المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 618 - بتاريخ: 07 - 05 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦١٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 618

- بتاريخ: 07 - 05 - 1945

ص: -1

‌نهاية دكتاتورين!

عمرك الله، أهي نهاية دكتاتورين، أم نهاية دولتين، وعبودية أمتين، وعبرة الدهر لمن يسول له الحمق الآدمي أن يطاول الله في سمائه، ويصرف الأقدار في أرضه؟!

سبحانك ربنا ما أبلغ حكمتك وأعدل حكمك! كأنما يقضي عدلك المطلق بين آدم وإبليس في صراع الخير والشر أن ترسل من الجحيم رسلاً للفساد، كنيرون وجنكيز وهتلر، كما أرسلت من الجنة رسلا للصلاح، كموسى وعيسى ومحمد! وإلا فكيف يتصور عقلنا المحدود أن رجلا كسائر الرجال، فيه الخطل والجهل والعجز والهوى، وليس فيه إيمان لوثر، ولا سياسية بسمرك، ولا أدب جوته، ولا فلسفة نيتشة، يستطيع أن يسيطر على ستين مليوناً من الجنس الأوربي الممتاز، وأن يسخرهم اثني عشر عاماً في ابتكار افظع ما يتصور الذهن الجبار المجرم من وسائل الفتك وآلات الدمار، فابتكروا من المهلكات المعجزات ما لو وجهوه إلى الخير لعمرت الأرض، وأنفقوا من الأموال والثمرات ما لو سلطوه على الفقر لسعدت الدنيا. ولو أن هذا الشقي وأحلافه فعلوا ذلك فساعدوا الخير بمبتكرات العلم، وأشاعوا الغنى ببراعات الإنتاج، لكانت رسالتهم أكرم وسيادتهم أعم ومجدهم أخلد؛ ولكنهم لم يهيئوا بطبائعهم لهذا الأمر لحكمه يريدها الله من هذا الكون العجيب الذي يحيا بالموت، ويصلح بالفساد، ويتجدد بالبلى، ويقتات بعضه ببعضه، ويتربص كله بكله!

نعم هلك الطاغيتان موسوليني وهتلر في أسبوع واحد بعد أن ظلا ستة أعوام ينشران الفزع والجوع والموت والخراب والحداد في كل أمة وفي كل آسرة وفي كل نفس، دون أن يعصم الناس من كل أولئك عاصم من دفاع أو ملجأ أو بعاد أو حيدة. ومن سخر الأقدار أن الفوهرر الذي كان يدعو إلى النازية في مشرب من مشارب البيرة في ميونخ، يقتل وهو يدافع في برلين فيهوي على قاعدة مدفع؛ وأن ألدتشي الذي كان يخطب للفاشية على ظهر مدفع في البندقية، يصرع وهو يفر إلى الحدود فيخر على صدر مومس!! والحق أن هاتين الميتتين: ميتة الأسد لزعيم الألمان، وميتة الكلب لزعيم الطليان، هما الخاتمان اللذان صاغتهما الحوادث للزعيمين من معدن الأمتين ليطبعهما التاريخ على وثيقة هذه المجزرة البشرية فيرمز بهما الى نفس كل زعيم وطبيعة كل أمة! وفي المجرمين تفاوت في الطباع يدعو بعضها إلى الإكبار وبعضها إلى الإصغار؛ ولكن اللص الإيطالي الذي يغتالك خفية

ص: 1

بالموسى، لا يختلف في رأي القانون عن اللص الأمريكي الذي يقتلك جهرة بالمسدس؛ وليس في الأجرام تفاضل ولا في الشر خيار.

انبعث هذان المسيخان من ركنين متجاورين من أركان التمدن الحديث، فاستوحيا الشيطان دينين جديدين يجعلان الآخرة للدنيا، والأمة للفرد، والعقل للهوى، والعلم للشر، والحضارة للدمار، والحياة للموت. ثم خرجت هاتان النحلتان من الكهوف والمواخير وانتشرتا في جواء برلين وروما انتشار الظلام المضل والغاز الخانق، فعميت عيون كانت ترى، وغبيت قلوب كانت تفقه. ثم هتكت النازية أستار الدول بالجواسيس، وبلبلت عقائد الناس بالدعاية، واشترت ضمائر الساسة بالمنى، وبثت في دخيلة كل أمة دعاة الهزيمة وسماسرة النفاق يزيفون الوطنية في كل نفس، ويميتون الحمية في كل رأس، حتى تركت القوم تماثيل من غير خلق ولا روح؛ ثم رمت جوانب الأرض وخوافق السماء بالموت الوحي في شتى أشكاله وأهواله، فأصبحت أوروبا الجميلة خليطاً من الأنقاض والأشلاء، ومزيجاً من الدموع والدماء، وانبسط الطغيان المحوري على ممالك كانت بالأمس مسارح للسلطان والمجد، فأصبحت اليوم سجوناً للأحياء وقبوراً للموتى. ثم وقفت الديمقراطية من الدكتاتورية موقف الفريسة المرتاعة تنظر إلى الناب البارز، أو الشهيد الصابر ينتظر هوي الحسام المصلت؛ ولكننا قلنا يومئذ والأمل في النصر كبصيص المنارة الخافت على محيط من اليأس يموج بالظلام والهول: إن الفوز مكفول للديمقراطية، لأنها هي الصحة التي انتهى إليها جسم الإنسانية العليل؛ إما الطغيان والبربرية فهما نكسة المرض؛ والنكسة خلل عارض لا يلبث بحسن علاج الطبيب وصدق إيمان المريض أن يزول. وقد صدق الله هذا القول، فانهارت النازية على نفسها وأهلها انهيار الطود الأشم فلم تدع خنزوانة في رأس طاغية ولا أملاً في صدر طامع.

والدكتاتورية نظام من أنظمة الحكم الشاذ يقتضيه حال ويستوجبه جيل ويستسيغه زمن؛ ولكنه كالعلاج بالسم إذا زاد مقداره قتل. وعيب الدكتاتور الصالح أنه يعرف كيف يبتدئ ولا يعرف كيف ينتهي. إنه عجلة من غير فرملة، يحمل عليها أمته المتلكئة المتخلفة، ثم ينطلق بها انطلاق الطائرة المطاردة لا يلوى على شيء، حتى إذا غلا في السرعة وأوغل في المسير أعياه الوقوف فيضل في مفازة سحيقة، أو يتردى في هاوية عميقة.

ص: 2

والطاغية إذا ركب رأسه تنكر للنصح وتمرد على المشورة. فهو يسكت أقطاب الرأي ليتكلم، ويؤخر أبطال القيادة ليتقدم. والغالب أنه يجيد القول ولكنه يزور، ويحسن العمل ولكنه يطيش. وما زلنا قريب عهد بشقشقة هتلر وثرثرة موسوليني، فقد كانا يقولان القول ولا يصدقان فيه، ويعدان الوعد ولا يبران به؛ لأن الاستبداد بالرأي ينفى التبعة، والاعتداد بالنفس يلغى الرقابة؛ والتبعة والرقابة مزيتا الديمقراطية. ومن ذلك كانت خطب تشرشل وروزفلت وثائق يستشهد بها السياسي ويعتمد عليها المؤرخ. والديمقراطية تنظر إلى الشي من جهاته الست، وتسلك إلى الغاية طرقها المختلفة؛ ولكن الطغيان لا ينظر إلى الشي إلا من الجهة التي تجذبه، ولا يسلك إلى الغاية إلا الطريق التي تعجبه. ثم يحمل الشعب على رأيه ونهجه بالإرهاب المستمر، والتعليم المسموم، والتربية الآلية، والدعاية المغشوشة، فلا يجوز لصوت أن يرتفع بتعريف أو إنكار، ولا ينبغي لأحد أن يقول للقاطرة الرعناء إلى أين تذهبين بالقطار!

الآن، وقد تحطمت النازية بعد أن تحدث بجبروتها سنة الله وقوة الطبيعة، وارتفعت أيدي الأبالسة عن منشأ هذه الرجفة العامة من الأرض، وأخذت غواشي الليل الطويل تتكشف عن فجر السلام المشرق، وأوشكت الإنسانية المكروبة أن تجد نفساً من الرجاء وروحاً من الطمأنينة، وآن لقادة الحديد والنار أن يتركوا الميدان لساسة الرأي والهوى، الآن يجمل بالأقطاب الثلاثة أو الأربعة الذين يقرون اليوم مصا ير الأمم والشعوب أن يتخذوا لهم من أهوال ست سنين موعظة وعبرة. يجمل بهم أن يذكروا وهم حول الموائد الخضر تلك الميادين الحمر فتتمثل لعيونهم تلك القذائف الجهنمية تذرو أجساد الشباب كما تذرو العاصفة غشاء الهشيم! يجمل بهم أن يذكروا وهم ينعمون بالحفلات الساهرة بعد المناقشات الثائرة، تلك الدور الحزينة التي خلت من عائلها الكادح، وفتاها الشابل، وأنسها الأنيس، وعيشها الآمن، فترد على خواطرهم تلك المآسي الدامية التي مثلتها الحرب في كل مكان! نعم يجمل بهؤلاء الأقطاب أن يذ كروا أنهم أنقذوا المدينة هذه المرة أيضاً بأعجوبة. وليست الأعاجيب والمعجزات مما يكشف أو يخترع؛ إنما هي الفرص والمصادفات تسنح أو تبرح كما يشاء القدر. إنهم إذا ذكروا كل أولئك كانوا حريين ألا يقبلوا في مؤتمر الصلح مندوبين عن أصحاب الجلالة: الاستئثار والاستعمار وبسط النفوذ! وإذن يتمتع العالم بسلم طويلة يضمد

ص: 3

فيها جروحه يستأنف بها سيرة.

احمد حسن الزيات

ص: 4

‌دار الترجمة ونهضة مصر الثقافية

للأستاذ سيد قطب

قرأت مقال الأستاذ صاحب الرسالة عن (دار الترجمة) في العدد الأسبق من الرسالة، ذلك الذي يقول فيه:

(والغريب المخجل أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية. فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله، ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العباقرة العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه، ونشرهما على حسابه!)

(فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة؛ فإن لكل أمة مزايا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم؛ والمحاكاة والاحتداء من أقوى العوامل أثراً في الأدب) قرأته فإذا هو (يشخص) موقف المكتبة العربية الراهن من الثقافة العالمية تشخيصاً صادقاً صحيحاً. ولا يكتفي بهذا (التشخيص) بل يصف طريق العلاج، ثم يتجاوزه إلى وصف الدواء فيقول:

(لذلك أرى - ورأيك الأعلى - أن تنشأ دار للترجمة مستقلة عن ديوان الوزارة، يكون لها من جلالة القدر ونباهة الذكر ما للجامعتين، فأنها على اليقين ستكون جامعة شعبية لا تقل عنهما في الخطر والأثر، أو قل: إنهما الميدانان المتقدمان وهي مركز التموين الذي يمدها بالميرة والذخيرة والمدد. ثم يختار لها مائتان من المترجمين النابغين في لغتهم وفي اللغات الأوربية الثلاث، ينقلون الآداب الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً، فلا يدعون علماً من أعلام الأدب والعلم والفن والفلسفة إلا نقلوا كتبه ونشرها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية. (هذه الدار ستنقل إلى العربية كل يوم أربعمائة صفحة مصححة منقحه مهيأة للنشر، قد تكون كتابين أو كتاباً أو جزءاً من كتاب على حسب النظام الذي يوضع لها. فإذا فرغت من ترجمة الموجود فرغت لترجمة المستجد، فلا يكون بين ظهور الكتاب في أوربا وظهوره في مصر إلا ريثما يترجم هنا ويطبع. أما نفقات الدار فلا تزيد على مائة ألف جنيه، وقد تنقص إلى نصف ذلك إذا ساهم فيها الأمراء والأغنياء وجامعة الدول العربية).

ص: 5

لقد استطردت في الاقتباس من كلمة الأستاذ، لأنها واضحة دقيقة وافية، تحيل ذلك الحلم الضخم عيانا منظوراً، وتحول هذا المشروع الكبير حقيقة مستطاعة. استطردت في الاقتباس لهذا، ولسبب آخر يعنيني!

فالواقع أنني استرحت لهذا التفاؤل الذي يشيع في كلمة الأستاذ بعد أن بلا من مصر ما بلا في هذه السنين الطوال. وبعض هذا البلاء كاد يردني أنا الشاب إلى اليأس من كل رجاء!. . . إلى اليأس من تنفيذ أي اقتراح إنشائي يكلف المسئولين تغيير (الروتين) اليومي، والأقدام على المشروعات الضخمة التي لا تسير على مثال سابق، ولا تطرد على وتيرة معروفة. إن (السوابق) هي التي تحدد طريقة العمل واتجاهه في الديوان!

وكثيراً ما ابتلع هذا (الروتين) البغيض شخصيات حية مجددة تملا الدنيا ابتكاراً وتجديداً وهي خارج (القفص الذهبي) حتى إذا آوت إليه لفها الدولاب، وابتلعها الجو العام، وعادت (موظفين). أي آلات تسير سيرة الآلات!

فإذا ظل الرجاء يداعب رجلاً مجربا كالأستاذ الزيات، فذلك شعاع مضى يعشوا إليه أمثالنا من الشبان. وعجيب أن ينبع الأمل من نفوس الشيوخ وأن يتسرب منها إلى نفوس الشبان، في هذا الزمان!

في وقت من الأوقات كان في وزارة المعارف مشروع مهيأ لترجمة (شكسبير) وكان مقرراً أن يسند إلى أديب كبير يوثق بحسن قيامه على هذا العمل الضخم. ثم ماذا؟ ثم تغيرت الظروف السياسية، فطوى المشروع، لأن الرجل الذي اختبر له لا (ينسجم) مع القائمين بالحكم في ذلك الأوان!

وفي وقت من الأوقات كان في وزارة المعارف أديب كبير جم النشاط متعدد الجوانب، وكان للترجمة مشروع يقرب من مشروع الأستاذ الزيات، تقدم به كاتب السطور، وقيل له: إن المشروع موضع النظر والتفكير، ثم صب على الرجل سيل من أعمال (الروتين) فغرق وقته كله، حتى تغيرت الأحوال.

وفي وقت من الأوقات كان على رأس وزارة المعارف وزير يشتغل بالتأليف وبالترجمة أيضاً. وكان المنظور أن يصنع شيئاً في هذا المجال. ولكن عجلة (الروتين) (وتوزيع

ص: 6

الدرجات) قد استغرقت وقته مع المقابلات والوساطات والرجاءات. . .!

وفي كل وقت مثل، وفي كل عهد نموذج. وأسباب التسويف كثيرة، و (القفص الذهبي) لا يسمح بالتحليق والطيران!

لا أريد أن أثبط عزيمة أحد، ولا أن اطفي الآمال في صدر أحد؛ ولكني أحب أن أصارح الأستاذ المتفائل: إنني قليل الرجاء في الدواوين. وإذا أسعدنا القدر في وقت من الأوقات بوزير يقدم على عمل إنشائي كهذا العمل الجليل، فالتقلبات السياسية بالمرصاد. ولا بد للوزير الجديد أن يجدد، وأن يبدل؛ ولا بد أن يجد من كبار المسئولين موافقة إجماعية على التجديد والتبديل، كالتي لقيها سلفه سواء بسواء! أجل لا بد أن ندور في هذه الحلقة المفرغة مادام (الروتين) هو الروتين؛ ما دامت (السوابق) هي التي تحدد الاتجاه؛ ما دامت روح الابتكار محصورة في هذه الحلقة المفرغة على توالي الأجيال. لقد قضينا الآن أكثر من عشرين عاماً منذ حصلنا على نوع من الاستقلال، نغير ونبدل في مناهج التعليم، فلم يتعد التبديل والتغير طوال مدة الدراسة وقصرها وتوزيع المواد المقرة على السنوات الدراسية، وتوزيع الموظفين على المناطق أو حشدهم في الديوان، وتوزيع الدرجات على أساس أقدمية التخرج أو أقدمية التعيين أو أقدمية الدرجة. . . إلى آخر هذه الدورات التي لا تنتهي في الحلقة المفرغة المضروبة! لم نفكر في تغيير النظام المدرسي كله، ولا تجديد عقلية التعليم أو على الأقل تغيير طرق الدراسة. لم نفكر في (النموذج الإنساني) الذي نريد أن نصل إليه بالتلميذ، لنستطيع رسم الوسائل والأدوات. بل لم نؤلف (مكتبة التلميذ). فهل تريد يا سيدي أن نؤلف (مكتبة الأجيال)؟. ألا ما أحلى الآمال!

أما لئن استطاع وزير المعارف الحالي أن يقهر الماضي كله وأن يقتحم العقبات جميعاً، وأن ينفذ اقتراح الأستاذ الزيات فليكونن أكبر ميدان في العاصمة أصغر من أن يتسع لتمثاله الخالد. إنه يكون واضع أسس النهضة وضامن بقائها أجيالا طويلة. إن النهضة الثقافية في مصر مودعة بضعة رءوس كبيرة، ولكنها فانية - مع الأسف - فلئن أودعت بطون الكتب، ليكونن هذا طريقها للخلود، ولتضمن لصاحبها كذلك الخلود. وعندئذ نستطيع أن نحرر برامجنا المدرسية من ثير اللغات الأجنبية في سن مبكرة، ومن مزاحمة هذه اللغات للغة القومية في عهد التكوين. وهي مشكلة تواجه واضعي البرامج عندنا، وتصطدم

ص: 7

بقواعد علم النفس والتربية المقررة. وعندئذ يصبح تعلم اللغات ضرورة لمن تستدعي الضرورات العملية في الحياة أن يتعلموها، وتصبح المكتبة العربية مصدر ثقافة عالمية ككل المكتبات العالية هذا أمل، وأمل كبير. وما علينا أن نرجو في تحقق الآمال؟

سيد قطب

ص: 8

‌إلى حامي الإسلام.

. .

للأستاذ علي الطنطاوي

(جاء في برقيات أمس أن موسوليني قد أسر، ولو كان موسوليني البطل النبيل الذي حارب حتى سقط، لنسينا عداوته وحيينا بطولته، وللبطولة حقها لا يجحده كريم، ولكن موسوليني دعى ظالم، وخصم لئيم، فلذلك وجهنا أليه هذا المقال)

يا من يفتش في الكتب عن العبر! يا من يبحث في خرائب التاريخ، تعالوا: فإن هاهنا عبرة ما في التاريخ أجل منها، وما في الكتب مثلها. تعالوا فشاهدوا واعجبوا واعتبروا. . .

هذا الذي تكبر وانتفخ حتى ما تسعه ثيابه، وما يحتويه جلده. . . هذا الذي تطاول وتعالى حتى ما يجد محلا يرتقى إليه. ولا علا فوق علوه. . . هذا الذي طغى وبغى حتى استلب فراش هيلاسلاسي من تحته، وطرده من بيته. . . هذا الذي تجبر وتتمرد حتى ألقى الشيخ المجاهد الصالح عمر المختار من الطيارة فتلقته الأرض، أرضه وأرض قومه، أشلاء ومزقاً. . . هذا الذي جن من الكبر، وحم حتى صار يهذي في حماه، ويثرثر في جنونه، يقول: أنا حامي الإسلام!

تعالوا انظروا إليه أسيراً ذليلاً، يقاد إلى الموت، بأيدي قومه، قد طار هواء الكبر من جوفه، فأنحني واستخذى وهبط من بعد علاه إلى الحضيض، ونزل من يفاعه إلى القاع، فمن كان يظن أن موسوليني سيكون أسيراً في بلاده يساق إلى المشنقة؟

ألا لا يأمنن بعد اليوم ظالم، ولو مد الله له ومنحه قوة وأعطاه مالا. ولا ييأسن مظلوم ولو ابتلاه الله فقدر عليه الضعف وكتب عليه الفقر. ولا يفتحن فمه ملحد فاجر، فإن لهذا الكون إلها منتقماً جباراً عادلاً، يمهل ولا يهمل، ويمد للظالم فيأخذه أخذ عزيز مقتدر.

يا موسوليني، يا حامي الإسلام هلم احم رأسك غداً من سيف الجلاد. احم اسمك من لعنات التاريخ. احم (عظمتك. . .) من سخرية الأجيال، وهزء القرون الآتيات، فإن للإسلام رباً يحميه، وإن للإسلام يا أيها ألدوتشي. . . ولا دوتشي اليوم! جنداً إن لم يكن لهم (الآن) مثل رصاص جندك الذي لا يقتل، ومدافعهم التي لا تؤذي، وأسطولهم الذي لا يحارب، فإن لهم قلوباً فيها إيمان وسواعد فيها عزم، ونفوساً لا تهاب الموت. ومن يجمع الإيمان والعزم وحب الموت لا يغلبه شيء. وسل إن كنت ناسياً. . . سل عنهم بطاح طرابلس، وبقاع

ص: 9

الريف، وجنات الغوطة، وجبل النار. سل جنود إيطاليا الذين كنت تخطب فيهم خطبك المسرحية. . . تظن أنك صرت بها قيصر ثانياً. . . لقد أجاب عليها شاعرنا حافظ إبراهيم، فقالها كلمة حق وصدق، كلمة قوة ونبل، فاسمعها إن لم تكن سمعتها:

قد ملأنا البر من أشلائهم

فدعوهم يملئوا الدنيا كلاما

نعم لقد امتلأت الدنيا أمس يا دوتشي بالكلام عنك، والهتاف باسمك، باسم موسوليني الأسير الجاني. . . فهنيئاً لك هذه الشهرة وهذا المجد!

يا موسوليني، لقد قوض المسرح، ومزق الستار، وبدا المكنون للعيون، فإذا أنت وجندك كما قال الرافعي فيهم:

يا أمة النحت والتصوير ويحكم

حتى جنودكم الأنصاب والصور

ولقد هدمت الأنصاب، ومزقت الصور. . . وثقبت هذه الكرة المنفوخة بإبرة، فعادت قطعة من جلد ميت. . .

يا من يفتش عن العبر، هذه عبرة فخذوها، وأذيعوها، واصرخوا بها في أذن كل ظالم، عله يسمع ويصيخ، ويتعظ ويعتبر، قبل أن يقضي الله فيه قضاء فيكون عبرة للمعتبرين.

قولوا لهم إن الظلم مرتعه وخيم، وإن دعوات المظلوم سهام مسمومة، إن الدهر دوار، والأيام دولاب، وربما عز غداً الذليل وذل العزيز، وجاءت ساعة الانتقام، وويل يومئذ للظالمين.

ويا أيها المظلومون، فرادى وجماعات، في كل قطر وتحت كل كوكب، اصبروا ولا تقنطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من روحه وكونوا معه، فإن الظالم مهما كبر، فالله أكبر، ومهما طالت يده وعلت، فإن يد الله فوق يده، ومهما ملك من أمر يومه، فإن غده وراء باب مغلق، ومفتاحه عند الله، وما يدري أحد بماذا يطلع عليه غده.

لقد قال هوجو شاعر فرنسا الأكبر لنابليون بطلها الأكبر الذي تجرأ لما ولد له (ملك روما) فقال المستقبل لي: (يا أيها الملك، إنك تستطيع أن تظفر في أوسترلتز، وأن تفتح فيينا، وأن تملك العالم، ولكنك لا تستطيع أن تقول المستقبل لي، لأن المستقبل يا أيها الملك، لله وحده!)

وأنت يا فاتح الحبشة، وغازي طرابلس، أخل الآن بنفسك وابك على خطيئتك، واستعد تلك

ص: 10

الخطب، وفكر في هاتيك الأيام التي كنت تطل فيها من شرفة قصرك، على أولئك الآلاف المؤلفة من الشخوص السود، أبطال الفاشست، فتصرخ فيهم حتى تتمزق حنجرتك، وتتفجر رئتاك، وهم يجيبون بدوي يهتز له ذلك القصر. . . أين هؤلاء الذين أعددتهم ليكونوا عدتك في بنيك على طرابلس؟ أين ذلك الحماس وذلك الدوي؟ مجد بنيته في الهواء فضربته الرياح! يا غازي طرابلس، لقد كانت فرقة المغازية من الطرابلسيين وإخوانهم المسلمين أول فرقة وطئت أرضك، وغزت بلادك، وطاردتك حتى سقطت في الفخ، كما تسقط الضبع الخبيثة التي لا تأكل إلا لحوم الموتى لأنها لا تجرؤ على الأحياء! لا لست الأسد الجريح، ولا النسر المهيض!

فكر في ذلك الشيخ الشهيد الذي ملأ مصرعه كل قلب بغضاً لك، وكل عين دمعاً عليه، لقد انتقم الله له، ولكننا لا نريد أن يفعل بك ما فعلت به لأنا أكرم منك أصلاً وفرعاً، وأنبل خلقاً وطبعاً، ولأن نبينا نهانا عن المثلة، وأمرنا بالرفق حتى بالحيوان فلا نذبحه إلا بشفرة حادة، فاطمئن فقد أحدت لك الشفرة!

يا موسوليني، وما إياك نخاطب. لقد صرت أقل أذل من أن تخاطب؛ ولكن ليعتبر قوم لم يقلوا بعد قلتك، ولم يذلوا ذلتك. يا موسوليني أنا لا نشمت، وما الشماتة سجية فينا، ولكنا تدل على مكان العبرة فيك، حين نلت جزاءك. . . لقد أوكت يداك، ونفخ فوك، فغرقت، فالحمد لله الذي أنقذ الأرض منك أقر بك عيون من ظلمت، وأرانا فيك هذا اليوم الأسود. اللهم أنعمت فزد، فإنها لا تزال الأرض تعج بالظالمين!

القاهرة

علي الطنطاوي

ص: 11

‌صلوات فكر في محاريب الطبيعة!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

أزل وأبد!

لما تعب الناس من الوقوف على عتبة المهد، يقولون لكل قادم: من أين أتيت؟ والوقوف على عتبة اللحد، يقولون لكل ذاهب: إلى أين عزمت؟ ولم يعلموا من الأزل والأبد علماً، انصرفوا حين ذهب عنهم ذهول الطفولة إلى القنطرة والجسر الذي وجدوا أنفسهم فوقه، يتراكضون عليه ويبنون ويتزاحمون ويختصمون، واتخذوا لهم فلسفة هي وعي الحياة المادية فوق هذه القنطرة وحدها، واقتناء التجارب فيها، ومدوا علمهم في تراب الأرض ورحابها، وصار من طبيعة تفكير أكثرهم أنهم لا يسألون عن النبأ العظيم الذي ينبث في السماء والأرض، ويوجه الأفكار المخلصة للسؤال عنه

وأنهم ليمرقون من الدين الموروث لأنهم لم يحسوا حقيقة في الأزل والأبد بأنفسهم، ولم يدر بخواطرهم التفكير في هذا الوجود الغريب الذي ليس من طبيعته أن يكونوا هم منه.

إنهم لا يلتفتون للأزل إلا حين يطرق بابهم مولود قادم فيفرحون ويضحكون له، ولا يتيقظون للأبد إلا حين يودعهم مودع ميت فيبكون عليه.

هم يضحكون للأول لأنه يظهر لهم وينمو ويتفتح (فيقتنونه) ويملكونه كمتاع. . . وهم يبكون على الذاهب لأنه ينتزع منهم ويختفي، ويذكرهم باختفائهم وذهابهم إلى المصير المجهول فيخافون. . . هم لا يتيقظون إلا حين ظهور شيء أو اختفائه. أما استمراره وحركة حياته فلا يسترعيان انتباههم.

مهما فلسف الحسيون الماديون الذين لا يؤمنون بالغيب فيما قبل حياتهم وما بعدها، فإن العقل والطبع لا يقبلان أن يصدر هذا الكائن العظيم من غير مصدر أزلي عظيم، ولا أن يذهب إلى غير مصير أبدي عظيم، لأنه يوقن أن في ضمير الكون كله نسباً عريقاً خالداً!

همسات

هنا همس من عوامل الحياة ودورات الأحداث ودوافع الأرحام وهناك همس من عوامل الموت وسكون الأجداث وعقم الرجام والإنسان بينهما لا يسمع. . . لأنه لا يسمع إلا

ص: 12

بأذنين. . . وهما لا يسمعان إلا ضجيج الطبل ورنين الدينار والكأس أما الهمس النافذ الدائم حاسة أخرى تكاد تكون مفقودة عند الأكثرين. . . الإنسان بين المهد واللحد، بين السرير والنعش، بين القصر والقبر؛ ولا يسأل ما هاته العجائب المتضادة التي ما جاء للحياة إلا ليدركها أو يحار فيها. . .

أحاول بهذه الكلمات أن أضخم هذه الهمسات حتى يسمعها الذين لا يسمعون إلا بالأذان، وأن أشق لها طريقها بين ضجيج الحياة. . . فلقد امتلأت الآذان بالصخب والزئاط والعياط حتى تصدعت الرءوس، وشاقها أن تسمع بعض الألحان الخافتة التي تفتحت عليها آذانها، وهي في مهد الحياة كما يشوق الرجال أن يستعيدوا الألحان والأهازيج التي سكبتها الأمومة في آذانهم. . .

وقد رأيت الآداب والفنون توشك أن تنساها وتجهل أقدارها وتغفلها إغفالا، وشغلت بضجيج الطبول وأشكال الفقاقيع الفانية وأحاديث الأسمار والمخاصمات والمتاجرات في الحطام والشهوات. . .

جامع أزهار

أنا جامع أزهار من حديقة الله. وكثيرون مشغولون بجمع احطابها وأشواكها.

فلا عجب أن أكون متفائلا مبتهجاً نتيجة ما توحيه بهجة الأزهار. . .

ولا عجب أن آخذ منها وجهها الرفيق الباسم الملون بألوان جميلة. والذين أخذوا أنفسهم بجمع احطابها وقشورها وأشواكها لا شك قد ورثوا من ذلك قسوة وعبوساً وعنفاً وتشاؤماً وغفلة عن العناية بنواحي الجمال والفن فيها.

فاللهم اجعل حظي دائماً جمع أسرارها من أزهارها وثمارها وجنبني أشواكها وعبوسها. . .!

قلوب مفتحة وقلوب مغلقة

من الذي له عظمة الله ورحمته ولطفه وجبروته وكبرياؤه، وهو مع ذلك يحتفى بكل مخلوق من رعيته، ويضع عينه عليه ويمنحه ويرشده؟!

إنه يزور ضمير كل إنسان قي جميع الأحيان. . . فالمخلصون له المترقبون لجلاله،

ص: 13

الدائمو الفكر فيه، يفتحون له أبواب ضمائرهم كلما أحسوا نسائم رحمته أو عواصف نقمته! وحينئذ يدخلها سره، ويلقي فيها ما يشاء، ثم يتركهم فترات ليفكروا ويقدروا. . .

والمعرضون عنه الغافلون عن جلاله وعلمه، لا يفتحون له قلوبهم إلا كما يفتح البخيل باب داره. . فلا يحسون قربه ونفاذه إلى ضمائرهم. .

اللياذ والاحتماء

هل نملك ونحن عجزة ضعفاء، غير أن نتعلق بيد الله رب العزة والجبروت قهار السموات والأرض، وصاحب هذه الدار التي أدخلنا إليها وجعل لنا فيها مثل ما لغيرنا، فاعتدى علينا الظلمة أمام ساحة عدله، وهو ينظر القاتل والمقتول؟

هل نملك غير أن نتعلق بهذه اليد القاهرة، نسألها أن تبطش بالذين غيروا ما وضعته، وأفسدوا ما أصلحته، وشوشوا ما سوته، وحرموا الضعاف من برها وعطفها المباح؟!

لقد عجزنا وذهبت حيلتنا! وطمست علينا وجوه السبل لننقذ أنفسنا وننقذ ما فرحنا به من صور المثل العليا ومباهج الحياة! ولم يبق لنا إلا التعلق بيده، نسألها حيلتها ومكرها ليحيق بمكرها ليحيق بمكر أهل السوء!

لا وجوه:

لا وجه يطالعني مما أرى في الطبيعة ولا مما وراءها. . . لا وجه واضح المعالم محدث اللسان مضيء العينين! إنما هي أجسام غير محدودة ولا مشكلة إلا في النبات والحيوان. . . وما عداهما فأهراء من التراب والسحاب والحجارة. . . وأنصاب من الجبال، وأغوار من المياه. . . ثم صمت يكتنف الجميع. . . . . .

أمد نظري إلى عالم التراب فيقف مصدودا لدى عتبات الباب. . وأمده إلى السحاب فيضيع في الضباب. . . وأمده إلى النجوم فيرتد حسيراً، وأمده إلى أغوار الماء فلا يرى إلا خياله. . .

لا وجه إلا وجه الإنسان؛ وهذا قريب حاضر، ولكنه مثلي قاصر. . . ووجه الله، وهذا بعيد جليل لا يستطاع التحديق إليه. . .!

طالما وقفت وقوف العاجز المسجون أطلب أن أرى وجهاً آخر غير وجه الإنسان ليحدثني

ص: 14

عن أسرار الحياة!

عبد المنعم خلاف

ص: 15

‌أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة

للدكتور جواد علي

علق معالي الأستاذ مصطفى باشا عبد الرزاق في كتابه القيم (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) على اسم أبي سعيد أبي الخير، وفي أثناء عرضه لرأي المستشرق (تنمان)، بهذا التعليق:(لم أجد ذكراً فيما بين يدي من مراجع البحث لأبي سعيد أبي الخير، لكن يوجد أبو سعيد احمد بن عيسى الخراز نسبه إلى خرز الجلود من القرب ونحوها من أهل بغداد، وقد ذكره صاحب كتاب (التعرف لمذهب أهل التصوف) وقال السيد مصطفى العروسي في حاشيته على شرح لرسالة القشيرية (هو شيخ الطائفة غير أنه توفي على الأرجح سنة 280 هـ (899م) وذلك يمنع أن يكون المراد بواضع علم التصوف قبل القرون الثاني أو في ثناياه).

ثم استمر معاليه قائلاً: (على أن الأستاذ ما سنيون ذكر في كتابه (مجموعة نصوص لم تنشر متعلقة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام) ص87 أبا سعيد بن أبي الخير المتوفى سنة 440هـ (1048م) وذكر أنه خراساني وأشار إلى أنه كان يتحلل من القيود الدينية وكان ذا صلة بالفيلسوف ابن سينا، وليس أبو سعيد ابن أبي الخير هذا هو المقصود بالضرورة)

ثم ذكر معاليه بعد هذه الفقرة نصوصاً فيمن يصح أن ينسب إليهم التصوف وفيهم اسم أبي سعيد الخراز البغدادي. وحين تحدث المستشرق أبي سعيد تحدث عن تطور التصوف في الإسلام وعن الأفكار الحديثة التي حلت بناديه كفكرة وحدة الوجود ثم ذكر تأثير بعض المتصوفة في التصوف كأبي سعيد أبي الخير في فارس والهند.

وتأثير أبي سعيد في متصوفة فارس تأثير مشهور معروف ولا سيما عند المستشرقين، وسبب ذلك على ما أرى هو أن هذا المتصوف كان في إيران، وكان يكتب في عصره أخذ الفرس فيه يدونون أفكارهم بلغتهم الوطنية، وفي عصر ظهرت فيه حكومات إيرانية أخذت تشجع اللغة الفارسية، فصار صاحبنا يكتب بهذه اللغة بأسلوب سلس جذاب وينظم بها نظماً جديداً على طراز مبتكر فريد، وفضلاً عن ذلك فإنه لم يغادر وطنه على ما هو معروف عنه. ومع ذلك فإن الكتب العربية تحدث عنه كمتصوف عظيم ونعتته (بشيخ الوقت ومقدم شيوخ الصوفية وأهل المعرفة في وقته)

ص: 16

وأما قول معاليه حكاية عن رأي تنمان: (ثم جاء التصوف فعرض لهذا العلم المؤلف من اصطلاحات خاوية وانضم إليه خصوصاً عند فرقة القائلين بوحدة الوجود من أهل التصوف الذي وضعه قبل القرن الثاني أو في ثناياه أبو سعيد أبو الخير، ولا تزال تلك الفرقة منتشرة في فارس والهند) ففيه التباس على ما أعتقد نتج إما عن خطا في الأصل وقع فيه المستشرق - وهو حكم لا أستطيع أن أجزم به لعدم وجود كتاب المستشرق لدى في الوقت الحاضر - وإما عن صعوبة في العبارة ووهم في الترجمة أو الاختصار إذ لا يوجد شخص آخر في تاريخ التصوف بهذا الاسم وبهذه الصفات ظهر أثره في فارس واتهم بالتحليل من قيود الدين بالقول بوحدة الوجود غير هذا الشخص الذي نتحدث عنه الآن والذي عاش في النصف الأول من القرن الخامس للهجرة، لا قبل القرن الثاني أو في ثناياه كما جاء في الكتاب.

والمستشرقون من ذوي التخصص في موضوع التصوف حين يتحدثون عن المتصوفة يتحدثون عن أبي سعيد كمثل بارز من أمثلة المتحررين والقائلين بوحدة الوجود. وكتب التصوف الفارسية تعتبره أمة بنفسه في عالم التصوف، صاحب مدرسة ورأي. ومن البديهي أن يكون الشخص الذي بحث عنه تنمان هو هذا الشخص الذي ذكره سائر المستشرقين وكتاب العرب والفرس

وأبو سعيد بن أبي الخير الذي تحدث عنه المستشرق، والذي نتحدث عنه الآن، هو شخصية مشهورة جداً وقد بحث عنه المستشرق المعروف إتى في رسالته التي وضعها في عام 1878 للميلاد، والمستشرق إلروسي زوكوفسكي ناشر كتاب (أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد) ثم المستشرق الثقة في موضوع التصوف الإسلامي الإنكليزي (نيكلسون)، والمستشرق (إدوارد براون) في كتابه القيم (تاريخ الأدب الفارسي). وهو أبو سعيد فضل الله بن أبي الخير ولد في غرة المحرم من عام 357 للهجرة (7 ديسمبر 967م) في ميهنه وهي مدينة من إقليم خابران بخراسان وتوفي في 4 شعبان من عام 440 للهجرة (12 يناير من عام 1049 للميلاد)، وكان أبوه عطاراً، ولكنه كان فناناً موهوباً محبوباً من السلطان محمود الغزنوي ملك غزنة.

يقول فريد الدين عطار: رسم أبو الخير والد أبي سعيد على جدران بيته صورة بديعة

ص: 17

للسلطان محمود الغزنوي وهو في وسط معركة حامية الوطيس تحف به فيلته وجنوده على طريقة الهنود في المعارك، فلما أبصر ابنه أبو سعيد هذه الصورة وهو طفل يافع نقش على جدران البيت أسماء الله الحسنى فلم يترك مكاناً إلا كتب عليه اسم الله العظيم. فلما رأى ذلك والده امتعض كثيراً ووبخه على عمله الذي سبب تسويد الجدران وتشويه منظرها. فما كان من الطفل إلا أن أجاب:(نقشت يا والدي على الجدار اسم سلطانك، ونقشت أنا اسم سلطاني)

فخجل الوالد من هذا الجواب وأمر بإزالة معالم ما رسمه هو على الجدار.

درس أبو سعيد، على طريقته ذلك الوقت، النحو والفقه والتفسير والحديث والشعر وعلم الطريقة، وحفظ من شعر العرب وحده ثلاثين ألف بيت ناهيك بشعر العجم. ولما توسم أبوه فيه الخير أخذه إلى أكبر شيخ في بلده وهو الشيخ أبو القاسم الكركاني من كبار المتصوفة وأصحاب الطرق ليتبرك به ولينال على يديه العلم والفوز والسعادة.

كانت الأحوال السياسية والاجتماعية في هذا العصر سيئة جداً: أمراء يتذابحون على جيف الدنيا، وسلاطين يتقاتلون على ملك زائل لن يدوم، ومشايخ يتحاسدون على نعمة لا تساوي شيئاً،

وانحطاط في الخلق إلى أقصى حد، ونقص في المثل الإسلامية العليا، وشذوذ في الطبع غريب، وتكالب غلى المادة. فرأى الناس أن المخرج الوحيد للخروج من هذا المأزق هو محاربة المادة عن طريق التصوف، ومجاهدة الدنيا عن طريق الزهد. فنفقت سوق المتصوفة وراجت بضاعتها. ويجب ألا ننسى بأننا في بلد فيه استعداد لهذا المبدأ قديم، والهند وهي عش من أعشاش التصوف تجاوره وقد أمدته وغذته بهذه المادة منذ العصور التي سبقت الإسلام.

وكانت العادة أن ينتقل طالب العلم في ذلك الوقت من مكان إلى مكان طلباً للعلم وبحثاً عن شيخ شهير. وفي ذات يوم وبينما كان الغلام يغادر المدرسة إلى البيت إذا بأحد الفضوليين من المارة يسأله عما درس وعن الكتاب الذي درس فيه، وأخيراً عن (ماهية الحقيقة) ولما لم يكن أبو سعيد يعرف شيئاً عن ماهية الحقيقة تشوش واضطرب، فأجيب:(حقيقة العلم ما كشف عن السرائر) فأثار هذا الجواب في نفسه شوقاً عظيماً إلى معرفة الحقيقة ولم يزل

ص: 18

يبحث عنها حتى وجدها في أروقة الزهاد والمتصوفين. اتصل وهو يمرو بالفقيه الشافعي أبي عبد الله الحصري، ثم تحول إلى أبي القفال، والظاهر أن دراسة الفقه لم تجد في نفسه هوى ومكانة فانتقل إلى (سرخس) وهناك اتصل بصوفي مجذوب هو لقمان السرخسي، وقد أرشده هذا الصوفي إلى صوفي آخر هو (أبو الفضل حسن) تلميذ أبي نصر السراج على طريقة الجنيد البغدادي المتوفى عام 297 للهجرة وعام 909 للميلاد.

أتقن أبو سعيد مبادئ التصوف واجتاز الامتحانات النفسية الشاقة ونال (الخرقة من أبي عبد الرحمن السلمي النيسابوري (المتوفى عام 412 للهجرة) وأصبح درويشاً من الدراويش من أهل المسلك والذوق وقطباً من أقطاب التصوف في منطقة خراسان.

والتصوف في نظر أبي سعيد أبي الخير هو (طرح النفس في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والنظر إلى الله بالكلية)

وبعد سياحة في البراري والقفار على طريقة الفقراء دامت سبع سنوات لم يبال خلالها بحر أو ببرد عاد أبو سعيد إلى مخالطة الناس ومجالستهم، ونال خرقة ثانية من أبي العباس القصاب بمدينة (آمل) إلى أن حل أخيراً بنيسابور.

بلغ أبو سعيد منزلة عالية جداً في التصوف، والتف حوله جم غفير من المريدين رأوا في سيرته سيرة الرجل الزاهد الصالح الذي وصل إلى مرتبة الجد والفناء. فكانوا يتبركون به ويتهالكون عليه. والسعيد منهم من حصل على قطرة ماء من ماء وضوئه ليتبرك بها. حكى أنه سقطت منه قطعة من قشر البطيخ (الرقي) فهالك أصحابه عليها واشتراها أحدهم بعشرين ديناراً. وأبو سعيد كسائر كبار المتصوفة من أصحاب الحس المرهف والخيال ، فنان موهوب بطبعه، حلو الحديث، سلس العبارة، كان على رأي أكثر المتصوفة الفرس في مذهب الحلول ووحدة الوجود بل كان من متطرفي أصحاب هذا الذهب في هذه العقيدة. وقد سما خياله في هذا الباب حتى على خيال بايزيد البسطامي (المتوفى عام 261 للهجرة) والحلاج. وقد تحلل في كثير من أقواله عن القيود المألوفة، لم يجسد في ذلك حرجاً ولا غضاضة. والأنبياء وعددهم (124) ألف نبي كلهم في الدرجة سواء جاءوا لتحقيق شيء واحد هو (معرفة الله) ولكن متى تمت هذه المعرفة عرف الإنسان كل شيء وسقط عنه كل شيء وتساوي لديه كل شيء.

ص: 19

والشريعة هي ظاهر المعرفة، لذلك فهي لا توصل إلى المعرفة لأنها ظاهر الحق جاءت لمن لا يعرف الحق ولم يؤت العلم الصحيح. والسبيل الوحيد الذي يسلك بنا إلى المعرفة هو مسلك (الطريقة) وذلك لا يتم طبعاً إلا بعد جهد جهيد يصل الإنسان في نهايته إلى إدراك (الحقيقة) ثم إلى (النهاية) التي هي فوق (الحقيقة) وهي (المعرفة) التي لا يمكن إدراكها إلا بعد إدراك (علم اليقين).

ومتى خصص الإنسان كل قواه وحصر كل حواسه في الوجود الحقيقي بحيث اتصل به اتصالاً كلياً أدرك عندئذ (عين اليقين). ومتى وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من المعرفة اتصل اتصالاً مباشراً (بالمعرفة) التي تشع بنورها على القلوب وتتجلى عندئذ أسرار النبوات وحقائق الكتب المنزلة قلا حاجة إلى نبوة أو وسيط (لأنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسل) وحيث أن القليل من الناس من يصل إلى هذه المرتبة احتاج الناس إلى الأنبياء والوسطاء ليكونوا سفراء بين الحق والناس.

البقية في العدد القادم

الدكتور جواد علي

ص: 20

‌من تاريخ الأدب الفرنسي

بوفون وحديثه عن الأسلوب

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

(بقية ما نشر في العد الماضي)

ولاشيء كذلك أيضاً يضاد الفصاحة الحقة إلا استخدام هذه الخواطر الضعيفة والبحث عن الأفكار السطحية المنحلة التي لا صلابة فيها، والتي تشبه أوراقاً معدنية مطروقة لا تنال اللمعان إلا بفقدان الصلابة، وكلما أفرغنا من هذه الروح الضعيفة اللامعة في مؤلف قل نصيبه من القوة والوضوح والحرارة والأسلوب، إلا إذا كانت هذه الروح هي الغرض من الموضوع، ولم يكن للكاتب هدف إلا الفكاهة. إن فن الحديث عن الأشياء الصغيرة ربما كان أصعب من الحديث عن الأمور العظيمة.

لاشيء أكثر مضادة للطبيعة السليمة إلا التعب الذي يتكلف للتعبير عن أشياء عادية أو شائعة بطريقة شاذة أو مبهرجة، ولا شيء ينزل الكاتب عن درجته أكثر من ذلك؛ ففضلاً عن عدم الإعجاب به يلام لأنه قضى وقتاً طويلاً في تركيب مقاطع جديدة لأجل ألا يقول إلا ما يقوله كل الناس. هذا عيب النفوس المتعلمة العقيم، فلديها كلمات كثيرة، ولا أفكار عندها. مجال عملها إذا الكلمات، وتتخيل أنها كونت فكراً ما دامت قد رصت جملاً. وأنها قد نقت اللغة في حين أنها قد أتلفتها بتغير معناها هؤلاء الكتاب ليس لهم أسلوب، أو - إن شئت أن تقول - ليس لهم منه سوى الظل. إن الأسلوب يجب أن ينقش بالأفكار، وهم لا يعرفون إلا أن يرسموا ألفاظاً.

للكتابة الجيدة إذاً يجب امتلاك ناصية الموضوع امتلاكاً تاماً، والتفكير فيه تفكيراً كافياً حتى يرى الكاتب بوضوح نظام عناصره، ويكونها متتابعة، ويجعل منها سلسلة متصلة فيها كل نقطة تمثل فكرة، وعندما يأخذ القلم يجب أن يعالج الموضوع يالتوالي مبتدئاً بالنقطة الأولى من غير أن يسمح له بتركها، أو أن يعنى بالعناصر عناية غير متساوية، أو أن يضع عنصراً في مكان غير مكانه المحدد له والذي يجب أن يشغله. بهذا تبدو صراحة الأسلوب، وذلك أيضاً هو الذي يجعل منه وحدة، وينظم سرعته، وهو فقط ما يكفي لأن يجعل

ص: 21

الأسلوب دقيقا بسيطا متساوياً، واضحاً، حياً، متتابعاً.

إذا ضم إلى هذه القاعدة الأولى التي يكفل تحقيقها الموهبة - الرقة، والذوق، والدقة في اختيار التعبيرات، والعناية بألا تسمى الأشياء إلا بأكثر الأسماء عمومية حاز الأسلوب نبلاً، وإذا ضم إلى ذلك أيضاً الاحتراس من أول انفعال والاحتقار لكل ما ليس فيه سوى البريق والنفور الدائم من الإبهام والسخرية، نال الأسلوب رصانة وجلالاً أيضاً. وأخيراً إذا كتب الإنسان كما يفكر، وإذا كان مقتنعاً بما يريد أن يقنع به سواه، أنتج هذا الاقتناع الذي يرتاح إليه الغير، وصدق الأسلوب - كل آثارهما على شريطه ألا يعبر عن هذا الاقتناع الداخلي بعبارات حماسية قوية، وأن يكون دائماً، التحرز أكثر من الثقة، والتعقل أكثر من التحمس.

هكذا، أيها السادة، يبدو لي وأنا أقرؤكم أنكم حدثتموني وعلمتموني: وإن روحي التي تلقت بشراهة إلهامات الحكمة هذه رغبت في القفز والارتقاء إليكم؛ وما أضيعها من جهود. إن القواعد، كما قلتم أيضاً، لن تحل محل الموهبة، فهي إذا فقدت أصبحت القواعد غير مجدية. فالكتابة الجيدة هي التفكير الجيد والشعور الصادق والإبانة الممتازة مجتمعة معاً، هي أن يجتمع للمرء ذكاء وإحساس وذوق. وإن الأسلوب يتطلب اجتماع القوى العقلية وتمرينها. والأفكار وحدها تكون روح الأسلوب، وتناسق الكلمات ليس إلا تابعاً، ولا يتعلق إلا بحساسية الأعضاء. ويكفي أن تكون لك أذن دقيقة نوعا ما لتتجنب تنافر الكلم، ويكفي أن تمرنها وتكملها بقراءة الشعراء والخطباء، لتندفع بدون وعي إلى تقليد التناسق الشعري والأسلوب الخطابي، لكن التقليد لم يخلق شيئاً، وتلاؤم الكلمات أيضاً ليس أساس الأسلوب، ولا قوته، وكثيراً ما يوجد في مؤلفات خالية من الأفكار.

متانة الأسلوب ليست إلا ملاءمته لطبيعة الموضوع، ولا يصح أن تنال قسراً، بل يتولد تولداً طبيعياً من معنى الموضوع نفسه، وترتبط غالباً باستخدام العبارات العامة التي تجذب إليها الأفكار. وإذا كان من المستطاع الارتفاع إلى أعظم الأفكار عمومية، وإذا كان الموضوع في نفسه عظيماً، ارتفعت النغمة إلى المستوى نفسه. وإذا قدمت الموهبة ما يكفي لأن يوضح كل غرض وضوحاً تاماً مع احتفاظ النغمة بهذا المستوى؛ وإذا أمكن أن نضيف جمال التلوين إلى قوة الصورة، وفي كلمة واحدة، إذا كان من المستطاع أن نبرز كل فكرة في صورة حية محددة تحديداً تاماً، وأن نكون من سلسلة الأفكار لوحة متسقة، حية - لم

ص: 22

تكن قوة الأسلوب رفيعة فحسب، بل غاية السمو.

هنا، أيها السادة، يكون التطبيق أفضل من القاعدة، والأمثلة تفيد أكثر من النظريات، ولكن بما أنه لا يسمح لي أن أذكر القطع السامية التي كثيراً ما أثرت في لدى قراءة مؤلفاتكم أجد نفسي مضطراً إلى الوقوف عند حد التأملات. إن المؤلفات الجيدة الكتابة هي وحدها فقط التي تنتقل إلى الخلف، وإن كمية المعارف، وطرافة الأعمال بل وجدة المكشوفات ليست ضمانات كافية للخلود. وإذا كانت الكتب التي تحويها لا تتحدث إلا عن أغراض تافهة، أو إذا كانت مكتوبة بلا ذوق ولا سمو ولا موهبة، فسوف تبيد؛ لأن المعارف والموضوعات والمكشوفات تسرق بسهولة وتنتقل، بل وتكتب أيضاً بأيد أكثر مهارة. إن هذه الأشياء خارجة عن الرجل، أما الأسلوب فالرجل نفسه وإذا فالأسلوب لا يستطاع سرقته ولا نقله ولا تحريفه، فإذا كان رفيعاً نبيلاً ساميا صار المؤلف أيضاً موضعاً للإعجاب في كل زمان لأنه لا شيء يبقى ويخلد سوى الحقيقة، وإذا فالأسلوب الجميل لم يكن كذلك إلا بما يبرزه من عدد لا يفنى للحقائق، وكل المحاسن العقلية التي به، وكل التفصيلات التي يتكون منها حقائق بمقدار نفعها، وقد تكون أغلى عند النفس الإنسانية من هذه الحقائق التي تستطيع أن تكون أساس الموضوع

إن السمو لا يستطيع أن يوجد إلا في الموضوعات العظيمة. والشعر والتاريخ، الفلسفة، لها كلها موضوع واحد عظيم هو الإنسان والطبيعة؛ فالفلسفة تصف وتصور الطبيعة؛ والشعر يصورها ويزخرفها، ويصور الناس أيضاً ويمجدهم ويبالغ في أوصافهم، ويخلق الأبطال والآلهة. والتاريخ لا يصور إلا الناس ويصورهم كما هم؛ وهكذا نغمة المؤلف لا تصير سامية إلا عندما يضع صور أعاظم الرجال، وعندما يعرض أعظم الأعمال وأعظم الحركات، وأعظم الثورات. وفيما عدا ذلك يقاسي عناء أن يكون جافاً عابساً، ونغمة الفيلسوف تسمو في كل حين يتحدث فيه عن قوانين الطبيعة، والمخلوقات بوجه عام، وعن المكان، والمادة، والحركة، والزمن، والروح والنفس الإنسانية والعواطف والانفعالات؛ وفيما عدا ذلك يقاسي عناء أن يكون فخما عاليا. ولكن نغمة الخطيب والشاعر، متى كان الموضوع عظيماً، يجب أن تكون سامية دائماً؛ لأنهم السادة الذين يجمعون إلى سمو موضوعهم سمو التصوير والحركة والتخييل الذي يسرهم، ولأن من الواجب عليهم أن

ص: 23

يصوروا الموضوعات ويفخموها - يجب أيضاً في كل حين أن يستخدموا كل قواهم وأن ينشروا ما تستطيعه عبقريتهم.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بحلوان الثانوية للبنين

ص: 24

‌القضايا الكبرى في الإسلام

14 -

قتل سعيد ابن جبير

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

إذا أردنا أن نصل إلى ما يرضي العدل والإنصاف في هذه القضية الكبيرة، وجب أن يسير البحث فيها بقطع النظر عن شخصية المقتول وشخصية القاتل، لأنا إذا نظرنا إلى شخصية المقتول فسنجد أنه كما قال فيه خصيف: من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، بالحلال والحرام طاووس، بالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبير، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير. وسنجد أيضاً أنه كان كما قال فيه أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه.

وإذا نظرنا إلى شخصية القاتل وهو الحجاج بن يوسف الثقفي، فسنجد الناس يكادون يجمعون على أنه كان ظالماً جباراً، وقد قال ابن خلكان: كان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها، ويقال إن زياداً أراد يتشبه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسيات، إلا أنه أسرف وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر

وقد نظر الناس إلى هذه القضية متأثرين بشخصية سعيد وشخصية الحجاج فلم يوفقوا كل التوفيق فيها من الناحية القضائية، ولم يصلوا إلى حكم يرضى القضاء كل الرضا، ولا يتأثر بعاطفة الحب والكره، وإذا خالفناهم في ذلك فسنصل إلى حكم في هذه القضية يرضي كل منصف من الناس، لأنه يراعي فيه كل وقائع القضية من ناحية الحجاج وسعيد، ويبين تبعة كل منهما في هذه الوقائع.

اضطرب أمر المسلمين بعد قتل عثمان رضي الله عنه اضطراباً كبيراً، فوقعوا في فتن شديدة كادت تقضي على الإسلام في مهده لولا أن الله كان يهيئ لهم فترة من الاجتماع بعد التفرق، فيمضي الإسلام ظافراً في فترة الاجتماع وينظر العقلاء إلى ظفره فيرضيهم ويجعلهم يغمضون أعينهم على ما في حكمهم من قذى حذراً من التفرق وما يجلبهم على الإسلام من أكبر الضرر، وقد جاء الإسلام بجواز ارتكاب أخف الضررين، وكانوا مع هذا يرضون الله بالنصح الرفيق، والبعد عن الاشتراك في ذلك الحكم، وكان من هذا الفريق

ص: 25

الحسن البصري رضى الله عنه، وهو سيد التابعين وأكبر علماء عصره قدراً، فكان يبتعد عن وظائف الحكم منكراً له في الصمت، ولا يقصر في توجيه النصح الرفيق للحكام، وقد شكا إليه الحجاج ما يجده في مرض موته فقال له: قد كنت نهيتك أن تتعرض إلى الصالحين فلججت. فقال له الحجاج: يا حسن، لا أسلك أن تسأل الله أن يفرج عني، ولكن أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي، ولا يطيل عذابي. فبكى الحسن بكاء شديداً!

أما سعيد بن جبير فأنه لم يبتعد عن وظائف هذا الحكم، فكان في أول أمره كاتباً لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم كتب لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وقد ولاه الحجاج القضاء فضج أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي. وكان سعيد مولى لبني والبة بن الحارث، وهم بطن من بني أسد بن خزيمة، فاستقضى الحجاج أبا بردة بن موسى الأشعري، وأمره ألا يقطع أمراً دون سعيد بن جبير، ثم جعله في سماره وكلهم من رؤوس العرب، وكان الحجاج يعرفه من عهد ولايته على الحجاز، وقد أعطاه في أول ما رآه مائة ألف درهم يفرقها في أهل الحاجة، ولم يسأله عن شيء منها.

وفي سنة ثمانين من الهجرة جهز الحجاج جيشاً لغزو رتبيل ملك الترك، وولى عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وجعل سعيد بن جبير على عطاء الجند، وكان الحجاج يبغض عبد الرحمن ويقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. وقد سمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم، فأخبر عبد الرحمن به، فقال: والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه. وكان عبد الرحمن ينتمي إلى ملوك كنده، فيعتز بنفسه ولا يخضع للحجاج كغيره، وكان يبطن التشيع لعلي (ع) كغيره من أهل الكوفة، فأراد الحجاج أن يرسله في تلك الغزوة النائية ليتخلص منه ويشغله بالجهاد وكان قد غزا رتبيل قبله عبيد الله أبي بكرة في جيش كثيف فهلك في تلك البلاد فسار عبد الرحمن حتى وصل إلى بلاد رتبيل فأوغل فيها، وفتح كثيراً من حصونها، فلما حاز من أرضه أرضاً عظيمة، وملأ يده من الغنائم، حبس الناس عن الوغول في تلك الأرض وقال لهم: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجييها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل ننتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، في أقصى بلادهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.

ص: 26

ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، بهذا الرأي الذي رآه لهم، فلما أتى كتابه إلى الحجاج كتب جوابه: كتابك كتاب أمريء يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم وإلا فأن إسحاق بن محمد أخاك أمير الناس، فحله وما وليته. فكبر ذلك على عبد الرحمن، ثم جمع الناس إليه ودعاهم إلى الخروج على الحجاج فأسرعوا إلى إجابته، وكان أكثرهم من أهل العراق الذين يضمرون البغض لبني مروان، ولم يقتصروا على خلع الحجاج، بل خلعوا بعده عبد الملك بن مروان، ونادوا بعبد الرحمن أميراً عليهم وانقلبوا في يوم وليلة يذكرون ظلم الحجاج، وظلم عبد الملك بن مروان، وكانت بيعتهم لعبد الرحمن: تبايعون على كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعهم، وجهاد المحلين، فإذا قالوا نعم بايع. ثم صالح رتبيل على أنه إن ظهر على الحجاج فلا خراج عليه أبداً ما بقي، وإن هزم فأراده الجأه عنده، وكان سعيد بن جبير فيمن خرج مع عبد الرحمن وبايعه.

ولاشك من ينظر إلى هذه الوقائع يجد أن عبد الرحمن لم يخرج على الحجاج غضباً لله تعالى، وإنما خرج غاضباً لنفسه حين كتب إليه الحجاج يرميه بالعجز والضعف، ويولي مكانه أخاه إسحاق ابن محمد، وقد دفعه الغرور بنفسه إلى هذا الخروج وهو ليس بأهل لما نصب نفسه له من الإمارة على المسلمين، وقد كان يوجد من الصحابة والتابعين في عصره من لا يذكر بجانبهم، ومع ذلك آثروا السكون للمصلحة، ورأوا أن الإسلام في حاجة إلى فترة من الهدوء بعد تلك الفتن، ولقد أساء عبد الرحمن إلى الإسلام حين صالح رتبيل ذلك الصلح الشائن، وعمد إلى السيف الذي كان يجب أن يصوبه إليه فصوبه إلى رقاب المسلمين، وأعادها فتنة عمياء كتلك الفتن التي لا يزال الإسلام يجني آثارها إلى اليوم، ولكن الغلطة غلطة الحجاج حين يولي عبد الرحمن هذه الإمارة وهو لا يثق به، ويعرف أنه لا يخلص لأهل دولته، وقد نصحه إسماعيل بن الأشعث فقال له: لا تبعه، فوالله ما وصل جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطاناً، وأني أخاف خلافه. فقال الحجاج: ليس هناك، هولي أهيب، وفيَّ أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي.

وكان على سعيد بن جبير أن يعرف كل هذا، وان يذكر كل ما كان بينه وبين الحجاج، وألا

ص: 27

يجر نفسه وراء أطماع عبد الرحمن في الإمارة والملك، وهو رجل عالم صالح لا أطماع له في مثل ما يطمع فيه، ولا يليق به أن يستخدمه مثله في أغراضه، وما كان أجدره أن يبعد عن الحجاج كما بعد عنه إخوانه من العلماء، وأن يترفع عن وظائفه وأمواله كما ترفعوا عنها، حتى لا يكون له حجة عليه في يوم من الأيام، ولا يؤاخذه بها إذا لم يقم بواجب الإخلاص له عليها وقد جرت حروب شديدة بين الحجاج وعبد الرحمن، ذهبت فيها دماء غزيرة من المسلمين، ولو أنها وجهت إلى رتبيل لاستفاد منها الإسلام، وانتفع منها المسلمون، ثم انتهت هذه الحروب بانتصار الحجاج؛ ففر عبد الرحمن إلى رتبيل يطلب أمانه على ما كان بينهما من الصلح، وهرب سعيد يتنقل في البلاد إلى أن قصد مكة، فكان هو وأناس أمثاله يستخفون فلا يخبرون أحد أسمائهم، فلما ولى خالد بن عبد الله القسري مكة قبض عليهم وأرسلهم إلى الحجاج، وكان لا يعفو عمن خرج مع عبد الرحمن إلا إذا قال له: أتشهد أن قد كفرت؟ فإذا قال نعم عفا عنه وإلا قتله، وهو يرى في ذلك أن من يخرج على الإمام يكون كافرا، لأنه ورد في بعض الأحاديث أن من مات ولا بيعة في عنقه مات ميتة جاهلية، وقد أخطأ الحجاج فهم ذلك الحديث، لأن معناه أنه يموت على مثل ما كان الناس عليه في جاهليتهم، إذ لم يكن لهم إمام يجمع كلمتهم وليس معناه أنه يكون كافراً مثلهم. وكانت مواقف حرجة قتل فيها كثير من العلماء الذين كبر عليهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر، وكان لبعضهم لباقة أنقذته من ذلك الموقف الحرج، كما فعل الشعبي وقد أشار عليه إخوانه ونصحاؤه أن يعتذر أمام الحجاج ما استطاع من عذر فلما دخل عليه رأى غير ما ذكروا له، فسلم عليه بالإمرة وقال: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق، قد والله مردنا عليك وحرضنا وجهدنا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا. فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولاً ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي فانصرف.

ولم يكن لسعيد بن جبير مثل لباقة الشعبي، بل اضطرب أمره حين وقف أمام الحجاج، ولم يلتزم طريقاً واحدا ينفعه في هذا الموقف الحرج، مع أن الحجاج قد لوح له بأنه يجب أن

ص: 28

يعفو عنه، فإنه حين رآه قال: لعن الله ابن النصرانية - يعني خالداً - أما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو في بمكة. ثم أقبل عليه فقال له: يا سعيد، ألم أشركك في إمارتي؟ ألم افعل؟ ألم أستعملك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: إنما أنا بشر يخطئ مرة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره ثم عاوده في شئ فقال له: إنما كانت بيعة في عنقي. فغضب الحجاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال بلى. قال: ثم قدمت الكوفة والياً على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانياً؟ قال بلى قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك بن الحائك، والله لأقتلنك. قال: إني إذن لسعيد كما سمتني أمي. فأمر به فضربت عنقه وإياه عني جرير بقوله:

يا رُبَّ ناكثِ بيعتين تَركتَه

وخضابُ لحيته دَمُ الأوداج

وقد كان على سعيد وقد اعترف على نفسه بالخطأ في خروجه على الحجاج أن يمضي في ذلك حتى يحقن دمه، وقد قال الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وما كان له بعد هذا. أن يعتذر ببيعته لعبد الرحمن، لأنه قد اعترف بخطئه فيها، ولا معنى بعد هذا للاعتذار بها.

وإذا كان سعيد قد أخطأ تلك الأخطاء في هذه القضية، فإن خطأه في أنه لم يتورع عن ذلك الحكم الجائر كما تورع غيره من العلماء، وفي أنه أخطأ الطريق في إنكاره فغلا فيه ووضع يده في يد من لم يكن مخلصاً في إنكاره، ولعله أراد بذلك أن يكفر عن عدم تورعه عنه في أول أمره، ولكن تلك الأخطاء بالغة ما بلغت لا تبلغ خطأ الظلم نفسه، فكان على الحجاج أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب سعيداً، وان يعرف أن ظلمه هو الذي أوقع سعيداً وغيره فيما وقعوا فيه، ولو أنه فعل ذلك لأراح نفسه وأراح الناس جميعاً

عبد المتعال الصعيدي

ص: 29

‌الأسرة والمجتمع

للدكتور علي عبد الواحد وافي

أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول

للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد من سعة الاطلاع، ورجاحة الفكر، والتمكن من ناصية البيان، ما يتيح له علاج أي موضوع من موضوعات الآداب والعلوم علاج الإحصائي الأريب، ويسمو ببحوثه في نباهة الشأن، والمعية التحقيق إلى منزلة منقطعة النظير. وقد تجلت خصائصه هذه جميعاً في مقاله القيم بعدد الرسالة السابق عن كتابي (الأسرة والمجتمع) الذي ظهر أخيراً في مؤلفات (الجمعية الفلسفية المصرية).

غير أنني - إذ أبدي كبير إعجابي بكلمته الممتعة عن هذا الكتاب، وأقدم إليه جزيل الشكر لما وجهه إلى الكتاب وصاحبه من عبارات الإطراء والمديح، وبذله في دراسة مسائله من عناية مشكورة، ولما أبداه بصدد من ملاحظات قيمة تنم على دقة التأمل وعمق التفكير - أرى من الخير أن ألقي نظرة على بعض ما ورد في ملاحظاته من أمور تحتاج إلى مزيد من التوضيح.

فمن ذلك ما ذكره الأستاذ بصدد تماسك أجزاء الكتاب، وذلك إذ يقول: (ويظهر أن الكتاب قد ألف في أوقات متفرقة. أو كتب بعض فصوله بمعزل عن البعض الآخر، فتكررت فيه العبارات بمعنى واحد، وورد بعض الأسماء بألقاب مختلفة.

ولكنه على هذا مطرد السياق، متتابع الفصول، يتمم اللاحق منه ما سبقه من الأجزاء، وينتقل فيه القارئ من تمهيد، إلى مقدمة إلى نتيجة بغير انقطاع).

ولا أدري كيف تتوافر هذه الصفات الأخيرة في كتاب، ثم يُظن مع ذلك أن بعض فصوله قد كتبت بمعزل عن بعضها الآخر، أو أنه قد ألف في أوقات متفرقة؟! أما تكرار بعض العبارات في مواطن مختلفة من هذا الكتاب، فقد تعمدته تعمداً، ورأيت أن تماسك أجزاء المؤلف لا يستقيم بدونه. وذلك أنني قد عمدت إلى هذا التكرار في موضعين يظهر كليهما القصد وشدة المحافظة على ربط الأقسام بعضها ببعض.

أحدهما أنني قد ذكرت في المقدمة الحقائق الأساسية، أو (الفكرة التي سأعني باستخلاصها من بحثي لظواهر الأسرة. ثم كررت في الخاتمة هذه الحقائق نفسها، أو هذه

ص: 30

(الفكرة)، بعباراتها المذكورة في المقدمة بعد أن كشفت لي دراستي للموضوع عن صحتها، ومهدت لي سبيل استخلاصها. وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحافظة على اطراد السياق وربط أجزاء الموضوع بعضها ببعض، ويصل إليه الحرص على اتفاق نتيجة الدليل مع نفس القضية التي جعلت موضوعاً للاستدلال. وقد كان لي في منهج علماء الرياضة أسوة حسنة في هذا السبيل. فقد جرت عادة الرياضيين في علاجهم لنظرياتهم أن يعرضوا أولاً نص النظرية التي يريدون دراستها، ثم يأخذون في الاستدلال على صحتها، حتى يصلوا إلى نتيجة تتفق في عباراتها اتفاقاً تاماً مع نفس هذا النص.

والموضوع الثاني الذي تعمدت فيه التكرار لشدة المحافظة على ربط أجزاء الكتاب بعضها ببعض يلاحقه القارئ في عرض طائفة من النظريات التي قال بها علماء الاجتماع. وذلك أن بعض هذه النظريات تشتمل على حقيقتين أو على حقائق كثيرة يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، ولكنها تتصل بموضوعات عرضت لها في عدة فصول من الكتاب؛ فاضطررت حيال كل نظرية من هذا النوع إلى تكرارها كاملة في فصلين أو أكثر مع عنايتي في كل فصل بالناحية التي تهم موضوعه منها وذلك كنظرية (ماك لينان) التي يذهب فيها إلى أن نظام قتل الأولاد في الأمم البدائية قد أدى إلى تحريم التزاوج بين الأقرباء وإلى اصطناع طريقة السبي في الزواج. فلما كان موضوع المحارم قد عرضت له في القسم الأول من الفصل الثاني وموضوع السبي قد عرضت له في القسم الثالث من هذا الفصل، وكانت نظرية (ماك لينان) تتصل بكلا القسمين، وتتوقف عناصرها بعضها على بعض اضطررت إلى تكرارها فيهما، مع اقتصاري في كل قسم على مناقشتها من الناحية التي تهم موضوعه.

وأما ورود بعض الأسماء في كتابي بألقاب مختلفة، فلا أرى في ذلك موضعاً للمؤاخذة متى كانت هذه الألقاب صحيحة، كما لا أرى فيه دليلاً على ما ظهر للأستاذ العقاد. فقد ذكرت (فريزر) مرة بلقب العلامة، ومرة بلقب العلامة الإنكليزي، ومرة بلقب الأستاذ، وجميع هذه الألقاب صحيحة لأن فريزر أستاذ علامة إنجليزي. وفعلت مثل ذلك بصدد مرجان ووستر مارك وباخوفين ودور كليم وماك لينان. . . وغيرهم ممن ورد ذكرهم في عدة مواطن من الكتاب. وقد يكون بعض الألقاب مقصوداً استعماله بالذات في مواطن ما لغرض يدل عليه

ص: 31

سياق الحديث، وقد يكون غير مقصود. ولكن أمراً عاديا كهذا لا يدل على أي حال، على أن الكتاب قد ألف في أوقات متفرقة أو كتب بعض فصوله بمعزل عن البعض الآخر، كما يذهب إلى ذلك الأستاذ العقاد. وان الواحد منا ليكتب خطاباً إلى صديق فيتحدث فيه عن شخص ثالث مرة بلقب الصديق، وأخرى بلقب الأخ، وثالثه بلقب الأستاذ، ورابعة بلقب الدكتور. . .، بدون أن يكون في ذلك دليل على أن الخطاب قد كتبت بعض أجزائه بمعزل عن البعض الآخر. وأكبر الظن ان الأستاذ العقاد نفسه لو كان قد ذكر اسمي في مقاله أكثر من مرة لتعددت ألقابي لديه عن قصد وعن غير قصد.

ومن ذلك أيضاً ما ذكره الأستاذ بصدد خلاصة الكتاب إذ يقول: (وخلاصة الكتاب كله أن الأسرة نظام اجتماعي لا طبيعي، كما جاء ففي الفصل الثالث. . .)

وحقيقة الأمر أن خلاصة الكتاب، كما بينت ذلك بصراحة في مقدمته وفي فصله الأخير، تشتمل على ثلاث حقائق: إحداها الحقيقة التي أشار إليها الأستاذ العقاد؛ وثانيهما (أن نظم الأسرة ليست من صنع الأفراد، ولا هي خاضعة في تطورها لما يريده لها القادة والمشرعون. وإنما تنبعث من لقاء نفسها عن العقل الجمعي واتجاهاته، وتخلقها طبيعة الاجتماع وظروف الحياة، وتتطور وفق نواميس عمرانية ثابتة، وأن القادة والمشرعين ليسوا في هذه الناحية وغيرها إلا مسجلين لاتجاهات مجتمعاتهم ومترجمين عن رغباتها وما هيئت له. فإن انحرفوا في تشريعهم عن هذا السبيل كان نصيبهم الإخفاق المبين)؛ - وثالثه هذه الحقائق (أن نظام السرة في أمة ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعتقدات هذه الأمة وتقاليدها وتاريخها وعرفها الخلقي وما تسير عليه من نظم في شؤون السياسة والاقتصاد والتربية والقضاء، وما تمتاز به شخصيتها الجمعية، ويكتنفها من ظروف في شتى فروع الحياة، وأنه في طريق تطوره يسير منسجماً مع هذه الأمور. فشأنه معها شأن جهاز مع بقية أجهزة الجسم الحي. يسير في أداء وظائفه ومناهج تطوره على طريق ينسجم مع طريق الأجهزة الأخرى؛ ولا يستقيم أمره وأمر الجسم الذي يحل فيه إلا إذا سار على هذا السبيل. فإن لم يراع القادة والمشرعون هذه الحقيقة في علاج النظام العائلي جاء إصلاحهم عنصراً غربياً في حياة الأمة، تتجرعه الجماعة تجرعاً ولا تكاد تسيغه، وتتظافر نظمها الأخرى على مطاردته ودفعه، ولا تنفك تطارده وتدفعه حتى تجهز عليه، فيصبح أثراً بعد

ص: 32

عين، كجرثومة ضعيفة تنفذ إلى جسم منيع).

ولا تقل الحقيقتان الأخيرتان أهمية في نظري عن الحقيقة الأولى، بل إنهما لتزيدان عنها أهمية من الناحيتين العلمية والإصلاحية كما أنني لم أعن بواحدة منها أكثر من عنايتي بما عداها. ولا يظهر في الكتاب أي أثر لترجيح بعضها على بعض.

ومن ذلك أيضاً أنني ذكرت في الفصل الأخير من الكتاب لتأييد الحقيقة الأولى المشار إليها فيما سبق، أثني عشر دليلاً متماسكاً مترابطة يشد بعضها بعضاً، وتقضي في مجموعها على كل منفذ يتسرب منه الشك إلى هذه الحقيقة. وقد استخلصت هذه الأدلة استخلاصاً من دراستي لموضوع الأسرة، وذكرتها تحت أرقام مسلسلة، ولكن الأستاذ العقاد قد اقتصر على نقل فقرة واحدة من الدليل الأول وحده، وذكر هذه الفقرة في صورة يتبادر منها إلى ذهن القارئ أن هذا هو كل ما اعتمدت عليه. ثم ناقشها ورأى إنها لا تنهض حجة على تأييد النظرية التي أزيد تأييدها، وبني على معظم ما ذكره في مقاله.

وغني عن البيان أن بنياناً يقوم على اثنتي عشرة دعامة يأخذ بعضها بحُجَز بعض، ويشد بعضها بعضاً، يبدو ضعيفاً واهياً إذا لم يبق من دعائمه هذه إلا جزء من دعامة واحدة، ولا يحتاج هدمه في هذه الحالة إلى كبير عناء؛ وإن حكما بناء القاضي على اثني عشر سبباً تدل عند ضمها بعضها إلى بعض على صحة ما جاء به، ليبدو حكماً فطيراً ضعيفاً إذا لم ينشر من أسبابه هذه إلا فقرة من سبب واحد.

فلو أن الأستاذ العقاد قد ذكر جميع الأدلة التي أوردتها أو لخصتها لاتضح وجه الحق فيما أذهب إليه. بل لو أنه ذكر الدليل الأول وحده كاملاً لظهرت النظرية في شيء من قوتها.

أما النظرية التي ذهب إليها الأستاذ العقاد بصدد الدعائم التي يقوم عليها نظام الأسرة، وهي النظرية التي عارض بها نظريتي والأدلة التي أعتمد عليها لتأييد هذه النظرية فتحتاج مناقشة هذا كله إلى مقال طويل نرجئه إلى عدد قادم إن شاء الله، مع تكرار شكرنا للأستاذ الجليل لما قدمه إلينا من فضل، وما أتاحه لنا من فرصة للتحدث في هذا الموضوع الهام على صفحات الرسالة الغراء.

علي عبد الواحد وافي

دكتور في الآداب من جامعة باريس

ص: 33

‌فلاسفة المجتمع

ذوات الطنين. . .

للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي

وخلا الذباب بها فليس ببارح

غرداً كفعل الشارب المترنم

هزجِاً يحك ذراعه بذراعه

قدح المكب على الزناد الأجذم

ولم أكد انتهى من إنشاد صاحبي شعر العبسي، حتى تقلص وانفرد، وقد ارتعشت شفتاه، وانفسحت بينهما مسافة مخيفة، انطلقت منها هذه الكلمات تتخلج ولا تتحرج: يأخي، جنبني شر شعرك هذا! فما عدت أومن بما للشعر من قيم وأقدار؛ قلت: أو يؤمن الشعر بمن لا يعرف أواصره وأنسابه؟

قال: أتريد أن تبرأ من هذا الشعر وفيه جودة التصوير والصدق. . . وصاحبي هذا نسيت أن أقدمه لقارئيه، حتى يطمئنوا إلى ما يجري على لسانه من حديث وجدل. . . فهو قد انبعث إلى أوربا بضاعة مزجاة، ثم ردت بضاعتنا إلينا مهوشة مضطربة ككل بضاعة وافدة من هناك، تنكر الفصحى وتتهم ثقافتها، وتعيش بمعزل عن كل ما يقرأ أو يكتب من الميمنة إلى الميسرة، والمعجب والطريف من أمره أن يده اليمنى معطلة، فهو مع شماله دائماً، قارئاً وكاتباً. . . فصاحبي رجل - أعور العقل واليد - ورحم الله الرافعي. . . قلت له: لن أبرأ من هذا الشعر وان كان للعبسي. . . فقد حدثتك نفسك، وهي ذكية، لولا ما يكتنفها من (كثافتك). حدثتك أن جواً خاصاً أعيش فيه يتنفس بهذا الشعر. . . والزمن مهما تراخى، لا بد واصل بوشائج وصلات، بين مظاهر الحياة ومفاتن المجتمع. . . كان ثمت للعبسي روضة وذباب. . . أفتتن بهما، وأفتن في تصويرهما. . . وقد أحتفظ نقدة الأدب ومؤرخوه بهذه الروعة المائلة في هذين البيتين، وظلت تتحدر من قمة الزمن، حتى ترسبت في سفح هذا الجيل، نابضة بالصدق، مزدانة بالتصوير. . .

روضة واحدة كان يغشاها العبسي غردة بذبابها، مخضلة بنداها. أما أنا وأنت يا صاحبي، فأينما اتجهنا، فرياض نواحة بذبابها (الأصيل) مخصوبة بلعابه السام. . . وذباب واحد كان يستهوي العبسي بنشيده الموقع المحبوب، في ضحوة الصبح وصفرة الأصيل. . .

وتسمع للذباب إذا تغنى

كتغريد الحمام على الغصون

ص: 35

ذباب يترشف ألحانه من كؤوس الزهر البليلة المشرقة في مطالع الربيع ومجالي الطبيعة، كما يحدث أبو النجم عن روضته الأنف التي تعل ذبابها من أكاليل الزهر وريحانه

أُنفٌ ترى ذبابها تعللهْ

من زهر الروض الذي يكللهْ

أما أنا وأنت يا صاحبي، فقذى أعيننا مواكب الذباب الأصيل يستثيرنا بطنينه الملح الموصول في غدونا ورواحنا. . . ذباب يصوغ أصواته من دم الأخلاق الهزيلة الضالة، ولا ينشط إلا في عتمة الليل ومتاهات الظلام حيث ترهف الآذان، وتنحط معاني الحيوان. . . ولا تثقل عليك فلسفتي هذه يا صاحبي، فقد ذكر الجاحظ:

(إن للذباب وقتاً يهيج لأكل الناس وعضهم وشرب دمائهم، وإنما يعرض هذا الذباب في البيوت عند قرب أيامها، فإن هلاكها يكون بعد ذلك وشيكاً)

قال صاحبي: بقى جانب غامض في موقفك من هذه المخلوقات المتواضعة الصغيرة أرجو أن تجلوه لي: لم ترصد أجواء هذه الحشرات عدا عليها أنفاسها؟ أتنطوي عوالمها على أسرار ومعجزات؟ قلت: ولست بمحص لك أسرارها، فهي وحدها بمزاجها ودقة تكوينها سر هذه الأسرار، ثم في تأملها اعترف بقدرة خالقها، ورياضة للنفوس الزارية بها، ولعل الجاحظ أيضاً يريحك فيمنحك ثقة بها تباعد بينها وبين احتقارك لها. . .

أوصيك أيها المستمع المصيخ، ألا تحقر شيئاً أبداً لصغر جثته. وإياك أن تسئ الظن بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق ولتفاوت التركيب، ولأنه مشنوء في العين. . .

. . . ولعلك يا صاحبي تصدق أن الذباب لم يكن في أيام العبسي إلا ذباب الربيع الباكر البهيج، لا تكتحل العين به إلا في موسم وميعاد

وأما في أيامك، فهو كل ما تلقاه حيث أنت، عاكفاً بالليل، أو سارباً بالنهار.

كان في الزمن الأول يقتات نوافح الزهر، حيث لا يضطرب المجتمع بغير نوازع الحب والكبرياء الدافعة إلى خوض المضاجع والدماء، أسمعت العبسي ينشد:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

هذا. . . كان مشغلة لفن الشعراء، في قمة الزمن الأول. . . كبرياء الحب الصحيح مجلبه لاشتباك الأسنة والسيوف، عمل النفوس في النفوس صفاء، ووفاء، ودماء

ص: 36

أما في (مستنقع) زمنك الأخير يا صاحبي، فمشغلة الكاتبين لجاجة الذباب. . كما سماها أستاذك الجاحظ فقد أصابه منها شر متطاير وثاب، ستأتيك قصته في خاتمة الحديث

استقرت لجاجة هذا الذباب الذي أصبحت تعرفه معي، على أوضاع تواثم دواعي الأيام، حيث يصطرع مجتمعه بأعاصير التعاطف الرخيص العاصف بالنفوس الذليلة، والضمائر العليلة، فأطعمه المجتمع شرائح الأعراض، فأمتصها غرداً كفعل الشارب المترنم ثم نفثها، طاقة ومجهوداً؛ فاستشرت الأدواء في الأصحاء. . . قتل وتجريح وإيذاء!!. .

قال صاحبي: الهذا آثرت الغافية. . ونجوت؟ قلت: ولمساخر أخرى يحجزني عن التصريح بها أنك رجل وقذك الورع، وأسقمتك التقوى، وتلك التي لم تستطع أوربا أن تبتزها منك!! وحسبك أن شيئاً وأشياء - تزيد على ما أصاب أستاذك الجاحظ - نالني من شر هذه المخلوقات، فألفيتني أعدوا وأجد؛ وقد سلبني (الذباب) راحة البال واطمئنان الخاطر، وقد يئست من استنقاذهما منه، ضعف الطالب والمطلوب! وظلت أعدو حتى انتهى الشوط

أأجد يا صاحبي ظلا وأمنا في هذا المكان؟ حيث لا للشر على الخير سلطان. . .

قال قل لي ما كان من أمر الجاحظ حين خرج يريد دير الربيع، فتلقاه الأندلسي قائلاً: مالك يا أبا عثمان؟ هل من حادثة؟

قلت يا صاحبي: هذه قصة تطول. . . فافرغ لي من شغل غدك، اكمل لك ما كان شأن أبي عثمان. . قال: وحينذاك أفتيك عن مصيرك في هذا المكان. .

أحمد عبد المجيد الغزالي

ص: 37

‌المصطلحات العلمية والمجمع اللغوي

للدكتور أحمد فؤاد الأهواني

كنت مع الأستاذ العقاد فاختلفنا على لفظ (الوعي الباطن) أو (اللاشعور) والاصطلاح في اللغة الإنجليزي وفي الفرنسية قلت له ماذا تعني بالوعي؟ قال الوعي من الوعاء فتكون النفس أشبه بالوعاء الذي يحتوي الأحوال النفسية قلت له هذا رأي من الآراء في تعريف الشعور أو الوعي، وهناك رأي آخر لا يجعل الشعور كالوعاء الذي يحتوي الأحوال النفسية، ظاهرة كانت أم باطنة، بل يجعل الشعور كالمرآة التي تنعكس عليها الأحوال النفسية؛ فإذا كان الأمر كذلك فاستعمال لفظ اللاشعور أصح من استعمال الوعي الباطن.

واتفقنا على أن اصطلاح (العقل الباطن) الذي شاع استعماله في مصر وقتاً طويلاً، ليس اصطلاحاً ملائماً. فنحن إذن أمام ثلاثة مصطلحات: الوعي الباطن، واللاشعور، والعقل الباطن؛ فأيها نأخذ؟ وأيها صحيح؟ ومن يستطيع الحكم على صحة هذه المصطلحات وملاءمتها لمقتضى العلم، ومطابقتها لروح اللغة؟

مهما يكن من شيء فنحن في حاجة إلى اتفاق على المصطلحات العلمية في شتى أنواع العلوم التي تقدمت تقدماً عظيماً، ونريد أن ننقلها إلى اللغة العربية. فنحن في عصر النقل أو الترجمة. وأهمية الاتفاق على المصطلحات واضحة، إذ يمتنع اللبس وتقل البلبلة والاضطراب، ويستقيم الفهم عند المطلعين، ويسهل عليهم معرفة المقضود إذا كانوا على علم بالغات الأجنبية التي نأخذ عنها.

هذا الخلاف يزيد أمره وتتسع شقته بما يجري عليه علماء الأقطار الشقيقة من ترجمة تختلف عما يجري عليه العلماء في مصر ولو أن كل قطر من الأقطار العربية استقل بوضع المصطلحات العلمية، لا تنشر في اللغة العربية بعد زمن وجيز عدة ألفاظ للمعنى الواحد، فنبتعد بذلك عن روح الوحدة العربية أو الجامعة العربية التي نعمل على تحقيقها.

ونضرب لذلك مثلاً بما جاء في كتاب (المنطق) للأستاذ جميل صليبا، عضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وهو كتاب كبير فيه أبحاث جليلة، ولا يقلل من قيمة الكتاب ما نأخذه عليه من نقد. وصاحب الكتاب يذكر الاصطلاح العربي وإلى جانبه ومعناه بالإفرنجية. وهذا مما

ص: 38

يسهل للقارئ خصوصاً المطلع على اللغات الأجنبية معرفة المعنى المقصود.

في ص10 علم قاعدي وقد درجنا في مصر على تسمية هذه العلوم بالعلوم المعيارية، كالمنطق والأخلاق وعلم الجمال، وهي تسمية مأخوذة عن العرب، وللغزالي كتاب أسمه (معيار العلم) يقصد به المنطق.

في ص 11 ميتودولوجيا أو علم الأصول وفي ص 55جعل عنوان الكتاب الثاني (المنطق التطبيقي أو علم الأصول). والميتودولوجيا نسبة إلى (الميتود) أي المنهج، ولهذا كانت التسمية التي اصطلحنا عليها وهي (مناهج البحث) أليق من (علم الأصول) خصوصاً وأن المسلمين يطلقون علم الأصول على أصول الدين أو أصول الفقه، وعندهم أن فلاناً عالم بالأصلين، يريدون الفقه والدين

وفي ص 15، (المعاني أو المفاهيم هي أبسط أجزاء التفكير المنطقي، لأنها العناصر الأولى التي تتركب منها الأحكام والأقيسة) وهذه القضية عليها خلاف، لأن الرأي الحديث بعد كانت الفيلسوف يجعل الأحكام هي ابسط أجزاء التفكير، وفي ذلك يقول جملته المشهورة (التفكير هو الحكم ' وليس مجالنا الآن تحقيق هذه المسألة.

وواضح أن المؤلف يجعل (المعنى) مرادفاً (للمفهوم) ولكل منهما دلالة معينة في المنطق. فالمفهوم في اصطلاح المناطقة مجموع الصفات التي يدل عليها اللفظ ولكن الأستاذ جميل صليبا يضع اصطلاحين جديدين للمفهوم والماصدق هما التضمن - والشمول، وكلاهما لا يصلحان للتعبير عن المفهوم والماصدق، كما أننا في غير حاجة إلى ابتكار مصطلحات جديدة إذا كان العرب قد وضعوها واستقرت في الاستعمال.

وكذلك ما يسميه (معاني الحرمان ص19 وفيها يقول (وهي تدل على الإيجاب والسلب معاً، مثل معنى الأعمى فهو لا يقال إلا على الموجودات القادرة على الرؤية) والعرب يسمون هذه الألفاظ (العدم والملكة) فهي ألفاظ عدمية، أي أن صاحبها كان يملك الصفة ثم عدمها، مثل العمى فهو عدم البصر، والصلع عدم الشعر.

ولا نريد أن نتعقب جميع ما ورد في الكتاب من مصطلحات مناقشتها، لأن غرضنا التنبيه على الخلاف الشديد الذي يذهب إليه المؤلفون في تعريب الألفاظ الأجنبية، وهذه فوضى عجيبة لا تبشر بالخير في عالم الثقافة العربية.

ص: 39

وعلاج هذه الحالة ما رآه بعض المفكرين من إنشاء (المجمع اللغوي) الذي يضم قادة الفكر من علماء الأقطار العربية، وبعض المستشرقين، ومن أغراضه وضع المصطلحات العربية للألفاظ الأجنبية المستحدثة التي لم يضع لها العرب ألفاظاً.

وقد مضى على إنشاء المجمع زمن ليس بالقليل، ومع ذلك لا يزال سلطانه ضئيلاً، وآية ذلك أن العلماء يمضون في سبيلهم يضعون ما يعجبهم من اصطلاحات ولا يعترفون بما يفعله المجمع، فما السبب في ذلك؟

يرى الدكتور علي مصطفى مشرفه بك في كتابه (نحن والعلم) أنه ينبغي البدء بالنقل وتشجيع التأليف العلمي لإيجاد المصطلحات قال: (والتأليف العلمي هو الوسيلة الطبيعية لإيجاد هذه المصطلحات في لغتنا. فكل لغة حية إنما تنمو عن طريق التأليف والكتابة. واللغة العلمية وليدة التفكير العلمي، والمصطلحات العلمية في اللغات الأوربية إنما نشأت بهذه الطريقة، ونتجت عن نمو العلم والتأليف. ومن العبث أن يقوم مجمع بفرض المصطلحات على المؤلفين فرضاً، وإنما تأتي مهمة المجامع بعد مهمة المؤلفين لا قبلها، فالمجمع اللغوي يجمع ما ورد في الكتب العلمية من مصطلحات ويدونها ويفسرها.) ص15، 24

فما رأى أعضاء المجمع في هذه الدعوى التي يريد بها صاحبها أن يغلق أبواب المجمع اللغوي؟

ونحن نرى أن المجمع اللغوي بحالته الراهنة لا يستطيع أن يخدم اللغة العربية من جهة المصطلحات العلمية الحديثة، لأنه في واد، والمؤلفين والمترجمين في واد آخر. والواجب أن يتقرب المجمع من الجمهور ومن المشتغلين بشتى فروع العلم، وأن يتصل المؤلفون والمترجمون بالمجمع. وسبيل ذلك ما يأتي:

1 -

إصدار مجلة المجمع بصفة جدية، على أن يكون إصدارها أسبوعياً في صفحات قليلة وتخصص للمصطلحات العلمية فقط؛ وأن تتخذ الصفة التجارية، من حيث الحجم والطباعة والإخراج والثمن والتوزيع، ولا بأس أن يدفع أجر لكل من يراسلها من المؤلفين والمترجمين، كما تفعل جميع المجلات. أما الاعتذار بصعوبة الحصول على الورق فأمر غير مفهوم.

ص: 40

2 -

تصنيف العلوم المختلفة، وهذا رأي يسير بطبيعة الحال، ثم تسجيل جميع المؤلفات العربية في كل علم أو فن، وتسجيل أسماء المؤلفين أو المترجمين مع بيان عنوانهم لسهولة الاتصال بهم.

3 -

أن يخاطب المجمع العلماء والمؤلفين، ويطلب منهم رأيهم دون أن ينتظر منهم أن يخاطبوه هم. فالمجمع في حاجة إلى العلماء قبل أن يكون العلماء في حاجة إلى المجمع. وبذلك يكون المجمع همزة الوصل بين العلماء في شتى الجهات والأقطار، وسبيلاً من سبل التقريب

دكتور

أحمد فؤاد الأهوالي

ص: 41

‌من وراء المنظار

متحمسان. . .!

كنا ذات صباح نحو عشرين رجلاً قد وقفنا واحدا خلف واحد ننتظر في قلق حتى تفتح نافذة تذاكر السفر؟ وأخذ يتزايد عددنا دقيقة بعد أخرى، وكان كل قادم يأخذ مكانه في ذيل هذا الخط الطويل الذي ذكرني بما كنا نفعل ونحن صغار حين كنا نقلد القطار. . .

وكنا جمعياً لا نفتأ ننظر في ساعاتنا وصفير القطر وصوت رحيلها على الأفاريز القريبة يملأ أسماعنا، وحركة المسافرين والحمالين وهم يسرعون في موجب وفي غير موجب تزيدنا قلقاً على قلق، ونشاط، صارفي التذاكر في النوافذ المفتوحة على جانبي نافذتنا الموصدة يلقي في نفوسنا الشك في وجود من يفتحها أو يميل بنا إلى الظن أنه ربما ربكة في حجرته عمل آخر. وكان أكثرنا نظراً في ساعاتهم من كانوا أكثر بعداً عن النافذة؛ على أن القلق قد اشتد بنا جمعياً. حتى أوشك أن يتحول إلى ضجر. . . وأخيراً فتحت النافذة.

أقبل بائع التذاكر على عمله في هدوء تؤدة، بعد أن ألقى نظرة على المنتظرين، وكان مبعث اطمئنانه أنه كفيل ببيع التذاكر جميعاً قبل تحرك القطار بوقت كاف فهو خبير بعمله وقلما داخله ما يداخل المسافرين من قلق.

وأخذ كل منا يخطو خطوة كلما خلا من مقدمة الصف رجل، وبينما نحن على هذا النظام الذي نفعله مقلدين نزلاءنا منذ كثر عددهم بيننا هذه الحرب، إذ أخذت عيناي لا بل أخذ منظاري شاباً مقبلاً بادي الأناقة، متكلف العظمة، يلتمع شعر رأسه الحاسر التماعاً لا يضاهيه إلا التماع رباط عنقه الأحمر، وإنه ليخطو في خيلاء تشبه الصلف، يضرب الأرض بقدميه ضرباً قوياً حتى ليحدث حذاءه صوتاً واضحاً قي ضوضاء الفناء، وما أسرع ما فطنت إلى أني منه تلقاء متحمس، وأني لشديد المحبة للمتحمسين عظيم الشغف برؤيتهم

ومشى هذا المتحمس إلى النافذة فوضع نفسه في رأس الصف وهيهات أن يرضى متحمس أن يكون في المؤخرة، ولكنه ما كاد يمد يده بالنقود حتى سرت في الصف كله موجة احتجاج كانت أكثر شدة في آخره؛ وارتفع صوت من الوسط ينبه هذا المخالف:

- أرجو أن تأخذ دورك وإلا فما معنى أن كلا منا قد ارتضي دوره؟

ص: 42

- هذا ليس من شأنك. . . أأنت مفتش؟. . . أأنت مراقب؟

- يا سيدي هذا لا يليق. . . ارجع إلى موضعك من فضلك

- موش شغلك يا أفندي. . . اشكني إلى مدير المصلحة

وتحير هذا الذي يحتج ماذا يقول، ولكنه ما لبث أن صاح قائلاً في غضب:(يظهر أنه مازال بيننا (جليطة) كثير) ونظرت فإذا بي منه تلقاء متحمس ثان في نهاية سن الكهولة، وأنا كما ذكرت لك أحب المتحمسين وأطرب أشد الطرب لرؤية تحمسهم

وجاء أجنبي في تلك اللحظة فقصد إلى النافذة كما فعل المتحمس الأول؛ ولعله قد رأى مزاحمته فظن الأمر فوضى، وما كاد ينبهه أحدنا حتى عاد إلى موضعه في ذيل الصف معتذراً عن خطئه وفي وجهه حمرة شديدة من فرط الخجل.

وإذ ذاك نظر المتحمس الثاني إلى المتحمس الأول قائلا وهو يشير إلى ذلك الأجنبي: (ألا ترى؟ هذا لأنه بني آدم)

ولكن صاحبنا لم يتزحزح عن موضعه وكأنه يتمسك بمبدأ الثبات حتى الموت، وإلا فماله لا يبالي بضجر المتضجرين في الصف كله - إلا أنا بالضرورة - ولا يبالي بنظرات الازدراء تصوب نحوه في شدة كادت تجعل من في الصف ما عداي متحمسين؟ لم يعبا على الرغم من ذلك وظل متمسكاً بمبدئه القويم ومد يده بالنقود إلى بائع التذاكر فما أشد ما أخذه من حيرة إذ سمع ذلك البائع يقول له في هدوء:(من فضلك اذهب إلى موضعك)

وثارت ثائرة هذا المتحمس، فقال في صوت أشبه بالصراخ وهو يضرب النافذة بقبضته (أتمتنع عن بيع التذكرة؟) وتطلعت في فرح احسبني أظفر برؤية متحمس ثالث، ولكن البائع ظل هادئاً ونظر إليه مبتسماً وهو يقول:(اشكني إلى مدير المصلحة)

وتناول البائع النقود من كل مسافر حسب دورة في الصف وظل صاحبنا في موضعه قرب النافذة متمسكاً بمبدأ الثبات حتى الموت يرشقه كلمن أخذ تذكرته بنظرة ازدراء، حتى جاء دور المتحمس الثاني وقد امتلأت نفسه إعجاباً ببائع التذاكر وعدالته، فنظر نظرة نصفها إليه ونصفها إلى ذلك الذي لم تجده حماسته وقال متهللا:(والله ما يصح أن يكون مدير المصلحة غيرك)؛ ثم صوب نحو زميله الذي ماتت حماسته من الخزي نظرة شامتة وهرول إلى حيث يقف القطار

ص: 43

الخفيف

ص: 44

‌ريح الشمال.

. .

(مهداة إلى الوزير دسوقي بك أباظة)

للأستاذ أحمد مخيمر

تنسمتُ أرواح الشمال هنيهةً

فهاج بيَ الشوق الدفين هبوبها

بسمعي كمعسول الحديث حفيفها

رخيٌّ، وفي قلبي شجيُّ دبيبها

فتحتُ لها صدري فأمَّتْ خميلة

من الحب فيه صادحٌ عَنْدليبها

نأتْ راحةُ السّاقي فصوّح دوحها

وما غاص في ظل الغصون قليبها

وكانت كروْقِ الشمس في ميعة الضحى

يرفُّ رفيفاً زهرها وقضيبها

ويبرقُ من فرط النّضارة عشبها

ويهتزّ من فرط الحياة رطيبها

قفي لحظةً ريحَ الشمال، فطالما

تمنّتْكِ نفس شرّدتها خطبها

لعل شذّى منها لديكِ أشمُّه

وهاتفةً مما تبثُّ أجيبها

وبين فؤادينا صحارى رحيبة

تُضِلُّ الخطى وديانها ولهوبها

يعوم عليها الآل حتى كأنه

ظنون بأرض النفس ناء قريبها

بعثت عليها من أمانيَّ طائراً

فآب مهيضاً ألهثته دروبها

وإن كثيراً أن أظل ببلدة

غريباً ولا يدنو لنفس حبيبها

إذا الليل واراني شعرت بلوعة

يُشَبُّ بأحناء الضلوع لهيبها

وجاء إليّ الحزن من كل جانب

وهمهمت الأشواق جمَّاً سروبها

وبان لعبنيّ الظلام كأنه

حفيرة موتى فاجأتها شعوبها

ورفّتْ بقلبي ذكريات من الهوى

تفوح كأزهار الرياض طيوبها

أرود بها لذات عهد قد انقضى

وأيام حب غاب عنها رقيها

فما هو إلا أن طبتني ظلالها

فسرحتُ عيني فاستهلّت غروبها

وكنت كذي غلٍّ رأى الماء قلبه

ظنون، وهل يُرَوى بهن طلوبها!

لكِ الله يا ريح الشمال، وأنها

لساعة بّثٍ ثم يدنو مغيبها

تهجين أشواقي! وقد كنت قبلها

مزاميرَ غيبٍ، في الضلوع طروبها

وكنت إذا أعولتِ في ظلمة الدجى

تَوزَّعُني أسرارها وغيوبها

ص: 45

أظلُّ كأنّي قد فتحتِ لناظري

سبيلاً إلى الآباد رحتُ أجوبها

فبالله يا ريحَ الشمال أشيَّعتْ

إلينا تحيات لديك نصيبها

ألا مستِ خديها، أجاذبتِ شعرها

ضفائر صفراً ينفح العرف طيبها

كمثل خيوط الشمس، والفرق وسطه

شعاعةُ قمراء بهيُّ سروبها

عجيب كصحراء الخيال مموّهٌ

بذوب نضارٍ قاعها وكثيبها

جميل كألوان على السحب ثَرَّةٍ

وقد حان من شمس النهار غروبها

شفت كبّدي ريح الشمال وقد سرت

فيا ليت شعري هل شفتها جنوبها

نأت دارنا عنها، وشطَّتْ بدارها

نوى قذَفٌ قد أبعد الساو نيبها

وإنِّي أمرؤٌ أقصى مناه وهمه

بقيعان أدفوا أوبةٌ فيئوبها

أحمد مخيمر

ص: 46

‌البريد الأدبي

حول المدرسة الرمزية

سيدي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد:

لست أريد من هذه الكلمة القصيرة التي شرفها أنها موجهة إليكم، إلا

أن أذكر لسيدي الأستاذ أن الجملة الأخيرة التي أنهى بها مقاله عن

(المدرسة الرمزية) في عدد سابق، هي نفسها ما ظللت أشعر به منذ

سنين، آن ملت إلى الرمزية أنصفها وأنقذها من أيدي من كفانا الأستاذ

الكريم عناء وصفهم ولله الشكر. . . فلقد لمست بيدي ضرورة الإيمان

بأن (ميزان الصدق في هذا المذهب أن يكون الرمز ضرورة لا اختيار

فيها). . . وأن يكون الإيحاء (لتقريب المعنى البعيد لا لإبعاد المعنى

القريب). . . أي وربي. . . ولا أخفي على الأستاذ أني ما شعرت

بهذا إلا من كثرة ما أغوص في نفسي الحزينة المتألمة، حيث أقف

على كل عاطفة، دقيقة وغير دقيقة، وكل معنى، واضح أو مبهم، فأذهل

في هذه المرحلة التي أسميها مرحلة العواطف، وأشعر أني في جو

جديد، أنصت للهمسات المتشردة، وأرنو إلى ألوان متتابعة. . . حتى

يأتيني هيجان النظم، فلا أقنع بما دون الحالات كلها وأجرب وصفها

وتصورها. . . فأضطر إلى أن أغالي. . . فأغالي. . . وما العمل؟

وأصبح لا أريد من الرمزية إلا الوقوف على هذه الحالات الدقيقة،

مردداً في كل مناسبة هذه الجملة التي كادت تكون تسبيحي: (إذا

الرمزية لم تأخذ على عاتقها إجلاء غوامض النفس فحري بها أن لا

تكون. . .)

ص: 47

غايتي إذاً في الرمزية هو التعبير عن هذه الدقائق النفسية التي لا ريب قد شعر بها القارئ كل أو بعض الشعور، والتي يمكن على كل حال إحياؤها فيه. . . ووسيلتي - وهي أيضاً غاية بعض الرمزيين المنصفين - ليست الغموض وحده ولا الوضوح وحده ولكن تعانق هذين اللونين اللذين نجدها - كما يقول صديقنا الأستاذ بديع حقي - في كل شيء ضمته هذه الحياة، هذه الحياة التي هي نفسها تعانق وضوح وغموض. . . نعم صديقنا بديع - وهو أكثر ما أراه ميالا إلى الغزل وإلى وصف الطبيعة في شعره الرمزي - يريد أن تكون الرمزية صورة هذه الحياة. . . وله الحق. . . ولكن أنا. . . لا أريد من الرمزية إلا التعبير عن هذه العواطف الدقيقة وتلك المعاني المهمة بأسلوب يقتضيه الحال، فنكون بذلك قد خدمنا الأدب الرمزي خاصة والأدب العربي عامة. . . وأنا أقول هنا الأدب العربي لأن الأدب العربي لم يجهل قط في عصر من عصوره الإسلامية هذا النوع من النظم!! واليوم، يجب أن لا ننظر إلى الرمزية بعين الازدراء أو التعصب فنعدها خروجاً عن الأدب أو مفسدة للذوق الفطري الأدبي أو غير ذلك: ولكن يجب التعقل فيها!. نعم، نحن ورثنا عن القدامى رمزيات عديدة كتلك التي رمز إليها أستاذنا آنفا أو. تلك التي أسعدني الحظ ففصلتها في بحث يطول الآن اختصاره، قدمته لمباراة أبي العلاء التي أقامتها مجلة (الأديب) الغراء في السنة المنصرمة. . . فكان والحمد لله من الفائزين: وقد تبين لنا فيه أن المعري رمزي صوفي، لم يدفعه إلى الرمزية إلا تصوفه. . . وغير ذلك. . . ولكن يا حضرة الأستاذ ألا ترانا بحاجة إلى تجديد هذه المفاهيم الصوفية الرمزية العربية؟ إننا اليوم نرمز ونحن بعيدون عن التصوف بعد الأرض عن السماء، أفلسنا بحاجة إذاً إلى رفع لواء الرمزية الحقيقية حيث يكون (الرمز فيها ضرورة)

سيدي الأستاذ، أنا قد آمنت بهذه الرسالة التي يجب أن أحمل مشعلها في الأدب الحديث، باثاً هذه المفاهيم الشاقة الشيقة التي وجدت أيضاً (جذورها) عند منصفي الرمزية الفرنسية: عند (مالرمه) - وخاصة مالرمة هذا - و (فرلين) وقليلاً عند (رمبو). . وأنا اليوم أنظم على منوال مفاهيمي هذه التي رمزت إليها فوق، والتي أحب، بعد هذه الكلمات، أن أسمع أستاذي بعض ألحانها. . . فهل يتكرم الأستاذ فيبدي فيها رأيه، بعد ما أتيحت لي هذه المناسبة السعيدة التي تجعلني أومن كل الإيمان بأن (الرسالة) هي تاريخ هذا العصر الأدبي

ص: 48

المضطرب. . . وبعدما طمعت - والشباب كله طمع وأمل - في جودكم المعهود الذي يجعلكم لا تضنون برأي على قريب ولا بعيد. . .

فالقصيدة، وعنوانها (بقايا حلم) جربت فيها تصوير هذه الفترة الدقيقة التي تمر على كل إنسان في ساعات أحلامه: فيندفع وراء الأوهام باسماً فرحاً، بوعي وبغير وعي. . . فتحمله. . . وأواه. . . لا تحمله إلا إلى خيبة، إلى حزن، إلى قبور جامدة فيقف قائلا لنفسه:

ص: 49

‌بقيا حلم

// لحشرجة الوهم، يا نفس، هل تبسمينْ؟. . .

تموت الرؤى في الضلوع. . . ولا تشعرينْ!!.

وتهفو، يُشَيِّعُها الفلُّ والياسَمينْ:

لتسْكُبَ حّزْني على زَغْردات الأنينْ!؟!.

وتَبقينَ حَيْرَى، وراءَ الهضاب الحزينْ!!.

فأَسالُ عنكِ الخيالَ. . . الخيالَ الأمينْ:

إذا بالتهاوِيل تومئُ: (صَهْ. . . بعضَ حينْ)!.

فاهمسُ للموت. . . والبيدُ ليست تبينْ:

قبورٌ على أَبُحرِ الوهم تَبكي السنينْ. . .

وترنو إلى الذكريات بعين الحنينْ!. .

قبورٌ. . . ولحن احتضار. . . ودنيا. . . ودينْ. . .

وأَلقاكِ، أَنتِ، تقولين للنادبين:

(بنفسي أُشيع نفسي!. . . فهل من معين؟!). . .

لحشرجة الوهمِ، يا نفس، هل تبسمينْ. . .

فهذه قصيدة قد تغني عن كل ما لخصناه فوق والسلام عليكم وإلى اللقاء. . .

دمشق

عدنان الذهب

غيرة فيلسوف

ليت الغيرة التي دفعت الدكتور شريف القبج إلى نقد طريقة إقحامي النقد الأدبي في فن القصة كانت غيرة على الأدب وحده دون سواه، وبذلك كنت أحمد له غيرته، وأقدر تجرده عن الغرض البادي من تضاعيف سطوره وتعابيره غير المحمودة.

إني أتغاضى عما قال - سامحه الله - حباً بالنقد وحرصاً على الحرية - لأقول له إن ما يبنى وبين زميل له من خصومة أدبية هي التي حفزتني إلى إقحام النقد الأدبي في فن

ص: 50

القصة. فهل هذا الإقحام جائز أو غير جائز، مقبول أم مكروه، أو هو بدعة للتشفي كما توهم؟

أعرف أن ميدان القصة رحب يسع ما في الحياة بأكملها من صور وألوان، وأعرف أن إقحام النقد الأدبي لا يكون إقحاماً على القصة بمعناه الصحيح إلا إذا عجز القاص عن لحاقه بسياق الحديث، وبمجراه الطبيعي، وبجوه المناسب، ولم أند عن هذا السمت فيما أوردته في قصتي (الأفعوان) المنشورة في مجلة (المنتدى).

أما زعمه أني فعلت ذلك للتشفي من زميل له فهذا زعم باطل لأني خاصمت بشر فارس الشاعر القاص وحاربته في شعره وفي قصصه، ولن أنفك عن منازلته في كل ميدان، ومحاربته بكل سلاح، حتى أقتل التواءات في نفسه يقرني عليها كل الأدباء ولن أعامله كما رغب إليّ حضرة الدكتور - سامحة الله مرة ثانية - (كما يعمل الطبيب الجراح مبضعه في الجسم العليل) لأني أعتقد أن في وسع هذا الزميل الانعتاق من هذه الرمزيات الشعرية والقصصية متى أنجابت السحب الدكناء عن ذهنه غير المظلم، وعندها يكون صحيحاً كأحسن الأصحاء. أفعل ذلك، لا حباً به ولا كراهة، ولكن غيرة مني على ناشئة قد يسممها هذا الضرب السمج من الرمزية الجوفاء، الحامل لواءها المنكس الدكتور بشر فارس.

حبيب الزحلاوي

حفلة المعهد الملكي للموسيقى العربية

أقام المعهد الملكي للموسيقى العربية يوم الاثنين الماضي حفلته السنوية لتوزيع الشهادات على الخريجين تحت رعاية الوزير الحصيف الدكتور عبد الرزاق السنهوري بك الذي أناب عنه الأستاذ محمد بك فهيم، وقد بحثت بإمعان عن مجهود الطلبة في هذا المعهد فلم أجد له أثراً ينسينا أخطاءه الماضية وجموده الدائم بالرغم من وجود الدكتور شرف الدين سليمان والأستاذ عبد الحليم علي في المعهد وفي الوزارة وهما علمان بارزان في سماء الفن ولولا هما لسقطت الحفلة سقوطاً مريعاً. وأعتقد مع الأسف الشديد أن النظم العتيقة في هذا المعهد هي التي ظلمت جهود هذين البطلين وحالت بينهما وبين تنفيذ برامجهما الفنية في عالم الأوبرا التي قدم منها الدكتور شرف أول محاولة بالنسبة إلى فهم المعهد. وقد أجمع

ص: 51

المثقفون على صلاحيته لمثل هذا العمل لولا النظم البالية التي حالت بينه وبين تنفيذ برامجه في عالم الموسيقى المسرحية التي لم يسمع بها المعهد بعد! ونحب أن ننبه القائمين بالأمر على صفحات هذه المجلة التي تخدم الفن والأدب بإخلاص إلى ضرورة الالتفات إلى وضع الموسيقى المسرحية والأوبرا في برامج المعهد في العام القادم حتى نتخلص من هذه الأوضاع الجامدة التي تركض بنا إلى الوراء ركضاً سريعاً، وحتى نرى في السنين القادمة أثراً واضحاً ينير الطريق للسالكين بعد هذا الليل الطويل

عبد القادر محمود

ص: 52

‌الكتب

الشوق العائد

ديوان جديد للشاعر الأستاذ علي محمود طه

آية الفنان الموهوب أنك في دنياه لا تكاد ترجع ما يعرضه أمام ناظرك، ويجريه في حسك، إلا إلى منابع روحه، وفيوض مواهبه، وحسب هذه المجموعة التي يقدمها الشاعر - علي محمود طه - في ديوانه الجديد الشوق العائد أنها تحمل هذا الطابع الفني الرائع في معناها ومبناها، فهي تتقدم في مبنى غاية في الأناقة، ومعنى من دنيا الشاعر الذي يهيم في أجواء الحب، ولا يكاد يثنيه عن الولع بهذا الجانب الإنساني العاطفي ما يغلى به مرجل العالم من أحداث وأهوال. ولكن متى كان في استطاعة الإنسانية أن تتخلص من أسر العواطف؟ والشوق العائد وحي الوجدان الصادق، فليس فيه عاطفة مصطنعة، ولا صورة غريبة، ولا شعور متكلف، ولا إحساس دخيل، بل يغمرك بوقدة روحه، ويشع عليك وهج قلبه في صدق وأمانة، ويرسم لك عواطفه وخوالجه بهذا الوضوح والهدوء، فلا يحلق بك وراء السحاب، ولا يقذفها هوجاء عاصفة، ولا معقدة غامضة، ولا أدري ما إذا كان هذا من حسنات - محمود طه - في نظر بعض الناقدين أم من مآخذه. ومن بين عرائس هذا الديوان قصيدة (الشوق العائد) التي يقول فيها:

أهدئي يا نوازع الشوق في قلْ

بي فلن تملكي لماض رجوعاً

آه هيهات أن يعود ولو أفن

يت عمري تحرقاً وولوعاً

ثم يعقب على هذا الزائر المعاودة فيقول:

أيها الزائر المعاود ما ألْ

قاك أحسنت بالمزار صنيعا

ما أرى في سمات وجهك إلا

شبحاً رائعاً وحلماً وجيعاً

يتوقاه ناظري كأني

فيه ألقي آلام عمري جميعاً

ثم ينتهي إلى هذه النغمة الحزينة:

عدت يا شوق! فيم عدت؟ ربيع! ال

عمر ولى! فهل تعيد الربيعا؟!

ولقد استطاعت المرأة أن تبسط سلطانها على أكثر ما في هذا الديوان، وأن تطلق فيه أشباحها، وأن تستأثر منه بصفحات خالدات من أمثال: طاقة زهر - وامرأة وشيطان -

ص: 53

وهي وهو - وثلج ونار - ونار ونار - والغرام الذبيح - وامرأة.

وهو يضم أيضاً عدة قصائد من بينها: الأيام - وإلى الطبيعة المصرية - وفاروس الثاني - وموكب الوداع. وكلها نماذج لهذا الشعر العاطفي الراقص، والديوان من الشعر الحي الذي تعتز به دولة الشعر الحديث.

محمد عبد الحليم أبو زيد

ص: 54

‌البلاغة العصرية واللغة العربية

للأستاذ سلامة موسى

كتاب للأستاذ سلامه موسى يحمل طابعه المعروف، إهداء إلى الأستاذ أحمد أمين لأنه هو الذي أوحى إليه بموضوعه من حيث لا يدري (أحمد أمين بك يوم أن نشر مقالاً في الثقافة) يشير إلى أن الكلمات تتغير معانيها بتغير الزمن والبيئة. . .

والأستاذ سلامة يرى أننا نفكر بالكلمات وكثيراً ما ننخدع فنظن أننا نعالج الأشياء قي حين أننا نعالج الأسماء ونرى أن الكلمات تكسينا اتجاهاً أخلاقياً وتكون لنا مزاجاً فنياً وأحياناً تحمل إلينا رواسب ثقافية قديمة كثيراً ما تضرنا في مجتمعنا، وهو من أجل هذا عالج في كتابه البيئة واللغة، واللغة والتطور البشري، واللغة والمجتمع، والأحافير اللغوية. وتعرض إلى ضرر اللغة (هكذا في الكتاب)

وقارن بين الكلمة الموضوعية والكلمة الذاتية وتحدث عن المجتمع العربي القديم.

وعقد فصلاً حول (الكلاسية داء الأدب العربي). . . الخ وليس في الكتاب بحث يتصل بالبلاغة بمعناها الاصطلاحي إلا كلمة (فن البلاغة)

والكتاب بحوث حول اللغة كأداة للتعبير وحول تبسيطها وإخضاعها للحياة المعاصرة.

ومع أن الكتاب في جملته بحوث تثير التأمل إلا أن الكتاب لم يأت بجديد يحل مشكلة اللغة من ناحية البلاغة؛ لأن نهاية إجهاد قلمه كانت تتلخص في (أن تكون البلاغة بلاغة المنطق والمعرفة بدلاً من بلاغة الانفعال والعقيدة، كما يجب أن نتوقى المرادفات والكلمات الملتبسة وأن نميز بين الكلمة الذاتية والكلمة الموضوعية.

ثم يدعو الأستاذ إلى أن يتأنق (التلميذ) في تعبيره ولكن تأنق الذكاء وليس تأنق البهرجة البديعية. . . وهذه الأماني تحققها كتب البلاغة حتى الكتب القديمة.

والأستاذ يعرف أن بلاغة العقيدة هي أشد أنواع (البلاغات) وأن المترادفات متى استدعتها دواعي البلاغة كانت الزم في تظليل المعنى وإيضاح الفكرة، والفن العاري المجرد لا يهز النفس ولا يمتع الروح، والأستاذ (سلامة) في حاجة إلى أن يراجع آراءه القاسية التي تريد للغة أن يكون من وحي (التلغراف)

وعليه أن يعرف أن فن البلاغة خضع للتطور، وأن أدباء العرب لم يقدموا شيئاً كما ظن

ص: 55

فقد بهر جوا الزائف بدقة أذواقهم وقوانينهم التي أجدت على النقد وأسعفت الفن الرفيع.

وأما تعرض الأستاذ سلامة لمنهج العقاد وسلوكه في تأليفه على نهج سلفي وإضافة كثرة الأدباء إلى هذا فندع ذلك وبيان إيضاحه للقراء، ندع أمره والدفاع عنه للأستاذ العقاد. ونحن نعتز بالفصحى ونعتز بمن يعتز بها، ولست أدري. . . لم يضيق الأستاذ سلامة موسى بأحافير اللغة ما دمنا نستطيع الانتفاع بها وما دامت فيها روح الإعجاز والخلود.

واللغات جميعها تنتفع بماضيها وتحي من نفائسها ما يربط مستقبلها وحاضرها بالتليد النافع

وإذا فاتك التفات إلى الما

ضي فقد غاب عنك وجه التأسي

كامل محمد عجلان

الأطياف الأربعة

للأساتذة أمينة وحميدة ومحمد وسيد قطب

أخرجت لجنة النشر للجامعيين أخيراً كتاب (الأطياف الأربعة) للأخوة الأربعة الأساتذة حميدة وأمينة ومحمد وسيد قطب.

(كتاب كتبه أخوة في الدم، أخوة في الشعور، كلهم أصدقاء، يقطعون الحياة كأنهم فيها أطياف، هم أنفسهم كل ما يملكون في الكون العريض. إنهم أبداً يحلمون وقد يتفزعون في الحلم ولكنهم إليه يعودون. أودعوا خطراتهم صفحات هذا الكتاب، فاحتوى عصارة من نفوسهم وظلالاً من حياتهم) يصف الأدباء الأربعة صوراً خبروها في حياتهم، وحوادث مرت بهم، بعضها يبعث على الأسى، وبعضها يكتنفه الأمل وبعضها يستدر العطف. لوحات فنية رسمها كل منهم بريشته الخاصة وتفكيره الخاص فأخرجوا منها مجموعة يصح أن تزين معرضاً. لقد كشف ذلك الكتاب عن أسرة تعيش في دنيا الأدب، يرتفع أفرادها مرة إلى أفق الخيال البعيد، ثم يهبطون إلى دنيا الحقائق الملموسة، وما يلبثون حتى يحلقوا قي عالم الأطياف والرؤى

أهدى المؤلفون كتابهم إلى (أماه) التي عاشوا وهي معهم غرباء في القاهرة، فلما مضت عنهم تفرقوا في الكون العريض كتابات ضالة ليس لها جذور، وأطياف هائمة ليس لها قرار. ولقد اتصف الصديق الكريم الأستاذ سيد قطب بالوفاء وتسربل بالإخلاص. وتلك

ص: 56

الصفة وذلك اللباس يتجليان رائعين فيما كتب من فصول عن (أماه تلك الملهمة التي لا يفتأ الأستاذ قطب يردد ذكراها ويحس بالوحشة إليها. وما أجمل اللوحة التي أبدعها قلمه حين قال مخاطباً إياها (قفي. . . قفي نصمد لعجلة الزمن العاتية كي لا تدور فتسحق كل عزيز وتدفن الماضي الذي نعيش على هداه. ظللي يا أماه حياتنا بجناحيك الرفيقين، ولا تحسري هذا الظل عن مواقعه التي تفيأناها. عيشي معنا يا أماه في هواجسنا وأفكارنا، ولا تبالي أن يلذعنا ألم الذكرى كل لحظة، فهو ألم رفيع عزيز، يغذي من نفوسنا ما كان يغذيه عطفك، ويملأ من وجداننا ما كانت تملؤه رعايتك. جنبينا الفراغ القاتل، والسلوى الرخيصة. . . يا أماه).

والحق أن كتاب (الأطياف الأربعة) ممتع يلتذ القارئ بقراءته حتى ليكاد يستعيد بعض فصوله مرات ومرات؛ فإن الصور الخاطفة التي ساقها مؤلفوه، والمشاعر السامية التي أودعوها صفحاته، والتحليلات النفسية البارعة التي عرضوها فيه، دلت على قدرة مشاعة بين أخوة أربعة، وفطنه مشتركة بينهم، ولباقة أدبية يتميزون بها ويتحلون.

غير أنني أريد أن أهمس في آذان الكتاب الأفاضل، ولا اظنني متحاملاً عليهم، إن مصنفهم اتشح بالسواد واكتنفته مسحة قاتمة من الحزن تكاد تبلغ مرتبة التشاؤم. حتى الغلاف لم يسلم من ذلك الخمار الأسود القائم يجلل صدره. أما كان يجدر بهم أن يضيفوا إلى (الأطياف الأربعة) طيفاً خامساً مرحاً أو باسماً؟ أما كان من الأفضل أن يكون الكتاب معرضاً لصنوف المشاعر، بين فرح وحزن، وابتسام وعبوس، وجمال ودمامة؟

والكتاب فيما عدا ذلك قطعة أدبية فنية رائعة، تحس حين تقرأه اتساقاً وانسجاماً بين فصوله المختلفة تفصح عن مكنونات قلوب كاتبيه السمحة، وميولهم الأدبية الرفيعة.

وديع فلسطين

بكالوريوس صحافة

ص: 57