الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 619
- بتاريخ: 14 - 05 - 1945
التربية السياسية
للأستاذ عباس محمود العقاد
أحسنتم في كلمتكم التي شيعتم بها عهد الدكتاتورين هتلر وموسليني، وأشرتم إلى موضع العجب العاجب من أمر الأمة الألمانية التي يستطيع رجل كسائر الرجال. . . (فيه الخطل والجهل والعجز والهوى، وليس فيه إيمان لوثر، ولا سياسة بسمارك، ولا أدب جوتة، ولا فلسفة نيتشة، أن يسيطر ستين مليوناً من الجنس الأوربي الممتاز، وأن يسخرهم أثنى عشر عاماً في ابتكار أفظع ما يتصور الذهن الجبار المجرم من وسائل الفتك وآلات الدمار)
والحق أن أعجوبة الأعاجيب في هذه الأمة الألمانية أنها على وفرة نوابغها وشيوع التعليم بين طبقاتها وازدهار المعارف والصناعات فيها، لا تزال تستسلم لطاغية بعد طاغية سواء من عواهلها أو من المغامرين بالحكم فيها، ثم تمضي معهم في مخاطرة بعد مخاطرة من أيسر شرورها هزيمتهم وامتلاء الأرض كلها بالوحل والبلاء بضع سنوات
ولكنها عبرة من عبر التاريخ الكبرى تساق إلينا نحن الشرقيين خاصة لنعلم هوان المعارف والصناعات ووفرة النوابغ وكثرة المتعلمين إلى جانب التربية السياسية الني تتوارثها الأمة جيلاً بعد جيل في ظل الحرية والمعاونة البصيرة بين الرعاة والرعية
فالأمة الألمانية قد استوفت كل مزية من مزايا العلم والصناعة والنبوغ إلا هذه المزية التي لا غنى عنها، وهي مزية التربية السياسية
وأولى خصائص هذه المزية هي الاستقلال بالرأي في محاسبة الحكام، أو هي اشتراك الجميع في الحكم ببداهة المعاونة التي تنشأ من طول المرانة وكثرة المراس
فالأمة الإنجليزية مثلاً قد نشأت في جزيرة يحوطها البحر، فاستغنى ملوكها عن الجيوش القائمة الكبيرة التي يدفع بها الملك خطر العدوان من جيرانه، وأمن رؤساء العشائر أن يسومهم الملك طاعة لا مراجعة فيها ولا مشاورة، لأنهم كانوا جميعاً في عشائرهم بمثابة الملوك الصغار، وكان لهم من الجند والأتباع ما يستعينون به على مكافحة العسف والطغيان كلما تجاوزا حدود المصلحة الكبرى التي يرتضونها أجمعين
وكان الإنجليز أمة تجار وبحارة ينفردون بأنفسهم في لجج البحار. فتعلموا من التجارة مساومة الآخرين، وأن الأمر لا يؤخذ في الدنيا بالغصب والإكراه، وتعلموا من البحر كيف
ينفردون بمكافحة الأخطار، وكيف يستقلون بآرائهم في مداورة الصعوبات
وجيل بعد جيل بعد ثالث بعد رابع على هذه الوتيرة كفيلة بتربية الاستقلال والخبرة بمداولة الشؤون وإقامة الحدود المعقولة بين الحاكم والمحكوم
لكن الألمان على نقيض ذلك، قد شاء لهم سوء الحظ أن يقيموا في الرقعة الوسطى من القارة الأوربية، وكانوا في حاجة دائمة إلى الطاعة العسكرية، لأنهم يغيرون على جيرانهم ويغير جيرانهم عليهم في كل حين، ولم يزالوا على ذلك عرضة لسطوات الأقوياء كلما ظهروا من حولهم في الشرق أو الغرب أو الجنوب أو الشمال فمن ظهر في الشرق أخذهم في طريقه غرباً إلى حيث يريد الفتح أو القتال، ومن ظهر في الغرب أخذهم في طريقه شرقاً كما يشاء وحين يشاء، وكذلك كان يصنع بهم من يمتد بسلطانه من الجنوب إلى الشمال، أو يمتد به من الشمال إلى الجنوب
وكانوا من قديم عصورهم قبائل متفرقات تعمل في الرعي والقنص والزراعة، فعاشوا عيشة القبائل الأولى وهي عيشة طاعة وتسليم، وجاءتهم النظم العسكرية التي لا فكاك منها، فزادتهم طاعة على طاعة وتسليماً على تسليم خاص
وقد تعددت ولاياتهم حتى زادت على ثلاثمائة في نهاية القرون الوسطى، ولم تنقص هذه الولايات عن مائة وسبعين في أيام الثورة الفرنسية، ثم تجمعت بعض التجمع في زعامة ولاية من أكبرها في العدة العسكرية، ولكنها من أقلها نصيباً في الثقافة والأخلاق الاجتماعية، وهي بروسيا التي عرفت في تاريخها بأنها آخر القبائل الجرمانية حضارة وأقلها دماثة وأدباً، فطبعتهم من جديد بطابع الإذعان الذي لا يعرف المراجعة ولا يؤمن بتعدد الآراء
وقد ثار الإلمان على الكنيسة أو على البابوية، ولكنهم لم يثورا قط على طغيان الحكومات وعسف القادة، وإنما ثاروا على البابوية لأنهم كانوا في طاعة القادة والحكومات
قلنا في كتاب تذكار جيتي الذي ظهر منذ بضع عشرة سنة:
(. . . يجب أن نذكر كذلك في هذا الصدد أن مبادئ الديمقراطية حين وصلت إلى ألمانيا كانت مبادئ عدوها المغير عليها المذل لكبريائها: كانت مبادئ الجيش الفرنسي والدولة الفرنسية.
فليس بعجيب أن يتلقاها فلاسفة الألمان بشيء من الفتور والإعراض، وأن تجنح بهم الوطنية إلى إنكار الديمقراطية في إبان المنافسة والملاحاة بين الشعبين. . . على أن السبب الذي يتصل بجميع هذه الأسباب ويكاد يدرجها كلها في أطوائه هو حرب الثلاثين المشهورة، فإن هذه الحرب الطحون قد دمرت ألمانيا في الشمال والجنوب تدميراً، وعطلت البحث والأدب فيها جيلين متواليين، ورزحت استقلال الفكر فيها خلال القرن السابع عشر الذي نشطت فيه دعوة الفكر الحرفي الأمم الأوربية الكبرى)
من هذه العوامل التي فصلنا بعضها في (تذكار جيتي) وبعضها في كتاب (هتلر في الميزان) أصيبت الأمة الألمانية بتلك الآفة الجائحة وهي نقص (التربية السياسية) وكان بعضها من صنع يديها وبعضها من صنع الحوادث والملابسات.
لا جرم يطيع الألمان حكامهم تلك الطاعة العمياء ويعتقدون فيهم كما يعتقد الأطفال في آبائهم (إن أبانا لعلى كل شيء قدير)
وقد خدعهم في هتلر - فوق خداع التربية السياسية الناقصة - أنه نجح في ضم السار والرين والنمسا وبلاد السوديت بغير قتال، فخيل إليهم أنه يلعب بأوربا وبالعالم وأنه يملك من قوة الدهاء وقوة السيف ما يخضع له أوربا إذا خالفته ويخضع له العالم كله إذا وقف في طريقه.
وذلك هو الظلال الأكبر في القياس والتفكير.
لأن مصطفى كمالاً - كما قلنا في كتاب هتلر في الميزان - (لم ينفق جزءاً من ألف ربوات الملايين التي أنفقها هتلر على التسليح، واستطاع مع ذلك أن يفتح الآستانة فتحاً ثانياً وفيها جيوش الحلفاء، وأن يعيد إليها الحصون التي منعت إقامتها بعد هزيمة الحرب العظمى، وأن يلغي الامتيازات الأجنبية والمعاهدات التي سبقت ألمانيا الحديثة ونشأت من أيام سليمان الكبير). . .
ولم ينجح مصطفى كمال ولا هتلر فيما صنعاه لأنهما أقوى من الدول التي كانت تأبى ما صنعاه، وإنما سر المسألة كله صعوبة الإقدام على حرب عالمية سواء كان المقدم عليها من الحكام الدستوريين أو من الحكام المستبدين، فالذي صنعه هتلر إذن هو أنه غير هذه الحالة بسياسة الخرقاء وجعل الصعب سهلاً على الدول في مدى ثلاث سنوات، وما ثلاث سنوات
في تواريخ الأمم وحوادث الدنيا؟. . .)
نعم هذا هو الضلال الذي طير صواب هتلر فطار معه صواب الألمانيين، لأنهم لا ينظرون إلا كما ينظر القادة والزعماء في أصغر الهنات وأخطر الأمور.
لقد عصفت التربية السياسة الناقصة بكل فضيلة من فضائل هذه الأمة الألمانية، وحرمتها ملكة الابتداع حتى في العلم والصناعة. فاشتهر الألمان بأنهم محسنون مكملون لما يخترعه الآخرون ولم يشتهروا بأنهم مخترعون مبدعون. وتبين ذلك في الطيارات والدبابات التي هي عدتهم في مقومة الأساطيل البحرية، فإنهم كانوا يشتغلون بالمناطيد يوم كان العالم كله يشتغل بالطيارات على اختلافها، ولما التفتت الأمم إلى الطيارات واستخدامها في الحرب كرة أخرى كانت طيارات الألمان دون غيرها في الصناعة والقيادة والتأثير.
ولقد شاع بين الشرقيين كما شاع بين غيرهم أن هؤلاء الألمان يحسنون ما لم يحسنه الأوربيين، لأنهم يصنعون الأدوية والمواد الكيمية التي تنقطع عن العالم بانقطاع مواصلاتهم فلا تعوضها الأدوية من سائر البلدان
وهو وهم فارغ كان يسهل علينا نحن المصريين أن ندرك حقيقة إذا التفتنا إلى ما يجري في بلادنا ونصنعه بأيدينا، فنحن نستورد القمح والدقيق وبلادنا تستورد القمح ونطحن الدقيق، وإنما نفعل ذلك من لأن زراعة القطن أنفع لنا - أو كانت أنقع لنا - من زراعة الحبوب. . . فليس في الأمر عجز ولا قصور.
وكذلك الألمان والصناعات الكيمية في القرنين الماضيين، فإن علم الكيمياء الحديث قد راج في أوربا يوم كانت البلاد الإنجليزية والبلاد الفرنسية ذوات منشآت تدار على نسيج الصوف والقطن وعلى مصنوعات المعادن والأخشاب، فلم يكن معقولاً أن تلغى هذه المصانع والمنشآت وأن تحل الشركات التي تديرها لتعود إلى إدارتها على الأدوية والكيميات، وإنما كان المعقول أن تترك هذه الصناعة لألمانيا كما تركت صناعة الألبان للدنمارك مع وفرة الألبان في المراعي الإنجليزية والفرنسية. وما اضطرت أمم أوربا وأمريكا قط إلى استخراج مادة كيمية إلا أتقنتها كما أتقنها الألمان أو فوق إتقان الألمان
فالنقص في التربية السياسية هو علة النقص في استقلال الرأي حيث كان، ولو تجاوز مجال الحكم والشورى إلى مجال الرأي والابتداع.
والنقص في التربية السياسية هو الذي ضيع على هتلر وأتباعه كل ما استكملوه من العدة الحربية، فليكن لنا في ذلك عبرة نحن أبناء الشرق المترددين بين المذاهب والآراء. فلا تعدل بالحرية بديلاً من الخيرات التي يقال إنها تنوب في عهود الطغيان عن الحرية والاستقلال.
عباس محمود العقاد
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 1 -
كان العلامة الدكتور عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب قد نبه على أشياء في الجزء الأول والجزء الثاني من هذا الكتاب، ثم شغله الذي هو أهم. وفي أثناء مراجعة أجزائه لمحت العين ما أنا أذكر قسماً منه اليوم. والكتاب - كما يلوح - فيه ما فيه، وإن بالغ في تحقيقه العلماء الفضلاء من مصححيه. ومثل هذا المرجع جدير بالضبط المحكم، والإصلاح الأكمل.
* في جزء 10 ص25 وفي قصيدة ابن الشبل البغدادي:
تُبادِي ثم تخنِس راجعات
…
وتكنس مثلما كنس الصُّوار
وأيام تَعَرَّفْنا مَداها
…
لها أنفاسنا أبداً شفار
وكم من بعد ما كانت نفوس
…
إلى أجسامها طارت وطاروا
ولا أرض عصته ولا سماء
…
ففيما يغول أنجمها انكدار
قلت: (تبادي) في البيت الأول هي (تباري) أي تتبارى حذفت الأولى جوازاً.
و (تعرفنا مداها) في الثاني هي (تَعَرَّقُنا مَداها) والمدى مع جموع المدية وهي الشفرة، و (تعرفنا) أي تتعرفنا حذفت التاء الأولى جوازاً. وفي اللسان:(عرفت العظم وتعرفته إذا أخذت اللحم عنه بأسنانك نهشاً) وعجز البيت يثبت المعنى الحق.
والبيت الثالث هذه روايته الصحيحة:
وكم من بعد ما ألفت نفوسٌ
…
جسوماً عن مجاثمها تطار
وليست (نفوس) تمييزاً لكم كما جاء في الحاشية.
والبيت الرابع عجزه: ففيم يغول أنجمها انكدار؟
* في ج10 ص35 وقال (يعني ابن الشبل):
وكأنما الإنسانُ منا غيرَه
…
متكوِّن والحس منه معار
متصرّف وله القضاء مصرف
…
ومسيّر وكأنه مختار
وجاء في حاشية البيت الأول (كانت في الأصل (والحسن فيه) ولكن لا يستقيم المعنى إلا
بما غيرت إليه. وجاء في حاشية البيت الثاني: (كانت في الأصل (ومخير) ولكنها لا تقيم معنى البيت
قلت: البيتان في مقطوعة أرويها تامة؛ فإنها من الشعر البارع الحكيم، وفيها الرواية الصحيحة للبيتين، وإن قوله (الحسن فيه مغار) يجاوب قوله (وكأنما الإنسان فيه غيره) وأما الحسن في الإنسان وفي غير الإنسان. . فلن يكون في كل حال إلا حقيقة لا استعارة ولا مجازاً. . .
وكأنما الإنسانُ، فيه غيرُه
…
متكوناً، والحسن فيه معار
متصرِّفاً وله القضاء مصرِّف
…
ومكلَّفاً وكأنه مختار
طوراً تصوبه الحظوظ وتارة
…
خطأ تحيل صوابه الأقدار
تعمي بصيرته، ويبصر بعدما
…
لا يسترد الفائتَ استبصار
فتراه يؤخذ قلبه من صدره
…
ويُرد فيه وقد جرى المقدار
فيظل يضرب بالملامة نفسه
…
ندماً إذا لعبت به الأفكار
لا يعرف الإفراط في إيراده
…
حتى يبينه له الإصدار
وقد ذكرني هذا الشعر بأبيات لبشار حكيمات:
طُبعت على ما فيَّ غيرَ مخيّر
…
هواي ولو خيرت كنت المهذبا
أريد فلا أُعطى، وأُعطى ولم أرد
…
وقصر علمي على أن أنال المغيبا
فأُصرف عن قصدي وعلمي مقصر
…
وأُمسي وما أُعقبت إلا التعجبا
. * وفي ج12 ص226 ومنه (أي من شعر علي بن أحمد بن سلك الفالي بالفاء):
تصدّر للتدريس كل مهوِّس
…
بليد يسمى بالفقيه المدرس
فَحَقٌّ لأهل العلم أن يتمثلوا
…
ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
…
كُلاها وحتى سامها كل مفلس
قلت: في رواية (تَسمى) مكان (يُسمى) وجاء في الحاشية:
(وربما كانت (مهوش) بالشين) والصحيح هو مهوس) كما روي في كثير من كتب الأدب.
والقول في البيت الثاني (فَحَقٌ لأهل العلم) هو (فَحُقّ لأهل العلم) وهذا ما قاله قارض الشعر وأراده. وهذا أسلوب العربية في القديم في هذا المعنى. وفي التاج عن الأساس (وأما
حُقّ لك أن تفعل فمن حق الله الأمر أي جعله حقاً لك أن تفعل واثبت لك ذلك وهو تحقيق نفيس) وفي اللسان: (قال الفراك حُق لم أن تفعل ذلك وحَق، وإني لمحقوق أن أفعل كذا فإذا قلت حُق قلت لك، وإذا قلت حَق قلت عليك) فإن قيل: ألا يحق لنا أن نقول اليوم: حَقٌ للعلماء أن يتمثلوا الخ. . قيل لنا أن تقول وليس لنا أن نُقوَّل. . .
* في ج15 ص210
وله (لأبي علي المنطقي) من قصيدة في عضد الدولة يذكر الصدق:
ما زلت تنصف في قضاياك العلا
…
قل لي: فما بال الضحى يتظلم؟
أهديت رونقه إلى جنح الدجى
…
فاعتنّ أشهبَ وهو طِرف أدهم
حتى كأن الليل صبح مشرق
…
وكأن ضوء الصبح مظلم
هي ليلة لبست رضاك فأشرقت
…
من بعد ما كانت بسخطك تظلم
ما كان في ظن امرئ من قبلها
…
أن الملوك على الليالي تحكم
قلت: ضبطت (الصدق) بتشديد الصاد وكسرها وسكون الدال وفتح القاف. . . والشعر لا يدل على شيء من الصدق، وإنما يصف (السَّذَق) وهو ليلة الوقود عند الفرس، واللفظة معربة فارسيتها (سذة) والسدق بالدال لغة فيه، وبعضهم يراد محرفاً، وأنا لا أرى ذلك. والصدق بالصاد لحن عند صاحب القاموس. . وقد ذكره معجم عصري بالصاد كأنه لغة في السذق
والسذق ميراث المجوسية. ولبديع الزمان الهمداني رسالة عبقرية (كتبها إلى الرئيس أبي عامر) في الإشادة بذكر العرب والتنديد بذلك العيد وناره المجوسية. ومما جاء فيها:
نحن (أطال الله بقاء الشيخ) إذا تكلمنا في فضل العرب على العجم، وعلى سائر الأمم، أردنا بالفضل ما أحاطت به الجلود، ولم ننكر أن نكون أمة أحسن من العرب ملابس وأنعم منها مطاعم وأكثر ذخائر، وأبسط ممالك وأعمر مساكن. ولكنا نقول: العرب أوفى وأوفر، وأوفى وأوقر، وأنكى وأنكر، وأعلى وأعلم، وأحلى وأحلم، وأقوى وأقوم، وأبلى وأبلغ، وأشجى وأشجع، وأسمى وأسمح، وأعطى وأعطف، وأحصى وأحصف، وأنقى وآنق. ولا ينكر ذلك إلا وقح، ولا يجحده إلا نغل. . . إن عيد الوقود لعيد أفك، وإن شعار النار لشعار شرك، وما أنزل الله بالسدق سلطاناً، ولا شرف نيروزا ولا مهرجانا. . . وإنما جعل الله
النار تذكرة ومتاعا، ولم يجعلها وداً ولا سواعا، ولم يضرب الله تعالى لها عيداً، ولم يجعلنا لها عبيداً، الله والنبي، والعيد العربي، والتكبير الجهير، وتلك الجماهير، والملائكة بعد ذلك ظهير، والرحمة صوباً وصبا، والبركات فيضاً وفضا، والجنة وصراطها، والنجاة وأشراطها، والموسم الطاهر من لغو الحديث. ذلك، لا ما شرع الشيطان لأوليائه، نار لديهم تشب، ولعنة عليهم تصب، وخمرة متاعها قليل، وفي الآخرة خمارها طويل. هذا هو العيد، وذلك هو الضلال البعيد. . .
* وفي ج16 ص92 فأنا بين حشا خافقة، ودمعة مهراقة قلت: هذا في رسالة للجاحظ إلى إبراهيم بن المدبر. واليقين أن القول هو (فأنا بين حشا خفاق ودمع مهراق) والحشا مذكر لا مؤنث، والدمع في هذا المقام خير من الدمعة. وإن قال أبو عثمان: دمعة مهراقة فلن يقول حشا خافقة ولا خفاقة.
* في ج16 ص149 قال الأصمعي وحدثني عيسى بن عمر قال: لقد كنت أكتب بالليل حتى ينقطع سَوْئي أي وسطي
قلت: ضبطت (سوئي) بفتح السين وسكون الواو؛ وإنما هي (سَوَائي) وسواء الشيء وسطه لاستواء المسافة إليه من الأطراف كما في النهاية. وفيها من صفته صلى الله عليه وسلم سواء البطن والصدر، أي هما متساويتان لا ينبو أحدهما عن الآخر.
وفي الفائق: بطنه غير مستفيض فهو مساو لصدره. وفي النهاية: ومنه حديث أبي بكر والنسابة: أمكنت من سواء الثغرة أي وسط ثغرة النمر.
* في ج15 ص72 وكأنها عنده رواية عضدها القياس وكان شيخنا موهوب ينعى ذلك عليه
قلت: ضبطت (عضدها) بتشديد الضاد؛ وإنما في اللغة عضده وعاضده. وعضد المشدد فعل لازم وهو لا يعني المعاونة
في التاج؛ (ورمى فأعضد ذهب يميناً وشمالاً كعضد تعضيداً، وهذا ما استدرك به على اللسان) وذهب يميناً وشمالاً يعني السهم
وضبطت (ينعى) بكسر العين وهي بالفتح من حد سعى.
حول اقتراح
الترجمة واللغة العربية
للدكتور عبد العزيز برهام
طلعت علينا (الرسالة) الغراء باقتراح جليل لرئيس تحريرها
الفاضل الأستاذ (الزيات)؛ اقتراح لو أخذ به لسد نقصاً يشعر
به كل من عالج تعلم اللغات الأجنبية في عصرنا الحديث. وقد
وفى الأستاذ الموضوع حقه؛ فأبان حاجتنا الماسة للترجمة في
الأدب وفي العلم. وأني لأستميحه أن أضيف إلى آرائه القيمة
بعض أفكار تواردت على ذهني حين قرأت اقتراحه:
إن حاجتنا إلى النقل من اللغات الأجنبية ليست وليدة اليوم، وإنما شعرنا بها من يوم أن دب في بلاد الشرق دبيب الحياة وأخذت بعد سباتها العميق تستيقظ وتتصل بالغرب. عندئذ أدرك الآخذون بأسباب من العلم والمعرفة أن نهضتنا لن تقوم وتنجح إلا إذا قبسنا من نور الغرب، فأخذت ترجمة الكتب ولا سيما الأدبية تترى. وسار كل غيور عللا رفعة وطنه في هذا التيار حتى رأينا كثيراً من الكتب النافعة نقلها من اللغات الأجنبية جلة العلماء في عصر المغفور له (محمد علي باشا)، ولكن لم تكن هذه الكتب القليلة العدد شيئاً يذكر إن ووزنت بما كنا في حاجة إليه إذ ذاك. ثم خطت الترجمة بعد ذلك خطوات واسعة غير أن أغراضها تنوعت، وصار للعنصر التجاري فيها شأن أي شأن. فكم من قصة ترجمت لم يقصد بها العلم وإنما قصد بها الربح! وساير ترجمة الكتب انتشار الصحف والمجلات لا تزال تعول على الجرائد الأعجمية في كثير من موضوعاتها
نجم عن ذلك كله أن اتسعت دائرة الترجمة إلى اللغة العربية اتساعاً يبعث كثيراً من الأمل في نفوس ذوي الغيرة الوطنية. بيد أن أكثر القائمين بأمر هذه الترجمات لم يكن بصيراً باللغة العربية التي ينقل عنها. فكانت تستعصي عليه لذلك ترجمة كثير من الأساليب التي
لا يجد - لضعفه في العربية - مثيلاً لها في لغة الضاد. فالتوت لغة الترجمة وكثر ما غمد الناقد إلى الأسلوب أو التعبير الأجنبي فنقله بنصه دون مراعاة لروح اللغة التي ينقل إليها فغمضت على القارئ. وكثر ما دخل في اللغة العربية من كلمات أعجمية لم يستطع المترجمون أن يجدوا لها مدلولاً في لغتهم فطغت على لغة الكتابة والخطابة، واستعملها الناس في حديثهم دون شعور بأعجميتها. وزاد الطين بلة تلك الحرية الواسعة التي يتمتع بها المترجمون. وإنه ليسهل عليك أن تجد تعبيراً واحداً في لغة أعجمية نقل إلى العربية بأساليب متعددة حتى يعجزك رد هذا التعبير إلى أصله. ولقد تدهش أحياناً من أن كلمات عربية دخلت منذ حين في لغات أعجمية فإذا ما أعيدت إلى لغتها الأصلية أعيدت مشوهة. وما كلمة (الحمراء) التي نقلت إلى الأسبانية والفرنسية ثم عادت إلى اللغة العربية (الهمبرة) ببعيدة عن الأذهان، وإن الجرائد المصرية ليحلو لها دائماً حين تكتب عن (قناة السويس) وناهيك بما يعترض سبيلك وأنت تقرأ مجلة أسبوعية أو برقيات جريدة يومية من كلمات أعجمية لم يعمل المترجم فيها إلا أن كتبها بحروف عربية، وليته أعجمها حتى يستطيع الجاهل باللغة التي نقلت عنها قراءتها صحيحة، بل ترك للقارئ حرية الحدس والتخمين، وتركك تسمع في نطقها العجب العجاب. أو ليست كلمات رجيم ستراتيجية ومنوكل سامباتيك بوستة وابور شيري. . الخ. . . الخ. . . من الكلمات التي نقرؤها ولم نعد نهتم بها كأنما صارت من صميم الكلمات العربية؟
ولما كان لكل لغة قواعدها النحوية والصرفية واللغوية الخاصة بها فمن العسير أن تنقل من لغة إلى أخرى إلا إذا كنت ملماً بقواعد كلتا اللغتين وإلا تعرضت للزلل. ألا يستعمل العامة والخاصة فعل (أعطى) متعدياً لمفعول واحد فيقال: أعطيت الكتاب لفلان، كما يقول الفرنسيون ' في اللغة العربية متعد لمفعولين فيقال: أعطيت فلاناً الكتاب؟ أو لم تجر أقلام الكتاب باستعمال (لا) قبل (يجب أو ينبغي) إذا أريد نفي ما بعدها فيقولون: لا ينبغي أو (لا يجب) أن نفعل كذا والعرب تقول ينبغي ألا نفعل كذا وكيت وعليك ألا تفعل كذا وكيت؟
لقد نقل الخطأ الشائع وأضرابه بادئ ذي بدء من لم يكن متمكناً من اللغة العربية التي ترجم إليها ثم استعمله سواه من بعده ولم يلبث أن انتقل إلى أقلام الخاصة.
وما نشأ هذا الخلط وعمت هذه الفوضى في الأساليب والتعبيرات وطغت الروح اللغوية الأعجمية على روح اللغة العربية إلا لأن الترجمة نفسها لا تخضع لنظام. حتى أن كل من أتقن لغة أعجمية أو اعتقد أنه أتقنها استباح لنفسه الترجمة منها دون مراعاة لمبلغ قدرته في اللغة المنقول إليها. وإنه ليسهل عليك أحياناً أن تفهم بعض التعبيرات في لغتها الأصلية عن أن تفهمها في اللغة العربية؛ وذلك لأن المترجم إما أن يكون ضعيفاً في اللغة العربية فلا يحضره من الألفاظ ما يسد به حاجة الترجمة، أو يكون ضعيفاً في اللغة الأعجمية فينقل إليك التعبير دون تصرف فيه فتكون ترجمة حرفية سقيمة المعنى أو خلواً منه - وإني لأذكر - وأنا لا زلت طالباً بمصر - أن كنا ندرس في كتاب مترجم في (النظريات السياسية). ولقد كان أكره الدروس إلى نفوسنا درس هذه المادة لمحببة النافعة. كان ذاك لتعقد في أسلوب الكتاب كثيراً ما دعانا إلى أن نقف عند كل سطر وأن نكون أحياناً حلقات ندرس فيها ما يراد وما لا يراد من هذه العبارة أو تلك. وما أكثر ما ترانا على أستاذ المادة - وكان أحد المترجمين - حتى لكنا نلجئه إلى قراءة الكتاب في (الفصل) لنفهم عباراته. وإن انتشار هذه التراكيب الركيكة في اللغة السائدة في الكتب والصحف ليتسرب إلى لغة كثير من فضلاء العلماء والأدباء دون أن يشعروا بأنهم ينزلون بلغتهم درجات. خذ مثلاً كتاباً من كتب القانون أو اقرأ الدروس التي يلقيها على طلبته بعض الشبان من رجال القانون الحديثي العهد بالتدريس باللغة العربية وستتبين من غير عسر روح الترجمة فيها. وإني لأنقل إليك عبارة واحدة على سبيل المثال تجدها في مذكرات للقانون الجنائي لعالم فاضل وأترك لك الحكم عليها.
(إذن فطبقاً للرأي الذي ساد المراد بالاختلاس أن الجاني يأتي بحركة مادية يخرج بها الشيء من حوزة غيره ويستولي عليه. وليس بذي شأن أن ينقل الجاني الشيء بيده كحالة اللص الذي ينشل محفظة من جيب المجني عليه أو بواسطة كمن يحرض كلبه. . . كذلك يكفي أن يهيئ الجاني أسباب الانتقال وبعد ذلك يتم انتقال الشيء من تلقاء نفسه. . . الخ؟
وأمثال هذه التعبيرات كثير: أنا شخصياً لا أقبل هذا ، ' (قابل صاحب الدولة رئيس الوزراء بوصفه وزيراً للخارجية. .)(هذا الأمر بالقياس إلى هذا. . .)(من وقت لآخر) وهكذا وهكذا.
ثم إذا نحن جاوزنا لغة الأدب إلى لغة العلم لما تغير الأمر كثيراً ولا قليلاً. واللغة العلمية والمصطلحات العلمية أحوج ما تكون موحدة. ولن نصل إلى هذا التوحيد إلا إذا قضينا على الحرية المطلقة الفردية في الترجمة وأخذنا المترجمين جميعاً على استعمال تعابير بعينها.
هذا، وإن بعض المواد لا يزال يدرس في (مصر) حتى اليوم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية: إما لأن اللغة العربية لا تتسع - كما يقولون - لما وسعه من غيرها من اللغات (وهي التي وسعت فلسفة الإغريق، وحضارة الفرس)؛ وإما لأننا لا نزال ندرج على سنة درج عليها آباؤنا من قبلنا وإن انقطعت اليوم الأسباب التي دفعت بهم إلى فعل ما فعلوا. وليس من سبيل لسد هذا النقص القومي وتمصير الطب مثلاً إلا طوفان من المترجمات يجرف جميع الكتب القيمة التي وضعت في هذه المواد جرفاً ليلقي بها على ساحل اللغة العربية.
وبعد فإن ترك الترجمة فوضى شأنه اليوم يعرض سلامة اللغة لخطر مستمر، وينقل إلينا سيلاً من الكلمات والتعابير الأعجمية التي تنخر في عظام الأساليب العربية الرصينة. وحسبك أن تقرأ كتاباً (كالبؤساء) الذي ترجمه حافظ إبراهيم أو غيره مما ترجم الأستاذ (الزيات) أو (المنفلوطي) وهذه الكتب نفسها إن أشرف على ترجمتها ذوو الترجمات العاجلة الخاطفة لتلمس الفرق بين الترجمتين، ولتدرك أيهما كتب باللغة العربية الفصيحة: من بلاغة في الأسلوب، وصفاء في الديباجة، وسمو في البيان، وتنوع في الصياغة، ودقة في التعبير حتى لكأنك تقرأ القصة في لغتها وبأسلوب كاتبها.
وإنك لتعجب حين تقرأ كتاباً ما ترجم إلى لغات عدة من أن أثر الترجمة لا يحس إلا في اللغة العربية إن نقله إليها من لم يلم إلماماً تاماً بها. ولو علم كثير من كبار الكتاب الأعاجم مقدار ما يصيب آثارهم الفذة من مسخ وتشويه إن أسيء نقلها لحرموا الترجمة ولآثروا أن يظلوا غفلاً في البقاع التي تسودها هذه اللغات المنقول إليها من أن يساء إلى بنات أفكارهم. أو لم تؤلف اللجان لترجمة القرآن حتى يحتفظ له ما أمكن في اللغة التي ينقل إليها بأسلوبه المعجز، وسحر بيانه، وجماله الفني، وتصويره الرائع؟ فليس أمامنا إذا إلا سبيل واحدة لنسلكها حتى نحيط اللغة بسياج متين من تسرب للدخيل إليها وتحفظ عليها
بنيتها وروحها وأساليبها - تلك هي الترجمة الدقيقة المنظمة. ولا سبيل إلى مثل هذه الترجمة إلا إذا قام بها من هو ذو بصر باللغة العربية وباللغة التي ينقل عنها. وإن إنشاء دار للترجمة وتزويدها بأعلام الأدب والعلم والفن ممن يحذقون لغات أعجمية لهو الطريقة المثلى لتحقيق هذه الأمنية.
وإننا - كما يقول الأستاذ الفاضل صاحب الاقتراح - (إذا نقلنا إلى العربية نتائج القرائح لأقطاب العلوم والفنون والآداب من الإنجليز والأمريكان، والفرنسيين والألمان، والروسيين والطليان - أصبح هؤلاء العالميون جزءاً من كياننا الأدبي، وركناً في بنائنا العلمي، نعتز به ونستمد منه ونفتن به ونزيد عليه، كما فعل آباؤنا الأقدمون بما نقلوه من علوم الإغريق والهنود واليهود والسريان والفرس) - ولجددنا في اللغة مع محافظتنا عليها، ودعمنا النهضة، ويسرنا القراءة ودعونا إليها، ولهيأنا للعلوم التي تدرس بلغة أعجمية في معاهدنا العلمية سبيل تدريسها باللغة العربية، ولأمددنا كتاب الصحف والمجلات بأساليب ترفع من ترجمتهم العاجلة، وتسعفهم إن ضاق بهم الوقت؛ ولاستطعنا كذلك أن نضع معاجم عربية - أعجمية يقل فيها الخطأ ويكثر فيها الدقة.
إن مصر ليجهل جمهرة أهلها اللغات الأعجمية. والذين يحذقون أكثر من لغة قليل ما هم. وفي هذا التباين ما فيه من خطر قومي يدفع إليه تباين الثقافات، فمن ثقافة عربية إلى ثقافة أعجمية، ومن ثقافة فرنسية إلى ثقافة إنجليزية أو ألمانية. وفي تنوع هذه الثقافات ما يخلق تبايناً في التفكير بين أفراد الأمة حتى ليتهم بعضهم بعضاً بالقصور عن مسايرة النهضة العلمية الحديثة أو يدل بعضهم على بعض. ولقد ألفت آذاننا سماع تفضيل ثقافة على ثقافة، وألفنا الحديث عن مدارس الثقافة الفرنسية وعن مدارس الثقافة الإنجليزية وهكذا، فاتسعت الهوة بين المنتمين إلى هذه والمنتمين إلى تلك، فإذا نحن نقلنا هؤلاء جميعاً المؤلفات القيمة من مختلف الثقافات جعلناهم يتغذون بلبن واحد فاتحدت طريقة تفكيرهم ومادتها التي لن تكون إلا عصارات هذه الثقافات ممتزجة، وزالت الفوارق بين طبقات المتعلمين، واقتربت وجهة النظر بينهم، وصاروا جميعاً أبناء أمة واحدة يرتوون من منهل واحد هو الثقافة المصرية
ثم ما ظنك بفريق من أدعياء العلم والأدب اللذين بنوا لهم مجداً شامخاً في الشرق على ما
انتحلوه من آراء الأعاجم دون أن يشيروا إليها أو يدلوا عليها؟ داء عسير دواؤه أصيبت به الطبيعة الشرقية لضعف في النفوس وجهل بها، وعجز من الابتكار والاختراع، واستهانة بالقراء، وغرام بالشهرة ولو كاذبة. وشجع على استفحاله أن الشرقي ولا سيما المصري لم يعد إعداداً يحبب إليه القراءة والاطلاع، والتعمق في العلم، فهو يكتفي بما يقع تحت بصره دون تطلع إلى ما وراء ذلك؛ وكان جهله باللغات الأعجمية أو بأكثرها من العوامل التي جعلته يقف في قراءته عندما كتب بالعربية.
إن هذا الفريق من الأدعياء سينكشف أمره، وسيرى مجده يتداعى يوم أن ينقل إلى اللسان العربي جميع ما ألف في سواه أو جمهرته، ويطلع الناس على مصدر الآراء التي ارتفع بها أقوام لا يستحقون الرفعة فينزلونهم من حالق. وسيوصد الباب أمام هذه الفئة الطفيلية فتتخلص من شرورها وغطرستها.
وحبذا لو فكر القائمون بالأمر في وزارة المعارف في إرسال البعوث من ذوي الكفاية في اللغة العربية لدراسة اللغة الأعجمية في مهدها، ولا سيما قد انفتح الطريق الآن بيننا وبين بعض هذه البقاع. ولو أن السنة التي خطها صاحب المعالي محمد حلمي عيسى باشا حين كان وزيراً للمعارف في عام 1933 اتبعت منذئذ لتجمع لدينا الآن عدداً لا يستهان به من الشبان الأكفاء الذين يسند إليهم هذا العمل الجليل؛ فلقد أرسل معاليه بعثة للترجمة والتحرير إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا كانت الأولى والأخيرة. وشاء تغير الوزراء من بعده؛ وعدم استقرار سياسة التعليم، ونقض كل وزير ما أبرم سلفه أن يغفل هذا الأمر!
ولعل وزارة المعارف إن وصلت إليها هذه النصيحة وكتب لها أن تستأنف إرسال بعوث الترجمة أن تسند إليهم متى عادوا - بعد عمر طويل - أعمال الترجمة نفسها لا أن تكل إليهم أمر تعلية خزان أسوان أو كهربة خط حلوان، أو أن تكافئهم على جدهم بتكليفهم العمل في حقول التجارب وفلاحة البساتين.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
عبد العزيز برهام
دكتوراه الدولة في الآداب
ليسانسية في القانون من باريس
أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة
للدكتور جواد علي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ساقت هذه الفلسفة الجديدة: فلسفة المعرفة، جماعة المتصوفين إلى تقرير نظرية جديدة هي نظرية (الحق واحد وأن تعددت مظاهره) ومادام الإنسان يتوصل إلى الحق فلا حاجة للأصفياء بالرسل والأنبياء. يقول أحدهم وهو السيد قاسمي الأنوار: (قبل أن تبنى الخانقاه، وقبل أن تنشأ أديرة السومنية التي هي أقدم أديرة الكون، كنت معي في أطوار الكائنات. فدرجة الأنبياء قد ارتفعت من بيننا؛ إذا ما دمنا مجتمعين دائماً فما هي الفائدة من الرسل إذاً.
ومتى توصل الإنسان إلى معرفة (حق اليقين) الذي هو الفناء المطلق تساوت الدرجات وأصبح المعلوم واحداً وتجلت الغاية من الأديان عموماً. فالأديان على اختلاف درجاتها تقصد غاية واحدة وهدف معيناً، هو التوصل إلى معرفة الله، تستوي في ذلك الصابئة واليهودية والنصرانية والإسلامية كما جاء:
عبادتنا شتى وحسنك واحد
…
وكل إلى ذاك الجمال يشير
وإلى هذا المعنى ذهب (شمس تبريز) حيث قال: (لست بمسيحي ولا يهودي ولا مسلم). وهذه النزعة الإنسانية التي توصل إليها متصوفة الإسلام هي نفس النزعة الإنسانية التي توصل إليها متصوفة أوربا في القرون الوسطى. ثم المذهب الإنساني الفلسفي الذي تمثل فيما بعد على لسان الفيلسوف (هيردر) وعلى لسان الفلسفة الإنكليزية ثم الأوربية في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر للميلاد.
وهكذا تساوت الأديان فلا فرق إذا بين أن يكون الإنسان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً. وما دامت غاية الإنسان الاتصال بالله عن طريق المعرفة فالتصوف وحده هو الكفيل بذلك. فعن طريق التأمل بذات الله تتم المعرفة وتنال السعادة الأبدية، أما الأديان والشرائع على رأي نفر من المتطرفين بآرائهم فإنها تحول بين الإنسان وبين معرفة الذات، وتفرق بين اتصال العبد بالرب فهي عامل فتنة وخراب.
وصنف جلال الدين الرومي البشر من حيث معرفة الخالق إلى صنفين: صنف تعلق
بالطقوس والشرائع، وصنف امتلأ قلبه وفاض بحب الله. ولابن العربي كلمات تشبه هذه الكلمات. وقد نسب ابن تيمية إلى أحد المتصوفة وهو التلمساني من تلامذة ابن عربي هذا القول:(القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا) على أن ابن تيمية من أعداء الفلسفة والتصوف ويجب أن ننظر إلى كلامه بشيء من التروي على ما اعتقد والحذر.
ونسبت إلى نفر من المتصوفة بعض الأقوال التي لا تلتئم مع ما هو مألوف. مثل قول حافظ: (اتركوا الاثنين والسبعين فرقة لأنها لا ترينا الحقيقة، ولأنها تستمد وحيها من وحي الشياطين.
ونسب إلى أبي سعيد أبي الخير قول يشبه هذا القول فقد قيل أنه قال: (ما دانت المساجد والمدارس باقية لا تتطرق إليها أيدي البلى فإن عمل الدراويش لا يتم. ومادام هناك مؤمن وكافر فإنه لا يمكن أن يظهر على سطح الأرض مسلم حقيقي أبداً)
وفي أقوال أبي سعيد وأشعاره مواضع أخرى تشير إلى هذا النوع من التفكير الحر. وهذه الأقوال ولاشك هي التي أثارت غضب بعض العلماء عليه أمثال ابن حزم الظاهري والمؤرخ الشهير الحافظ الذهبي ولهذا السبب عينه قال عنه المستشرق نيكلسون في كتابه (التصوف الإسلامي) وفي الفصل الذي عقده عنه في (دائرة المعارف الإسلامية) بأنه يمثل الآراء الحلولية المتطرفة التي جاء بها بايزيد البسطامي المتوفي عام 261 للهجرة (874م) تلك الآراء التي يمتاز بها متصوفة الفرس بوجه عام. ولسنا بحاجة إلى أن نزيد أن أبا سعيد كان ينظر إلى الإسلام وغيره من الأديان المنزلة نظرة احتقار) وهو قول ردد صداه المستشرق الفرنسي لويس ماسليون والمستشرق الإنجليزي إدوارد براون وأغلب المستشرقين المشتغلين بموضوع التصوف. على أن من باب الحق والمنطق أن نقول بأن جماعة كبيرة من العلماء كانوا يثنون عليه ويذكرونه ذكراً جميلاً. أمثال: السبكي صاحب كتاب طبقات الشافعية الكبرى والسمعاني في كتابه الأنساب وفريد الدين العطار في كتابه تذكرة الأولياء وأمثالهم؛ وقول هؤلاء طبعاً قول مقبول محترم لا يمكن أن يرد بأي حال من الأحوال.
أما أنصار التصوف وأصحاب مبدأ (حسن الظن من الإيمان) فإنهم يعتذرون عن هذه الأقوال ويفسرونها تفسيراً فيه حسن ظن ورجاء، ويجاوزن عنها ويرجئون أمرها إلى الله،
ويوؤلونها تأويلاً، ويحسبونها شطحة من شطحات اللسان. والشطحة عندهم (عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى وهو من زلات المحققين فإنها دعوى بحق يفضح بها العارف من غير إذن إلهي بطريق يشعر بالنباهة) وهم يؤولون كلام هؤلاء كما قلنا فيقولون: نعم، في ظاهر هذه الكلمات خروج عن المألوف والذوق، ولكنهم لا يقصدون ظاهر هذه الألفاظ بل بواطنها وذلك لا يدركه إلا من سما في العلم الإلهي وفي درجات المعرفة.
ثم قالوا: (وإن للقوم عبادات تفردوا بها واصطلاحات فيما بينهم لا يكاد يستعملها غيرهم تخبر ببعض ما يخفى وتكشف معانيها بقول وجيز، وإنما نقصد في ذلك معنى العبادة دون ما تتضمنه العبادة فإن مضمونها لا يدخل تحت الإشارة فضلاً عن الكشف) وإن القوم في حالة سكر في الذات العلمية وفي غيبوبة تامة.
قالوا ومن هذا القبيل قول سهل بن عبد الله التستري إذ يقول: (أعرف تلامذتي من يوم ألست بربكم، وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني ومن كان عن شمالي، ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا) وقوله: (أشهدني الله تعالى ما في العلى وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثماني سنين، ورأيت في السبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته وحمدت الله تعالى على معرفته، وحركت ما سكن وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى وأنا ابن أربع عشرة سنة).
وامتازت فلسفة هؤلاء المتصوفة أصحاب الذوق بأسلوب جديد مبتكر أخاذ هو الشعر الغزلي التصوفي الذي أطلقوا عليه اسم (الغزل الصوفي) كما نعتوا الحب البريء (بالحب الأفلاطوني) أو (الحب العذري) وفيه الرمزية والخيال البعيد. ولنا في باب (الغزل الصوفي) طائفة من كبيرة من الشعراء. والتصوف في حد ذاته نوع من أنواع الشعر أو الفن، ففيه عاطفة جامحة؛ لذلك كان أكثر المتصوفة ينظمون نظماً دقيقاً فيه عاطفة دقيقة وإن كانوا قد خرجوا فيه كما خرجوا في نثرهم عن القيود الدينية المألوفة والأساليب المتعارفة كما نجد ذلك في شعر الحلاج وفي شعر محي الدين ابن عربي وفي شعر السهروردي وأمثالهم. ويكفينا في هذا الباب ما نظمه الشيخ المتصوف سيدي إبراهيم
الدسوقي المتوفي عام 676 للهجرة: ففي هذا النظم أشياء كثيرة لا توافق ما هو مألوف لما في هذا القول من اتحاد الذات في الإنسان وفي الأشياء. والقصيدة مرآة صافية لفكرة وحدة الوجود التي شاعت في أوربا أيضاً واعتنقها من الفلاسفة والمفكرين ولا سيما أولئك الذين درسوا الآداب الشرقية واطلعوا على تراجم الأشعار الفارسية على الأخص كالشاعر غوته الذي دان بمذهب وحدة الوجود يقول هذا المتصوف الزاهد الذي يرجع بنسبه إلى الإمام عليّ ين أبي طالب والذي تأثر بآراء من سبقه كم كبار المتصوفة كالحلاج والسريّ والسقطى والجنيد البغدادي والشيخ عبد القادر الجيلي على الأخص في جملة ما قاله هذه الأبيات:
تجلَّى لي المحبوب في كل وجهة
…
فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني منيّ بكشف سرائري
…
فقال أتدري من أنا قلت منيتي
فأنت منائي بل أنا أنت دائماً
…
إذا كنت أنت اليوم عين حقيقي
فقال كذلك الأمر لكنه إذا
…
تعينت الأشياء كنت كنسختي
فأوصلت ذاتي باتحادي بذاته
…
بغير حلول بل بتحقيق نسبتي
فصرت فناء في بقاء مؤبد
…
لذات بديمومية سرمدية
وغيبني عني فأصبحت سائلاً
…
لذاتي عن ذاتي لشغلي بغيبتي
وأنظر في مرآة ذاتي مشاهداً
…
لذاتي بذاتي وهي غاية بغيتي
فأغدو وأمري بين أمرين واقف
…
علوميَ تمحوني ووهميَ مثبتي
ومنها:
أنا ذلك القطب المبارك أمره
…
فإن مدار الكل من حول ذروتي
ومنها:
وبي قامت الأنباء في كل أمة
…
بمختلف الآراء والكل أمتي
ولا جامع إلا ولي فيه منبر
…
وفي حضرة المختار فزن ببغيتي
ومنها:
بذاتي تقوم الذات في كل ذروة
…
أجدد فيها حلة بعد حلة
ومنها:
نعم نشأتي في الحب من قبل آدم
…
وسرّى في الأكوان من قبل نشأتي
أنا كنت في العليا مع نور أحمد
…
على الدرة البيضاء في خلويتي
ثم يستمر على هذا النسق فيذكر أنه كان مع جميع الأنبياء ويختم قصيدته باسمه وبأنه القطب شيخ الوقت إبراهيم.
وأبو سعيد أبو الخير من المبرزين في الشعر الصوفي، ويمتاز عن غيره من شعراء الفرس بابتداعه الشعر الصوفي عندهم وبنهجه منهجاً جديداً في النظم حذا حذوه أكثر شعراء الفرس كفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي وعمر الخيام.
وإذا صحت نسبة الرباعيات الفارسية إليه فيكون بذلك أول مؤسس لرباعيات المتصوفة وأول مبتكر لطريقة جديدة هي الطريقة الرمزية في الشعر. ولكن هناك من يشك في صحة نسبة الرباعيات إلى صاحبنا استناداً على رواية تقول بأن الناظم الأصلي لهذه الرباعيات هو أستاذ أبي سعيد أبو القاسم بشريس وهو متصوف أيضاً وأديب مشهور
على أن شيئاً واحداً لا يمكن أن يتطرف إليه الشك هو أن أبا سعيد كان ينظم الشعر وكان يحفظ شيئاً كثيراً من شعر الفرس والعرب، وأنه كان ضليعاً في اللغة العربية وكان يجلس لتفسير القرآن. وبهذه المناسبة نقول إن تفسير القرآن على طريقة الصوفية هو تفسير خاص. ومن أشهر هذه التفاسير تفسير عبد الرحمن السلمي النيسابوري (412هـ) أحد الأساتذة الذين درس عليهم أبو سعيد ونال الخرقة منه، وأشتهر هذا الشيخ برواية الأحاديث ولا سيما أحاديث الصوفية وقد أتهم لذلك بأنه كان يضع الأحاديث على لسان الرسول لتقوية مذهب التصوف (سنن الصوفية).
وتفسير محي الدين بن عربي الشهير وتفسير نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري (في أوائل القرن الثامن للهجرة وتفسير عبد الرزاق الكاشي (الكاشاني).
وكما أن أصحاب الباطن (الباطنية) من المسلمين والحروفية فسروا القرآن تفسيراً يوافق آراءهم باعتبار أن للقرآن ظاهراً وباطنا وقالوا بأن الظاهر هو المفهوم لدى العامة وأن الباطن هو المقصود من القرآن ولدى الخاصة وحدهم (علم الباطن) أولئك الذين يعرفون (ما ظهر منه وما بطن) فكذلك المتصوفة فسروا القرآن تفسيراً خاصاً حيث كانوا يعمدون إلى التأويل دائماً تأويلاً يتفق مع آرائهم ومشاربهم.
واتصل أبو سعيد علي ما يروى بالمتصوف الشهير أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشري (المتوفي عام 465 للهجرة)(وقد تلقى القشري أول الأمر هذا الزائر الجديد بشيء من الحذر والنفور، ولكنه ائتلف به وأصبح صديقه الحميم فيما بعد، وتلك خاتمة يلوح لنا أنها بعيدة الاحتمال).
حاول القشيري وهو من رجال التصرف في رسالته الشهرة (الرسالة القشيرية)(كتبها سنة 437 للجرة) جمع خلاصة آراء وأفكار المتصرفة للتوفيق بين آراء المتصوفة وبين آراء جماع المسلمين والرهنة على أن التصوف أصل الإسلام. وذكر طائفة من كبار المتصوفة بما فيهم الخلفاء الراشدون والأئمة العلويون وأكثر الصحابة، وقد فاته أن التصرف الذي كان عليه في وقته لم يكن معروفاً بهذا الشكل في صدر الإسلام، وأن الصحابة كانوا يؤاخذون الناس عليه كما فعل الخليفة عثمان بعامر بن عبد الله ابن قيس الذي ترهب وتزهد في البصرة وامتنع عن أكل اللحوم والزبد والجبن وكل منتوج للحيوان، وأعرض عن الزواج وعُرف (براهب الأمة)
والتقى أبو سعيد بالفيلسوف ابن سينا على ما ذكره فريد الدين العطار في كتابه. والظاهر أن هذا اللقاء بنيسابور حيث أقام بها أبو سعيد محترماً مقرباً من عالمها الكبير إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني. وابن سينا الذي اشتهر بنظم الشعر باللغة العربية اشتهر بنظم الرباعيات بالفارسية فهو زميل منافس لصاحبنا المتصوف. ولعل هذه المنافسة هي التي أدّت إلى نفرة أبي سعيد من ابن سينا، ثم إلى ردة على ابن سينا برباعية من رباعياته المشهورة.
تمتع أبو سعيد بشهرة عظيمة في بلاد فارس حيث كان محط الرحال إلى أن جاءه الأجل المحتوم في سنة 440 للهجرة فدفن في مسقط رأسه (ميهنة) وبذلك تم دخوله في عالم الفناء.
مات أبو سعيد فكتب حياة هذا المتصوف حفيده محمد بن أبي المنوّر، وعلى هذه الترجمة اعتمد فريد الدين العطار في كتابه (نفحات الأنس).
بغداد
الدكتور جواد علي
الأسرة والمجتمع
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ علة الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
من بين الحقائق التي عنيت بإبرازها وتوكيدها في كتابي (الأسرة والمجتمع)، الذي ظهر أخيراً في مؤلفات (الجمعية الفلسفية المصرية)، وأن الأسرة تقوم على مصطلحات يرتضيها العقل الجمعي، وقواعد تختارها المجتمعات، وأنها لا تكاد تدين بشيء لدوافع الغريزة، بل إن معظمها ليرمي إلى محاربة الغرائز أو توجيهها إلى طريق غير طريقها الطبيعي.
وقد ناقش الأستاذ العقاد الفقرة الأولى من الدليل الأول الذي أوردته لتأييد هذه النظرية، وهو - كما أشرت في مقالي السابق - واحد من أثنى عشر دليلاً ذكرتها مسلسلة في هذا الكتاب. فظهر له أن ما تشير إليه هذه الفقرة لا ينهض حجة على صحة ما ذهب إليه. ثم أدلى برأية في هذا الموضوع، فذكر أن الغريزة وراء الظواهر الاجتماعية في جميع شئون الأسرة أو في أهمها على الأقل، وأستدل على ذلك بعدة أمور.
ولست محاولا في هذا المقال أن أسرد ما أغفله الأستاذ العقاد من الأدلة التي أوردتها في كتابي لتأييد نظريتي، والتي لا تدع مجالاً للشك في صحتها؛ لأن محاولة كهذه لا يتسع لها المقام من جهة، ولأنها من جهة أخرى ستكون مجرد تلخيص مخل لمسائل استغرق بحثها نحو مائة وخمسين صفحة في الكتاب. ولذلك سأقتصر على مناقشة الأستاذ في النظرية التي أوردها، وهي أن الغريزة وراء الظواهر الاجتماعية في أهم شئون الأسرة
ذكر الأستاذ لتأييد نظريته هذه أموراً كثيرة يمكن وجعها إلى دليلين رئيسيين. وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذين الدليلين إذ يقول: (إن أمرين أثنين تختلف النظم العائلية ما تختلف بين الشعوب والأجيال وهما ماثلان في كل أسرة وفي كل شعب وفي كل جيل. وهما حضانة الطفل والألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء. وكلا هذين الأمرين قائم على الغريزة الفطرية دون سواها على نحو متشابه في جميع الأجناس وجميع العصور). وأتخذ من هذين الأمرين حجة على أن النظم الأساسية المشتركة في العائلات الإنسانية قائمة على الغريزة
ونحن نشكر للأستاذ كثيراً أن قدم لنا دليلين من أقوى الأدلة على صحة ما نذهب إليه؛
فكفانا بذلك مئونة الجهد في تأييد ما قررناه في كتابنا، وفي الرد على نظريته.
1 -
حقا إن حضانة الأولاد أمر غرزي عند معظم الحيوانات على اختلاف يسير فيما بينهما: فأحياناً تتوافر هذه الغريزة عند الأم وحدها؛ وأحياناً عند الأب وحده؛ ولكنها في معظم الحيوانات الزوجية (وهي التي تعيش زوجين زوجين، والتي منها الإنسان) تتوافر لدى الأب والأم معاً. ولكن هل تسير الحضانة في الأسرة الإنسانية وفق ما تميله هذه الغريزة؟ الحقيقية أن النظم الاجتماعية وحدها هي التي تتحكم في الحضانة تحكماً مطلقاً لا تقيم فيه وزناً للغريزة ولا لمقتضياتها، وأن الأسرة الإنسانية تخضع في ذلك لما يسنه لها المجتمع سواء أكانت شرعته متفقة مع منهج الغريزة، أم كانت معدلة له، أم مختلفة معه كل الاختلاف. بل لقد وصل الأمر في كثير من الشعوب أن اصبح واجباً على الآباء أن يقتلوا أولادهم أو بعضهم أو جنساً معيناً منهم عقب ولادتهم أو في سن الطفولة أو يلقوا بهم في مكان قفر أو يقدموهم قرباناً للآلهة، وأبت هذه المجتمعات إلا أن يتم لها ما أرادت ولو كرهت الغرائز، وسارت العائلات وفق ما أملته عليها نظم مجتمعاتها لا وفق ما فطر عليه أفرادها من غريزة. فمن ذلك مثلاً أن النظم الإسبرطية كانت توجب على الأدباء إعدام أولادهم الضعاف أو المشوهين أو المرضى عقب ولادتهم أو تركهم في القفار طعاماً للوحوش والطيور. وكانت الأم نفسها تلجأ إلى مختلف الوسائل لتحقيق هذه الغاية؛ مع أن غريزة الحضانة والحدب على الصغار عند أنثى الإنسان ومعظم الحيوانات الثديية تتجلى في أوضح مظاهرها حيال الضعاف من الأولاد (ولعل الأستاذ العقاد يذكر بيت المهلهل:
كأن كواكب الجوزاء عوذ
…
معطّفة على رُبَع كسير
فللتأكد من صلاحية ولدها للحياة في نظر مجتمعه، كانت ستغمسه عقب ولادته في دن من النبيذ، وتركه مغموساً وقتاً ما: فإن عاش بعد ذلك هذا على قوة بنيته واستحقاقه للتربية؛ وإن مات أدت الأم واجبها نحو المجتمع بأن خلصته من كائن ضعيف لا يستحق الحياة في نظره. وهذا النظام نفسه أو ما يقرب منه كان سائداً في أثينا وفي روما وقد أقره فلاسفة اليونان أنفسهم وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو. ومن ذلك أيضاً أن التقاليد الاجتماعية كانت توجب على الآباء في كثير من الشعوب البدائية وغيرها قتل أولادهم جميعاً أو بعضهم في جميع الحالات أو في حالات خاصة لاعتبارات دينية أو اقتصادية. ومن هؤلاء
بعض عشائر من عرب الجاهلية كانت تقتل أولادها ذكورهم وإناثهم في بعض الحالات؛ وعشائر أخرى كانت تصطفي الذكور وتئد البنات وفي كثير من الشعوب كانت النظم الاجتماعية توجب على الآباء تقديم أولادهم أو بعضهم في حالات خاصة قرباناً للآلهة. ومن هؤلاء قدماء المصريين والعبريين والعرب في الجاهلية. بل إن أقدم صورة للأضحية في المجتمعات قد تمثلت في الأضحية الإنسانية التي يقدمها الآباء من أولادهم. وفي معظم المجتمعات الإنسانية، إن لم يكن في جميعها، لا يقوم الأب بحضانة ولده من السفاح؛ مع أن الغريزة لا تفرق بين ولد شرعي وولد غير شرعي، وإنما جاءت هذه التفرقة من النظم الاجتماعية وحدها. بل إن الأم نفسها كثيراً ما تتخلى في هذه الحالة عن الحضانة فتقتل ولدها أو تلقيه في الطريق، متصامّة عن نداء الغريزة، خشية ما تجره عليها نظم مجتمعها وعرفه الخلقي.
وإذا كان الآباء في معظم مجتمعاتنا المتمدينة الحاضرة يسيرون في حضانة أولادهم في حالة الزواج الشرعي وفق المنهج الغريزي إلى حد ما، فإن السبب في ذلك يرجع إلى أن النظم الاجتماعية قد أوجبت عليهم حضانة أولادهم وتربيتهم على هذا الوضع، وأتاحت لهم بذلك إرضاء غرائزهم، ولو أنها سارت بهم في طريق آخر، كما كان الشأن في شعوب أخرى كثيرة، ما استطاعوا إلى مقاومتها سبيلاً، وما وجدت غرائزهم منفذاً إلى الظهور. على أن هذه الحضانة، إذ يقرها المجتمع ويوجها على الآباء، لا يتركها للغريزة تتجه بها كما يشاء، بل يتدخل في تنظيمها ويضع لها قيوداً وأحكاماً تبعد بها كبيراً عن طريقها الفطري. وإن نظرة يسيرة في أحكام الحضانة في القانون الروماني القديم والقانون الفرنسي الحديث وفي الشريعة الإسلامية، وفيما تقرره هذه الشرائع من أحكام وقيود بهذا الصدد في حالة بقاء عقد الزواج، وفي حالة فسخه، وفي حالة موت أحد الزوجين، وفي حالة زواج أحد الأبوين بزوجة أخرى أو زوج آخر. . . إن نظرة يسيرة إلى هذه الأمور وما إليها لكافية في الدلالة على أن النظم الاجتماعية، حتى في حالة إقرارها مبدئياً لحضانة الأبوين لأولادهما لا تترك هذه الحضانة للغريزة توجهها كما تشاء، بل تتدخل في تفاصيلها وعناصرها ومدتها، وتضع لها من القيود ما يبعد بها كثراً عن سنن الغريزة
أفبعد هذا دليل على أننا بصدد نظام يقوم على مصطلحات اجتماعية لا على أمور تقررها
الغرائز؟!
2 -
وأما (الألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء) التي ظن الأستاذ أنها أمر غريزي وأنها دعامة لجميع النظم العائلية، فحقيقة الأمر أنها ليست من الغريزة في شيء، وأن النظم الاجتماعية هي التي تخلقها خلقاً، وتحدد مجراها ونطاقها، وتسر بها في السبيل الذي يرتضيه العقل الجمعي، ويتفق مع ما تصطلح عليه الجماعة من أوضاع؛ فإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على (النظام الأمي) تألف أقرباء الفرد من أمه وأقارب أمه فحسب، على حين يصبح أبوه وأقارب أبيه أجانب عنه، لا تربطه بهم أية رابطة من روابط القرابة، ولا يشعر نحوهم كما لا يشعرون نحوه بأية عاطفة عائلية، ولا بأية ألفة حميمة أو غير حميمة. وإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على (النظام الأبوي)، تنعكس الآية فتتجه العاطفة والألفة إلى الأب وأسرته، وتصبح الأم وأسرتها أجانب عن الولد لا تربطه بهم أية قرابة، ولا يشعر نحوهم بأية عاطفة أو ألفة. وإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على النظام المشترك (وهو النظام الذي يعترف بقرابة الولد لكل من أبيه وأمه) مع ترجيح ناحية الأب أو ترجيح ناحية الأم اتجهت الألفة والعاطفة إلى الناحية التي يرجحها المجتمع أكثر من اتجاههما إلى الناحية الأخرى؛ وإذا كان محور القرابة في الأمة يعتمد على ناحية أخرى غير الأب والأم (وكثيراً ما تحقق ذلك في المجتمعات الإنسانية) انقطعت صلة الولد بأبيه وأمه معاً، واتجهت عاطفته وألفته نحو الجماعة التي يلحقه بها مجتمعه.
فلسنا إذن بصدد أمور تحددها صلات الدم أو تقررها الغرائز، بل بصدد نظم تصطلح عليها المجتمعات اصطلاحاً. والألفة التي يتحدث عنها الأستاذ العقاد، حتى في صورتها العاطفية الخالصة: لا تقوم على أساس من الغريزة؛ وإنما تخلقها النظم الاجتماعية خلقاً، وتتجه بها في الطريق الذي تريد. على أن هذه الألفة لا تتمثل في أمور عاطفية فحسب؛ وإنما يتمثل أهم عناصرها في طائفة من الحقوق والواجبات التي تربط الأقرباء بعضهم ببعض. وغنى عن البيان أن هذه الحقوق والواجبات لا تدين بشي إلى الغريزة؛ وإنما مردّها إلى المجتمع وقوانينه؛ بل لقد وصل الأمر في كثير من الشعوب الإنسانية أن انعدمت الألفة بمعناها العاطفي بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الأقوياء؛ لأن الأوضاع الاجتماعية كانت تحول دون نشأة الألفة بينهم بهذا المعنى؛ ولم تبق إلا الألفة بمعناها
القانوني والاجتماعي متمثلة في الحقوق والواجبات التي تربط أفراد الأسرة وتربط الأقرباء بعضهم ببعض. وإليك مثلاً العشائر البدائية باستراليا التي كان معظمها يسير على (النظام الأمي)(وهو الذي تعتمد القرابة فيه على الأم وحدها). ففي هذه العشائر كانت الأم تقيم عادة مع الأب في منازل عشيرته، مع أنها كانت تنتمي دائماً إلى عشيرة أخرى (فقد كان يحرم تزاوج أفرد العشيرة الواحدة بعضهم من بعض). وكان نساء العشيرة الواحدة يتزوجن من رجال ينتمون إلى عشائر متعددة ويسكنون مناطق مختلفة. وكان أولادهن بمقتضى النظام المتبع (وهو النظام الأمي) ينتمون إلى توتم أمهاتهم وعشيرتهن، ويؤلفون معهن أسرة واحدة. وقد ترتب على ذلك أن كل أسرة من الأسرات التي تتبع هذا النظام كانت مبعثرة الأفراد، لا يضم أعضائها مكان واحد، ولا يمكن أن تتكون بينهم ألفة عاطفية: يجمعهم ذلك الرباط الاجتماعي الديني، وتربطهم بعضهم ببعض طائفة من الحقوق والواجبات؛ بدون أن تنتظمهم وحدة جغرافية أو تؤلف بينهم رابطة إقليمية، أو تتوافر الظروف التي تنشئ في نفوسهم ألفة بمعناها الوجداني الطبيعي.
علي عبد الواحد وافي
دكتور في الآداب من جامعة السربون
سياسة التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد مطر
- 4 -
إن الروح العالمية التي أملت على وزارة المعارف التنازل عن سلطانها إلى فروعها في المناطق التعليمية الإقليمية وفي إدارات مدارسها بمشروع اللامركزية الذي وضعته ونفذته أخيراً - تلك الروح تستحق كل ثناء وإعجاب لأنها تدل على أن الوزارة جادة في تلمس أسباب الإصلاح. وإذا كانت هذه هي الخطوة الأولى في سبيله فإنه لا بد أن يتلوها خطوات؛ لأن الإصلاح يتطلب بجانب لتنظيم إدارات التعليم تنظيماً لمعاهد التعليم على أسس جديدة تغير من روحها ومن جوهر الحالة القائمة فيها لتنتج الخطوة الأولى نتيجتها. وبث الروح الجديدة في المعاهد يتطلب مجهوداً جباراً ويتطلب تعاوناً صادقاً من الرجال ذوي التجارب الذين مارسوا المهنة طويلاً، والذين يشرفون على معاهد التعليم، والذين يطلب منهم أن يقوموا بإخلاص بتنفيذ الأسس الجديدة. فلا بد لهؤلاء وهؤلاء أن يقتنعوا بما في المدرسة القائمة من عيوب وأن يقتنعوا بما يجب نحوها من تغير وتبديل بحث وتمحيص. ومشكلة التعليم يجب ألا تحصر في تغيير أسماء بأسماء أخرى، أو في نقل موظفين من هنا إلى هناك، أو في خلق وظائف قد لا يكون لها مبرر. إنما مشكلة التعليم الأساسية هي في المدرسة: في نظمها القائمة، وفي مدرسيها، وفي الروح السائدة فيها، وفي روح طلبتها.
فإذا كنا قد شكونا قديماً من أن روح المدرسة كانت محصورة منذ زمن بعيد في تلقين التلميذ كثيراً من المعلومات ليصبها صباً في ورقة الامتحان ثم ينساها بمجرد الانتهاء منه، فإن هذه الروح لا زالت قائمة إلى اليوم وهي التي تملي على المدرسة ومدرسيها أعمالهم، وتملي على الطلبة طرق السير في حياتهم وفي تفكيرهم، وفي غدواتهم وروحاتهم.
وإذا كنا شكونا حتى بحث الأصوات في كثير من الأوقات بأن المدرسة تباعد بين المتعلم وبين الأعمال والمشاريع الحرة، وإن كل متعلم متى حصل على شهادة فهو لا يفكر في عمل يعمله غير الوظيفة، وأن المتعلمين زاد عددهم قبل الحرب زاد عددهم قبل الحرب زيادة كبيرة، ونعتقد أن سيتضاعف عددهم بعد الحرب، فأن السياسة التي رسمت أخيراً
للوظائف بتسعير الشهادات وأعمال الإنصاف قد زادت أبناء الأمة تشبثاً بالوظائف واندفاعاً في سبيلها وتعلقاً بأهدافها فزادت بذلك مسافة الخلف بينهم وبين العمل الحر، وارتفعت نسبة عباد الوظيفة من المتعلمين حتى أصبحت المدرسة بحق هي المصنع الدائم لصناعة الموظفين!
وإذا كنا شكونا قديماً وقلنا بأن المدرسة لا تعني عناية مباشرة بتكوين النواحي الخلقية الضرورية في أبنائها أو بغرس الأخلاق القويمة التي تتطلبها حياة الأفراد والجماعات اليوم من صبر على المكاره ومثابرة على العمل وجهاد وتعاون على الخير الخ. فإن المدرسة لا زالت إلى اليوم تهمل كل هذه النواحي الهامة التي لا ينجح في الحياة فرد ولا مجتمع إلا بها. وإذا كنا شكونا قديماً من أن المدرسة تعني العناية كلها بالأمور المظهرية والصورية دون الأمور الجوهرية في اتصالاتها وأعمالها وحفلاتها فإن الحالة لا زالت تجري اليوم كما كانت قديماً. وإذا كنا شكونا من أن الاتصال الروحي الذي كان قائماً بين التلميذ وأستاذه والذي كنا نحسه قديماً في تلميذتنا يسري في دمائنا ويدفعنا دفعاً إلى تمجيد أساتذتنا واحترامهم مما كان يبعث في قلوبنا للمدرسة الهيبة والتقديس قد أخذ في التضاؤل حتى أصبح شيئاً تافهاً، فإنا نحس اليوم أن ذلك الاتصال الروحي قد انقلب مع الأسف إلى ضده حتى أصبحنا نرى تلاميذ المدارس ينتهزون الفرص أحياناً للنيل من أساتذتهم ونظارهم ومعاهدهم التي تؤويهم. ثم أن روح الاستهتار لم تقتصر على التلاميذ وحدهم بل تعدتهم في الأيام الأخيرة إلى بعض المدرسين الحديثين الذين اصبحوا لا يقدمون حق التقدير وأجبهم وما يلقيه عليهم من مسئوليات، فإذا عبثوا أو أهملوا وسئلوا في ذلك هزوا أكتافهم أو هربوا من المسئولية وألقوها على غيرهم ولفوا وداروا في الظلام بحثاً وراء من يحمي ظهورهم ويشجع استهتارهم بالعمل على ترقيتهم وسبق زملائهم. لذلك نجد أن الروح الجدية أخذت مع الأسف تتلاشى تدريجياً بين مدرسي مدارسنا كما تلاشت بين تلاميذنا. فما بالك إذن بروح التعاون التي تتطلبها المدرسة والجماعة والأمة في سبيل نهضتها ووحدتها!؟
ولقد زاد الطين بلة ما كان من ثورة على مناهج التعليم كأن المناهج لا المعلمين وكأن الخطط لا النظم هي التي تكون الناشئين! فلطالما اهتزت أركان الوزارة في ربع القرن الماضي بتغيير الخطط وتغيير المناهج وإطالة مدة مرحلة من مراحل التعليم وإنقاص
أخرى من تلك التغييرات الظاهرية، والتبديلات الجوفاء التي أضافت إلى جمود الروح المدرسي عبئاً آخر من فوضى التغيير الظاهري والعبث بالاستقرار الحقيقي حتى ضج من ذلك المعلم والمتعلم. وكم نادينا على غير جدوى بأن المشكلة الحقيقة ليست في المناهج والخطط ولكنها في نظم الدراسة وروحها ومعلميها. ثم زاد الحالة سوءاً بعد ذلك ما كان من تشجيع الطلاب على الاندماج في الحزبية الجامحة بالكثيرين منهم إلى الخروج على أبسط قواعد الأدب وتقاليد المجتمع!
كل ذلك يلمسه ويحسه القائمون على أمور المدارس والمتصلون بها من رجال التعليم والمشرفون عليها. وكل ذلك نادينا بضرورة إصلاحه من زمن بعيد فلم نجد مع الأسف من القائمين بالأمر إلا ارتجال مشروعات لا تمت بصلة صحيحة إلى إصلاح روح المدرسة ونظمها. وأعتقد أن رجال التعليم جميعاً يتحدثون بذلك ويدركونه ويتلمسون له الحلول فلا يجدونها! وهاهي ذي الأمة تقاسي اليوم من جراء ذلك ما تقاسي من فوضى الخلاق، وسوء معاملة الناس متعلمين وجاهلين بعضهم لبعض وعدم ثقتهم بعضهم ببعض، وأنانيتهم وجشعهم وقلة اكتراثهم بعمل الخير، وقلة إقدام متعلمينا وشبابنا على المشروعات العامة ببسب فقدان التناصر والتعاون حتى بين أفراد الأسرة الواحدة وخروج الابن على أبيه، وعدم رعاية حقوق الأخوة والجوار، الرحمة ممن تحب عليهم الرحمة للضعفاء والمعوزين، إلى غير ذلك مما يفت في عضد الأمة ويضعف من قوتها، ويوهن روح بنهضتها ويضعضع وحدتها. ولقد أحس بذلك الصغير والكبير ورجل الشارع التعليم. فما السبيل يا ترى لإصلاح هذه الحال؟
فإذا كنا نادينا في سبيل وحدة الأمة وتكاتف عناصرها بضرورة توحيد الثقافة في المرحلة الأولى من مراحل التعليم بإحلال المدرسة الموحدة محل المدرسة الموحدة محل المدرسة المشتقة من التعليم الإلزامي والأولي والريفي والابتدائي؛ وإذا كنا نادينا في سبيل وحدة الأمة بضرورة توحيد معاهد المهنة الواحدة، وعلى الخصوص معاهد المعلمين كدار العلوم ومعهد التربية وكلية اللغة العربية وإدماجها في معهد واحد لتخرج مدرسين متعاونين متضامنين عارفين بواجباتهم مقدرين لمسئولياتهم، فإنا ننادي كذلك بضرورة إصلاح المدرسة القائمة بصفة عامة إصلاحاً يتناول روحها ونظمها ويحدد أهدافها، ولن يتم لنا كل
ذلك إلا بالتعاون الفني والتعاون القومي. لا يتم لنا كل ذلك إلا إذا تعاون رجال التعليم عامة في لجان دراسة فاحصة تبحث عيوب النظام الحالي كلها وتناقشها في محاضرات ومؤتمرات عامة، وتضع الحلول المختلفة للخلاص منها. ثم تدرسها بعد ذلك لجنة فنية عليا لغربلتها وتصفيتها. ومما يساعد على ذلك الآن وجود عدد كبير من المفتشين العامين في مختلف إدارات التعليم بالوزارة. ثم يعرض الأمر أخيراً على مجلس المعارف الأعلى الذي سمعنا بقرب تشكيله. وإنه ليفرح الأمة أن يتكون هذا المجلس تكويناً قومياً بحيث يكون جامعاً لخلاصة المفكرين ورجال الأعمال من كافة الأحزاب، ويا ليته يضم عدداً من رجالات البلاد العربية الشقيقة حتى يكون عمله قومياً بحتاً معترفاً به من جميع الحكومات على اختلاف مذاهبها. وبذلك تسير مصر كلها ومعها بلاد الجامعة العربية في طريق واحد نحو هدف ثقافي واحد.
هذه هي الطريقة المثلى في حل مشاكلنا التعليمية، وهي طريقة وإن كانت بطيئة إلا أنها مضمونة الفائدة محققة النفع ذات هدف سام يرحب به الجميع، وأقل ما توصف به من خير أن الحلول التي تضعها لمشاكل التعليم لا تكون بنت يومها أو بنت الطفرة، ولا تكون حلولاً مرتجلة نتيجة تفكير فرد أو أفراد محدودين، بل هي نتيجة بحث وفحص وتمحيص يشترك فيها الجميع وتمليها المصلحة القومية العامة، مصلحة الأمة التي تطلب الوحدة وتنادي بها وتعمل لها.
عبد الحميد فهمي مطر
الأفغاني والوحدة الإسلامية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
- 4 -
وأخيراً، أين بلغ الأفغاني من التأثير في المسلمين بدعوته؟ وأين وصل من الطريق إلى هدفه وغايته؟ وماذا أجدى في تحقيق تلك الفكرة التي نهض لها ملء يقينه وجهد طاقته؟
إننا نستمع إليه في آخر حياته يرسل هذه الصيحة الأليمة اليائسة إذ يقول: (إن المسلمين قد سقطت همهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم، وهو شهواتهم!)
ففي هذه الصرخة التي تفيض بالألم نرى الرجل مغيظاً محنقاً، لأنه لم يجد في المسلمين العزيمة التي كان يتمثلها، والوثبة التي كان يتوقعها، وكأنه يقول: لقد ناديت لو أسمعت حياً، والواقع أن الرجل لم يكن يستطيع أن يبلغ أكثر مما بلغ، فإنه كان ينادي على قوم يأخذون طريقهم إلى النهاية، وسنن الوجود الاجتماعي لها في هذا حكمهما الذي لا يرد، وقد كان التيار المتدفق من الخارج قوياً عنيفاً، ودينا النضال والنزال في عهد جديد تسيطر عليه الآلة، وهو عالم لا يعرف عنه المسلمون إلا كما يعرفون عن عالم السحر ودنيا الجان
فحسب الرجل نجاحاً أنه فتح العيون على الخطر الماثل، ونبه الأذهان إلى غاية الشر المتنمر، وأنه استطاع بصادق غيرته وقوة يقينه أن يجعل من دعوته نقطة تحول في حياة الشرق العربي، وأن يقيمها عقيدة اجتماعية لها تيارها واتجاهها في تلوين الأفكار وتوجيه العقول والإفهام، على أننا لا ننسى أن الأفغاني في هذا كله كان لا يملك كثيراً من الوسائل المساعدة، فهو رجل فقير مضطهد، والملوك وأهل السلطان يخذلون جهده، ودول الاستعمار وأهل المآرب يناهضون فكرته، فنراه كل يوم على سفر يضرب في فجاج الأرض، كل ما في قدرته أن يلقي بأفكاره إلى إفهام الطبقة الطبقة المثقفة، وكانت يوم ذاك قلة، وليست في يد الوسيلة التي يصل بها إلى الرأي العام، ونحن نعلم من شواهد التاريخ أن الرأي العام هو القوة الفعالة في تحقيق الفعالة في تحقيق الدعوات، وأن الجماهير هي الوقود الذي ينضج الثورات
ولعل أهم ما أجدى السيد الأفغاني في توطيد دعوته والامتداد بأثرها في إيقاظ الشرق وتنويره، هم أولئك التلاميذ، أو على الأصح أولئك المريدون الذين بطابعه، وصقلهم على
غراره وخلع عليهم كل ما خصه الله به من عبقرية الدرس وعبقرية النفس، فكانوا لسان صدق للدعوة، وكانوا دعاة مخلصين واجهوا بها الأحداث في إباء وشجاعة، ولاقوا من أجلها الأهوال في قوة وصرامة، وقد كان أبرز هؤلاء الدعاة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضوان الله عليه، والسيد عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله
أما الشيخ محمد عبده، فقد كان صوتاً متفقاً مع الأفغاني، شاركه الرأي والجهاد في ميدان واحد، وأما الكواكبي فكانت حياته أشبه ما تكون بحياة أستاذه في الرحلة والتنقل من قطر إلى قطر، وكانت تعاليمه ودعوته إلى الوحدة صورة مطابقة لما كان ينادي به الأفغاني. كان الأفغاني كما مر بك يرى أن تقوم الدعاية للوحدة بعقد مؤتمر عام كل سنة في مكة يجمع أصحاب الكلمة والرأي من العلماء لحسم كل نزاع، وتدبير كل ما من شأنه النهوض بالمسلمين، فتطوع الكواكبي لعقد هذا المؤتمر في عالم الخيال أو في عالم الأمل، وندب له أعضاء من جميع الأقطار الإسلامية، ووضع أمامهم حال المسلمين للبحث وتمحيص الرأي، وقد جعل هذا موضوع كتابه المعروف (بأم القرى)، وهو أسم أخذه أيضاً من أسم الجمعية التي كان أنشأها أستاذه بمكة من قبل
ولكن هؤلاء الدعاة، وهم ما هم في صدقهم وإخلاصهم لم يستطيعوا أن يتمسكوا إلى آخر الشوط بدعوة الأفغاني في نصها وحرفيتها كما يقولون، لأن الحوادث كانت تتطور تطوراً سريعاً يحيط بهم، ويكبر على جهدهم، فكان عليهم أن يلائموا بين خطتهم وبين طبيعة الحوادث، وقد تبصر المعتدلون من هؤلاء المريدين والأتباع، فرأوا أن وحدة تشمل سائر الأقطار الإسلامية وتجمعها في صعيد واحد لا يمكن أن تقوم لا في الوضع السياسي ولا الاجتماعي ولا العمران، وأن الفكرة في ذلك فكرة فضفاضة متموجة لا تحدها معالم ثابتة ولا تسندها مقومات متينة، فضلاً عما تثيره من الاتهامات والشبهات وما تلاقيه من المناهضة والمقاومة فعدلوا عن الوحدة الإسلامية إلى الوحدة العربية، واختزلوا رغبة الأفغاني في قيام وحدة تشمل سائر الأقطار الإسلامية إلى وحدة عربية تجمع الأقطار المتجاورة المتشابهة التي وحدت حوادث التاريخ الماضي بينها في اللغة والتفكير والمظهر الاجتماعي، والتي تؤلف بينها الأغراض المشتركة والآمال المتفقة في الفوز بحياة الحرية والعزة، ولم يكن قصدهم (العربية) المحصورة في شبه الجزيرة العربية فحسب، بل كانوا
يقصدون أيضاً ما يتفرع عنها من الجنس السامي في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، وما يتصل بها من الجنس الحامي في مصر وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، وكانوا يعتقدون أن رابطة تشمل هذه الأقطار مما يدخل في دائرة الإمكان، بل إنها قائمة روحياً ومعنوياً، لا ينقصها نحو التنفيذ والإنجاز!
وإذا كان دعاة (الإسلامية) قد وقفوا في تأييد دعوتهم عند أساليب الحث والوعظ والتذكير والإهابة بضرب الأمثال وأناشيد المجد السالف، فإن دعاة (العربية) قد أخذوا في دعم فكرتهم بأساليب الفلسفة السياسية والاجتماعية، وخلعوا عليها لباساً علمياً من النظريات العلمية التي كانت شائعة بين العلماء في ذلك الوقت. كانت الجامعة السياسية في رأي علماء الألمان تقوم على وحدة اللغة ووحدة الجنس، وعند علماء الطليان ترتكز على وحدة التاريخ ووحدة العادات، وعلى مذهب الفرنسيين تعتمد على وحدة الطموح السياسي ونفوذ السلطان، وفي جماع هذه الآراء والاتجاهات وجد دعاة العربية برهاناً لدعوتهم، من وحدة اللغة، ووحدة الجنس، ووحدة التاريخ، ووحدة التقاليد، ووحدة الطموح السياسي، وبهذه الصبغة صبغوا دعوتهم ونادوا بفكرتهم وانتصروا لها بكل ما يملكون من أساليب البيان واللسان
وأذكى تيار هذه ما كان من غطرسة الحكم التركي في الاستخفاف بحقوق العرب والنظر إليهم بعين الإغضاء والاستهانة، وقد اضطرت تركيا تحت هذا الضغط إلى إصدار كثير من (الفرمانات) تعلن فيها المساواة بين الأجناس والأديان في السلطنة العثمانية، ثم أعلنت دستور سنة 1909، فغمرت العرب موجة من السرور والارتياح، وشاموا في هذا بداية عهد جديد يؤدي إلى جمع القلوب، ولكن سرعان ما تكشفت الأمور فإذا هي هباء وألاعيب، وإذا الاتحاديون الذين أعلنوا الدستور وجاهدوا من أجله اشد الغلاة في هضم حقوق العرب والاستهانة بحريتهم وكرامتهم، وظهر لأبناء العروبة أن (الفرمانات) التي حررت، والدستور الذي أعلن لم يكن إلا حبراً على ورق، فانقلبت آمالهم إلى خيبة مريرة، وحسرة قاسية، واشتدت عصبيتهم لجنسيتهم، ووقفوا والعثمانيون وجهاً لوجه.
كانت هذه الحركة أقوى ما تكون في سوريا والعراق لوقوعهما مباشرة تحت سلطة تركيا، ولكن مصر كانت أوسع ميدان لها وأفسح مجال للعاملين على امتدادها، إذ كانت مصر في
هذه الفترة موئلاً للمتمردين على الحكم العثماني من أبناء الأقطار العربية، كما كانت مجال فكرية تملك من الوسائل والأسباب ما لا يملك غيرها من أقطار العالم العربي، وامتد تيار هذه الحركة على أوسع ما يكون، وتألفت أحزاب وجمعيات ومنتديات كثيرة في مصر وبيروت وفي الأستانة نفسها، وكل منها يعمل في طريق للنهوض بأبناء العربية، ووقف الشعوبيون من أنصار الرابطة (الطورانية) يناهضون هذا الاتجاه ويناضلون العرب فيما يدعون إليه، ووجد أنصار الأغراض الاستعمارية لأنفسهم من هذا منفذاً لبث آرائهم ودعاياتهم، فكان أن أصبح الرأي فوضى لأقوام له، وأصبح الدعاة للوحدة والنهوض يخضعون لتيارات مختلفة ويعملون لأغراض متباينة، ففي مصر مثلاً كان الرأي القوي الذائع هو أن تنال مصر استقلالها وأن تتحد مع جاراتها العربية، على أن يكون ذلك في ظل الولاء للخلافة العثمانية، ولكنك كنت تجد في الجهة المقابلة رأياً يدعو إلى الاستقلال عن كل سلطة خارجية وصلة أجنبية ورعاية مصالح مصر قبل أي اعتبار آخر، وفي سوريا والعراق كان جماعة ينتصرون للعربية من عسف الأتراك، ويدعون إلى الوحدة على أن تظل على الإخلاص لبني عثمان، ولكن الرأي السائد عداوة للأتراك، وعصبية للجنس، وتشنيعاً على الاستعمار العثماني في جميع أطواره، وكان أصحاب هذا الرأي يعتقدون أن العرب إذا انسلخوا عن الوحدة العثمانية في مقدورهم (أن يقيموا لأنفسهم استقلال سياسي)، ولا بأس عليهم من الاستعمار الأوربي، وكان أكثر أهل هذا الرأي من (محترفي السياسة وتجارها) كما يقول بعض الكتاب، ولسنا في مقام توزيع التبعات وتحقيق الاتهامات وتفنيد الآراء، ولكنها إلمامة عارضة أوردناها على قدر ما يقتضيه الموضوع الذي نحن بصدد في بيان الأثر الذي امتدت به دعوة الأفغاني.
هذه الفوضى التي اضطربت بالإفهام وبلبلت الأفكار، وهذه الأغراض التي دخلت على الدعاة إلى الوحدة العربية واردة من (أوروبا)، جعلت على العقلاء ينظرون إلى المسألة بعين التبصر مرة أخرى، ويحكمون فيها عقولهم قبل أن يندفعوا إليها بعواطفهم، فظهر لهم أن هنالك خطراً ماثلاً يتهدد كل وحدة في الشرق مهما كان لونها أو اتجاهها، وأن أوربا تريد أن تضع يدها على تركة المسلمين تحت سمعهم وبصرهم، وأن (القوة العثمانية التي تمثل الاستقلال السياسي للمسلمين والتي هي مظهر السيادة الإسلامية قد أصبحت معرض
لأشد الأخطار)، ظهر كل هذا للعقلاء المتبصرين، فأشفقوا من الخلاف القائم، وانبروا يدعون إلى الاتحاد تحت راية الخلافة، ويحضون على وحدة شاملة لمدافعة الخطر، وكانت مصر أفسح ميدان لهذه الدعوة وأعلى صوت في الدعاية لها والحض عليها، لأن ما كانت تعانيه من عسف (كرومر) قد بصرها بالأمر، ولأنها كانت في النهضة الوطنية والفكرية أسبق وأنضج، ولأن صلة (بيتها الحاكم) ببني عثمان كانت تقوم على المودة والقرابة.
وبين عشية وضحايا وضح الأمر وتكشف الحقيقة فيما توقعه أولئك العقلاء، إذ تألبت ممالك البلقان على الدولة العثمانية، ودهمت إيطاليا طرابلس وبرقة وضرب أسطولها بيروت في غير شفقة ولا رحمة، فهز هذا من أريحية المصريين، واستثار عواطفهم وشجونهم، وارتفعت الأصوات بالإشفاق على مجد الإسلام ومعالمه الباقية، وعادت الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لتكون قوة في وجه الاستعمار الذي كشف عن ناجذيه في غير مواربة، وقد بذلت مصر بذل المخلص الشريف في نصرة العالم الإسلامي، وأمدت تركيا بهبات سخية من المال والعتاد، وأعانت المنكوبين إعانات فياضة، مما دلّ على الإخلاص في النية، والصدق في العزيمة، والغوث في الملمات.
واطردت الأمور متقلبة متحولة، ومضت الأحوال تجري بين جزر ومد، ولم تلبث الحرب الماضية أن نشبت على أوسع رقعة، ودخلتها تركيا إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء، فطوى كل رأي في صدور أصحابه، ووقف كل دعوة عند حدودها، وأصبح الأمر للدعايات الحربية والسياسات الحزبية والاتجاهات الملتبسة التي لا يرتبط فيها اللسان بالقلب، ولا يتصل فيها القول بالعمل، وفي هذا الجو ظهرت دعوة إلى (العربية) في شكل جديد وعلى وضع جديد، وكان الغرض فيها يدور حول الحركة التي قام بها السلطان (حسين بن علي) في الحجاز، وامتدت دعاياتها إلى سائر الأقطار العربية، وكان هذا الغرض هو ما تكشفت عنه الحوادث في أعقاب الحرب الماضية، وكان أثر هذه الدعوة الجديدة هو ما انتهت إليه بعد.
الخلاصة:
فأنت ترى فيما أوردناه عليك، أن الدعوة إلى الوحدة إنما نشأت (إسلامية) قوامها القرآن في لسان الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وأضرابهم، ثم اختزلت إلى (العربية) في تقدير
المعتدلين ممن جاءوا على أثرهم وترسموا طريقهم، ثم تشعبت هذه (العربية) فيما بعد إلى شعب لها مراميها وأغراضها، ولها أساليبها وسبلها، ولا شك أن المؤرخ السياسي والاجتماعي لحياة الشرق العربي في العصر الحديث لا بد له من تحليل هذه التيارات كعوامل وعناصر كان لها في توجيه الرأي السياسي والاجتماعي الذي سيطر على الحركات الأخيرة، وكيف النهضات الحديثة، وأدى إلى ما بلغته الأقطار العربية اليوم، بل وما ستبلغه في الغد، والفضل في هذا كله للأفغاني العظيم، الذي وهب نفسه للوحدة، وظل طول حياته يجاهد في سبيل هذه الدعوة.
(تم البحث)
محمد فهمي عبد اللطيف
هرموبوليس مدينة الحج
للأستاذ فوزي الشتوي
انقرضا من مصر
في أساطير قدماء المصريين أن مجاعة اجتاحت بلاد النوبة ففتكت بأهلها وزرعها، إلى أن خف إليها الإله توت على شكل قرد أنقذها وأعاد إليها الأمن ورغد العيش. والإله نوت من اقدم معبودات قدماء المصريين. وله رمزان يمثله أحدهما على صورة طير أبي منجل. ويمثله الثاني صورة وجه القرد.
وقد تبين من حفريات جامعة فؤاد الأول برياسة الدكتور سامي جبرة في منطقة تونة الجبل قرب ملوى أن أرض مصر في عهد الفراعنة كانت تضم مجموعة كبيرة من الحيوانات التي انقرضت أو هاجرت إلى بقاع أخرى ومنها طير أبي منجل والقرد. والأول من فصيلة أبي قردان وله طباعة في الفتك بالحشرات الضارة بالإنسان وزرعه:
رمزان للإله
قال عنه هيرودوتس المؤرخ اليوناني إنه كان يسكن بين جبال سينا فيأكل الثعابين والحيات قبل دخولها أرض مصر. ويقول الدكتور سامي جبرة إن المصريين شهدوا اتزان مشيته ووقاره، فأعجبوا بصفاته العالية، واتخذوه رمزاً لإله المعروفة، ولئن كانت قوانيننا الحالية تحرم صيد أبي قردان، وتفرض الغرامة والسجن على مقتنصه فإن قوانين القدماء كانت تقضي بإعدام من يقتل أبا منجل
والقرد من الحيوانات النادرة التي تهلل جماعاتها إذا أشرقت الشمس وتنوح وتندب إن آذنت بالغروب. والمصريون القدماء معرفون بدقة الملاحظة. رأوا في تهليله ونواحه علامة على معرفته لأسرار الشمس والعالم الآخر.
والإله توت إله المعرفة، يعرف ما خفي وما استتر، ويحق الحق ويزهق الباطل. وهل لإله المعرفة من رمز أشهى من الاتزان كما تمثل في أبي منجل؟ وهل من إدراك بالغيب وسر إقبال الشمس واختفائها أعمق من إدراك القرد؟ رأى المصريون في الحيواني صفات شديدة الصلة بالإله توت فاتخذوهما له رمزين حيين، ورفعوهما إلى مركز التقديس.
وزال أبو منجل من مصر، ولكنه لا يزال يقطن السودان وشواطئ إيطاليا الجنوبية، كما يعيش القرد في عدة أماكن منها السودان. وعرف رمز الإله في عهد الفراعنة باسم توت، فلما أقبل اليونان والرومان رأوا فيهما تشابهاً مع إله المعرفة عندهم فسموه هرمس.
وأطلقوا على بلدة أشمون الغربية أسم هرموبوليس. ولتوت فيها مقابر من السراديب الصخرية قال عنها هيرودوتس إن مساحتها 40 فدانا ضمت جثث آلاف القردة وأبي منجل.
ولعل القارئ سمع عن بلدة الأشمونين أو بلدي أشمون. والغربية منهما تكون من قبور الإله توت ومعابده ومكان الحجاج والشرقية هي مركز الحياة المدنية والإدارية. وقد كشفت حفريات الدكتور سامي جبرة عن المدينة المقدسة فأعطانا معلومات هامة عن فترة من أشد فترات التاريخ المصري القديم غموضاً وهي ما يسميه الدكتور بعصر الانتقال. إذ يربط بين المدينة المصرية وبين المدينة اليونانية الرومانية. وهناك قطع أٌثرية جمعت بين الفنين. وقد امتدت إلى ما قبل العصر المسيحي بقليل.
مجهول يتكشف
ويقول الدكتور إن أبحاث الجامعة هناك تشمل فترة تبدأ من القرن السادس قبل الميلاد. وتمتد إلى القرن الثالث بعد الميلاد، أي أنها تضم تسعة قرون من الزمن. ولا تخلو آثارها من مفاجآت، ففي أحد السراديب وجد ناووس للإله توت يخص الملك رمسيس الثاني من عهد الأسرة التاسعة عسرة.
ويرى مؤرخنا أن أهمية منطقة الأشمونين ترجع إلى موقعها الجغرافي والتاريخي. فهي في مفترق الطرق بين مدينة طيبة قرب الأقصر وبين مدينة ممفيس في الدلتا. وهي منطقة واسعة الثروة يتسع فيها وادي النيل فيغطي رقعة واسعة من الأرض هي في الواقع أوسع منها في أي بقعة أخرى.
وتفرع من هذه المنطقة أيضاً طرق قوافل تخترق البقاع إلى السودان وإلى البحر الأحمر. كما يخترقها نهر النيل وبحر يوسف فتجود أرضها بالوفير من الغلات والحاصلات.
وقد بدأت الحفريات في سنة 1931 في ظروف قاسية فلم يكن بالمنطقة ماء ولا سكان، بل كانت تلال من الرمال يتراوح ارتفاعها بين 12 متراً و15 متراً فلم يكن هناك مفر من
المبيت في خيام أو أكواخ صغيرة، فتحمل الجميع شظف العيش هناك. وعلى مر السنين أقيمت المباني وتيسر الحصول على الماء والغذاء وأصبحت من أجمل البقاع.
مدينة الحجاج
ومدينة الحجاج تتكون من ثلاث سراديب طويلة متفرعة اتخذت مدافن للإله توت. شيد إلى جوارها بناء كبير يتكون من عدة غرف لتنظيم دفن جثث الطيور أو القردة. مات واحد منها نقله صاحبه إلى الكهنة ودفع قدراً من المال يقرر تبعاً له مدى إتقان التحنيط ومكان الدفن. فإن كان كبيراً حنط رمز الإله تحنيط الدرجة الأولى ودفن في فتحات خاصة حفرت في الصخر على جانبي السراديب. فعرف مكانه وتيسر له زيارته كل عام في عيد الإله توت في أول الشهر المعروف باسمه في التقويم القبطي، ويوافق 16 يوليو في بدء الفيضان.
وإن كان صاحب الرمز فقيراً ودفع قدراً قليلا من المال حنطت الجثة من الدرجة الثالثة، ووضعت في إناء من الفخار، ثم دفنت في حجرات واسعة منتشرة على جانبي السراديب صفاً صفا. فإن اكتمل نظام صف وضعت فوقه طبقة من الرمال لتبدأ طبقة أخرى من الجثث إلى أن تملأ الحجرة فيبدأ الدفن في غيرها.
ودفن الأثرياء مع رموز آلهتهم تماثيل وتمائم تمثلهم لتحل على أشخاصهم بركة الآلهة. وكانوا يضعونها في صناديق من خشب الحميز الذي اثبت أنه لا يبلى بمر السنين، وأنه أقوى أنواع الخشب متانة واحتمالا بخلاف ما يقول المثل البلدي (تخن على الحميز) وكتب بعضهم على هذه الصناديق أدعية.
معدات تحنيط كاملة
وقرب مدخل السراديب وجدت غرفة تحنيط كاملة المعدات وتبين جميع مراحله، في أحد أركانها إناء كبير يحتوي على مادة التحنيط نفسها، ولكن تحليلها لم يكشف عن سر تركيبها، فإن انتهت هذه العملية حمل الكهنة المومياء في موكب ديني وهم يرتلون أدعيتهم ونزلوا سلم بظهورهم إلى أن يضعوها في مقرها الأخير
وأحد هذه السراديب خاص بالعظماء، نقش سقفه بالألوان وزين بالرسوم، وتغطية الآن
طبقة خفيفة من (الهبات) لا يعرف مصدرها وإن كان يظن أنها أثر حريق شب في السراديب أو لأن المسيحيين كانوا يلجئون إليه هرباً من اضطهاد الرومان فيتصاعد دخان مسارجهم ويغطي السقف بلونه القاتم
واحتفظ معبد الأرواح المقدسة في أحد السراديب بنقوشه وآثاره. شيده أحد البطالسة تقرباً من المصريين وهو يمثل الإله توت على شكل قرد يستقبل أشعة الشمس. ويلاحظ أن جميع غزاة مصر حاولوا التقرب من المصريين وحكمهم عن طريق الاندماج في ديانتهم، فقد وجد ناووس قرد للملك داريوس الفارسي. وتحاط مدينة الحج بسور متدرج في الارتفاع تكون كل ثمانية أعمدة درجة. والثمانية هو درج، والثمانية هو رمز تلك المنطقة وتعبير عن عدد آلهتها الثمانية المعترف بهم في ذلك الوقت. فلا تجد هناك يتكون من ست أو سبع بل ثمانية ومضاعفتها وحتى مدخل السراديب أضيء بثماني مسارج.
فوزي الشتوي
عيد الجلوس والربيع والسلام
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لواءُ مُلك يا مولاي منشورُ
…
وعيدك السَّمَح ضاحي الوجه مشهور
له على الأرض ضجَّات وجلجلةٌ
…
وفي السموات تهليلٌ وتكبير
يومٌ من الُخلد قد خُطَّت صحائفُه
…
كأنه في سجل الُخلد مسطور
مع الربيع قد انهلَّت بشائرُه
…
وللربيع إذا وافى تباشير
كأنه مُؤْذِنٌ بالخطبِ في بلد
…
ثَراؤه في كتاب الله مذكور. . .
مولاي تلك الأسارير التي انبسطت
…
ما أشرقت مثَلها فينا أساريرُ
مولاي تلك الأزاهير التي ابتسمت
…
ما شابهتها على الروض الأزاهير
تبسَّم الزمن المنكودُ واعتدلت
…
أموره وتحامتنا الأعاصير
ومرَّ من سيئات الدهر ما غُفِرَتْ
…
وكلُّ سوء على الأيام مغفور
وأصبحت مصرُ والأيام مقبلةٌ
…
والحظُّ في أمرها جَذْلانُ مسرور
لما جلست أقال الله عثرتها
…
وصافحتها على الخير المقادير
مولاي عيدُك هذا العام تغمرُه
…
بشرى السلام وَيَسْرى فَوقَه النورُ
كأنه من هُتاف الحقُّ أغنية
…
أو أنه من نشيد السلم مَزْمور
كانَ الطُّغاة لهم تدبيرُ منتقم
…
فينا، ولله يا مولاي تدير. . .
رَمَوا والله في أغراضهم هَدَفٌ
…
وقدَّروا، ولحكم الله تقدير. . .
شَنُّوا على الأرض حرباً غير عاقلة
…
الجوُّ منها لظى والبحر تَنُّورُ
ظنوا الليالي عنيهم غيرَ دائرة
…
مَن اطمأنَّ إلى الأيام مغرور
الأرضُ ضاقت عليهم وهْي مُفْزعةٌ
…
والجوُّ سُدَّ عليهم وَهْوَ مذعور. . .
كم آمرٍ بات منهم وهو مُؤْيمِرٌ
…
وآسرٍ بات فيهم وهو مأسور. . .
مولاي: في الشرق نورٌ كم أضاء به
…
على الدجنَّات في التاريخ دَيجور
وللعروبة يا مولاي ألوية
…
يُنبيك عنها من الرومان (نقفور)
لواؤُها في دروب البرَّ منتصر
…
وجيشها في خِضَمَّ منصور
إذا غزت فهي نيران مسعرة
…
وإن رمت فهي تخريب وتدمير
ماض من العيش قد ولت بشاشته
…
وما جرت فيه بالسعد المقادير
قد غَيَّر الدهرُ يا مولاي سيرته
…
والدهر في صرفه حوْلٌ وتغيير
إنا لنرجوك لمال تجرها
…
فكل كسر على كفيك مجبور
عسى الليالي التي ضاعت نضارتها
…
تعود منها الفيافي وهي يخضور
ما دام فيه قلوبٌ مثلُ قلبكمو
…
فكل معسوره لا شك ميسور
فكن إلى المجد ركناً في بنايته
…
فإنما الملك إصلاح وتعمير
يا قائد الجيش إن السيف ما برحت
…
له على الأرض آراءٌ وتدبيرُ
كفى الوقوفُ بمجد ليس يحفظه
…
إلا الفوارسُ والأُسّدْ المغاوير
من فاته السيف في الدنيا فليس له
…
من ذنبه في حِفاظ الحقَّ تكفيرُ
لا يحفظ الحقَّ إلا السيفُ منصلتاً
…
دعوى السلام بتلك الأرض تغرير. . .
ذلك الصوت!
للأستاذ إبراهيم العريض
يا ابنة الحسن! قد عشقتُك صوتاً
…
يتهادى على جناح الأثير
أنا أصغي إليك في كِلّة اللي
…
ل كأني في عالم مسحور
ليت شعري! أيضحك البدر لي أم
…
أنا في وسط حفلة للطيور؟
لم أكن قبل ذلك الصوت أدري
…
أن في الأرض كل هذا السرور
ما وعتْ من لحونك الأذن لحناً
…
إنما غبتُ. . غبت بين الزهور
يا طريد الجنان! عرّج على الخل
…
د، فما ذاك غير صوت البشير
هو كالروح. . . في ضلوعي منه
…
حفقةٌ، بللت أرق شعوري
هو كالورد. . . ما نشقت بأنفي
…
ريحه، بل لمستُه في ضميري
هو كالصيف. . . ليله مر بالأنج
…
م يزهو، في قلبي المحرور
هو كالنجم. . . ما تصورَّت إلا
…
أنه في السماء بات سميري
كنت في ظلمة، أعيش لذكرى ال
…
حسن، حتى حظيت منه بنور
هو دنيا من الشعور لقلبي
…
يا لدنيا - في وحدتي - من شعور
البريد الأدبي
في مدرج كلية الحقوق بجامعة فؤاد
دفعني حب الاستطلاع إلى مشاهدة مناقشة رسالة الأستاذ (أنور مصطفى الأهواني) في يوم السبت الماضي عن (رئيس الدولة في النظام الديمقراطي) التي تقدم بها إلى (كلية الحقوق) بالجيزة. ولطالما تاقت نفسي - بعد أن طوفت ما طوفت في جامعات لأوربا وشهدتُ مناقشة رسائل عدة بها - إلى أن أحضر نقاشاً في جامعة مصرية يكون فيها المحتكمِ والمحتكَم إليه من المصريين. ولقد تركت أحسن الثر في نفسي تلك الساعات القليلة التي قضيتها في مدرج كلية الحقوق أستمع إلى الحوار الذي دار بين أعضاء لجنة التحكيم وبين مقدم الرسالة. وراعني حقاً حرص المحكَّمين جميعاً على الفصل بين العلم والسياسة، وإيثارهم التفرقة بينة لغة الكتب ولغة الصحف، وأن يكون النقاش كله بالعربية الفصحى وإن رأت لائحة الكلية غير ذلك
وكان يسود الجلسة روح من المرح والإفادة، وكان يغشاها جلال العلم ورهبته لولا ما تخللها من تصفيق استحسان أو قهقهة استملاح. وحبذا لو عمل رؤساء لجان التحكيم على أن يظل للعلم حرمته ولقاعة المباحث ما لا يذهب بقدسيتها ويصيرها سرادقاً يضم خطباء ومعجبين.
ولقد أظهرت مناقشة المحكمين للرسالة دراستهم إياها دراسة مستفيضة وإلمامهم بموضوعهم إلماماً تاماً، ودلت على غزارة مادتهم واطلاعهم على ما كتب الأعاجم، ولا غرو فمن بحرهم نهلوا أو عليهم تتلمذوا. وعندي أن لو هيئ لهذا الشباب الناهض من الأساتذة، مجال العمل وإيقاف النفس على العلم وحده دون تطلع إلى مناصب القضاء أو الإدارة لأتي بأطيب الثمرات، ولأنجبت مصر مئات من عبد الحميد بدوي وأحمد ماهر
وكان غريباً أن يطلب إلى المرشح أن يذكر ملخصاً لأطروحة باللغة الفرنسية، ولا أكتمك أنني أحسست عند ذاك يخدش في عزتي القومية، وتساءلت كيف نكون في جامعة مصرية، وبين أساتذة وطلبة مصريين تُنَاقَشُ رسالة مصرية بلغة أعجمية؟ ولم يذهب بدهشتي إلا قول جار لي إن لائحة الكلية تجيز ما كان. إلا أنه إذا صح لِلاَّئحة أن تجيز ذلك أيام أن كنا فقراء في العلماء وكان الأساتذة الأعاجم يشتركون في مناقشة الرسائل، أو لا يجدر بنا أن
نغفل هذا الأمر اليوم بعد أن توفر بيننا العدد الكافي من المحكمين المصريين؟
ثم أعود فأقول إن من صواب الرأي أن يؤذن للطالب بالحديث والرد وهو جالس لا أن يترك أكثر من ساعة واقفاً كالخطيب يستند على إحدى قدميه تارة وعلى الثانية أخرى. إن المرشح يكون في حال نفسية تتطلب أن توفر له أسباب الراحة، ولن يكون هذا بتركه يلقي ملخص رسالته وهو واقف والكرسي بجانبه. ولعل إدارة الكلية تفكر في أن تضع ثلاثة مصابيح ثابتة على منصة المحكمين أمام كل عضو مصباح حتى لا يتكرر ما تكرر في الجلسة التي نكتب عنها مما ذهب ببعض جلالها
وبعد، فلقد كان الدكتور سيد صبري بارعاً في محاجته للطالب وإن ظهرت عليه روح التحامل الخطابة أحياناً. وكان بارعاً كذلك في دفاعه عن نفسه وتنصله من أنه (يميل إلى الحلول الوسطى) أو (أن بعض العبارات في كتبه غامضة) وكانت روح الدعابة التي مزج بها نقده تخفف على الممتحَن بعض ما لقي منه.
أما الدكتور وحيد رأفت فكان حواره حوار العالم الذي لا يرمي من وراء مناقشته إلا إلى الوصول إلى الحقيقة وإرشاد المخطئ إلى مواضع خطئه. وكان التزام سبيل المنطق في الإقناع أكبر عون له في بلوغ غايته؛ وألبست نبرات صوته المتزنة الهادئة الجلسة جلالا فوف جلالها؛ فكان الكل آذاناً صاغية له.
وكان صديق الدكتور عثمان مثلاً للشباب الحي. ولقد برهنت مسايرته الطالب في المناقشة متتبعاً الرسالة صفحة صفحة على أنه (قتلها بحثاً) ولو كنت ذا إمْرَة لأذنت لعضو اليسار بأن يكون البادئ في المناقشة؛ فهو عادة أحدث المحكمين سناً، وأنَّ سّبْقه بغيره يفوت عليه كثيراً من نقده.
ولو أن الدكتور عثمان التزم اللغة العربية الفصحى في مناقشة لكان لحواره شأن آخر. وليت شعري لماذا كانت تبدو عليه إمارات الغضب والتألم وهو يعد المآخذ على الرسالة؟ إن كان المصنف قد أسرف في الاقتباس إسرافاً حوّل الرسالة إلى (ملخص) مدرسي، فكيف أذنت له الكلية في طبعها؟ كيف أذنت في أن يحمل أسمها كتاب ليس لواضعه فيه إلا الجمع والتوقيع؟
عبد العزيز برهام
إلى الدكتور جواد علي
قلت في السطر الرابع من العمود الثاني من مقالك القيم (أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة) في عدد الرسالة السابق 618 ص473: (وأبو سعيد. . . . . . كان على رأي أكثر المتصوفة الفرس في مذهب الحلول ووحدة الوجود بل كان من متطرفي أصحاب هذا المذهب في هذه العقيدة).
وأقول إن ثمة فرقاً كبيراً بين مذهب الحلول ووحدة الوجود حتى إنه لا يحق لنا أن نجمع بينهما ونقول إن أبا سعيد كان من أتباعهما معاً. إن المذهب الأول اثنيني يقول بطبيعتين مختلفتين: إلهية وبشرية، يمكن للأولى أن تحل في الثانية إن تحققت شروط معينة، ويتضح هذا المذهب خير ما يتضح عند الحلاج الذي قد تأثر ولا شك بفكرة المسيحيين عن اللاهوت والناسوت.
أما المذهب الثاني فمذهب وإحدى يقول بحقيقة واحدة كلية لها تعينات هي الحقائق على اختلافها. الكل هو التعينات والتعينات هي الكل وهذه وتلك هي الله. ويتضح هذا المذهب خير ما يتضح عند ابن عربي.
هذا الخلط بين مذهب الحلول وحدة الوجود قد وقع فيه من قبل زكي مبارك مع أنه قد ميز بينهما في هامش كتابه التصوف الإسلامي.
وإذا كان الأمر كذلك فإني أسأل الدكتور أن يجيبنا: من اتباع أي المذهبين كان أبو سعيد) ولكم الشكر.
حسن علي الحلوة
إلى الأستاذ محمد يوسف موسى
قدم الأستاذ محمد يوسف موسى كتابه (ابن رشد الفيلسوف)
إلى الأستاذ أحمد عاصم بك المدير العام لدار الكتب المصرية
فأرسل إليه هذا الكتاب.
شكرتك من قبل على هديتك العلمية القيّمة، كتابك عن (ابن رشد الفيلسوف)، والآن وقد قرأته أكثر من مرة، أرى من حق هذا السفر المتع أن ابعث إليك بكلمة تعبر عن مدى تأثيره في نفسي.
لقد كنت إلى عهد غير بعيد اشعر بشيء من الضجر كلما وقع في يدي كتاب في الفلسفة أو عن الفلاسفة، وكنت ألمس مثل ذلك الشعور في إخواني لا أشك في مقدرتهم العلمية، وكان هذا الملل يتطور أحياناً إلى درجة (النفور) من الفلسفة، حتى حملني ذلك على تلمس السبب في هذا الشعور المشترك بيني وبين من أعرفهم من صفوة المثقفين المفكرين، فلم أجد لذلك سبباً إلا ما يتوخاه بعض من يكتبون في الفلسفة من طرق معقدة كثيرة الغموض والدوران، توحي أحياناً بأن المؤلف نفسه لا يملك ناصية مادته، ولا يستطيع صوغها في القالب السهل الواضح الذي يجنَّب القارئ الحيرة، ويشبع أطماعه ويحبب إليه ما يقرأ.
ولكني قد لمست الآن والله الحمد تطوراً عظيماً في أسلوب الكتابة في الفلسفة، يبشر بعصر مزدهر في حياة هذه المادة، فهي لا يعوزها غير إقبال القراء عليها، والمؤلفون وحدهم هم الذين يملكون هذا التيسير. فإن قلت لك إن كتابك حملني على قراءته عدة مرات، علمت بعد هذه التوطئة التي سُقتها مبلغ تأثيره في نفسي، ومدى إعجابي به وبأسلوبه.
وإني لأرجو مخلصاً أن ينسج الكتَّاب على منواله، كما أنني شديد التفاؤل ما دامت قد قامت الآن فلسفية يحمل علمها جلَّة من العلماء المعاصرين، وفي زمرتهم الأستاذ صاحب (ابن رشد الفيلسوف). ولا شك في أن للأزهر وأبنائه فضلهم العظيم في أحياء هذه النهضة التي ترمي إلى تيسير فهم الفلسفة على غير الفلاسفة، وإثبات أن الدين والعقل متلازمان لا تنافر بينهما، فينصف بذلك أمثال ابن رشد والفاربي وابن سينا وغيرهم على يد الأزهر وفلاسفة الأزهر. لهذا غمرتني موجة من الغبطة حينما رأيتك وقد وفيت موضوعك حقه، وأعطيت ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ويسعدني ما اشعر به من أن السواد العظم من الناس ستطمئن نفوسهم إلى الفلسفة وهم يرون الأزهر يحمل شعلتها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المخلص
أحمد عاصم
20 -
5 - 1945
نقل مبتور عن ابن تيمية
نشر الدكتور جواد على تعليقاً على ما كتبه معالي مصطفى عبد الرزاق باشا عن الفيلسوف أبي سعيد أبي الخير، وقد عرض الدكتور في نهاية كلامه ابن تيمية، إذ نقل كلاماً مبتوراً من رسالته الأولى، ونسبَه على هذا البتر إلى ذلك الشيخ الجليل فكانت فيه وقفة للقارئ. وإليك ما كتب الدكتور، واستشهد عليه بالنقل المبتور:
(ومتى خصص الإنسان كل قواه وحصر كل حواسه في الوجود الحقيقي، بحيث اتصل به اتصالاً كلياً أدرك عندئذ - عين اليقين - ومتى وصل الإنسان إلى هذه الدرجة من المعرفة اتصل اتصالاً مباشراً بالمعرفة. . . فلا حاجة إلى نبوة أو وسيط، لأنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسل)
وقد نسب الدكتور هذا التعليل المحجوز بين حاجزين إلى الإمام ابن تيمية، دون أن يبين لنا: أهو يحكي هذه الفقرات عن غيره، أم هو يقرر فكرة يراها ويستشهد لها؟ والقارئ لما نقل عن ابن تيمية على هذا الوجه يفهم فهماً أولياً أن ابن تيمية ممن يرون الاستغناء عن النبوة لمن يسمون أنفسهم (متصلين) مع أن هذا الإمام رجل يقظ لم يتخبط في دينه على هذا النحو، وقد ذكر هذه الفقرة في كلام طويل ينكر فيه تلك الفكرة، ويشنع على القائلين بها، ويجرح فهمهم وتعليلهم الذي استشهد به الدكتور على صحتها. وينزه ابن تيمية في كلامه الطويل أصحاب الرسول (ص) واتباعه عن القول بمثل هذا التحريف، فإيراد هذه الجملة مبتورة عما يتصل بها ليس من أمانة النقل، ولا من الإنصاف في عرض المسائل الخلافية، فضلاً عما فيه من إثارة الحفيظة الدينية نحو ابن تيمية، وتصويره للناس في صورة جماعة هو من خصومهم. وليرجع من شاء إلى صفحة 20 من الرسالة الأولى لابن تيمية، ليعلم الفرق بين الأصل والنقل وكفى
عبد اللطيف السبكي
المدرس في كلية الشريعة
الكتب
مجمع الأحياء
كتاب للعقاد تفيد قراءته الآن
كان فرحي بظهور هذا الكتاب فرحاً عظيماً، لأن إعادة طبعه كانت رغبة، بل أمنية، اشتهيتها منذ بضعة عشر عاماً. وظهوره في طبعته الثالثة يسد نقصاً في المكتبة المصرية، لأن طبعته الأوليين نفذتا ولم نستطيع الحصول عليه لندرة وجوده، فلما ظهرت هذه الطبعة تلقيتها فرحاً فما هو هذا الكتاب؟
إن مقدمات العقاد لكتبه هي غالباً مفاتيح لشخصيته العظيمة المتعددة النواحي في تلك الكتب العديدة، وهي شروح للظروف التي أوحت بها، وللمؤثرات التي أحاطت به فكتبها، فلنرجع إلى تصدير الطبعة الثالثة حيث يقول:(هذه الرسالة وليدة الحرب العالمية الماضية. . . شغلني موضوعها يومئذ، لأنه موضوع الصراع في الحياة الإنسانية، بل في الحياة عامة، وأحببت أن اعرف لهذا الصراع معنى يطمئن غليه الضمير، فانتهيت بالرسالة إلى معنى فيه بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان، وهو أن الحق والنواميس الطبيعية يتلاقيان)
ويقول فيها أيضاً: (وهاهي ذي الطبعة الثالثة لمجمع الأحياء تصدر والدنيا مشغولة بحرب عالمية أخرى هي اشد هولا وأوسع مدى وأٌقوى اختلافاً على المبادئ والآراء من الحرب التي نشبت قبل ثلاثين سنة، فإذا كان هناك خاطر يرد على الذهن في تصدير هذه الطبعة - خلال هذه الحرب القائمة - فذلك الخاطر مما يزكي موضوع الرسالة ويؤيد نتيجتها، أو يسير بنا في وجهتها، وهي أن الصراع الأكبر الذي نشهده اليوم سينتهي أيضاً إلى عاقبة فيها بعض الاطمئنان أو كل الاطمئنان، لأنها تناقض القوة العمياء: قوة الحديد والنار، وتشايع القوة البصيرة: قوة العدل والحرية).
والعقاد يبسط في مقدمة الطبعة الثانية آراء عميقة: منها أن الخير والشر في هذه الدنيا لا ينفصلان، وأن أشرف ما يعرفه الناس من الحق غيرتهم على ما يعتقدون أنه الحق، ولكن الحق الذي نعرفه غير الحق الذي تتوخاه حركات الكون، والسعادة المطلقة لفرد واحد معناها إبادة مطلقة للنوع، وكثيرون من الخلق يشكون من تفاوت الأعمار والخطوط، فإذا تساوى الناس في كل شيء، فأي دنيا تكون هذه وأي حياة؟ ولو أن هؤلاء الشاكين صار
إليهم أمر الكون لحاروا في تسيره فهدموه، لأنهم لا يعرفون كيف يوفّقون ين أجزائه المتفاوتة المختلفة، لأنهم ناقصون، ويحسبون أن الكون فوضى لأن جميع أجزائه غير كاملة. . . فإذا أردنا حياة سعيدة أقرب إلى الكمال فلنفهمها بلغتها، ولا نحاول التعبير عنها بلغتنا، فقد صورت حقائقها مرة واحدة في كتاب نحن حروفه وكلماته وأرقامه، فنحن إذن النتيجة لا المسألة. . . والحروب دائماً تزلزل العقائد وتطفر بالناس والأخلاق، ومقاييسها طفرات أخرى غير المألوفة، فتشك قوماً وتجذب إلى الدين آخرين. . . ولكنه يعتقد أن الغيرة على الحق هي روح الإنسانية، أو هي مظهر أنانيتها وحب البقاء فيها، فإذا أريدت حياة سعيدة، فليسمع الناس صوت الطبيعة على سجيته قبل أن يضطروا إلى سماعه زمجرة ووعيداً، وليسمعه كل إنسان على شاكلته: الشرير فيتمادى في شره، والأمة فتقضي على هذا الشرير. . . وتسمعه الإنسانية فتنحى على الأمة التي تفرط في حقوق الحياة، أو تمسخ عناصرها الباقية في الأمم إيثاراً لمنافعها المحدودة (وما دام هذا الصوت مسموع النداء، فالعالم الإنساني ممدود البقاء)
وقد شرح العقاد هذا الآراء شرحاً جميلاً في رسالته، على ألسنة الحيوان والإنسان، فهو يتخيل الغاب، وقد وجد إنسان نفسه في هذا الغاب، ورأى هناك امرأة جميلة جليلة ولكنها ضريرة. هي الحياة أم المخلوقات. وقد دعتهم إليها لتلقي إليهم بنبأ خطير، فأسرعوا من كل حدب وصوب يستمعون إليه، وكل يراها في الهيئة التي يصورها له وهمه وخياله.
وألقت عليهم كلامها فإذا هي تعاتب المخلوقات كلها على ما شجر بينها من خلاف وبغضاء وفتنة. . . يطغى الأبيض على الأسود والصفر على الأبيض وهذا على ذاك. وهي تدعوهم إلى الوئام فيما بينهم على اختلاف المذاهب والألوان، ثم تشير على اليمامة - رمز السلام - لتحدثهم عن علم الإنسان وتواريخه وأديانه، ليكون لهم منها عظة وعبرة وزاجر. فيؤمنون جميعاً على كلامها، وكلهم ظاهر الرضى والاقتناع!
ووقف اليمامة تتكلم، فذكرت حقائق من التاريخ الملموس المتكرر كل يوم، بدأتها بالآية الكريمة (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض). وشرحتها بالشواهد الملموسة، وطالبت بالعدل والرحمة وبالإخاء بين القوي والضعيف!
وحينئذ وقف الثعلب قائلاً: وعظتكم اليمامة وأوصتكم بالضعفاء وقالت لكم إن الله بارك في مخلوقاته الضعيفة ليحرم عليكم قتلها. . . ثم يعارض الثعلب اليمامة في كل ما قالت ويتملق القوة والأقوياء فيفوز أثناء كلامه (بتصفيق من جانب الأسد!) - أقوى الحيوان - وهو يتكلم كلاماً منطقياً عن العرف والقوانين، فالسارق إذا سطا على بيت فضحوه، والقاتل إذا سلب أمة أو عمل فيها قتلاً عظموه!
وينتهي الثعلب، ويضج الآخرون بين معارض ومؤيد، ثم يقوم القرد - وهو ممثل الطموح أو الطماع. . . ولكنه المتدين ذو الضمير الحي المتمسك بالعدل والحقوق والقوانين الوحدة. فإن في تماسك الضعفاء قوة ضد الظالم الجبار. والديمقراطية الصحيحة السليمة جديرة بخلق شعوب نابغة صحيحة. أما الأرستقراطية المتعالية فمآلها ومآل حثالة شعبها جميعاً إلى الخسارة والفناء أو المصير الذي هو أسوأ من الفناء. هو حياة كحياة السائمة المتهالكة!
وبالها من مفارقة عجيبة! يدافع القرد عن الديمقراطية الصحية والإخاء والضمير، ويحمل على مبدأ القوة الغاشمة.
فيغضب النمر فيكاد يضربه فيتعلق القرد بأطراف الشجرة، ثم يقف الأسد فيهابه النمر فيخرس فالقرد الفيلسوف لم يستطع دفاعا عن نفسه، والأسد الشرس الأعم أرهب النمر، ولا فصاحة ولا بلاغة ولا فلسفة!
فأخلاق الأسد هي أخلاق بني الإنسان الجهلة الأقوياء. القوة الظالمة الغاشمة ولا شيء غيرها!
ثم تكلمت المرأة. وكان كلامها طبيعياً، تلك الثرثرة الأبدية الخالدة عن حقوقها التي اغتصبها منها الرجل، وعن نبوغها في أشياء وتقصيرها في الأخرى، ولكن الذنب ذنب الرجل، وكأنها إن أصابت فمن وحي عبقريتها. وإن أخطأت فمن الرجل وتجنيه عليها!
وهاهو الرجل يعقب عليها إنه يحذر كل الحذر من يوم تصل المرأة فيه إلى نصيب ولو قليل من الحرية لأنها شديدة الطيش والغرور، ولا تنال القليل حتى تطمع في الكثير، ولو أنها حرمت كل شيء لما طمعت في شيء ما، وهي تخلط كل شيء بسفسافها وألاعيبها.
ثم ينكر عليها الحرية المطلقة التي تطلبها، وهي تطلبها لأنها نوع جديد من الزينة، وهي لا تفهم لها مرمى. . .
وهذا كلام حق!
فالرأي الذي ينادي به العقاد هنا - منذ ثلاثين عاماً - يرجع العالم إليه فيندد بتلك الحرية التي منحها للمرأة فأساءتها. وقد خرجت كتب كثيرة هذه الأيام في المناداة بهذا الرأي. . .
ثم يقول الرجل: (أي مساوة للرجل تدعيها المرأة وهي إلى اليوم لا تجاريه في صناعة الطهي لو شاركها فيه؟)
فالمرأة لا تجيده وهي التي قضت الدهور والأجيال في تعلمه، لأنه صناعتها الأولى! فهل ملته؟ وإذا كانت ملت هذه الوظيفة الطبيعية التي خلقت لها والتي أهلتها الطبيعة - كما أهلتها لوظائف الأمومة التي سلحتها لها بكل سلاح من تركيب الجسم ومن درجة الجمال - فما بالك بوظائف الرجل تزاحمه فيها؟
حسين غنام