتدئ منذ اعتناق الأحباش للديانة المسيحية - وقد كانوا من قبل يعبدون إلهاً يسمى ظارو! أو دارو! أو زارو! على حسب الروايات - فلما استجابوا للدين الجديد ظلت آثار الديانة القديمة راسبة فيها وراء اللاشعور، وابتدءوا يتوجسون في أعماق نفوسهم خيفة من مظنة انتقام الإله المندحر، زارو! وأنشأوا ضروباً من الطقوس والشعائر البدائية يترضونه بها، وصاروا يجتمعون فيرقصون رقصات تشبه كثيراً من المشابهة رقصاتهم الدينية القديمة تقرباً وتزلفاً للإله القديم. . .

فظاهرة الزار إذن، ظاهرة دينية، لا تسود في غير الشعوب البدائية، تلك الشعوب التي تختلف أداة تفكيرها عن أداة التفكير لدى الشعوب المتحضرة، والتي تتفشى أمثال هذه الخرافة في بيئاتها تفشياً يبعث على كثير من التأمل.

ص: 48

وإذا نحن علمنا أن رجل الشعب البدائي، يجمع بين الأشياء التي تفصل بينها، وأن لا فرق لديه بين شخصه وبين ظله! ولا بين شخصه وبين اسمه! وأن الرجل الصيني حريص على أن يباعد بين ظله وبين نعش الميت وقت تسميره، مخافة أن يموت في الحال إذا ما قدر لهذا الظل أن يلتصق وقتذاك بالنعش. إذا علمنا ذلك، أدركنا إلى أي مدى تتحكم الخرافات في أمثال هذه البيئات.

وليس من شك في أن هذه المعتقدات تجعل معتقدها مهدداً في كل آن بغارات خفية من عالم الأرواح، فهو في فزع دائم لا ينقطع، وهو محاط بغيوم من الروع جاثمة لا تنقشع. ولا عجب إذا ما اندفع إلى استرحام تلك الأرواح التي تهدده كل وقت باحتلال جسمه، مقدماً إليها القرابين المختلفة، ممارساً لأجلها شتى الطقوس والشعائر، استجلاباً لعطفها واستدراراً لرحمتها ورفقها.

وقد تلقت مصر أيام العثمانيين هذه الخرافة عن الرقيق الذين توافدوا إليها أثناء حملات محمد باشا وغزواته للحبشة والسودان، وساعد على انتشارها في البيئات المصرية أنها كانت في حال من الانحلال النفسي تبرر تقبلها لكل دخيلٍ من أمثال هذه الفكر.

فمصر، كما اهتم الأستاذ المحاضر أن يؤكد لنا، ليست عريقة في اعتناق ديانة زارو، بل هي حديثة العهد بها جداً، إذ لم تعرفها قبل الربع الأول من القرن التاسع عشر.

ولا يسعني إلا أن أقول في إيجاز: إن الأستاذ المحاضر قد أعطانا صوراً دقيقة من مراسيم الزار، وأكد لنا أن كلمة - زار - هي بلا شك تحريف لاسم الإله الحبشي القديم زارو!! كما برهن على أن الطقوس التي تؤدي في هذا الصدد ليست طقوس مصرية أصيلة، ولكنها طقوسٌ دخيلةٌ محدثةٌ

(الإسكندرية)

علي حسن حمودة

إلى ابنتي عفاف

في الربيع النضر، حين سرى الماء في العود اليابس، ونبضت الحياة في البراعم النابتة، وتألق الجمال بألوانه الزاهية في الزهور المتفتحة؛ في الربيع النضر يا ابنتي، حين أشرق

ص: 49

كل شيء بالبهجة، ورقص كل حي من المرح، ونعم كل ألف بإلفه؛ وسكن كل طير إلى عشه، تذبلين أنت يا زهرتي الغضة، وربيع شبابك لا يزال في إبانه، ويذوي غصنك الرطيب في غير أوانه، ويخلو عشك الناعم من بسمتك الحلوة ونظراتك الأنيسة وصوتك الغرد!

وفي الربيع الماضي، وفي مثل هذا الشهر، ذوت أختك الجميلة أمام عينيك وبين يديك، فعلمت كيف يروع البين، ويتصدع الشمل، ويوحش الأليف، ويرمض الحزن، فهلا رثيت لأبيك الواله فلا تجعلي بذبولك في هذا الربيع روضة من غير زهر، وقلبه من غير أمل، وبيته من غير أنس!

ثلاثون يوماً يا عفاف رقدتها على جنب واحد تتبخرين كما تتبخر دمعة الحب، وتذوبين كما تذوب شمعة العرس، وبسمات الرضا لا تغيب عن ثغرك، وومضات الأمل لا تخبو في صدرك، وداء السل الوبيل يخادعنا ويخادعك، فيتورد خدك، ويرهف إحساسك، ويرق حديثك، ويتسع رجؤك، فتنذرين النذور للشفاء، وترسمين الخطط لتغيير الهواء، فنصدق الظواهر ونكذب الأطباء ونتعلق بأهداب الأمل!

ماذا دهاك يا عفاف وقد تركتك في المساء وأنت على حالة مطمئنة، ونفس راضية مؤمنة، وقلت لك مساء الخير فقلت أنت مساء الخير والسعادة. أين الخير وأين السعادة؟

وا لهفتاه حين أصمني صوت الناعيات المروع وأذهلني عن نفسي، وأخرجني عن حسي، فلم أعد أعلم مما جرى شيئاً.

أختك يا عفاف طال عليها الكرى، وهاهي ذي في جوارك، فحلى دثارك، ودعي أزاهيرك البيض والحمر تتناثر على جسدها البالي برفق، ثم ارقدي مطمئنة يا عفاف فليس وراءك في هذه الحياة ما يقلقك في قبرك، فابنتك الصغيرة قد ماتت منذ أشهر، وأمك منذ ثماني حجج في جوار الله، فحييها تحية صامتة كدموع أبيك، ولا نقضي عليها ما كان من أمر (عواطف) وهي تندبك وتبكيك!

نامي طويلاً كيف شئت يا عفاف فقد طال بك السهاد ونال منك التعب، وقد قلت لي ليلة عدت من حلوان:

أنا بخير! لا أحب البكاء! أريد أن أستريح! فاستريحي يا ابنتي المحبوبة، واسمحي لي يا

ص: 50

زهرتي الأولى أن أقدم إليك هذه العبرات الجافة الصامتة وإن كنت تكرهينها؛ فإن فيها تفريجاً عن قلب أبيك الثاكل، وما أملك لك يا أعز الناس عندي غير الذكريات الطيبة طول حياتي، والدعوات الطاهرة في خلواتي وصلواتي. وإلى اللقاء.

والدك الحزين

حسن عبد العزيز الدالى

أرض مصر: معرض صور جان هيكمان

معرض صور جان هيكمان من المعارض القليلة الجديرة بعناية كل مشتغل بالفن محب له. ولا أذكر أني زرت معرضاً حافلاً بالمعاني والدروس مثل هذا المعرض، وصاحبته ولدت في وادينا وعاشت بين ظهرانينا، وهي إن لم تكن مصرية بالدم، فهي مصرية صميمة بالقلب والروح، ومعرضها دليل بليغ على صحة هذا الكلام.

ومن المفرح حقاً أن توفق هذه الفنانة الكبيرة إلى إنتاج هذا الفن المصري الصميم الذي يجمع بين الطابع المحلي البحت والروح الإنسانية الشاملة التي يتميز بها كل فن ناضج في أي بيئة.

ويجب أن نتحدث أولاً عن القيمة الفنية الذاتية لرسوم السيدة جان. وهذه الفنانة تجمع بين الإحساس الفني الصحيح وهو الشعور بالقيم اللدينة للأشكال والأوضاع، ورقة العاطفة وحيويتها، وقوة الخيال واكتماله. ومتى توفرت هذه الملكات لفنان استطاع دون عناء أن يعثر فيما حوله من أشكال على الصور التي يتخذ منها أداة للتعبير عن ذاته، ومع ذلك قد يظل مثل هذا الفنان بعيداً عن روح البيئة التي أنتجته فينتج إنتاجاً خالصاً للفن ينظر إليه المصري بنفس العين التي ينظر بها إليه الصيني مثلاً. ولكن هذه الفنانة، مع احتفاظها بطابعها الشخصي الخالص، استطاعت أن تعبر عن روح بيئتنا تعبيراً وفياً فذاً.

وصورها كلها تمثل مظاهر الحياة المصرية الصميمة التي نشاهدها كل يوم: الفلاحون بملابسهم وأوانيهم، السحنة المصرية تشرق من أساريرها الروح المصرية الصميمة، آلاتنا الموسيقية المحلية الساذجة، الغيط والساقية والقوارب النيلية، والعامل المصري بأعبائه الثقيلة ومسكنه المتواضع.

ص: 51

وصورها لا تمثل (مظاهر الحياة) فقط، بل جوهر الحياة المصرية وروحها، فصورة (الأمومة) تمثل المرأة المصرية الوادعة المستسلمة المستغرقة في شؤون العيش، يفعم قلبها السلام والإيمان مادامت تجد الكفاف، وتمثل صورة (عزبة في إمبابة) منزلاً يكاد يحدثك عن الحياة التي تنطوي عليها جدرانه. وفي صورة (أرض النيل: الفلاح) تخفق روح القرية، بل تكاد وأنت واقف تتأملها تشم رائحة التربة المصرية وتشعر بقلبها النابض، والنسيم المتجاوب في أنحائها، وتلمس شقاء الفلاح وبؤسه وصبره وأمله وإيمانه وتعاونه مع زوجه.

ومن مزايا هذه الفنانة شدة الإحساس بالضوء المصري الصافي وما يضفيه على الألوان من حيوية وقوة، ويتجلى هذا جيداً في المناظر الطبيعية التي رسمتها، وهي نماذج صادقة من الجمال العبقري وأناقة الطبيعة المصرية، كما أنها مفعمة بالإحساس الشاعري الرقيق - وبينما تطالعك لوحة الفلاحين مثلاً بغلطة الحياة الواقعية وقسوتها، كأنها جلاد لا يرحم، تطالعك صورة (المحمودية) بجمال الطبيعة ورقتها وحدبها علينا، كأنها أم رؤوم.

ولا شك أن الفنانة التي تستطيع أن تستوعب كل هذه الاحساسات وتعبر عنها تعبيراً موفقاً فنانة كبيرة - ولا شك أن الفن الذي يجمع بين: (1) الشيء في حد ذاته، أي الشكل ذو الدلالة المعنوية و (2) التعبير عن رؤيا فنية شخصية و (3) الإحساس البيئي الاجتماعي الذي يصور الآلام والآمال المشتركة، فن جدير بالذكر والتنويه والدرس والاعتبار. وإني لأزف إلى صديقتي جان أخلص تهنئة على توفيقها التام في رسومها التي تفتح أعيننا على صور الجمال التي تفيض بها (أرض مصر).

نصري عطا الله سوس

ص: 52

‌الكتب

كتاب التصوير الفني في القرآن

تأليف الأستاذ سيد قطب

للأستاذ نجيب محفوظ

قرأت كتابك (التصوير الفني في القرآن) بعناية وشغف، فوجدت فيه فائدتين كبيرتين:

أولاهما للقارئ: خصوصاً القارئ الذي لم يسعده الحظ بالتفقه في علوم القرآن، والغوص إلى أسرار بلاغته. بل حتى هذا القارئ الممتاز لاشك واجد في كتابك نوراً جديداً ولذة طريفة، ذلك أن كتاباً خالداً كالقرآن لا يعطى كل أسراره الجمالية لجيل من الأجيال مهما كان حظه من الذوق وقدرة في البيان، فللجيل الحاضر عمله في هذا الشأن، كما سيكون للأجيال القادمة عملها. والمهم أنك وفقت لأن تكون لسان جيلنا الحاضر في أداء هذا الواجب الجليل الجميل معاً، مستعيناً بهذه المقاييس الفنية التي يألفها المعاصرون ويحبونها ويسرون في وادي الفن على هداها ونورها. إن عصرنا - من الناحية الجمالية - عصر الموسيقى والتصوير والقصة، وهاأنت ذا تبين لنا بقوة وإلهام أن كتابنا المحبوب هو الموسيقى والتصوير والقصة في أسمى ما ترقى إليه من الوحي والإبداع. ألم نقرأ القرآن؟ بلى. وحفظنا - في زمن سعيد مضى - ما تيسر من سوره وآياته، وكان - وما يزال - له في قلوبنا عقيدة وفي وجداننا سحر، بيد أنه كان ذاك السحر الغامض المغلق، تحسه الحواس، ويهتز له الضمير، دون أن يدركه العقل أو يبلغه التذوق، كان كالنغمة المطربة التي لا يدري السامع لماذا ولا كيف أطربته، فجاء كتابك كالمرشد للقارئ والمستمع العربي من أبناء جيلنا، يدله على مواطن الحسن ومطاوي الجمال، ويجلى له أسرار السحر ومفاتن الإبداع. كان القرآن في القلب فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعاً.

ولقد قلت بعد نظر طويل وتدبر (التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن. فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور. وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقى بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة؛

ص: 53

وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. .) ومضيت تستشهد لكل حالة بالأمثال مفسراً شارحاً موضحاً، ولم تقتنع بذلك فتوثبت للبحث عن القواعد التي يقوم عليها هذا التصوير المعجز من التخيل الحسي والتجسيم في فيض من الأمثال والشواهد. ثم لم تقنع بما فتح الله عليك من سحر هذا الفيض الإلهي فقلت (حينما نقول إن التصوير هو القاعدة الأساسية في تعبير القرآن وإن التخيل والتجسيم هما الظاهرتان البارزتان في هذا التصوير لا نكون قد بلغنا المدى في بيان الخصائص القرآنية عامة ولا خصائص التصوير القرآني خاصة. . . هنالك التناسق الذي يبلغ الذروة في تصوير القرآن.) فكان هذا الفصل الذي بلغت به أنت أيضاً الذروة في النقد والذوق والفهم. كنت أود لو أستشهد ببعض ما جاء في كتابك من النقد التطبيقي للآيات الكريمة، ولكن تضيق عن ذلك كلمتي الموجزة ويأباه ذوقي الذي يأبى المفاضلة بين آي الذكر على أي وجه من الوجوه. ومهما يكن من أمر فينبغي أن أقرر هنا أنه في فصلي (التناسق الفني) و (القصة في القرآن) قد بارك القرآن مجهودك فرفعك إلى مرتقى يتعذر أن يبلغه ناقد بغير بركة القرآن. .!

أما أخرى الفائدتين: فهي لك أنت! لأن الكتاب في جملته إعلان عن مواهبك كناقد. إنك تستطيع أن تعبر أجمل التعبير عن أثر النقص في نفسك، ولا تقف عند هذا فتجاوزه إلى بيان مواضع الجمال في النص نفسه وما يحفل به من موسيقى وتصوير وحياة، ثم تستنطق الموسيقى أنغامها وضروبها، وتستخبر الصورة عن ألوانها وظلالها، وتستأدي الحياة حرارتها وحركتها. ولا تقنع بهذا كله! فيقرن ذهنك بين النص والنص، حتى تظفر وراء الظواهر بوحدة، وخلف الآيات بطريقة عامة، تجعل من الكتاب شخصاً حياً ذا غاية واضحة، وسياسة بارعة، وخطة موضوعة، تهدف جميعاً إلى الإعجاز الفني فتناله عن جدارة. فهذا ذوق جمبل، وتذوق عسير وفكر ذو نفحة فلسفية. . .

والآن اسمح لي أن أوجه إليك سؤالاً، وأن أسوق ملاحظة: أما السؤال: فإنك تحدثت عن التصوير والتخييل والتجسيم والتنسيق الفني، وكل أولئك روح الشعر ولبابه قبل أي شيء آخر، أفلم يخطر لك أن تحدد نوع كلام القرآن على ضوء بحثك هذا؟ وأما الملاحظة فعن الفصل الذي خصصته للنماذج الإنسانية، فقد وجدت فيما استشهدت به آيات ما يعبر عن

ص: 54

طبائع بشرية وسجايا نفسية لا نماذج إنسانية، فالنموذج الإنساني بمعناه العلمي شيء أشمل من هذا، وهو قد يحوى الكثير من هذه الطبائع كما قد يحوى غيرها، والمهم أنه يعرضها على نحو خاص يتفق ومزاجه الأساسي. والنماذج الإنسانية محدودة معروفة - على اختلاف تقسيم علماء النفس لها - أما الطبائع فلا حصر لها، فلعلك قصدت الطبائع لا النماذج.

ص: 55

‌حماري قال لي.

. .

توفيق الحكيم. . . مطبعة المعارف 147 ص

للأستاذ كامل عجلان

حمار الحكيم، لين الطبع هادئ التأمل، يمر خفيفاً على هامات التاريخ، يقتطف شيئاً من الدقائق القصصية مثل مشاهدة في حادثة الطوفان. . . ويأبى الحكيم إلا أن يكون صادقاً في تأملاته.

فإذا نشط الحمار وتطاول إلى الاشتراك في (الدعاية) وتعرض (لهتلر ثم موسيليني) وانغمس في جحيم الحرب، والخواطر التي تدور مع رحاها الطحون، انقلت الحمار وصاحبه إلى الأساطير الشرقية، فأرسل بشهر زاد إلى الغرب تتهادى هنالك. ولا لوم على الحكيم الذي أبى إلا أن يحلم عن الحرب، وإلا أن يعيش في أحلامه المفتنة وآرائه عن المرأة وأفكاره في السياسة التي تجد وتجمل في عين السياسي ورجل الاجتماع مثل (حماري ومؤتمر الصلح)

ومع خفة الآراء وطرافة موضوعها تطالعك شخصية الحكيم ص48 في حزب الحمار. . .

(الحمار: ألست معي؟

الحكيم: أبداً أبداً. . . ما الذي صنعناه إذن؟

الحمار: ماذا كنت تريد أن تصنع أكثر من ذلك؟

الحكيم: أشخاص ومكان وناد، إني يا سيدي - كما تعلم - لا أعرف لعب الطاولة ولا الشطرنج. ولست ساحر الحديث، ولا ظريف المجلس، ولا أحب أن أكون من ذوي الجاه، كل ما عندي قلم لا أرضى أن أسخره في هدم الأشخاص لمجرد الهدم ولا أن أستخدمه في بناء أشخاص طمعاً في الغنم. . . الخ)

هذه هي أنفاس الحكيم، وتلك آراؤه الهادئة العابرة، التي لا يريد صاحبها أن يأخذ فيها بخناق أحد، ولا يرقب شيئاً إلا الإخلاص لفنه والصداقة لحماره الذي غلب كما غلب هو على أمره أيضاً.

وقد أرانا توفيق صوراً من ظلال العاطفة المحرومة الخائفة من المرأة في أحلامه وآرائه (حماري والطالبة) وأبدع وتخابث وأسرف في الصدق حين صور (العقاد) في خوف وحذر

ص: 56

من براثنه العملاقة، ومن فرط حذر الحكيم كان في فصل (حماري وعداوة المرأة) يشرح فكرة العقاد عين الأنوثة التي يراها دائماً كما هي فاكهة فيها الدود يتشهاها ويأخذها كما أراد لها القدر لا كما أراد الحكيم وأمثال حماره من الناس.

ولذلك يقيد رأى العقاد بعد ذلك بأبيات منها:

أنت الملوم إذا أردت لها

ما لم يرده قضاء باريها

ثم يجلس الحكيم وهو آس على نصيبه من المرأة وحظه منها وهو لا يفعل وإنما يتكلم، ويعجب للمرأة التي تثور للكلام ولا تتمرد وتصرخ للفعال.

وهذا ضرب من التأملات الصادقة التي توحي بسمو العقلية النابغة.

ولا ألوم الأستاذ (توفيق) في شيء إلا أنه كثيراً ما ينسى نفسه وينسى حماره وينسى أن لغة الكتاب من وحي حماره، وهو هنا له العذر لأن ميزة الحكيم في (سهواته) وجماله في (شطحاته) التي تغيب به عن الجالس وعن الناس وعن الحياة الصاخبة التي تحيط به. وبعد فالحكيم هنا موفق كل التوفيق وقد استطاع أن يمزج أفكاره العميقة بتأملاته في الحياة والناس والمرأة والحرب وحرب الأحزاب وجحيم الأدباء وجناتهم.

ص: 57

‌مشكلة اللغة العربية

للأستاذ محمد عرفة

عضو جامعة كبار العلماء

هو كتاب عالج أصعب مشكلة تواجه المعلمين والمتعلمين في بلاد الشرق، وهي مشكلة اللغة العربية.

فقد عالج الكتاب هذه المشكلة فأبان أن سر هذا الإخفاق يرجع إلى سببين، أولهما طريقة تعليم اللغة، وثانيهما قواعدها، أما طريقة تعليم اللغة التي تجري عليها مدارس الشرق ومعاهده فقد ذكر أنها غير طبيعية في تعليم اللغات، وأقام الأدلة القاطعة على ذلك ثم بين الطريقة الطبيعية التي يجب أن تسلكها معاهد الشرق في تعليم اللغة العربية وسائر اللغات، وقد أفاض في هذا القسم ولم يدع زيادة لمستزيد، ولم يبق إلا أن يقتنع ألو الأمر في بلاد الشرق فيأخذوا بها فإذا اللغة العربية طيعة مذللة، وإذا الإخفاق الذي منيت به مدارس الشرق انقلب إلى نجاح عظيم وأما القسم الثاني - قواعد اللغة - فقد بحث الكتاب لماذا هي مبغضة إلى التلاميذ؟ ولماذا تند عن أذهانهم فوصل إلى الحق في ذلك، وقد بين أن القواعد منها ما حرف وبدل، ومنها ما هو صحيح ولكنه جرد من علله الصحيحة وألقى إلى التلاميذ جافاً خالياً من التعليل.

وقد ناقش بعض القواعد مناقشة علمية هادئة فأرانا رأى العين إننا كنا ندرس باطلاً وقواعد محرفة لا تصبر على النقد، وأرانا الجديد الذي أحله محلها فإذا هو أحظى بنصرة العقل وتأييد الدليل.

وقد كنا نود أن يطيل المؤلف في هذا القسم ولكنه وعد أن يصدر ذلك في كتاب مستقل.

وإذا كان لنا رجاء من المؤلف فهو أن يسرع في إخراج هذا الكتاب إذا كان على سنن ما يبينه في كتاب مشكلة اللغة العربية فأن ذلك يكون فتحاً جديد في اللغة.

ولا يسعنا إلا أن نشكر المؤلف على ما بذل من جهد أو ما تحمل من نصب، فجزاه الله خيراً عن أبناء الشرق الذين يحدب عليهم ويرعاهم، ويريد أن يوفر عليهم جهودهم وأعمارهم فينالوا في الزمن الوجيز من اللغة ما ينفقون أعمارهم سعياً وراءه ثم لا يظفرون منه إلا بالنذر اليسير

ص: 58

م

1

1

ص: 59