الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 617
- بتاريخ: 30 - 04 - 1945
الأسرة والمجتمع
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتاب جديد من الكتب القيمة التي تدرس فيها مسائل الاجتماع على الطريقة العصرية الحديثة، وتقرر فيها الآراء بسند من الإحصاء والاستقصاء والوصف والمقابلة والتحليل.
ألفه الأستاذ علي عبد الواحد وافي أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وأداره على موضوع الأسرة والمجتمع، فلخص فيه مشاهدات العلماء الثقاة في مسائل علم الأجناس وعلم وصف الإنسان، ولم يلتزم فيه وجهة نظر واحدة من وجهات النظر الكثيرة التي يذهب إليها أولئك العلماء، ولكنه أجملها ووازن بينها ورجح بعضها في موضع وبعضها الآخر في غيره على ما تبين له من وجوه الصواب.
ويظهر أن الكتاب قد ألف في أوقات متفرقة أو كتب بعض فصوله بمعزل عن البعض الآخر، فتكررت فيه العبارات بمعنى واحد، وورد فيه بعض الأسماء بألقاب مختلفة، ولكنه على هذا مطرد السياق متتابع الفصول، يتمم اللاحق منه ما سبقه من الأجزاء، وينتقل فيه القارئ من تمهيد إلى مقدمة نتيجة بغير انقطاع
وخلاصة الكتاب كله أن الأسرة نظام اجتماعي لا طبيعي كما جاء في الفصل الثالث حيث قال: (قد يتبادر إلى أذهان كثير من الناس أن نظام الأسرة الإنسانية قائم على دوافع الغريزة وصلات الدم ومقتضيات الطبيعة، وانه لا يكاد يختلف في دعائمه عن نظائره في الفصائل الحيوانية الأخرى. فيظن هؤلاء أن العلاقة بين الزوج وزوجه، والرابطة بين الأولاد وآبائهم، وشفقة كبار الأسرة على صغارها وحرصهم على تربيتهم وما يقوم به كل من الأب والأم من وظائف في الحياة العائلية. . . يظنون أن كل أولئك وما إليه من الأمور التي يتألف منها نظام الأسرة الإنسانية يسير وفق ما تمليه الغرائز الفطرية، وتوحي به الميول الطبيعية شأنه في ذلك شأن أشباهه في عالم الحيوان. ولكن نظرة يسيرة إلى الحقائق التي ذكرناها في الفصلين السابقين تدلنا على فساد هذا الرأي. فمن هذه الحقائق يتبين لنا في أوضح صورة أن نظم الأسرة تقوم على مجرد مصطلحات يرتضيها العقل الجمعي، وقواعد تختارها المجتمعات، وأنها لا تكاد تدين بشيء لدوافع الغريزة؛ بل إن معظمها يرمى إلى محاربة الغرائز أو توجيهها إلى طريق غير طريقها الطبيعي. فقد ظهر
لنا مما سبق أن النظم العائلية تختلف في جميع مظاهرها باختلاف الأمم والبيئات وتختلف في الأمة الواحدة باختلاف العصور).
تلك هي خلاصة الكتاب، وهي خلاصة توافق رأي الكثيرين من علماء الإجتماع، وليس فيهم من يخالف الواقع فيما يثبته من التجارب والمشاهدات، ولكن النتيجة مع هذا لا تتحقق على وجه الحتم واللزوم في جميع تلك المشاهدات.
لأن اختلاف النظم العائلية بين الأمم أو اختلافها في الأمة الواحدة بين العصور لا يقطع الصلة بينها وبين الغريزة ولا يجعلها عملاً مستقلاً عنها غير متأثر بدواعيها.
وإلا لوجب القول بأن الغرائز الإنسانية قد بطلت وبطلت آثارها في جميع الأحوال التي تلابس الحياة الاجتماعية، لأن الحياة الاجتماعية تنظم تلك الغرائز على ضروب من النظم لا تزال مختلفات في جميع الأمم وجميع العصور. فغريزة حفظ البقاء معدومة إذن لأن الناس يتقون الخطر ويجلبون الأمن ويستشفون من الأمراض بما لا يحصى من أساليب السكن واللباس والطعام والطب والدواء والسلاح، ولا يزالون على اختلاف في هذه الأشياء بين الأمم والأجيال.
والقوانين التي تروض الجشع والعدوات أو تروض الشر بضروبه لا تتفق بين الناس على اختلاف الأمم والأجيال، فهي إذن تقول لنا باختلافها وتطورها إنها شيء منعزل عن الغرائز الإنسانية لا يتأثر بدواعيها ولا باعث لها إلا تلك المصطلحات التي يرتضيها العقل الجمعي والقواعد التي تختارها المجتمعات.
وكل أولئك لا يقال ولا يعقل إذا قيل، فلماذا يقال إن الغريزة بمعزل عن الأسرة، لأن نظام الأسرة متعدد متجدد من قديم الزمان؟
إن أمرين اثنين تختلف النظم العائلية ما تختلف بين الشعوب والأجيال وهما ماثلان في كل أسرة وفي كل شعب وفي كل جيل، وهما حضانة الطفل والألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء، وكلا هذين الأمرين قائم على الغريزة الفطرية دون سواها على نحو متشابه في جميع الأجناس وجميع العصور.
فمن الخصائص الفطرية في الإنسان أنه طويل الحضانة لأطفاله، ضرورة لازمة لا دخل فيها للمجتمعات ولا لقوانين الاجتماع، ومن هذه الخصائص أنه يحتاج إلى الألفة الحميمة
بينه وبين فرد آخر أو أكثر من الأفراد، أياً كانت حالة الاجتماع من القبيلة البدائية إلى جامعة اللغات والعناصر والأديان
وكل أسرة وجدت بين الناس فهي محاولة مستمرة لتحقيق هذين الغرضين الغريزيين، ولولاهما لما كان هذا الإصرار على خلق الأسرة ومحاولة تحسينها وتنظيمها في كل مكان.
وما هو الأثر الذي يترتب على إلغاء الأسرة بأنواعها المعروفة بين الأجيال البشرية؟
إن أول الآثار التي تشاهد في هذه الحالة أن الناس يخلفون الأسرة بما يشبهها وينوب عنها، فلا يكفيهم مجرد الاجتماع في مكان واحد ولا يغنيهم أنهم يشتركون في المأكل والمشرب مئات وألوفاً كما يحدث في الجيوش والأديرة والمدارس الداخلية، ولكنهم يخلقون حنان الأسرة ورعاية الأبوة والأمومة خلقاً يعلمون أنه اصطناع ولا يستغنون عنه مع علمهم أنه اصطناع. فتظهر أسماء التحبيب والتصغير في الجنود، ويتسمون بأسماء (تومي وجوني) كأنهم أطفال صغار، وتظهر الحيوانات الداجنة التي يعطف عليها المعسكر كما يعطف على أبناء البيت، وتطهر أمومة الكنيسة وأحضان المدرسة وأخوة الدير وأشباه هذه القرابات، وهي شيء غير ألفة الاجتماع بين الناس بمعزل عن هذه القرابات (العائلية) التي يخلقها المجتمعون معها حتى لو وجدت لكل فرد منهم علاقته العائلية بذويه.
وإذا فقد الإنسان هذا الشعور الحميم لم يكن قصارى الأمر عنده أنه يعاني (النقص الاجتماعي) في أخلاقه القومية أو أخلاقه الإنسانية، بل كان من جراء ذلك أنه يعاني نقصاً (بيولوجياً) يؤثر في الغريزة والعقل ويدل على أن المسألة في أصولها مسألة الحياة لا مسألة الأوضاع والأنظمة والقوانين.
ومن الصفات المشتركة بين جميع الأسر في جميع الشعوب والأجيال أنها قيد للعلاقات الجنسية ملحوظ فيه مصير النسل على نحو من الأنحاء. فكل أسرة هي ضابط للنسل وليست وحدة من وحدات البنية الاجتماعية الكبيرة وكفى، ولا عجب في اختلاف الضوابط والقيود، بل العجب كل العجب أن تتفق كل الاتفاق من المحاولة الأولى إلى الأخيرة، فإن ذلك لهو المستحيل الذي لا يخطر على البال فضلاً عن انتظاره وتعليق الاعتراف بالغريزة في تكوين الأسرة عليه.
ولا نقول إن هذا الضابط مقصود لغاية من الغايات أو غير مقصود؛ ولكننا نقرر المشاهد
حين نقول إن منع الزواج من المحارم قد أفضى بالنوع الإنساني إلى ثروة شعورية لم يكن ليطمع فيها بغير هذه الوسيلة، فكأنما يتجه النوع الإنساني من قديم الزمن إلى (تخليص) الشعور وتنويعه في العلاقة بين الأقربين والبعداء، فلا يشعر الرجل بالمرأة الأخت أو الأم، كما يشعر بالمرأة الزوج أو المرشحة للزواج، ولا تزال هناك ضروب من العطف بين الأقربين لا تقتصر على ضرب واحد ولا تتشابه فيها الأواصر والصلات. ومعنى ذلك أن الإنسان يحرص على أنواع كثيرة من القرابة العائلية ولا يريد أن يخلطها بعلاقات المجتمع الذي لا قرابة فيه.
إن أواصر القرابة تختلف بين الأمم والأجيال فتشمل في أمة ما تستثنيه في أمة أخرى، وتنكر في هذا الجيل ما تعترف به في ذاك. ولكن هل يقع هذا الاختلاف لو لم يكن في طبيعة الإنسان استعداد للشعور بالقرابة أياً كان عنوان القريب؟ وهل أنكر الإنسان قط قرابة من القرابات إلا ليعترف بقرابة تعدلها أو تنوب عنها؟ وهل أنكر ما أنكره طويلاً دون أن يعود إليه؟
فالغريزة وراء الظواهر الاجتماعية في جميع هذه الأحوال، والفطرة الإنسانية أحوج فطرة بين الأحياء إلى النشأة في أسرة والاتصال بقرابة عائلية. ويغلو في القول من يرجع بكل ظاهرة من ظواهر الأسرة إلى الاجتماع لأن الناس يعيشون جماعات جماعات. فإن انتساب الفرد إلى أمة لا يغنيه عن النشأة العائلية بحال من الأحوال، ولو جاء الوقت الذي تهدم فيه الأسرة وتلغى فيه الأمومة والأبوة لتحل في محلها (تربية المجتمع) لكان ذلك تبديلاً في الخلق ولم يكن تبديلاً في النشأة الاجتماعية وكفى، لأن الفطرة قد عودت الأحياء أن يخدم الفرد نوعه، وهو يشعر بأنه يخدم نفسه لفرط ما يخالجه من اللذة والسرور بإنجاب الذرية. فماذا لو قيل غداً إن اللذة الجنسية ليست أصلاً من دوام النوع، وإن الحمل قد يتم بغير هذه اللذة التي يشعر بها الآباء والأمهات؟
إن من يقول بذلك لن يكون في مقاله أغرب ممن يزعم أن المجتمع ينشئ الأطفال بغير حضانة الأمهات والآباء، وأن الفطرة تستقيم على هذه التنشئة لأنها وضع من أوضاع الاجتماع.
ولقد أحسن صاحب الكتاب في تسجيل المشاهدات وتقرير وجهات النظر بين العلماء،
وكتابه من هذه الناحية أو في كتاب ظهر بالعربية في هذا الموضوع، ولكنه تجاوز حد المشاهدات التي أثبتها حين بنى عليها الفصل بين الغريزة ونشأة الأسرة أو تطورها. فإن تلك المشاهدات لن تبلغ بنا ذلك الحد الذي ذهب إليه، ولن تثبت لنا إلا أمراً واحداً لا نتعداه هو عمل المجتمع في الأسرة، وهو عمل من البداهة بمكان، ولن يلجئنا توكيده إلى الفصل بينه وبين الغرائز الفطرية، فهي لن تنفصل عن وضع من الأوضاع المتواترة بين الناس.
عباس محمود العقاد
تأييد لاقتراح (الرسالة)
للأستاذ علي الطنطاوي
ما تفتأ الأفكار تحمل وتلد، وما تني المطابع تتلقى الولائد وتلفها بالثياب، وتخرجها للناس كتباً، فلا يدرى القارئ من كثرتها ماذا يقرأ، ويحار المرء من تعددها ماذا يختار. ولكن العبقري في الكتب كالعبقري في الناس، لا تراه الدنيا إلا مرة واحدة في الدهر الطويل، ولا يكون إلا واحداً في ملايين. أخص السابقين من العباقرة في الأمم كلها تجدهم قد جمعهم لقلتهم سجل واحد، وضمت أسماءهم صحيفة، ثم أذكر كم من ملايين البشر عاشوا معهم، وتنفسوا الهواء الذي كانوا يتنفسونه، وأكلوا من الطعام الذي كانوا يأكلونه، ثم طوتهم الأيام، ونسيهم الناس، فكأنهم ما ولدوا ولا عاشوا، بل ربما كان في هؤلاء المنسيين بحق، المجهولين من كانت له دنيا أعرض من دنيا أولئك العبقريين، وكانوا يتمنون الأقل منها فلا يصلون إليه، وكانت لهم منزلة وكان لهم سلطان، ولكن الزمان محص الحقائق، وماز الأباطيل، فإذا ذلك السلطان زبد يذهب جفاء، وإذا العبقرية تمكث في الأرض لأنها تنفع الناس. وكذلك الكتب، فرب كتاب يطبل له ويزمر، ويقام له مقعد، وآخر لا يدري به أحد، يبطل الزمان الأول، ويبقى الثاني خالداً. ولقد قرأت في بعض ما قرأت من شعر الإفرنج كلمة أحسبها لتيوفيل غوتييه يقول فيها مخاطباً الملك العظيم لويس الرابع عشر:(لقد نسى التاريخ اللآلئ التي كانت في تاجك أيها الملك، ولكنه لا يزال يذكر الرقع التي كانت في حذاء كورني). كما نسى التاريخ ألوف الأمراء والملوك إلا ما خلده شاعر حين أمر أسمه على لسانه في قصيدة من قصائده.
هؤلاء الرجال العبقريون، وهذه الكتب العبقريات، التي لا تقوى حدود البلدان، ولا فوارق اللسان، على إبطال فتنتها، وأذهان روعتها، هذه الكتب (قدر مشترك) بين أبناء الشعوب المتمدنة كلها، ليست لشعب ولا لجيل، لأنها حديث القلوب فهي لكل ذي قلب، ولغة القلوب واحدة وإن اختلفت الألسنة وتعددت البلدان، فما يليق بأمة لها شعور وكرامة وعقل، أن تجهل هذه الكتب ولا هؤلاء الرجال.
أكتب هذا تعليقاً على مقالة الأستاذ الزيات في العدد الماضي من الرسالة. وإذا كتب الأستاذ في موضوع لم يدع فيه ركناً يعرض له بالوصف مثلي، لأنه يوفى فيه على الغاية، ويبلغ
في الإجادة فيه النهاية، وما علقت مستدركاً بل معيداً ومردداً، وليكون لي في هذه الدعوة المباركة نصيب.
ولقد عادت بي مقالة الأستاذ إلى أيامي الخوالي حين قرأت قصة (رفائيل) أول مرة، بإذن من أستاذنا شيخ أدباء الشام سليم الجندي، وكان يحرم علينا أن نلم بشيء من الأدب الحديث أو ننظر في جريدة من الجرائد، قبل أن نتمكن من الأدب القديم، ونألف الصياغة العربية، وتستقيم ملكاتنا على طريق البلاغة السوي خشية أن تدخل جراثيم العجمة إلى أسلوبنا، وأن يفشو الضعف في بياننا، فلما سألته عن قصة رفائيل غداة صدورها هل أقرئها؟ نظر فيها ثم أذن لي بقراءتها لأنه رآها بليغة الأسلوب، صافية الديباجة، سليمة اللغة، سامية البيان، فكانت أول ما قرأت من الأدب الحديث بعد (النظرات) ولا والله لا أستطيع أن أصف أثرها في نفسي ولا في خيالي ولا في قلمي، ولا أملك حتى الإلمام بذلك إلماماً، لأنه شيء فوق الوصف وإنما أعترف أنها أحد المصنفات القلائل التي كانت غذاء أدبي من الكتب الجديدة، بعد أن غذيته بأمهات كتب الأدب القديم. وقرأت (آلام فرتر) فكان لها مثل ذلك الأثر؛ ثم افتقدت هذا اللون من الأدب فلم أجده؛ ثم وجدت شبهه في مثل (عطيل) مطران و (مرجريت) زكي و (فاوست) عوض وإن كانت هذه من قماش وتلك من قماش، وإن اختلف النسيج وتغيرت الديباجة، وأمثال (تأبين فولتير) التي نقلها (المنفلوطي) إلى العربية بقلم أحسب لو أن (هوغو) كان عربياً ما كتبها بأبلغ منه؛ كما أن لامارتين لم يكن ليكتب قصته ولا جونت كتابه، خيراً مما كتبهما الزيات ولو خلقا عربيين من أبين العرب وإني حين أقرأ اليوم هذه الروائع من أدب الغرب مترجمات في (روايات الحبيب) مثلاً أكاد أخرج من ثيابي غيظاً وغضباً لهذه المعاني الكريمات تجيء في هذه الكلمات، وأسفاً على هذه العرائس الفاتنات تخرج في هذه الثياب الأخلاق الباليات. وأفكر لو أن الله قيض لقصة (ذهب مع الريح) مثلاً أو (الفندق الكبير) أو (الأم) وأمثالها الكثيرات من عبقريات القصص العالمية التي ترجمها كتاب روايات الجيب، ونشكرهم على كل حال على حسن اختيارها، وبذل الجهد فيها، إذ لم يدخروا في التجويد وسعاً؛ لكن البلاغة درجات، والكتاب طبقات؛ لو أن الله قيض لها قلماً لدناً قوياً، لا يضعف فينكسر ولا يقوى فيؤذي، فترجمت بأسلوب عذب بليغ، لا يصح من غير جمال فيجف ويجمد، ولا يجمل من
غير صحة فيميع ويسيل، لكان منها لهذا النشء مدرسة، الله وحده يعلم كم كانت تخرج لهذه الأمة من كتاب. وليست العبرة في الترجمة بنقل المعنى المجمل للقصة بل بنقل التفاصيل الفنية الدقيقة والصناعة الناعمة، وطريقة عرض الفكرة، وأسلوب تصوين المشهد، ولو أن المعنى المجمل هو المقصود للخصت قصة يوسف مثلاً في كلمات وضاع إعجاز السورة وجمالها الإلهي، ولكانت كل قصص الحب في الأدب متشابهة لا تخرج عن أن رجلاً أحب امرأة حباً عاطفياً أو جسمياً، فوصل إليها أو حيل بينه وبينها؛ فهذه أنواع أربعة للقصص الغرامية ينشأ منها أربع قصص فقط ويكون الباقي كله لغوا. مع أن في كل قصة جواً خاصاً بها ودنيا لها وحدها، لا تغنى في المتعة الروحية بها قصة منها عن قصة، وما ذاك إلا لاختلاف الدقائق والتفاصيل، ولا يظهر هذه الدقائق والتفاصيل إلا قلم بليغ، بصير بمواقع الكلام، عارف بأوجه الدلالة في الألفاظ، له الحاسة الخفية التي يفاضل فيها بين الكلمات ويحسن انتقاءها، إذ رب كلمتين بمعنى، وبين إحداهما والأخرى مثل ما بين البلاغة والعي. ورب كلمة في لسان لها جو ولها مدلول، وتحيط بها ذكريات عند أهل ذلك اللسان، لا يمكن أن تجيء بها مرادفتها في اللسان الآخر، ومن هنا علت بعض النصوص كالقرآن مثلاً عن الترجمة واستحال أن تنقل إلى غير لغتها.
ونحن اليوم في أشبه العصور بعصر المنصور والمأمون، أمة كانت معتزلة منطوية على نفسها، ثم اتصلت بأمم غيرها لها مدنيات ولها علوم، فإذا استمرت على عزلتها علت عليها تلك الأمم بعملها وقويت، وإن تعلمت ألسنتها لتفهم علومها، أضاعت لسانها وعصبيتها: فلم يبق إلا أن تنقل كتب تلك الأمم إلى لسانها، فتزداد به غنى في الأفكار وفي طرق التعبير، ثم تفهمها وتسيغها وتهضمها كما يقولون ثم تنشئ مثلها إنشاء.
ونحن في الواقع لا نستغني عن الترجمة ولا نقل منها، ولكننا نسيء الاختيار فندع الكتاب العبقري الفذ الذي يعد واحداً من مائة كتاب هي خلاصة آداب الأمم كلها ونترجم الكتاب لا فائدة فيه. ثم نسئ التعبير فلا ننقل هذه الكتب إلى العربية وإنما نضع في مكان ألفاظها الأعجمية ألفاظاً عربية، ولا يقدر على الترجمة الصحيحة إلا متمكن من اللغتين، بليغ في اللسانين، يقرأ الفقرة ثم يفهمها ثم يدعها تخالط روحه وتصير كأنها له، ثم يعبر عنها بلسانه، ويزينها بجمال بيانه.
والأستاذ الزيات يوجه كلامه إلى معالي الأستاذ السنهوري بك الذي عرفناه في بغداد ودمشق عالماً قبل أن نعرفه وزيراً. ونحن نعلم وجه الصواب في الأمر ولا نملك تحقيقه، والوزراء على الغالب يملكون ولا يعلمون. فلما جاء الوزير العالم الذي يعرف الحق ويقدر عليه، كان موضع الأمل، ومحل الرجاء، فإذا ألهمه الله أن يفعل فقد أراد الخير لهذه الأمة على يديه.
بقيت كلمة للأستاذ الزيات، هي أنه ترجم فكان أبرع المترجمين، فلماذا لا يكمل ما بدأ به، ويترجم لنا قصة (غرازيلا) ثم (جوسلان)؟ وينتقل بعد ذلك إلى غير لامارتين من أمراء البيان، وأئمة الأدب في كل لسان؟ وما فيمن سيجمعهم معالي الوزير السنهوري فيما أظن من هو أقدر على ذلك من الزيات وأولى به.
الجواب عندك يا أستاذنا!
(القاهرة)
علي الطنطاوي
على هامش النقد
التعاون الثقافي بين الأقطار العربية
تأليف الأستاذ عبد اله مشنوق
للأستاذ سيد قطب
هذا كتاب جيد في موضوعه. . . وليس هو كتاباً أدبياً ولا فنياً، ومع هذا نفسح له مكاناً (على هامش النقد) لأنه الكتاب الأول في هذا الموضوع، ولأنه يعالجه معالجة دقيقة واضحة، ويترجم (التعاون الثقافي بين الأقطار العربية) إلى حقائق واقعة، واقتراحات عملية، في أسلوب تقريري بسيط، يعجبني في أمثال هذه الموضوعات، وأفضله ألف مرة على الأساليب البيانية والاستعارات اللولبية، والتفاصح الذي يغيظ!
والموضوعات التي تناولها المؤلف الفاضل في كتابه حين تستعرض استعراضاً سريعاً تكفي لبيان اتجاهاته، وقد جاءت في الكتاب بهذا الترتيب:
(بين التعاون والتوحيد. الطغيان الثقافي. ليس التعاون بدعة. التعاون أداة تقدم. الشعوب العربية المتعاونة وموقف التعاون من الغرب. ميادين التعاون الثقافي. المناهج: الأهداف والاتجاهات العامة، أقسام الدراسة وأنواعها ومراحلها وشهاداتها، مواد الدراسة في مختلف المراحل والسنوات. تحضير المعلمين. الكتاب، مجلة للصغار، وسائل الإيضاح. تنظيم المعادلات بين الشهادات: المعادلات مع الخارج، البكالوريا العربية. البعثات العلمية: تبادل البعثات بين الأقطار العربية. تبادل الأساتذة: الأساتذة الزائرون، الخبراء الفنيون. المجامع اللغوية والعلمية: الخمسون المخلدون، المعجم الجديد، المصطلحات العلمية، تتويج روائع العلم، إصلاح الحروف العربية، الموسوعة العربية. المدارس والجامعات. المكتبات العامة. التأليف والترجمة والنشر).
عالج المؤلف الفاضل هذه الموضوعات كلها بروح عملية، لا تشط في الخيال، ولا تقف مكتوفة اليدين أمام العقبات. ومن هنا قيمة الكتاب. فلقد استحال هذا التعاون المنشود حقيقة عملية في حيز الإمكان. وأحسب أن الشرق العربي سيتلفت ليجد أمامه الوسائل ميسرة لتحقيق هذا التعاون؛ وسيجد منها الكثير بين يديه حاضراً مهيئاً، والبقية ليست عنه ببعيدة.
والمهم أن كلمة (التعاون) لا تبقي بعد هذا البيان أملاً. غامضاً مبهماً. بل تصبح حقائق ووقائع في متناول التفكير والتنفيذ.
وأمر آخر يقرره هذا الكتاب في نفوس القراء.
إنه يطلع الشرق العربي على دخيلة نفسه وحقيقة حاله! فحاجاته الثقافية، والوسائل التي يملكها لسد هذه الحاجات، يضعها المؤلف بمهارة وبساطة تحت عين هذا الشرق العربي. وكأنما يرفع في وجهه المرآة ليراه!
والذين يستطيعون أن يرفعوا المرآة في وجه الشعوب ببساطة فائقة ومهارة كبيرة قليلون جداً بين الباحثين والكتاب. والذين يستطيعون أن يرفعوا هذه المرآة في اللحظة المناسبة هم أقل من القليل. ومن هؤلاء الآخرين الأستاذ عبد الله مسنوق الأديب اللبناني صاحب هذا الكتاب!
وهو يرقع المرآة في وجه الشرق العربي ليقول له: إنه في حقيقته وحدة متعاونة، وأجزاء متكاملة. وهو لا يعتمد في تقرير هذه الحقيقة على الأساليب الحماسية، بل يبدو أن هذه الحقيقة جزء طبيعي من إحساسه العادي بالمسألة. فحين يتحدث عن بعثات أمم الجامعية العربية إلى البلاد الأوربية ينظر إليها كأنها بعثات بلد واحد، لتلبية حاجة البلد الواحد، ويصوغ رأيه فيها بهذه البساطة العميقة:
(أما التعاون بين العرب في البعثات إلى الخارج، فأمر يحتاج إلى تنسيق حتى تكون الجهود منسجمة، فلا يحدث تضخم في ناحية من نواحي الاختصاص، وقحط في النواحي الأخرى؛ فليس من الضروري أن يتخصص رجال كل قطر في وقت واحد في الجامعات الغربية في علم الآثار والعاديات والقانون والآداب والفلسفة واللغات القديمة وفن القتال والهندسة وعلم المعادن والزراعة والميكانيك ومختلف الصناعات، وما إليها من أنواع التخصص، لأن أمثال هذه البعثات تكلف موازنات الدول مبالغ قد لا تتحملها. ولذلك يحسن أن توزع هذه النواحي بين الحكومات العربية وفقاً لمقدرتها ودرجة احتياجها، على أن تتعاون هذه الدول فيما بينها بتبادل الخبرات والأساتذة لسد النقص الناشئ عن هذا التوزيع. . .).
وبنفس هذه الروح يعالج مسألة (تبادل البعثات بين الأقطار العربية) فيسميها (كوتا العلم)
ويشبهها بالترخيصات التي يمنحها مركز التموين في الشرق الأوسط للاستيراد حسب الحاجة الضرورية! ثم يقول:
(ولعلي لست مخطئاً في التشبيه عندما أقول في معرض حديثي عن البعثات أن ثمة (كوتا) علمية بين الأقطار العربية المتعاونة، وأن على المكتب الثقافي الدائم في القاهرة توزيعها بالعدل والقسطاس بين البلدان الشقيقة، مراعياً في ذلك الإمكانيات والحاجات الثقافية في كل بلد متعاون، فلا يكون تبادل البعثات العلمية مظهراً من مظاهر الفوضى، بل يخضع لخطة مرسومة مبنية على دراسة علمية صحيحة للحالة الثقافية الراهنة في مختلف الأقطار العربية. ولن يتم توزيع (كوتا) العلم ما لم تعد كل حكومة عربية تقريراً ضافياً يحتوي على الحد الأقصى لما تستطيع قبوله في معاهدها العليا والثانوية من طلاب الأقطار الأخرى من جهة، ويحتوي على ما تشعر بأنها في حاجة ملحة إلى إيفاده من بعثات إلى الأقطار الشقيقة من جهة ثانية. ومتى تم وضع هذه التقارير وزعت مقاعد الدراسة على ضوئه. فإذا كانت مصر مثلاً قادرة على قبول 100 طالب في معهد التربية لإعداد المعلمين، فإن مهمة المكتب الثقافي الدائم تنحصر في توزيع هذا (الكوتا) بالعدل بين حكومات الأقطار المتعاونة مراعية في ذلك المستوى الثقافي في كل إقليم، مفضلة الحاجات الملحة السريعة على سواها)
ومن هذه المقتطفات تبدو الروح العامة التي عالج بها المؤلف حقيقة العلاقات بين أمم الجامعة العربية كما تتبين طريقته العملية في معالجة وسائل التعاون، وإحالتها إلى حقائق ملموسة ممكنة التنفيذ في نظام دقيق.
وبمثل هذه الروح عالج جميع الأسس التي يقوم عليها التعاون. ولكن هذا لم يكن كل محتويات الكتاب، فقد تطرق من أسس التعاون إلى موضوعات في صميم التربية والتعليم، كمكتبة الطفل، ومجلة الطفل، ووسائل الإيضاح، والأهداف الوطنية والثقافية والروحية من المناهج وكان موفقاً في هذا كله، لأنه آثر أن يعالج موضوعاته في بساطة وعمق وأن يصوغ تعبيره في قالب دقيق.
وثمة أمر آخر ساعد المؤلف على النجاح في دراسته لموضوعه. . . ذلك هو الإخلاص في مواجهة الحقائق بروح الإنصاف. فقد نبه إلى مواطن النقص في وسائل الثقافة عند كل
شعب، وإلى مواطن الكمال أو التفوق حيثما وجدها بلا تحيز إقليمي لا معنى له.
فهو يقول مثلاً عند الموازنة بين هذه الوسائل في مصر وشقيقاتها: (لقد زرت عدداً كبيراً من المدارس - على اختلاف أنواعها - في مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين؛ وأستطيع أن أصرح دونما تحيز أو مواربة، بأن المعاهد المصرية الرسمية تأتى في الطليعة من حيث أخذها بالأساليب الحديثة في التربية والتعليم وسخاء الحكومة في الإنفاق عليها لتتوفر فيها الشروط الفنية؛ ويشمل قولي هذا المعاهد الابتدائية والثانوية والعليا، العامة منها والفنية المهنية. لذلك أدعو الأقطار العربية أن تتعرف تماماً إلى هذه المعاهد المصرية قبل البدء بإنشاء مدارس جديدة أو القيام بإصلاح عام في مدارسها القديمة. . .)
ويقول في صدد المعاهد التي تخرج المعلمين في جميع بلاد الجامعة العربية: (وبوسعي أن أقول جازماً: إنه يتعذر الآن على أية حكومة عربية إنشاء معهد كدار العلوم العليا لتحضير أساتذة اللغة العربية، هذا المعهد الذي يتهمه البعض بالرجعية ويود إلحاقه بالجامعة؛ ولكنه على الرغم من ذلك مفخرة من مفاخر مصر، ومعقل من معاقل العروبة، وإليه يعود الفضل الأكبر فيما أنجبته مصر من أساتذة متمكنين من فقه اللغة وفلسفتها وقواعدها، متعمقين في فهم روح البلاغة وأسرارها، مختصين في أساليب تدريسها. فلماذا لا تفتح أبواب هذا المعهد على مصاريعها في وجه الأقطار العربية، فيخرج لها نخبة صالحة لتدريس اللغة العربية في الأقسام الثانوية؟ وقد أسلم جدلاً بأن منهاج دار العلوم مثقل بالمواد القديمة الصعبة المرهقة والجافة أحياناً، ولكن فهمنا للغة فهماً صحيحاً يخولنا تدريسها بكفاءة، لا يمكن أن يتم إلا بعد دراسة عميقة لهذه العلوم على النحو المتبع في دار العلوم.
(وتستطيع كلية اللغة العربية في الجامعة الأزهرية أن تقبل الراغبين في التخصص باللغة العربية إلى جانب العلوم الدينية. وهذه قد لا تشترك فيها جميع الأقطار العربية)
وبمثل هذا الإخلاص في مواجهة الحقائق بروح الإنصاف سار في بقية فصول الكتاب، فلم يقتصر كذلك في نقد مواضع النقص حيثما وجدت. وحينما ساقه الحديث مثلاً عن (مكتبة الأطفال) كشف عن نقصها وفقرها في جميع بلاد الجامعة العربية ومصر من جملتها وكان محقاً كما كان منصفاً.
هذا الإخلاص في مواجهة الحقائق يجعلنا نوجه الحديث بصراحة إلى الأستاذ المؤلف،
وإلى جميع الراغبين رغبة نفسية أكيدة في توثيق عرا التعاون بين أمم الشرق العربي.
إن لمصر ما تشكو منه من بعض شقيقاتها العربيات، أو ما تعتب عليه بتعبير أصح. . . ويجب أن نكون صرحاء فيما بيننا ليقوم البناء على أساس سليم. . . ومصر لا تشك في إخلاص الشقيقات لها وتطلعهم إليها واهتمامهم بها. ولكن هنالك مع هذا أشياء!
فأنا أعتقد أن الأستاذ المؤلف يسلم معي بأنه ليس ذنباً لمصر أن تلبي حاجة الشقيقات إلى المعلمين. . . وإنما هو واجب عليها تؤديه. فما بال جماعة من الناس في بعض هذه الشقيقات ينظر إلى المسألة نظرة أخرى، فيرى في هؤلاء الأساتذة مرتزقة، أو بلغتهم (عياشة) يزاحمونهم الرزق ويطلبون العيش؟ إن كثيراً من هؤلاء الأساتذة يعودون شاكين لا لما يعانونه من معالجة شئون الحياة بعيداً عن أهلهم وصوالحهم، ولكن لأنهم ينبزون بلقب (العياشة)! مع أنهم منتزعون من ضرورات المدارس المصرية.
وأعتقد أن الأستاذ يسلم معي بأنه ليس ذنباً لمصر أنها كانت سابقة في الأدب والثقافة. فما بال جماعة من الناس في بعض هذه الشقيقات يعدون هذا استعماراً ثقافياً، ويحملون في بعض الصحف على الأدباء المصريين وعلى الثقافة المصرية، حتى يصدر أحد رؤساء الحكومات أمراً بالكف عن هذه الملاحاة؟
واعتقد أن الأستاذ يسلم معي بأنه ليس ذنباً لمصر أنها فتحت أبواب معاهدها للطلاب من كل الشقيقات. فما بال بعض هؤلاء الطلاب الذين تقوم لهم مصر بواجبها في الضيافة الكاملة والثقافة والرعاية يحلو لهم أن يملئوا أفواههم بنقد المصريين حتى ليصل هذا النقد إلى درجة التجريح في وجه المصريين؟!
هذه كلمات لا تنقصها الصراحة، وهي كلمات واجبة، وهي عتب الشقيق على الشقيق، مبعثة الود الصريح، والإخاء العميق والإخلاص الوثيق.
سيد قطب
التطور الاجتماعي بعد الحرب
للأستاذ عبد القادر المغربي
إن اهتمام المفكرين في نتائج هذه الحرب وما تتركه وراءها من أثر في شؤون البشر قد تجاوز كل حد، وأصبح لا يقل عن اهتمامهم بأخبار وقائعها وأهوال ملامحها ولهم الحق في ذلك: لأن الحرب مهما طالت ظل متقلص وسحاب متقشع، أما نتائجها وما تتركه وراءها فهو على ما يظهر حكم مبرم باق إلى ما شاء الله.
وقد انتشر من جراء ذلك الذعر في قلوب قادة الأمم وكبار زعمائها، وأوجس كل منهم خيفة على مستقبل بلده وأوضاع وطنه.
وليس الشأن في هذا، وإنما الشأن في التطورات الاجتماعية التي سوف تقلب عادات الأمم وأخلاقها وقوانين حياتها رأساً على عقب، حتى زعموا أن التطور الاجتماعي سيشمل كل ما تقع عليه العين من مادة أو تحس به النفس من معنى - فالعالم بعد الحرب عالم آخر ينبغي أن يسمى منذ الآن (عالم ما بعد الحرب) - وحتى خشي الحريصون على أديانهم وتقاليدهم وآخرون على قومياتهم ولغاتهم، أن يعمل ناموس التطور عمله في تلك الأديان وهذه اللغات فيأخذ بهما ذات اليمين أو ذات الشمال.
نعم إن العقلية السياسية الديمقراطية التي تسيطر على البشر بعد هذه الحرب ستضمن للبشر سلماً دائماً يغمرهم، وأنظمة دولية ثابتة تصون استقلالهم وتحمي حدودهم وتنتزع العدوان الديكتاتوري من بينهم.
أجل قد يكون هذا كله، ولكن السلم الدائم المضمون شيء والتطور الاجتماعي المتوثب شيء آخر.
التطور الاجتماعي لا تقف في وجهه حدود ولا تصده حرس ولا إغلاق، هل سمعتم بالمظليات الجوية قط؟ وهكذا هبوط التطورات الاجتماعية.
العقلية السياسية المسيطرة تقدر على وقاية الإنسانية من كل شئ إلا شيئاً واحداً: هو سلطان التطور الاجتماعي وما يحمله على كفه من المبادئ الاشتراكية والنزعات المتطرفة.
التطور الاجتماعي ناموس طبيعي قوي الشكيمة ماضي العزيمة، ولم يكفه هذا حتى تقوم (الحريات الأربع) تحميه من ورائه وتنهض الدعاية بسحر دسائسها تمهد له من أمامه.
ونحن معشر المسلمين والعرب خاصة لا يمنعنا مانع أن تؤمن بكل ما يتكهن به المتكهنون عن نتائج هذه الحرب وتطور شؤون البشر بعدها، إذ أن التطور من قدر الله سبحانه له فيه حكمة ومصلحة لعباده، كما أن السلم الدائم من صنع أقطاب السياسة المسيطرة: لهم ولنا وللأمم كافة فيه الأمن والصلاح والإسعاد.
ولكن هل ننام معشر المسلمين والعرب على هذه الفكرة البراقة، ونتعلل بها مطمئنين مستسلمين؟
إذا لم يمكنا درء التطور غير الملائم لنا، أفلا يمكننا تلطيفه وتحويل مجراه إلى ما فيه صلاحنا وسلامة إسلاميتنا ولغتنا؟
فكر ملوكنا وكبار زعمائنا بأمر الوحدة العربية، وتسييجنا بها، فنعما فعلوا، وإن فعلهم هذا من نوع تلطيف القضاء وتخفيف وقعه وتوجيهه إلى توفير مصلحة العرب السياسية والقومية
أفلا يفكر غيرهم من العاملين المسئولين فيلطفوا التطور المتوقع حصوله في الدين واللغة، ويوجهوا إبرة بوصلته إلى ما فيه حفظ لدينهم وسلامة للغتهم؟
والتطور الفكري في الدين وإصلاحه أمر خطر وخطير في آن واحد، ولا يمكن التعرض له في موقفنا هذا بأكثر من قولنا: إن في المتطرفين من المثقفين المسلمين من يرى ضرورة تقضي بفصل الدين عن الدنيا، وآخرون منهم لا يرون هذا الرأي وإنما هم حريصون على العمل بالاجتهاد في الدين كما كان يجتهد الأولون من السلف عندما تتوفر فيهم شروط الاجتهاد، ويزعمون أن هذه الشروط اليوم ممكنة الوجود في مجموعة من الأفراد، لا في الفرد الواحد. وهذا الفريق لا يبعد عن روح الدين الإسلامي كما بعد الفريق الأول وإن كان معظم رجال الدين اليوم لا يرون فتح باب الاجتهاد.
وهناك فريق ثالث يرى التعجيل بعملية (التصفية) وخلاصة ما يقال في وصف هذه العملية أن ينحى إلى جانب من مسائل الدين وأحكامه ودراساته ما لا يمكن تطبيق نصوصه ولا العمل به في عصرنا الحاضر، فهو مرجأ إلى أن يأذن الله بعودته، مثل معظم أحكام الجهاد والرق والعتق وإقامة الحدود إلى غير ذلك مما أصبح عبئاً على عاتق الثقافة الإسلامية التي تضطرها الظروف القاهرة إلى التخفف منه كي تنشط وتتمكن من لحاق من سبقها في
ميادين الحضارة والعزة والغلبة.
هذه خلاصة ما يحدث، أو ربما يحدث من توثب الفكر الديني - خيره وشره - بعد الحرب.
وما ذكرته أصول لها ذيول لا يمكن استيفاؤها إلا في مصنفات أو محاضرات تلقى في غير هذه الحفلة. أما حفلتنا هذه فيكفيها ما اجترأت به عليها مذ شغلتها بغير ما أعدت له: أعدت هذه الحفلة (بعد البيانات الرسمية) لبحوث اللغة وطرق وقايتها مما يهدد سلامتها.
ومهما ذكرت لكم من مهددات سلامة اللغة لا آتى بشيء تجهلونه بل سأعمد إلى عكس ذلك: فأذكر لكم أيها السادة من أسباب سلامة اللغة وضمانة أبديتها شيئاً جديداً، شيئاً فيه طرافة وفيه استجمام، وفيه استشفاف لما يأتي به الغد القريب من صنع الله العجيب.
يعود نشاط الآراء وتوثب الحرية في المسائل الاجتماعية بعد الحرب إلى أشد مما كانت عليه قبلها. ويعود الداعي فيدعو إلى الشيء النكر: إلى استبدال اللغة العامية باللغة الفصحى، ولا أطيل القول في هذه المسألة لما أنكم أيها السادة المصريون خاصة أعرف بها وبمبتدأ خبرها من كل أحد. فالدعوة إلى اللغة العامية أشأم ما يهدد لغتنا العربية، وهناك مسألة أخرى وهي استبدال الحروف اللاتينية بحروف كتابتنا العربية. . . وهذه الدعوة أيضاً قد علمتم من أمرها أكثر مما علمتم من أمر الدعوة الأولى، إذ لم تهدأ بعد هماهم الداعين إليها، وشقاشق الرادين عليها، وهي فلتة قام على أنقاضها نهضة مباركة تدعو إلى تيسير الكتابة العربية وتسهيل الإفادة والاستفادة منها، وذلك من طريق إضافة حركات أو نترات موصولة بأطراف الحروف العربية أو أوساطها، فتصبح الكتابة العربية (ونسميها الكتابة الميسرة) سهلة في القراءة، قريبة التناول في الطباعة، خفيفة الظل على المعلمين والمتعلمين، ولا شؤم في هذا المشروع ولا ضير، بل إن فيه الخير كل الخير.
ومثله مشروع إصلاح قواعد اللغة العربية والاقتصار من مسائلها على ما تمس إليه الحاجة وتتوقف عليه صناعة البيان وملكة الإفصاح. . . وهذان المشروعان (تيسير الكتابة، وإصلاح قواعد اللغة) أهم ما يعنى به مجمعنا في دورته التي نحن واقفون على عتبتها، غير أن بعض المتشائمين يعترضنا ويقول: إن ما عرض حتى الآن من نماذج الكتابة الميسرة لا يخرجها عن كونها كتابة مستقلة ذات طابع خاص وشكل خاص، لا يحسنه إلا
من أعتاده وتمرن عليه، فإذا حذقت الأجيال الآتية من أبنائنا هذه الكتابة وأهملوا الكتابة بالحروف العربية القديمة نسوا هذه الأخيرة بالطبع وجهلوا قراءتها. فتنقطع صلتهم بثقافة ماضيهم والاستمتاع بآثار أسلافهم. ومثاله القريب حروف الكتابة المغربية الأفريقية اليوم فإنها عربية في أصلها، لكن طرأ عليها من الأشكال والأوضاع والنترات والتقوسات ما حولها عن شكل الخط العربي المشرقي إلى خط خلاسي حتى أصبحنا نحن المشارقة عاجزين عن قراءة خطوط المغاربة، وبذلك انقطعت صلتنا بثقافتهم وآثار علمائهم وهم إخواننا وأهلونا.
(وإنا نرى أقدامنا في نعالهم=وآنُفَنا بين اللِحَى والحواجب)
وكم مرة حملنا كتابات هؤلاء الأخوان ومصنفاتهم المخطوطة أو المطبوعة بحروفهم إلى من يقرؤها لنا منهم، وقد لا نجده، غير أن هذا كان قبل أن ينهض إخواننا فضلاء المغرب إلى تدارك هذه القطيعة بيننا وبينهم، أما اليوم فقد أخذوا يطبعون وينشرون آثارهم القلمية بحروفنا المشرقية، وبذلك عدنا إلى الوصل واجتماع الشمل، وإلى الانتفاع بآثار عملهم والارتواء من معين فضلهم.
هذا بعض ما يقال في لمز الكتابة الميسرة المتوقع اختيارها، فإذا كان ما يقوله هؤلاء العائبون لها حقاً، وكان ما قاله أولئك في لمز الحروف اللاتينية حقاً أيضاً، وقعنا في حيرة من أمرنا، وأركسنا في اليأس من تيسير كتابتنا، وتسهيل تناول العلم على أحداثنا.
هنا أسمع بعض الملهمين يقول مستبشراً: إنه لا ينجينا من هذه إلا إذا أصغينا إلى هاتف الأمل، يهتف بنا من وراء حجب المستقبل؛ فهو ينصح لنا - أولاً - بالبقاء على الثقة بكتابتنا العربية الجميلة التي ورثناها عن ابن مقلة. ويبشرنا - ثانياً - قائلاً: أنكم علمتم مبلغ التطور المتوقع حدوثه بعد هذه الحرب، وسيكون هذا التطور على أشده في الصناعات ومختلف آلاتها وأدواتها، ومن الصناعات التي سترتقي وتتطور إلى أقصى حد من الترقي والتحسن صناعة طبع الكتابة، أي تصويرها بالفوتوغراف بآلة خاصة، وطريقة خاصة، وقد ارتقت هذه الآلة، وطريقة التصوير بها في سنين قليلة إلى حد أن مجلة (المستمع العربي) التي تطبع في لندن باللغة العربية أصدرت منذ نحو شهرين عدداً قدمته إلى القراء بقولها: (قمنا في هذا العدد بتجربة جديدة، ذلك أننا قررنا جرياً على خطتنا في
تحسين مجلتنا أن نستخدم طريقة الفوتوغرافير هي ليست من أحدث طرق الطباعة فحسب، بل هي من المستلزمات الضرورية لطبع الصحف الكبيرة المصورة، وقد اتبعت أمهات الصحف العالمية المصورة هذه الطريقة أهـ.
وطريقة الفتوغرافير الطفلة سوف لا تبقى على طفولتها ولا على حالتها التي طبعت بها مجلة المستمع، بل ستترقى وتتطور كما ترقت وتطورت مطبعة (يوحنا غوتمبرج) التي تدار باليد إلى المطبعة الحديثة التي تطبع مطبوعاتنا بتذويب الرصاص (لينوتيب) بل إن الطيارة التي قطعت المانش منذ خمس وثلاثين سنة لا نسبة بينها وبين طيارات هذه الحرب، ولا يعلم إلا الله ماذا يكون من مصير تطورها بعد خمس وثلاثين سنة أخرى.
وعلى هذه النسبة سترتقي الكتابة العربية المصورة بطريقة (الفتوغرافير) ارتقاء مدهشاً نستخدمه معشر العرب في حفظ مكتبتنا والميراث الثقافي الذي تلقيناه من أسلافنا، وفي نشر العلم واللغة الصحيحة بين أبنائنا، وعندها نبقى على اتصالنا بماضينا والانتفاع بعلوم أسلافنا.
سيكتب الكاتب منا بعد خمس وثلاثين سنة - أو أقل - ما يريد كتابته من مقال أو خطاب أو رسالة أو مصنف، ويضطر الكاتب - بسبب أوامر الحكومة التي تجعل طبع الكتابة المعربة إجبارياً - يضطر أن يجود حروف ما يكتب، ويتحرى وضع النقط على الحروف وضبطها بالشكل الشامل لها، أو ما يلزم تشكيله منها، ثم يسلم أصول ما كتب إلى مدير مصنع الفتوغرافير فيطبع منه أو نقول يصور عنه ألوفاً وألوفاً من النسخ في ساعة من الزمن، فتجيء كلها طبق النسخة الأصلية المخطوطة بخط الكاتب أو المؤلف، وتنشر هذه الملايين من النسخ المحلاة بعلامات الإعراب بين أيدي القراء، فإذا مر على الجيل الآتي من أبنائنا نصف قرن، وهم لا يقرءون من الخطوط إلا ما كان مطبوعاً بطريقة الفوتوغرافير لا يعود أحد منهم يقرأ الكلام إلا معرباً، ولا يلفظه إلا معرباً، ولا يستظهره إلا معرباً، بل لا يفهمه إلا معرباً ويصبح إعراب الكلام سليقة لأبنائنا، وملكة راسخة في نفوسهم، وهذا كالشأن في أولاد عرب الجاهلية، قبل فساد اللغة بمخالطة الأعاجم، وإذ ذاك يصح للفتى العربي منا أن يتمثل بقول أبي الأسود.
ولستُ بنحويٍ بلوك لسانه
…
ولكن سيُّلقى أقول فأعرب
وإذا اتفق وأصدر مصنع الفوترغرافير كتابة عربية، لا هي بالمجودة، ولا بالمحررة ولا بالمعربة، بحيث لا يفهمها قارئوها، رفع الأمر إلى وزارة المعارف، فتصادر النسخ ذات الخطأ، وتحاكم مدير المصنع، وبهذه الصورة تقع المحافظة على سلامة اللغة العربية التي هي مبتغانا، ومن أهم أغراض مجمعنا، وسيكون من أثر انتشار هذه الطريقة (طريقة الفوتوغرافير) أن تهمل مطبعة (غوتمبرج) وتكسد صناعتها وصناعة ما يشبهها من آلات الطباعة، كما تبطل صناعة النحو إلا قليلاً.
أما صناعة الخط بالقلم (نون. والقلم وما يسطرون). (علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) فتنتعش وتنتشر، ويعود سلطانها إلى سابق عهده، وسامي مكانته.
وإذا نسخ الكاتب العربي في المستقبل كتباً لطبعها وتصويرها سوف يكتبها معربة بسليقته وملكته السليمة لا بملكة قواعد قاسى عرق القربة في تعلمها، إلى غير ذلك من النتائج التي تحدثها صناعة (الفوتوغرافير) في ثقافتنا، وسهولة نشر العلم بين أحداثنا، وما يدرينا أن تقوم مجامعنا فتضع لصناعة الفوتوغرافير أسماء كالفغرفة مثلاً كما قالوا الفلسفة والفذلكة.
وإذ ذاك لا نعود نهدد بمشروع اللغة العامية ولا نروع بمشروع الحروف اللاتينية، بل ستهدأ فورة هؤلاء وتتحول إلى رضى واطمئنان وابتسام، ويضطر مجمع فؤاد الأول أن يعدل قوانينه وأنظمته تعديلاً كبيراً أو صغيراً حسب الحاجة، ويستبدل ببعض أغراضه أغراضاً أخرى اقتضاها التطور، وترتفع الأصوات بشكر الله وحمده على أن وفق البشر إلى هذا الاختراع العجيب فأنقذنا من الحيرة، ونجانا من المحنة.
عبد القادر المغربي
من تاريخ الأدب الفرنسي
بوفون وحديثه عن الأسلوب
للأستاذ أحمد أحمد بدري
في حديقة النباتات بباريس، وأمام متحفها، يجلس تمثال بوفون بادياً على محياه وقار العلماء، وهدوء الباحثين، وسكينة النفس، واطمئنان الضمير، ولقد أحسن الفرنسيون في اختيار هذا المكان لتمثاله، فقد وقف الشطر الأكبر من حياته على دراسة ما في الطبيعة من حيوان ونبات.
ولد بوفون في السابع من سبتمبر سنة 1707 في مونتبار القريبة من بيجون، وقضى تعليمه العالي بكلية بيجون، ولم يكن متميزاً فيها إلا بميله إلى الرياضيات. وظل بيفون إلى الثانية والثلاثين من عمره غير مهتد إلى السبيل التي هيأته الطبيعة لها، ولم يقم بما يدل على أنه سيكون في قابل حياته العالم العبقري والكاتب الممتاز، وفي تلك المرحلة قام برحلة مع أحد الأمراء إلى إيطاليا ولندن، وألقى بحثاً في المجمع العلمي نال به لقب العضو المساعد، وترجم عن الإنكليزية بعض الكتب العلمية. وإذا كانت المصادفة تقود خطى بعض الناس، وتكشف لهم عما يكمن في أنفسهم من المواهب؛ فإن الصدفة قد لعبت دوراً كبيراً في حياة بيفون، وحددت له الطريق الذي يجب أن يوجه إليه جهده، فقد عين مديراً لحدائق الملك، وكلفه الوزير أن يضع وصفاً منهجياً لما بالمقصورة الملكية من مجموعات النباتات، ومنذ ذلك الحين وجد بيفون طريقه، وخصص نفسه لدراسة التاريخ الطبيعي.
كان حينئذ في الثانية والثلاثين من عمره، وقضى المدة الباقية له في الحياة، وقدرها تسعة وأربعون عاماً، بين باريس التي كان يفر منها كلما استطاع ذلك وبين بلدته مونتبار؛ وهناك كان ينهض من نومه الساعة الخامسة، ويحبس نفسه بمكتبه يملي إلى التاسعة، ويفطر في نصف ساعة يعود بعدها إلى العمل حتى الساعة الثانية إذ يتغدى. وهكذا كان يقضي كل يوم إلى نهاية حياته سنة 1788 قدر بيفون أن يخرج كتابه: التاريخ الطبيعي العام والخاص في خمسة عشر مجلداً، ولكنه لم يمت إلا بعد أن صار ستة وثلاثين مجلداً، ولقد أحرز ما ظهر من هذا الكتاب في حياته شهرة واسعة، وأقبل عليه القارئون في شوق
وحب.
كان بيفون ذا نفس سامية متزنة، مستقلة، هادئة، وكان بعيداً كل البعد عما يدور في عصره من المجادلات والاضطرابات وعاش للدرس والبحث والتأمل، واجداً في ذلك كل سعادته.
ولكي يجعل التاريخ الطبيعي - وهو مادة جافة - مقبولاً لدى الذوق احتاج أن يكون في ذكاء كاتب من الدرجة الأولى.
وفي سنة 1753 دعاه المجمع الفرنسي إليه من غير أن يتقدم بيفون بطلب إلى المجمع، واستقبل فيه يوم 25 من أغسطس، وألقى حديثاً عرض فيه بعض خواطره عن الأسلوب، وقد أثرت نقل هذا الحديث إلى اللغة العربية بجملته حتى لا يشوهه التلخيص؛ قال بيفون:
سادتي:
لقد غمرتموني بالشرف حين دعوتموني إليكم، ولكن التشريف لا يكون مزية إلا إذا كان المرء به جديراً؛ وأنا لا أستطيع أن أقنع نفسي أن بضع مقالات كتبت خالية من الفن وغيره من الزخارف سوى زخرف الطبيعة تكون حججاً كافية للجرأة على أخذ مكان بين سادة الفن، والرجال الأمجاد الذين يمثلون هنا عظمة فرنسا الأدبية، والذين سارت أسماؤهم في مختلف الأمم، وسيظل ذكرهم حياً رفيعاً على ألسنة آخر أحفادنا. وإن لكم أيها السادة لبواعث أخرى في اختياركم إياي، ذلك أنكم أردتم أن تقدموا للمجمع العلمي المجيد الذي كان لي الشرف باتصالي به زمن بعيد - علامة جديدة من تقديركم، وإن اعترافي بجميلكم - مهما يكن مقسماً - لن يكون لتقسمه أقل قوة.
والآن، كيف أؤدي الواجب المفروض عليّ؟ ليس لديّ أيها السادة، ما أقدمه إليكم سوى ما لكم أنتم من فضل، فهو بعض أفكار عن الأسلوب استقيتها من كتبكم، فبقراءتي لكم وبإعجابي بكم أدركتها؛ وبعرضها تحت أضواء أفكاركم تتضح في جلاء.
في كل الأزمنة وجد رجال عرفوا كيف يسيطرون على غيرهم بقوة الكلام، ومع ذلك لا تعرف الكتابة الجيدة وفصاحة القول إلا في العصور المستنيرة، وإن الفصاحة الحقيقية تتطلب مران العبقرية والموهبة النفسية، وهي في الحق تختلف عن السهولة الخلقية في الكلام التي ليست إلا نوعاً من الفطنة، موهوباً لكل هؤلاء الذين عواطفهم قوية وألسنتهم مطواعة وخيالهم سريع. هؤلاء الناس يشعرون شعوراً قوياً، ويتأثرون بقوة أيضاً،
ويبرزون شعورهم في الخارج مدموغاً بالقوة؛ وبتأثير آليّ محض ينقلون إلى الآخرين حماساتهم وانفعالاتهم. إن الجسم هو الذي يتحدث إلى الجسم، فكل الحركات والإشارات تتعاون وتخدم أيضاً
ماذا يجب لإثارة الجماهير وقيادتها؟ وماذا ينبغي لتحريك القسم الأعظم من الرجال وإقناعهم؟ نغمة حادة مؤثرة، وإشارات معبرة كثيرة، وكلمات سريعة رنانة. ولكن العدد القليل من أصحاب العقول الراجحة، والأذواق الدقيقة، والمشاعر السامية، الذين هم على شاكلتكم - أيها السادة - ممن يستقلون النغمة والإشارات، والرنة الفارغة للكلمات، تجب له أشياء أخرى وأن تقدم إليه أفكار وحجج، ينبغي لمن يقدمها أن يعرف كيف يبرزها وكيف يلونها وينسقها، ولا يكفيه أبداً أن يقرع الأذن أو يشغل العين، بل يجب أن يحرك الروح، ويلمس القلب، متحدثاً إلى اللبّ.
ليس الأسلوب إلا النظام والحركة التي يضعها المرء في أفكاره، فإذا ربطت هذه الأفكار بدقة، وضمت، صار الأسلوب متيناً قوياً موجزاً، أما إذا تركت تتابع في بطء ولا تأتلف، إلا بفضل رباط الكلمات، مهما كانت أنيقة فإن الأسلوب يكون مسهباً رخواً مملاً.
ولكن قبل أن نبحث عن النظام الذي تصب فيه الأفكار يجب أن يكون ثمت خطة أشمل وأثبت، من الواجب ألا يدخل فيها سوى العناصر الأولى، والأفكار الأساسية، وإنه بتعيين مكان العناصر والأفكار من هذه الخطة البدائية، يكون الموضوع محدداً معروف المدى، وبالتذكر الدائم لهذه الخطوط تحدد المسافات الصحيحة الأفكار الأساسية، وتخلق الخواطر الإضافية الثانوية التي تفيد في إكمالها بقوة العبقرية، نستحضر كل الأفكار العامة والخاصة في ثوبها الحقيقي، وبالدقة العظيمة في الفرز تتميز الأفكار المجدية من الخصبة، وبالبصيرة النافذة المتنبئة التي بها كثرة اعتياد الكتابة يشعر الكاتب سلفاً بما سوف تفضي إليه كل عملياته العقلية. وعندما يكون الموضوع واسعاً أو معقداً يكون من البيّن أنه من النادر أن يستطاع شموله بنظرة واحدة، أو اختراقه بأول مجهود للموهبة. ومن النادر كذلك أنه حتى بعد تأملات عدة أيضاً تدرك كل تفصيلاته فلا يستطاع إذاً أن يشغل الكاتب نفسه بذلك كثيراً، ومع هذا، تلك هي الطريقة الوحيدة لتوطيد أفكار الكاتب، وتفصيلها والسمو بها: فكلما منحها ما يقومها ويقويها بالتفكير يكون من السهل عليه بعدئذ أن يوضحها
بالتعبير.
ليست هذه الخطة مع ذلك بالأسلوب، ولكنها قاعدته. هي التي تصونه وتقوده وتنظم حركته، وتخضعه للقوانين، وبدونها يضل خير الكاتبين، ويسير قلمه بدون قائد، ويأتي مصادفة بصفات شاذة، ومجازات متنافرة؛ ومهما تكن الألوان التي يستخدمها لامعة، والمحسنات منثورة في الجزئيات، فإن العمل في جملته يصدم الإحساس ولا يتضح، ولن يكون التأليف أبداً محكم البناء. ومع إعجابنا بعقل المؤلف يستطاع الارتياب في أن الموهبة تنقصه. ولهذا السبب كان هؤلاء الذين يكتبون كما يتكلمون - مهما كان حديثهم عظيم الجودة - ذوي كتابة رديئة؛ وهؤلاء الذين يتبعون أول شرارة يقدحها خيالهم يأخذون سمة من لا يستطيعون ضبط أنفسهم؛ وهؤلاء الذين يخافون أن يفقدوا أفكارهم المفرقة الشاردة، ويكتبون في أوقات مختلفة قطعاً متفرقة لا يستطيعون أبداً أن يجمعوها بدون تغيير اضطراري، وفي كلمة واحدة: نجد كثيراً من المؤلفات قد كون من قطع شتى وقليل منها ما له هدف واحد.
ومع ذلك كل موضوع وحدة، ومهما يكن البحث واسعاً فمن الممكن وضعه في مقال واحد، والانقطاعات والاستراحات والتقسيمات لا يصح أن تستخدم إلا عندما تعالج موضوعات مختلفة، أو عند التحدث في أشياء جليلة شائكة متابينة، فيجد تيار التفكير نفسه معترضاً بشتى العقبات، ومكرها بضرورة الظروف؛ وفضلاً عن ذلك ترى كثرة الأقسام، مع بعدها عن أن تجعل الموضوع شديد الالتحام تهدم وحدته. وإن الكتاب بها يبدو أمام العينين واضحاً، ولكن هدف المؤلف يظل غامضاً، ولا يمكن أن يؤثر في نفس القارئ؛ وإن الغرض لا يدرك إلا باتصال الأفكار، وارتباطها ارتباطاً ملتئماً، وبالشرح المتتابع، والتدرج الآخذ بعضه بحجز بعض، وبالحركة المتسقة التي يهدمها كل انقطاع أو يضعفها.
ولماذا كانت أعمال الطبيعة تامة الكمال؟ ذلك أن كل عمل وحدة تامة، وأنها تعمل تابعة لخطة خالدة لا تفارقها أبداً. إنها تهيئ في صمت بذور ما تنتجه، وترسم بنظام واحد الشكل الأول لكل المخلوقات الحية، وتنميه، وتكمله بحركة دائمة وفي وقت معين. العمل عجيب، ولكنه الطابع الإلهي فيه سماته التي يجب أن تؤثر فينا. وإن النفس الإنسانية لا تستطيع أن تخلق شيئاً، ولا تنتج إلا بعد أن تكون خصبة بالتجربة والتأمل؛ ومعارفها بذور إنتاجهاً،
ولكنها إذا قلدت الطبيعة في سيرها وعملها، وإذا ارتفعت بالتأمل إلى أسمى الحقائق فوحدتها وربطتها، وكونت منها بالتفكير كلاً ومنهاجاً فإنها تبني آثار خالدة على أسس لا تتزعزع.
إنه لمن نقص في الخطة، ومن عدم التفكير الكافي في الغرض، أن رجلاً ذكياً يجد الموضوع يملك نفسه ولا يعرف بم يبدأ الكتابة. إنه يدرك مرة واحدة جملة عظيمة من الأفكار، ولأنه لم يستطيع أن يوازن بينها، ولا أن يلحق فكرة بأخرى، لا يمكنه أن يجزم بتفضيل بعضها على بعض، ويظل إذاً يتخبط في حيرته.
ولكنه منذ أن يضع الخطة، ومنذ أن يجمع أفكاره الأساسية للموضوع وينظمها، يدرك في الحال بسهولة ما يجب أن يتناوله قلمه، وسيشعر باللحظة التي يتم فيها نفح فكرته، وسيجد نفسه معجلاً إلى الإنتاج، ولن يجد إلا السرور بالكتابة، تتابع الأفكار في يسر، ويصير الأسلوب طبيعياً سهلاً، وتتولد الحرارة من هذا السرور، وتشيع في كل مكان، وتعطي الحياة لكل تعبير، وينتعش كل شيء كلما تقدم الكاتب في الكتابة، وترتفع نغمة الأسلوب، وتأخذ الأشياء ألواناً زاهية، والشعور منضماً إلى الوضوح يفخمها ويقويها، ويصير الأسلوب بذلك جذاباً مشرقاً.
لا شيء يعارض الحرارة إلا الرغبة في أن نضع دائماً عبارات أخاذة. ولا شيء ينافي الوضوح والضوء الذي يجب أن يكون له مركز ينتشر منه متناسقاً في المؤلف كله - إلا هذه الومضات التي تغتصب بالقوة من تضاد الكلمات بعضها لبعض، والتي لا تبهرنا بعض الوقت إلا لتتركنا بعدئذ في الظلمات. إنها أفكار لا تلمع إلا بتضادها، ولا تبرز إلا جانباً من جوانب الموضوع بينما يوضع في الظلام كل الجوانب الأخرى؛ وفي العادة يكون هذا الجانب الذي يختار حداً أو زاوية يتلهى الذهن بها بسهولة، بينما يكثر بعده عن الجوانب العظيمة التي اعتاد الفكر المستقيم أن يقدر بها الأشياء.
(البقية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين
صوت من العالم الآخر
للأستاذ نجيب محفوظ
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
استرق إلى نفسي خاطر أن أنطلق بروحي إلى العالم فانطلقت، لم تحدث حركة في الواقع. وإنما كان يكفي أن يتجه فكري إلى شيء حتى أجده ماثلاً أمامي. بل الواقع أعظم من ذلك؛ فقد صار بصري شيئاً عجباً؛ لا يعصى أمره شيء، صار قوة خارقة تشق الحجب وتتخطى السدود، وتنفذ إلى الضمائر والأعماق. بيد أني - وقد حم الوداع - نازعني الفكر إلى أهلي. فوجدت نفسي في داري. أما الصغار فقد راحوا في نوم عميق لا يزعجه مكدر. وأما زوجي وأمي فقد افترشتا الأرض، ولاح في وجهيهما الهم والغم. لشد ما أعياهما الحزن والبكاء! وغدا يتضاعف حزنهما عند تشييع التابوت إلى مثواه الأبدي. وقد تغلغل روحي في فؤاديهما فتحرك رأسهما وتمثلت لهما في الأحلام، ورأيت القلبين المحزونين يخفقان في كمد وألم. فيم كان كل هذا الكدر؟! بيد أن شيئاً استرعى بصري! رأيت في سويداء القلبين نقطة بيضاء. فعرفتها - فما عاد يخفى علي علم شيء - فهي بذرة النسيان! آه. . . ستكبر هذه النقطة وتنتشر حتى تشمل القلب كله. أجل أدركت هذا حق الإدراك، ولكن بغير مبالاة فلم أعد أكترث لشيء. وتساءلت مسوقاً بلذة المعرفة متى يمكن أن يحدث هذا؟! فأرتني عيناي العجيبتان صورة من المستقبل: رأيت أمي تمسك غلاماً بيمناها وتشق طريقها وسط زحام شديد ملوحة بزهرة اللوتس. فعلمت أنها خرجت - أو أنها ستخرج - للمشاركة في أسعد أعياد قريتنا، عيد الإلهة إيزيس. كان وجهها متهللا كان ابني يهتف ضاحكاً. ورأيت زوجي تهيئ مائدة - والطعام خير ما تصنع في دنياها - وتدعو إليها رجلاً أعرفه، فهو ابن خالها ساو. ونعم الزوج هو. ولو أن ميتاً يسر لسررت لها، لأن ساو رجل فاضل، وهو خير من يسعد زوجي ويرعى أبنائي. وانصرفت روحي عن داري. فمرت في سبيلها بقصر أميري المحبوب، فشاهدت عقل الأمير ووجدته متأسفاً لفقدي وهو الذي قدرني أجمل التقدير وجازاني خير الجزاء. ووجدته مشغولاً باختيار خلف لي فقرأت في ذاكرته أسم المرشح الجديد (آب رع) وكان من مرؤوسي النابهين وإن لم تتصل بيننا أسباب المودة. كل هذا جميل. ولكن إلام أبقى في قريتي واليوم يستقبل فرعون رسول الحيثيين لتوقيع
معاهدة الصلح والسلام؟ رأيت منف - في لمح البصر - تعج بجمهورها الحاشد. والقصر في أروع منظر. وقد اجتمع في بهو العرش العظيم الملك والرسول والكهنة والنبلاء والقواد. هؤلاء هم سادة الدنيا قد جمعهم مكان واحد. وهذا فرعون المظفر يحادث رسول الحيثيين الجبابرة في جو بالمودة عامر، أما صدر الملك فقد امتلأ احتقاراً، وترددت بأعماقه هذه العبارة:(لابد مما ليس منه بد) وأما صدر الرسول فقد بض كراهية، وتحيرت به هذه الفكرة:(صبراً حتى يموت هذا الملك القوي). ونشطت عيناي، فرأيت الوجوه والملابس والقلوب والعقول والبطون. رأيت عالمي الظاهر والباطن بغير حجاب. وتسليت زمناً بتفحص ما في البطون من طعام فاخر وشراب معتق، حتى عثرت بمعدة كاهن على بصل وثوم! وهما محرمان على الكهنة. وتساءلت ترى كيف غافل هذا الرجل الورع أقرانه ودس هذا الطعام في جوفه؟! ولمحت في ناحية من معدة أحد النبلاء دبيب المرض الذي أودى بحياتي، وكان الرجل يحاور قائداً في سرور وانشراح فقلت له في نفسي:(على الرحب والسعة!). ثم وقع بصري على الحاكم تيتي الذي اشتهر بالقسوة والبطش حتى ليوالي فرعون النصح له بالاعتدال مع رعايا إقليمه. فنظرت إليه بإمعان. وسرعان ما تكشف لي عن جسم مهزول، مريض الأعضاء، لا يفتأ يشكو مر الشكوى أسنانه ومفاصله. وكلما ألح عليه الألم تمنى لو يستطيع بتر الفاسد من جسمه. ولذلك تملكته فكرة البتر بقسوة فلا يتردد عن بتر المعوج من رعاياه بعنف لا يعرف الرحمة. وإلى جنب تيتي شاهدت الوزير مينا، ذلك الرجل العنيد الذي حارب فكرة الصلح بكل قواه، وطالما حرض على القتال، وتساءلت ترى ما سر عناد هذا الوزير الخطير؟! رأيت عقله نيراً، ولكن أمعاءه ضعيفة فتستبقي فضلات الطعام طويلاً فتلوث دمه في دورته فيذهب إلى عقله فاسداً، ويغشى نور أفكاره، حتى إذا خرجت من فمه كانت ذات شر كبير! والرجل مقتنع برأيه يراه واضحاً مستقيماً كما أرى مخه مسوداً ملوثاً! ثم دار بصري بالصدور يستقرئها خفاياها الكامنة وراء بسمات الثغور. هذا صدر ثقل عليه الملل فهمس لصاحبه:(متى العودة إلى القصر حيث السماع والقيان؟!) وهذا صدر يتوجع قائلاً: (لو مات الرجل بمرضه لكنت الآن قائداً على فرقة الرماح!) وذاك صدر يقول في جزع متسائلاً: (متى يقوم الأحمق برحلته التفتيشية فأهرع إلى زوجه الحسناء المحبوبة. . . آه. . .) وقال صدر لصاحبه من
الأعماق: (لا يدري إنسان متى يحين الأجل. فلا يجوز بعد اليوم أن أؤخر بناء مقبرتي. أو فما فائدة المال إذاً؟!) وتولت الحيرة صدراً كبيراً فجعل يقول لصاحبه: (قال إخناتون إن الرب هو آتون. وقال جار محب إنه آمون. وهناك قوم يعبدون رع. فلماذا يتركنا الرب في شقاق؟) ولم أواصل الاستطلاع طويلاً في هذا الحفل الفرعوني الجليل إذ سرعان ما ادركني الملل. فتحولت عنه ووجدت نفسي مرة أخرى في الدنيا الواسعة. ومرت أمام ناظري مشاهد كثيرة من الأرض والسماء، لمست حقائقها جهرة، ونفذت إلى صميمها، حتى وقع البصر على جنين يتكون في رحم، فرأيته يكتسي لحماً وعظماً. وشهدت مولده. وجرى البصر معه في المستقبل فرآه طفلاً وصبياً وغلاماً وشاباً وكهلاً وشيخاً وميتاً. وشاهد ما أعتور من حادثات وحالات سرور وحزن ورضا وغضب وأمل ويأس وصحة ومرض وحب وملل. رأى ذلك جميعه في دقيقة من الزمان. حتى كاد يختلط في أذني بكاء الميلاد وشهقة الموت! وغلبتني على أمري رغبة جامحة في اللعب فسايرت حيوات أفراد كثيرين من الميلاد إلى الممات. واستلذذت كثيراً وقوع الحالات المتنافرة لا يكاد يفصل بينها زمن! فهذا وجه يضحك ويقطب ثم يضحك ويقطب عشرات المرات في جزء من الثانية! وهذه امرأة تتيه حسناً وتعشق وتتزوج وتحبل وتلد وتهرم وتقبح وتسمج في لحظة من الزمان! ووفاء وخيانة لا يفصل بينهما زمن. هذا وغيره مما لا يحيط به حصر جعل الحياة مهزلة. فلو أن ميتاً يضحك لأغرقت في الضحك. وبدا لي كأنه لا حقيقة في العالم إلا التغير! ورغبت نفسي عن مطالعة الأفراد وحيواتهم المجنونة فغابوا عن بصري. ورنوت إليهم من بعيد جمعاً غفيراً لا يحده شيء. تضاءلت الحجوم وطمست المعالم وإنعدمت الفوارق. فصاروا كتلة واحدة. ساكنة صامتة. لا حياة فيها ولا حركة. رحت ألقي البصر في دهشة وحيرة. حتى ألفت المنظر. فتكشف لي عن جانب جديد كان من قبل خافياً. رأيت ذاك الظلام الساكن يشع نوراً شاملاً؛ فإن الأنوار الخافتة المتهافتة التي تخفق في كل مخ - على حدة - ضعيفة خابية، اتصلت في المجموع الملتحم المتماسك ولاحت نوراً قوياً باهراً. رأيت في لمعتها حقاً باهراً وخيراً صافياً وجمالاً متألقاً فازددت دهشة وحيرة. رباه لشد ما تعاني الروح وتتعذب ولكنها تبدع وتخلق على رغم كل شيء. رباه لقد رأى توتي أموراً جليلة وليرين أموراً أجل وأخطر. وأيقنت أن ذلك النور الذي بهرني إن هو إلا نقطة من
السماء التي سأعرج أليها. وغضضت البصر. ووليت الدنيا ظهري. فوجدت نفسي في حجرة التحنيط المقدسة. وقد ملأ روحي سرور إلهي لا يوصف. .
وانتهت أيام التحنيط السبعون. فجاء الرجل مرة أخرى، واستخرجوا الجثة من الحوض وأدرجوها في الأكفان، وأتوا بالتابوت وقد زالوا غطاءه بصورة جميلة لتوتي الشاب ووضعوا فيه الجثة، ثم رفعوه على أعناقهم وساروا به إلى الخارج، فتلقاه المشيعون من الأهل والجيران بالعويل واللطم، وعاد النواح كأفظع مما كان يوم النعي، وذهبوا إلى شاطئ النيل، وهبطوا إلى سفينة كبيرة أقلعت بهم صوب مدينة الأبدية على الشاطئ الغربي، والتفوا بالتابوت يصوتون وينوحون. قالت أمي:(لا جف لي دمع، ولا اطمأن لي قلب من بعدك يا توتي!). وصاحت زوجي: (لماذا قضى علي بأن أعيش بعدك يا زوجي!)
وقال حاجب الأمير: (توتي أيها الكاتب المجيد. لقد تركت مكانك شاغراً!)
ولبثت أنظر بهاتين العينين اللتين تنكرتا لماضيهما، وكأن سبباً لم يصلني يوماً بهذه الدنيا، ولا بهؤلاء الناس. ورست السفينة إلى الشاطئ، فرفعوا التابوت مرة أخرى، ومضوا به إلى المقبرة التي أنفقت في تشييدها جل ثروتي، وأحلوه موضعه من الحجرة. وفي أثناء ذلك كان جماعة من الكهنة يتلون بعض الآيات من كتاب الموتى، يلقنونني التعاليم الهادية من أقوم سبيل! ثم جعلوا ينسحبون تباعاً حتى خلا القبر، ولم يعد يسمع من شيء إلا العويل الآتي من بعيد، وأغلقت الأبواب وهيلت عليها الرمال، فانقطعت كل صلة بين العالم الذي ودعت، والدنيا التي أستقبل. . .
ملاحظة: هنا انقطعت الكتابة في المخطوط الهيروغليفي، ولعل فترة الانتظار التي أشار إليها الكاتب في أول كتابه كانت قد انتهت. ولعل رحلته الأبدية كانت قد بدأت، فشغل بها عن قلمه المحبوب، وعن كل شيء.
نجيب محفوظ
من وراء المنظار
متحمس. . .!
يتحمس في كل شيء: في رأيه، في أشارته، في نطقه، في عبارته، في جلسته، في حركته، فيما يختار من ألوان ملبسه، في ضحكته؛ ولابد أنه قياساً على كل هذا متحمس كذلك في بكائه. وكم تمنيت - على شدة كراهيتي للبكاء - ولو رأيته يبكي لأرى مبلغ حماسته في دمعته!
قارب الثلاثين أو جاوزها قليلاً. حديث العهد بشهادة من شهادات إحدى جامعتينا فهو بها معتز مغتبط متحمس في اعتزازه واغتباطه. ولست أجد في ذلك ما يلام عليه فهذا ما يفعله كثيرون غيره ممن يظفرون بشهادات جامعية يستطيعون بعدها أن يعملوا ليظفروا بالألقاب العلمية الضخمة، ومن منهم لا يحب أن يصبح دكتوراً مرموق المكانة عظيم الخطر؟
وصاحبنا الذي اختلس منظاري النظر إليه ساعة، وحملقت فيه عيناي أكثر من مرة من شدة إعجابي به، ولست أقول من فرط تعجبي منه، قد عقد النية فيما علمت من أنبائه على أن يكون دكتوراً مهما كلفه ذلك من جهد. على أنني لا أذكر أني رأيت فيمن يحملون هذا اللقب العظيم من هو أشد ذهاباً بنفسه من صاحبنا هذا، ولا من يصطنع لهجة الأستاذية والضلاعة، ولا من يقطع بالرأي في سرعة ويقين، ولا من يقذف بالأحكام العريضة في سخاء ويسر، كما يفعل هذا الذي لم يصبح دكتوراً بعد، وهذا هو سر إعجابي به، فما أحسب إلا أنه غنى بذلك كل الغنى عن جميع الألقاب كل وصف عنده، سواء وصف ما يرضيه أو وصف ما يسخطه، يأتي على وزن أفعل كما يقول النحاة، فهذا أحسن مؤلف ظهر حتى اليوم، وفلان أكبر عالم في البلد، وهذا أجهل رجل بكيت وكيت من المسائل، وهذه أحسن خطة؛ وهكذا دائماً على وزن أفعل النحاة، أو على طريقة أفعل التجار في مثل قولهم أحسن صنف وأفخم قماش وأجمل لون وأرخص سعر!
وهو على أهبة دائماً لأن يعارضك فيما تبدي من رأي. وليته يقارعك حجة بحجة، أو يعنى حتى بمجرد الاستماع إلى أن تتم رأيك، فإنك ما تكاد تشير إلى فكرة حتى تراه ينهال عليك بما حفظ من مسائل، فيورد طائفة مختلفة من الآراء وليس يهمه إن كانت تتصل من قريب أو من بعيد بما يدور الكلام حوله، وإنما يكفيه أنه هكذا قرأها، وإنه ليوردها أحياناً مبتورة
مشوهة فيقحمها عليك إقحاماً، فإن غيرت مجرى الحديث لتصحح له نصوصه عاند وأصر على أن الصحيح ما يقول، فلا مناص إذاً من أن تجد نفسك وإياه وقد خضتما في حديث جديد لتنقلا منه بنفس الطريقة إلى غيره ثم إلى غيره، وحينئذ ينظر إليك نظرة الظافر، ويبتسم ابتسامة من يرثى لضيق عقلك وقلة اطلاعك، وإنه لأهون عليك ألف مرة أن ترضى بذلك من أن تسايره في جدله
وإنه ليلتفت إلى متحاورين في المجلس فما أسرع ما يجعل من نفسه خصماً ثالثاً وما سأله أحد رأيه. وإنه ليسفه كلا الرأيين المتجادلين، فما تدري ماذا يريد، ثم يهجم هجومه على أسلوبه العتاد، فهذا الرأي أضعف ما قيل في هذه المسألة، وذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة، وقول فلان هذا يرفضه أبسط متعلم، ولا يجوز عند أقل الناس إلماماً وأضعفهم إدراكاً، وإن الرأي الصحيح بل أدق الآراء واحذقها هو ما ذكره العلامة فلان والفيلسوف علان في كيت وكيت من الكتب. وإنه ليرتعش من جميع نواحيه وتهتز أطرافه من فرط تحمسه، وتتعاقب الصفرة والحمرة على محياه الكريم، بحيث لو دخل زائر في هذه الحالة لما شك أنها معركة تبودلت فيها أقذع التهم وأفحش المطاعن
وإنك لتقرأ في وجهه العجب والغضب من أنك تطاوله، فضلاً عن أن تنكر عليه ما يقول، فهل قرأت مثل ما قرأ أو بعضه؟ وكيف لا تؤمن بطول باعة ورسوخ قدمه، وإنك لتراه يتناول كل معضلة ويجادل في كل فن ولا تغرب عن ذهنه صغيرة ولا كبيرة من المسائل، فإن تكلم في المجلس اقتصادي انبرى له، وإن تحدث لغوي وثب عليه، وإن جادل سياسي أخذه من أقطاره، وإن شرح طبيب سبب علة أبان له وجه الخطأ فيما يقول، وإن أرخ مؤرخ لحادث شهده بنفسه أو روى حديثاً عن عظيم طواه الموت جابهه بما يشبه التكذيب لأنه لا يمكن أن يعتقد وقوع ذلك فإنه أبعد ما يكون عن العقل وأضعف سنداً من أن يعتمد عليه.
وبعد فما كانت الحماسة عيباً، وإننا معشر المصريين لمن أكثر بني الدنيا تحمساً في معظم الأمور، وإنما هو هذا المنظار اللعين يأبى إلا أن يستخرج من هذه الحماسة الشائعة ما يسوقه مساق التندر والمعابثة، وهذه صورة منها سوف تعقبها صور
الخفيف
التصوير الفني في القرآن
لمؤلفه الأستاذ سيد قطب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
نقد وتعليق
هو كتاب شاعر ناثر ناقد، زاول الشعر والنثر والنقد، ونجح في ذلك كله كثيراً من النجاح.
ولابد لمن يتناول البحث في القرآن من جانب فنه البياني أن يكون قد زاول التعبير الفني ونجح فيه واتصل بفنونه اتصالاً وثيقاً، وأن يكون كذلك له ذوق وحكم وتقليب نظر في أجواء البيان الرفيع.
ولست أقدم (المؤلف) للقراء، فهم يعرفونه، بل أقدم كتابه هذا الذي هو لا شك نظرة واسعة لبيان القرآن جاوزت حدود تلك النظرات القديمة المعقدة الضيقة التي كانت في أكثرها تتخذ (وحدة) القياس البياني في الغالب من العلاقات والتخييلات الجزئية بين أجزاء الجملة. فتنظر لوضع اللفظ وحده في وصلته بالحقيقة والتخييل، وقليلاً ما تتخطاه إلى الصورة الجامعة وملابساتها وما حولها من الظلال والرموز.
ومن حق المؤلف أن يخطئ من النقد بالتفتيش والتتبع لما يكتبه من أدب حر، لأنه هو يعنى نفسه في التفتيش والتتبع لما يكتب المؤلفون، وتقديمه للناس وتعريفهم به. وهو عمل متعب مشكور، له أثره في تعريف الكتابين إلى أنفسهم أولاً، وفي وجود صدى لابد منه لآثارهم. وفي إثارة الأذهان نحو النقد والحكم على الآثار الأدبية ومعرفة أهدافها وتبيين آثارها وأساليبها وسماتها، وفي التاريخ لها أولاً بأول. . .
والذي أستطيع أن أقوله بسرعة عن هذا الكتاب: إنه ينزل إلى مكان كريم من مكتبة القرآن، لأنه حديث جديد عميق في أسرار بيانه، وعرض رشيق لمذهب من مذاهب الفهم والذوق لإعجاز تعبيره.
وينزل كذلك إلى مكانه من مكتبة بحوث (البلاغة) والنقد الأدبي، لأنه ظاهرة طيبة لتحررهما من النظرة الجزئية وتسديدهما إلى النظرات الواسعة الكلية التي تستوفي (الجو) العام الذي صدر فيه الأثر البياني، وتتلمس المناسبات الداخلية والخارجية حوله، وتحلل
العلاقات الكثيرة بين الكاتب والمكتوب والقارئ والموضوع.
ويدخل كذلك ببعض فصوله إلى مكانه من مكتبة الأدب الفني لأنه يكشف عن صورة للقرآن في ذهن شاعر معروضة عرضاً جميلاً بأسلوب ناثر دقيق التعبير مشرق الأسلوب، له ذوق وحساسية وبيان، لا بأسلوب (محصل) علم، إن أصاب الفكرة فقد يخطئ التعبير.
ويدخل كذلك إلى مكتبة (الفن) وأعنى به هنا التصوير بالريشة والإزميل، فهو يضع أمام المصورين الباحثين عن المشاهد الرائعة صوراً بيانية للوحات حية مشروحة الدقائق والتفاصيل والأضواء والظلال والأطياف والشواخص والمعاني، يستطيعون أن يتملوها ويتفرسوا فيها فيجدوا متاعاً أي متاع. .
وينزل كذلك إلى مكانه من (البحث) المستقصى والتتبع والتحقيق وجمع الحلقات المفرقة عن الموضوع الواحد. كما يتجلى ذلك في مباحث (القصة في القرآن). وهي مباحث استغرقت أكثر من ربع الكتاب وتعد موضوعاً قائماً بذاته فيه.
وقد عرض في بعض فصوله لكثير من المباحث التي تدور حول القرآن، ولا غنى عنها لمن يريد أن يتفرس في بيانه.
غير أنني أخشى أن يكون قد أفلتت لفظه أو اثنتان من قلم المؤلف في أهم فصل من فصول الكتاب خرجت بهما فكرته الأساسية التي عنونه بها في جو من المبالغة والتعميم.
ذلك أن يقرر في الفصل الذي أنشئ من أجله الكتاب أن (التصوير هو الأداة (المفضلة) في أسلوب القرآن) وأن إدراكه وسيلة إلى (إدراكنا (سر الإعجاز) في تعبير القرآن)
فإذا تجاوزنا عن الفرق بين كلمة (أسلوب) وكلمة (تعبير) وفهمنا أن الأستاذ في الغالب يريد من الكلمة الأولى معنى الكلمة الثانية، إذ لا يخفي عليه الفرق بينهما، وخصوصاً في القرآن، فإننا لا نستطيع أن نتجاوز عن إطلاق كلمة (المفضلة) ولا عن إطلاق (سر الإعجاز) لأن الحكم بتفضيل القرآن للتصوير كأداة في التعبير يقتضي الاعتماد على (الإحصاء) وظهور نتيجته بكثرة عددية. . فهل إذا أحصينا طرق التعبير في القرآن نجد ما قرره المؤلف يحظى بالكثرة العددية؟
إني أترك له أن يستعرض صفحات القرآن، فسيجد أن التصوير الفني أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة في القرآن، وليست هي الغالبة ولا الكثيرة.
فتارة يعبر عن المعنى المراد بالتعبير المتكافئ المعنى واللفظ، والذي يستخدم الألفاظ الوضيعة وحدها، وتارة يستعير لفظاً واحداً من غير أسرة الألفاظ التي في الجملة ليحرك به الخيال ويلمس الحس لمساً رفيقاً، وتارة تكون ألفاظ الحقيقة وملابسات الخيال متساوية، وتارة تكون ملابسات التصوير وإثارة الخيال هي الغالبة، وتارة تكون هي الكل، ومع ذلك يحتفظ القرآن في كل أولئك بأسلوبه المتفرد وسر إعجازه؛ فليس التصوير الفني وحده هو سر الإعجاز في تعبيره كما يرى المؤلف الصديق.
وحديث سر الإعجاز حديث شغل الباحثين في القرآن من قديم، ولا يزال يشغلهم للآن، وسيظل يشغلهم أبد الدهر، ولن يصلوا إليه (ويدركوه) وقد (أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض)؛ لأننا نستطيع في اليوم الذي (نصل) فيه إلى إدراك سر الإعجاز في تعبير القرآن أن نستخدمه في صنع كلام معجز. . . وحينئذ لا يكون معجزاً. . . مادام مفتاحه بأيدينا وفي طوق صنعتنا.
فالمعجز من أمور الحياة هو ما لا يمكن الوصول إلى سره واستخدامه. ونحن نجد في مواريث أرباب البيان الرفيع في كل لغة استخدام التصوير الفني للتعبير عن (المعاني الذهنية والحالات النفسية والحادث المحسوس والمشهد المنظور والنموذج الإنساني والطبيعة البشرية) إلى آخر ما قرره المؤلف من الحالات والسمات والمواقف التي رأى القرآن يعبر عنها على قاعدة التصوير التي تجعل (المستمعين نظارة) فلو لم تفلت هاتان الكلمتان من قلم المؤلف الواعي، ولو لم يحاول أن يجعل قضية كتابه التي عنونه بها (قاعدة ومذهباً مقرراً وخطة موحدة وخصيصة شاملة) يفضلها أسلوب القرآن أو بالأحرى تعبيره، إذا لجاء المعنى الذي أراده خالياً من هذا التعميم، ولكان موضوعه كما يحدده عنوان الكتاب هو استقراء (الصورة الفنية) في القرآن وعرضها والتعليق عليها وبيان ما فيها من روعة وأسرار.
في الكتاب فصل عن (المنطق الوجداني) يتصل بالمباحث العقلية حول القرآن وأسلوب دعوته إلى الأيمان بالله الواحد وقضايا الدين. وهو فصل أثار في نفسي تعليقاً وخواطر حول بيان أساس الدين، وهل هو الوجدان أو العقل؟
والمؤلف يرى أنه الوجدان، وأن الذهن ليس أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها إلى الدين.
ونظراً لخطر الموضوع وقيمته في الدعوة الإسلامية والدينية الصحيحة عامة سأضطر إلى مناقشة هذه الفكرة التي صارت زعماً عاماً انتقل إلى المسلمين الذين أساس دينهم (بل أساس الدين الصحيح كله) العقل؛ لأنني أعتقد أن المسلمين الآن بحاجة إلى أن يعلموا أن قضية الإيمان بالله الواحد كما استعرضها ودعا إليها القرآن ليست قضية (وجدانية) تأخذ من المجهول للنفس أكثر مما تأخذ من المعلوم لها، بل هي في أصلها ومنبثقها الأول تأخذ من (المعلومات) ويقينات الحس والبداهة والحكم العقلي أكثر مما تأخذ من أي منطقة أخرى من مناطق النفس البشرية. . .
فليس الموطن الأول لهذه العقيدة هو الوجدان، منطقة الانفعال والاستسلام أو الثورة، بل موطنها هو موطن ذلك (البرق) الذهني أو العقلي الذي ينتج (حكماً) يرسله إلى الوجدان فينفعل له ويتقبله (ويعقده) في طويته ويستسلم له ويسير حياته على مقتضاه.
هذا البرق الذي ينتج (الحكم) يستمد حيثيات أحكامه من انطباعات الصور الثابتة للكون في النفس ومن الانفعالات الداخلية بهذه الصور. والذي أعلمه من علم النفس أن أول (برق) يبرق في النفس وينطبع فيها هو حقيقة (السببية) التي تفجأ الطفل ويتحرك لها فمه حركة (منعكسة) آلية عندما تلقمه أمه ثديها، فيجد أثراً واضحاً لذلك التحريك تنفعل له أعصاب الجوع والشبع.
وكذلك عندما يصل إلى عينه أو أذنه أول شعاع ضوئي أو أول صوت فيجد له أثراً في حساسية بصره أو سمعه، ثم لا تلبث الآثار المطردة (الأسباب) أن تتلاحق على مجمع حواسه حتى تنتج طائفة من الأحكام المطردة المبنية على الانفعالات المطردة التي يجدها في حواسه وفيما وراءها.
وهذا ما يقرره القرآن نفسه بقوله: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) فعندما يصل الناشئ إلى ترك مرحلة ذهول الطفولة وإلى إدراك الكون كله كوحدة، لا يتجه بانفعال وجداني إلى السبب الأكبر للكون لأن ذلك الوجدان لم يوجد بعد، وإنما يتجه إليه بحكمه الذهني الذي يركب قضية ذهنية منطقية في خفاء وبدون ألفاظ، يحكم بها بأن لهذا الكون سبباً وقدرة ومشيئة تدبره. . . وهي التي أدخلت الإنسان إلى الدنيا العجيبة وتخرجه منها. ولن ينفعل لهذا وجدانه (بالدين)
إلا إذا صح لديه هذا الحكم. فإن لم يصح لديه أن لهذا الكون عقلاً يدبره فلن ينفعل وجدانه لعقيدة دينية إلا تحت تأثير الخوف والقصور والتهيب أمام المجهول. وليست هذه مواقف الإيمان الصحيح المستنير الثابت الذي لا يتزعزع، وإنما هي مواقف الإيمان الأعمى المقلقل الحائر المستعد للتقلب، كما هو الحال في أكثر الذين لا يأخذون الدين بالفكر عند ابتداء صحوهم من ذهول الطفولة. فالعقل أو الحكم أو (الذهن) يا صديقي قطب، هو صاحب هذا الموضع الأول من النفس، ينتج لها تلك النتيجة الأولية التي تجعلها تنفعل بوجدانها انفعال الإيمان. وهو الجزء (المتبلور) في جميع النفوس - والوجدان جزء مائع - وهو الحكم الذي يكاد يكون من عالم الأرقام التي تنتج نتائج واحدة بقوانينها الواحدة.
ولن يضيره أن يكون مختلفاً في الناس اختلافاً ما. فكذلك الوجدان مختلف.
ونحن في سبيل البحث عن حجة لله على الناس جميعاً. ولن تكون هذه الحجة في أغلب الأمر إلا عن طريق العقل والذهن الدقيق الذي يحاكمنا الله إليه دائماً في الحياة وفي القرآن، ويردد اسمه دائماً؛ ويلومنا ويقر عنا بأننا لا نفكر ولا نعقل ولا نتدبر ولا نتذكر ولا نتخذ أسباب الوقاية كما يوحيها العقل.
نعم إن الموطن النهائي للعقيدة الحارة هو الضمير والوجدان، ولكن بعد أن تمر من العقل أولاً ويحكم بوجوب سكناها في الوجدان لتستمد من حرارته قوة الاندفاع والعمل للدين.
وقد كان الوثنيون الذين أنزل إليهم القرآن يعتقدون عقيدة في (وجدانهم) ويتعصبون لها ويصدرون عنها في حياتهم، لأن أذهانهم كانت تحكم بصحتها. فبماذا زعزعها القرآن في وجدانهم وضميرهم؟ أليس بالمحاكمة العقلية التي كشفت عن عقولهم ضباب الوثنية القديم، وأدركوا بها الحق الأول بالذهن والحكم، ثم أخلوا وجداناتهم من العقيدة القديمة وأحلوا محلها العقيدة الجديدة؟
والوثنيات تجد في منطق الوجدان وحده مدداً متصلاً لها بالانطلاق وراء الرموز والتهاويل والإثارات الفنية التي هي باب الوجدان. . . وقد افتخر (طاغور) واحتج للوثنية بأنها مجال طيب لرقي الفنون. . . ولا شك أن هذا احتجاج طفلي وجداني لا يتصل بسبب كريم بالحق والعقل والكرامة الإنسانية والمصلحة الاجتماعية. فالقول بأن منطقة الدين هي الوجدان وحده قول غير إسلامي. أخذه المسلمون المحدثون عن المفكرين غير المسلمين
الذين لم يعرفوا الأساس الأول للإسلام والدين عامة، والذين وجدوا في أديانهم أسساً يأباها العقل والمنطق، ووجدوا الدين في حد ذاته كفاية نفسية لابد منها، فأرادوا أن يجمعوا بين الدين والعقل، فزعموا أن لكل منهما منطقة قد يناقض ما في إحداهما ما في الأخرى ولا ضير! أما الإسلام فأساسه أن إله القرآن هو الإله الذي وصفته الطبيعة ووجهت العقل إليه؛ واعتمدت في هذا التوجيه على المحاكمات العقلية كأساس أول وعلى المحاكمات الوجدانية المبنية على هذا الأساس، وقد استخدم القرآن في سبيل ذلك كله البيان المشرق الجميل البارع المعجز في تعبيره وأسلوبه.
ولم يقتصر خطابه على طائفة واحدة معينة هم طائفة الذين ارتفعوا عن المستوى العام للناس واحتكت عقولهم بما وراء سطح الحياة وما وراء البداهة والحس من عوالم الفروض والصور الطليقة من قيود الحياة الظاهرة، بل خاطب الناس بالقدر المشترك بينهم جميعاً وخاطب هذه الطائفة الممتازة في بعض معارضه كما خاطب المبتدئين القاصرين في البعض الآخر.
والقرآن يفرض الفكر ميزاناً قائماً بذاته مستقلاً عن الإنسان ثم يعجبه مما يراه في الوجود، كأنه زائر غريب عن الحياة دخل إليها من عالم آخر وهو بكل وعيه، ولا شك أن الفكر بجميع قواه حينما يدخل إلى الوجود كأنه غريب عنه يعجب غاية العجب من بدائعه ويحكم الحكم الجازم بأنه لبارئ واحد. وليس هنا مجال تفصيل هذا، وقد سبق أن عالجناه في بعض البحوث.
فالموقف الأول من الكون والإيمان بربه الواحد، موقف (جزم) بالذهن والحكم العقلي. إذ أننا نشعر ونحس أننا واقفون إزاء (معلومات) تنتج العلم والحكم الضروري البديهي والمركب.
وهو موقف ديني سابق على مجيء النبوات والرسالات، لأنها تعتمد عليه في التدليل على قضاياها والتحاكم إليه. فالدين عقلي طبيعي في الإيمان بأصله الأول وهو الله الواحد.
ولقد وجدنا كل جماعة دينية تؤمن بما عندها بوجدانها. فهل لهذا وزن إلا عندما يدركون شاكلة الحق الذي عند الله والذي يوحي به الكون؟ وهل يدرك الحق إلا بقوة (الحكم) التي هي موضع الحساسية بالعدالة والقوانين الطبيعية التي استمددنا منها حكمنا، والتي لا تنظر
إلى الصور والإطارات وإنما تنظر إلى صلب الأمور؟
والقرآن لم يعن بأن يرد على منكري وجود الله. وكأنه لم يفرض وجودهم. أو كأنه نظر إليهم على أنهم خارجون عن نطاق العقل والبداهة، ولذلك لم يحاجهم ولم يوجه إليهم قولاً يشعر بأن لهم وزناً. وإنما وجه حديثه الأكثر إلى المشركين مع الله آلهة أخرى، والذين من فرط شعورهم بالألوهية استكثروا منها. . .
وخلعوا صفاتها على كثير من المخلوقات، فهؤلاء لديهم الإيمان الوجداني ولكنه إيمان مدخول منكوس يحتاج في تعديله ولإقامته في نصابه الطبيعي إلى منطق عقلي يستعرض الكون ويستقرئه ويستنتج منه أنه لإله واحد.
فالحديث مع هؤلاء المشركين لا يستلزم إلا الإيقاظ إلى الكون وأعاجيبه الموحية أنه من صنعة يد واحدة. . وهذا ما فعله القرآن. أما الذين التمسوا وراء حديث الإيمان الفطري مناطق يتحدثون فيها عن ذات الله وصفاته والكون ومبدأ وجوده وعلاقته بالله وصفاته، إلى آخر مباحث علم الكلام والفلسفة فهؤلاء لا يدعون أنهم يؤسسون عقيدة للجمهور بكلامهم، وإنما يريدون أن يصلوا بين هذا الكون المادي العجيب وبين ما قبله وبعده. وموقفهم هذا طبيعي، هو نتيجة للعجب الذي يرونه في هذا الكون، ونتيجة لشعورهم بأن عقلهم وحكمهم يريد أن يتصل بألغاز الحياة وما قبلها وما بعدها. فإنهم يشعرون أنهم غرباء، في هذا الكون المادي ذي القوى الموزونة والطلعة الجبارة المثيرة للفكر أيما ثورة. ولابد للغريب أن يبحث ويتقصى ويتعرف المكان الذي دخل إليه ويتعرف إلى صاحبه ويبحث عن شئونه حيثما ساعدت الوسائل.
غير أنهم يجب لكي يضمنوا الحياة العملية في الأرض والألفة العقلية ألا يشردوا ويحملوا عقولهم فوق ما تطيق، ولا ينسوا أن الإله الحكيم الذي وضعهم هكذا قاصرين عن إدراك كثير من الأمور، وعن إدراك المبدأ والمنتهى إدراكاً كما يشتهون ويتطلعون، إنما فعل ذلك لحكمة بالغة هو يعلمها، فيجب أن يلتزموا حدود (الضيافة) المؤقتة في هذه الحياة. ولا شك يكون لهذا الالتزام ما بعده من التناسق بين الفكر والعمل والألفة العقلية. وما كان للقرآن أن يكون على أسلوب تفكيرهم الخاص وهو قد جاء ميسر الذكر للناس جميعاً.
ولكنه مكن هؤلاء العقليين والمتفلسفين أن يؤلفوا من معانيه التي تحت (سطحه التعبيري)
قضايا ذهنية يستطيعون أن يستخدموها في أسلوبهم الخاص. فهو قد ساق قضية عقلية عظمى بأسلوب بسيط ميسر للناس جميعاً حينما قال: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)؛ وترك للعقليين أن يبينوا كيف يكون هذا الفساد حينما يفرض التعدد في الآلهة. . .
وحينما قال: (ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض). أرسل هذه القضايا هكذا واضحة ميسرة، وترك للعقل أن يتحاكم إلى الكون ويستقرئ أحوال الأشياء إذا كانت بين والد ومولود وإذا كانت بيد واحدة، وإذا كانت بأيد متعددة، وعماد الحكم في ذلك هو الحركة العقلية الآخذة من كل مورد من موارد النفس والكون وكل قوة من قواهما لتصل إلى الحكم.
والمتتبع للقرآن يرى أن وراء (سطحه التعبيري) السهل الميسر، عالماً يموج بالمسائل العقلية والبديهية والفرضية تضع العقل البشري في مواضيع أصيل كريم كأنه هو وحدة القياس في كل العالم لا في الأرض وحدها.
وأخيراً أشكر المؤلف الصديق على هديته التي جعلتني أعيش فترات في جو فني بديع، فيه الفكر والبيان، وحسن الترتيب والتبويب، ولطف المدخل إلى ما تناوله من موضوعات.
عبد المنعم خلاف
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
بترول من الميكروبات؟!
من الأخطار التي تهدد المدينة الحديثة نقص احتياطي البترول في العالم، فقد استنفدت أدوات الحرب كميات طائلة منه. ولهذا اتجهت أنظار الساسة والاقتصاديين إلى مد أنابيب البترول عبر شبه جزيرة العرب لاستغلال آباره مع ما يتكلفه هذا المشروع الضخم من نفقات كبيرة. ولقد أجهد الكيمائيون والعلماء أذهانهم ليحصلوا على موارد جديدة تزيل المخاوف المقبلة.
وكان من أمتع الأبحاث وأغربها بحث الدكتور كلود زوبل الذي تجاوزت مدته 15 سنة، قضاها لا يحفر الأرض ليعثر على آبار جديدة للبترول، بل منقباً عن حشرة صغيرة تحول المواد الأولية إلى بترول. ووفق أخيراً إلى العثور على ضالته فكان لكشفه أهميتان مزدوجتان.
أولهما أن البحث عن آبار البترول لن يحتاج إلى حفر إغوار بعيدة، ولا إلى استعمال المجسات المختلفة، بل سيبحث العلماء بعد ذلك سطح الأرض للعثور على هذا النوع من البكتريا، فإن وجودها فقد وجدوا الآبار.
والثانية أن دراستنا لهذا النوع من البكتريا ستتيح لنا معرفة الوسيلة التي يتكون بها البترول في الطبيعة، فيستطيع الإنسان بوسائله الصناعية الإسراع في إنتاجه بالمقادير اللازمة.
فمنذ خمس عشرة سنة اقتنع الدكتور زوبل بأن نوعاً من البكتريا يقبض بيده على سر إمداد العالم بالزيوت، فنقب ودرس ما وسعته الدراسة وهو يوفق في كل فترة إلى كشف جديد يبطل فكرة قديمة أو يقدم للعام معلومات جديدة - فعثر على قائمة طويلة بأنواع البكتريا لم يسمع عنها الناس، ومنها ما تحول الدهنيات النباتية أو الحيوانية إلى مواد بترولية. ولكن الميكروبات لم تكن ثابتة الإنتاج فأحياناً تترك بقايا زيتية وأحياناً ترفض.
واتجه تفكير وبل إلى ناحيتين، فأما أن البكتريا تنتج البترول بشروط خاصة وإما أنه يجرب في أكثر من نوع واحد منها، وأي الاحتمالين يقض مضجع صاحبه. ففي أي الظروف تنتج البكتريا الزيت؟ وكيف يحصل على البكتريا الأصيلة نقية؟
ولكي يحقق الاحتمالين خرج إلى عرض المحيط مرات ليستخرج من قاعه عينة نقية. فمن المعروف أن أكثر الزيوت العالمية نشأ في ظروف بحرية. وفي خلال هذا التنقيب قلب كثيراً من الأوضاع العلمية القديمة، وأثبت خطأها، فنفى ما قيل من أن البكتريا لا تعيش في المياه المالحة في أعماق المحيط.
وقال العلماء أيضاً أن الأحياء الميكروسكوبية لا تعيش في أعماق المحيط أو الأرض لأنها تتأثر بالضغط ودرجة الحرارة فأخرج لهم زوبل أحياء ميكروسكوبية من أعماق زادت على ثلاثة أميال. وأثبت أن بعض الأحياء تعيش في أبعد الأعماق، وتتحمل عشرة أضعاف ضغطها وفي درجات حرارة لم يحلم بها عالم.
وغذى ميكروباته بالسكر واللحم والدهن والملح والخضروات والجيلاتين والفيتامين وأحياناً بالكعك، فهضمت كل المواد العضوية وأنتج بعضها ثاني اكسيد الكربون أو الميثين كما حلل آخر أحجار الجير أو أطلقوا الألمنيوم من السليكا أو استخرجوا البوتاسا أو النيتروجين إلى غير ذلك من قائمة المستخرجات والانحلالات.
ولكن الموضوع الذي يحصر فيه كل تفكيره استمر على غموضه إذ تعطيه بعض الأنواع مادة زيتية لا تلبث أن تتلفها. فكيف تنتج المادة وكيف تفسد وتزول؟ أهو قبل نوعان من البكتريا يتشابهان في المظهر؟
سؤال أرسل إلى رأسه الصداع مرات فإنه ليضع 15000 حي تحت المجهر فلا يزيد طولها عن بوصة واحدة فكيف السبيل إلى التفريق بين النوعين. كثيراً ما أعطته هذه المجموعة نفسها دهنيات لا زيوتاً.
ولقد جرب حتى أنهكته التجارب، وفصل الأنواع حتى أرهقه التنويع. وأخيراً هدته المصادفة وحدها إلى عزل النوع المضبوط، فحصل على النتيجة التي يريد، ففي إحدى المرات عزل مجموعات منها في أوانيه الصغيرة ثم غطاها بلصقة باريس ووضع فوق الجميع شمع البارافين. وبعد أسابيع أزال الأغطية فعثر على سائل أثبت التحليل الكيماوي أنه زيت خام. كما وجد أن التجربة التي عملها أوجدت بيئة بحرية داخل الإناء، وأعاد التجربة مرات فإذا هو يجد نفس النتيجة.
ومن الطبيعي أن تعتبر الجزء التجاري من أبحاث زوبل في الوقت الحالي من الأسرار
العسكرية. ويقال إن نجاحه كان عظيماً حتى ليتيح تحويل جميع مخلفاتنا النباتية إلى زيوت معدنية، على أن مبدأ واحداً أذيع وهو كيفية الكشف عن منابع البترول التي يتسرب قليل منها خلال طبقات الأرض مما يتعذر على الطرق الكيميائية معرفته، ولكن هذه (البكتريا المحللة) تستطيع بطبيعتها الخاصة اكتشاف أماكنه. فأينما وجد هذا النوع من البكتريا فإلى جواره منابع زيت.
فهذه الجراثيم الدقيقة هي الآن قائدتنا إلى منابع الزيت المختفية في باطن الأرض لا المجسات ولا وسائل الحفر والاستنتاج.
زجاج من غير رمل
استخدمت إحدى مصانع النظارات نوعاً جديداً من الزجاج للوقاية من بعض أنواع الحوامض التي تأكل الزجاج العادي، فإن سقطت على جسم الإنسان أحرقته. وهذا النوع نقي جداً ولا يدخل في صناعته الرمل كما هو معروف.
وينتظر أن يكون لهذا النوع من الزجاج مستقبل كبير لأن الحامض المعروف باسم هيدروفلوريك ضروري في كثير من الصناعات الحيوية الهامة مثل صناعة المعادن والمنسوجات والمطاط الصناعي. وكان في أول أمره عسير الحفظ لأنه يأكل المعادن والزجاج ويصعب وضعه في آنية.
وقد استعيض في هذا الزجاج عن الرمل الذي يعتبر جوهرياً في جميع أنواع الزجاج بأحد مركبات الفسفور. ومن الغريب أن هذه المادة شديدة التفاعل مع الماء ويحدث فرقعة شديدة ولكنه تيسر تذليل هذه العقبة بجعلها أقل تفاعلاً مع الماء. وعلى العموم فأنه يفضل وضع هذا الحامض الشديد الأثر في هذه الأواني الزجاجية على وضع الماء فيها.
ولهذا الزجاج نفس خواص الزجاج العادي فينصهر في درجة حرارة الزجاج. ويمكن صنعه في رقائق طويلة أو مربعة أو لفه على شكل زجاجات ويسهل صقله بوسائل صقل الزجاج المعروف.
لوقاية الآذان من الضوضاء
استخدم أحد المصانع أخيراً غطاء للآذان يقيها من الصمم الناتج عن الأصوات المرتفعة.
ويستخدم هذه الغطاءات رجال المدفعية في البحر والبر فإن شدة انفجار القنابل تحدث دوياً مرتفعاً يؤدي إلى الصمم الكامل.
وتخفض هذه الصمامات دوي أصوات المطارق الكهربائية الضخمة وحركات الآلات الكبيرة الكافية لصم الآذان فتجعلها كصوت قطار قادم على محطة وقوفه.
علاج لشلل الأطفال
لا يزال شلل الأطفال من الأمراض المستعصية في الطب. وقد وصل الطب إلى اكتشاف علاج له على ضوء اختبارات نباتية وصناعية. فقد كانوا من قبل يجربون لإحياء أعصاب المرضى مهتدين بما هو متبع في تقليم الأشجار بفضل الفروع التي لا فائدة منها للشجرة.
وكان الأطباء يعمدون إلى قطع الأعصاب الباقية في جزء ملتهب من الجسم بدقه بمطرقة صغيرة ذات وجهين. ونظرية الأطباء في هذه العملية هي أنه عندما يقطع العصب يبدأ في النمو ثانية ولكنه في هذه الحالة يتفرع بطريقة أقوى مما يجعله أكثر تغذية للعضلات وهو ما يحدث عند تقليم شجرة.
ولكن الاستخدام اليدوي لهذه المطرقة كان عملاً مرهقاً للطبيب ويحتاج إلى قوة احتمال طويلة منتظمة مما يصعب على أعصاب الطبيب تحمله.
وحدث أن زار بعض الأطباء الذين يهتمون بهذا المرض أحد مصانع الطائرات، وهناك رأوا مطرقة كهربائية على شكل مروحة تدور فتدق أطرافها المسامير. وفي هذه المطرقة وجد الأطباء ضالتهم المنشودة فصقلوها حتى تؤدي الغرض المطلوب منها في تقليم أعصاب المرضى بشلل الأطفال.
وقد أجريت التجارب في معهد فيلادلفيا في 500 مريض فتحسنت حالتهم إلى حد يدعو إلى كثير من الرجاء. ويرجع فضل هذه الاكتشافات إلى إحدى المؤسسات الخاصة بعلاج حالات الشلل التي قدمت لأطبائها ما يلزمهم من أموال لإجراء تجاربهم.
فوزي الشتوي
حَنةُ غريب!!
للأديب محي الدين صابر
مضى الَرَّكبُ، يا قلبي، فأين حبائبي
…
وأينَ مجالاتي؛ وأين مذاهبي؟
وأين الرَّبيعُ الحلُو؟ قد مات في يدي
…
وصوَّح إلاّ صورةً في رغائبي
وأين العِشيَّات الرِّطابُ؟ عَبْرَننِي
…
كما تعبرُ الصحراَء، غنوةُ راكب!
وأين غدي؟ إنِّي دفعتُ خيالَهُ
…
على جدولٍ في منهل الغيب ساكبٍ!
ويومي؟ لقد كفَّنْتُه. . . في دمُوعه
…
بوادٍ حزينِ الظلِّ سَأمانَ شاحب!
وعشتُ فضاءٌ ناعساً خلف ربوةٍ
…
على سفحِها المحرومِ، أغفتْ ركائبي
ملالُ طريدٍ. . . أو سآمةُ مُدْلجٍ
…
ويأسُ شَقّيٍ. . . أَو تثاؤب شارب!
فيا موكبَ الأحزانِ عطلتَ فرْحِتي
…
وشرَّدْتَ أنغامي وأْضرعْتَ جانبي!
وأطلقتني في اللَّيل؛ كاللَّيل ذاهلاً
…
حنيفاً. . . كأنِّي فيه دمعةُ راهب!
وأفردتْني كالنَّجْم حَيْرانَ ساهِراً
…
كأني على دنياكَ. . . لَفْتَةُ هارب!
وأظمأَتِني حتى من الوهمِ. . . في دمي
…
وكان كثيراً، كالحياةِ، مَشَاربي. . .
وأفقرتَنِي حتى المنَى. . . ما تزورني
…
وكانت يدُ الأقدار تُسْنِى مَطالبي!
وأشقيتني يا ذلَّ روحي، على الذُّرى
…
وضيعةَ أيَّامي؛ بوادي المصائب
تمرُّ بيَ الذكرى؛ فأجثو كأنني
…
ضميرُ نبّيٍ. . . أوْ ضراعةُ تائبِ
فتنثر أفراحي، على حَرِّ مهجتي
…
كما تنثرُ الأشواقَ دمْعةُ عاتب
أُحدِّثها كالطِّفْل حين تهزُّهُ. . .
…
طرافةُ لهٍو، أو مجانةُ صاحب!
وأبكي كما يبكي الغريبُ قد الْتَقَى
…
بسامره - بعد النوى - والحبائب!
واعذرُ دمعٍ. . . دمعةٌ كُرِّمتْ بها
…
محاريبُ اشواقٍ - خلتْ - وملاعب!
أحسُّ حياتي في التراب صريعةً
…
تساقَطُ من روحي، كأنفاس لاغب
وأغمضُ عَيْني أستعيدُ مباهجي
…
وأخدعُ حِسِّي في الليالي الذَّواهب
لياليَ أشباهٌ حياتي. . . على الهوى
…
فيومي ندىُّ الأُفْق. . . رطب الجوانب
وليلىَ أنغام، وخمرٌ وفتنةً
…
وسُمَّار صدقٍ. . كالأماني الكواذب!
فعُدْنَ كأنَّ الكأسَ دمعٌ شربتُه
…
وأنَّ صدى الألحان صرخةُ نادب
على مهجتي، ماضٍ عدتْني ظلالُه
…
وضار حصيداً بين فأسٍ وحاطب
حنينٌ كدَفْق الموج يسري بخاطري
…
فمن نازعٍ منه عنيفٍ، وسارب!
وأصبحتُ كالطير الغريب مفزَّعاً
…
على فننٍ باكي العشيَّات، ناحبِ
فيا منهلاً عذباً وردتُ على الصبا
…
أنيقاً كوجهِ الرَّوض تحت السحائب!
سلامٌ على عهدي بواديكَ إنه
…
هو الزَّاد، في عهد النوى. . . والنوائب
ويا غربتي نوحي عليَّ وطرِّبيِ
…
كرجفةِ غابٍ في السَّوافي الحواصب
وهبِّي على عمري، وسوقي زمانهُ
…
وذَرّيهِ في أفق، على السفح غارب
فلا خير في عُمْريْن، ذكرهما أسىً فمن بين مجهول، وآخرَ ذاهبِ
وحسبُك أن تأسى على ما عَرَفْتَهُ
…
وتجْزَعَ من مُستحدث في العواقب
البريد الأدبي
إلى خلفاء جلفر والسندباد!
تلقينا من بريد بيروت هذا الكتاب العجيب ونصه:
حضرة الفاضل مدير مجلة الرسالة الغراء:
في العالم اليوم موجة جارفة نحو المادة التي يتهالك في سبيلها البشر، وتتكالب عليها الجماعات والأفراد في مشارق الأرض ومغاربها.
ومنذ سنوات ونحن نراقب ما جرته الحروب من ويلات وخطوب، فآلمتنا هذه المطامع الدنيوية والرغبات الأرضية التي مازالت تزدحم في صدر الإنسان منذ كان الإنسان حتى الآن، على رغم ما توالى على البشرية من شرائع وأديان.
فنحن أتباع الدكتور داهش بعد أن درسنا هذه الشؤون من جميع نواحيها، ورأينا على أي خبث ولؤم تنطوي روح الإنسان، وبعد أن عقدنا النية على الاتجاه نحو المثل العليا والسير بموجب التعاليم السماوية المنزلة، ولاحظنا صعوبة تطبيقها في المجتمع الموبوء الذي يحيط بنا، وبعد أن شاهدنا من الناس اضطهاداً رهيباً لمنعنا من نشر أفكارنا الحقة واعتناق مذهبنا بحرية، فقد وطدنا النية على مغادرة لبنان في أول فرصة مواتية، والهجرة إلى جزيرة نائية، نعيش فيها أحراراً ونتمتع فيها بالحق المقدس المعطى لكل إنسان أن يفكر ويدين كما يشاء.
فهل لكم أن ترشدونا على صفحات مجلتكم إلى جزيرة متوسطة الموقع، جيدة المناخ، ذات مياه غزيرة وهواء نقي؟ ولا ريب أن الصحيفة التي ستهدينا قبل سواها إلى مثل هذه الجزيرة نعاهدها منذ الآن بأننا نبقى على اتصال معها، فنوافيها بأهم الأنباء التي تتعلق بكيفية عيشنا هناك وباختباراتنا وبأطرف ما تجود به قرائحنا في تلك الوحدة الوادعة، خصوصاً وبيننا نحن الداهشين أطباء ومحامون وفئة تميل إلى الأدب والشعر والرسم وسائر الفنون الجميلة
فنرجو التلطف بالإجابة على كلمتنا كما أننا نرجو نشرها في مجلتكم الغراء لعل البعض من قرائكم يحبذون فكرتنا ويقررون الانضمام إلينا في السفر، وهذا مما يقلل العقبات التي تعترض تنفيذ هذا التصميم، والسلام عليكم
عن الداهشين
بيروت 14 نيسان 1945
شاهين صليبي
طبيب العيون
نشرنا هذا الكتاب بنصه وفصه كما أراد طبيب العيون الدكتور شاهين صليبي، ثم نسأله: من هذا النبي الجديد؟ وإلى أي إله ينتمي؟ وبأي تنزيل جاء؟ وإلى أي الأمم أرسل؟ لقد سمعنا عن هذا الداهش أنه منوم ماهر فكيف أيقظ هذه الفتنة؟ إن العالم العربي يعاني اليوم مشكلة الوطن اليهودي في البر، فهل تريدون يا دكتور أن تخلقوا للعالم الغربي مشكلة أخرى للوطن الداهشي في البحر؟ إنا على كل حال نود مخلصين أن نستودعكم (نبتون) إلى آخر الدهر! فعسى أن نجد في خلفاء جلفر والسندباد من يدلكم على هذه الجزيرة النائية فتعششوا وتبيضوا وتفرحوا وتصفروا وتنقروا ما شاء لكم هذا الدين الجديد. . . أما مكافأة الرسالة إن وجدتم هذه المملكة عن طريقها فأن يخصها نبيكم (داهش) بما يوحي إليه من ربته الصغير، وأن يطرفها شاعركم (دموس) بما يصدر من شعره عن هذه الجزيرة!
إلى الأستاذ حبيب الزحلاوي
قرأت قصتك الممتعة (الأفعوان) في مجلة المنتدى التي تصدر في بيت المقدس (عدد نيسان 1945) فأسفت أشد الأسف على ما ورد فيها من الغمز الجارح للدكتور بشر فارس، كقولك فيها:(نسمع محاضرة صديقك الدكتور نشر فهارس في مذهب الشعر الرمزي والعقل الرمزي) وقولك: (إن صاحبك الدكتور فهارس السربوني سيتكلم عن الرمزية. وستضحك منه مع من سيصفرون له من المستمعين كما ضحكنا وسخرنا من شعره المهلهل وقصصه الرمزية الملتوية) وقولك أيضاً: (كما يقال مثلاً دكتور بيطري. ودكتور في الشعر الرمزي. ودكتور نشر فهارس) الخ
إن قصة الأفعوان لا يتصل بحثها بما بينك وبين الدكتور. بشر فارس من الخصومة الأدبية في كثير ولا قليل، وقد أقحمت أسمه فيها إقحاماً لا يرضى به الأدب رسالة الفن السامي،
فلا يصح أن يكون وسيلة تعين على تنشيط الغرائز غير المهذبة في الإنسان؛ فعمل الناقد في الأدب كعمل الطبيب الجراح، يعمل مبضعه في الجسم العليل بمقدار، غير مدفوع إلى ذلك بعوامل الانتقام من المريض، بل بدوافع الرحمة وتخفيف الآلام.
وفي الأدب الحديث نزعة خطيرة تلزم القائمين على توجيه المجلات الأدبية في العالم العربي، بمحاربة تلك النزعة، ذلك أن القراء يريدون أن يقف الناقد الفني إلى جانب الأديب المنتج في حلبة صراع لا رحمة فيه ولا هوادة، وهم يقهقهون ويغمزون ويلمزون.
وثمة نزعة أخرى لا تقل في خطرها على الأولى؛ ذلك أن الناقد الفني ينسى أو يتناسى أن عمله الأدبي لا يقل خطورة عن الأثر الأدبي الذي يتحدث عنه إلى قرائه، فلا ينبغي له أن يسمح لفنه أن يهبط إلى مستوى المهاترات الكلامية والتراشق بالألفاظ غير المهذبة.
إننا من المعجبين بأدبك أيها الأستاذ فنرجو أن ينصرف عملك كله إلى الفن الخالص. عفا الله عنك. وسدد في المستقبل خطاك. والسلام عليك ورحمة الله.
(فلسطين)
شريف القبج
دكتور في الفلسفة
إلى مؤلف كتاب (التصوير الفني في القرآن)
كتابك جوهرة في الكتب
…
كشفتَ عن الذكر فيه الحجبْ
وثبتَ به وثبةً للعلا
…
سواك إلى مثلها لم يثب
بلغتَ به منزل الخالدين
…
في ذكريات لسان العرب
حللتَ به عقدةً حيرت
…
عقول القدامى طوال الحقب
لِسحر يحسونه في القلوب
…
وما يعرفون له من سبب
أقاموا حيارى على بابه
…
قنوعاً بنشوتهم والطرب
حيارى. . . ولكنهم مهتدون
…
بفيض سنا منه لا يحتجب
إلى أن أتيت بمفتاحه
…
فصاحوا على الفوز: هذا عجب!
أجِدَّك ننشد مفتاحه
…
دهوراً؟ ومفتاحه عن كثب!
تبارك منزل قرآنه
…
على سيد البشر المنتخب
تلألأ معجزة في الدهور
…
تدول - وما إن يدول - الشهب!
به نالت الفخر أم اللغا
…
ت عزت وعز بنوها النُّجب!
لغات الورى من رديء النحاس
…
إذا الضاد شبهتها بالذهب
(المنصورة)
علي أحمد باكثير
في جامعة فاروق
أقام نادي فاروق لطلبة الجامعة يوم الأربعاء الماضي 18 أبريل مهرجاناً للشعر اشترك فيه أبناء الجامعة الشعراء، وقد خصصت جوائز أدبية لأحسن القصائد، وكان المحكمون الأساتذة: الدكتور أحمد زكي أبو شادي، وصديق شيبوب، وأحمد عبد الهادي
وقد اشترك في هذا المهرجان من كلية الآداب الأستاذ حسن ظاظا المدرس بالكلية، والطلبة والطالبات الشعراء والشواعر: فاطمة علي حسن، وكمال نشأت، وحميد عبد الجليل، ونفوسة زكريا، ومحمد العشماوي؛ ومن كلية الحقوق: سالم حقي، وحسين البشبيشي، وعبد العزيز خاطر.
وبعد أن ألقى المتسابقون قصائدهم أنشد الأساتذة: خليل شيبوب، وحسن ظاظا، وأحمد أبو شادي، بعضاً من أشعارهم
وأنا لنرجو أن يكون هذا المهرجان الشعري فاتحة عهد زاهر للشعر في الثغر، ولا سيما بعد وجود جامعة فاروق التي نرجو أن تكون باعثة على إحياء نهضة ثقافية كبيرة في الإسكندرية
إنصاف فهمي
كلية الآداب بالإسكندرية
القصص
المارسلييز
للقصصي الروسي ليوفيداندرييف
ترجمة الأستاذ شكري محمد عياد
كان نكرة؛ له روح أرنب واستسلام دابة. وعندما رماه القدر بسخريته اللئيمة بين صفوفنا السود، ضحكنا كالمجانين حين فكرنا أن مثل هذه الأخطاء الشنيعة الفاحشة ترتكب حقاً. أما هو فقد بكى. وما رأيت قط رجلاً تهمي من عينيه الدموع بهذا اليسر والوفرة. كانت تسيل من عينيه وأنفه وفمه، كان أشبه بإسفنجة غمست في الماء ثم اعتصرت. ولقد رأيت في صفوفنا رجالاً يبكون، ولكن دموعهم كانت ناراً تجفل منها الوحوش الضارية. كانت تلك الدموع الجبارة تسرع بالوجوه إلى الهرم ولكنها ترد العيون شابة من جديد. كانت أشبه باللابة المنطقة من أحشاء الأرض الملتهبة، تترك على سطح الأرض آثار الحريق، وتدفن تحتها مدناً بأسرها من الخدع الحقيرة والهموم التافهة. أما هذا الفتى حين يبكي لا يحمر أنفه ويبتل منديله؛ ولعله كان يعلق مناديله صفاً لتجف؛ فقد كنت أسائل نفسي أبي له كل تلك المناديل؟
كان طيلة عهد النفي يلجأ إلى ذوي السلطان الحقيقي أو الموهوم، ينحني ويبكي ويحلف أنه برئ، ويتوسل إليهم أن يرحموا شبابه، ويعاهدهم ألا يفتح فاه طوال عمره إلا ضارعاً أو شاكراً. ولكنهم كانوا يضحكون منه كما كنا نفعل، ويسمونه (الخنزير الصغير الحقير)، وينادونه: تعال يا خنزير! فيهرع إليهم خاضعاً، راجياً في كل مرة أن يسمع نبأ عودته إلى وطنه ولكنهم كانوا يهزلون. كانوا يعلمون مثلنا أنه برئ، غير أنهم يظنون إذ يعذبونه أنهم يرهبون غيره من الخنازير الصغيرة، كأن هذه الخنازير الصغيرة في حاجة إلى مزيد من الخور. ولقد يأتي إلينا يدفعه فزع حيواني من الوحدة، ولكن وجوهنا كانت صلبة لا تلين، وكانت مغلقة من دونه، وعبثاً كان يبحث عن المفتاح؛ فإذا حار في أمره دعانا رفاقه وأصدقاءه، ولكنا نهز رؤوسنا ونقول:
- حذار! قد يسمعك أحد!
فلا يخجل الخنزير الصغير أن يلتفت إلى الباب!
أكنا نستطيع عندئذ أن نمنع أنفسنا من الضحك؟ كلا، لقد كنا نضحك بأفواه ألفت الضحك منذ عهد بعيد. ثم يشجع ويهدأ، ويقرب مجلسه منا، ويحدثنا، ويبكي كتبه العزيزة التي خلفها على المنضدة، وأمه واخوته الصغار، الذين لا يدري أأحياء هم أم أهلكهم الروع والأسى.
أبينا قرب النهاية أن نتصل به. ولما بدأ الإضراب عن الطعام أصابه الفزع، فزع مضحك لا سبيل إلى وصفه. وكان من الجلي أن الخنزير الصغير المسكين نهم تلقامة، وكان شديد الخوف من رفاقه ومن السلطات أيضاً. فجعل يهيم بيننا جزعاً، يمسح بمنديله جبينه الذي نضج عليه شيء لا أدري أهو الدمع أم العرق ثم سألني متردداً:
- هل ستضربون طويلاً عن الطعام؟
فأجبته بغلظة:
- سنضرب طويلاً.
- أو لا تأكلون أي شيء خفية؟
فأجبته بجد وكأني أوافقه:
- سترسل إلينا أمهاتنا الفطائر.
فنظر إلي مرتاباً، وأومأ برأسه وذهب وهو يتبهد.
وفي اليوم التالي أجاب وقد أخضر لونه من الجوع فصار كلون الببغاء:
- أيها الرفاق الأعزاء! إني سأصوم معكم.
- فأجبناه بصوت واحد: صم وحدك!
ولقد صام! لم نصدق ذلك كما أنك لن تصدقه. فظننا أنه يأكل بعض الأشياء خفية، وكذلك ظن حراسنا. فلما أصابه تيفوس المجاعة في أخريات الإضراب عززنا أكتافنا وقلنا:
- يا للخنزير الصغير المسكين!
ولكن واحداً منا - ذلك الذي لم يضحك قط - قال واجماً:
- إنه رفيقنا. فلنذهب إليه.
كان يهذي وكان هذيانه المضطرب يثير الإشفاق كما كانت حياته كلها. كان يتكلم عن كتبه
العزيزة، وعن أمه واخوته، كان يطلب حلوى، حلوى باردة كالثلج، حلوى لذيذة. وأقسم أنه برئ، وسأل العفو، ونادى فرنسا وطنه العزيز. ويا لضعف القلب الإنساني! لقد مزق قلوبنا بصيحته: يا عزيزتي فرنسا!
كنا جميعاً في الحجرة وهو راقد يموت. وأسترد وعيه قبل الموت، ورقد صامتاً ضعيفاً، ووقفنا نحن رفاقه صامتين. وسمعناه نحن جميعاً يقول:
- غنوا على المارسلييز حين أموت.
فصحنا وقد انتهبنا مزيج من الفرح والغضب المثار.
- ماذا تقول؟
فردد. غنوا على المارسلييز حين أموت.
ولقد كانت عيناه جافتين للمرة الأولى، ولكننا بكينا، بكينا جميعاً. وكانت دموعنا ملتهبة كالنار التي تجفل منها ضاربات الوحوش.
مات. وغنينا عليه المارسلييز. كنا نغني هذه الأغنية العظيمة - أغنية الحرية - بأصوات ظامئة شابة، والمحيط يرددها متوعداً، وأواذى الموج تحمل إلى وطنه العزيز فرنسا فزعاً شاحباً وأملاً فانياً.
أصبح إلى الأبد شعارنا ذلك النكرة، بجسمه الذي يشبه أرنباً أو دابة، وبروحه الإنساني العظيم! ركوعاً أيها الرفاق والأصدقاء!
كنا نغني! وكانت البنادق مصوبة إلينا، وأقفالها ترن منذرة، وأسنة الحراب موجهة إلى صدورنا تهدد، ولكن الأغنية المتوعدة ظلت تدوي عالياً عالياً، والتابوت الأسود يتأرجح في أكف عماليق.
كنا نغني المارسلييز!
شكري محمد عياد
المسرح والسينما
فلم (قبلة في لبنان)
تأليف الأستاذين: سليمان نجيب بك ويوسف جوهر
إخراج الأستاذ احمد بدر خان - إنتاج شركة اتحاد الفنيين
الموضوع
زوجة شابة من سيدات الطبقة الراقية تسافر وحيدة إلى لبنان، وهناك تلتقي بشاب مصري ويتعارفان ويتفاهمان ويساعد الجو الشاعري على أن تصحو العاطفة في قلبيهما، وتنتهي هذه اليقظة الفاجئة إلى قبلة خاطفة تنبه الزوجة إلى الخطر المحدق بها فتختفي عن عين الفتى وتعجل بالعودة إلى القاهرة من غير أن تحيط أسرتها علماً بهذه العودة، وتفاجئ زوجها يقبل فتاة في بيتها فتثور (طبعاً) ويعلم والد زوجها بما حدث فيسخر هذا الوالد العصري من ابنه الذي لو كان مثل أبيه لما استطاعت زوجته أن تضبطه متلبساً بفعلته. . . ثم يعلم هذا الوالد بما كان بين زوجة ابنه وبين من تعرفت به في لبنان - بعد أن حاول عبثاً حملها على أن تغفر لزوجها خطيئته - فيستغل ما استكشفه من سر العلاقة التي ربطت بين الزوجة الشابة والفتى في لبنان. والصورة التي كانت قد التقطت لهما. فيتهددها بهذا السر فتنزل على إرادته وتعفو عن زوجها من غير أن يعرف الزوج عن خطيئتها شيئاً، ويتلقى الفتى المحب هذا الدرس القاسي فيذهب إلى غير رجعة. . .
هذا ملخص لقصة الفيلم، وقد سبق للفرقة المصرية أن قدمت هذه القصة بالذات وأسمتها (كلنا كده) ودار حولها نقاش وكان مما قيل فيها: أنها تسئ إلى الأخلاق والكرامة بالصورة التي أرادها المؤلف للطبقة الراقية في مصر. ولست أدري لماذا وقع اختيار اتحاد الفنيين على هذه القصة لتكون باكورة إنتاجهم. وإن كنت أدري أن مثل هذه القصة ليست صالحة لتكون فيلماً نظيف الصورة رفيع الفكرة. . .
التمثيل
قام سليمان نجيب بك بدور (محسن باشا) وقد أراد له المؤلف أن يكون والد من الصنف
الذي يفهم (المصرية) على أنها سخرية بالأوضاع واستهانة بالتقاليد فكان له ما أراد، ولهذا لم تنسني لسليمان بك فرصة فنية تقضيه بذل جهد ممتاز. وقام أنور وجدي بدور (سامي بك) وهذا دوره الذي يجيده، وقامت مديحة يسري بدور (فتحية هانم) فأبدعت حقاً وعرفت كيف تجيد التعبير عن احساسات مختلفة في براعة فائقة، وقام محمد فوزي بدور (منير) ويمكن أن نعتبر هذا الدور بداية طيبة إذا اعتبرنا صاحبه وجهاً جديداً، وقد وقفت زينب صدقي وفردوس محمد وهاجر حمدي، وكذلك نجحت النجمة الجديدة ليلى عبدة ودلت على استعداد يؤهلها لأن تكون نجمة لامعة، ووفق أيضاً فؤاد شفيق ومحمد كامل.
الأغاني:
ألف أكثرها أحمد بدر خان فدل على طول باعه في التأليف، ولحنها وغناها محمد فوزي فدل على أنه يمشي في طريق النجاح. وكلها تشهد ببراعته في التلحين والموسيقى التصويرية.
الصوت والإضاءة والديكور:
كان الصوت سيئاً جداً في كثير من المشاهد، وكانت الإضاءة خير ما في الفيلم وكذلك الديكور.
الإخراج:
اضطلع به الأستاذ أحمد بدر خان وهو مخرج شاب له موهبته وثقافته ومقدرته، وقد بذل جهداً كبيراً في الإخراج ولكن تفاهة القصة جعلته كجندي يحارب في غير ميدان.
وبعد:
فإن من الشائع عندنا أن الذين يؤلفون للسينما يسيرون وراء المؤلف الغربي ويأخذون عنه ويقتبسون منه ويحاكونه. ناسين أو متناسين أن لكل بلد جوه ومزاجه وتقاليده. وقد تجلت هذه الظاهرة واضحة في قصة هذا الفيلم. وقد تستساغ مثل هذه القصة في البلاد الغربية لأنها لا تتنافى مع ما ألفوه من عادات وتقاليد، ولكنها في مصر لا يمكن أن تستساغ ولا أن تهضم. . .
. . . كم أتمنى أن تقوم عندنا نهضة فنية صحيحة!! نعم كم أتمنى!!
عبد الفتاح متولي عبن
25