المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 62 - بتاريخ: 10 - 09 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٦٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 62

- بتاريخ: 10 - 09 - 1934

ص: -1

‌حقائق التاريخ لا يمكن أن يطمسها التشريع

صفد القلم، وصفدت حرية الرأي والفكر في مصر، في الأعوام الأخيرة، بأغلال وقيود شتى لم نعرفها حتى في أشد أيام الاحتلال؛ والتمس المشرع لصوغ هذه الأغلال والقيود مختلف المعاذير في مختلف الفرص؛ فتارة يقال لنا إنه يشرع لحماية النظم الأساسية للدولة من الدعوات والمبادئ الثورية، أو لحماية الحكومة والهيئات العامة من مطاعن خصومها السياسيين؛ وتارة يقال لنا إن سيل الأدب الملحد أو الماجن يكاد يطغى على الدين والأخلاق، فهو يشرع لحماية الدين والأخلاق؛ وكان التشريع يجري في هذه الحدود إلى ما قبل بضعة أعوام؛ وكنا نعتقد أن المشرع قد وصل في مختلف القوانين التي أصدرها إلى ذروة الشدة والتحوط لما يريد تحقيقه من الغايات السياسية والاجتماعية، وإنه لم تبق للقلم والرأي حريات حقيقية يستطيع أن يحد منها بعد؛ ولكن صدرت في الأعوام الثلاثة الأخيرة عدة قوانين جديدة للقضاء على ما بقى من مظاهر حرية الرأي والقلم، أولها قانون الصحافة المعروف، وثانيها قانون تحريم نشر الأخبار الجنائية والقضائية والإدارية إلا في حدود معينة، وثالثها قانون تعديل العقوبات الخاصة بجرائم النشر والسب والقذف، ودفعها إلى حدود لم يسمع بها من قبل، وأخيراً، في هذه الآونة، يقال لنا أن المشرع ينشط من جديد لفرض أغلال وأصفاد جديدة لا

على الصحافة وحدها، بل على ناحية أخرى هي عرض التاريخ أيضاً.

إذاً لم تنته حلقات هذه السلسلة المدهشة من قوانين وأحكام فريدة في شذوذها وشدتها، بل يراد أن تكمل بما يرى المشرع أنه نقص في حلقاتها حتى يكمل سحق البقية الباقية من هذه المظاهر الضئيلة التي يستطيع القلم المصفد أن يبدو فيها خلال هذه الخطوب التي تغمره؛ ويراد فوق ذلك أن يتناول التشريع الجديد ناحية علمية أدبية محضة كان المشرع يحوم حولها من قبل بطرق ونصوص غير مباشرة؛ ولكنه يزمع اليوم أن يتناولها صراحة وبطريقة مباشرة؛ فيفرض قيوداً خاصة على كتابة التاريخ، ويعاقب أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بحرية العرض أو النقد في تدوين حوادث التاريخ أو تراجم أشخاصه.

ليس هنا موضع التحدث عن هذه القوانين من الناحية الدستورية أو السياسية فقد قتلتها الصحافة السياسية من هذه الناحية بحثاً ومناقشة؛ ولكنا نريد فقط أن نتحدث عن أثر هذا التشريع المنشود في سير الحركة الأدبية والمباحث التاريخية.

ص: 1

لا ريب أن هذا الحجر الجديد على عرض الحقائق التاريخية سيثير صعاباً علمية جمة، وسيكون ضربة شديدة لحرية البحث ونزاهته؛ بيد أنه لن يحقق الغاية التي يعقد عليه تحقيقها؛ وقد أشير إلى طرف من الأسباب التي تتخذ حجة لتبرير هذا الحجر، فقيل إنه قد ظهرت في العهد الأخير كتب ومباحث تاريخية بها مطاعن ومثالب في حق بعض الأمراء السالفين ورؤساء الحكومات الأجنبية الحاليين، واتخذ العرض التاريخي شعاراً لهذا التجريح؛ وأنه يجب أن يوضع حد لذلك. وجوابنا أن حقائق التاريخ لا تتجزأ، والمؤرخ المحقق لا يمكن أن يتقيد في سرد هذه الحقائق إلا بالمراجع والأسانيد والوثائق، ولا يمكن أن يخضع لغير ضميره ومقتضيات الحق والنزاهة. وحياة الذاهبين من الزعماء والقادة ملك التاريخ، لا سلطان لإنسان عليها غير سلطان العلم؛ فالتوسل بالتشريع إلى طمس الحقائق التاريخية تدخل غير مسوغ في حرية العلم والبحث، وتجن على الحقيقة لا يخلق بعصرنا عصر العلم والحقيقة والنور.

والحجر على حرية البحث والكتابة على هذا النحو يلقى سحباً من الشك على قيمة الكتب والمباحث التي تصدر في ظله حتى ولو كانت جديرة بالتقدير؛ ومن المستحيل أن تنقلب المثالب إلى مناقب بقوة التشريع؛ والعلم ليس له اليوم حدود ولا وطن، فإذا استطاع المشرع أن يصفد الأقلام في مصر، فليس في وسعه أن يصفدها في أي أرض أخرى؛ وأرض الله واسعة. والتاريخ يكتب بكل اللغات الحية؛ وهذه اللغات تقرأ في مصر، كما تقرأ في غيرها. هذا إلى أن ما لدينا اليوم من الكتب والمباحث في الميادين والموضوعات التي يراد حمايتها بقوة القانون يلقى عليها ضياء لا يمكن أن تطمسه أية قوة أو بطش.

كان لويس الخامس عشر يعتبر حتى عصرنا أشنع مثل للملكية الظالمة الباغية المسرفة؛ وكانت النشرات القاذفة تنثال عليه إبان حياته من أقلام قاسية لاذعة كقلم فولتير؛ فكان الباستيل مأوى القاذفين؛ ولكن هل استطاع الباستيل وكل ضروب البطش والمطاردة الأخرى أن تخمد الصيحات المنبعثة أو تطمس الحقائق الثابتة في هذه الحياة الفياضة بالإثم والبغي؟ ومع ذلك فقد وجد في أيامنا من كتاب التاريخ من يذهب في سيرة هذا الملك رأياً آخر، ويقول إن التاريخ قد ظلمه، وأنه كان في أخطائه ومثالبه دون ما يصوره بكثير.

وكانت لوكريزيا بورجيا ابنة البابا إسكندر السادس تعتبر حتى عصرنا أشنع مثل للأميرة

ص: 2

الفاجرة التي تضطرم بأوضع الأهواء والشهوات، وتنحط إلى أسفل درك من الرذيلة والأثم، فجاء أخيراً مؤرخ بارع هو العلامة فونك برنتانو، وأصدر كتاباً عن حياة هذه الأميرة، وفيه يصورها لنا امرأة عفيفة فاضلة، ويدفع عنها كل الجنايات والآثام التي نسبت إليه. وكان الباستيل يعتبر حتى عصرنا أروع سجون التاريخ فجاء فونك برنتانو أيضاً يقول إن الحياة فيه كانت ناعمة، وكانت تنتظم بين جدرانه القاتمة جميع مجالي اللهو والأنس والترف.

والخلاصة أن التاريخ ملك البحث الحر وملك الزمن، فاتركوه يجر مجراه الحر؛ وثقوا أن من المحال أن يحول التشريع دون ظهور الحقائق غير المرغوب في ظهورها؛ فللتاريخ مسمع جاد يصل إلى ما وراء الجدر، وبصيرة ثاقبة تنفذ إلى أعمق الظلمات. وإنما تطلب الحماية للحقيقة لا لغيرها.

(مؤرخ)

ص: 3

‌سيدنا

للأستاذ أحمد أمين

كان لسيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن كتاب في حي وطني في قسم الخليفة، أسلمني له أبي وأنا في السادسة من عمري.

كان هذا الكتاب بيتاً من بيوت الوقف، يتكون من طابقين، طابق أرضي فيه حجرتان أحدهما سبيل لسقي الماء كان قد هجر عندما ذهبت إليه، والأخرى لسيدنا ينام فيها أحياناً، وفي الطابق العلوي حجرتان كذلك، إحداهما لأولاد الكتاب يقرءون فيها، والأخرى لسيدنا أيضاً، وبين الحجرتين (فسحة) في أحد أركانها زير ماء لا تعرف لونه مما توالى عليه من أحداث الزمان، وعليه غطاء من خشب، قد كسر ولم يهتم أحد بإصلاحه، وعلى الغطاء كوز صفيح قد شد بحبل في مسمار في الحائط، حتى لا يذهب به الأولاد من مكان إلى مكان، وخشية أن يقع الكوز في أسفل الزير، فإذا كان مربوطاً ووقع استطعنا أن نشده بالحبل، والماء إن تلوث بوقوع الحبل فيه، فهو أقل ضرراً من مد اليد عارية وغوصها لاستخراجه.

وأدوات الكتابة: حصير فرش على البلاط، يبلى أحياناً فتتناثر عيدانه، ومع ذلك يبقى إلى أنيحنن الله على سيدنا فيشتري حصيراً جديداً، وصندوق من صناديق السكر أو الجاز وضع في زاوية من زوايا الحجرة، نضع فيه ألواحنا - وهذه الألواح أكثرها صفيح، تسود أحيانا ويذهب طلاؤها حتى لا نتبين الكتابة منه - وكيف يبين أسود من أسود؟ وأقلها خشب قد طلي بدهان أبيض، وله إطار لون بلون بني، وذلك خاص بأولاد الذوات وأشباههم.

هذا كل ما بالكتاب من أدوات، ومعاذ الله أن أنسى شيئاً أهم من ذلك كله، وهو مجموعة عصى من جريد النخل، تختلف طولاً وقصراً، أما القصيرة فيستعملها سيدنا لمن يسمع عليه اللوح أو (الماضي) فيخطئ فتدركه هذه العصا، وأما الطويلة فعندما يرى سيدنا طفلاً في آخر الحجرة لا يهتز وقت قراءته أو يتهاون في حفظه، فما يشعر إلا والعصا الطويلة نزلت عليه وصحبها من سيدنا (اهتز يا ولد) - وقد كان لهذه العصا ما طال منها وما قصر، أثر في نفوسنا لا ينكر، فكثيراً ما رعبنا لأن خيالنا صور لنا أن سيدنا يريد أن

ص: 4

يهوي علينا بعصاه، وفي الواقع لم يكن شيء من ذلك، وإنما هو الرعب ملك نفوسنا، ويحصل هذا أحياناً حتى في البيت، فننسى أننا خرجنا من الكتاب، وأننا بين أهلينا، فنرتجف بغتة لحركة تشبه حركة سيدنا في الكتاب.

وإلى جانب هذه العصى (فلقة) وهي عصى غليظة من خشب متين قد ثقب في وسطها ثقبان يبعد ما بينهما نحو شبر، وركب في هذين الثقبين سير من جلد أو نحوه، فإذا شكا الولد أبوه أو غضب عليه سيدنا أدخل رجليه في هذا السير ولواه عليهما، وأمسك بطرفي الفلقة ولدان كبيران شديدان من أولاد الكتاب، فلم تستطع الرجلان حركة، وانهال عليه سيدنا ضرباً بالعصا والولد يصيح (في عرضك يا سيدنا)(حرمت)(أتوب)! ولست أنسى مرة أفرط فيها سيدنا فشق عقبي وسال منه الدم؛ وكان عزائي الوحيد أني مكثت بعيداً عن سيدنا نحو أسبوعين.

وهذا كل ما كان في الكتاب من (موبيليات).

كان سيدنا يحفظ القرآن حفظاً جيداً، ويكتب كتابة عاجزة، وهذا كل ما له من ثقافة، كان يطوف في الصباح على البيوت يقرأ فيها ما تيسر من القرآن، ويخرج من بيت إلى بيت حتى يتم دورته، وكان موظفاً في مسجد يؤذن فيه، فإذا حان وقت الظهر أو العصر خرج من الكتاب للآذان والصلاة - وفي غيابه صباحاً أو ظهراً أو عصراً يتركنا لعريف يقوم مقامه، ولكن كان العريف ولله الحمد أهون علينا من سيدنا. فكنا نتنفس الصعداء إذا خرج، ونصاب بالرعشة إذا حضر. وكان برنامج الكتاب ينحصر في كلمة هي (تحفيظ القرآن) فيبتدئ بتعليم حروف الهجاء على طريقة غريبة، فأول درس كان هو (أألف) وهي كلمة حفظتها ولم أفهمها إلا وأنا طالب في مدرسة القضاء. إذ فهمت أننا لو تهجينا كلمة ألف لكانت ألفاً ولاماً وفاءً، وما أدري ما السر في هذا البدء على هذا الوضع - حتى إذا عرف الولد شيئاً من القراءة والكتابة بدأ بكتابة جزأ من القرآن في اللوح يحفظه كل يوم وهو في أثناء ذلك (يثبت الماضي) ويمضي النهار كله في هذا الباب، فلا إملاء ولا حساب، ولا يعرف سيدنا شيئاً من ذلك، ولا نستريح من هذا العمل إلا وقت الغداء

فإذا حان الظهر جمع (سيدنا) من كل ولد مليمين أو ثلاثة أو خمسة ثم بعث بولد كبير فأتى له بماجورين مملوءين، أحدهما فيه قليل من فول نابت وكثير من مرق، والآخر مملوء

ص: 5

مخللاً بمائه وخله، وتحلق الأولاد حلقة، وأخرج كل رغيفه، وكان قد أحضره معه في الصباح تحت إبطه، وضربوا بأيديهم في الماجورين وأكلوا هنيئاً مريئاً - وقد رحمني الله من تمثيل هذا الفصل إذ كان بيتنا بجوار الكتاب أستطيع أن آكل فيه وأعود - وبين هؤلاء المريض والقذر ومن تلوثت يداه بالحبر.

لا تعجبن من هالك كيف توى

بل فاعجبن من سالم كيف نجا

كان (سيدنا) غريب الأطوار عرف في الحي باسم الشيخ سيد المجذوب، يلبس المرقع من الثياب فلم أره يوماً لبس (مركوباً) جديداً ولا عمة نظيفة ولا قباء ولا عباءة جديدين، فكأنه كان يتحرى القديم من كل شيء ويشتريه، كان يتزهد في أكله ولبسه وحديثه، ويهزأ بالناس ولا يعيرهم التفاتاً. فهو يمشي مسرعاً مشياً يشبه الجري، ويأكل في الشارع وهو على هذه الحال، وإذا ناداه منادٍ لا يلتفت إليه، فكان بذلك يلفت أنظار الناس والأطفال، ويعجب منه بعضهم، ويتبرك به بعضهم، وكان في المجالس العامة غريباً ينتحي ناحية وحده ويفر من الناس ويستوحش منهم، وفي مجالسه الخاصة واعياً أنيساً لطيفاً.

لم أره يقرأ في كتاب، وما أظنه كان يعرف ذلك، ولكني مع هذا اذكر له حادثة حيرتني حقاً - فقد خرجت من كتابه، وأتممت التعليم في مدرسة ابتدائية، ثم قطعت مرحلة بعدها في التعليم - ثم ذهبت إلى مدرسة القضاء ومكثت فيها نحو أربع سنوات، ثم لقيت سيدنا في الطريق فسلمت عليه في احترام وإجلال اعترافاً بفضله عليّ في أول مراحل التعليم، ولكني أطوي بين جنبي إدلالاً بنفسي عليه، فأين هو الآن مني؟

لقد درست طبيعة وكيمياء، ودرست رياضة نظرية واسعة من حساب مثلثات وتوافيق وتراتيب ولوغارتمات، ودرست علوماً دينية مختلفة الأشكال والأنواع، وعلوماً مدنية من تاريخ وأصول قوانين ونظام إدارة وما إلى ذلك - فأين سيدنا من هذا كله فهو لا حظ له من علم إلا أن يحفظ القرآن، ولكن ما أدهشني حقاً أنه أخذ يسألني عن حالي وجرى من ذلك إلى الإدلاء برأيه في العالم وفلسفة الكون عن طريق صوفي، فإذا أنا أسير معه ملتذاً من حديثه معجباً بقوله إعجاباً يفوق ما كنت أضمره لأساتذتي في المدارس العالية، وإذا أنا أذهب معه حيث يذهب وأجلس معه حيث يجلس حتى أتم حديثه الممتع اللذيذ في ساعتين أو أكثر، ولوددت أنه طال أكثر مما كان - لست أذكر الآن حديثه وقوله، ولا أذكر ماذا

ص: 6

كانت نظراته في الحياة، ولكني أذكر لذة حديثه وفائدة درسه.

ثم راحت أيام وجاءت أيام، وإذا لي ولد، وإذا بي أرسله إلى (روضة الأطفال)، وإذا مكان الكتاب ذي السبيل والحصر، بناء فسيح ذو حديقة غناء، وتخت وأدوات شتى، ومكان العصي و (الفلقة)، بيانو وآلات موسيقية، ومكان مواجير الفول والمخلل، لبن وبسكوت في الساعة العاشرة، وأكل نظيف يشرف عليه الطبيب في الظهر ومكان برنامج كتابنا الذي ليس فيه إلا حفظ القرآن برنامج دقيق مفصل محدود بالساعة والدقيقة فيه غناء وفيه لعب، وفيه مبادئ القراءة، وفيه ما شئت من تنوع واختلاف، ومكان سيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن آنساتنا العزيزات.

وأتى ابني يوماً يقول أن (أبلة) فلانة علمتهم اليوم درساً جديداً، قالت هذه (ستي) أ، وهذه (ستي) ب، وستي ألا شيء عليها، وستي ب من تحتها نقطة، فقلت أين هذا مما كنا نتعلمه من أألف، بابا ليف، بوبا واو بي با يه).

ورأيته ينشد أناشيد (سمير الأطفال) ونحوها فقلت أين أنت من أبيك وقد كان ينشد في العصر قبل الذهاب إلى البيت الأناشيد الدينية.

ورأيته يزكم فيجلس في البيت ثم يذهب إلى المدرسة فتأبى عليه إلا أن يأتي بشهادة طبيب بأنه برئ ولم يكن مرضه معدياً، فقلت لحا الله زماناً لم نكن نعرف فيه طبيباً، وكان حولنا في الكتاب مرضى لا يعرفون أن الزكام مرض، وكان أصحاءهم ومرضاهم يشربون من زير واحد بكوز واحد.

ورأيته في سنه لا يحفظ شيئا، وكنت أنا في سنه أحفظ جزءا كبيراً من القرآن.

ورأيته يعرف من الأشغال اليدوية والرسم والتلوين ما لا أعرفه إلى اليوم.

ورأيته ورأيته؛ ورأيتني ورأيتني

أخشى أن نكون في كلا الحالين مفرطين ومفرطين، وأن نكون في (كتابنا) قد غلونا وفي (رياض أطفالنا) قد غلونا

أخشى أن يكون الكتاب قسا وأسرف في القسوة، ورياض الأطفال ماعت وأسرفت في الميوعة، أخشى أن نكون في كتابنا قد وضعنا أمام الطفل كل العقبات فلم يستطع أن يجتازها إلا القليل، ونحينا في (رياض الأطفال) كل العقبات فاجتازوها جميعاً، ولكنهم

ص: 7

خرجوا لا يعرفون كيف يجتازون عقبة عرضت، ولا يصبرون على شدة ألمت، ولا يتحملون مشقات العلم ومعانات الدرس، ولا يعالجون ما يعن من مصاعب الحياة - وآية ذلك أن الجيل السابق - مع كثرة من تخلف - كانوا أصبر على الدرس وأحمل للمكاره والمشاق، وأن الجيل الحاضر أنعم وأظرف وألبق، ولكنهم لا يصبرون على مكروه حتى العلم.

أحمد أمين

ص: 8

‌قصيدة مترجمة

لحوم البحر. . .

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

لكأنما والله قد تمدد على سيف البحر في إسكندرية شيطانٌ ماردٌ من شياطين ما بين الرجل والمرأة. يخدع الناس عن جهنم بتبريد معانيها. . وقد امتلأ به الزمان والمكان؛ فهو يرعش ذلك الرمل بذلك الهواء رعشة أعصاب حية؛ ويرسل في الجو نفخاتٍ من جرأة الخمر في شاربها ثار فعربد، ويطلع الشمس للأعين في منظر حسناء عريانة ألقت ثيابها وحيائها معاً؛ ويرخي الليل ليغطي به المخازي التي خجل النهار أن تكون فيه.

ولعمري إن لم يكن هو هذا المارد فما أحسبه إلا الشيطان الخبيث الذي ابتدع فكرة عرض الآثام مكشوفة في أجسامها تحت عين التقي والفاجر لتعمل عملها في الطباع والأخلاق؛ فسول للنساء والرجال أن ذلك الشاطئ علاج الملل من الحر والتعب حتى إذا اجتمعوا فتقاربوا، فتشابكوا، سول لهم الأخرى أن الشاطئ هو كذلك علاج الملل من الفضيلة والدين.

ولئن لم يكن اللعينان فهو الرجيم الثالث، ذلك الذي تألى أن يفسد الآداب الإنسانية كلها لفساد خلقٍ واحد، هو حياء المرأة؛ فبدأ يكشفها للرجال من وجهها ولكنه استمر يكشف. وكانت تظنه نزع حجابها فإذا هو أول عريها. . وزادت المرأة، ولكن بما زاد فجور الرجال، ونقصت ولكن بما نقص فضائلهم، وتغيرت الدنيا وفسدت الطباع. فإذا تلك المرأة ممن يقرونها على تبذلها بين رجلين لا ثالث لهما: رجل فجر ورجل تخنث. .

هناك فكرة من شريعة الطبيعة هي عقل البحر في هؤلاء الناس، وعقل هؤلاء الناس في البحر؛ إذا أنت اعترضتها فتبينتها فتعقبتها، رأيتها بلاغة من بلاغة الشيطان في تزيينه وتطويه، وأصبت فكره مستقراً فيها استقرار المعنى في عبارته، آخذاً بمداخلها ومخارجها. وما كان الشيطان عيياً ولا غبياً، بل هو أذكى شعراء الكون في خياله، وأبلغهم في فطنته، وأدقهم في منطقه، وأقدرهم على الفتنة والسحر. وبتمامه في هذا كله كان شيطاناً لم تسعه الجنة إذ ليس فيها النار، ولم ترضه الرحمة إذ ليس معها الغضب، ولم يعجبه الخضوع الملائكي إذ ليس فيه الكبرياء، ولم يخلص إلى الحقيقة إذ لا تحمل الحقيقة شعر أحلامه.

ص: 9

وما أتى الشيطان أحداً، ولا وسوس في قلب، ولا سول لنفس، ولا أغوى من يغويه إلا بأسلوب شعري ملتبس دقيق، يجعل المرء يعتقد أن أطراح العقل ساعة هو عقل الساعة، ويفسد برهانه مهما كان قوياً إذ يرتد به من النفس إلى أخيلة لا تقبل البراهين، ويقطع حجته مهما كانت دامغة، إذ يعترضها بنزعة من النزعات توجهها كيف دار بها الدم لا كيف دار بها المنطق.

فكرة من شريعة الطبيعة ظاهرها لبعض الأمر من الشمس والهواء والبحر وما لا أدري، وباطنها لبعض الأمر من فن الشيطان وبلاغته وشعره وما لا أدري، وما كانت الشرائع الآلهية والوضعية إلا لإقرار العقل في شريعة الطبيعة كي تكون إنسانية لإنسانها كما هي حيوانية لحيوانها، وليجد الإنسان ما يحفظ به نفسه من نفسه التي هي دائماً فوضى، ولا غاية لها لولا ذلك العقل إلا أن تكون دائماً فوضى. .

وبالشرائع والآداب استطاع الإنسان أن يضع لكلمة الطبيعة النافذة عليه، وأن يرى في هذه الطبيعة أثر جوابه؛ فكلمتها هي: أيها الإنسان أنت خاضع لي بالحيواني فيك؛ وكلمته هو: أيتها الطبيعة وأنت لي خاضعة بالإلهي فيّ.

والآن سأقرأ لك القصيدة الفنية التي نظمها الشيطان على رمل الشاطئ في إسكندرية؛ وقد نقلتها أترجمها فصلاً بعد فصل عن تلك الأجسام عارية وكاسية، وعن معانيها مكشوفة ومغطاة، وعن طباعها بريئة ومتهمة، حتى اتسقت الترجمة على ما ترى

قال الشيطان:

ألا إن البهيمية والعقلية في هذا الإنسان؛ مجموعهما شيطانية. . .

ألا وإنه ما من شيء جميل أو عظيم إلا وفيه معنى السخرية به.

هنا تتعرى المرأة من ثوبها، فتتعرى من فضيلتها.

هنا يخلع الرجل ثوبه، ثم يعود إليهفيلبس فيه الأدب الذي خلعه.

رؤية الرجل لحم المرأة المحرمة نظر بالعين والعاطفة.

يرمي ببصره الجائع كما ينظر الصقر إلى لحم الصيد.

ونظر المرأة لحم الرجل رؤية فكر فقط. . .

تحول بصرها أو تخفضه، وهي من قلبها تنظر.

ص: 10

يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. .

يا لحوم البحر! سلخك جزار من ثيابك.

جزار لا يذبح بألم ولكن بلذة. .

ولا يحز بسكين ولكن بالعاطفة.

ولا يميت الحي إلا موتاً أدبياً. .

إلى الهيجاء يا أبطال معركة الرجال والنساء.

فهنا تلتحم نواميس الطبيعة ونواميس الأخلاق.

للطبيعة أسلحة العري، والمخالطة، والنظر، والأنس، والتضاحك، ونزوع المعنى إلى المعنى. .

وللأخلاق المهزومة سلاح من الدين قد صدئ، وسلاح من الحياء مكسور.

يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. .

الشاطئ كبير كبير، يسع الآلاف والآلاف.

ولكنه للرجل والمرأة صغير صغير، حتى لا يكون إلا خلوة. . .

وتقضي الفتاة سنتها تتعلم، ثم تأتي هنا تتذكر جهلها وتعرف ما هو. .

وتمضي المرأة عامها كريمة، ثم تجيء لتجد هنا مادة اللؤم الطبيعي. . .

لو كانت حجاجة صوامة، للعنتها الكعبة لوجودها في (استانلي).

الفتاة ترى في الرجال العريانين أشباح أحلامها، وهذا معنى من السقوط.

والمرأة تسارقهم النظر تنويعاً لرجلها الواحد، وهذا معنى من المواخير. . .

أين تكون النية الصالحة لفتاة أو امرأة بين رجال عريانين؟

يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. . .

هناك التربية، وهنا إعلان الإغفال والطيش.

وهناك الدين، وهنا أسباب الإغراء والزلل.

وتكلف الأخلاق، وهنا طبيعة الحرية منها.

والعزيمة بالقهر يوماً بعد يوم، وهنا إفسادها بالترخص يوماً بعد يوم.

والبحر يعلم اللائي والذين يسبحون فيه كيف يغرقون في البر. .

ص: 11

لو درى هؤلاء وهؤلاء معرة اغتسالهم معاً في البحر، لاغتسلوا من البحر.

فقطرة الماء التي نجستها الشهوات قد انسكبت في دمائهم.

وذرة الرمل النجسة في الشاطئ ستكبر حتى تصير بيتاً نجساً لأب وأم. .

يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. .

يجيئون للشمس التي تقوى بها صفات الجسم،

ليجد كل من الجنسين شمسه التي تضعف بها صفات القلب.

يجيئون للهواء الذي تتجدد به عناصر الدم،

ليجدوا الهواء الآخر الذي تفسد به معاني الدم.

يجيئون للبحر الذي يأخذون منه القوة والعافية،

ليأخذوا عنه أيضاً شريعته الطبيعية: سمكة تطارد سمكة. .

ويقولون ليس على المصيف حرج.

أي لأنه أعمى الأدب، وليس على الأعمى حرج.

يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. .

المدارس، والمساجد، والبيع، والكنائس، ووزارة الداخلية، هذه كلها لن تهزم الشاطئ.

فأمواج النفس البشرية كأمواج البحر الصاخب، تنهزم أبداً لترجع أبداً؛ لا يهزم الشاطئ إلا ذلك (الجامع الأزهر)، لو لم يكن قد مسخ مدرسة. فصرخة واحدة من قلب الأزهر القديم، تجعل هدير البحر كأنه تسبيح، وترد الأمواج نقية بيضاء، كأنها عمائم العلماء.

وتأتي إلى البحر بأعمدة الأزهر للفصل بين الرجال والنساء، ولكني أرى زمناً قد نقل حتى إلى المدارس روح (الكازينو). .

يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. . .!

هنا على رغم الآداب، مملكة للصيف والقيظ، سلطانها الجسم المؤنث العاري.

أجسام تعرض مفاتنها عرض البضائع، فالشاطئ حانوت للزواج.!

وأجسام تعرض أوضاعها كأنها في غرفة نومها لا في الشاطئ. . .

وأجسام جالسة لغيرها تحيط بها معانيها ملتمسة معانيه، فالشاطئ سوق للرقيق. .

وأجسام خفرة جالسة للشمس والهواء، فالشاطئ كدار الكفر لمن أكره.

ص: 12

وأجسام عليلة تقتحمها الأعين فتزدريها، لأنها جعلت الشاطئ مستشفى. . .!

وأجسام خليعة أضافت من استانلي وأخواتها إلى منارة إسكندرية، ومكتبة إسكندرية، مزبلة إسكندرية. . .

كان جدال المسلمين في السفور فأصبح الآن في العري.

فإذا تطور، فماذا بقي من تقليد أوربا إلا الجدال في شرعية جمع المرأة بين الزوج وشبه الزوج.؟

انتهى ما استطعت ترجمته، بعد الرجوع في مواضع من القصيدة إلى بعض القواميس الحية. .، إلى بعض شبان الشاطئ.

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 13

‌حول ذكرى الشاعرين

(شوقي وحافظ)

كتب كثير من الأساتذة الغير، يأسفون على إهمال حافظ، ويتألمون على أن كتاباً لم يصدر عنه. ولم يذكر واحداً منهم، أن المكتبة العربية في دمشق، قد أخرجت كتاباً في ذكرى الشاعرين في (750) صفحة كبيرة. فيه (12) مقالة عن حافظ لطائفة من أكبر كتاب مصر والشام كالرافعي والمازني وطه حسين وهيكل والبشري والمغربي و (16) قصيدة في حافظ لطائفة من كبار الشعراء كشوقي رحمه الله والزهاوي ومطران والعقاد ومحرم والبزم والهراوي وجبري، وأكثر من ألف بيت من شعر حافظ الذي لم ينشر في ديوانه، ومثل هذا عن شوقي، وخمس مقالات في المقارنة بينهما للزيات وطه حسين والمازني ومطران وسعيد الأفغاني.

أفليس من الحق أن ينوه بهذا العمل، وأن يشكر لدمشق؟

دمشق

متأدب

ص: 14

‌أعظم حادث في حياة روسو:

روسو ومدام دي فرنس

للأستاذ محمد عبد الله عنان

صدر أخيراً في باريس كتاب عنوانه (مدام دي فرنس) وهو عنوان لا يثير لأول وهلة كبير اهتمام؛ ولكنا متى علمنا أن صاحبة هذا الاسم هي المرأة التي كان لها أكبر أثر في حياة جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف الأشهر، وأنها إذا لم تكن معروفة شهيرة لذاتها فان روسو يخلدها في آثاره، ويفرد لها في (اعترافاته) أو ترجمة حياته أكبر مكانة، استطعنا أن نقدر أهمية بحث يتناول هذا الجانب من حياة روسو، وما كان له من عظيم أثر في تكوين تفكيره وفلسفته.

نلمس أثر المرأة في حياة كثير من عظماء الرجال، وتمتاز هذه الشخصيات النسوية في أغلب الأحيان بخلال قوية بارزة تمكن لها في النفوذ والتأثير؛ ولكن مدام دي فرنس تبدو لنا في صورتها وخلالها شخصية عادية، لا تخلق في ذاتها لأن توحي بشيء من مقومات العظمة أو البطولة؛ وكان مثولها في حياة روسو أيام كان فتى مغموراً شريداً لا قيمة له في مجتمع وطنه وعصره. على أن هذه الصلة طبعت نفس روسو وروحه بأعمق طابع، وأثرت في عواطفه وتفكيره أعظم تأثير، وأثارت من قلمه عن مدام دي فرنس وعن صلاته بها تلك الصحف المؤثرة البديعة التي نعتقد إنها أجمل ما في (الاعترافات).

كانت لروسو مع مدام دي فرنس قصة من أغرب القصص وأجملها، قصة (أم) وولد، ومربية وتلميذ، وحامية ومحسوب، وأخيراً قصة عاشق ومعشوق، وصاحب وخليلة؛ وكان اتصاله بها سنة 1728 وهو حدث في نحو السادسة عشرة من عمره؛ ففي ذلك الحين فر روسو من جنيف مسقط رأسه، وغادر أسرته بعد أن التحق حين كان صبياً بمكتب محام ولم يأنس ميلاً للعمل فيه، ثم بحانوت حفار لم يطق خشونته وسوء معاملته؛ وسافر على غير هدى إلى بلدة كفنيون من أعمال سافوا، وقصد قسيسها المسيو دي بونفير وكانت بينه وبين أسرته صداقة، فأرسله بتوصية منه إلى سيدة خيرة محسنة هي مدام دي فرنس، لكي تعاونه على البحث عن عمل يعيش منه.

وكانت مدام دي فرنس تقيم يومئذ في بلدة (أنسي)؛ فقصد إليها الفتى جان جاك، وقلبه يتردد

ص: 15

بين الخيبة والأمل. ويقول لنا روسو إنه لما وصل إلى (أنسي) فكر في وسيلة مؤثرة يكسب بها عطف مدام دي فرنس، فكتب إليها خطاباً منمقاً ضمنه كل ما وسع من الكلمات والعبارات البليغة، ووضع معه خطاب المسيو دي بونفير. ثم ذهب إلى منزلها فلم يجدها هنالك، وقيل له إنها سارت تواً إلى الكنيسة على مقربة من المنزل، فهرول في أثرها ولحق بها وناداها. ثم يقول؛ (وإني لأذكر هذه البقعة بلا ريب. وكثيراً ما بللتها بعد بدموعي وغمرتها بقبلاتي. وإني لأود أن أسور هذه البقعة السعيدة بقضيب من الذهب، وأود أن ألتمس لها إجلال العالم. ومن يقدس آثار إنقاذ الإنسان فعليه أن لا يقربها إلا راكعاً). وشد ما كانت دهشة روسو حينما رأى مدام دي فرنس لأول مرة، وكان يتصورها عانساً مظلمة المحيى شديدة الورع، وما كانت المحسنة التي يختارها القس دي بونفير لتكون في نظره غير ذلك. ولكنه رأى بالعكس محيا يفيض بالسحر، وعينين زرقاوين نجلاوين تفيضان بالرقة، وبشرة ناصعة باهرة. فاستقبلته باسمة وتناولت الخطابين وقرأتهما. ثم طلبت إليه برفق أن ينتظرها في المنزل حتى تعود من القداس.

وهنا يحدثنا روسو طويلاً عن مدام دي فرنس؛ فهي لويزا لينور دي فرنس، سليلة أسرة نبيلة من لوزان؛ تزوجت صغيرة بالمسيو دي فرنس؛ وكان الزواج عقيماً، ولم يكن سعيداً؛ فعافت حياة الأسرة؛ وانتهزت فرصة وجود الملك فكتور أمدية (ملك سافوا) ذات يوم في أفيان، فغادرت أسرتها ووطنها واستغاثت به، فمنحها حمايته ورعايته ورتب لها نفقة حسنة. ثم ذاع بعد ذلك إنه يهواها، فأبعدها إلى (أنسي)، وهناك نبذت مذهبها البروتستانتي واعتنقت الكثلكة إرضاء لمليكها وكان كاثوليكياً متعصباً. وكان قد مضى عليها ستة أعوام في أنسي يوم وفد عليها روسو؛ وكانت يومئذ في الثامنة والعشرين من عمرها. وكانت حسناء (جمالها من ذلك النوع الباقي الذي يبدو في المحيى أكثر مما يبدو في التقاسيم، هذا إلى أن جمالها كان ما يزال في ذروته الأولى؛ وكانت ذات هيئة ناعمة جذابة، ونظرة ساحرة، وبسمة ملائكية. وكانت صغيرة القد، أميل إلى القصر، عبلة نوعاً ولكن دون قبح، بيد أنه لم يك أجمل منها رأساً، ولا أجمل صدراً ويدين ومعصمين).

وقد تلقت مدام دي فرنس تربية مضطربة متنوعة ترجع إلى أنها فقدت أمها عند مولدها، فتعلمت شيئاً من مربيتها، وشيئاً من والدها، وشيئاً من أساتذتها، وكثيراً من عشاقها. وتلقت

ص: 16

بالأخص عن والدها قشوراً من الطب والسمياء، وكان للأفاقين من الأطباء والسميائين نفوذ كبير عليها، فكانت تقلدهم في عمل المركبات والأدوية، وتبدد في ذلك ذكاءها وسحرها اللذين كانا يخلقان بأرفع المجتمعات. بيد أنها لبثت خلال هذه الغمار محتفظة بطيبة قلبها، ورقة شمائلها، وبشرها وصراحتها، وحبها للبائس والمسكين، وكان جديراً بذكائها ورفيع خلالها أن تشغل مكانة غير التي وجدت فيها، وأن تؤدي عملاً أجل من ذلك الذي كانت تؤديه.

ولقي روسو مدام دي فرنس (فغزت لبه وحازت ثقته من أول مقابلة وأول كلمة وأول نظرة). ولا يستطيع روسو أن يدرك كنه هذه العاطفة العميقة التي بثتها إليه مدام دي فرنس منذ الساعة الأولى، ويتساءل إذا كانت هذه العاطفة حباً، فكيف اقترنت منذ البداية بسلام القلب، والسكينة، والبشر، والثقة؟ وكيف أنه وهو في حضرة امرأة رفيعة رائعة الحسن، يتوقف عليها مصيرمستقبله في معنى من المعاني، استطاع أن يشعر بمنتهى الحرية والطمأنينة، ولم يخالجه أي اضطراب أو وجل؟ هذا وهو الحدث الحيي الذي لا يعرف شيئاً عن العالم.

وسألته عن أحواله ورغباته، فقص عليها قصته، وبعد أن فكرت ملياً في أمره ولم تجد له حلاً موافقاً، اقترح أحد ضيوف المنزل على مضيفته أن يسافر الفتى الشريد إلى تورينو ليلتحق هنالك بمعهد لتخريج الكهنة، وفيه يلقى العون المادي والروحي، فوافقت مدام دي فرنس لأنها لم تجد حلاً آخر، وساعدت روسو ببعض المال، فسافر إلى تورينو بعد أن أقام لديها بضعة أيام أسرته فيها بساحر خلالها وبثت إليه شعوراً خالداً بالمحبة والعرفان؛ وهنالك قدم أوراق التوصية التي يحملها. وكان المعهد معهد تبشير للكثلكة، فلم يمض حين حتى حمل روسو على تغيير مذهبه البروتستانتي واعتناق الكثلكة، ثم أخرج على أثر ذلك من المعهد ونفح بمكافأة صغيرة فلبث حيناً يتجول في المدينة، وينتقل من مسكن إلى آخر، وهو شريد لا يدري ماذا يصنع، حتى ألقى به القدر إلى خدمة سيدة نبيلة تدعى الكونتة دي فرتشلي. وكانت أرمل متقدمة السن ولا ولد لها، وكانت أديبة قارئة، فكان روسو يكتب ما تمليه عليه من القطع والخطابات؛ ولكنها لم تلبث طويلاً حتى مرضت ثم توفيت؛ وغادر روسو المنزل آسفاً شريداً؛ حتى سنحت له فرصة أخرى، فألحق بتوصية من بعض

ص: 17

الأصدقاء بخدمة الكونت دي جوفون أحد رجال البطانة، وتعرف عندئذ بالأب دي جوفون أحد أعضاء هذه الأسرة، وتلقى عليه دروساً في اللاتينية والأدب القديم، ولبث في عمله الجديد أشهراً أخرى، ثم أقيل منه فخرج خالي الوفاض مهموم النفس وكره البقاء في تورينو، وأعتزم العودة إلى أنسي وإلى مدام دي فرنس.

فغادر تورينو على قدميه، ووصل إلى أنسي بعد رحلة شاقة، وقصد إلى منزل المحسنة إليه؛ وآنس في الحال منها ذلك العطف القديم، فارتمى على قدميها وهو يلثم يدها فرحاً، وفاض قلبه سعادة إذ علم أنها أعدت له غرفة بالمنزل وأنه سيقيم إلى جانبها باستمرار. وهنا يفيض روسو في وصف عواطفه نحو هذه السيدة البارة الساحرة، فيقول إن علائقهما لم تثر منذ الساعة الأولى أية كلفة، فكانت تسمية (ولدها الصغير) ويسميها (أمه) وأن هذه التسمية كانت أصدق معبر عن بساطة هذه العلائق وسذاجتها، وبالأخص عن تجاذب قلبيهما، وأن الشهوة الجنسية كانت بعيدة عن ذهنه، ولكنه كان سعيداً إذ وجد (أماً) فتية حسناء تغمره مداعباتها وقبلاتها - أجل قبلاتها - سحراً، وإنه كان يشعر إلى جانبها ولدى نظراتها وأحاديثها بمتعة خالدة لا يستطيع أن يدرك كنهها، يقول روسو:(كان يأخذني سحر المقام معها، ورغبتي المضطرمة في أن أقضي حياتي إلى جانبها، فكنت أرى فيها دائماً، أكانت غائبة أم حاضرة، أماً رؤوماً، وأختاً محبوبة، وصديقاً ممتعاً، ليس غير؛ وكانت صورتها التي لا تفارق قلبي قط لا تفسح مجالاً لأية صورة أخرى، فلم أك أرى في العالم امرأة سواها، وكانت عذوبة المشاعر التي تبثها إلي تمنع حواسي من أن تنتبه إلى مشاعر أخرى، وتحميني منها ومن جنسها كله، وبعبارة أخرى كنت عفيفاً لأني أحببتها، فتأمل هذه النتائج التي لا أكاد أحسن عرضها، وقل لي من ذا الذي يستطيع أن يصف طبيعة شغفي بها. . .)

البقية في العدد القادم

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 18

‌من المدنية الإسلامية

الأرقام الهندية شرقية لا غربية

الأستاذ محمد عبد السلام البرغوثي

ثلاثة عوامل أساسية دفعت الإنسانية من حظيرة الهمجية التي رتعت فيها أجيالاً إلى مستوى المدنية الذي تتبوأ في يومها هذا. ولا تزال هذه العوامل دعائم مدنية الإنسان الثابتة وهي

(1)

التقاليد الاجتماعية المتوارثة جيلاً بعد جيل، وقد انتهت هذه التقاليد بالعقائد الدينية الراسخة التي حولت وجه البشرية شطر المثل العليا.

(2)

اللغة التي تطورت إلى آداب رفيعة سمت بالإنسان إلى مدارك الحياة العليا.

(3)

العلم الذي توج بانتصارات باهرة سلمت للإنسان مقاليد الحياة.

ولقد كان هذا الشرق مهبط وحي الأديان الحنيفة التي خلصت البشر من ديجور الجهل وأنارت لهم سبل الحياة القويمة. وقدم هذا الشرق للعالم الحروف الهجائية فكانت واسطة تخليد آدابه الرفيعة واكتشافاته المجدية في مجاهل الحياة، ومفتاح ثقافة متماسكة مسرعة الخطى نحو الكمال. ومن قرائح أبناء هذا الشرق أخرج الله للعالم الدعامة الثالثة لصرح مدنيتهم هي - ألف باء الحساب - أسس العلم الحديث، فتم بذلك للإنسان ثلاث وسائل فعالة تتحد وتأتلف لتدفع به في سبيل القوة نحو غاية سامية قدرها الله.

لقد بلغت الحضارة الإغريقية شأواً بعيداً من السمو، ووضعت العقلية الإغريقية قواعد المدنية الأساسية، وخطت للبشرية معالم مدنيتها فكانت مبرزة في كل مضمار إلا في الحساب والجبر لعوزها الأرقام وهي اللبنات الأساسية في بناء هذا العلم.

ولو لم تزد الحضارة الإسلامية على تراث الإغريق سوى تلافيها هذا النقص الذي كان يعتريها لكفاها مأثرة وفخراً.

حوالي سنة 156هـ وفد إلى بغداد تاجر هندي يحمل مقالة في الرياضيات وأخرى في الهيئة. فكانت الأولى أول رسالة رياضية ترجمت إلى العربية ترجمها إبراهيم الفزاري بأمر من الخليفة. وكانت هذه المقالة على ما هو شائع ومتعارف تحوي الأرقام التسعة والعمليات الحسابية الأساسية. ولهذا كان للحساب عند العرب اسمان: (الهندي) وهو ما كان

ص: 19

على الطريقة الرقمية الهندية، والأرتماطيقي وهو ما نسج على أسلوب الإغريق الخالي من استعمال الأرقام.

لعل أول إشارة إلى أصل هذه الأرقام، العالم سفيروس سيبوخت أحد أعلام مدرسة نيسابور على ما يظن في القرن السابع الميلادي، فقد جاء في كتاب له مؤرخ سنة 662م عن براعة أهل الهند في العلم ما يأتي: -

(. . ولا يتسع المقام لشرح ما كان للهند من حذق للفلك وبراعة في الاختراعات التي تفوق براعة الإغريق والبابليين. ونخص بالذكر طرق حسابهم للمقادير والكميات وتفوق كل وصف، وصفوة القول في هذا الصدد أن هذا الإحصاء والتقدير يتمان باستعمال علامات تسع). (فعلى من يعتقد من الإغريق أنهم قد بلغوا نهاية القصد في العلم أن يفقه ذلك ويدرك أن من الأمم غير الإغريق من ضرب في العلم بسهم وافر). أهـ

وعلى هذا كان الاعتقاد السائد في العالم العربي وفي أوربا طيلة القرون الوسطى أن الأرقام من أصل هندي. وقد نشر العلامة الفرنسي ووبوك في المجلة الآسيوية التي تصدر في باريس عام 1863 بحثاً مستفيضاً عن تاريخ الأرقام مرجعاً إياها إلى الأصل الهندي، فكانت كلمته فصل الخطاب في ذلك العهد.

وفي مستهل القرن الحالي أثيرت ضجة حول هذا الموضوع كان فرسان حلبتها وحاملوا لوائها ثلاثة من علماء الغرب الأعلام، أولهم كيس الأمريكي البحاثة في علوم الهند، والثاني كارادفو الفرنسي الحجة في تاريخ المدنية الفارسية، وثالثهم نيقولاوس بهنوف الروسي وهو ضليع في اشتقاق اللغة. وقد شك هؤلاء في صلة الهند بالأرقام، وقدم الأخيران فرضاً جديداً لتاريخ الأرقام.

نشر الأستاذ كيس عدة مقالات عام 1907 في المجلة الآسيوية في البنغال عن تاريخ الرياضيات في الهند. وكتب دفو بحثاً في مجلة سنة 1917 عن أصل الصفر. أما بهنوف فقد أخرج مؤلفين عام 1908 أولهما (استقلال الثقافة الأوربية في العلوم الرياضية) وقد ترجم إلى الألمانية عام 1918 وثانيهما (تاريخ الأرقام)

تصدى الأستاذ كيس في تحرياته إلى سبع عشرة لوحة نحاسية بها مخطوطات هندية يرجع تاريخها إلى ما قبل القرن العاشر الميلادي وتحوي أساس استعمال القيمة المنزلية للأرقام و

ص: 20

الأرقام، وأثبت أنها جميعها مزيفة إلا واحدة مؤرخة سنة 867 م. أما أقدم مخطوطة هندية تحوي الأرقام العشرة فترجع إلى سنة 1050.

على هذا الأساس رفض كيس قول المؤرخين السابقين الذين ذهبوا إلى أن الأرقام كانت معروفة لدى الهنود منذ القرن الثالث للميلاد. ورد على من زعم بأن الفلكي الهندي وعاش في القرن السادس الميلادي هو مخترع الأرقام زعمه عليه.

كان ووبوك قد عرض في أبحاثه عن تاريخ الرياضيات إلى مخطوطات عربية جاءت على ذكر بعض مسائل حسابية كطريقة تحقيق عمليات الضرب والقسمة بإسقاط التسعات، ونعتها بالطريقة الهندسية. ولما خيل إليهأن هذه الأعمال حسابية بحتة ولا صلة للهندسة بها، قرر أن الكلمة مصحفة عن (هندية). أما كيس فقد استطاع أن يثبت أن شرح هذه الطرق الحسابية ممكن هندسياً وأنه كان فعلاً معروفاً لدى العرب. وعدا ذلك فقد تحرى جميع المراجع العربية التي عثر عليها فوجد أن معظم هذه المراجع لم يبحث فعلاً عن العمليات الحسابية بالطريقة المعروفة برغم أن عناوينها تشير إلى ذلك. فمن هذه المؤلفات وأقدمها مؤلف الخوارزمي الذي عثر على ترجمة لاتينية له عنوانها وليس فيها ما يشير إلى استعمال الأرقام غير هذا الاسم.

وقد عثر كيس على مخطوطات هندية جاء فيها نظام للأعداد التسعة دون الصفر يخالف النظام الآخر الذي وجد وفيه الصفر فرجح أن النظام الأخير جاء الهند من البلدان المجاورة في أزمنة متأخرة.

ومما قوى عزيمة كيس على إنكار نسبة الأرقام للهند أن الأعداد تكتب من اليمين، أما الكتابة الهندية فمن اليسار.

أما العالم الفرنسي دفو فقد كان أشد جرأة في رفض فضل الهند على الأرقام إذ قال إن مؤلفي العرب جروا في تسميتهم الأرقام الهندية على ما جاء في حادث الفلكي الهندي الذي وفد إلى بغداد في عهد المنصور وهي حكاية يراها هو أنها مدسوسة من علماء النساطرة والسريان نكاية في الإغريق الذين كانوا يتوخون التنقيص من فضل مدنيتهم، وإشارة سبوخت إلى ذلك واضحة في روايته التي مر ذكرها. وقد تناقض رواة هذه الحكاية في تاريخها: فالبيروني في مؤلفه (تحقيق ما للهند من مقولة) المطبوع بلندن سنة 1887 (ص

ص: 21

208) يسند هذه الحكاية إلى عام154 هـ ويشاركه في ذلك المسعودي في كتابه (مروج الذهب). أما القفطي صاحب طبقات الأطباء (ص177 طبع مصر) فيسندها إلى عام 156 هـ نقلاً الزيج الكبير لأبن الآدي. والمظنون أن البيروني المتوفى سنة 1038 م أخذ روايته عن المسعودي المتوفى سنة 943 م دون تحقيق لها، ونستدل على ذلك من اقتضابه هذه الرواية وعدم شرحها أو تمحيصها على خلاف ما عهد عنه من الإطناب والتمحيص في أخباره الأخرى عن أهل الهند.

ويجري دفو في حكمه على روايات المؤلفين العرب على طرفي نقيض من ووبوك إذ يرى أن كلمة (هندي) مصحفة عن هندسي في كتب الرياضيات العربية. ولقد برع العرب حقاً في تحقيق الأعمال الجبرية والحسابية هندسياً.

والعالم الروسي بهنوف بحث القضية من وجهة لغوية وذلك اختصاصه. وله في اشتقاق اللغة سبق. فلم يرتح إلى نسبة الأرقام إلى الأصل الهندي. ويذهب إلى أن مبدأ استعمال القيمة المنزلية للأرقام كان أولاً في (العداد إذ يقول إن بعض هذه العدادات كان يتكون من صفوف في كل صف حبات عشر كل واحدة تخالف الأخرى شكلاً وترمز إلى رقم من الأرقام العشرة الأساسية، وأن الأعمال الحسابية كانت ممكنة باستعمال هذه العدادات. ثم قلدت هذه الرموز كتابة فجاءت الأرقام على الصورة المعروفة. ويعتقد إن قدماء الإغريق واليونان استعملوا هذه العدادات بالرغم من عدم قيام أي حجة أو دليل يدعم مقولته.

إذا صح ما ذهب إليهبهنوف من أن الأرقام تطورت من العداد فمن المتعذر نسبتها للهند، لأن الهنود القدماء لم يثبت استعمالهم للعداد، وقد أخذ العرب هذه الآلة عن الفرس، وفي تسميتهم إياه (بالتخت) الدليل القاطع على ذلك.

لقد شهد الأستاذ كاجوري المؤلف المعروف في تاريخ الرياضيات بأمانة كيس في البحث وتوخي الدقة العلمية وعدم التحيز والمغالاة، والحقائق التي توصل إليها تضعف النظرية الهندية ولكنها لا تنقصها من الأساس.

أما العالم الفرنسي فقد ركب متن الشطط ومرق من أمانة العلم إلى خسة التعصب والأثرة. فقد ذهب إلى أن الأرقام من تراث المدنية الإغريقية انتقلت إلى الشرق عن طريق الثقافة الإغريقية فيما بين النهرين على العهد الفارسي، وأخذها العرب عن الفرس. بينما نقل

ص: 22

الرومان هذه الأرقام إلى أوروبا، ولهذا تباينت هذه الأرقام شكلاً عند مختلف الأمم. وليس من باعث على هذا الاعتقاد الواهن إلا ما وقر في نفوس علماء الغرب من إعلاء شأن الثقافة الإغريقية ونعتها بما لا تستحقه من صفات، والحط من قدر الشرق واستهجان مدنيته. ولقد طمس هذا التعصب الخسيس مآثر المدنية الإسلامية إذ رماها بالتقليد والتقيد واللبس بينما قصر الابتكار والسمو والوضوح على مدنية الإغريق.

ومما لا ريب فيه أن الأرقام تداولتها أمم الشرق في العهد الإسلامي أجيالاً قبل أن تعرفها أمم الغرب، وعن العرب أخذتها أوروبا، ولا تزال تسميها بالأرقام العربية. فإن كان تداولها في القرن العاشر الميلادي على ما يقرر كيس فلا بدع أن هذه الأرقام نشأت في طرف من أطراف الإمبراطورية الإسلامية الشاسعة، ثم عمت هذه الإمبراطورية قبل أنم تعرفها أمم الفرنجة.

وللمستقبل أن يلقي شعاعاً على ما غمض من تاريخ هذه الأرقام ويردها إلى منبتها الذي فيه نشأت. وليس لعالم غربي أن يستأثر بهذه المبرة الشرقية في غفلة من الشرق وعجز عن التمتع بحقوقه كاملة غير منقوصة وويل من العلم لمن ينتهك حرمة العلم! هذا وفي فصل آخر سنأتي على انتقال الأرقام إلى أوربا.

محمد عبد السلام البرغوثي

مدير مدرسة حيفا الثانوية

ص: 23

‌الشخصية

للأستاذ محمد عطية الأبراشي المدرس بكلية الآداب بالجامعة المصرية

مقدمة:

إذا تقدم أحد أقاربك من الشبان لوظيفة من الوظائف، ثم سئلت عما تعرفه عنه بالتفصيل، فقد تجيب بأنه: شاب أمين نزيه، صادق في قوله، كريم الخلق، حسن السلوك، سليم القلب طاهر السريرة، كثير التفاؤل، قليل التشاؤم. يقول ما يعتقد، ويعتقد ما يقول، هذا من الوجهة الخلقية. أما من الوجهة العقلية فهو: ذكي، حاضر البديهة، حسن البصيرة، صافي الذهن، صادق الحس؛ وأما من الناحية الاجتماعية فهو محب للتعاون، عدو للأثرة، يشارك الناس في مسراتهم، ويواسيهم في أحزانهم، يوقر الكبير، ويعطف على الصغير. مطيع للرئيس، وفيّ للنظير؛ وأما من الناحية الجسمية. فهو قوي الجسم، معتدل القامة، حسن الهيئة، جميل الذوق؛ وأما من الوجهتين العلمية والعملية فهو مثل في النشاط وأداء الواجب، واسع الإطلاع، غزير المادة. . . . . . وما إليها من الصفات المختلفة التي يتصل بها ذلك المثل الأعلى من الشباب

فمجموع هذه الصفات هو عبارة عن شخصيته العليا بصورة واضحة مفصلة. وقد أثبت علم النفس التطبيقي أن الشخصية شرط أساسي للنجاح في الحياة، وأن المؤهلات العلمية وحدها لا تكفي للنجاح، بل يجب أن تصحب بالشخصية القوية. فكثيرون من الأطباء والمدرسين والمحامين وغيرهم قد فشلوا في حياتهم العملية لضعف شخصياتهم مع كفايتهم من الوجهة العلمية.

ولكن ما تلك الشخصية التي طالما سمعنا الناس ولا نزال نسمعهم يتكلمون عنها، ولا ندري من أمرها شيئاً؟ وإجابة عن هذا السؤال نقول:

تعريف الشخصية

ليس من السهل أن نحدد الشخصية ونعرفها تعريفاً علمياً جامعاً مانعاً؛ فهي كالكهرباء والمغناطيسية والجارس (الراديو) لا تعرف إلا بآثارها. ولكن هذا كله لا يمنعنا أن نحاول البحث عن سرها وتعريفها ولو تعريفاً تقريبياً فنقول:

ص: 24

(1)

الشخصية هي مجموع الصفات والمزايا الذاتية التي يمتاز بها الشخص من غيره. أو هي:

(2)

مجموعة الصفات العقلية والخلقية والجسمية والإرادية التي يتوج بها الإنسان. أو هي:

(3)

مجموعة الفروق التي تميز الشخص من غيره.

والحق أن هذه التعريفات كلها تقريبية، وأن الشخصية لا يمكن تحليلها إلى عناصرها الأولية تحليلاً محساً، ولكنها تبدو لنا في مقدار ما عند الشخص من الاستقلال الفكري، وحضور البديهة، وسرعة الخاطر، وقوة الروح، وهي كالحب والكره اللذين لا يمكن تعليليهما عادة، فقد تحب شخصاً أو تبغضه لمجرد رؤيته بدون معرفة سابقة، وقد لا يمكنك إبداء السبب. وكل ما تستطيع أن تذكره هو أن تقول: إني أحبه أو لا أحبه. أما السبب فلا يمكن تعليله لأنه أمر معنوي وسر خفي يتعلق بشخصية ذلك الرجل. وقد يكون الشعور بالحب أو البغض ناشئاً عن صفات أو عيوب خاصة في الشخص الذي تعرفه وتقابله من حين لآخر، فنحن نحب فلاناً مثلاً لأنه مخلص كريم شجاع متفائل، يواسي الفقير ويساعد البائس. ونكره فلاناً لأنه لا يعرف الإخلاص، والإخلاص لا يعرفه، يتمثل فيه البخل، والجبن، والتشاؤم، والقسوة والغلظة، لا يحن إلى مسكين ولا يتألم لحزين. وفي مثل تلك الأحوال نعرف إلى حد ما سبب المحبة أو الكراهة، ولكن ليس ذلك بسهل دائماً؛ فقد نحب الشخص في أول لحظة نقابله فيها، وقد نبغضه لأول وهلة قبل أن نعرف شيئاً عنه، نحبه لمظاهره أو نكرهه لهذه المظاهر، ولا يمكننا أن نوضح الأسباب التي جذبتنا إليه، أو التي نفرتنا منه. والسبب الجوهري هو أن شخصيته محبوبة أو مكروهة.

هل الشخصية هبة طبعية أو صفة مكتسبة؟

والجواب أن الشخصية توهب بالفطرة، وقد تكتسب بالتربية الحق، ولكن الطيعية أقوى من المكتسبة. ولو كانت الشخصية هبة طبيعية فحسب لكنا ضحايا الظروف، وما كان للتربية أي أثر في تكوين العظماء من رجال الدين والعلم والأدب والفن. ولكن أثرها لا ينكر في تكوين الشخصية والعظمة في نفوس العظماء. وهنا نسأل هل قامت التربية وقام المربون حقيقة بواجبهم نحو تربية الشخصية؟ هل قاموا بواجبهم وقد أصبحنا نفكر فيما فكر فيه غيرنا، ونتكلم بما قاله سوانا، ونفعل مثل من سبقنا؟ إننا أصبحنا مقلدين في أفكارنا وأقوالنا

ص: 25

وأفعالنا، مهملين أنفسنا وشخصياتنا، لأن التربية تربية إتكالية، لا تعرف معنى الثقة بالنفس والاعتماد على النفس في التفكير والقول والعمل. وقد نادى كبار المربين وبخاصة (السر برسي نن) المربي الإنجليزي الكبير بأن الغرض من التربية هو تربية الشخصية المستقلة، ولكن كتب التربية في واد، والمدارس في واد آخر. فبينما نقول: يجب أن يربى الفرد تربية كاملة من كل الوجوه، جسماً وعقلاً وخلقاً واجتماعاً، نجد أن الفرد مهمل إهمالاً تاماً من جميع الوجوه، وأن شخصيته تطبع بالطابع المدرسي، وتصب في قالب خاص، فتفقد مظاهرها الطبيعية. كل ذلك حباً في النظام، ولسنا ننكر أن النظام يجب أن يكون سائداً، بل إننا ننادي بالنظام، ونقول دائماً: النظام هو الحياة، ولكننا نعترض على الطريقة التي يسود ذلك النظام، تلك الطريقة التي تقتل شخصية الطفل وتضعف مواهبه، ونريد طريقة أخرى بها يستتب النظام من غير إضرار بعقلية الطفل أو وجدانه أو إرادته أو جسمه أو شخصيته، وليست هذه الطريقة بسهلة، لأنها تتطلب مشاركة في الوجدان، وفهماً لكل فرد من حيث الذكاء والميول والبيئة والظروف. . وما ذلك بالأمر الهين، فنحن لا نفكر إلا في المظاهر، والنظام الشكلي، والسكون العسكري. مهما ضحينا في سبيل هذه الأشياء من الضحايا. وإذا تحققت الثقة بين المعلم والمتعلم؛ ووجدت الصلة الروحية بينهما فمن المحال أن تكون هناك صعوبة في نظام أو غيره، ولن تضحي شخصية الفرد أو الأفراد بعد.

الاختلاف في الشخصية

كما أن الناس يختلفون في الذكاء والميول الفطرية كذلك يختلفون في الشخصية؛ فبينما تجد هذا قوي الشخصية قد تجد ذاك خاملاً ضعيف الشخصية، وكما أن الشخصية تختلف باختلاف الأفراد كذلك تختلف باختلاف الشعوب؛ ففي الشخصية الألمانية تتمثل الروح العسكرية، والطاعة العمياء، والاتكال على الحكومة في كثير من الأشياء. وفي الشخصية الإنجليزية تبدو الثقة بالنفس، واحترام الذات، وتقدير الحرية الشخصية والاستماتة في سبيلها. وفي الشخصية الأمريكية تظهر الروح العامة أو (الديموقراطية)، وعدم الاكتراث للتقاليد، لأن أمريكا كأمة حديثة لا تقاليد لها. وفي الشخصية الفرنسية تتغلب العاطفة على التفكير، والنظريات على الأعمال. وتكثر الآمال، والميل إلى الخيال، وحب الظهور؛ فكل فرنسي يريد أن يكون ضابطاً إذا تقدم للحرب. ولا ندري من أين يؤتى بالجنود إذا كان

ص: 26

الجميع ضباطاً، وإذا كانوا ضباطاً فإنهم لا يفكرون في الجنود ولا يحتفظون بهم خوفاً من أن يقل احترامهم. والمثل يقال في العلاقة بين المدرسين والتلاميذ، فأولئك في واد، وهؤلاء في واد آخر، والصلة بين هؤلاء وأولئك لا تتجاوز صلة الحجرة الدراسية تزول بمغادرتها وتتجدد بالعودة إليها.

والشخصية صفة نسبية وقوة سرية توجد في كل شخص إلى حد ما، وتختلف في نوعها وقوتها باختلاف الأشخاص. وقد تكون بارزة واضحة في بعض الأفراد يشعر بها الإنسان في الحال، وقد تكون كامنة خفية في البعض الآخر.

وليست الشخصية مقصورة على جنس دون آخر. ولا على طبقة دون طبقة أخرى، فكما تكون بين المتعلمين تكون بين غيرهم، وكما تكون بين المدنيين تكون بين القرويين. وكما تكون بين الرجال تكون بين النساء، وكما تكون بين الأغنياء تكون بين الفقراء، ولكلٍ تفكيره وتقاليده وطرقه ومعيشته الخاصة. والعاديون من الناس قد يكونون في ضنك من العيش، ولكن لهم شخصية خاصة، فهم يستطيعون أن يتحدثوا عن الحوادث المحلية، ويذكروا حقائق قومية، بروح قوية لا تنقص عن روح الكبار من القوم وقد يمتازون عنهم لأنهم لا يرددون ما يقرؤون من أفكار غيرهم، ولكنهم يصلون إلى هذه الحقائق بتفكيرهم الخاص.

(يتبع)

محمد عطية الأبراشي

ص: 27

‌صورة

بغير عنوان!

للأستاذ علي الطنطاوي

(هذه صورة من صور الحياة، أعرضها على علاتها في الرسالة، ليلحق عليها من شاء

من القراء شرحاً وحاشية وتعليقاً.)

ذهبت أمس إلى الحلاق، وتخيرت آخر ساعة من النهار كي يخلو لي المكان، ولا تغروني نظرة. . فوجدت عنده شاباً، وكرهت أن أدخل فأنظره، وأنا أكره الناس للانتظار، فهممت بالرجوع. ولكن الحلاق أومأ إلي أن أدخل، لن يلبث حتى يقوم فقد أوشك أن ينتهي. فدخلت

وكان الشاب قد انتهى حقاً، وكان قذاله وعذاره وسالفته مقصوصة، وكانت جمته مرجله مصففة، وكان وجهه كالمرآة الصقيلة ما فيه (والحمد لله) أثر من لحية أو شاربين! فما باله لا يزال قاعداً على الكرسي؟ وماذا ترى الحلاق صانعاً به بعد؟ ثم اطمأننت وقلت: قد انتهى وإنه لقائم. وقعدت أرقبه فلم يرعني إلا الحلاق يقبل على شعره فينفشه نفشاً وهو ساكت لا ينكر عليه. فقلت: لعله قد بدا له، فأحب أن يقصر من هذا الشعر، ولن يطول أمد هذا التقصير، وإني منتظر.

وتنظرت والحلاق ماضٍ في عمله، حتى إذا تم النفش غدا على رأس صاحبنا شجرة ذات فروع. . . فعجبت كيف كان هذا الشعر كله مصففاً مستقراً، ورثيت له إذ يحمل على رأسه أبد الدهر هذا الحمل الثقيل، وأعجبني منه أن يزمع الخلاص منه.

ولكنه لم يقصه كما قدرت أن يفعل، بل أشار إلى الحلاق فعمد إلى هنات سوداء لا والله ما عرفتها من قبل وسنّى سنّى! فأدخلها النار حتى احمرت ثم أدناها منه، فأشفقت أن يصيبه منها أذى، ثم فكرت فقلت: لعله مريض يكتوي، وقديماً قالت العرب: آخر الدواء الكي. ونظرت فإذا هو يقبض على شعره بإحدى هناته تلك، ويديره عليها، ثم يستلها منه استلالاً، ثم يفعل مثل ذلك وأنا أعجب، حتى انتهى فإذا صاحبنا قد عاد جعد الشعر، وقد كان سبطا، فقلت: إنا لله! رجل أصله من البربر فهو يحب أن يتشبه بأصله، والتمست له المعاذير.

وحسبته قد انتهى وظننت أنه قائم، ولكنه لم يقم بل أشار إلى الحلاق. فضمّخ رأسه بماء (كلونية) وأقبل فسرحه تسريحاً، وعاد فمسحه بدهن استخرجه من حق صغير، فصار

ص: 28

لرأسه وميض ولمعان، فقلت الحمد لله قد انتهى، ونزعت عني طربوشي، ثم أعدته إلى رأسي حين لم يقم. ولبثت أنتظر، وجاء الحلاق بكمهٍ فوضع فيها رأسه وشدها من حوله شداً، فقلت مصدع متألم فهو يخفف من صداعه.

ثم أخذ الحلاق الملقاط، وعمد إلى حاجبيه، فجعل ينتش منهما نتشاً وأنا أرثي له، وألح عليه بالنظر، علّ عينيه تقع على عيني، فأبذل له عوني ونصرتي، فإن هذا الحلاق لا يكاد يرحمه فلا يبصرني. ثم أدركت الحلاق رحمة فعفا عنه وأبقى عليه، فنظرت فإذا حاجباه خطان كأنما خطا بقلم؛ فقلت سبحان الله أي فتاة تعطى مثل هذين الحاجبين ثم لا تنزل راضية عن سنين من عمرها.

وفتح الحلاق خريطة فاستخرج منها كبة، أخذ منها خيطاً لفه بين أصابعه وجعل في وسطه فرجة تضيق وتتسع كلما شدها أو أرخاها، وأمر هذا الخيط على وجهه يتمعر ويخيل إلي أنه يقاسي ألماً شديداً، ثم كف عنه. فلا والله ما ترك في جبينه زغبة إلا واجتثها هذا الخيط.

فقلت: قد انتهى، ولم يبق في وجهه ما يذهب به، إلا أن يكون أنفه، فيكون كباغي الجمال بجدع الأنف، ولكن سرعان ما خاب ظني في أنه انتهى. ورأيت الحلاق يدلك وجهه دلكاً ويقرصه قرصاً، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، قد جن الرجل. . وإلا فماذا يكون هذا القرص من الحلاق، ثم كف فنظرت في وجه الشاب فإذا عليه حمرة الخجل، وأنعمت النظر والتفكير فعلمت أنها حمرة الصحة والحياة، أو حمرة الدلك والقرص، فهممت أن أقوم إليهفألتزمه وأهنئه على هذا الاختراع: يصيب الناس الصحة بالغذاء وبالرياضة ويصيبها هو بالدلك وبالقرص، ثم تخاذلت ورحت أنظر مشدوهاً إلى الحلاق وهو يصبغ وجهه بالأبيض والأحمر، ورأيتني لا أطيق احتمال هذا منه وأنا أكره من النساء أن يفعلنه، وعجبت كيف لا ينكره هو؟ وكيف لا يغضبه أن يعامل كامرأة.

ولكنه لم ينكر شيئاً، بل أشار إلى الحلاق، فجاء بإصبع حمراء فمس بها شفتيه كما تفعل فتيات السينما سواء بسواء، فلم أستطع المكث بعد هذا وقمت فجلت في السوق جولة. ثم عدت لما فارق الكرسي.

وما أدري بعد كيف أصفه؟ أأبدأ من رأسه أم من رجليه؟ أما رأسه فقد عرفت أي شيء

ص: 29

هو! أما صدره وظهره فبادٍ أعلاهما، وأما ذراعاه فمكشوفان. . . ولو أنت عرضته على الناس بزينته تلك ما عرفوا أرجل هو أم امرأة

أما (بنطلونه) فأبيض رقيق يبدو ما تحته واضحاً إلا شبراً تستره سراويلات قصار.

ثم كانت الطامة الكبرى وأقترب مني الشاب يسلم عليّ ويزعم أنني أعرفه.

- أنا أعرفك؟ كلا. أراك مخطئاً.

- أوه؟ كيف؟ أنا تلميذك منذ كذا سنين في مدرسة كذا، وأنا الآن معلم في المدرسة التي فيها ابنك.

- أنت معلم؟!

وندت مني صرخة تعجب ولم أجب.

دمشق

(علي الطنطاوي)

ص: 30

‌فصول مدرسية في الأدب الدرامي

5 -

الرواية المسرحية في التاريخ والفن

بقلم أحمد حسن الزيات

أداء العمل - الحركات

هي أحد لساني العمل. ومصاحبتها للكلام في إبانة الفكرة طبيعة في الناس منشأها ضعف العبارة وعجز اللغة عن تصوير ما يجول في النفس من خواطر ومشاعر. لذلك تجد حركات الجسم وملامح الوجه تشتد وتحتد كلما أصاب اللسان عي أو لكنة. ومن ثم كانت الشعوب ذات الخيال القوي والإحساس الشديد أكثر الأمم حركة وأشدها لهجة. والمرء إذا ما التاث عليه القول لنقص طبيعي في منطقة أو لضعفه في اللغة التي يعبر بها، اعتمد على هذه الدلالات المنظورة فمرنها وقواها كما ترى في الأخرس والبادئ في تعلم لغة جديدة. وأشد ما تكون الحركات قوة وظهوراً حين تثور النفس وتضطرم العواطف، فتتفجر من اللسان والجوارح والملامح. لذلك كانت الحركات عنصراً من العمل الروائي، وجزءاً من الفن الخطابي، لشدة انفعالاتهما وكثرة مفاجآتهما وازدحامهما عادة بالمواقف الثائرة أو الساخرة. على أن الحركات قد تقوم بنفسها مقام الكلام كما ترى في الخيال الشمسي والخيال الظلي والرقص التمثيلي مثلاً. وليس من شأننا أن نتعرض لهذه الأبحاث فلها فن آخر، وإنما حملنا على ذكر الحركات ذيادنا عن حق البلاغة في العمل الروائي والمسرحي، وقد مر شيء من ذلك عند الكلام عن العبارة، وربما عدنا إليهعند بحثنا في الدرامة.

الحوار: الحوار هو مطارحة الحديث بين شخصين أو ثلاثة على الأكثر، أما الرابع فقلما يكون له شأن في الحديث أو خطر. ومن الصعب أن تشركه فيه ما لم يكن دوره أن يظل صامتاً أثناء الحديث، أو يؤيد بعض المتحدثين بكلمات قليلة. وشرطه أن يكون جيد المناقلة، سديد المساجلة، حسن التقطيع، مطابقاً لموقف المتكلم وخلقه، متغير اللهجة والجرس تبعاً لمقتضى الحال، سريع الجواب قصير الخطاب، فلا يشبه دفاع المحامي ولا خطبة الخطيب، لأن ذلك يزهق روح الجاذبية ويبعث السأم في النفس. وأجدر الأساليب به أسلوب الطباق والمقابلة

ص: 31

نجوى النفس. نجوى النفس هو حديث الممثل مع نفسه بصوت مسموع، ومحله حين تضطرب حال الشخص، فيغلبه الجزع ويفترسه الشك، فينفجر بالكلام الجهير معلناَ عن ضميره مصرحا بسره، ولو لم يكن هناك من يسمعه. وقد غالى رجال المذهب الإبتداعي في استعمال نجوى النفس، قاصدين بذلك إلى حذف الأنجياء وهم أشخاص كان كتاب الإغريق ومقلدوهم من القدماء يضعونهم في الرواية لا لشيء غير أن يسر إليهم البطل ما يفكر ويقدر بدل أن يتحدث إلى نفسه. ولكن الأبتداعيين بإسرافهم في النجوى، وإسهابهم فيها لم يبرئوها من النقص والإملال. فلهوجو مثلاً في رواية هرناني نجوى ألقاها (دون كارلوس) على قبر شرلمان بلغت ستين ومائة بيت! وجمال النجوى أن تكون قصيرة إلا إذا كان اضطراب الشخص قوياً فلا بأس أن تطول قليلاً.

أنواع الرواية

موضوع الفن الروائي هو حياة الناس بأسرها. فهو يصور المضحك والمبكي من الحوادث، ويصف الخامل والنابه من الناس. فإذا كان العمل الذي يمثله جدياً، والأشخاص الذين يصورهم من الطراز الأول والطبقة العالية سمي مأساة. وإذا كان العمل هزلياً منتزعاً من حياة العامة مصوراً لعيوبهم سمى ملهات. أما إذا جمع بين الجد والهزل، أو أقتصر على الجد ولكن أشخاصه من طبقة العامة والسوقة، فتلك هي المأساة الحديثة أو الدرامة. وكل ذلك يؤدى عن طريق الإلقاء، فإذا أدي عن طريق الموسيقى والغناء، كانت الغنائية وفروعها. وسنتناول كل نوع من هذه الأنواع بالشرح والتفصيل والتحليل، إلا الغنائية فسنلم بها إلماما على قدر صلتها الواهية بالأدب والبيان.

المأساة.

تعريفها: المأساة هي تمثيل عمل عظيم يبعث في النفوس الرعب والرحمة والإعجاب. وليس من الحتم أن تسفك الدماء وتنثر الأشلاء فوق المسرح لتحدث تلك الآثار، بل يكفي أن يكون العمل جليلاً والشخص نبيلاً، والهوى المتحكم رفيعاً، حتى ينشأ ذلك الحزن الرهيب الذي يجدر بالمأساة. ومعنى ذلك أن يكون العمل خطيراً كإرجاع ملك مغصوب، أو إخضاع هوى مستحكم؛ وأن يكون الأشخاص من ذوي التيجان وطلاب العروش، لأن

ص: 32

وجيعة النفس لمصاب الملوك أشد من وجيعتها لمصاب السوقة؛ وأن يكون الموضوع مقتبساً من الماضي ليكسب العمل جلال القدم؛ وأن يكون الهوى المحرك للرواية هو الطمع أو الانتقام أو الحب.

هكذا كانت المأساة بعد كوزني: أرستقراطية العمل والأشخاص والأسلوب والغرض. وقد درج الناس دهوراً يوجبون أن تكون نهايتها فاجعة محزنة، أخذاً برأي أرسططاليس كما علمت، ولكن هذا الرأي جانبه المنطق وخالفه الواقع فأصبح غير واجب ولا محتوم، لأن العمل قد يثير الإعجاب ويبعث الرهبة والرحمة، ثم ينتهي مع ذلك بالسرور والغبطة.

غرض المأساة: فغرض المأساة إذن هو إصلاح النفوس بإثارة الرهبة من الجرم الفاضح، والرحمة للفضل المعذب، والإعجاب بالصنع الجميل. وطريقها إلى ذلك أن تمثل لنا أمثالنا وهم يصارعون الخطر ويكابدون المصيبة، على شرط أن يكون هذا الخطر مما يفزعنا، وتلك لمصيبة مما يروعنا، وأن يكون هذا التمثيل مصبوغاً بلون الحقيقة حتى يخدع أبصارنا ويملك بصائرنا، فنتأثر التأثير الذي نحبه

على أنك تسألني ما لذة المرء في شهوده نوائب الناس وسماعه أنين غيره؟ يقول ارسططاليس إن مصدر هذه اللذة هو إتقان التقليد، ويقول (لكريس) إن مصدرها شعور الإنسان بالنجاء والأمن من مصائب يصلاها غيره وهو بعيد عنها، كلذة الجالس على شاطئ البحر يبصر في عرضه سفينة تصارع الموج وتكافح الخطر وهو رخي البال هادئ السر. ويؤخذ من خطاب الشاعر الهندي طاغور الذي ألقاه في مسرح الأزبكية حين مر بمصر أن مصدر هذه اللذة تمثيل الحقيقة. (لأن الحقيقة من حيث هي، جمال لا يعد له جمال. ألست ترى إلى صورة المرأة العجوز أبدعها فنان ماهر؟ إنك تنظر إلى الصورة فتقر بجمالها، ولكن العجوز التي فيها ليست على شيء من الجمال، وإنما جمال الصورة أنها تمثل هذه المرأة على حقيقتها)

ونحن لا ننكر أن المرء يروقه أن يفزع من الخطر وهو بعيد، ويلذه أن يألم المصاب غيره وهو آمن، وأن تفكيره في سلامته من هذه الأرزاء وبراءته من تلك الأدواء سبب من أسباب سروره حين يشهد مأساة على المسرح، ولكن السبب الذي يبعث فينا تلك اللذة الغريبة من رؤية الألم وسماع الأنين غير هذا كله. فإن الأطفال وهم لا يفكرون هذا التفكير

ص: 33

يلذ لهم أن يستشعروا الرعب والرحمة من سماع الحكايات المروعة المؤثرة. يظهر أن منشأ هذه اللذة فينا عند مشاهدة المنظر الفاجع هو ميلنا الغريزي إلى تمرين قوانا الجسمية والنفسية، وما يحدثه ذلك الميل في نفوسنا من قوة الشعور بحيويتنا وعقليتنا وحساستنا وقدرتنا على العمل والتصرف. وما الأمن الذي نشعر به عند شهود هذه الفجيعة إلا شرط ضروري لإحداث منظرها تلك اللذة لا مسبب لها. وذلك التمرين الطبيعي هو علة ما نجد في الطفل من شرهٍ إلى سماع الخوارق التي ترعبه، والحوادث التي ترهبه. وهو كذلك سبب ما نرى من سعي العامة والسوقة إلى الساحة التي كان يشنق فيها المجرمون أيام كان الشنق علنياً، وهو السبب أيضاً في ميل الأمم الغليظة أو القوية إلى صراع الثيران وأناشيد الحماسة، وميل الأمم الرقيقة أو الضعيفة إلى تمثيل العواطف وقصائد الغزل.

أما السبب في جعل الجاذبية المزدوجة من الرعب والرحمة أساس المأساة وروحها، فهو ما لهاتين العاطفتين دون سائر العواطف من التدرج مع الحادث، والترقي مع الخطر، والأخذ بمجامع القلب شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغا الغاية عند انتهاء العمل. أما عواطف الحماس والفرح مثلاً فإنها تنشأ بقوة ثم تضمحل بسرعة.

موضوع المأساة: يقع الرجل في التهلكة والبؤس لأسباب خارجة عنه؛ أو صادرة منه. فالأولى تنشأ من حظه وموقفه وواجباته وعلاقاته، ومن صروف الحياة وأحكام الآلهة، وأفاعيل الطبيعة وأضاليل الناس. وأفجع هذه الأسباب وأوجعها ما دهمت البائس من مأمنه، وأتته ممن لا يتوقع منهم إلا الخير والنفع. والأخرى تنشأ من ضعفه وغفلته وميوله وأهوائه ورذائله، وقد تأتيه أحياناً من فضائله. وأسباب الهوى المقرون بطيبة القلب وسلامة النية، هي أقوى الأسباب تأثيراً وأكثرها خصوبة وأروعها حكمة. ومن هذا الفرق بين الأسباب الداخلية والخارجية نشأ للمأساة مذهبان: مذهب القدماء أو مذهب القضاء والقدر، ومذهب المحدثين أو مذهب النفس والهوى.

مذهب القدماء: فأما مذهب القدماء أو الإغريق بتعبير أصح فيعزو مصائب الأشخاص دائماً إلى سبب خارج عن إرادتهم، حتى لو اتفق أن حدث لهم ما يكرهون بسبب غفلتهم أو ضعفهم أو ميلهم كأوديب وهيكوب مثلاً حرص الكاتب على أن يخلق لهذه الأسباب أسباباً أولى كمشيئة القدر وغضب الآلهة. ولقد انتقل مذهب الإغريق إلى من خلفهم من كتاب

ص: 34

العالم باقتباس رواياتهم أو موضوعات تاريخهم، واستعان المقلدون من كتاب الفرنج بالوهم المسرحي على تمثيل العادات والعبارات، فظهرت مقتبسات ميروب وأوديب وإيفجيني وأورست لراسين وفولتير على المسرح الفرنسي، أقوى وأروع وأبدع مما ظهرت به لوربيذس وسوفوكليس على مسرح أثينا.

والذي حمل الإغريق ومن لف لفهم على الأخذ بمذهب القضاء والقدر في الرواية أنه أشد تأثيراً وأقوى فجيعة. فإنك لا تجد أبعث للرعب وأدعى إلى الرحمة من رجل يعميه القدر فتسيره قوة غير قوته، وتسخره مشيئة غير مشيئته، وتعبث به إرادة متحكمة غير إرادته، ثم تراه يجهد عبثاً في الفرار من جريمة تراصده، أو النجاء من مصيبة تطارده. وذلك هو مذهب الرواقيين الذي لخصه (سنيكا) في هذه الجملة:

(إن القدر يقود ذوي الإرادة ولكنه يجر فاقديها) ذلك فضلاً عن موافقه هذا المذهب لمسرحهم وعبادتهم وسياستهم وعادتهم مما لا نجد داعياً لشرحه وتفصيله.

مذهب المحدثين: على أن القدماء كان لهم بجانب مذهب القدر الذي أملاه عليهم الدين والتاريخ والإقليم مذهب آخر هو مذهب النفس والهوى، ولكنهم أغفلوه إما لضعف تأثير وإما لعدم انطباقه على نظام مسرحهم في سعته وشكله ووسيلته، حتى جاء المحدثون وأولهم كرني أبو المأساة الحديثة، فأخذوا به وساروا عليه، وجعلوا المأساة صورة لمصائب الرجل الخاضع لهواه، لا لمصائب الرجل الطائع لحظه؛ وأصبح الرجل الحر الذي يخضع لإله عادل يسمح بالشر ولا يأمر به، ويتعرض لأرزاء الدهر بسبب أهوائه وأهواء غيره، موضوع المأساة الحديثة وينبوع الأثر المروع الموجع الذي يأخذ بأذهاننا ووجداننا. ومزايا هذا المذهب هو أنه أخصب إنتاجاً لاستمداده من ينابيع القلب البشري الفياضة، وأتم شمولاً لتحليله الإنسان في كل زمان ومكان دون الاقتصار على شعب معين وتاريخ معين؛ وهو مع ذلك أبلغ حكمة وأتم ملائمة للمسرح الحديث، وأروع جمالاً في التمثيل العصري. ولولا الخوف من أن يسأم القارئ من تفصيل قد لا يعنيه لأفضت في شرح هذه المزايا واحدة فواحدة، ولكن فيما ذكرته غناء للقارئ المستفيد. وأما عمل المأساة وصفاته كالإمكانية، والوحدة والجاذبية والتأثير والمغزى، وأجزاؤه الأساسية كالعرض والتعقيد والحل وما إلى ذلك من الانقلاب والتعرف والأسلوب، فقد سبق القول فيه.

ص: 35

يتبع

(الزيات)

ص: 36

‌بمناسبة عيد موزار

تكريم النوابغ

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

في الوقت الذي وصل فيه العدد الأخير من الرسالة إلى أيدي القراء كان سكان مدينة سالزبرج خاصة والنمساويون عامة. قد انتهوا من عيدهم الذي يقيمونه سنوياً ذكرى للموسيقار النابغة الذي لم يطل عمره أكثر من ستة وثلاثين عاماً بذّ فيها جميع معاصريه الموسيقيين وأحدث في الموسيقى الغربية حدثاً عظيماً لا يمحوه الزمان. ولد هذا النابغة في 27من يناير سنة 1756 في مدينة مدينة الحدائق والجمال، ونشأ وترعرع في حضن والده ليوبولد الذي كان موسيقاراً في خدمة الكنيسة في تلك المدينة، وقد ظهر ميله إلى الموسيقى ولما يبلغ الثالثة من عمره، وبدأ في سن الرابعة يعزف بعض القطع الصغيرة وفي سن السادسة رحل مع والده إلى ألمانيا فحاز عزفه إعجاب الملوك والأمراء حتى الإمبراطور فرنسوا الأول أجلسه بجواره وسماه (الساحر الصغير) كما أن البرنسيس ماري انتوانت التي صارت فيما بعد ملكة فرنسا رفعته بين ذراعيها لشدة إعجابها به، فقال لها الطفل عندئذ:(حقاً إنك لطيفة وعندما أكبر سأتزوج منك) وفي سن السابعة بدأ يعزف على الكمان والأركون في رحلاته مع والده كما بدأ يؤلف بعض قطع صغيرة. وفي أبريل من سنة 1764 زار مع والده إنجلترا. فكان إعجاب الأسرة المالكة به كبيراً، وقد أملى على الملكة قطعة موسيقية من تأليفه، كما أنه أهدى إلى المتحف البريطاني مقطوعة (الله ملجأنا) ولما بلغ الحادية عشرة ألف أول أوبرا له أسماها بناء على إشارة الإمبراطور جوزيف الثاني قالت عنها لجنة الفحص (إنه عمل لا يضارع) ومن ذلك الوقت أخذ يظهر حقد الموسيقيين عليه وهبوا يدسون له الدسائس في قصر الإمبراطور، فكان ذلك سبباً في البؤس والفاقة الذين لازماه طول حياته تقريبا. غير أن هذا لم يمنعه من إبلاغ رسالته وإخراج تأليفه العظيمة أثناء جولاته في إيطالياوغيرها من بلاد أوربا

وفي يوليه 1769 أي عندما كانت سنه ثلاثة عشر عاماً تقريباً منحته أكاديمية بولونيا لقب (مؤلف) مع أن القانون يحرم منح هذا اللقب لمن هو أصغر من عشرين عاماً. ولقد كان عجباً أن يخرج هذا الصبي النمساوي المولد والنشأة واللغة في26 ديسمبر سنة 1769 ولما

ص: 37

يبلغ الرابعة عشر من عمره أوبرا باللغة الإيطالية في ميلانو أسماها أحرزت نجاحاً منقطع النظير، ومنذ ذلك الحين اعتبر هذا الفتى سيد الموسيقى وزعيمها. وفي سنة 1773 وبعد أن عاد إلى مسقط رأسه أخرج أوبرا بمناسبة زواج البرنس فرديناند فاقت كل ما أخرجه قبل ذلك حتى قال عنه أكابر الموسيقيين (إن هذا الصبي سيجعلنا نسياً منسياً) وزاد حسدهم له وحقدهم عليه كما زادت دسائسهم عليه في قصر الإمبراطور. وبالرغم مما كان يلاقي بسبب ذلك كله من ويلات، وما كان يعاني من ضيق وضنك، فإنه أستمر في إتمام رسالته بما كان ينفثه في الموسيقى من سحر، حتى اعترف له الجميع بأنه أدخل عليها تعديلات وتحسينات غيرت من طبيعتها. وكان أشد الحاقدين عليه في حياته ولما توفي في يوم 5 من ديسمبر سنة 1791مات معتقداً أن هذا الرجل هو الذي دس له السم في الدسم كما كان يعتقد الكثيرون، فراح بذلك ضحية نبوغه وعبقريته. ولكن النمساويون الذين يقدرون الفضل لذويه إن كان فاتهم أن يواسوه في حياته، فلم يفتهم أن يكرموه بعد وفاته فلقد رأيت له تمثالين عظيمين رفع أحدهما بين القصر الإمبراطوري ودار الأوبرا في فينا يحف به تلاميذه بآلاتهم الموسيقية ورفع الثاني في أفخم ميدان في مدينة وهم فوق ذلك يقيمون لذكراه في هذه المدينة عيداً سنوياً في شهر أغسطس من كل عام حيث يهرع إليه أكابر الموسيقيين والممثلين من فيّنا وغيرها من بلاد النمسا لإقامة الحفلات وتمثيل مختلف الروايات، فتراها غاصة بالجماهير من مختلف الشعوب بين إنجليز وأمريكيين وغيرهم. وقد بدأ عيد هذا العام يوم 28 يوليه وانتهى يوم 2 سبتمبر وكان لي حظ مشاهدة كثير من مظاهره في تلك المدينة الجميلة. وقد مثلت هذا العام في هذا العيد بعض الروايات المشهورة مثل ، ست مرات كما أعيد تمثيل كثير من الروايات الأخرى في ال وفي مدينة مسرح اسمه لا يعرف له قط نظير في العالم وقد حضرت فيه تمثيل رواية يرفع الستار فترى أمامك دمى لا يزيد طول الواحدة على ثلاثين سنتمتراً تتحرك أمامك على المسرح وتتكلم وتمثل أدوارها بغاية الدقة والإتقان تسطع عليها أنوار قوية زاهية مختلفة الألوان. ولقد كنت دهشاً طوال مدة التمثيل لحركات تلك الدمى العجيبة وللمناظر الرائعة التي كانت تسحر الأنظار وتأخذ بمجاميع القلوب. فلعل أحد علمائنا يفسر لنا حركة تلك الدمى على المسرح.

ص: 38

وبعد فلا يسعنا إلا أن أعلق أمنيتي العظيمة في أن يحل الوقت الذي يكرم فيه الشعب المصري نابغيه كما يكرم الأوربيون عامة والنمساويون خاصة نابغتهم العظيم موزار

عبد الحميد فهمي مطر

ص: 39

‌من الأدب الإغريقي

الشاعر الصائم

بقلم بسام كرد علي

لقد أطبق شفتيه ولم يرد - بعد أن قضى الأيام الطوال ينشد أهل أثينا شعره الرائع العذب - أن يظل مثابراً على ما بدأ به، فألقى نفسه في داره والتزم حياة العزلة، وانقطع ذلك الصوت الذي كان يغذي جميع سكان أثينا، وسكنت تلك العواطف الثائرة وخليق بها ألا تسكن، وتشرق بأنوار الجمال لكل من يريد الجمال

فدخل عليه هوبول وكان من أصدقائه الملازمين، فوجده مستلقياً على فراشه النابي، وصاح به هوبول وقتئذ:

يا قيثارة الأرض! ويا عندليب السماء. هل حبست صوتك انتقاماً منا نحن أهل الأرض الذين أصمت آذاننا كلمات الحسد، وأعمت عيوننا ترهات النعيم، وشغلت عقولنا سفاسف الملذات، فلم يبقى منا إلا هذه الأجسام المركبة من عظم الكبر ولحم الفرائس، ودم نجس كالخمر المسكوبة في مجلس الدعارة.

فقام هايكلوس من مكانه وحمل جسمه المنهوك وحاول إخراج جملة قصيرة من صدره المتهدم قال: إني لا أزال أرى في نومي ويقظتي ملائكة أبولو تحاسب أهل أثينا عما حفظته من أشعار هوميروس، وعما تعي من كلم زيوفراست، وهيراقليط، وسقراط، فلا تجد غيرك يا هوبول، وتصرخ في أعلى السماوات بصوت موحش مهول لقد نسى أولئك الطاغون أشعار اليونان وكلمها، وتركوا عبادة آلهتها، فدعهم يا هايكلوس في ظلمات الجهل يعمهون.

دعهم فقد عبدوا البطون والقدود، وأضحوا قوقعات نجسة تدنس الأرض بسائلها اللزج، ما أشدهم طغياناً وفجراً، إنهم نسوك يا هايكلوس فثابر على صومك ولا تعد تنشدهم شيئاً، وإن الثلاثين يوماً التي انصرمت على انقطاعك لا تكفي، بل ثابر على صمتك فهؤلاء قوم قد نسوا ماضيهم وحاضرهم، وعليك أن ترحم نفسك. لأني أرى أن كل كلمة من أشعارك الباهرة قد سلبت خلية من جسمك الغض.

إني يا هوبول رأيت الملائكة تخاطبني غضبى: (سنترك المدينة طمعاً للشياطين،

ص: 40

وسنحرسك فقط بعنايتنا)

(وكان هوبول جاثياً على ركبتيه بجانب الشاعر هايكلوس مصغياً لما يفسر له من أقوال الملائكة) فوخزه هايكلوس وأشار إليهليرى المدينة، فأبصر الشياطين تمرح في أسواقها وقد خيمت عليها السحب الربداء، وأعقبها قصف الرعود الصاخبة، فصرخ الأهلون. . . وجزعوا، وهرعوا إلى الجبال والآكام ومنهم من فر واختفى في الغابات. . . ومنهم من رضى بالاستسلام للشياطين، فلم يستطع هوبول أن يبقى صامتاً ساكتاً، فألقى نفسه من النافذة، وركض نحو القوم صائحاً:

ألم أذكركم بصوم هايكلوس، ألم أبين لكم غضب الآلهة لعدم انقيادكم لصوت الحق.

إنكم لم تعوا الحكم المرسلة على ألسنة شعرائكم، ولم تعبئوا بما صاغ لكم خطباؤكم من الأقوال المأثورة.

إن هايكلوس قد بلغ به الإعياء حد النزع، وأضحى لا يستطيع مقاومة مرضه الممض، وإن جوبيتر يرثي لحالكم الأسيفة بعد أن فقدتم كل ما في الحياة من معنى، وأصبحتم في حياة لا روح فيها، فإن أثينا بعد اليوم ستقفر من الفن، ستقفر من مواهبها السماوية، ستقفر من بلابلها الغريدة. لم يعد يخرج بين ظهرانيكم شعراء وحكماء يفنون أجسامكم لتغذيتكم، وينشرون الرائحة لتعطيركم، ويصوغون الحكمة لإرشادكم.

وما زال هوبول يجول في أحياء المدينة ويقص ما سمع من هايكلوس عن جوبيتر وأبولو والملائكة، حتى فزع القوم، فانتدبوا من يذهب إلى هايكلوس ويرجو وساطته بينهم وبين الآلهة، لئلا تستمر الشياطين في تمردها، فانتدبوا أشخاصاً من كل طبقة وتوافدوا مستجدين أشعاره صائحين: لقد أيقنا بحكمة الحكماء، وآمنا بحاجاتنا لأمثالكم الرفقاء. . . .

فخرج هايكلوس من داره وأخذ ينشد دعاءً يعيد لأثينا حياتها الأولى. . . . .

بسام كرد علي

ص: 41

‌رد على نقد

مكة ومشهد

للدكتور عبد الوهاب عزام

قرأت وأنا على أهبة السفر كلمة في الرسالة لأخي الأستاذ أمين الخولي عنوانها (مشهد ومكة) فلم أجد بين مشاغل السفر فراغاً لإجابته ومناقشته، وعزمت أول الأمر أن أترك كلمته حتى تتهيأ لي المناقشة فيها، ثم بدا لي أن أكتب كلمة كعجالة الراكب، أو لهنة الضيف، يروي بها الأستاذ بعض ظمئه للحقيقة (وإنها لحقيقة أن تبتغي لذاتها).

أترك كلام الأستاذ عن (فرق ما بين العقيدة والفكرة وصلة العقل بمنطقه، والاعتقاد بسلطانه) فهذه فلسفة لم أتهيأ لفهمها، وأعمد إلى الموضوع:

أخذت على الرحالة محمد ثابت في مآخذ أخرى تاريخية ولغوية قوله إن الشيعة يفضلون مشهد على مكة، فقلت:(وأفظع من هذا كله قوله عن إخواننا شيعة إيران أنهم يفضلون مشهداً على مكة، وكيف يعقل أن أمة مسلمة شديدة الغيرة على دينها تعتقد أن الحج إلى مكة فرض، وقاعدة من قواعد الإسلام كيف يعقل أن هذه الأمة ترى زيارة مشهد أفضل من الحج إلى مكة الخ)، ففقه المسألة أن الشيعة يعتقدون أن الحج قاعدة من قواعد الإسلام، ولا يرون زيارة مشهد كذلك، خلافاً لما رواه محمد ثابت.

فهل استطاع الأستاذ أن ينقض هذه الدعوى بما روى من حديث هذا (الكوزة كناني) الذي تسلح به للجدال ولم يستطع إخفاء فرحه به؟

قلت: (ربما بالغ عامة الإيرانيين في تعظيم مشهد وغيرها من المزارات الشريفة كما يبالغ عامة المصريين في تعظيم مسجد سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي، ولكن عمل العامة لا تقاس به عقائد الأمة. وهذه كتب الشيعة بين أيدينا تنطق بخلاف ما زعم الكاتب) فطالبني الأستاذ متحدياً بأن أذكر له من كتب الشيعة التي بين أيدينا شيئاً بعينه ليرتاح القارئ.

ثم قال: (وكيف يكون الأمر إذا كانت كتب الشيعة تقرر هذا التفصيل المكاني بقسوة وعنف إلخ) وساق ما نقله من كتاب الكوزة كناني. وظاهر أن دليل الأستاذ الخولي لا يفي بدعواه، فقد ادعى أن كتب الشيعة تقرر هذا التفضيل ثم لم يرجع إلى كتب الشيعة ولم يتحر أقوال

ص: 42

أئمتهم، ولكنه اكتفى برواية في كتاب فرد لمؤلف لا يعرف عنه الأستاذ إلا أن له كتاباً مطبوعاً منه نسخة في دار الكتب. فلو فرضنا أن كتب الشيعة الأخرى تؤيد رواية الكوزة كناني لكان الأستاذ مجازفاً في الاستشهاد بكتب الشيعة قبل الإطلاع عليها

أنا لا أطيل على القارئ بنقل نصوص من كتب أئمة الشيعة، ولكن أعرض عليه خلاصة قراءتي:

في كتب الشيعة روايات في تفضيل كربلاء على مكة، وفيها روايات يؤخذ منها تفضيل مكة على غيرها مثل هذا الحديث المروي عن جعفر الصادق في كتاب (وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة)(ما خلق الله خلقاً أكثر من الملائكة، وأنه لينزل كل يوم سبعون ألف ملك، فيأتون البيت المعمور فيطوفون به، فإذا هم طافوا به نزلوا فطافوا بالكعبة، فإذا طافوا بها أتوا قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فسلموا عليه، ثم أتوا قبر أمير المؤمنين فسلموا عليه، ثم أتوا قبر الحسين فسلموا عليه، ثم عرجوا، فينزل مثلهم أبداً إلى يوم القيامة.)

وفي كتب الشيعة أيضاً روايات عن فضل زيارة الحسين والرضا، ولكن خلاصة الروايات كلها، وفقه النصوص الكثيرة أن الحج والعمرة الواجبين لا تعدلها زيارة أحد، وأن زيارة الحسين قد تعدل عمرة أو حجة أو أكثر من ذلك من الحج والعمرة المندوبين بعد أداء حجة الإسلام المفروضة. وفي (وسائل الشيعة): قلت لأبي عبد الله (جعفر الصادق): ما تقول في زيارة قبر الحسين، فإنه بلغنا عن بعضكم أنه قال: تعدل حجة وعمرة، فقال: ما أصعب هذا الحديث. ما تعدل هذا كله، ولكن زوروه ولا تجفوه، فإنه سيد شباب أهل الجنة. . الخ.

فهذه خلاصة قراءتي في كتب الثقات، وذلك تصديق ما قلته في مقالي السابق، وفي صدر هذا المقال.

وقد ختم الأستاذ الخولي مقاله بعد أن أثبت عليّ الخطأ بقوله: (واكتفى بهذه الكلمة، قائلاً مع الأستاذ عزام في ختام كلمتي: وإنني لراج أن يتم التعارف بين الأمم الإسلامية، حتى لا يكتب بعضها عن بعض إلا عن علم وروية، وتثبت وإنصاف، والله ولي التوفيق.)

وإعادة كلمتي هنا تعريض معناه أن محمد ثابت كان ثبتاً فيما كتب، وأنني أنا غير المتثبت. ولعل الأستاذ قد عرف الآن أينا ينقصه التثبت، على أن من فاته التثبت وهو يصف أمة مسلمة بما هو حري بها وبدينها خير ممن فاته التثبت في الإدعاء على بعض المسلمين أنهم

ص: 43

يفضلون زيارة كربلاء على الحج، وهو قاعدة من قواعد الإسلام عند المسلمين كافة.

عبد الوهاب عزام

ص: 44

‌فجيعة الحياة

(أبي)

للأستاذ محمد محمود جلال

يا أبعد الناس عن لغو وإيذاء

جوزيت بالخلد عن هَمٍّ وعن داء

مضت حياتك ركناً يستظل به

سُغْب العُفاة ويؤوى البائس النائي

فكنت آية خير، في حمايتها

دفع الخطوب بحزم دون ضوضاء

وإذ يمينك بالإحسان في شُغُل

تمد يسراك ستراً عيب أَعداء

عف اللسان كثير العفو في أدب

كم طوح الخصم في وعظ وإطراء

تغار للحق والدنيا على ملق

وتصرع الظلم والدنيا بإملاء

حتى أتى القدر الغلاب عن أجل

على الصبابة بين السين والراء

فهز نعيك في الدنيا مكارمها

وقوِّضت من حياتي كل سراء

في غربة فجعتني قبل موعدة

وهونت بعد رزئي فيك أرزائي

التوبة

يا حبيبتي هَدَأ الحب

فَما يُجْدِي التَّمنِّي

واستَرَحْنَا من غرامٍ

وعذابٍ وتجنِّي

واْنَتَهَيْنَا لِسُكُونٍ

هاتِفِ الصَّمْتِ يُغَنَّي

وفَرَغْنَاَ من أمانٍ

قَرَّبَتْ بالأمْسِ حَيْنيِ

يا حَبيبي هَدَأ الحبُّ

بقَلْبي وَضُلوعِي

وتراءى الكَوْن ليْلاً=في سُكونٍ وخشوع

وَطُيُوُر الرَّوْض غَنَّتْ

في الضُّحَى لحنَ الربيعِ

أقْفَر القَلْبُ مِنَ الحبَّ

فَما جَدْوَى دُمُوعِي؟

كان هَذا اُلحبُّ لحناً

مِنْ لُحُونِ الأبَدِيَّهْ

كان هَذَا الحبُّ إشعا

ع الأماني القدُسيَّه

كان رَوْضاً من جمالٍ

وزهورٍ ذهَبِيهْ

ص: 45

وَهْوَ طيْفُ الله في الأرْ

ضِ وَلِي أسْنَى عطيَّهْ

يا حَبِيبي كمْ تغنَّيْ

ناَ بألحان الإلهْ

وَشَدَوْنَا فَوْقَ ناي ال

حبِّ أصْدَاَء نداهْ

وَتَذوَّقْنَا مداماً

من سُلافَاتِ الشَّفاه

وَهتفْنا في حَنِينٍ:

إنَّماَ اُلحبّ الحياه!

حسن محمد محمود

ص: 46

‌على هامش اللزوميات

إلى المعري

// لعل موتاً يريح الجسم من نصب

إن العناء بهذا العيش مقترنُ

(المعري)

للشاعر التونسي محمد الحليوي

أبا العلاء، أحقّاً أنتَ في دَعةٍ

من الُخطوب، وفي سِلمْ منَ الكُرب

هل في رُقاَدِك في بيتٍ تُقيم به

على الغضاضة، ما أغْنَى عن النَّصب

وهل طريق الرّدى زهراءُ مونقَةٌ

أم حفَّها الله بالوْيلات والحَرَب

وكيف كأسُ الرَّدى هل في ثمالتها

خَمْرٌ، وهل شربها أشهى منَ الضَّرَب

وما رأيتَ وراء القَبْر من عمهٍ

حارت عقُول الورى في سِره العَجَبِ

أبا العلاءِ، لقد حاولتَ مُجْتهداً

فكَّ الرُّموز، وكشفَ السرَّ عن كَثَبِ

فما رأيتَ سوى طخياَء حالكةٍ

وكنتَ تنظر خلف الباب من ثقب

واليومَ ها أنتَ لا بابٌ ولا حجبٌ

فقل لنا مَا وراَء الباب والُحُجبِ

ما علة الكون. . . ما سرُّ الوجود، وما

في هذه الأرض من صدقٍ ومن كذب

ما غايةُ الحيّ من دنيا يُقيم بها

وما يُراد بها من عَيْشه اللَّجب

والموتُ ما هو. . . هل جسر نمرُّ به

أم هُوَّ غايتنا من كلَّ ذا التَّعب!

هيَ الحقيقة تحكي ربةً ملكتْ

عرش الأُلْمبِ على الأرْباَبِ والرسُلِ

وجرّبتْ سحرَهاَ في الأرْض فافتَتَنَتْ

به الخليقةُ من فَسْلٍ ومن بَطل

خلفَ النّقاب بَدَتْ هَيْفَاَء ساحرةً

تبادل الصبَّ أفناناً من الغزل

أهلُ الصَّبابة في الأشواقِ ما برحوا

يَسْتَشْهدون ولا يحظَوْنَ بالقبَل

كم من قتيلٍ قَضى في حُبَّ ربّته

وكم رماه الهوى بالحادث الَجلَلِ

لكنَّ رَّبتَهُ ظْمأى إلى دمه

لا ترْتَوي الدهرَ من علٍ ومن نَهل

أبا العلاءِ، لقد راعتك نَضْرَتها

فهمتَ مفتتناً في حبّها الأزلي

وعشتَ رهنَ العمى والحبس في شظفٍ

تنهى لها كلَّ ما تأتيه من عمل

ص: 47

وقد مضيتَ وما أدْخلتَ هيكلَها

ولا أحَلَّتْكَ يوماً قنةَ الجبل

وكَيْفَ! وهي التي في الدهر ما رفعتْ

عنها النّقاب، ولم تُسْفرْ إلى رجل

كلٌّ مشوقٌ وكلٌ آملٌ ظفراً

بوصل لَيْلَى، وكلٌّ خائبُ الأمل

يا ليتَ شِعْرِيَ هل تُخفي غلالتُها

ملاحةً، أم حِمَى ليلى على دَخَل

أبا العلاء، وهل أجدَتْك موجدةٌ

على الحياةِ وتجديفٌ على القدر

الكونُ ما زال مثل العَهْدِ مشكلةً

وسرهُُ مُضمَرٌ في مُغْمَرِ العُصُر

والدهر يمشي. . فلا شكْواك تُوقفه

ولا سبابك يثنيه عن الوطن

يمشي لِطِيِته والحيّ يتبعه

يأتي على الكُرْه أو يأتي على قدَر

رحاهُ لا تنتهي في الدّهر ضجّتْها

ولا تدورُ الرَّحى إلاّ على البشر

وما عَلِمْنا على التحقيق من خَبرٍ

سوى القُصور على الإتيان بالخبَر

نمشي على الدَّرب في جَهْلٍ وفي عمةٍ

والليل في حلك والدَّربُ في خطر

ما تطلعُ الشمس مصباحاً لترشدَنا

كلا، ولكنّها رمْز على الَحَقر

والبدرُ يضحك في عليائه أبداً

وكيف لا. . وهو يَلْقانا على سَخَر

وذا الفضاءُ كتابٌ نُصْبَ أعيُننا

يُتْلَى فيلْقي علينا خالد العِبَر

يقول في كلِّ سطر من صحائفه:

(أفٍ لكم ما لكم في الكَوْن من خطر)

ما أنتمُ في قضاء الله من أحدٍ

سوى هباء على الأكَوْان منتَثَر

سَوْأي لكم يا هباءٌ هل ضجيجكُمُ

ولعنةُ الأرض تثني الدَّهر عنْ سفر!

(تونس)

محمد الحليوي

ص: 48

‌في تاريخ الأدب المصري

أيدمر المحيوي

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

1

في عصر الدولة الأيوبية، حينما كانت مصر زعيمة العالم الإسلامي ترفرف رايتها عليه، وتقف في وجه المغيرين من الصليبين وتصد هجماتهم، وتدفع عن بيت المقدس وتذود عن حياضه، وتحمي مدينة الشرق وتحوطها بسياج من المناعة والقوة، وحينما كانت مصر تقف أمام أوربا مجتمعة، يريد الأوربيون أن ينالوا منها منالاً، فتأبى مصر أن ينكسر عودها أو تلين قناتها، في ذلك العصر المليء بأسباب القوة، المفعم بالعظمة المصرية والمجد المصري، عاش الشاعر أيدمر المحيوي، وربى في أرض مصر، وفوق ثراها المخصب الندي، وهو في أصله ينتسب إلى الترك، وإن كنا نجهل ما يتعلق بأسرته وآله، ويظهر أن التاريخ يجهل كذلك أسرته، ولا يذكر إلا أنه كان مملوكاً للأمير محي الدين محمد بن محمد بن سعيد، ثم أعتقه وأصبح حراً، غير أنك إذا ذهبت تبحث عن السنة التي ولد فيها شاعرنا بله الشهر واليوم، فإنك غير مهتد إلى شيء، اللهم إلا أنه نشأ في عصر الدولة الأيوبية في منتصف القرن السابع الهجري، نستنبط ذلك استنباطاً من قصائده التي مدح بها بعض سلاطين تلك الدولة، وإذا أنت سألت التاريخ عن تربيته وتعليمه فإنك سوف تجد غموضاً وإبهاماً لا تستبين خلالهما إلا ما قد ينم عنه شعره من أنه درس اللغة، واطلع على كثير من شعر الشعراء السابقين والمعاصرين، فتثقف به وتأثره، وعارضه أحياناً كما فعل ذلك مع ابن المعتز وابن النبيه ومسلم بن الوليد والمتنبي - وإلا ما قد يكون قد تثقف به من علوم اللغة العربية على يد ولي نعمته محي الدين الذي نسب إليه والذي ظل أيدمر حافظاً لنعمته عليه يذكرها، ويمدح سيده بغرر القصائد والموشحات.

2

ليس لنا اليوم إلا أن نحدثك عن شعره الذي بين أيدينا، وقبل أن نصفه لك أو نحدثك عنه حديثاً مسهباً، يحسن بنا أن نخبرك أن ما سوف نتحدث عنه ليس بكل شعره، بل هو مختار

ص: 49

منه أبقته لنا الأيام، ولسنا ندري إن كنا سنعثر على كل شعره أو أن الزمن بذلك ضنين؟

أول مميزات شعر شاعرنا طول نفسه، فقصائده أغلبها طويلة، وقد يبلغ بها الطول إلى أن تقارب المائتين، وذلك إن دل فإنما يدل على تمكن في اللغة، واطلاع واسع يهيئه لأن يطيل كما يشاء حق يوفي ما بنفسه ويستوفيه. ثانيها الرقة وجمال الأسلوب مع متانته، فلست تحس بالتنافر أو نبو الألفاظ أو أن تركيباً قلق في موضعه غير مستقر، أو إنك تجد عسراً في فهمه، أو تحتاج إلى وقوف طويل حتى تستبين معناه، فهو سلس سهل، يسبق معناه إلى قلبك قبل أن يسبق لفظه إلى سمعك، وإنك لتجد نفسك مسوقاً إلى قراءته متى بدأت أول القصيدة لطلاوته وعذوبته، وهو يذكرنا بالبحتري حينما نجذ الألفاظ منقادة متخيرة، مع السهولة والعذوبة. ولا يذهبن بك الوهم إلى أنه لم يستعمل ألفاظاً غريبة في شعره، فإنه قد استعمل منها طائفة صالحة، غير أنه كان حكيماً في استخدامها، حصيفاً في استعمالها، لا يكثر منها ولا يضعها في غير موضعها. ثالثها استعمال بعض المحسنات البديعية من غير إكثار منها ولا تكلف، بل إنها تجيء سلسة سهلة، لا تذهب برواء القصيدة، ولا تضيع من بهجتها، ولقد استخدم في شعره التورية والجمع والجناس، وحسن التعليل، والطباق، والاقتباس، فهو يقول:

في جوده السفاح أم في عزمه المنصور، أم في غيبه المأمون

ويقول:

قضت لك الشيمتان: العدل والكرم

أن تخضع الأمتان العرب والعجم

وشرف الدين والدنيا بدولتك ال

غراء، والأشرفان العلم والعلم

ويقول:

ملك إذا امتدت يداه إلى العدا

يوم الوغى تتقاصر الأعمار

ويقول:

هو الناهب الأرواح والواهب اللهى

وباني العلا والناسك المتورع

ويقول واصفاً حماماً أحمر العين والرجل:

وأليف غصن لا يفارقه

صب الفؤاد به متيمه

يدعو بصوت أستبين به

معنى الحنين، ولست أفهمه

ص: 50

فيميل بي طرباً تمايله

ويهزني شوقاً ترنمه

يبدي أسى الباكي ورقته

في نوحه، والدمع يكتمه

نحر الأسى إنسان مقلته

فجرى فخضب رجله دمه

ويقول من موشح:

أنت يا موسى رجائي آنساً

نار جدواه فوافي قابساً

رحت في حضرة قداس دائساً

في طوى السؤدد، فأخلع نعلكا

وادعه يأت بكبرى يوشع

وكان أكثر ما أتى به من شعره حسن التعليل، على أن كل المحسنات التي أتى بها قليلة، فهو غير مغرم بها، ولا ملزم نفسه كغيره السير على منهاجها.

3

شعر المحيوي ينضوي تحت لواء واحد وفن واحد من فنون الشعر الغنائي، هو المدح، فهو الغرض الأول في شعره، يقصد إليهقصداً ويلم بغيره عرضاً من غير قصد، يبدأ به قصيدة المدح أو يختم به الموشح، وكان ما أتى به عرضاً يدخل في الوصف أو في الغزل، ولنقف وقفات قصيرة لدى كل غرض من هذه الأغراض التي طرقها واصفين ودارسين.

أول ما نلمسه في شعره المدحي أنه قد خلا من الغزل في أوله حينما يمدح سلطاناً من سلاطين الدولة الأيوبية، بينما هو يبدؤه بالغزل عندما يمدح ولي نعمته محي الدين بن سعيد أو غيره من الوزراء، فأي شيء تستطيع استنباطه من تلك الملاحظة؟ وعلى أي شيء تدل؟ لقد قلبنا الأمر على وجوهه، ثم خرجنا بنتيجة قد تكون قريبة من الصواب: تلك هي أن هؤلاء السلاطين لم تكن عنايتهم موجهة للغواني والحب والغرام حتى يأسرهم الحديث عن الحب ويسترعي انتباههم، وإنما كان كل همهم موجهاً إلى الحرب والقتال، وقهر الأعداء، ورد العادين من المغيرين على دولتهم، فقد كانوا كما قال أيدمر في أحدهم:

متفرغ للمجد، لا هو من دد

يلهيه عن كرم ولا منه دد

البيض من صنع القيون لدى الوغى

يطربنه، لا البيض مما يولد

والأسمر الخطار يبهج نفسه

ويسرها لا الأسمر المتأود

ص: 51

وإذا كانت عنايتهم متجهة نحو ميادين الحروب فماله يشغل نفسه بشيء لا يملك عليهم نفوسهم، ولا يأسرها؛ حقاً لقد كانت لهم مواطن لهو ولذة، ولكنها لذة العظمة وأبهة الملك

كذلك يسترعي نظرك في شعره كثرة مدحه لسلاطين هذا العصر بذبهم عن حياض الدين وحياطته بسياج من العزة والمهابة فهو يقول للملك الصالح:

ملك يلوذ الدين منه بمعقل

أشب، سطاه سوره والخندق

فالدين بعد تفرق متجمع

والكفر بعد تجمع متفرق

ويقول له:

فأسلم لدين قد هديت إليه من

لا يهتدي، وجمعت ما لا يجمع

وحميت حوذته، فأصبح وهو في

أيام دولتك الأعز الأمنع

ويقول للملك الكامل:

فالله يشهد أن دين محمد

بمحمد، وله الخليفة تشهد

ويقول له:

لولاه كان الدين سرحاً ما له

راع، وزنداً ما عليه سوار

وذلك نتيجة طبيعية لهذا العصر الذي صبغ بالصبغة الدينية وكان القتال يدور فبه باسم الدين، فليكن الشعر كذلك مصبوغاً بهذه الصبغة، مثنياً على السلاطين لأنهم خدموا الدين وقاموا على صيانته.

تلمس في شعره المدحي كذلك قوة ملوك مصر في هذا العصر حتى لكثيراً ما يسميهم ملوك الملوك وكثيراً ما تسمعه يقول لهم:

من ألقت الدنيا مقالد أمرها

بيديه وهو بها أحق وأليق

ذو صورة تنبيك عنه أنه

ملك الملوك الحق حين يحقق

إلى أن قال:

فجلست حيث جلست منه تزينه

شرفاً فطاف بك الملوك وأحدقوا

كل يغض من المهابة طرفه

فتراه، وهو لغير فكر يطرق

هيهات جزت مدى الملوك إلى مدى

رجم الظنون إليهلا يتطرق

ويقول:

ص: 52

منح رآك الله أهلاً أن تقل

دها فقلدك الذي تتقلد

ذكرت مفاخرها الملوك وخير ما

ذكرته منها أنها لك أعبد

ذكراك فيهم سجدة مسنونة

فلذا متى تذكر لديهم يسجدوا

فإذا هم نظروا إليك فأعين

حسرى، وأفئدة تقوم وتقعد

ملك الملوك وخير من عقدت له الت

يجان في قدم الزمان وتعقد

وإذا علمت أن ملوك مصر في ذلك الحين كانوا حقاً زعماء الملوك في العالم، وكانوا أكبر رؤوس تطأطأ لها هام الملوك، وتنخلع من هولها قلوب الأعداء؛ وإذا أنت علمت أن مصر في تلك الأزمان كانت أكبر مملكة في الشرق والغرب، وأقوى دولة يقصدها الأوربيون بجموعهم، فلا ينالون منها إلا ما ناله الوعل من الصخرة، وإذا أنت علمت أن الجيش المصري هو الذي حمى الشرق وحفظه من الأجنبي الذي يريد أن يتحكم فيه وإذا أنت علمت أن الإسلام وحرية الأديان كانت تسهر عليهما مصر وملوك مصر، ويحيطونهما بسياج الحفظ والمناعة، إذا أنت علمت كل ذلك أيقنت أن هذا الذي مدح به هؤلاء الملوك لم يكن بالكذب ولا المغالي فيه، وأمامك كتب التاريخ فاقرأها تعد مؤمناً بصدق ما قاله في قوة مصر وملوك مصر.

شعر شاعرنا المدحي يعطيك صورة عن بعض نواحي الحياة المصرية في ذلك الحين، فهو يحدثك عن النزاع الذي كان قائماً بين المصريين والصليبين حينما وجه هؤلاء تيار حروبهم إلى مصر نفسها قلب العالم الإسلامي؛ فأغاروا على دمياط، ولكنهم فشلوا أيما فشل، واستطاع المصريون أن يخلصوا دمياط من حوزتهم ويرجعوهم بخفي حنين، وهو يحدثك عن هذه الجموع الكثيرة التي كانت أوربا تمد بها الجيش المحارب لدمياط، والذي يريد الغلبة عليها، قال أيدمر:

أيام قال الشرك بغياً للهدى

دمياط لي، ولك الغداة الموعد

وأتى بما ملأ البسيطة كثرة

والله ربك هادم ما شيدوا

جيش إذا مسحت يداه بقعة

جف المياه بها، وذاب الجامد

كالسيل إلا أنه لا ينقضي

والليل إلا أنه يتوقد

وأتى بك الإسلام وحدك موقناً

أن سوف تهزم جمعهم وتبدد

ص: 53

حتى إذا التقيا طلعت عليهما

بالنصر تشقى من تشاء وتسعد

فرددت شخص الشرك، وهو مسربل

خزياً، ودين الله وهو مؤيد

حكمت بأسك فيهم: فمكلم

ومجدل، ومشرد، ومصفد

كما يحدثك عن هذا النزاع الذي كان قائماً حول جلق (دمشق) أتبقى في حوزة المصريين، أم يحكمها غير المصريين، وكانت الغلبة غالباً في جانب المصريين، وهو حين يحدثك عن هذا الفتح يشعرك بما في نفوس المصريين من حب لأن تبقى دمشق ضمن حدود مملكتهم، وأن يخفق عليها علم الإمبراطورية المصرية. حتى إنه حينما كان يأتي البشير بفتح دمشق يزين المصريون دورهم، ويرفعون الأعلام على شرف الجدران تخفق كما تخفق قلوبهم بالفرح والسرور، واستمع إليهيقول:

قد قلت إذ جاء بالفتح البشير به

الله أكبر هذا غاية الأمل

ترنح الدهر، واهتزت معاطفه

وراح يسحب ذيل التيه والجذل

والأرض قد أخذت للناس زخرفها

وازينت، فهي في حلي وفي حلل

مسرة في قلوب الناس قد ظهرت

حتى على شرف الجدران والقلل. إلخ

وهو يؤمن بأن دمشق سوف تنال الخير والسعادة، وسوف تصبح في دعة وأمن ما دامت ضمن المملكة المصرية:

فليهن جلق أنها قد أصبحت

في مستقر الملك، لا تتحول

وأنا الضمين بأن سيسلي جلقاً

عما مضى من غمرها ما يقبل

ونختم حديثنا عن مدحه بتلك القطعة الصغيرة لتكون نموذجاً لبقية مدحه، قال يمدح الملك الكامل:

الله جارك، والورى أنصار

فانهض، ونل بهما الذي تختار

خضعت لهيبتك الأقارب والعدا

وجرت بوفق مرادك الأقدار

ملك إذا امتدت يداه إلى الظبا

يوم الوغى تتقاصر الأعمار

من وجهة قمر ينير، وسخطه

قدر يبير، وحدسه إبصار

وإذا القلوب تطايرت في موطن

نزلت عليه سكينة ووقار

ملك له من باسه وغنائه

حصن أشم، وجحفل جرار

ص: 54

ملك يميل إلى المكارم لا الدمى

وتهزه العلياء لا الأوتار

ملك تهيم به بنات قلوبنا

حباً وتعشق مجده الأشعار

لولاه كان الدين سرحاً ما له

راع، وزنداً ما عليه سوار

فأنت تحس حقاً بأنك تقرا أسلوب البحتري وتحس جماله وعذوبته، مدحه لغير الملوك يبدأ بالغزل، وهو وإن لم يكن مقصوداً لذاته لا بأس بجماله وعذوبته، حتى لتتمنى حين تقرأ غزله أن لو كانت القصيدة كلها غزلية، وإن كنا نؤكد أنه في غزله مقلد آخذ معاني من سبقه من الشعراء، واستمع إليهيقول من موشح:

قال لي العاذل لما نظرا

من غدا قلبي به مشتهرا:

أكذا تعشق؟ ماذا بشراً؟

حاش لله؟ أراه ملكاً

مثل ذا فاعشق، وإلا فدع

هز عطف الغصن من قامته

مطلعاً للشمس من طلعته

ثم نادى البدر في ليلته:

أيها البدر تغيب ويحكا

ما احتياج الناس للبدر معي؟!

فأنت لا شك تحس بالعذوبة في ألفاظه وإن كان الكثير من معانيه مقتبساً، وكم كان بودنا لو أطال الحديث في الغزل أو لو قصد إليهقصداً وظل يروي لنا عاطفتنا الظامئة إلى غزله.

البقية في العدد القدم

أحمد أحمد بدوي

ص: 55

‌بمناسبة الذكرى الأولى للملك فيصل

فقيد الأمة العربية

للشاعر القروي

لَحيُّ برغم القبر فليخسإِ الردى

وقد سلم الغازي فلا يهنأ العدا

ولو كل موتٍ يضمنُ الخلدَ سارعت

إليه ملوك الأرض مثنىً وموَحْدا

ولو كل حظٍ حظُ غازي من العلى

تفاءلَ بالدنيا مُهِلُّ فأنشدا

بنيتَ له الُملكَ الذي هو أهله

وأَطرفتَ ما هارون بالأمس أتلدا

فمكَّنت أساساً وزخرفت قبةً

وذهَّبت آفاقاً وأطلعت فرقدا

ورمَّمت في بغداد عرشاً مهدماً

وخلَّفت في الأكباد عرشاً مؤبدا

وما أنت إلا السيف أعقَبَ خنجراً

بلوناهُ في الجُلَّى فكانَ المهندا

لدن أدَّب الجبَّار بالصفعةِ التي=تداول أسماعَ النجوم لها صدى

وصبَّ على رأس السفير صواعقاً

نزلن على أكبادنا البرد والندى

رآه وقد ظلَّ الهدى فانتضى له

يداً قدحت من عينيه النور فاهتدى

يمينَ شريفٍ تقِعد الطود قائماً

ولو شاءت اليسرى أقامته مُقعدا

أذابت قلوبَ الخائنين وفوَّرت

دما في عروق الإنجليز تجمدا

لَيِرْض عليك الله يا سبط أحمد

فإنك قد أرضيت جدك أحمدا

شفيت بهذا الموقف الحر نفسه

وزحزحت عن صدر العروبة جلمدا

وكم غضبٍ أدنى من الحلم للتقى

وأهدى إلى المجد الرفيع من الهدى

وما شأن ملكٍ سامه العبد ذلة

وأبرق صعلوك عليه وأرعدا.!

وكم تاج ملك صار نِيراً لربه!

وكم صولجان عاد في العنق مِقْوَدا.!

أيزعم ذو القرنين أنك عبده=ومثلك من يلقى السلاطين أعبدا

تعَّودِ منا أن نغضَّ على القذا

فعَّودته نسيانَ ما قد تعودا

ليعلمْ عبيد التاج أنك سيد

تزيد به التيجان مجداً وسُؤددا

وأن قريشاً أعظم الخلق هيبة

وأكرم أخلاقاً وأشرف محتدا

تخرّ منيعات الجبال مهابة

لبيت على رَمل الحجاز تشيدا

ص: 56

زكى أصله قبل النبي محمد

فكيف وقد أزكى النبيَّ محمدا

بتمكينه عهد من الله خالد

على الدهر ما كرّ الجديدان جُددا

تشيب الثريا قبل إنذار شيبه

ويوشك خدُّ الشمس أن يتجعدا

أفيصل أني مرسل فيك شُرَّداً

يثبن إليك اللانهاية غُرَّدا

أكلِّفها نَوْحا فتمضي شواديا

أوَابِيَ أن ترثيك حياً مخلدا

كأن حروف الخط أعواد جنة

على كل فرع بلبلٌ للعلى شدا

وقلَّدتُ منها كلَّ شطرٍ مهندا

يظل على هام العدا مجردا

إذا قرَع الراوي به سمعَ خائنٍ

تذوَّقَ طعمَ الموت شعراً مُردَّدا

وحسب القوافي أنها فيك ألهِمت

لأغدو بها رب البيان المسوَّدا

فقد يهب الحق الغرابَ فصاحة

وقد يُخرِسُ البُطلُ الهزارَ المغردا

سبيلُكَ لم تسلكه إلا منورا

وسهمكَ لم ترسله إلا مسدَّدا

وكنت لأشتات البلاد موحدا

كما كنت في الدين الحنيف موحدا

وكنت لأجل المجد بالمال زاهداً

وكنت لأجل العرب بالمجد أزهدا

وكم خضت لاستقلال شعبك لجة

وكم جبت آفاقاً وكم جزت فدفدا

بعيد المنى لم تُلقِ مِرساةَ مطمحٍ

إلى المجد إلا سامك المجد أبعدا

مشيت له تستبطئ البرق مركباً

وأدركته تستوطئ النجم مقعدا

أرِحْ كبِداً حَمَّلتها كلَّ فادح

من الهم يعي الشُّم لو كنَّ أكبدا

طَعامٌ على مضٍ وشربٌ على قذى

ومشيٌ على جمرٍ ونومٌ على مُدى

تصبرَّتَ حتى الصبرُ كاليأسِ قاتل

وحتى ذممنا في الخطوب التجلدا

صعدت جبال الألب تنشُد راحة

وعدت كأن الألب في القلب صعَّدا

كلاكِل هّمٍ لو أنيخت (بيذبلٍ)

لعاد (يزوفاً) يقذف الجمر والردى

خيانةُ أحلافٍ وإخلافُ ساسةٍ

وغدر الذي أكرمَته فتمردا

مشَوا بك بين الجيش والتاجِ موكباً

أعدَّت له نَظَّارةُ الخلد مِرصدا

فلم يرَ أهلُ الأرضِ أروعَ مشهدا

ولم تَرعينُ الغيبِ أفظعَ مشهدا

يمدون للتسليم في لندنٍ يدا

ويخفون للتسليح في نينوى يدا

ص: 57

وقالوا مليك العرب في الغرب مكرَمٌ

فقلت إذن باتَ المليكُ مهددا

نصحتك لا تمدد إلى أبرص يدا

ولو مطرت كفاه درا وعسجدا

لأمرٍ يلقيك الفرنجيُّ باسماً

فزد حذراً ما زاد ذئب تودُّدا

تراه صحيح الود وهو سقيمه

كما تُكْسِبُ الحمَّى الخدود تورُّدا

حفيدَ رسول الله يا غوث أمة

إذا استنجدت لم تلق غيرك منجدا

بكل لسان رتلت لك آية

وكل جنان شيدت لك معبدا

أذبت عليها حبة القلب ساهراً=فسافر بحبات القلوب مزودا

الشاعر القروي

من العصبة الأندلسية

ص: 58

‌رسول الوحدة العربية!

للشاعر الحضرمي علي أحمد با كثير

يا أبا غازي! وما فينا سوى

مُستطار يمزج الدمع بْدم

يا أبا غاري وما فينا فتِيً

(عربيٌّ دمعُه) إلا انسجم

يا أبا غازي وما فينا فتِيً

ما براه - يوم ودّعتَ - الألم

ليت شعري، سامعٌ أسئلتي

أنت؟ أم في مسمع الموت صمم؟

فيم ودّعَت علي أجراحها

أمة العرب ولَّما تلتئم؟

فيم غادرت بني قحطان في

مِرْجل يغلي. ونار تحتدم؟

أولم تشرع لها وحدتها؟

لو تلبث بها حتى تتم!

لم تجب قولي. . بلى! هذا صدى

رنَّ في أعماق قلبي كالنَغَم:

مُكرهٌ. . لو كان أمري بيدي

لم أمت إلاّ وقد فقنا الأمم

ورأيتُ العرب في وحدتها

كشعاع النور يجري في الظُّلم!

همُّها أن تُصلح العالَم، في

يدها السيف، وفي الأخرى القلم!

هذه (الخُلد)! وما أبغي بها

وبنو الضاد ببؤس وضَرَم؟

وأرى (الحوض) فأوّاه متى

ترد العرب ينابيع الحِكَم؟!

وأرى (الحُور) فلا يُنسِيْنَ ما

لفتاة العُرب عندي من ذِمم

ربّ لا نقض لما أبرمته

فارزق العُرب هُمَاماً ذَا شَممْ

بدوي الطبع والخلقِ معاً

حَضَريّ العِلم، غربيّ الهِمم

طابُع (الوحدة) في تاموره

بعد توحيدك مرقوم بدم!!

يخرج البدو فيبْني منهمُ

ثكنَ الجيش كأمثال الهَرَم

يجعل (العرفان) كبرى آيهِ

ويرى (القوة) في الدنيا الحكم

ذلكم (فيصلٌ) فابكوه وقد

غاب عنكم شخصه، والرُّوحِ لم

من إذا ما عزَمَ الأمرَ مضى

وإذا ما أبصر الرأي عزَم

وإذا ما قدمٌ زلّت به

قام يمشي - غيرَ وانٍ - بقدم!

وإذا ما وقف الدهرُ مضى

وإذا ما عبس الدهرُ ابتسم!

ص: 59

يا مليكاً هاشمياً ما له

غير توحيد شعوب العرب هم

يختم النومُ عليه جفنَه

فيراه في تهاويل الحُلُم!

بِسَناهُ كنت في (سوريةٍ)

مَلِكاً في عرش (أقمار الحكم)

وبه في (ميسلون) استُشْهدت

مُهَجٌ لو لم تقمها لم تَقم

وبه اخترتَ - على كرهِكه -

عرش (بغداد) ولم تأنف ولَم.

واثقاً أنك تشفِي داءه

بطريق الحرب أو طرق السَّلَم

فيصلٌ يَفْسَح للخطب إذا

جاءه لا ينثني، لا يصطدمْ

فإذا الخطب الذي قد أمه

قد تولّى خلفه كالمنهزم!

فيصلٌ لا يعرف اليأس، ولا

يرهب الموت، ولا يخشى الغُمم

فيصل العامل يمتدُّ لَه

أمل النهضة ما امتدّ الألم

فيصل يعمل ما يعمله

صامتاً في غير عيٍ أو سَأم

يسهر الليل تناجيه المنى

من رعى آمال شَعْب لم ينم

هذه (يعرب) ضلَّت سيرها

فهي حيرى تترامى في ظُلِم

بعضها يعثر بالبعض؛ وقد

غرب الطالع، والليل ادْلَهَمْ

وفم (الغرب) - وأخفى شخصه -

جاهداً ينفخ في النار الضرم

أيها الآوي إلى فردوسهّ!

طالما أسهرتَ عينيك فنَم!

لا تخف شراً على العرب، فقد

لَقِنَتْ مبدأك الحُرَّ الأشم

وسرى فيها، فلن يهضمها

طامع أجنبُ، أو طاغٍ صَنَم

ولقد خلّفت فيهم (غازياً)

علَماً يهديهمُ بعد عَلَم

لم يمت من عاش (غازي) بعده

يرفع الملك، وللشَّعث يُلم

قم تهّيأ للقاء (المصطفى)

جدّك المبعوث فينا بالِحكم

فسيدنيك إليه فرِحاً

بمساعيك كباراً والخِدَم

وألق (آل البيت) وأرتع بينهم

في كروم الخلد أمثال النَّجُمْ!

علي أحمد با كثير

ص: 60

‌بين الشك والإيمان

الشاعر الإنجليزي بيرون

(1788 - 1824)

للأستاذ خليل هنداوي

روح هائمة ونفس معذبة طغى عليها الشك في جميع أدوارها، فارتعشت واضطربت وجدفت، وما تجديفها إلا صدى تلك الحرقة الملتهبة في قلب الشاعر الذي يريد أن يزيح ذلك الغطاء عن الحقيقة المحتجبة.

قضى الشاعر طفولته الأولى حراً لا تقرعه عصا الأبوة، لأنه نشأ تحت رعاية أم كثيرة الإشفاق عليه، دخل المدرسة وشيطان الشعر والفن أخذ يوسوس له ويقويه وهو لما يلبس أردية الشباب، فأنفق أيامه يزجي الفراغ متسلياً بالنظم لاهياً بالطرب. وفي هذا العمر الزاهي تسرب إليهالشك ودعاه زهوه إلى الجحود، فجحد باليوم الآخر وحطم قيود التقاليد. ولكن سرعان ما أعياه التفكر في حقائق الوجود وكم أعيت من قبله؛ فتعب من نفسه وهو الرقيق النفس، وتعب من الناس وهو ذو الروح الشاعر.

هجر وطنه وفي خلال هذه الهجرة بدأ ينظم مقطوعته الخالدة (طواف شيلد هارولد)

ومن هو هارولد؟ (هارولد عرفه الناس شر من جاور الناس، يعيش مستقلاً عنهم مزهواً بيأسه، يعرف كيف يتلمس الحياة في زوايا نفسه. كذلك الكلداني الذي أرسل عينيه في النجوم، وما زال يحدق فيها حتى أسكن نجومها المضيئة كائنات مثلها مضيئة، فإذا استطاع أن يرقى بنفسه في هذا الأوج كان سعيداً، ولكن الطين الذي جبل منه يثقل عليه، وتراه - وهو الراغب في النور الساطع - يبتغي أن يهدم السد الذي يحول بيننا وبين السماء، تلك السماء التي تتفتح لنا في أعاليها عوالم مضيئة. وأنه لهائم في منازل بني الإنسان يغلب عليه القلق ويزعجه التعب؛ مظلم النفس كثير الهم كاسف اللون كالصقر المهيض الجناح لا يجد له وطناً إلا الفضاء الفسيح، فيأخذه هيمان يسلبه عقله، فهو يريد إنقاذه منه، فيهيج ويدأب كالطائر الذي يقرع قضبان قفصه فيصبغ كساءه بدمائه، ونفسه السجينة المضطرمة

ص: 61

أخذت ترتشف هذه الدماء، دماء قلبه. . .)

فأي فتى يتوارى وراء هذه الأبيات؟ هل هو غير الشاعر؟ وكل من قدر له أن يتذوق ما وراءها من يأس ومرارة يحس أن الشاعر لا يستطيع أن يخرج عن نفسه، لأنه يستمد كل عوامل نظمه من نفسه، فلندعه يخلق الأشخاص ويولد الأبطال. فلن ترى وراء هؤلاء كلهم ناطقاً غير الشاعر، ولا قانطاً غير الشاعر، فهو ذلك الفتى النبيل الذي غامر في ملذاته حتى عاده السأم، والسأم داء يقتل في المسرات كما يقتل في الأشجان، فتراه يهجر عالم الإنسان كالمسحور (هائماً وراء أحلام مظلمة، يخنقه السرور ويهفو إلى الشقاء والحزن لأنه يجد فيهما مروحاً عن نفسه، مغادراً وطنه، حاملاً معه إلى المواطن التي وطئها - وهي الأنس ومرابع النزهة - فكرته التي تسعى وراءه كأنها شيطان لاحق به).

عرج على الأندلس ونزل في (أثينا) مدينة الفلسفة، وهنالك استفزته هذه المشاهد التي تحمل طياتها التراث الفكري الذي استلمه الحاضر من الغابر. وهذه المشاهد هي التي أوحت إلى (رينان) صلاته الخالدة، وفجرت في قلب (شاتوبريان)

ينابيع العاطفة والتصور. هنالك وقف (بيرون) إزاء هذه الآلهة المتناثرة على الحضيض، فسخر من الإله الموجود والإله المفقود.

يا أبن يوم واحد! انهض وأدن مني. . . .

أنظر إلى هذا المكان. . . هو وطن شعب، ومأوى آلهة تبعثرت هياكلهم.

الآلهة نفسها تتلاشى، ولكل شريعة أجلها. . .!

بالأمس ساد (جوبيتر) واليوم يسود (محمد) والعصور الآتية ستتخذ لها من مذاهب القوم مذهباً حتى يجيء عصر يجد فيه الإنسان أن ما يضرمه من بخور ويهدره من أضاحي يذهب عبثاً!

أيها الولد الحقير! يا قذفة الشك والموت! يا من يتوكأ رجاؤه على أقدام من قصب. . . .!)

وقف الشاعر إزاء (البريتون) وتحت قبته المنقوبة فرحب بالعدم وجعل عصره خير عصر لنا وغده خير غد لنا. فقال: (هاهنا قبة العقل، هاهنا مأوى النفس. كل ما كتبه القديسون والسفسطائيون والعقلاء، أقادر على أن يعمر هذا الجوب المنعزل؟ ألا إن الراحة تنتظرنا على شواطئ (الأشيرون). هنالك لا يكره الذي شبع من الحياة على أن يستوي على هذه

ص: 62

المأدبة المملة، ولكن السكون يعد ذلك المرقد الذي يحمل للجالس عليه السبات الأبدي).

ولكن بيرون لم يكن بذلك الجاحد الذي استراح ضميره وأراح، فالحيرة لا تزال تغشاه، والتردد لا يزال يطغى عليه كأنما اتسع قلبه لنوازع يأكل بعضها بعضاً، ويدمر بعضها بعضاً، شأن الذي يركبه الشك، ويتوارى عنه اليقين. وإنما يتميز بيرون من غيره من شعراء الشك بثورة دامية في نفسه يقدم وقودها من قلبه ليحرق بها قلبه، وهو قلب قتله الظمأ إلى اللانهاية، هذا الظمأ الذي عجزت عن إطفائه سواقي الأرض.

قال (لاميني) لزملائه يوماً: أتعرفون ماذا جعل الإنسان أشقى الكائنات؟ هذا لأن له قدماً وضعها في العالم المتناهي، وأخرى في العالم اللامتناهي، وهذه هي حالة بيرون.

ولكن وجه الغرابة في ثورة بيرون أنها اضطرمت في صدره ولما يبلغ الثامنة عشرة، وحق لمثل هذه الثورات أن تثور على مهل لأنها تأخذ غذائها من العاطفة لا من العقل. وقد طغى اليأس عليه وهو مازال في ميعة الشباب ولكن قلبه يخفق ويخفق معلناً (أن الشباب ولى، وأن الحياة بليت، وأن الرجاء نفسه قد أسدل على وجهه حجاباً.)

جاز بيرون بأحد القبور فقال: (يا أحلام طفولتي! كم حسرة تتصاعد مني عليك. أنا لا أستطيع أن أنساك، لأنني أجد ما حولي ظلمات متراكماً بعضها على بعض، لا شيء أعز على قلبي منك يا شعاع الماضي.)

وكتب وهو في فينوس (إنني سأنفق شبابي حتى ينفد، وبعدئذ أقول: عمي مساء أيتها الحياة، فقد عشت وكنت مسروراً.)

ولكن يا له من سرور! وهو القائل (أتيقظ في كل صباح وبي يأس وسآمة من كل شيء حتى من الذي يبطن سهدي بالسرور.)

مم يشكو الشاعر؟ وما هي الأسباب التي أورثت قلبه هذه السآمة وهو ممن لم تعوزهم أسباب الهناء، ولا ممن نزلت بهم حوادث الدهر، وهذه المواطن التي جابها في سياحته تشفي البائسين وتداوي أصحاب الهموم، ميدان الهوى أمامه رحب الفناء، ومجال الحرية والمجد والبراعة واسع الفسحة، فأية سعادة يطلبها، ويلح في تناولها، ويشقي نفسه في تتبعها، وأين يجب أن يتحرى عنها إذا لم يجدها هنالك؟

قد علل بعض النقاد أسباب هذه المظاهر بإفعام نفسه بالسرور الذي يخلق السأم، ولا عجب

ص: 63

إذا قتل السرور الكثير صاحبه كما يقتل الحزن صاحبه، ولنسمع الشاعر نفسه يعلل هذه السآمة قائلاً:

(وا أسفاه! عواطفنا الفتية تذوب ضائعة، حيث لا تنتج إلا قفراً فارغاً، ولا ينبت منها إلا أشواك مؤذية. . . ونبات بقدر ما يروق للعين منظره، يؤذي القلب ويؤلمه. وأشجار يقطر منها السم القاتل، هذه الأشجار التي تولد تحت أقدام الأهواء.

أيها الحب! لست أنت من سكان هذا الوجود! أيها الساروفيم الذي لا يرى، نحن نؤمن بك. أنت شريعة أصحاب القلوب المنكسرة فيها، هم الشهداء، ولكن العين لا تراك، ولن تراك بحقيقتك.

الحب هو هذيان، وهو جنون الشباب، لكن علاجه أمر من عذابه، وعند ما نرى تلك الجواذب تتلاشى الواحدة بعد الثانية من أصنامنا الغرامية، وعندما نرى تلك الروعة التي كانت تتمثلها مخيلتنا في حالة التسامي قد زالت، فسرعان ما يذهب هذا الانجذاب عنا، وبعد أن زرعنا الريح لم نحصد إلا العاصفة.

يأتينا الذبول ونحن في فجر العمر. . . نشقى ونسأم ونسعى إلى الغاية، والغاية تمعن في الفرار. . . وظمئونا لا ينقع غلته شيء. . . وفي اللحظة الأخيرة، ونحن على حافة القبر يعودنا خيال جميل هو خيال السعادة التي تحرينا عنها في مطالع الحياة، ولكنه زاد متخلفاً، وجاد بالوصل حين لا ينفع الوصل، فنذوق الشقاء مرتين. . .

الحب والطمع والبخل، كل هؤلاء سيء، ما هي إلا شهب واحدة تجيء باسم واحد. والموت وحده هو الدخان القاتم الذي يطفئ نارها.)

ما أدنى هذه العواطف من القلب، لأنها ما خرجت من قلب إلا لتدخل في قلب. . . ولكن بيرون المظلم قلبه ما وجد على الأرض إلا الظلام؛ وما أبصر إلا خيال السعادة مولياً أمامه، فقيد الحقيقة - التي هي حقيقة الدهر - بهذا الخيال. وهو الشاعر قبل أن يكون فيلسوفاً. ولكن هل كل جمال مآله الزوال؟ أكل حب يستقي من نبعة واحدة، فهنالك أنواع كثيرة لجمال يزول وجمال يبقى، وحب يتلاشى وحب يحيا، فبأي نوع قيد الشاعر سعادته؟

هاهو حائر كيف يقضي أعوامه هنا؟ وكيف يستقبل ذلك العالم الهامد؟ يأتيه الضجر فيبدع أشخاصاً وأبطالاً تغلي فيهم نزعة الضجر لأنهم يستمدون عواطفهم من عاطفته.

ص: 64

فهذا (ما نفرود) يملك عليه السأم، سأله الجني: ماذا تتمنى؟ فأجابه: النسيان، نسيان نفسي.

وهذا هارولد كان يدعى: (الفتى السائم من الوجود) وهذا (جيور) كان لا يجد أقفر من صحراء القلب الفارغ.

وأخيراً آل به هذا الشك إلى جحود كل شيء، فخلا قلبه من الحب وفرغ من الأمل. واستحالت كل هذه الصفات النبيلة إلى كره للبشر، وهل في استطاعة من كرههم وأوسعهم ذماً أن يبدلوا ظلمة قلبه نوراً إذا لم يكن النور ابن قلبه؟

لنصغ إليه وهو يحدثنا عن الناس (هل أعود إليهم كرة ثانية أتحرى عما يرجوه قلب هادئ في هذه المواطن التي يغلب فيها إنهاك أصحابها في المنكرات، وحيث الضحكات ترتفع عبثاً لتخفي حقيقة القلب. هذه الابتسامة هي تؤلف أخدوداً لدمعة طافرة ستنسكب).

لم يستطع أن يحمل نفسه فطار بها في الآفاق يسليها بالوحدة فطابت له حياة منعزلة تقصيه عن الناس في مواطن آهلة بالجيال التي يدعوها أصدقاءه، منتحياً عن قوانين وحكومات أقسم ليكرهنها حتى يقضي نحبه.

وكان هذا الألم قد أكسبه قوة ومناعة (أما الجمل فإنه يحني ظهره تحت الحمل يمشي ساكتاً، والذئب يموت ساكتاً، ونحن الأولى تسمو جبلتنا على جبلتهم، لنتعلم أن نتألم مثلهم)

ويقول بلسان أحد أبطال روايته (إنني شبيه بهذه الريح المشتعلة التي لا تسكن إلا الصحراء، ولا تهب لوافحها إلا على الرمال. . الأسد وحده أتخذه لنفسي مثلاً) وبمثل هذا الكبرياء حلى بيرون أبطال رواياته، وجعلهم ناقمين ثائرين غير راضين عن الوجود، فأتعب نفسه كثيراً وأتعبهم كثيراً. فإذا كان القعود عن الشيء يعد عجزاً فإن التحليق فوق حدود الإمكان ما هو إلا ضرب من ضروب العجز، وأن يرفض الإنسان الوجود رفضاً باتاً بحجة نقصه، وأن يهرب منه ومن أصحابه بداعي هذه الحجة هما من نقائص النفس التي تستر عجزها وترددها وراء هذا التهور الفارغ.

هذا هو الوجود؛ إن وجدت فيه الجميل فاملكه، وإن وجدت القبيح فحسنه وأصلحه، وإياك أن تعف عن الأول بسبب الثاني، لأن قوانين الحياة قاسية تسحق من يحاول أن يسحقها. هكذا أرادت أن تكون، وهكذا تريد أن تمشي.

وفي النهاية لا تجدي هذه الكبرياء شاعرنا شيئاً، فهو تعس يود أن يعترف بتعسه لنه لا

ص: 65

يستطيع أن يمشي كالجمل ساكتاً أو يموت كالذئب صامتاً. فيقول:

(ما أشد تعسي؛ أيامي أمست تجري على وتيرة واحدة، وليالي اقضيها بالسهاد، لا أخالط المجتمع البشري إلا قليلاً، إذا جاءني أحد منه لذت بالفرار. . إنها لحال مؤلمة لا ينقذني منها إلا الجنون)

كل هذه الأهواء الصاخبة، والأنات المتصاعدة يرسلها الشاعر وراء محبوبته، الحقيقة. . ولكن أين يجدها؟

(بيروت)

خليل هنداوي

ص: 66

‌العلوم

1 -

التلفزة في عهدها الأول

للأستاذ محمود مختار

بكلية العلوم

مقدمة:

ليس لعالم اللاسلكي حد ينتهي عنده. فهو يأتينا كل يوم بمعجزات لم تخطر على قلب بشر. فما كاد وليده بالأمس يكبر ويترعرع ويلعب دوراً جدياً في الحياة يملأ الدنيا بهجة وسروراً بما ينشر من موسيقى شجية وأحاديث عذبة ومسامرات طريفة، أقول ما كاد هذا الوليد يكبر حتى قال الإنسان الطماع (لو أن لي أن أرى ذلك الذي يشجيني بتلك الموسيقى، ويبعث إلي بأحاديثه. لو أن لي أن يكشف عن بصري كما كشف عن سمعي. إذاً لكنت إنساناً آخر). وسرعان ما وصلت هذه الأحلام إلى العقل البشري الجبار حتى يقوم لفوره يقول (ليس في الوجود معنى لكلمة مستحيل) فلم تكن كلمته محض هراء وهو الذي لا يلقي الكلام جزافاً.

ففي سنة 1926طلع علينا العالم الإنجليزي الكبير جون بيرد بجهازه الأول في عالم التلفزة وعرضه بالمعهد الملكي في لندن ونقل به صوراً لأجسام بسيطة كانت موضوعة بغرفة مجاورة. وبالرغم مما كانت عليه الصورة المتلفزة من صغر واهتزاز وعدم وضوح، كانت فكرة جبارة جريئة شغلت العالم بعدها وملأت الرؤوس فقام الكثير يعمل على تحسينها وإنمائها فلم يمض عليها بضعة أشهر حتى قامت مصلحة التلفونات والتلغرافات الأمريكية بعرض هائل لتلفزة بعض الجسام ما بين واشنجتون ونيويورك، وقد كان من بين من اشترك في هذا العرض ما لا يقل عن ألف مهندس كهربائي.

تخطى الوليد دور المهد بعد سنوات ثلاث تحت رعاية مخترعه الأول الذي تمكن من إذاعته مع أخيه الأكبر بنجاح تام من محطة للإذاعة اللاسلكية في لندن على موجتين مختلفتين كما استقبلهما بجهازين منفصلين أيضاً.

ولأترك الآن النقطة التاريخية في الموضوع لأنتقل إلى شرح جهازي بيرد للإرسال والاستقبال كل على حدة. ويلاحظ أن التلفزة يقصد بها إرسال الصور الثابتة أو الأجسام

ص: 67

المتحركة على حد سواء كما يمكن أن تنقل بواسطة أسلاك أو بدونها.

وتأخذ عملية الإرسال ثلاث خطوات. نبدأ أولاها بتقسيم الجسم المتلفز إلى مساحات صغيرة، وثانيتها بتحويل الأضواء المنعكسة من هذه المساحات إلى دفعات كهربائية، وثالثتها بتكبير هذه الدفعات وإذاعتها على التعاقب بواسطة أسلاك أو بالأثير إلى جهاز الاستلام.

وللاستلام خطوات ثلاث أيضاً هي بنفسها خطوات الإرسال مأخوذة في الاتجاه العكسي. فتبدأ باستقبال هذه الدفعات الكهربائية من الأثير وتكبيرها ثم تحويلها إلى دفعات ضوئية، ثم أخيراً جمعها وإعادة تركيبها لتخرج صورة الجسم المتلفز.

ولأبدأ ببحث كل من هذه الخطوات على حدة متدرجاً من أبسط الأجهزة إلى ما تطور منها.

جهاز الإرسال

فلتحليل الجسم المتلفز - ولنفرضه الصورة أ1 أ2 ي2 ي1

شكل (1) - يستعمل القرص المثقب ويكون عادة من معدن

خيف كالألمونيوم ويبلغ قطر دائرته حوالي 40 سنتيمتراً

ويحوي قرب حافته المستديرة ثلاثين ثقباً صغيراً مربعاً تقع

على منحن على شكل لفة مفردة من حلزون صغير الزاوية

كما هو مبين بالشكل، ويوضع الجسم المراد تلفزته خلف هذا

القرص كمايوضع أمامه ضوء قوي من قوس كهربائي.

ويكون موضعي الجسم والضوء بحيث أن الخط الواصل

بينهما يكون متعامداً على مستوى القرص وماراً بأحد ثقوبه.

ويدار هذا القرص بسرعة منتظمة قدرها 12 12 دورة في

ص: 68

الثانية بواسطة محرك كهربائي مركب على محوره.

ولنفرض الآن أن القرص في موضع بحيث أن شعاع أضوء المر من المربع (1) يقع على النقطة (11) على الجسم فيضيئها، وتعكسه هذه بقوة تتناسب مع قدرتها على العكس، فإن كانت قاتمة كانت نسبة الانعكاس صغيرة، أو ناصعة كانت نسبتها كبيرة. فإذا تحرك القرص في اتجاه بحيث يحمل معه المربع (أ) إلى أعلى تحرك تبعاً له شعاع الضوء الساقط على الجسم إلى أعلى فيضيء على التعاقب نقطاً من الجسم تقع على خط رأسي حتى إذا ما انتهى عند حافة الجسم العليا عند (أ 2) بدأ شعاع آخر يخرج من المربع ب ويقع على الجسم من أسفل عند (ب1) الملاصقة للنقطة (أ1) وهذا هو الغرض من وضع ثقوب القرص على لفة من حلزون حتى يكون كل ثقب مزاحاً عن سابقه بقليل بحيث يرمي شعاع الضوء الخارج منه على نقط ملاصقة لنقط الثقب الذي قبله.

فإذا ما أتم القرص دورة كاملة شاهدنا ظهور الضوء أولاً عند (أ1) ثم سيره إلى (أ2) ثم اختفاءه وظهوره ثانياً عند (ب1) وسيره إلى (ب2) ثم اختفاءه وظهوره عند (جـ1) وسيره إلى (جـ2) وهكذا حتى (ي2) وبذلك تكون كل نقط الجسم قد أضيئت على التعاقب، ويمكن أن نشبه حركة النقطة المضيئة على الجسم بحركة العين عندما تقرأ كتاباً كتبت أسطره في اتجاه من أسفل إلى أعلى.

وعند ما يأخذ القرص سرعته العادية (12 12 دورة في

الثانية) لا يمكن للعين أن تتبع حركة هذه النقطة المضيئة على

الجسم بالتفصيل، ولا حتى هذه الخطوط الرأسية المتلاصقة

المتتابعة. بل سيخيل إليها أن الجسم كله مضاء إضاءة واحدة

منتظمة من مصدر واحد مستمر.

ويوضع عادة بين الجسم والقرص عدسة لامة تعمل على جمع الأشعة الخارجة من الثقب على نقطة واحدة من نقط الجسم كما يغطي مصدر الضوء حتى لا يتسرب منه ضوء إلى

ص: 69

الجسم بطريق غير طريق الثقب.

وقد وجد أن هذه الطريقة تستلزم مصدراً ضوئياً قوياً إذ أن الجزء الساقط منه على الجسم صغير، وهذا يسبب قلة استضاءة الجسم. هذا فضلاً عن أن هذه الطريقة تستلزم أيضاً وضع الجسم المتلفز في ظلام حالك لا يتسرب إليه أي ضوء خارجي وذلك مما يمنع تلفزة أجسام موضوعة في ضوء النهار. فنقحت هذه الطريقة بإضاءة الجسم ذاته من مصدر الضوء ثم وضع عدسة أمامه لتكون له صورة تقع على حافة القرص المثقب. بحيث لا يمكن أن تغطي أكثر من ثقب واحد في أي موضع من مواضع القرص كما هو مبين بشكل (2) ففي أي موضع من مواضع القرص ينفذ من ثقب واحد منه شعاع ضوئي تتناسب شدته وشدة استضاءة نقطة الصور الباعثة له. وبحركة دوران القرص يسير كل ثقب على الصور على التعاقب في اتجاه رأسي من أسفل إلى أعلى حتى إذا ما خرج من حافة الصورة العليا بدأ الثقب الثاني له يظهر في أسفل الصورة ليمسح من الصورة خطاً رأسياً آخر يلاصق الأول وهكذا حتى إذا ما أتم القرص دورة كاملة أرسلت من ثقوبه على التعاقب أشعة تمثل في شدتها وضعفها شدة استضاءة نقط الصورة كلها.

وفي السنوات الأخيرة استبدل هذا القرص المثقب بعجلة على شكل الطبلة تتثبت على حافتها الخارجية مرايا مستوية صغيرة بعدد ثقوب القرص تميل كل منها بزاوية صغيرة جداً على سالفتها شكل (3) فتعكس الضوء الساقط عليها من المصدر على نقطة واحدة من نقط الجسم بمساعدة عدسة لامة وبدوران العجلة تمسح أشعة الضوء المنعكسة من المرايا المتعاقبة الجسم المتلفز بطريقة تشبه تمام الشبه الطريقة الأولى للقرص

كذلك استعمل لنفس القرص حلزون المرايا وهو شكل ثان لطبلة المرايا. وميزة أجهزة المرايا هذه أنها لا تشغل فراغاً كبيراً.

وبأي طريقة من الطرق السالفة لتحليل الجسم المتلفز إلى نقط

صغيرة نجد أن كل عملية التحليل لا تستغرق سوى 1 من 12

12 جزءاً من الثانية كما أسلفت. ومعنى هذا أنه يرسل للجسم

12 12 صورة في الثانية الواحدة. فأن كان متحركاً اختلفت

ص: 70

كل صورة عن سابقتها اختلافاً طفيفاً بحيث أنه عند عرضها

في جهاز الاستقبال بنفس السرعة 12 12 صورة في الثانية

تظهر للرائي حركة الجسم كما هي الحال في ظهور حركته

بواسطة آلة السينما مثلاً.

هذه الأشعة المنعكسة من الجسم المتلفز في حالة القرص الأولى أو المارة من ثقوب القرص في حالة طريقة القرص الثانية أو المنعكسة من المرايا في جهاز طبلة المرايا أو حلزون المرايا. كل هذه الأشعة تتحد في خاصية واحدة كما أسلفت، وهي أن كلاً منها تمثل في تغيراتها من حيث الشدة والضعف اختلاف نقط الجسم المتعاقبة من حيث الضوء والظلام. وعند هذه تنتهي الخطوة الأولى من خطوات الإرسال.

هذه الأشعة الضوئية المتعاقبة التي حصلنا عليها. نريد الآن أن نحولها إلى دفعات كهربائية تختلف شدة وضعفاً تبعاً لاختلاف شدة هذه الأشعة. وهذه هي الخطوة الثانية من خطوات الإرسال.

العين الكهربائية أو ما نسميها علمياً بالخلية الكهرضوئية هي المحور الأساسي والجزء المهم في جهاز عرض السينما الناطقة. ولها أنواع كثيرة منها ما هو مبين بشكل (4). وهي عبارة عن انتفاخ زجاجي مفرغ من الهواء أو به غاز مخلخل وتحوي قطبين بداخلها، أحدهما يبطن الزجاج من الداخل ويسمى الكاثود ويكون عادة من معدن البوتاسيوم، أو الصوديوم، أو الربيديوم أو السيزيوم. والقطب الآخر وهو الأنود، ويكون عادة على شكل سلك رفيع في وسط الانتفاخ. ويوصل الأنود هذا بالطرف الموجب من جهد كهربائي عال يتراوح بين100 و150 فولتاً، ويوصل الكاثود بطرفه السالب. ولهذا الكاثود خاصية غريبة، وهي أنه إذا ما سقط عليه ضوء انبعثت منه ألكترونات واتجهت نحو الأنود، وتسبب تياراً في دائرته تتناسب قوته مع شدة الضوء الواقع على الكاثود.

فإذا ما سلطنا الأشعة الضوئية المتعاقبة التي حصلنا عليها سابقاً من تحليل الجسم على كاثود هذه الخلية سببت تيارات كهربائية في دائرة الخلية تتغير تبعاً لاختلاف نقط الجسم

ص: 71

المتلفز بالنسبة للضوء والظلام، وتكون هذه التيارات عادة ضعيفة جداً، أي إنها لا تتعدى بضعة ميكروأمبيرات (الميكرو أمبير يساوي واحداً من مليون من الأمبير). لذلك كان من الواجب تكبيرها قبل إرسالها، وهذه هي ثالثة خطوات الإرسال.

أما كيفية تكبيرها وإرسالها فهذا موضوع آخر يختلف تمام الاختلاف في بحثه عن موضوع اليوم. وهو موضوع قائم بذاته يتطلب دراسة وافية لعلم الصمامات. فكل ما يهمنا الآن هو أن نعلم أن هذه التيارات الكهربائية المتغيرة المارة في دائرة الخلية الكهرضوئية تؤخذ إلى هذا الجهاز المكبر ومنه إلى جهاز الإذاعة حيث تذاع في الأثير بنفس الطريقة التي تذاع بها الأمواج اللاسلكية. ومن ثم إلى جهاز الاستقبال وموعدي به الرسالة القادمة.

محمود المختار

ص: 72

‌الضيف.

. .

بقلم الأستاذ محمد سعيد العريان

ود توفيق لو يهجر المدينة وأهلها ويقطع صلته بالناس فترة من الزمان، فإنه ليجد لذة ويحس أنسا أن يفارق هذه الصور التي يطالعها وتطالعه كل صباح ومساء، لقد أطافت به نوبة من الضيق والملل حتى لا يلقى أهله إلا بوجه عابس وطلعة متجهمة، ودق حسه حتى أصبح سريع التأثر قريب الانفعال. وكان في إجازة طويلة، والجو حار يهيج الأعصاب ويثير النفس ويبعث على السأم؛ وإنه ليعيش بين أهله ولكنه يشعر بالوحشة والانفراد فلا طاقة له على البقاء في البيت ساعة من نهار، ولا يجد في القهوة ما يسلي نفسه ويشغل فراغه؛ وقد هجره أصدقاؤه جميعاً إلى المصايف أو إلى بلادهم وخلفوه ونفسه يصارع الهم والوهم والوحدة والألم. .!

وتصورت في خياله القرية التي مس ترابها جلده منذ ربع قرن، والتي لا يذكر - لبعد العهد - متى هاجروا منها إلى المدينة، ولمه. . . لاشك أنه سيجد هناك من جدة العيش وطرافته ما يحمل عن صدره أثقال الهموم، ويهدي إلى نفسه الموحشة بعض الأنس والهدوء والدعة.

وتراقصت أمام عينيه صور جذابة من حياة القرية ويسر الحياة فيها بعيداً عن أسر التقاليد وتكاليف الحضر؛ وحضرته ذكريات حلوة من زياراته القليلة لأخته في القرية، فذكر مجالسه مع شبانها على حافة الساقية تحت شجرة التوت الغليظة تساقط عليه ثمراً شهياً، ورياضاته في جلبابه الفضفاض تحت المعطف الأبيض على شاطئ الترعة وبين الحقول، يتملى بجمال القرويات غاديات رائحات من الترعة وإليها أسراباً يجررن الذيول، ويحملن الجرار على رؤوسهن، ويهمسن بالغناء الساحر تسيل في نبراته الرقة والعذوبة والحنين. وذكر مجالس الأنس والسمر في الليلة المقمرة على مصطبة الدار، وحديث القرويين ينتقل في لذة وسحر بعيداً عن التزويق والإدعاء الفاخر. . . وزهته مظاهر التبجيل والاحترام التي تحوطه هناك.

وفي اليوم التالي كان القطار يغذ السير بتوفيق إلى القرية، وقد أشعل بين إصبعيه دخينة وسبح في أحلام لذيذة بهدوء القرية وسحر بناتها. . .

ص: 73

وتلقته أخته بالترحيب والعناق، وجلست إليهقليلاً تحدثه ويحدثها، ثم تركته لتهيئ له الطعام بيدها، طعام القرية الشهي الدسم اللذيذ. وتوافد عليه عارفوه وشبان أسرته يحيونه ويتجاذبون وإياه أطراف الحديث يقطعون بين فتراته بالتحية المكررة والسؤال عن الصحة والأحوال. . .

وخرج معهم في العصر يطوف بأزقة القرية يتعرف إلى الوجوه والأبنية. واخترق سبلاً وعرة بين الحفر وكومات السماد، وبيوت متواضعة متقاربة كأنما تدانت للعناق. وانتهى به المطاف في دار له بها عهد، لأن صاحبها من ذوي قرابته، واجتمع لفيف من شبان القرية وشيوخها يبعثون التاريخ، ويتناولون شتى الذكريات، ويخوضون في كل حديث، ويتبادلون أنباء القرية وحوادثها، وأنباء السياسة أيضاً، وإن لهم في السياسة أحاديث لا تخلو من حكمة وبعد نظر.

وأعجب توفيق بحديثهم كما تعجب بحديث الطفل، فأنصت إليهفي لذة وأنس، كما يستمع السائح المؤرخ إلى خرافيات دليله الجاهل عن سر أبي الهول وأطياف وادي الملوك.!

وأديرت فناجين القهوة وانعقدت في جو الغرفة سحائب الدخان، واشتد الحر وأسال العرق على الجباه؛ وشعر توفيق أنه يكاد يختنق وأن أعصابه تخونه، وهم بالانصراف ولكنهم ألحوا عليه أن يجلس فجلس، وأخذوا في حديث الشياطين والجن، فراح كل واحد منهم يحدث بما سمع وما رأى! وتفننت عبقرية الجهل في اختراع القصص المروعة والروايات الغريبة، وطفقوا يعددون الشياطين بأسمائها وحوادثها وضحاياها. . . وأشار (الشيخ) بيده فأنصتوا ومالوا برؤوسهم إليهوقد أخذ يرقص شاربه وترتجف شفتاه في انفعال عصبي، وشرع يقص على الحاضرين قصة العفريت الذي كان يتسور عليه البيت وهو شاب ليالي متتابعة، فيقاسمه طعامه وشرابه وفراشه أيضاً فلا ينصرف إلا مع آذان الفجر، والزنجية الحسناء التي كانت تصحبه ليالي فتحتل موضعه من الفراش، وتضطره أن يقضي الليلة معقودة يداه خلف ظهره ورأسه بين ركبتيه إلى حائط الدار، ثم لا يفارقه العفريت وصاحبته قبل الصباح إلا بنفحة من دراهم، أو عصوين من نار تلهبان ظهره، جزاء رضاه أو سخطه على ما يصنعان. .!

وكان حديثاً غريباً على الضيف فحاول أن يتفلسف وينكر ويعلل، ولكنهم أنكروا منه ذاك،

ص: 74

وطلبوا إليهالتسليم أو يتعرض لغضب الشياطين وأذاهم، وكانت أعصابه مهيئة للتسليم فسكت، واستمروا يتحدثون. وأحس رعدة خفيفة تتمشى في جسده فسحب رجليه في هدوء فدفنهما في أطراف ثيابه، وجمع يديه في حجره ومال إلى المحدث يستمع إليه هادئاً منصتاً في شبه إيمان. لقد حطمت هذه الليلة الصاخبة أعصابه، وهاجت وساوس نفسه المريضة.

وانتهت السهرة ولكن صاحبنا ظل جامداً في مكانه لم يهم بالقيام حتى دعوه، فنهض كسلاً متراخياً يكاد يسقط من إعياء.

وشيعوه إلى دار أخته، وهو سارٍ بينهم يتعثر في أوهامه. . ووجد أهل البيت نياماً فلم يبق ساهراً إلا مصباح ضئيل موقد في الردهة يرقص لهبه على عزيف الهواء وكان يعلم أنهم أعدوا له غرفة في الطبقة الثانية فصعد في السلم بطيئاً متثاقلاً يتلفت بين الخطا والمصباح في يمينه، ودفع باب الغرفة بيسراه فسمع صوتاً يشبه أنين المستصرخ، فأدار ظهره في فزع ليرى من هناك ولكنه لم يجد شيئاً، وعاد يدفع الباب فسمع حشرجة خشنة، ثم سمع ضحكة بشرية ناعمة. .!

ووقف في وسط الغرفة يقلب بصره بين زواياها في رعب وفزع، وكانت به رغبة في التدخين، ولكنه لم يجرؤ أن يذهب إلى الغرفة الثانية - حيث أودع حقيبته - ليستحضر بعض التبغ. وخلع نعليه وهو جالس على حافة السرير ويداه ترتعشان، وتتجاوب في أذنه أصوات غريبة تفزعه وتسلبه الطمأنينة. ودفن نفسه في الفراش، واستلقى على ظهره وقلبه يدق دقات عنيفة، وكأن يداً غليظة تقبض على عنقه، وأشباحاً خفية تطيف به.

وكان يعلم أنه ليس فوق السطح غير أكداس من الحطب والوقود، ولكنه أحس دبيب أقدام، وسمع أصوات غريبة هامسة ليست من صوت البشر! أتراه أغضب الشياطين فأرسلوا إليهعفريتاً ينتقم منه؟

وضاقت أنفاسه، واضطرب فكره، واشتد ضغط الوهم على صدره، وهم أن يصرخ ويستنصر، ولكن صوته احتبس ولم يتحرك لسانه. وشبه له أنه يرى شبحاً من الضباب في شكل غير إنساني - وإن كان يمشي على رجلين - ينسل من النافذة مع ضوء القمر، ويشير إليهبالصمت في إنذار وتهديد!. . وسحب الغطاء يخفي عينيه في حركة آلية، ولكنه أحس شيئاً بارداً يلمس أطراف قدميه، فاستوى جالساً وأفلتت منه صرخة مكتومة. وتوارت

ص: 75

الأشباح فلم يعد يبصر شيئاً، ولكن همهمة غير مفهومة، ودبيباً وهمساً وأصواتاً غريبة كانت تصك أذنه من بعيد. واستلقى ثانية على الفراش وهو يحدق في الحائط الذي أمامه تحديق الخائف المذعور، فقد أبصر ظلاً أسود مطبوعاً عليه يحرك رأسه ويشير بيديه كأنه يتحدث إلى شخص بعيد. وود توفيق أن ينظر إلى ما وراء ليرى المشار إليه، ولكنه خاف؛ واستمر الهمس والدبيب يرنان في أذنيه، وتتراقص الرؤى والأشباح أمام عينيه، فلم ينم ليلته؛ وفي الصباح مع أول خيط من ضوء النهار كان جالساً في فراشه يصفق بيديه في عنف يستدعي الخادم، ودخلت أخته تحييه، فراعها ما رأت في وجنتيه من صفرة الخوف وإعياء السهر، وقالت له:

(توفيق ماذا بك؟)

- (لا شيء، ولكني مسافر اليوم فأعدي لي ركوبة إلى المحطة)

- (مسافر؟ ولكنك عرفتني أمس أنك قد تمكث لدينا شهراً، فلماذا غيرت رأيك؟)

- (لاشيء، لاشيء، قلت لك لاشيء. إن حقيبتي في الغرفة الثانية!.)

وآلمتها لهجته فمطت شفتيها آسفة وخرجت تنفذ ما أمر به، ثم عادت تسأله:

- (حدثني يا توفيق، هل تألمت من شيء هنا؟)

- (لا، ولكني لم أخبر أمي أمس أني مسافر، فأخشى أن يقلقها غيابي أو يألمها.)

- (ليتك لم تحضر يا توفيق!) وانصرفت لبعض شأنها.)

وحين تناول توفيق حقيبته من حيث وضعها أمس أفلتت منها ورقة فظنها سقطت منه ودسها في جيبه قبل أن يقرأها.

ولما جلس في القطار وضع يده في جيبه ليخرج شيئاً فعثر بالورقة، ونشرها بين أصابعه يقرؤها. . . وضحك توفيق وشاع في وجهه السرور حين عرف ما هناك؛ لقد كانت أخته تربي له ماعزة ولوداً، فكتبت له هذه الورقة أمس تخبره أن في ضيافة ماعزته فوق السطح جدياً فلا يفزعه دبيبهما ريثما ترد الجدي إلى صاحبه في الصباح. . .

لقد خاف توفيق وفزع ليلته لأنه كان يظن أنه وحده ضيف البيت. . .!

محمد سعيد العريان

ص: 76

‌6 سافو

لأوجيبه اميل

ترجمة الأستاذ محمود خيرت

حنا - إن الشتاء قارس هناك فلم لا تقصدين إلى باريس؟

سافو - وماذا أعمل فيها وأنت بعيد عني. ثم إنني ما عدت أجد في الوسط الذي كنت قديماً فيه غير أسباب الأسى والهم. ولقد امتلأت يدي منك فحسبتها امتلأت من حب كتب له الدوام، وما لبثت امرأتك أكثر من سنة. عد يا حنا فتعود تلك الأيام من جديد، وتعود السعادة فتملأ جوانب قلبك وقلبي. تعال معي وسأكون كما تريد محبة طائعة، وسأفتح لك صدري وأنزلك في عيني. تعال إنك لازلت تحبني. رق لحالي فليس غيرك يروي ظمئي وينسيني همي

حنا - لا يا فتى لم يعد هذا في طوقي

سافو - ولمه؟

حنا - لأنني لا أريد!

سافو - وآلامي وعذابي؟

حنا - وماضيك؟ (مبكتاً)

سافو - (وقد ملكها اليأس) الذنب فيه على الأيام. ومع ذلك ألم يمت؟

حنا - بل هو حي يحول دون كل أمل في الحياة معك بغير عذاب ودون كل أمل في الحب بغير ريبة وعار. على أنني سأرحل

سافو - قل إنهم هيأوك للزواج وأنت تسخر من دموعي وتلتذ على حساب ألمي. لقد حطمت قلبي ونثرت البقية الباقية من رجائي

حنا - (بشدة) ماذا؟

سافو - سامحني فما عاد لي أمل واحد هو أنت.

حنا - وهو وا أسفاه أمل ضائع!

سافو - إنني أحييك يا حنا. أحبك ولن أجد سواك يملأ فراغ قلبي. رق لحالي. إرحمني، إنني أجثو عند قدميك

ص: 77

حنا - (وهي تحاول وقد تزعزع صوابه) فني!

(هنا يدخل سيزار وديفون فجأة)

سيزار - كفى يا ولدي وتعال

حنا - آه يا أبي. . .

سافو - لا. لن أصبر على بعده (تتعلق به وأبوه يجتذبه فتدفعها أمه)

ديفون - (لها) دعيه واذهبي من هنا

سافو - ولكن من أنت؟

ديفون - أنا أمه

سافو - آه سامحيني فما كنت أعلم يا سيدتي

(تمد ساعديها نحو حنا وأبوه يجره وهو يلتفت إليها وهي تبكي) ها أنا ذاهبة يا حنا

ديفون - (لا تستطيع أن تنظرها وهي على هذه الحال) آه يا مسكينة

ص: 78

‌الفصل الخامس

(الفصل شتاء والمنزل في أفري ويظهر منه غرفة لها باب به

مربعات)

(من الزجاج يطل على الفضاء وقد كساه الثلج)

سافو - (حزينة مفكرة ثم تنشد)

حال عهد الهوى

بعدما تبسمْ

فهو حلٌم حوى

يَقظة الألم

وكؤوس المُنى

في سنا القبلْ

جرعتني العنا

من يد الملل

واستبدَّت معي

قسوة القدَرْ

فجرت أدمعي

تشبه المطر

ها حبيبي هجَرْ

إِنَّ هجرَهْ

مثل وخز الإبَرْ

ما أمرَّهْ

ليته أنصفا

قبلما رحَلْ

يا فؤادي كفى

أخطأ الأملْ

(بعد سكوت)

سافُ هنّي فأكرمي

ساعة الواجب

إنَّه مهجتي. دَمي

طفلِيَ الغائب

قم فقّبله يا فَمِي

قبلة التائِب

علً طُهَر السّنينْ

الذي ما عَرفْ

أين قلبي. يزين

قلبه بالشرف

فإلى الواِجبْ

عقَّنِي الصاحِبْ

حنا - (يدخل فجأة) فني؟

فني - (ذاهلة) أنت؟

ص: 79

حنا - نعم فلقد خانني جلدي ولم أقو على البعد

فني - وعدت

حنا - ساءتك إذن عودتي؟

فني - ولكنني سأرحل يا حنا فأولى لك أن تنسى

حنا - (فاقداً صبره) نعم ترحلين. ولكن إلى غير صدري

فني - قسماً بك لا

حنا - إنني حطمت من أجلك قلبي وأهلي وأعزائي ومزرعتنا والغابة والنهر وكل ما هو عزيز عليّ. وكذلك أمي التي كانت في منتصف الطريق تستبقيني وتبكي. وبعد هذا كله ترحلين وتطلبين إلي أن أنسى. اذهبي إذن. اذهبي ولا تطيلي ساعة عذابي.

سافو - (منتبهة) لازلت تحبني. إذن أبقى وأعبدك يا حنا (يتعانقان ويلبثان هكذا برهة)

ولكن ما لوجهك مصفراً يا بيبي

سافو - ماذا قلت. إن هذه الكلمة تعيد إلى ذهني تلك الذكريات الأليمة

حنا - (باكية) هكذا طاب لك أن تعذبني من جديد.

فهل لهذا عدت إلى من كنت تلتمس قبلة العفو عند شفتيك.

سافو - لقد أخطأت يا فني فاحملي ذلك على جنوني

(يذهب فيرتمي فوق مقعد وقد خارت قواه)

سافو - لا بأس عليك فإن شفتيك تختلجان وعينيك تصهرهما الحمى

حنا - خانتني قواي وما نمت إلى الآن

سافو - إذن نم يا حبيبي

حنا - ولكن إلى جانبك

سافو - بل عند صدري

حنا - (ينام ورأسه عند صدرها) آه لو تعلمين كم أحبك

سافو - إنس تكن سعيداً

حنا - نعم إن السعادة في النسيان (ينام)

سافو - ولكن كيف نسيت. خير لي أن أرحل من الآن

ص: 80

(تتخلص منه وتسند رأسه فوق وسادة)

حنا - (حالماً) زوجتي. . .

سافو - (تضطرب وتنحني عليه) هل أستيقظ؟ لا.

(تبتعد رويداً نحو الباب وهي تنشد بصوت خافت)

ساعة الرحيل - ساعة العذاب - شتت فكري

أيها الجميل - أقصر العتاب - واجبي عذري

يا لها ليال - عهدها النضير - مر كالفجر

هكذا الجمال - عمره قصير - فهو كالزهر

أيه يا دموع - أنت المتاع - بعده فاجري

أسعفي الضلوع - ساعة الوداع - من لظى الجمر

(وأخيراً تودعه بأطراف أصابعها ثم تختفي)

(تمت الرواية)

محمود خيرت

بقلم قضايا المالية

ص: 81

‌بعض الكتب الجديدة

فيصل ملك العرب

حياته. أثر فاجعته. أربعينه

بقلم عبد الجبار الرجبي

وضع هذا الكتاب الصغير أحد أدباء دير الزور الأفاضل. وقد حلاه بكثير من الصور وأهداه إلى جلالة الملك غازي. وفي هذا الكتاب تجد كثيراً من المعلومات الشيقة النافعة عن المغفور له صاحب الجلالة الملك فيصل عاهل العرب العظيم وعن أثر فاجعته في العالم العربي. والعالم الأوربي. كما تجد فيه كثيراً من نصوص برقيات التعازي، وقصائد الرثاء. وبالجملة ترى في هذا الكتيب على صغره ما يعجبك من هذا الحديث العطر حديث تلك الحياة الحافلة بجلائل الأعمال، وما أجدر شبابنا وشبان العالم العربي أن يقرأوا سيرة هذا العظيم الراحل في تبصر واعتبار.

الخفيف

ص: 82

‌إبراهيم في الميدان

تأليف الأستاذ حبيب جاماتي

عنيت بنشره إدارة الهلال بمصر

يقع هذا الكتاب في نيف ومائتي صفحة من القطع الكبير وهو مجموعة أقاصيص تاريخية تدور حول معارك البطل المصري العظيم إبراهيم باشا، وقد أصدره الهلال هدية لقرائه هذا العام، ولاشك في أن الهلال قد أحسن صنعاً باختياره هذا، فهي مجموعة أقاصيص تجمع بين اللذة والفائدة، ولصاحبها الفاضل قدم راسخة في فن الأقصوصة، ولقد أضاف بكتابه هذا إلى ذلك الفن الناشئ ثروة يعتد بها، ومن أقاصيصه التي راقتني بنوع خاص، الأخذ بالثأر، وخرساء البادية، والضريح الخاوي، والحقيقة أن كل ما يكتبه الأستاذ جاماتي في باب القصص جدير بالعناية والاهتمام.

رواد الشعر الحديث في مصر

تأليف مختار الوكيل

كتاب صغير يقع في نحو ثمانين صفحة افتتحه مؤلفه الفاضل بكلمة رشيدة في النقد الأدبي وشروطه وما يجب على الناقد، ثم بكلمة أخرى في الشعر وأغراضه ومظاهره في المدرستين القديمة والحديثة، وبعد ذلك ترجم لهؤلاء الشعراء الذين سماهم رواد الشعر الحديث في مصر وهم بحسب ترتيبه الأساتذة خليل مطران، وعبد الرحمن شكري، وأحمد زكي أبو شادي، وعباس محمود العقاد. ولقد أعجبني دقة المؤلف الشاب ونزاهته في بحثه، وحسن ذوقه في النقد، كما راقتني فطنته في تعرف مواضع الجمال أو القبح في شعر هؤلاء الشعراء، مما يجعل بحثه متفقاً تمام الاتفاق مع ما جاء في مقدمة كتابه من شروط النقد، ومما يجعل هذه الرسالة على صغرها جديرة بالقراءة في تمهل وإمعان.

الخفيف

ص: 83