الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 620
- بتاريخ: 21 - 05 - 1945
وزراؤنا والأدب
من القضايا التي صدقت في الماضي والحاضر، وفي الشرق والغرب، أن الأدب والفن لا يزدهران ولا ينتشران إلا في ظلال ملك أو وزير أو أمير.
وصدق هذه القضية جاءها من أن الأدب العالي والفن الرفيع لم يكونا من مطالب العامة في أي عهد؛ إنما يطلبهما عشاق المجد والحمد ممن بلغوا الغاية القصوى من بسطة الحياة وسطوة الملك فتشوقت نفوسهم وامتدت عيونهم إلى أبعد من ذلك.
يطلبهما الملوك وأشباههم من أولى الصدارة والإمارة لأنهما العطر الباقي في يد ابن آدم من الجنة؛ فمن لم يطلبهما لمتعة النفس وسعادة الروح، طلبهما لزينة الملك وجمال الأحدوثة، فالأدب والفن بمعناهما الأعلى أرستقراطيان لا يرفعهما إلا الرفيع، ولا يقدرهما إلا القادر. فإذا نزلا إلى الشعب ابتذلا فلا ينفعانه ولا يرفعانه. إنما الأدب والفن معنيان من معاني السماء يحملك النزوع إليهما على أن تطمح ببصرك إلى الفوق؛ ويدفعك الطمع فيهما إلى أن تطوح بنفسك إلى الأمام. ومن هنا كان الرجل إذا سمعت ملكاته بالعلم أو بالملك، ورقت مشاعره بالتربية أو بالمدنية، وجد نفسه في أفق الفن محفوظاً برجاله، مغموراً بجماله. فإذا كان صاحب السلطان من ذوي القرائح الفنانة كان جدواه على الأدب من جهتين: جهة الاقتداء به في الإقبال عليه، وجهة المكافأة منه على الإحسان فيه. والناس منذ كانوا على دين الملوك وهوى القادة. قال أسامة بن معقل:(كان السفاح راغباً في الخطب والرسائل يصطنع أهلها ويثيبهم عليها، فحفظت ألف رسالة وألف خطبة طلباً للحظوة عنده فنلتها. وكان المنصور بعده معنياً بالأسمار والأخبار وأيام العرب يدني أهلها ويجزيهم عليها، فلم يبق شيء من الأسمار والأخبار إلا حفظته طلباً للقربة منه فظفرت بها. وكان موسى مغرماً بالشعر يستخلص أهله، فما تركت بيتاً نادراً، ولا شعراً فاخراً، ولا نسيباً سائراً، إلا حفظته؛ وأعانني على ذلك طلب الهمة في علو الحال. ولم أر شيئاً أدعى إلى تعلم الآداب من رغبة الملوك في أهلها وصلاتهم عليها. ثم زهد هارون في هذه الأربعة فأنسيتها حتى كأني لم أحفظ منها شيئاً).
وكل أديب أو فنان أو عالم هو في ذلك أسامة بن معقل. وما النهضات الأدبية والعلمية في الأمم إلا وثبات للمجد الروحي في نفوس بعض الملوك. وفي تاريخنا الأدبي نستطيع أن نؤرخ النهضات فيه بتاريخ معاوية وعبد الملك في دمشق، والرشيد وابنه المأمون في
بغداد، وعبد الرحمن الناصر وابنه الحكم في قرطبة، والعزيز بالله وابنه الحاكم في القاهرة. وإن في قصور بني نويه في الرصافة، وبني حمدان في حلب، وبني عباد في إشبيلية، لمنازل للوحي تنبأ بالقريض فيها من تنبأ، وبعث برسالة العلم منها من أرسل. وإنك لتذكر الوزراء والأدباء من أمثال ابن العميد، والصاحب بن عباد، ويعقوب بن كلس، ولسان الدين بن الخطيب، والقاضي الفاضل، فتذكر مجالي بالأدب ناظرة، ومغاني بالعلم عامرة، ومجالس كانوا فيها شموساً تدور من حولها توابعها تستمد الحرارة وتمد، وتقتبس النور وتقتبس.
وكان للمجالس الأدبية والعلمية في عصرنا الذهبي نفحات من الإلهام أيقظت رواقد العبقرية في ألوف من الأذهان الخصبة والقرائح الموهوبة فازداد بهم الأدب والعلم ازدهاراً وابتكاراً وكثرة.
كان للرشيد مجلس للأدب بلغ لألاؤه أطراف الإمبراطورية الإسلامية فعشا على ضوئه صاغه القريض ورواته حتى ضاقت عليهم بغداد بما رحبت، فاضطر يحيى بن خالد إلى امتحانهم في الشعر وترتيبهم في الجوائز، ليخفف من زحمة الأدباء عن عاصمة الدنيا في ذلك الحين، وقد عهد بذلك الامتحان إلى شاعره أبان اللاحقي فقام به
وكان للمأمون مجلس للعلم يعقد في دار الخلافة أيام الثلاثاوات من كل شهر؛ فإذا أقبل الحكماء والفقهاء مدت الموائد وقيل لهم: (أصيبوا من الطعام والشراب ثم جددوا الوضوء. ومن كان خفه ضيقاً فلينزعه، ومن كانت قلنسوته ثقيلة فليضعها. فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فتبخروا، ثم خرجوا فدخلوا على المأمون فيدنيهم منهم خير إدناء، ويناظرهم أحسن مناظرة، حتى تزول الشمس فتصب الموائد ثانية فيطعمون وينصرفون.
وكان للصاحب بن عباد مجلس للشعر لا يغشاه إلا من حفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، ومع ذلك الشرط القاسي كان يجتمع على سماطه كل يوم ألف من رجالات الأدب والعلم والكلام. وبنى داراً فاجتمع له من قصائد التهنئة عليها ديوان شعر ضخم.
ونفق برذون لأديب من أدباء مجلسه فرثاه شعراء الحضرة بخمسين قصيدة. وقد ذكرت بذلك (مكسويني) حصان الدكتور محجوب ثابت، فإنه حين نفق من الهزال لم يظفر من شعراء مصر على كثرة ما ركبوه بالمزاح والهزل إلا بقصيدة واحدة لشوقي.
وكان للمعتضد عباد دار خاصة للشعراء ينزلونها على الرحب والسعة؛ فإذا جاء يوم الشعر وهو يوم الاثنين من كل أسبوع دخلوا عليه فلا يقابل غيرهم ولا يسمع إلا شعرهم. ولقد بلغ من عنايته بهم ورعايته لأدبهم أن جعل لهم رئيساً يرجعون إليه، ونظاماً يرتبون عليه، وسجلاً يحصون فيه.
ولو ذهبت أستقصي مجالس الأدب والعلم في عواصم العراق والشام ومصر والأندلس لاسترخى في يدي عنان القلم، وتشتت في ذهني سياق الموضوع.
تواردت على خاطري هذه المآثر العربية التاريخية وأنا أنعم لأول مرة بالحديث إلى صاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات؛ وكنت قبل هذا اللقاء قد عرفته بالسماع، والسماع بسري خلقه وسمو أدبه مستفيض، فلم يجرد ذكره على لسان أديب إلا روى عن مجالسه، ونوه بمواهبه، وحدث عن أياديه. وكنت أعلم أنه استن لنفسه سنة وزراء بني بويه، فاتخذ له بطانة من صفوة الشعراء الشباب يأنس إليهم في داره، ويشبل عليهم بجاهه، ويستعين بهم في عمله، ويجزل لهم من فضله. وهم يعلمون أن الأدب وحده هو الذي أحظاهم عنده، فلا يفتئون يتنافسون في تحصيله ويتفاضلون في تجويده. فلولا أن لهذا الوزير الشاعر طبعاً أصيلاً في الأدب استفادة من مناشئ فطرته وتقاليد أسرته، لما انبثق في حيلته العاملة ذلك النور السماوي الذي استحال أدباً في نفسه يتخلقه ويعمل به، وأدباً على لسانه يقول ويفتن فيه، وأدباً على سمعه يعيه ويشجع عليه
وللقطب إبراهيم الدسوقي باشا نظراء في الوزراء لم يجد الدهر بأمثالهم على دولة من دول العرب في وقت واحد منذ دالت الهاشمية في العراق، والأموية في الأندلس؛ نذكر منهم الباشوات أصحاب المعالي: لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرزاق، ونجيب الهلالي، ومكرم عبيد، وطه السباعي، وحفني محمود. ولكل وزير من هؤلاء الوزراء والأدباء طفاوة من ناشئة الأدب ومنشئيه، تتسع أو تضيق على حسب ما يبذل لها من نفسه، ويفيض عليها من نشاطه. وهم عسيون إذا هم استجابوا لملكة الأدب فيهم، وواجب العربية والعروبة عليهم، أن ينفخوا من رُوحهم ورَوْحهم في جذوة هذه النهضة الأدبية حتى تستمر وتنتشر فتصهر بقوتها الجامد، وتنعش بحرارتها الخامد، وتنير بأشعتها الطريق.
أحمد حسن الزيات
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 2 -
في جزء 5 ص23 أما إني لا أرضى من كرمة العد، أن تجر أولياؤه على شوك الرد
قلت: القول من رسالة لأحمد محمد الصخري. وقد ضبطت (العد) بفتح العين والدال، وإنما هي (العد) بكسر العين وبكسر الدال صفة لكرمه. والعد في الأصل (الماء الجاري الدائم الذي له مادة لا تنقطع كماء العين)، كما في التاج. والعد الكثرة في الشيء، والعد القديم من الركايا. وفي الأساس: ومن المستعار: حسب عد، قال الحطيئة:
أنت آل شماس بن لأْي وإنما
…
أتاهم بها الأحلام والحسب العد
في ج12 ص226
تصدر للتدريس كل مهوس
قلت: رويت (مهوس) بكسر الواو وإنما هي بفتحها.
في التاج: وهو مهوس كمعظم، وقد يطلق على الذي به الماليخوليا والوساوس وعلى من يشتغل بعلم الكيمياء، والعامة تستعمل الهوس بمعنى الأمل وهو من ذلك
في ج8 ص53 وهو القائل: (يعني الحسن بن إسحاق ابن أبي عباد اليمني النحوي):
لعمرك ما اللحن من شيمتي
…
ولا أنا من خطأ ألحن
ولكنني قد عرفت الأنا
…
م فخاطبت كلاً بما يحسن
قلت: ميم الأنام مع جماعتها في الصدر، وإقامتها في العجز تخل بوزنه. وفي المتقارب تجتمع العروض الصحيحة والمقبوضة والمحذوفة
في ج6 ص123 وقال (أسعد بن المهذب) فيه (في الثلج في حلب):
لما رأيت الثلج قد
…
غطى الوهاد والقنن
سألت: يا أهل حلبْ
…
هل تمطر السما اللبن؟
قلت: اليقين أن الأصل (سألت أهل حلبٍ)
في ج6 ص175 ويقول الشعر (يعني الصاحب بن عباد) وليس بزالٍ
وجاء في الشرح: أي ليس منحرفاً عن الصواب
قلت: وليس بمبتذل والشعر الضعيف إنما يوصف بالابتذال لا بالزلل
وفي ج5 ص56 حدتني المولى القاضي المفضل جمال الدين قال: دخلت إلى الصاحب أبي بشر وهو في مجلسه، فجلست إلى جانبه، فأنشدني متمثلاً:
إنك لا تشكو إلى مُصْمِتِ
…
فاصبر على الحمل الثقيل أو متِ
إشارة إلى أنه لم يشكه. قال أبو زياد الكلابي: ومثل من أمثال العرب: إنك لا تشكو إلى مصمت. والتصميت أن تقول المرأة إذا بكى صبيها الرضيع وهي مشغولة عنه لبعض صبيانها أو لزوجها: صَمِّتْ هذا الصبي. فيأتيه فيحضنه بيده حتى يسكت. . .
قلت: ضبطت (مصمت) في البيت وفي المثل بسكون الصاد وكسر الميم غير مشددة. وإنما هي بفتح الصاد وكسر الميم مع التشديد. وبيت الراجز يكسر بذلك الضبط، وفي اللسان والتاج:(صمت الرجل شكا إليه فنزع له من شكايته، قال: (إنك لا تشكو، البيت) ومن أمثالهم (إنك لا تشكو إلى مصمت) أي لا تشكو إلى من يعبأ بشكواك)
وما ذكره ياقوت في تفسيره طريف وإن لم يرد. . .
في ج6 ص18
أرى الناس خلان الكرام ولا أرى
…
بخيلاً له حتى الممات خليل
قلت: ضبطت (خلان) بكسر الخاء هنا وفي مواضع كثيرة في الكتاب، وهي بضمها. والبيت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي في مقطوعة أنشدها الرشيد، وختمها بقوله:
وكيف أخاف الفقر أو أُحرم الغنى
…
ورأي أمير المؤمنين جميل؟!
فقال الرشيد: لا تخف، إن شاء الله. ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها!
وأمر له بخمسين ألف درهم. فقال له إسحاق: وصفك والله (يا أمير المؤمنين) لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة؟ فضحك الرشيد، وقال: اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم. قال الأصمعي: فعلمت يومئذ إن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني
وقول الرشيد (لا تخف) هو رواية الأغاني. وما جاء في (إرشاد الأريب) هو (لأكفيك)
وقد جاء في الحاشية: هذه طريقة الكوفيين إذا أكدوا الفعل إذ يكتفون باللام بدون نون التوكيد، أما البصريون فيوجبون الجمع بين اللام والنون فيقولون:(لأكفينك)
قلت: رواية الأغاني أصح و (لا تخف) تجاوب (كيف أخاف؟)
في ج6 ص44 كان ابن الأعرابي يقول: إسحاق (والله) أحق بقول أبي تمام:
يرمي بأشباحنا إلى ملك
…
نأخذ من ماله ومن أدبه
ممن قد قيل فيه
قلت: ترمي بالتاء، وقبله:
لست من العيس أو أكفلها
…
وخداً يداوي المريض من وصبه
وفي هذه القصيدة:
والحظ يعطاه غير طالبه
…
ويخرز الدر غير مجتلبه
وهل يبالي إقضاض مضجعه
…
من راحة المكرمات في تعبه
في ج6 ص33 وقال (يعني الواثق لإسحاق الموصلي) ما هو الأفضل؟ أدب علم مدحه الأوائل، واشتهاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم، وكثر في حرم الله عز وجل ومهاجر رسوله صلى الله عليه وسلم
قلت: ما هو إلا فضل أدب وعلم
في ج6 ص290 ونص على يوم الوصول نجعله عيداً مشرفاً، ونتخذه موسماً ومعرفاً
وجاء في الشرح: المعرف والمعرف واحد المعارف وهي الوجه بما اشتمل عليه، يقال: امرأة حسنة المعارف، وفلان من المعارف أي من المعروفين، ومعارف الرجل أصحابه وأهل مودته كما هو شائع
قلت: نجعله عيداً مشرفاً، ونتخذه موسماً ومعرفاً
وعرف القوم - كما في اللسان - وقفوا بعرفة، وهو المعرف للموقف بعرفات. وفي النهاية: وفي حديث ابن عباس: ثم محلها إلى البيت العتيق، وذلك بعد المعرف يريد به الوقوف بعرفة، وهو التعريف أيضاً
في ج6 ص231 فهذا الضرب من الكلام يجب أن يفتخر بمثله ويترقق به؟
وفي الحاشية: يريد الافتخار، والترفق السخرية
قلت: لم أر الترقق بمعنى السخرية في مكان، وربما أراد القائل بالترفق التظرف والتزيين
في ج6 ص200 فليفرج روعك
قلت: ضبطت (فليفرج) بلفظ ما لم يسم فاعله وبالجيم.
وكلامهم في هذا المعنى (ليفرخ روعك، أي ليخرج عنك فزعك كما يخرج الفرخ عن البيضة)، كما في اللسان، وروى مثله التاج. وفرخ الروع وأفرخ ذهب الذهب
ومن أمثالهم (أفرخ روعك) قال الميداني: أفرخت البيضة إذا انفلقت عن الفرخ فخرج منها. يضرب لمن يدعى له أن يسكن روعه
في ج6 ص195
دببت الضر إلينا ومشيت الجمر علينا
قلت: دببت غير مضعفة وكذلك مشيت. والضر إنما هو (الضراء) في الصحاح: الضراء بالفتح الشجر الملتف في الوادي، وفلان يمشي الضراء إذا مشى مستخفياً فيما يوارى من الشجر، ويقال للرجل إذا ختل صاحبه هو يمشي له الضراء ويدب له الخمر
والخمر إنما هو (الخمر) في اللسان: الخمر كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره، ويقال للرجل إذا ختل صاحبه هو يدب له الضراء ويمشي له الخمر
في ج6 ص290
سقى الله دارات مررتَ بأرضها
…
فأدنتك نحوي يا زيادُ بن عامر
وفي ج7 ص144
أثابتُ بنُ سنان، دعوةٌ شهدت
…
لربها أنه ذو غلة أسِفُ
قلت: ضبطت (بن) بالضم في البيتين وإنما هي بالفتح، ولا يجوز الضم بوجه من الوجوه. و (زياد) و (ثابت) جائز في مثلهما الضم، والمختار الفتح، وفي شرح الكافية ج1 ص141: وقد ذهب بعضهم إلى وجوبه)
وفي شرح المفصل لابن يعيش: حق الصفة أن تتبع الموصوف الصفة. . . شبه سيبويه حركة الدال من زيد بحركة الراء من امرئ، وحركة النون من ابنم، فكما أن الراء من امرئ تابعة للهمزة، والنون من أبنم تابعة للميم، كذلك أتبعوا الدال من (يا زيد بن عمرو) النون من ابن، لأن الصفة والموصوف كالصلة والموصول، وانضاف إلى ذلك كثرة الاستعمال فقوي الاتحاد.
من سخافات الوضاعين
سورة النورين وكتاب دبستان مذاهب
للدكتور جواد علي
في كتاب فارسي طبع عدة طبعات في الهند وإيران سورة دعيت سورة النورين، زعم مؤلف الكتاب أنها من السور القرآنية التي لم يقبل الخليفة عثمان بن عفان درجها في القرآن الكريم. وقد نقل هذه السورة المستشرقون عن هذا الكتاب ومن أشهر هؤلاء المستشرق نولدكة في كتابه (تاريخ القرآن)
والكتاب خير مرجع لمن أراد البحث عن تاريخ الملل والنجل والمذاهب والأديان في الهند وإيران، وخاصة في القرن الثاني عشر للهجرة، أي في العصر الذي عاش فيه مؤلف هذا السفر. على أننا لا نعرف عن مؤلف الكتاب شيئاً؛ وكل ما نعرفه أنه عاش في مدينة (أكرا) الهندية وأنه ألف الكتاب بين سنتي 1064 و1067 للهجرة.
يستهل صاحب الكتاب كتابه بالبحث في عقائد الفرس عبدة النيران فيفصل فيه تفصيلاً وافياً ويجيد فيه إجادة تامة. ويتناول حياة (زردشت) على الأخص بالتفصيل ويدعوه (النبي زردشت) وبعد هذا البحث ينتقل إلى آراء أهل الهند ثم أهل التيبت، فيجيد في بحث الهند أيضاً، ويتناول بالبحث بعض الفرق الهندية التي لا يعرف عن آرائها إلا النزر اليسير. وهو في بحثه هذا أشبه الناس بالبيزوني أبي ريحان محمد ابن احمد (973 - 1048) الفيلسوف الرياضي الشهير وصاحب (تحقيق ملل الهند) من حيث الطريقة في البحث والحرية في عرض الحقائق والحياد في معالجة القضايا الدينية ومناهج البحث.
المؤلف على ما يظهر رواية لما يسمع، محدث لما يرى، جالس علماء الطوائف المختلفة وتكلم إلى رؤساء الشيع والمذاهب، فنقل ما سمعه نقلاً لا ندري مبلغ درجته من الصحة لجهلنا بمنزلة المؤلف ودرجته من الحق. أخذ معلوماته عن السنة من كتاب واحد هو (كتاب الملل والنحل) للعلامة الشهير أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ولعله استمد معلوماته عن بقية المذاهب الإسلامية من هذا الكتاب أيضاً؛ غير أنه لم يذهب مذهبه في التقسيم ولم يتوسع توسعه في المعرفة بل اقتصر على معلومات عامة وخاصة تناسب الهند والحالة السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الزمان.
واستمد معلوماته الشفهية عن أهل السنة والجماعة ممن اتصل بهم من العلماء أمثال (الملا عادل الكشغري التي التقى به في مدينة لاهور عام 1048 للهجرة، والملا محمد معصوم الكاشغري، والملا يعقوب الترفاني وأمثالهم. ويجعل المؤلف ديباجته عن أهل السنة والشيعة هذه العبارة (سمعت من ثقات أهل السنة رحمهم الله وقرأت في كتبهم وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل. تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة وستتفرق أمتي على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم ملة كلهن في النار إلا ملة واحدة. قالوا: (يا رسول الله من الملة الواحدة) قال: (ما أنا عليه وأصحابي)
ويقسم المؤلف أهل السنة والجماعة إلى أصناف ثلاثة: معتزلة وأشعرية ومجسمة. ويتفرغ لبحث المجسمة على الأخص. فيذكر بعض حججهم واستدلالاتهم مثل قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) و (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ومثل ما روى في الحديث (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن) و (خلق الله آدم على صورته). وقد أسهب في هذا الباب إسهاباً يلفت النظر، فالمعروف أن المشبهة أو المجسمة لم تكن إلا فئة قليلة بالنسبة إلى الأشعرية وهم غالبية السنة فلم كل هذا الإسهاب؟
وعد اليزيدية أو الأموية في عداد أهل السنة ومعلوماته عنهم لا تجلب إلى القارئ شيئاً جديداً، ولعل بعد مساكن اليزيدية عنه حال بينه وبين الكتابة كما يجب أن يكون.
أما الطائفة الثانية من الطوائف الإسلامية فهي الشيعة، ويستهل بحثه عن الشيعة بهذه العبارة:(سمعت من علماء الشيعة بأن الشيعة هم حزب علي بن أبي طالب القائلين بإمامته). ولم يذكر من طوائف الشيعة غير الإثني عشرية والإسماعيلية. ومرجعه عن الإثني عشرية رواية نفر من علماء الشيعة ممن كانوا يقيمون في مدينة لاهور. والظاهر أن الحديث معهم كان في عام 1053 للهجرة. وهؤلاء العلماء الذين تحدث إليهم مؤلف الكتاب ونقل عنهم هم (ملا معصوم ومحمد مؤمن توني وملا إبراهيم، ذكر أثناء حديثه عن الإثني عشرية بعض العلماء أمثال العلامة الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والشريف الرضي والمحدث الكليني صاحب (الكافي) وهو أشهر كتاب في الحديث لدى الشيعة الإثني عشري، والعلامة الحلي.
ويتكلم في موضوع انقسام الشيعة الإثني عشرية من حيث الفقه وأصوله إلى أصولية وهم غالبية الشيعة وجمهرتهم، وأخبارية وهم القائلون بالأخبار وبقوة الحديث تجاه الرأي وبترك الأخذ بالرأي والاجتهاد. ويستند في بحثه عن الأخبارية على كتاب (الفوائد المدنية للملا محمد أمين الإسترابادي أشهر علماء الإخبارية ولسان هذا المذهب ومنظمه).
وينتقل المؤلف إلى الغلاة من الشيعة وهم العلي اللهية الذين يؤلهون علياً. ومن رأى المؤلف أن رجال هذه الفرقة يضيفون إلى القرآن كل ما يجدونه من كلام الإمام علي، على أنه من كلام الله، فما دام القرآن هو كلام الله، وما دام الإمام علي هو الله بعينه فلم لا يجمع كلامه كله في صعيد واحد هو القرآن؟
وينفرد المؤلف بذكر فرقة إسلامية لم تعرف في كتاب آخر سماها (الصادقية) أو (المسيلمية) أتباع مسيلمة الذي يلقبه المسلون بلقب (مسيلمة الكذاب) ويدعي بأنه رأى هذه الفرقة في مشهد من أعمال خراسان عام 1053 للهجرة، وأنه شاهد عالم هذه النحلة (محمد قلي)؛ وقد أخبره هذا العالم على ما يدعيه مؤلف الكتاب بأن مسيلمة الذي يلقبه المسلمون زوراً بلقب الكذاب إن هو إلا نبي مرسل وشريك محمد رسول الله في الرسالة.
ولمسيلمة هذا كتاب سماوي يضاهي القرآن ويحاكيه على حد تعبير إمام هذا النحلة اسمه (الفاروق) لأنه يفرق بين الحق والباطل، وهو (الفاروق الثاني)؛ أما الفاروق الأول فهو (الفرقان) أو (القرآن). وقد جاءت في (فاروق) مسيلمة آخر أحكام الله ونواهيه، لذلك فهو خاتم الكتب السماوية، كما أن مسيلمة هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
ويزعم مؤلف الكتاب أن زعماء الصادقية يعرفون كتاب (الفاروق) ويحفظونه، وأن رئيسهم كان يحفظ هذا الكتاب المقدس، وأنه أخذه عن أجداه فأجداد أجداده إلى مسيلمة. وهو يفتخر بانتسابه إلى سلالة تشرفت بخدمة مسيلمة وقامت بواجب التعظيم لنبي مرسل ولكنه لم يذكر ولا آية واحدة من آيات هذا الفاروق على خلاف عادته في ميله إلى ذكر الغريب.
وتأخذ طرق (الصوفية) و (الإشراقية) و (الحكماء) حقلاً طويلاً من كتابه، فهو يبحث في فرقها حتى ينتهي الكتاب. ومن الطرق الغريبة طريقة (الواحدية) الذين يقولون بوحدة الجسد والروح. فهم في هذا على مثال القائلين بالطبيعة الواحدة في المسيح. ومؤسس هذه الطريقة هو (محمود) من قرية (مسجوان) إحدى قرى كيلان، وقد ظهرت دعوته عام 600
للهجرة.
ومحمود هذا على زعم (الواحدية) هو المقصود بقوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) وقد مزج أصحابه بين الفلسفة اليونانية وبين الصوفية الهندية الإيرانية، وبين علم النجوم وأحكام الدين حتى تولدت من هذا المزيج الغريب (غنوسطية) لا هي مسيحية ولا هي إسلامية ولا هي شرقية بحتة، بل هي وسط بين هذا وذاك أكملها علماؤهم على مر السنين، وتباينت كلما قدم العهد عليها، أمثال (درويش إسماعيل) و (ميرزا تقي) و (شيخ لطف الله) و (شيخ شهاب).
وللواحدية كتاب اسمه (الميزان) يتألف من رسائل فيها علوم الأولين والآخرين منذ يوم الخليقة إلى يوم يبعثون، فيها من المغيبات والنبوات وكل ما يحتاج إليه الإنسان. وأهم ما في هذا الكتاب هو أن دين العرب سيدوم ثمانية آلاف سنة لأن برجه (الثريا)، ثم ينطوي ذلك الدور ويأتي بعده دور العجم حيث يدوم نفس هذا المقدار.
وكانت للواحدية عصبة اتخذت لها مدينة (أصفهان) في إيران مقراً وكانت لها جماعة وأنصار، وقد زارها مؤلف الكتاب ووجد لها دعاة في تلك المدينة، ولكن الشاه عباس الصفوي أبن الشاخدابندة قضى على هذه الجماعة ونكل بها حتى لم تبق لها بقية على ما يراه مؤلف الكتاب.
لم يعرف عن مؤلف الكتاب شيء، وقد اجهد المستشرقون أنفسهم للتعرف على هذا المؤلف ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة حاسمة حتى الآن. وكان أول من عرف هذا الكتاب إلى الأوربيين هو المستشرق الفرنسي (ده تاسي) ثم ترجم إلى اللغة الإنكليزية، ترجمه المستشرق الإنكليزي (كلادوين) بعنوان ولم تكن ترجمته ترجمة صحيحة مضبوطة فأكملها (داود شي) ' ثم (أنطوان ترير)
وذهب المستشرقون إلى أن مؤلف الكتاب هو رجل يدعى (محسن فاني) لما جاء في مقدمة بعض الطبعات: (يقول محسن فاني) ولعله الشيخ محسن فاني الكشميري المتوفى عام 1082 للهجرة أو 1082. ولهذا الشيخ مؤلف اسمه (مصدر الآثار مثنوى) وهو شعر على طريقة المتصوفة كتبه سنة 1067 للهجرة. وتوجد نسخة منه في مكتبة إدارة الهند.
ولعل أهم ما لفت أنظار المستشرقين إلى هذا الكتاب هو وجود سورة سماها المؤلف (سورة
النورين) نزلت في الإمام علي وذريته من بعده. زعم أن الشيعة يعتقدون بأنها من السور القرآنية التي حذفها الخليفة عثمان بن عفان. وقد نشرت في المجلة الأسيوية ثم نشرت في كتاب (تاريخ القرآن).
ولا يذكر المؤلف اسم المصدر الذي استسقى منه هذه السورة، ولا الكتاب الذي اعتمد عليه. ولا الشخص الذي روي عنه سورة النورين. ولم أعثر حتى الآن على مصدر شيعي قديم أو حديث يعرف هذه السورة أو أشار إليها ولو إشارة بسيطة. ولو كانت هذه السورة موجودة حقاً لما تورع المؤلفون عن ذكرها والاستشهاد بها كما فعلوا في الاستشهاد بمواضع من آي الذكر الحكيم، وبالأحاديث المروية عن الرسول في تأييد وجهة نظرهم في إمامة الإمام. أما السورة المزعومة فهي هذه:
سورة النورين
بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين، أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم،. نوران بعضهما من بعض وأنا لسميع عليم. إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنات نعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا لوصى الرسول أولئك من يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة والرسل وجعل من المؤمنين. أولئك من خَلْقه يفعل الله ما يشاء لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. قد مكر الذين من قبلهم برُسلهم فأخذتهم بمكرهم إن أخذي شديد أليم. إن الله قد أهلك عاداً وثمود بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة فلا تتقون. وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون أغرقته ومن تبعه أجمعين ليكون لكم آية وإن أكثرهم فاسقون، إن الله يجمعهم يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون. إن الجحيم مأواهم وإن الله عليم حكيم. يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون. قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون. مَثَلُ الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم. إن الله لذو مغفرة وأجر عظيم، وإن علياً لمن المتقين. وإنا لنوفيه حقه يوم الدين، وما نحن عن ظلمه بغافلين. وكرمناه على أهلك أجمعين. وإنه وذريته لصابرون. وإن عدوهم إمام المجرمين. قل للذين كفروا بعد ما آمنوا طلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود بعد
توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون. يا أيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات بينات فيها من يتوفه مؤمناً ومن يتوله من بعدك يظهرون. فاعرض عنهم إنهم معرضون. إنا لهم محضرون في يوم لا يغني عنهم شيئاً ولا هم يرحمون. إن لهم في جهنم مقاماً عنه لا يعدلون. فسبح باسم ربك وكن من الساجدين. ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا عليهم فصبر جميل فجعلنا منهم القردة والخنازير ولعناهم إلى يوم يبعثون. فاصبر فسوف يُبلون. ولقد آتيناك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين. وجعلنا لك منهم وصياً لعلهم يرجعون. ومن يتول عن أمري فإني مرجعه فليتمتعوا بكفرهم قليلاً فلا تسأل عن الناكثين. يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهداً فخذه وكن من الشاكرين. إن علياً قانتاً بالليل ساجداً يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه، قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون. سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون. إنا بشرناك بذرية الصالحين. وإنهم لأمرنا لا يخلفون. فعليهم من صلاة ورحمة أحياء وأمواتاً ويوم يبعثون. وعلى الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي إنهم قوم سوء خاسرين. وعلى الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة وهم في الغرفات آمنون. والحمد لله رب العالمين آمين.
جواد علي
على هامش النقد:
مباحث عن التصوير الفني في القرآن
للأستاذ سيد قطب
كانت خطتي التي اعتزمتها أن أدع كتاب (التصوير الفني في القرآن) وشأنه مع القراء والنقاد، يصنعون كيف يشاؤون، بعد أن فرغ بيني وبينه كل حساب!
ولكن بعض الذين تفضلوا بالكتابة عنه قد أثاروا أسئلة ومباحث حول الموضوع ذاته، فلم تعد المسألة مسألة كتاب التصوير الفني ولكنها مسألة القرآن، وهي بهذا الوضع تصلح لحديث متصل، ولا يعد حديثي عنها عودة إلى كتاب بذاته. وهذا ما يبيح لي أن أخالف خطتي في هذه النقطة وحدها. وسأدع للقراء والنقاد كل ما يعن لهم خاصاً بتقدير كتابي دون اعتراض عليه، ولن أناقشهم إلا فيما يتناول الموضوع ذاته، وهو ملك لي كما هو ملك لهم بطبيعة الحال!
وجه إلي الأستاذ نجيب محفوظ سؤالاً، ولاحظ على فصل من فصول الكتاب ملاحظة قال:
(فأما السؤال فإنك تحدثت عن التصوير والتخييل والتجسيم والتنسيق الفني، وكل أولئك روح الشعر ولبابه قبل أي شيء آخر. أفلم يخطر لك أن تحدد نوع كلام القرآن على ضوء بحثك هذا؟)
وأنا احسبني قد أجبت على مثل هذا السؤال حينما قلت في صفحة 83 من الكتاب وما بعدها من الفقرات.
(جاء في القرآن الكريم: (وما عَّلمناه الشِّعرَ - وما ينبغي له - إنْ هو إلا ذكْرٌ وقرآنٌ مُبين).
(وجاء فيه حكاية عن كفار العرب: (بل افتراهُ. بل هو شاعر).
(وصدق القرآن الكريم، فليس هذا النسق شعراً. ولكن العرب كذلك لم يكونوا مجانين يوم قالوا عن هذا النسق العالي: إنه شعر!
(لقد راع خيالهم بما فيه من تصوير بارع، وسحر وجدانهم بما فيه من منطق ساحر، وأخذ أسماعهم بما فيه من إيقاع جميل. وتلك خصائص الشعر الأساسية، إذا نحن أغفلنا القافية والتفاعيل.
(على أن النسق القرآني قد جمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً. فقد اعفي التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة. وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل؛ والتقفية المتقاربة التي تغنى عن القوافي؛ وضم ذلك كله إلى الخصائص التي ذكرنا، فشأى النثر والنظم جميعاً).
هو إذن ليس شعراً وإن أخذ من الشعر خصائصه الفنية فهو نثر. ولكن النثر الذي يرتقي فيه التناسق الفني آفاقاً وراء آفاق على النحو الذي أوضحته في فصل (التناسق الفني) وقلت إن به تقويم هذا الكتاب وهي آفاق لم تبلغ في القديم والحديث بلا ارتياب.
ثم قال:
(وأما الملاحظة فعن الفصل الذي خصصته للنماذج الإنسانية، فقد وجدت فيما استشهدت به من آيات ما يعبر عن طبائع بشرية وسجايا نفسية لا نماذج إنسانية، فالنموذج الإنساني بمعناه العلمي شيء أشمل من هذا، وقد يحوي الكثير من هذه الطبائع كما قد يحوي غيرها. والمهم أنه يعرضها على نحو خاص يتفق ومزاجه الأساسي. والنماذج الإنسانية محدودة معروفة - على اختلاف تقسيم علماء النفس لها - أما الطبائع فلا حصر لها. فلعلك قصدت الطبائع لا النماذج).
وأحسب كذلك أن اختيار كلمة (نماذج) أقرب إلى ما يفهم من طبيعة التعبير القرآني حين يقول مثلاً: (ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة) أو حين يقول: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخِصام وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل). . . فقوله: (ومن الناس) يعني: وفريق من الناس. أو وصنف من الناس. أو ونموذج من الناس. . . على السواء.
على أن كل إنسان تغلب عليه (طبيعة إنسانية) معينة، حتى تصبح سمة له يعرف بها وتدل عليه، إنما يصبح (نموذجاً) إذا كان عنواناً لطائفة من هؤلاء الذين غلبت عليهم هذه الطبيعة بعينها (فالمكابرة) طبيعة والمكابر (نموذج) مثل (المقامر) و (البخيل) و (العبيط) وأمثالها من الصور الإنسانية التي أبدعتها أقلام الفنانين، وعرفت في عالم الأدب باسم (النماذج)
وعلى هذا المدلول. ومنها معظم (النماذج الإنسانية) التي يرسمها التعبير القرآني في بعض كلمات أو فقرات.
وكتب الأستاذ عبد المنعم خلاف كلمة مطولة ضمنها ملاحظتين أساسيتين على مباحث الكتاب:
فأما أولاهما فخاصة بالتصوير في القرآن وفيها يقول:
(غير أنني أخشى أن يكون قد أفلتت لفظة أو أثنتان من قلم المؤلف في أهم فصل من فصول الكتاب خرجت بهما فكرته الأساسية التي عنونه بها في جو من المبالغة والتعميم. ذلك أن يقرر في الفصل الذي أنشئ من أجله الكتاب أن (التصوير هو الأداة (المفضلة) في أسلوب القرآن) وأن إدراكه وسيلة إلى (إدراكنا (سر الإعجاز) في تعبير القرآن))
(فإننا لا نستطيع أن نتجاوز عن إطلاق كلمة (المفضلة) ولا عن إطلاق (سر الإعجاز) لأن الحكم بتفضيل القرآن للتصوير كأداة في التعبير يقتضي الاعتماد على (الإحصاء) وظهور نتيجة بكثرة عددية. فهل إذا أحصينا طرق التعبير في القرآن نجد ما قرره يحظى بالكثرة العددية؟)
وجوابي للأستاذ عبد المنعم هو (نعم) وقد كانت مهمتي هي هذا (الإحصاء) وكان حكمي قائماً على هذا (الإحصاء) وقد عبرت عم ذلك في فصل (لقد وجدت القرآن) حين قلت:
(لقد بدأت البحث ومرجعي الأول فيه هو المصحف، لأجمع الصور الفنية في القرآن، وأستعرضها، وأبين طريقة التصوير فيها، والتناسق الفني في إخراجها إذ كان همي كله موجهاً إلى الجانب الفني الخالص، دون التعرض للمباحث الدينية أو سواها من مباحث القرآن المطروقة.
(ولكن ماذا أرى؟
(أن حقيقة جديدة تبرز لي. إن الصورة في القرآن ليست جزءاً منه يختلف عن سائره. إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل. القاعدة الأساسية المتبعة في جميع الأغراض - فيما عدا غرض التشريع بطبيعة الحال - فليست البحث إذن عن صور تجمع وترتب. ولكن من قاعدة تكشف وتبرز.
(ذلك توفيق. لم أكن أتطلع إليه حتى التقيت به)
ولقد كنت أعني ما أقول، وأرتكن فيه إلى الدليل.
والأستاذ عبد المنعم يخشى (إدراك سر الإعجاز) لأننا نستطيع في اليوم الذي تصل فيه إلى إدراك سر الإعجاز في تعبير القرآن أن نستخدمه في صنع كلام معجز، وحينئذ لا يكون معجزاً ما دام مفتاحه بأيدينا وفي طوق صنعتنا)
ولست أرى داعياً لهده الخشية لأن المسافة بين إدراك سر الإعجاز في العمل الفني خاصة، وبين صنع الكلام المعجز ذاته مسافة متطاولة. وليست هذه على كل حال بمانعة للباحثين من محاولة إدراك هذا السر قدر ما يستطيعون، وترك ما لا يدركونه للغيب المجهول.
على أنني أحب أن أصحح شيئاً في الموضوع، فإن قولي (أدركنا سر الإعجاز في تصوير القرآن) جاء في معرض آخر يجعل له اتجاهاً آخر. إنه جاء هكذا بعد بيان ما في تصوير القرآن من إيداع يرتفع فوق ما تستطيعه الريشة المصورة والعدسة الشخصية:
(فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المروي، إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور ولا شخوص تعبر. أدركنا سر الإعجاز في تعبير القرآن)
وما من شك أن قيام الألفاظ وحدها بوظيفة أرقى من وظيفة الريشة والعدسة في مجاله الخاص نوع من الإعجاز، وحين ندركه مطرداً إنما ندرك (سر الإعجاز) بمقدار ما يستطيع إدراكنا الإنساني وهو المعنى في هذه الحال.
وأما الملاحظة الثانية فعن (المنطق الوجداني في القرآن) وقد أدار عليها الأستاذ عبد المنعم معظم المقال. ومما جاء عنها هذه الفقرات:
(فليس الموطن الأول لهذه العقيدة هو الوجدان - منطقة الانفعال والاستلام أو الثورة - بل موطنها ذلك (البرق) الذهبي أو العقلي الذي ينتج (حكما) يرسله إلى الوجدان، فينفعل له ويتقبله و (يعقده) في طويته ويستلم له ويسير حياته على مقتضاه.
(هذا البرق الذي ينتج (الحكم) يستمد حيثيات أحكامه من انطباعات الصور الثابتة للكون في النفس ومن الانفعالات الداخلية بهذه الصور)
ثم يقول:
(فالقول بأن منطقة الدين هي الوجدان وحده قول غير إسلامي أخذه المسلمون المحدثون
عن المفكرين غير المسلمين الذين لم يعرفوا الأساس الأول للإسلام والدين عامة)
فماذا قلت أنا في كتابي مما بني عليه الأستاذ عبد المنعم هذه الأحكام؟
لقد قلت:
(كانت وظيفة القرآن إذن إن ينشئ هذه العقيدة الخالصة المجردة (عقيدة التوحيد). وموطن العقيدة الخالد هو الضمير والوجدان - موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها - وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس. وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة، وليس هو على أية حال أوسع ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً)
إلى أن قلت:
(فالذهن الإنساني خليق بأن يدع للمجهول حصته، وأن يحسب له حسابه. لا يدعو إلى هذا مجرد القداسة الدينية، ولكن يدعوا إليه اتساع الآفاق النفسية وتنفتح منافذ المعرفة. (فالمعقول) في عالم الذهن و (المحسوس) في تجارب العلم، ليساهما كل (المعروف) في عالم النفس. وما الفكر الإنساني - لا الذهن وحده - إلا كوة من كوي النفس الكثيرة. ولن يغلق إنسان على نفسه هذه المنافذ، إلا وفي نفسه ضيق، وفي قواه انحسار، لا يصلح بهما للحلم في هذه الشئون الكبار).
ثم قلت:
(لقد عمد القرآن دائماً إلى لمس البداهة وإيقاظ الإحساس، لينفذ منهما مباشرة إلى البصيرة، ويتخطاهما إلى الوجدان. وكانت مادته هي المشاهد المحسوسة، والحوادث المنظورة، أو المشاهد الشخصية، والمصائر المصورة. كما كانت مادته هي (الحقائق) البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة، وتدركها الفطرة المستقيمة).
فأين فيما قلت: (إن منطقة الدين هي الوجدان وحده) في الوقت الذي أقول فيه: (وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة). . . كل ما يفهم من مجموعة ما قلت أنني لا أريد أن أكل هذه المهمة الضخمة لهذا الذهن الإنساني المحدود (وحده)، وفيها ما يتصل بالغيب المجهول.
ثم أعتقد أنني كنت دقيقاً في التعبير وأنا أذكر (الحقائق البديهية الخالدة) بل وأنا أذكر
(المنطق الوجداني) والمنطق لا بد له من مقدمات ونتائج وليس هو مجرد (الانفعال) كما فهمه الأستاذ. وكل ما في الأمر أنها مقدمات ونتائج من نوع خاص يعتمد على الصور المحسوسة والمشاهد المنظورة كما يعتمد على الحقائق البديهية الكونية، ولم يكن بد من تسميته كذلك وضعاً له في مقابل (المنطق الذهني) الذي اتبعه (علماء الكلام) وهو غير المنطق القرآني بلا جدال.
وكتب كاتب - أو كاتبة - في جريدة الأهرام (أن هذا الكتاب (محاولة) للبحث في جمال القرآن سبقتها اتجاهات في الجامعة)
وللكتابة على هذا النحو أسباب خاصة ليس من شأني الحديث عنها كما أن وصف هذا العمل بأنه (محاولة) مسألة داخلة في دائرة (التقدير) المتروكة للقراء.
إنما يعنيني هنا الحقيقة التاريخية. . . إنني بدأت هذا البحث ونشرت فصولا منه بعنوان (التصوير الفني في القرآن) في المقتطف عام 1938 ثم أخرجته كتاباً في هذا العام فأين هي البحوث الجامعية في هذا الاتجاه.
إن كان الغرض هو البحث في جمال القرآن فهذا بحث قديم قديم؛ وإن كان الغرض هو البحث على نحو خاص غير مسبوق، فالواقع ينطق بأن ما كتب في الأهرام لا يطابق الحقيقة. والسلام.
سيد قطب
صفحة من تاريخ الاستكشاف:
فيتوس بيرنج
للأستاذ محمود عزت عرفه
بطرس الأكبر بين حربين
شهدت أخريات القرن الخامس عشر خرستوف كولمبس يضرب في أرجاء المحيط الأطلنطي غرباً، على آمل أن يبلغ الهند من طرفها الشرقي فيثبت صحة النظرية التي آمن بها من استدارة الأرض. وكان بسبيل أن يحقق نظريته هذه لولا أن اعترضته أمريكا بهيكلها العظيم، فبقيت نظريته معلقة - بل وقابلة للجدل! - حتى قدَّر لماجلان أن يثبتها عملياً برحلته المشهورة فيما بين عامي 1519 و1522م.
ومن ثم تابعت الرحلات في كل متجه، وعرف الناس عن أمريكا الشيء الكثير، حتى وافت أيام بطرس الأكبر - عاهل روسيا وسليل أسرة رومانوف - فحاكت بصدره مشكلة آلي على نفسه أن يضع لها حلا. . . مشكلة عاضلة يتعلق بها مستقبل بلاده، ويتوقف عليها مجدها وعظمتها واستقرار شعبها هادئاً - مدى أجيال - في حدود إمبراطوريته التي تباعدت أطرافها. . .
وكان بطرس قد شنَّ على السويد حرباً ضروساً انتهت بعقد معاهدة نيستاد في أغسطس من عام 1721؛ وبها ضم إلى بلاده دويلات من البلطيق أمَّن بها حدودها وعزز ركنها في اتجاه الغرب فراح بعد ذلك يتلفت إلى الشرق. . . إلى أطراف سيبريا المطلة على محيط مجهول يتكنفه الظلام والضباب.
ورأى بثاقب فكرة أن لا بد من النفوذ إلى أعماق هذه المواضع قبل أن تسد السبيل عليه فيها دولة مستعمرة، فيقف منها أمام (سويد) أخرى تقتضيه حرباً لا يعلم إلا الله نتيجتها.
. . . ألا ماذا في نهاية الطرف الشمالي الشرقي من آسيا؟. .
. . . أهي ممتدة شمالاً إلى مدى غير معلوم،. . . أم ثمة انفصال تبدأ عنده أمريكا من حيث ينتهي العالم القديم؟
سؤال تقدم به بطرس إلى الطبيعة نفسها لا إلى عدو أو صديق من البشر، ومعضلة ينبغي أن يحلها رحالة مستكشف لا قائد محارب. وللطبيعة سر لا تسلمه إلا لمن ينتصر عليها؛ والانتصار على الطبيعة غير المحدودة ولا المتناهية. . . الطبيعة ذات الأسرار الرهيبة والمفاجآت المربكة والقوى المحتشدة الكامنة التي تعصف بقوى الإنسان قبل أن يشعر بمجرد وجودها، فضلا عن أن ينهض إلى خصومتها - الانتصار على هذه الطبيعة - وتلك صفاتها - غير الانتصار على كتيبة من جند السويد، أو نشر شباك مكيدة حول تركيا، أو انتهاز فرصة اضطراب داخلي في بولندا. . .
وكان بطرس ممن يحسنون تخير الرجال. فليس يزكي التاريخ (فيتوس بيرنج) بأكثر من أن يسجل أن بطرس قد انتقاه لمهمة خطيرة كانت شغله الشاغل وهو يجود بآخر أنفاس من حياته. . . مهمة مات بطرس - كنحوينا المعروف - وفي نفسه منها شيء!
وكان بيرنج من أبناء دنمركة. ولد في هورستنز عام 1680، وتقلب في أحضان البحر منذ صباه فنشأ بحاراً بالسليقة إن صحت العبارة. . .
وقد زار المحيطين الأطلسي والهادي قبل أن يلتحق - وهو في الثالثة والعشرين من عمره - بالأسطول الروسي الحديث الذي أقام دعائمه بطرس الأكبر. واشترك بيرنج في الحرب البحرية ضد السويد فأبلى البلاء الحسن، وكان من اثر ذلك أن قرر القيصر إيفاده على رأس البعث الذي أعده لكشف مجاهل شرقي آسيا وما يكتنفه من مياه. ولم يحل دون ذلك ما كان من مرض بطرس (الذي انتهى بموته)، ولا ما حدث من اضطراب في الأحوال الاقتصادية على آخر عهده.
ولقد كانت تلك في الواقع أعجب رحلة كشفية يشهدها العالم، منذ أن قام الفينيقيون في عهد فرعون مصر (نخاو) بطوافهم المشهور حول القارة الأفريقية.
عبر مجاهل سيبريا
كانت أرض روسيا خلواً من المسالك والطرق؛ وسيبريا التي تشغل شطرها الشرقي حتى المحيط لا تعدو أن تكون سهوبا مقفرة شديدة الإيحاش يسيطر عليها شتاء قاس رهيب لا تتبلج في دهمته إلا غزر أيام من الصيف ضئيلات قصار.
وكان على بيرنج أن يقود بعثته مدى ألف ميل خلال هذه الأصقاع الموحشة حتى يبلغ
المحيط فيبدأ أعماله الاستكشافية؛ وكان عليه أيضاً - إذا قُدر له أن يبلغ المحيط ناجياً - مهمةُ ابتناء السفن اللازمة لهذه الرحلة الخطرة. وإن من نكد الدنيا حقا أن ينوء هذا الرحالة الجريء بعبء ستة عشر عاماً من الجهاد المضني، قبل أن يتاح له تقديم جواب صحيح عن ذلك السؤال المعجز لبطرس الأكبر. ثم هو لا يفرغ من ذلك إلا ليفارق حياته مبتئساً عليلاً فوق جزيرة نائية، بعد معاناة خطوب فوادح وأهوال جسام. . .
غادر بيرنج مدينة بطرسبرج في فبراير عام 1725م على رأس خمسمائة من الرجال ما بين بحار وقين وكاتب ونجار وصانع شراع، وكان معهم ثمانمائة دابة حمولة تقل ما يحتاجون إليه من الميرة والذخيرة؛ وقد ارتفقوا بسائر ما يلزمهم عدا نفسها، إذ كانت مادتها الخشبية وقتذاك لا تزال جذوعاً ضخمة تغتذي وتنمو على الشاطئ الشمالي الشرقي من آسيا، في انتظار أن يأتي القوم فيقتطعوها ويصوغوا منها مطاياهم إلى البحر.
وكان على الركب الحاشد أن يقطع جبالاً شوامخ، وأن يصنع لدى كل معبر نهرٍ زوارق وأطوافاً يجتاز عليها من شاطئ إلى شاطئ، ثم يخلفها وراءه تنعى من شادها. وقد قضى البعث شتاءه الأول في أيْلمسْك الواقعة على مدى ثلاثمائة ميل تقريباً شمالي إركُستك وما كاد يتبلج وجه الربيع حتى تابعوا مسيرهم خلال مستنقعات وغابات ومجار من الماء عميقة وجبال وعرة المسالك أدت بهم إلى بلوغ ياكتسك على نهر لينا؛ وهناك ألجأتهم ضرورة النقل ومشقاته إلى أن ينقسموا أقساماً: فمضى فريق على رأسه سبانجبرج في أسطول صغير من الأطواف عبر المسالك المائية المنحدرة شرقاً، وتقدم بيرنج بطريق البر ومعه الجياد ومائتان من الرجال. . في حين تبعهما الفريق الثالث عن كثب.
وبعد رحيل شاق مضنِ استغرق سبعة أسابيع وصل بيرنج إلى أوخُتْسك حيث اقتطع رجاله ما يلزمهم من الخشب لإنشاء السفن وتشييد أرباض الشتاء. .
أما سبانجبرج فقد قطع عليه البرد طريقة، ونفقت ركائبه بفعل الجليد وانخفاض درجة الحرارة إلى السبعين تحت الصفر. ولم يتصل بيرنج إلا بعد انقضاء عامين فقد خلالهما ثمانية عشر من رجاله.
وكان بيرنج قد أنجز في هذه الفترة تشييد أولى سفائنه (ذي فرشونا) وانتقل فيها مع رجاله وذخائره ومعداته إلى بُولْثِرِ تْسْك: في شبه جزيرة كامتشاتكا. وهناك أنشأ سفينته الثانية
(جبرائيل)، فأستنفذ بذلك ثلاث سنوات وخمسة شهور في عمل مضنِ وكفاح متواصل قبل أن يتهيأ له القيام بمهمته الرئيسية. . . وهي التقصَّي عن خبر آسيا ومبتدأ أمريكا. .
هذه آسيا. . . فأين أمريكا؟
في العاشر من يوليو سنة 1728 أبحر بيرنج من كامتشاتكا ميمماً صوب الشمال؛ والتقى في إحدى الجزائر المأهولة بمن أفضى إليه من سكانها بحقائق نفعته. فقد علم أن الساحل الأسيوي بعد امتداده نحو الشمال قليلاً ينحرف إلى الغرب. وبذلك تمثلت لديه أول فكرة عن انقطاع آسيا في هذا الموضع واحتمال قيام أمريكا بإزائها. ومر بيرنج أثناء ذلك بجزيرة كبيرة أسماها سنت لورنس، احتفاء بذكرى القديس الذي اكتشفها يوم عيده. وفي السادس والعشرين من أغسطس طاف حول رأس (إيست كيب) الواقع في أقصى الطرف الشمالي الشرقي من آسيا؛ وتحقق لديه يومئذ أن اليابسة تنحرف نحو الشمال الغربي، فتتبع ساحل آسيا الشمالي إلى مدى ستمائة ميل غرباً حتى بلغ خليج تشْوان: وعرف أن آسيا تنتهي حقيقة في هذا الموضع، لكنه لم يعثر بعد على القارة المزعومة التي قيل إنها تواجه آسيا عبر المحيط، والتي يحتمل أن تكون أمريكا نفسها. ولا ذبيرنج بسواحل كامتشاتكا طوال أشهر الشتاء، ثم انطلق يبحث عن أمريكا في ربيع عام 1729 متجهاً صوب الشرق. ولما أعجزه الوقوع على طلبته كر أدراجه عائداً إلى بطرسبرج؛ وهناك قص حديث مغامرته العجيب فأثار ضده عاصفة قوية من السخرية والتكذيب. . . عاصفة أنسته بشدتها ما قاس من عواصف سيبريا، وهونت لديه ما لقي من قواصف المحيط. .
وكانت القصيرة كترينها التي خلفت بطرس الأكبر على عرش روسيا لا تقل عن سلفها طموحاً في الغاية ولا جرأة في العمل؛ وقد اثر في نفسها ما لقيته مساعي بيرنج من إنكار وجمود وأعجبها من الرجل شهامته ونبل سلوكه، فأبت أن تقطع الألسنة الحداد اللائى سلقنه إلا بمزيد من تكريمه وتوكيد الثقة به؛ وعهدت إليه برياسة بعث آخر أخطر من سابقه شاناً. . .
(البقية في العدد المقبل)
محمود عزت عرفه
الأدب العصري
في الجنوب الغربي لشبه جزيرة العرب
للدكتور ر. ب سار جنت
تمهيد
ليس في أنحاء العالم العربي جزء يعرف عنه الناطقون بالضاد أقل مما يعرفون عن الزاوية التي في الجنوب الغربي لجزيرة العرب إذا استثنينا منها عمان. وفضلاً عن ذلك ليس في تلك المنطقة ما هو أقل معرفة لجيرانه من بلاد اليمن، على الرغم من وقوعها في الطريق العام للعالم، وعلى الرغم من تاريخها الطويل في ميدان الحضارة. يقول ابن خلدون:(وتبقى الصنائع طويلاً في البلاد المتحضرة. فهي هناك تتجدد دائماً، وخصوصاً ما تمتاز به اليمن (كنسيج الوشي، والعصب، ونسيج الثياب والملابس الحريرية إلى غير ذلك مما وصل إلى درجة الإتقان).
وليس من الصعب أن نشرح السبب الذي من اجله كنا على جهل بهذه البلاد؛ فقد ظلت بلاد اليمن وحضرموت قرناً ونصف قرن وهما في اضطراب وفوضى لم يقض عليهما إلا منذ نيف وعشرة أعوام مضت. وكانت الحكومات القائمة في ذلك العهد لا ترضى أن تأخذ على عاتقها مسئولية السماح للأجانب بالسفر في البلاد أو بالكشف عن أسرارها. وكان يؤيد ذلك الخطر مناعة البلاد بجبالها الشاهقة التي في (اليمن الخضراء)؛ لهذه الأسباب لم يتسن للرحالة، أو التجار، أن يتعمقوا في جنوبي بلاد العرب، منذ البعثة الدنمركية لنيبوهر، ومنذ الأيام التي كان فيها للبريطانيين والفرنسيين مصانع في مخا تشغيل في تجارة البن.
على أن الأحوال قد تغيرت في السنوات الأخيرة، فاستطاع كل من العرب والأوربيين أن يزوروا اليمن، ومحمية عدن، وحضرموت. وبين كتاب العرب في تلك البلاد عبد المحسن الذي ظهرت كتاباته قبل الحرب الماضية، ومنذ ذلك التاريخ ظهر الريحاني، ونزيه المؤيد العظم، ثم أحدثهم جميعاً الدكتور حزين. وكان من ثمرة الاتصال السياسي بين اليمن من جهة، ومصر والعراق من جهة أخرى أن اليمن استجلبت منهما خبراء، في العلوم الهندسية في الغالب، كما أن اليمن أوفدت عدداً من طلابها إلى القاهرة وإلى بغداد. كذلك التحق
بخدمة إمام اليمن عدد من السوريين والأتراك، وعند عودتهم إلى بلادهم أفضوا بتصريحات إلى رجال الصحافة الذين كانوا يتطلعون لأخبار اليمن. ورغبة في ري ظمأ العالم المفكر عن أخبار اليمن، استخرج من بين طيات المخطوطات الأب أنستاس ماري الكرملي كتاب (بلوغ المرام) للعرشي ونشره (طبعة مصر سنة 1939) وهو يصل بتاريخ اليمن إلى سنة 1900. على أن القسم الخلاب في ذلك الكتاب هو الفصل الممتع الذي كتبه نيافة الأب بقلمه عن الدولة الحديثة، معتمداً فيه على الكتابات والجرائد المعاصرة. ومع ذلك فإن القارئ يسترعيه لأول وهلة رجوع الأب أنستاس، في كثير من المواضع، إلى مؤلفات الجغرافية في القرون الوسطى؛ فالمعلومات التي جمعها ابن حوقل، أو المقدسي، أو ياقوت ما زالت تقتبس سداً للنقص الذي في المعلومات الحديثة عن اليمن، على حين أن الحمداني - وهو دائرة معارف عن جنوبي بلاد العرب - ذو نفع لنا لا يقدر. وقد أخرج نيافة الأب أنستاس الجزء الثامن من كتابه (الأكليل) مطبوعاً شافياً. ولم يفتأ رجال الأدب يعلنون حزبهم على فقد الأجزاء الضائعة من ذلك السفر، غير أنه ينبغي لنا ألا نفترض ضياعها لمن سيأتون بعدنا، فإن الريحاني يقرر أن الإمام عنده نسخة كاملة للكتاب في مكتبته بصنعاء، وهي مكتبة يقال إنها إحدى كبريات المعاهد التي من هذا القبيل في الجزيرة العربية، ولو أن هناك كذلك مجموعات فاخرة من الكتب في حوزة أمراء حضر موت. والحق أنه يجدر بنا أن نؤمل أملاً غير ضائع في أن كثيراً من الكتب المأثورة، التي لم يصل إلينا علمها إلا من كتاب (الفهرست) أو كتاب (كشف الظنون)، ربما كشف عنها البحث في جنوبي الجزيرة العربية. ويشغل بجمع هذه المخطوطات في اليمن سيف الإسلام عبد الله المشهور بولعه بشئون التربية. وقد سمعت من يخبرني بأن مصاحف بالخط الكوفي القديم كانت لا تزال تستعمل في القرى النائية حتى عهد غير بعيد. وربما أحل انتشار المطبوعات مصاحف مطبوعة محل تلك المخطوطات، فاليمن اليوم تتطور تطوراً ربما كان أعظم من أي تطور شاهدته من خلال عدة قرون مضت.
أنواع الأدب القديم السائدة في الجنوب الغربي لجزيرة العرب
يجنح الأدب في الجنوب الغربي العرب، بصفة عامة، إلى أنواع ملموسة ما تزال واضحة في كتابات العصر الحاضر، وخاصة فيما يتعلق بأغراض الأدب أو موضوعات الكتابة.
وأقدم الكتب التي خلفها كتاب هذه البلاد في الماضي هي في الغالب دواوين شعر هو في كثير من الأحيان شعر ديني ذو نزعة صوفية. وقد قام لويس شيخو بدراسة فيها شيء من التفصيل للشعراء النصارى القدامى في تلك المنطقة. وأشهر المنظومات غير الدينية، وأصلحها تمثيلاً لغيرها، هي (القصيدة الحميرية) لنشوان بن سعيد، وفيها يتحدث الشاعر عن افتخاره بالتراث الموروث في العلم والعزة والسلطان. ومن ذلك قوله:
وملوك حمير، ألف ملك، اصبحوا
…
في الترب رهن صفائح وضراح
آثارهم في الأرض تخبرنا بهم،
…
والكتب من سير تقص صحاح
أنسابهم فيها تبين، وذكرهم
…
في الطيب مثل العنبر الفياح
ملكوا المشارق والمغارب، واحتووا
…
ما بين أنقرة ونجد الجاح
ملت ثمود وعادا الأولى معاً
…
منهم ملوك لم تكن بشجاح
وكان للمؤلفات التاريخية دائماً ازدهار وخاصة في العصر الرسولي حينما كانت زبيد مركزاً لحركة أدبية منتعشة. ونكاد نكون في غنى عن التنويه بأمثال هؤلاء المؤلفين أو هذه الكتب: عمار الخزرجي، والجندي ثم تواريخ صنعاء والغز. وكان من الطبيعي، في بلاد تقوم فيها الحياة على نظم القبائل، أن يشغل علم الأنساب بال المؤلفين، وقد كتب فيه السلطان الملك الأفضل، كما أن هناك مجلداً ضخماً عن تاريخ الأولياء وطبقات الفقهاء في بلاد اليمن، إلى جانب سير الصحابة والمدائح النبوية.
ذلك إلى أننا نجد كثيراً من الكتب الزيدية بأقلام أتباع المذهب الخامس كما يسمى الزيدية مذهبهم، كما نجد كمية عظيمة من الكتب الفقهية الشافعية، وتنقسم البلاد جغرافياً إلى قسمين: اليمن الأعلى واليمن الأسفل، ويتبع الانقسام المذهبي ذلك الانقسام الجغرافي على وجه التقريب. ويمكن أن تسمي صنعاء الحاضرة الثقافية للزيدية، على حين أن زبيد، وتريم وغيرهما من المدن الجنوبية ذات المعاهد العلمية التي أنشأها أو أحياها الأمراء الرسوليون، ما زالت مراكز لفته المذهب الشافعي.
ومن أنصع الأدلة على أهمية البلاد من حيث هي مركز ثقافي في العصور الوسطى أن السلطان الملك الأشرف دعا العالم اللغوي الشهير الفيروز ابادي للإقامة هناك في نهاية القرن الثامن الهجري، ثم عينه بعد ذلك قاضياً للقضاة. ومعظم الكتب التي ألفت في
العصور الوسطى، من طراز كتاب (شمس العلوم) لنشوان الحميري، هي نتاج لدراسة سنية صحيحة وإن كانت خالية من الابتكار. وعلى ذكر هذا الكتاب نقول: إن إمام اليمن كان يأمل أن ينشره بجميع أجزائه، بل إنه رغب في الأمر المرحوم الملك فؤاد، وقد عين وقت للنشر، بل إنه صدر إعلان عن ذلك النشر، ولكن وا حسرتاه، لم يظهر الكتاب حتى الآن. ويمكننا أن نقول بصفة عامة إنه يبدو إن اليمن في العصور الوسطى، على الرغم من الطابع الخاص الذي امتازت به مؤلفاتها، لم تتمخض عن حركات أدبية مبتكرة أو ذات نباهة عظيمة. ولعل خير ما يوضح لنا اتجاه الناس نحو العلم، من حيث هو إجلال واحتفاظ للمعلومات، هو البيت الآتي الذي قاله شاعر مغمور وأنشدنيه أحد أصدقائي:
العلم يعلى بيوتاً لا أساس لها
…
والجهل يدني بيوت العز والشرف
وبما أن اليمن اليوم بلاد ما زالت إلى حد كبير في العصور الوسطى، تتحرك الهوينى نحو الحياة العصرية السائدة في سائر العالم، لم يكن هناك بد من أننا نجد ما ينشر فيها اليوم من الكتب يشبه كثيراً في طابعة تلك الكتب التي أخرجتها في العصور الوسطى.
الطباعة والمطبوعات في اليمن
في صنعاء اليوم مطبعتان، إحداهما في القصر الملكي المسمى (مقام الإمام) أو (المقام الشريف). وهي هناك منذ العهد التركي، وكانت تستعمل في طبع الجريدة (صنعاء) التي سنتحدث عنها فيما بعد. ومع أن هذه المطبعة كانت على ما يظهر تطبع بعض الكتب الصغيرة في الحين بعد الحين، ليس لدينا بيان عن مبلغ ما أخرجته من المطبوعات. والمطبعة الأخرى ملك لإدارة المعارف. وفي خلال العشرين سنة الماضية طبعت هاتان المطبعتان عدداً محدوداً من الكتب، ربما لا يتجاوز الثلاثين عداً؛ ومن المرجح أن قليلاً من تلك الكتب خرج خارج البلاد نفسها. وتدل موضوعات تلك الكتب على مبلغ اشتغال الناس بالشئون الدينية، مما تمتاز به المنطقة الجنوبية لجزيرة العرب، وتشجعه حكومة إمام اليمن. وتشتمل الكتب المطبوعة هناك على بحوث قرآنية، ورسائل في مذهب الزيدية، والفقه، والحديث وما إلى ذلك، وهي في الغالب طبعات لكتب قديمة من كتب المؤلفين السابقين.
وفي العلوم المدنية شغلت إدارة المعارف نفسها بجمع مواد لإخراج كتاب في تاريخ اليمن يمكن استخدامه في المدارس كتاباً مدرسياً. وقبل إعلان هذه الحرب كان تحت الطبع كتاب
في تاريخ الإمام يحيى. وقد بلغ من ارتباط الأسرة الزيدية المالكة ببلاد اليمن وما جرى لها، سواء في طول المدة أو وثاقة الصلة، ما جعل هذين الكتابين على شاكلتهما ضرباً من الدعاية للأسرة الحاكمة. ومن المرجح أن ذلك سيساعد على خلق روح القومية في البلاد. ومما يشغل بال حكام اليمن اليوم التربية والكتب المدرسية، وهي مشكلة من المحتمل أن تزداد إلحاحاً على مرور الأيام. فأطفال المدارس الأولية مثلاً قلما يستعملون كتباً مطبوعة، وإن كانت مدارس صنعاء تستعمل إلى حد ما كتاب (القاعدة البغدادية) لعيسى البابي الحلبي، كما أن لدى إدارة المعارف مجموعة صغيرة من المطبوعات المدرسية. وفي (المدرسة العلمية) يكاد الطلاب لا يستعملون سوى المخطوطات التي ينسخونها بأنفسهم. وطبع كتاب في قواعد اللغة أو علم النحو، وكذلك كتاب مؤلف في القرن العاشر اسمه (كتاب العلماء والمتعلمين) وهو يبحث في آداب المعلمين والطلاب، ويبحث هذا الكتاب كذلك في طريقة الخط ونسخ المخطوطات. وحسبنا في أنه رؤى أن هذا الكتاب يستأهل الطبع دليلاً على نوع التربية التي ما زالت سائدة هناك، فإن البلاد التي أخذت بنصيب أوفر في التقدم لا ترى في مثل هذا الكتاب ما يزيد كثيراً على قيمته التاريخية من حيث هو أثر من الآثار. وبانقطاع علماء اليمن عن الاتصال المباشر بسائر البلاد العربية، بعوامل البيئة الجغرافية والاعتبارات المذهبية، أصبحوا على غير شاكلة العلماء في البلاد الأخرى.
على أن مطبعتي صنعاء أخرجتا عدة كتب فيها روح جديدة، فهناك كتابان في الفنون الحربية، وكتاب في الزراعة. وقد ظهر الكتابان الحربيان في سنتي 1341 و1351هـ. وأسم أولهما (كتاب التربية العسكرية)، ومؤلفه هو حسن تحسين باشا، وهو رجل سوري كان في وقت من الأوقات قائداً للجيش الهاشمي. وبين سنتي 1931 و1933م كان هذا الضابط في اليمن يعيد تنظيم جيش الإمام، والقواعد التي وضعها في هذا الكتاب تدل على درجة أعلى في تنظيم الجيش مما هو قائم الآن، ولكنها تؤمل مجيء وقت تتحسن فيه الإدارة الحربية.
أما كتاب (رسالة في فن زراعة الأشجار المثمرة) فكان من تأليف أحمد واصف بك، المستشار الزراعي في الحقبة التي في سنتي 1935 و1936م. ويعالج الكتاب، كما يدل
عليه عنوانه، موضوع زراعة الفواكه واستخدام الوسائل الزراعية. وكان الأتراك في مدة احتلالهم لليمن قد قاموا بتجارب متقطعة في إدخال محاصيل جديدة في البلاد، وقد احتذى البيت المالك حذوهم في القيام بتجارب أخرى من جانبه، وعلى الأخص في زراعة القطن. ولا شك أننا سنرى في المستقبل الكثير من هذه المطبوعات الفنية والعلمية.
ومن المعلوم أن كثيراً من المؤلفات القيمة بأقلام بعض اليمنيين قد ظهرت في القاهرة حيث تقطن جالية يمنية. ومن بين هذه المطبوعات الكتب الثلاثة التي ألفها عبد الواسع، والتي تناول فيها التاريخ والجغرافية والشئون العامة التي تشوق القارئ. ونحن نؤمل أن يأتي اليوم الذي يستطيع فيه هؤلاء المؤلفون اليمنيون أن ينشروا مؤلفاتهم في وطنهم. وسنرى أن معظم المؤلفات التي تنشر اليوم عن الجنوب الغربي لجزيرة العرب إنما تنشر في مصر، أو الهند، أو جزائر الهند الشرقية.
عدن وطلائع الحركة الحديثة
تختلف عدن اختلافاً عظيماً عن اليمن وعزلتها الجذابة التي خلفتها في القرون الوسطى، بما فيها من الجو العلمي الذي يستمد من مائة سنة كانت فيها عدن على اتصال مباشر بالبلاد الأوربية، وبمصر، والهند؛ وبمدارسها الثانوية للبنين والبنات؛ ويعلم في مدارس البنين معلمون من البلاد العربية الأخرى كسورية، وأحياناً من الهند؛ وبالعدد المتزايد الذي ترسله من أبنائها إلى جامعات القاهرة وبغداد. ويطالع الأهالي الجرائد المصرية الشهيرة، بل إنني كثيراً ما رأيت كذلك روايات مصرية في أيدي المتعلمين في المدارس الثانوية من آهل عدن. ومما لا شك فيه أن الجالية السورية المؤلفة من مستوردي المنسوجات والتجار تستورد كذلك الجرائد السورية، وما نعهده في السوريين وميلهم للاشتغال بالصحافة يدعو إلى الظن بأنه في يوم من الأيام قد يقوم أحد السوريين بنشر جريدة في عدن. وليس هناك مفر من أن الصحافة تنتعش في مثل ذلك الجو، وتصدر جريدة (فتاة الجزيرة) منذ أواخر سنة 1939. وكان في عدن قبل سنة 1914 ثلاث مطابع، وكانت إحداهما في السجن وربما كانت تقتصر على طبع المطبوعات الحكومية. وليس من المعروف مدى ما نشرته المطبعتان الأخريان من الكتب العربية، ولم أستطع أن اعثر على أي مطبوع عربي صادر عنهما. على أنه قبل الحرب الحاضرة أخرجت مطبعة الهلال في بازار بهرة - وهي تطبع
بكل من اللغتين العربية والإنكليزية - مجموعة شعرية وصلت إلى يدي، وهي ديوان لأغاني لحج على أوزان بحور الشعر القديمة والبحور المولدة، من نظم لأمير فضل بن علي. وقد أعيد طبع هذا الديوان في مطبعة فتاة الجزيرة؛ وقد طبعت هذه المطبعة أيضاً رسالة في إباحة العود والرباب لنفس المؤلف المذكور. ولعل القراء يذكرون أن الموسيقى محظورة في اليمن إذا استثنينا جوقات الموسيقى الحربية، وهذا الكتيب ينادي بنظرة تسامحيه في شأن الموسيقى.
وقد نشر محرر فتاة الجزيرة عدة كتيبات أخرى شائقة، على أن عدداً منها - كما هو الشأن في مطبوعات مطبعة صنعاء - يتناول التاريخ، والبحوث الدينية، وسير الصالحين، ككتاب (سلالة قحطان)، تأليف محمد سعيد الأصبحي. وأهم ما نشر من الوجهة الصحافية هو سلسلة مقالات كتبها أعضاء النادي المعروف باسم (أقلام المخيم)، وهي مقالات تتناول موضوعات شتى، مثل الكشافة، والمذياع (فإن عدن لها محطتها الإذاعية الخاصة (صوت الجزيرة) وهي كذلك تنشر صفحة عن إذاعتها)، وحياة صيادي السمك على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب؛ وكل هذه المباحثات كتبت بأسلوب نقدي علمي. وقد أخبرني محرر فتاة الجزيرة، في رسالة بعث إلي بها حديثاً، أن هناك كثيراً من اليمنيين في عدن يرغبون في نشر كتب ألفوها، وفي هذا دليل على مبلغ العناية التي ينالها الأدب في هذه المنطقة من العالم العربي. ولا يسعنا إلا أن ننوه بعناية الجالية الهندية المسلمة في عدن بالأدب العربي، ولا سيما عبد الله يعقوب خان الذي هو حجة في تاريخ ثغر عدن، والذي نشر كتباً عن جغرافيته وأمثاله. وقد ورد ذكر الهنود بالثغر قبل زمن أبي مخرمة الذي يشير في كتابه (تاريخ ثغر عدن) عدة مرات إلى نشاطهم التجاري.
وخليق بالقراء الذين أخذوا من الحضارة بنصيب أوفى، من أهل مصر وسورية اللتين مضى على قيام النهضة العربية فيهما عهد طويل - خليق بهؤلاء القراء ألا ينقدوا هذه المطبوعات نقداً حديثاً على وفق المقاييس العالمية للإنتاج الأدبي السائد في بلادهم؛ بل عليهم أن يعدوها نواة الإنتاج الأدبي الذي تقدمه بلاد الجنوب. الغربي لجزيرة العرب إلى الثقافة العربية. ولنتذكر أن جمعيات المناظرة التي من طراز (نادي المخيم) كانت ذات أثر فعال في القرن الماضي في قيام النهضة الثقافية العربية في سورية؛ ونحن نرى اليوم في
عدن عوامل التقدم هذه تخلف آثارها.
(البقية في العدد القادم)
عن مجلة الأدب والفن الإنجليزية
حول مقال للأستاذ الطنطاوي
الموسيقى والأغاني الحديثة
للأديب سهيل إدريس
. . . وأخيراً. . . عاد الأستاذ الطنطاوي إلى روض الأدب، بعد أن انقطع عن ارتياده حيناً من الزمن طويلاً، حسبنا معه أنه هجرة إلى غير عودة، وذهب بنا الظن (أن الحرفة قد طغت عليه) فصرفته عن الأدب. . . أما وقد رجع، فنرجو أن يواصل المسير، وأن يتبع الركب، فلا ريب أنه قد تخلَّف عنه، ولعله لا يفوَّته بَعْدُ!. . .
أقول هذا بعد أن قرأت مقال أستاذنا الطنطاوي (الذي حبَّب إلينا هذا البلاء الذي نعتز به والذي يدعونه الأدب فبتنا من طلابه. . .) عن الموسيقى القديمة والموسيقى الحديثة، وعمَّا تبعثه الأولى في نفسه من سحر وفتنة، والثانية من اشمئزاز وبغضاء لها ولرجالها. ثم يقول (فلئن كان العلم عالمياً لا جنس له ولا وطن، فالفن لعمر الفن ما كان عالمياً ولن يكون. حاولوا أن تطربوا الإفرنج بغنائكم؛ إنكم لن تطربوا ولا تطربون أنتم لغنائهم، ولكن منا من يستشعر قوتهم وضعفاً، فيخادع نفسه رياء وتقليداً. . .) ويتابع الأستاذ مخاطباً الموسيقى في بلادنا (ألم تدركوا أن أذواق الناس لا تنشرح إلا للشرق الأصيل. . . ما لنا وللجندول وأهل الجندول، ما لنا ولأنغام الإفرنج التي لا طعم لها في حلوقتا؟)
أما أن يدعي الأستاذ أن العلم وحده عالمي، وليس الفن كذلك فهذا بِدْعٌ من القول، بل الحقيقة أن الفن أكثر عالمية من العلم لأنه أقرب إلى نفوس الجميع، وأدنى إلى التذوق والفهم، وابلغ تأثيراً في الإحساس، من العلم. وللقطعة الفنية الرائعة جمال ورونق في كل عين، واثر إعجاب في كل نفس وإن روائع الفن الغربي، لقطعاً قد يكون إعجاب الشرقي بها متعدَّياً إعجاب الغربي، سواء كان ذلك في الموسيقى أو الرسم أو النحت أو غير ذلك من الفنون؛ وكذلك القول في الفن الشرقي بالنسبة إلى الغربيين وأعفى نفسه من التمثيل لذلك. فإن هذا الأمر من البداهة بحيث لا يفتقر إلى إيماء، بَلْهَ تشريح وتمثيل! وإنما نعجب بفن الغربيين، ويعجبون هم ببعض فننا لأن الفن عالمي، هذا مالا شك فيه.
ثم كيف يزعم الأستاذ الطنطاوي أننا لا نطرب لغناء الإفرنج، وأننا (لن) نطربهم بغنائنا؟ هل تجد اليوم شاباً في جميع بلدان الشرق الأوسط لا يحفظ من الأغاني الغربية هذه
الأغاني ' ، من الذي لا يهوي سماع السمفونيات والتانجوات وغيرها؟ ومن منا لا يطرب اليوم للموسيقى الغربية؟ ومن منا لا يحب بتهوفن وباخ؟ وهل للقطع الموسيقية التي يحفظها الشرقيون من الغرب عد أو حصر؟ ليست القضية قضية موسيقى غربية أو شرقية، وإنما قضية موسيقى تؤثر في النفس وتلمس أوتار القلوب؛ وفي الشرق والغرب من هذه الموسيقى الشيء الكثير! أما أنا لن نطرب الإفرنج بغنائنا، فليس ذلك عائداً إلى أن غناءنا - ولا سيما الحديث منه - ليس بالغناء الجميل، وإنما لتقصير وسائل بث هذا الغناء وتنشره والدعاية له في أوربا، كما يفعل الغربيون بفنونهم. ولكن الأمر الذي يظلُّ موضع النظر، هو الأغاني (المحلية) البحت، التي لا يستسيغها عادة إلا أقوام وعشائر معينة لا يمثلون أمة بكاملها أو شعباً بكامله. والواقع يدل اليوم على أن هذه الأغاني ليس لها من الشيوع مثل ما للأغاني غير المحلية. وقليلون هم الذين يؤثرون الأولى على الأخرى. وهذا راجع - في اعتقادنا - إلى أن الأغاني المحلية تتصف بالرتابة والترديد الباعث على الملل، وإلى أن لها (جوها) الخاص، وأن ليس لها نفس الحلاوة والجمال في جو غيره. وقد يكون من الصحيح أن الأغاني المحلية ستندثر يوماً ما بداعي التطور.
وظاهر من مقال الأستاذ الطنطاوي أته يؤثر هذا اللون من الغناء على غيره. فهي إذن هواية خاصة لا تبرر له أن يُعرَّى ألوان الغناء الأخرى من القيمة أو من الجمال. وما دام الأستاذ قد ذكر الجندول في معرض الإنكار أو الكراهية، فلا بأس هنا من أن نساجله القول؛ فليس من ريب في أن فن الأستاذ عبد الوهاب قد سجل تحولا جديداً في الموسيقى العربية الحديثة يوم غنى الجندول من تلحينه، ولا اذكر أن أحداً من رجال الفن أو الأدب أو السياسة أو حتى الفلسفة. . . وقف من هذه الأغنية الموقف الذي يقفه الأستاذ الطنطاوي اليوم! ولو أنه استشهد بغيرها من أغاني المطرب المعروف لكان الخطب أيسر! ذلك أن هذه الأغنية أروع ما انشد عبد الوهاب، ولن تتماسك أمامه أية أغنية من أغانيه أو أغاني غيره في معرض المقارنة. ذلك أنه بلغ غاية التوفيق في تلحينها: في اقتباس بعض مادتها من موسيقى الإفرنج وإضفاء الروح الشرقية الحالمة على ألفاظها ومعانيها. ولو أنه اجتزأ بأحد هذين العنصرين فحسب، لعرّيت الجندول من قسط كبير من روعتها.
وقصارى ما أود قوله في هذا المضمار - ولو أني أعتمد فقط على تذوقي للموسيقى دون
أن أكون من رجالها - أن تلقيح الأنغام العربية بالموسيقى الأوربية يرفع من شأن موسيقانا الحديثة إلى حد بعيد. فحسبنا من تلك الأدوار القديمة التي بليت، وكفانا ذلك الترديد والرتيب الممل للكلمات بل للأحرف، وقد شبعنا كلُّ الشبع من أدوار صالح عبد الحي وعزيز عثمان وعبد الله الخولي وإضرابهم!. . .
ويظهر أن الموسيقيين المصريين قد أدركوا في المدة الأخيرة أن التقيُّد بالقديم من الألحان مؤخر النهضة الفنية، وصارفٌ الجيل الجديد عن القديم، فإذا هم يعمدون إلى ألحان يستحدثونها أو يقبسونها من الأنغام الأوربية، فيسيرون في هذا المضار شوطاً بعيداً. ولا سبيل اليوم لأحد أن ينكر أن الهواة وغير الهواة من المستمتعين يؤثرون ألحان عبد الوهاب على غيره من الموسيقيين القدماء. ونحن في الحق نعتمد - في نهضتنا الموسيقية الحاضرة - على عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي ومن بعدهم على فريد غصن، وفريد الأطرش، وعبد العزيز محمود، وغيرهم كثير.
وإن الدعوة التي يدعو إليها الأستاذ الطنطاوي لدعوة مضرة بالموسيقى والغناء الحديث إن هي اتبعت، ونخالها لن تتبع. هذا وإن الغناء الحديث قد أرتقي - في اعتقادنا - ارتقاء كبيراً بالنسبة للغناء القديم، إذ أنه خلا من الترديد والتمطيط، فليس اليوم من مغن يسلخ خمس دقائق في أداء (آه. . .) تتبعه الجوقة فينقلب الغناء إلى جو من النعيب! كما أن الغناء الحديث أصبح أرشق أداء وارق لفظاً وأحياء روحاً من الغناء القديم، وإني أرى فيما اتهم به الأستاذ الطنطاوي المطربين المحدثين - جميعاً!. . . - شيئاً من التعسف. وإليه على كل حال تحيتي الصادقة والسلام.
(بيروت)
سهيل إدريس
نشيد الزورق
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
(ربان هذا الزورق شاعر عاش في دنياه طويلاً، بين الماء
والسماء، ويوشك أن يعيش في دنيا الناس بعد أن رسا زورقه
وركدت من تحته الأمواج).
رسّا زوْرقي وطويتُ الشراعا
…
وكفَّنْت فيه الندَّى والشُّعاعا
وعدتُ إلى شاطئ ساخراً
…
أردُّ اللَّياليَ مَرَّتْ سِراعا
هنا كان لي سامرٌ. . . أين وَّلي؛
…
هُنا كان لي أملٌ. . . أين ضاعا
ذوَي أمَلي في رَبيع المنى
…
وما خِلتُ يا (أملي) أنْ تراعا
فقدتُكَ يا (أملي) جَدْولاً
…
تدفَّقَ لحناً بسمْعي مُشَاعا
ترفُّ على جانبيْكَ المنى
…
فَتَاءً يفيضُ هوىً واندفاعاً
عرفْتُ المنى شاعراً ملهما
…
وخلفْنَنِي لا أجيدُ السمَّاعا
أكادُ اشوَّه هذا النشيدَ
…
وأنكرُ في أصَبعيَّ اليرَاعا
رسَاَ زورقي فوق صخرٍ رهيبِ
…
يطالعُ سرَّ الزمَانِ العجيبِ
نَعتْ فجرَهُ نَسماتُ الضُّحى
…
ولفُّ الصباحَ شعاعُ الغروب
سَرى فوق أمواجِه العاتياتِ
…
بهَدْىِ النبيِّ وخطْوِ المريب
تُولْوِلُ في جانبيْهِ الرَّياحُ
…
مُقذَّفَةً مِنْ وراءِ الغُيُوب
مضَى الزَّمن الحلو فوق العبُابِ
…
ولاذَ الغريبُ بشطٍ غريبِ
فلَا طائرِي غردِ بالنّشيدِ
…
ولَا زورقي آهلٌ بالحبيب
فيا ليلةً جمعتْنَا هُنَا
…
على زورقي، هل لنا أن تؤوبي؟
ويا زورقي آن أنْ نستريحَ
…
فلا الخمرُ خمرِي، ولا الكوب كوبي
رسَاَ زورقي وصحَا الحالمُ
…
وثابَ إلى رُشْدِه الآثُم
وغادَرَ حانته مثْلمَا
…
يغادِرُ مخدعَه النائم
وودع قيثارة مثْلما
…
يودّعُ ريشتَه الرَّاسم
وألقى بها قبل عزفِ النشيدِ
…
فنامَ بها الوترُ الناغم
وسَلْسَل فيها نشيدَ السماء
…
سَنًى خاطفٌ وندىً ساجم
فيا شاعراً عافَ قيثاره
…
فزورقُه موحِش سَاهم
لقد كان يُلهمُ أوتارَها
…
وينطقها روحه الهائم
أيلْهُو بزورقهِ بعدها
…
أَما شاقه عهدها الناعم؟
رسا زورقي، هلْ رَسَا واطمأنَّا؟
…
وقد هَدأَ الليلُ طيراً وغصناً
وداعبَه الموجُ في الضَّفتْينِ
…
وسَبَّح في الشطَّ ناياً ولحناً
أيَحْيا هُنا خشباً جامداً
…
وقد عاش بالأمس روحاً وفناً!
لقدْ هادنتْهُ رياحُ العَشىَّ
…
فهل ستظلُّ سلاماً وأمنا؟
أقامَ هُنا كالطَّريد السليم
…
وضَمَّ إليه الطريدَ المعنَّى
طريدانِ سَارا النهارَ الطويل
…
إلى أن مَضَى نورُه واستنكنا
فخافا ضلالَ الطريق البعيدِ
…
وناما بليلهما حينَ جنا. . .
فمنْ لَكَ يا زورقي ها هنا؟
…
وقد سكن الكون حسَّا ومعنى؛
رسا زورقي غارقاً في الظَّلامِ
…
وقد شَردَ النجمُ فوقَ الغمام
ونامتْ على الشطَّ أمواجُه
…
فأقفرَ من رُوحِها المستهام
أتغْفُو وقد شاقَهُ صحوُها
…
أمَا سئمتْ طولَ هذا المقام؟
أما شاقَها زورقي سابحاً
…
فتجرْي به سبحةً للأمام؟
لقدْ أوشَكَ الليلُ أن ينجلي
…
وتهتفَ أطيارُه بالنَّيام
دعِ اللْيلَ يا زورقي
…
وجدِّف على موجةٍ من هيامي
بدا النَّورُ في الأفق فاسبح له
…
فإني سئمت حياة الظلام
ظمْئتُ إلى الفجِر يا زورقي
…
أما آن لي أن أندَّى أُوامي؟
رسا زورقي عند فجرٍ سَنىَّ
…
فصافحه بالشُّعاعِ النَّدىِّ
وأَطْلقَ صدَّاحَهُ هاتفاً
…
يُرحِّبُ بالزورق العبقريِّ
فحوَّمَ مُستلْهماً سرَّة
…
ورفْرفَ فوق الجبين الوَضِيّ
هُنَا شاعرٌ سابحٌ في رؤًى
…
مجنّحة في خيالٍ سرىّ
تَوسّدَ زورقَه مضجعاً
…
وأغْفَى على صدْره كالصَّبيّ
فأيقظَهُ الطيرُ من حُلْمِهِ
…
وغَنَّاهُ لَحنْ النشيد الشجيّ
وأجْفَلَ من نايهِ عاطلاً
…
كما يُجْفِلُ النور عند العَشِيّ
غدا زورقي هاهنا معبداً
…
يَضُمَّ حُطامَ، الشهَّيد الوفيّ
رسا زورقي بعد عصف الرياح
…
وهبَّت عليه سَمُومُ الصباح
وعادَ إلى عُشَّةِ طائري
…
صريع الأماني، ذليل الجناح
شَدَا في الغصون فأنكرْنَه
…
وقد كانَ ملْء الجواء الفساح
جَفَا الروضُ شادية العبقريَّ
…
وماتَتْ أغانيه بين الأقاحي
حَنانَيْك يا طائري لا ترَعْ
…
جراحُك يا طائري من جراحي
لئِنْ بَرمتْ بك تلك الغصونُ
…
فعش بين تلك الربُّا والبطاح
فَلمْ يعد الزهرُ ملكَ الطيور
…
ولا وارفُ الظلِّ بالمستباح
سَراحك؛ حسبُك أن يطلقوه
…
متى يطلقون الغداة سراحي؟!
رسا زورقي في الصَّباح الحزين
…
فألقيْتُ مِجْدافه من يميني
وغبتُ عن الكون في رحلةٍ
…
ترامي بها الوهمُ فوْق السنين
فمن عالم من بناء الزمانِ
…
إلى عالم من بناء الظنون
سئمتُ خِداع التُّراب المهين
…
فخلقْتُ فوق سَماء اليقين
عوالمها أطلقْتني سجيناً
…
فواعجبَا للطليق السجين!!!
على قمة الدهر باتتْ قُيودي
…
ممزقةً كالهشيم الدفين
وما راعني غيرُ تهويمةٍ
…
تطِلُّ مع الصبح خلف الدُّجون
تَلفَّتُ أبحثُ عَنْ زورقي
…
فألْفيتُ مِجْدافَه في يميني
رسا زورقي في انبثاق الضُّحى
…
وأوْمأ للظَّل أنْ يَسرحا
وللشَّمس في الأفق أن تَعتلي
…
وللطير في الروضِ أن يصدحا
وللغصنِ أن يرتوي بالنَّدى
…
وللعُشِّ في الغصن أن ينزحا
وللروض أن يستفزَّ الطيورَ
…
وللجدول الثرِّ أن يمرحا
وللزّهر أن ينفح الحالينَ
…
وللطَّيف في الحُلْمِ أن يسنحا
بدا الكونُ يا زورقي فاتناً
…
كما شئتَ، هل آن أن تفرحا؟
أطلتَ الوقوف هناُ مستكيناً
…
وقد كان دأْبُك أن تجْمجا
جرى الموجُ يركضُ في شطِّه
…
فيا زورقي آن أن تسبحا
أحمد عبد المجيد الغزالي
لقاء.
. .
للأستاذ إدوار حنا سعد
ترفق فقد هزت كياني وخاطري
…
عواطف من فرح بلقياك غامر
أأنت أم الأطياف في موكب المنى
…
لقد كدت من سحر أكذب ناظري
تعايت دموعي في نواك على الأسى
…
فكيف استجابت للسرور المباكر
نعيم سماويّ الَجنى لم تطف به
…
خوافق أْحلامي وطير خواطري
ولو كنت في الأحلام شاهدت صفوه
…
لما جن في صدري هتاف البشائر
فقد تنقص الأحلام من فرحه اللقاء
…
إذا هي أبدتها بشتى المظاهر
طلعت كواحات الأماني ليائس
…
وكالأمن في واد عصوف المقادر
وكالضفة الخضراء لاحت لطائر
…
لهيف الظما دامي الجناح مسافر
وكالمجد ألقي للطموح عناية
…
سنىّ المجاني لؤلؤي الأزاهر
وكالبرء للعاني الثرى. . وكالنوم للذي
…
يؤرقه ركب الطيوف العوابر
وكالعيد للطفل الثرى. . وكالسنا
…
لسارٍ. . وكالطفل الجنين لعاقر
فأوشك أن يطغى سروري وأن أرى
…
هتوفاً بأفراحي العذارى الزواهر
لكي يعلم الحساد أية نعمة
…
تشوفها أمسى وضاءت بحاضري
توالي خفوق القلب يلقاك ثائراً
…
كطبل زنوج الغاب في عيد ساحر
تراقب عيني فيك أحور فاتناً
…
وتسمع أذني منك ترتيل شاعر
وألثم في مغناك شتى فواكه
…
وأنشق من رياك عطر مجامر
لقد حسدت بعض الجوارح بعضها
…
على رغم ودٍ تالد وأواصر
قسمتُ حظوظاً بينها فأثرتها
…
شواجر أطماع بدت لشواجر
الإسكندرية
إدوار حنا سعد
البريد الأدبي
إلى الأستاذ حبيب الزحلاوي
قرأت في عدد الرسالة 617 كلمة موجهة إليك بتوقيع شريف القبج الدكتور في الفلسفة، وأنا حاملَ هذا الاسم وذلك اللقب أبرأ إلى الله مما جاء في هذه الكلمة الرقيقة، ولست آسف كثيراً على هذا المجهول الذي نزع كلمة من هنا وكلمة من هناك ووقف على منبر في الخفاء ليعطي الإرشادات الفنية بشكل رسالة للفن السامي، ويخاف من نشاط الغرائز غير المهذبة في الإنسان، ويخشى أن يستعمل الأديب في النقد مبضعه بلا رحمة ولا هوادة.
ويتوقع أن يقف الأديب والناقد في حلبة صراع يجلب غمز القراء ولمزهم وقهقهتهم. وكأنه يندب حظ الأديب إذا تلطخ بالمهاترات الكلامية والتراشق بالألفاظ غير المهذبة.
ونحن القراء في هذا البلد (فلسطين) لا نزال ننعم ونتمتع بما تجود به الأقلام المصرية علينا لنغذي نفوسنا كما كانت مصر الخصيبة تملأ غرائزنا في المجاعات العالمية التاريخية.
لقد دل هذا الكتاب المقنع من تزييف توقيعي على أن إرشاداته للأدب والأديب كاذبة، وأنا معذورة إذا لم تتولد في روحي الحرارة الكافية للرد عليه، لا لأنه أساء إلى الناقد الأديب السيد حبيب زحلاوي، ولا لأنه أساء إلى القراء بقصة بهلوانية، ولا أساء إلى بلاده بعملية التزوير، بل لأنه كأولاد الشوارع الذين يرشقون السيارات بالحجارة ولا يسع صاحب السيارة إلا أن يشتم أهل البلد الذي وقع فيه الحادث، ولكن المذهب في الحادث فرد مجهول.
قيل لي إن الذي مثل هذه الرواية شاب خليع ليس بالكاتب ولا بالأديب ولكنه يقول الشعر الجارح لا من قريحته بل من جمعه للقوافي المختلفة وقياسها بخيط طول معلوم عنده، فإذا جاءت قياساتها متناسقة وقوافيها على نغم واحد
أخرجها قصيدة شتامة لرفاقه. ولقد كسدت بضاعته أو ربما أضاع الخيط الذي يقيس به فانتقل إلى صناعة النثر وبدأ باستعارة الأسماء، وواجبي تجاه هذه المجلة العظيمة أن أعتذر للسيد حبيب زحلاوي عن هذا الواعظ المجهول، واعتذر لصاحب الرسالة عن ذلك الصبي الذي يرشق سيارات الناس فيسئ إلى سمعة بلده، وأعترف أنني لا أملك المقدرة لمعالجة
هذه الثلمة الأخلاقية بدرس ألقيه في الرسالة فأترك ذلك إليكم
والسلام عليكم ورحمة الله.
(طول كرم - فلسطين)
شريف القبج
كتاب (التصوير الفني في القرآن)
كتاب طيب جديد في بابه، يشق لنفسه طريقاً إلى نفسك، ويحل عندك محله اللائق به من إعجاب به، وتقدير لما بذل صاحبه في وضعه من جهد، وما صادف من توفيق، حتى جاء شاهداً لصاحبه بأنه كما قال الأديب عبد المنعم خلاف في الرسالة (شاعر ناثر ناقد، زاول الشعر والنثر والنقد، ونجح في ذلك كله كثيراً من النجاح) وحتى جاء شاهداً لنفسه - كما قال ذلك الأستاذ الأديب - (بأن له الموضع اللائق به من مكتبة القرآن، ومكتبة بحوث البلاغة، ومكتبة الفن، ومكتبة البحث) وليس يسع القارئ لهذا الكتاب إلا أن يحمد لصاحبه عمله، ويغبطه على نجاحه، وذلك موقفي من الكتاب وصاحبه.
وإن تكن لنا ملاحظات بعد فهي ملاحظات هينة يسيرة، لا تغض من قيمة الكتاب، ولا تبخس فضل صاحبه؛ وإنما هي ملاحظات - إن روعيت - تزيد الكتاب حسناً على حسنه، وكمالا إلى كماله: وإليك هي: -
أ - عنى المؤلف بتحليل الآيات عناية مشكورة؛ ولكنه لم يعن بتحريرها على وجه الصحة، فتطرق إلى كثير منها الخرم، كما تسرب إلى بعضها التصحيف، أو التحريف، ولو أن ذلك قليل لهان الاعتذار عنه، وإن شاء تبيان ذلك فليضع المصحف بين يديه ثم ليراجع من كتابه صفحات 113، 114، 118، 120، 122، 123، 130، 141، 176، 198.
ب - أتجه المؤلف في بحثه إلى الناحية البلاغية فحسب، ونبه في غير موضع من كتابه إلى أن الجانب الديني ليس موضع نظره - وهذا حسن، ولكنه (على غير قصد منه فيما أرجح) لمس الجانب الديني لمساً جارحاً حين عرض للآيات في قصة يوسف عليه السلام صفحة 115 - إذ وصف النبي يوسف - أولا - بأنه الواعي الحصيف، وبأنه كان في
موقفه من زليخا يحذر مواضع الحرج جميعاً، وهذا لا شيء فيه؛ غير أنه جعل يوسف أمام المرأة وفي هذا الموقف الإجرامي أشبه بشخص عادي (كاد يضعف) لولا أنه كان واعياً حصيفاً يخشى أن تأخذه عين الرقيب مثلاً، أو يفجأه الزوج، وقد صدقت فراسة يوسف: إذ فجأة الزوج حين محاولته الإفلات لدى الباب. وهذا تصوير غير فني لإنسان هيأه ربه للنبوة، وكتب له العصمة من قبل ومن بعد. وأظن الأستاذ منساقا في هذا وراء ما يقال: من أن يوسف إنسان لم تفارقه نوازع البشرية، فهو كما يميل أي إنسان، ويكاد يضعف كما يضعف أي إنسان. وأظنه كذلك بحسب الآية في ظاهرها هذا إذ قررت أن المرأة همت به، وأن يوسف هم بها. وليسمح لي الأستاذ أن أنبهه إلى أن هذا فهم سطحي غير سديد، درج عليه غير الدارسين لقواعد اللغة، والمتساهلون ممن فسروا هذه الآيات.
ولو أنه لم يتابع هؤلاء فهمهم، ونظر نظرة استقلالية إلى التعبير لرأى بادي الرأي - وهو القوي الإدراك لأسرار القرآن - أن هذا توجيه لا يرضيه، وأن المقام أسمى من ذلك، وأن نوازع البشرية في يوسف كانت مكفوفة بالزهاد الدينية على الأقل (فضلا عن العصمة) على نحو ما ترى وتقرأ عن الأتقياء فضلا عن الأنبياء، ولو أن يوسف كاد يضعف وأنه تحرج للحصافة والوعي والحذر لكان الموقف منه أمام الله موقف عتاب، لا موقف تبرئة وتزكية بقوله سبحانه وتعالى (إنه كان من عبادنا المخلصين).
وفي سياق الآيات وألفاظها المفردة ما يتسع للنظر والوصول إلى ما أبديت. ولولا أن صفحات الرسالة لا تتسع للتطويل لأوضحت: وصاحب الكتاب في غير حاجة مني لأكثر من هذه اللفتة؛ وحسبه أن يراعي الوضع الترتيبي لكلمة - لولا أن رأى برهان ربه - فأن موقعها بين كلمتي همت وهم - وأن يتذكر ما تدل عليه كلمة لولا، وسيجد نفسه أمام نفي قاطع لوجود الميل والهم من يوسف. وكفى.
ج - مضى ذلك الردح الطويل من تاريخ الإسلام وقضية إعجاز القرآن ناهضة تضاءلت بجانبها جهود الباحثين، كما تحطمت على صخرتها جهود العابثين، ولم نر ممن كتبوا وعنوا أنفسهم واحداً يَمنّ على الناس بما قدم لهم، أو يغض من شأن سابقيه، وكنت أحب للأستاذ قطب أن يدع للناس تقديره وأن يلحظ ما لحظه الأولون من انه فوق كل ذي علم عليم، وأن الأيام ستطلع علينا وعلى الناس بالجديد في كل شيء فلا يغمز الأوائل بالتجهيل
أو القصور ونحن لا نبني إلا من الحصيات نجمعها من ساحاتهم الواسعة.
د - كان حرياً بالأستاذ سيد قطب مدرك لبلاغة القرآن ومفتون بسحره أن يشاكل بين مؤلفه وبين الكتاب العزيز فيبدأه بالتسمية ليرتفع به عن نمط الروايات وكتب التسلية التي تقرأ وتلقي لا تقرأ وتقتني في الموضع الكريم بين الكتب الكريمة.
هـ - وكان جميلاً في النهاية أن يضع للكتاب دليلاً يرشد الناظر فيه إلى موضع كل آية ببيان صفحتها حتى يسهل على من أحب الرجوع إلى آية بعينها أن يتعرف مكانها، دون أن يخالف النظام الشائع ويصب الكتاب صباً تحت عناوين الفصول فحسب. وبعد - فليتقبل الأستاذ ثنائي خالصاً، وشكري مضاعفاً، ولا عدمنا مثل هذه الجهود الطيبة النافعة.
عبد اللطيف السبكي
المدرس بكلية الشريعة
الفن والتاريخ فلم سلامة
أعرف أن من حق الفن أن يدخل على التاريخ ليبعث في وقائعه الحياة، وليلبس حوادثه ثوباً من الأناقة والطرافة يحبها إلى النفوس والقلوب. وليس للفنان القصص في القصد إلى. تاريخ إلا أن يجمع بين الحقيقة التاريخية تحمل أسانيد الواقع وصدق الرواية، والحقيقة الفنية بين الحوادث بالانسجام والروعة والجمال.
ولكني لا أعرف أن يكون من حق الفن أن يمسخ، وأن يجري بوقائعه على الهوى، فيغير الزمان والمكان، ويزورَّ الأشخاص والمشاهد، وينكر البيئة وما تقضي به، ويجهل الحوادث وما تؤدي إليه، فإنه حينئذ لا يكون فناً ولا تاريخاً، ولكنه يكون المسخ والتشويه والخلط والتضليل والشعوذة التي لا تصح في ذوق، ولا تليق بأي صفة من صفات الفن.
ولقد قدر لي أن أشهد فلم (سلاَّمة) الذي مثلته المطربة المشهورة أم كلثوم، وأخرجه السينمائي المعروف توجو مزراحي. وقصة سلاّمة في الأدب العربي القديم من أروع القصص، وهي بواقعيتها جميلة عنيفة تعالج كثيراً من الجوانب النفسية والخلجات العاطفية إلى جانب ما تحمل من طريف الرواية وحلاوة الغناء وروعة الجمال، وقد استهوت بعض الأدباء المعاصرين فعرضوا وقائعها في معرض الفن القصصي والرواية الطريفة وفيها ما
فيها من روعة التحليل، فكتبها المرحوم الأستاذ محمود مصطفى في (مجلتي)، وجلاَّها المغفور له الأستاذ الرافعي في (الرسالة) آية من آياته الخالدة، ثم حبكها صديقنا الأستاذ أحمد باكثير حبكة قصصية نال بها الجائزة لإحدى المسابقات. فلما قيل إن أم كلثوم مثلتها، قلت: طاب الأصل والمثال، والتقى سحر القديم بروعة الحديث، وإنها لمتعة فنية من الواجب أن أدركها وأن أفوز بها على أي حال.
وقصدت إلى مشاهدة الرواية وسماع أغانيها، فليتني ما قصدت! لقد دخلت إليها ونفسي مفعمة بما أتمثل من سحر وجمال وروعة فن، ثم خرجتُ مكروب النفس آسفاً أن يبلغ عبث التجارة بالفن إلى هذا الحد السخيف، وأن تصبح مشاهد التاريخ ووقائعه ملكاً لهؤلاء المشعوذين يسخرون منها ومن الناس على هواهم، وعلى ما تدعو إليه بواعث الكسب التجاري، ومع هذا يأخذون الثمن الباهظ.
أول جريمة من جرائم التزوير في الرواية أنْ نَقَلّ (حضرة المخرج الأديب) مكانها من المدينة ومكة بالحجاز إلى الكوفة والبصرة في العراق، وفي هذا كذب على التاريخ، وفيه أيضاً جهل فاضح، لأن قصة سلامه ما كانت تطلع إلا في أفق الحجاز، وما كانت حياة الترف والدعة والسماع إلا ديدنهم في ذلك الوقت، على حين كان أهل العراق في فتن عاصفة وحروب طاحنة وحياة شديدة قاسية، وهذه حقيقة أحسب أن (المخرج) لا يدركها، ولكن ماذا تكون قيمة هذا (المخرج) في العلم بصناعته إذا ما نقل مشاهد المدينة العامرة إلى ربوع الصحراء الخالية، ومثل مظاهر أهل الحضر، في مواقع الوبر؟!
أما الجريمة الثانية فتتصل بشخصيات القصة، فقد كانت سلاَّمة على ما يحدث الرواة جارية مولدة، شاعرة متفقهة، تقول الشعر وتجالس العلماء، فأبى صاحبنا سامحه الله إلا أن يمثلها جارية من جلب رخيص، مبتذلة العاطفة والفن، تغني بلهجة مغربية غثة في إلحان تافهة كأنها ألحان (زفة العروسة)، وتعابير نازلة تعلو عليها تعابير أولاد القرية وهم في مزارع القطن ينشدون أناشيد (مقاومة الدودة)، فأنت تسمع فيها (الحب حلو وإلا حرّاق) و (سلام الله على الأغنام) و (غنى لي شوىْ شوىْ) وكثيراً من أمثال هذه السخافات. وأين هذا من تلك المقطوعات الشعرية العاطفية المنسجمة التي كانت تغنيها سلاّمة، والتي لو غنتها أم كلثوم لكانت لها مجداً خالداً في الفن، يضاف إلى ما بلغته من مجد.
وجاء (المخرج) - ولا أدري لماذا - بالشاعر عمر بن أبي ربيعه بين أشخاص القصة، وهو تزوير آخر على التاريخ، إذ لم يعرف أن سلاَّمة التقت به، وإن كانت هناك رواية تقول إنها التقت في المدينة بصاحبه ابن أبي عتيق.
وفي صلة سلاَّمة بحبابة وبجميلة، وفي كل شخص، وفي كل مشهد، تزوير على التاريخ، وكذب على البيئة، وخروج على روح الفن، وشعوذة رخيصة لا تساغ إلا في منعطفات الطرق كمشاهد (جلا جلا) وحلقات الحواة.
لماذا لا يريح الناس أنفسهم ويريحونا معهم، بعدم ذكر الفن والتعلق بهذا الحرم المقدس الذي وضع العلماء له القواعد والأصول، والذي يحتاج في مزاولته إلى علم ودراية وفهم وذوق. . .
أنا والله لا ألوم هذا (المخرج) في عبثه، لأنني أعلم تماماً أنه رجل لا يخدم الفن ولكنه يخدم جيبه، ولا يرضى الذوق وإنما يرضى خزائنه، فهو يقيس النجاح بمقدار الدخل واستغفال العامة وأشباههم، ولكن كيف تجيز له رقابة الروايات هذا البعث وهذا التلفيق يفسد به على التاريخ ويجني به على الذوق ويضحك به على الشعب المسكين؟!
ثم ماذا؟
قال صاحبي: إنها لا شك مؤامرة على أم كلثوم، قلت: ومن الأسف أنها أفلحت. .
محمد فهمي عبد اللطيف
القصص
أقصوصة من لانقيا القديمة
الرسالة
للكونتيسة هر ميانازر موهلن
ترجمة الأستاذ فيصل عبد الله المحامي
لشد ما راعني من مارتا حين لقيتها أول مرة دمامة وجهها الذي خلعت عليه أربعون عاما شر ما كان لديها.
لقد لاح وجهها آنذاك كما لو أن مثالا مجنونا نحته بأزميل مثلم الحد. وكانت تنوء في دنياها بأنفها الغليظ وجيدها المترهل، ووجهها المعروق الذي برزت فيه عظام خديها وبفمها الواسع العريض. . . على أن عينيها كانت على نحو آخر. فلم يكن ثمة غلو في القول بأنهما على شيء من الحسن - لولا - ما تعبران عنه وتنطقان به من جوع ونهم
وبرغم ذلك كان من العجيب أن لم تتزوج مارتا، فإن فتاة من الفلاحين يتيمه من الصغر تملك حقلا ممرعا وثماني بقرات سمان وزوجي خيل من الفصائل، وكنِّ دجاج واسع يندر أن تبقى بكراً في ريف لا تفيا القديمة، حيث لا يكون الزواج فيها عقداً بين فتى وفتاة وإنما يكون بين حقل وحقل؛ ولكن مارتا لم تتزوج، ولا يبدو أنها معنية بأن تتزوج. على أن عجائز القرية كان لهن - بالطبع - ما يلغطن به. فلقد كن يهمسن بحديث حب كان قبل عشرين عاماً عن فتى وسيم الطلعة من الروس جاء هذا البلد كغيره يسعى لرزقه من جني البطاطس.
ولقد روت لي عجوز درداء منهن ذات يوم حديث مارتا والروسي ذاك، فقالت وقد دلت لهجتها تخفيه لمارتا. . . (. . . لقد شغفها حباً، ثم كان ذلك أن أعلنا خطبتهما. وكان مقدراً أن تزف إليه في عيد القديس ميخائيل لولا أن أصر (بوريس) على أن يرحل إلى أمريكا أولاً؛ فلقد كان يقول إن له أقرباء سراة هناك لا يضنون عليه بالمال إن سمعوا برغبته في زواج صالح، وهذا كما كان يقول سيعينه هو ومارتا على أن يبتاعا الحقول الثلاثة التي تحيط بحقلها والطاحونة التي شاخ راعيها وشح رزقه.
وبرغم أن مارتا لم تكن لتأبه بأن تملك الحقول أو الطاحونة فإن (بوريس) قد أصر على دعواه تلك ولج فيها فلم تستطيع مارتا بالطبع لرغبته رفضاً. . .)
ثم سعلت العجوز وبصقت على الأرض بذوراً كانت تمضغها واسترسلت في حديثها وقد سرها أن تجد من لم يسمع بعد بما ترويه ويسعدها أن ترويه.
ثم قال بوريس: إنه ليستحي أن يفد على أقربائه معدما حقير الهيئة رث الثياب، فكان أن باعت مارتان حقلين مما تملك وخمس بقرات وسواراً ذهبياً وحليا أخرى مما كانت لأمها وقدمت ثمن ذلك كله لبوريس الذي راح بعد ذلك ينفق منه على أقرانه في إلحان وهو يحدثهم ساخراً هازئاً بحديث مارتا الدميمة الخلق الدنيئة الُخلق التي صدقته في كل ما ادعاه. . . ثم لبث بعد جني البطاطس حيناً على نهجه ذاك حتى أقبل الشتاء فعاش كالسادة على ما تدره الأرض. ولما أقبل الربيع ذهب. . . ولم يعد
ومنذ ذلك الحين قل أن تتحدث مارتا إلى أحد. . . فلم يعد لها في دنياها من شيء غير العمل والأمل، تعمل في حقلها وترعى ما لديها وتنتظر بوريس أن يعود. . . وترتقب ذلك اليوم الذي فيه سيعود
ولقد يكون محتملا أن تحس مارتا بغتة برغبة في أن تتحدث إلى أحد، وقد يكون محتملا أيضاً أنها قد أدركت أن من السهل أن تروى قصتها لغريب من أهل قريتها فيصدق كل ما ترويه ويأنس به وبها، وقد يكون غير ذلك، فلست أدري ما الذي أوحي إلى مارتا أن تستوقفني ذات يوم وقد مررت بحقلها على فرسي فطلبت إلي أن أترجل وأدخل مثواها لشرب قدحاً من اللبن؛ ثم راحت بعد ذلك تحدق في بعينيها الزرقاوين، وقد لاح عليها أن لديها ما تريد أن تقوله وما لا تريد أو ما لا تقوى على أن تقوله، فلقد لاح عليها تردد بينّ ثم تنهدت وهي تقول:
- ربما بلغك عني ما يلغط به القوم هنا. . . إن ذلك كله هراء محض، وقمين بك ألا تصدقيه. كلا. . . إنه لم يهجرني وسيعود. . . أجل سيعود.
ثم نهضت متثاقلة كأنما تحس على كاهلها عبء سنيها وانحنت على صندوق مزركش وأخرجت منه ورقة مطوية. كانت تلك الورقة رسالة تحمل تاريخا قديماً واسم مدينة (بروكلين) ثم قالت وهي ممسكة بها: لقد كتب إلي هذه الرسالة. كتبها بلغة الحب الصادق.
لقد أذاب قلبه في رسالته هذه يناجيني فيها بأعذب الألفاظ. ثم عادت تحدق فيَّ كأنما استقر خاطرها على رأي فجأة وقالت: إنني أعرف بالطبع أنها رسالة غرام. ولطالما تمنيت أن أطلع على ما فيها فأعرف كل كلمة حبيبة كتبها إلىَّ.
وإنك لتعلمين أنني أمية لا أقرأ.
وليس في القرية من أثق به فأطلب منه أن يقرأها لي؛ والنساء يحدقن علىَّ لأن زين الشباب أضحى أسير حبي؛ والرجال يمقتونني لأنني لم أرض بأحد منهم زوجاً؛ إذ كل ما يبغونه من زواجي لو تم ذلك لا يعدو الحقل. ذلك احتفظت برسالتي فلم يطلع عليها أحد. على أنني غالباً ما أخرجها من الصندوق ثم أعدو بالفكر في مجالي الخيال أحاول أن أتصور ما يعبر عنه من العواطف ويزدان به من المعاني، وأنه ليسعدني أن تقرئيها أنت عليَّ إذا سمحت بذلك.
فأخذت الرسالة، وقد كان واضحاً أن كاتبها ليس على شيء من العلم، ثم أخذت أقرأها لنفسي قبل أن أتلوها عليها. ولقد جلست إلى جانبي، كأنما تلوذ بي مما تحسه وتفيض به من تلك العاطفة الجموح. كانت عيناها الظامئتان المترقبتان لا تتحولان عني.
ولقد قرأت رسالتها مرة ثانية وثالثة، وقد أفزعني أن أجدني أرتعش، وأخذني دوار حاد، إذ لا بد أن يكون الرجل ثملا حين أنشأ هذه الرسالة؛ فلا يمكن لمخلوق بغير الخمر أن يثور في نفسه كل هذا الحقد وكل هذه القسوة مما لا يمكن تصوره في حنايا إنسان. كان ما في الرسالة سخرية من هذه البلهاء الدميمة التي صدقته في تظاهره بالحب، ولم تعجز منشئها دقة الوصف وسعة العلم بما يزري بمارتا ويحزنها، ولم يفته مظهر من دمامتها يتهكم به ويسخر منه. كان يسخر من أهداب عينيها كأنما هي شعرات خنزير، ومن جسدها كأنما هو كتلة واحدة من العظم، ومن فمها الواسع كأنه فم ضفدعة أو أوسع وابشع. وحين ينتهي من وصفه اللاذع لمارتا وتهكمه بها يتحدث مزهواً عن فتاته الأميركية الحسناء التي تجلس إلى جانبه وهو يكتب رسالته. هذه الفتاة التي يقول عنها إنها مشرقة كالزهر، منيرة كالبدر، تبتسم فتبدو كزهرة الربيع.
ثم يروي لمارتا أنه حدّث فتاته بحديها، حدثها عن امرأة بلهاء جُنَّت به ووهبته كل مالها لكيما يبلغ هذا البلد السعيد الذي يعج بالنساء الفاتنات.
ولقد ألحت عليّ مارتا بعد ذلك، تسألني في لهفة وتحرق، ماذا يقول؟ لماذا لا تقرئين؟ ماذا تنتظرين؟
لقد كذبت عليها، وماذا كان في طوقي أن افعل؟ رحت أحدثها ويدي ترتجف وقلبي من الغيظ يتلوى، أن بوريس يذكرها أبداً ولا يملَّ ذكراها، وإنه ليذكر طول عمره ذلك الزمن الذي قضياه معاً. ثم رحت أصف لها شدة شوقه إليها وانه سيعود ذات يوم حينما يفرغ صبرها وتيأس من رحمة الله، ليفوز بها ولن يتركها بعد ذلك العمر كله.
لقد كنت أجد الكذب شاقاً على نفسي مجهداً لها، فلقد أمضى الرثاء الذي أحس به لهذه البلهاء حقاً، والاشمئزاز الذي أفيض به لذلك الذي عبث بها وتنعم بمالها ثم راح يسئ إليها قدر ما أحسنت إليه. على أنني وجدتني بعد بضع جمل أتقن الكذب وأجيده. فرحت أجهد خيالي وأعنت ذاكرتي لتسعفني بما تعي من شهيرات رسائل الحب التي قرأت.
ثم ألقيت بالرسالة بعد ذلك على المنضدة، فأمسكت بها مارتا وهي على حال شديدة الاضطراب. كانت كهيكل من الخشب بعثت فيه الحياة فجأة، فلم يعد يبدو عليها ذلك العبوس، وتلك البشاعة. كل ذلك أنقلب الآن في وجهها إلى عذوبة وإشراق وحياة.
ثم راحت تتحدث إلى بخفوت حتى لكأنها تحدث نفسها. كتب ألي كل ذلك؟ كل ذلك؟ كل هذه الألفاظ الحلوة العذبة!! كل هذا الحب. . . لي أنا!؟ ثم تنهدت وقالت: على أنني لسوء الحظ لا أستطيع أن اقرأ كل هذا بنفسي. لماذا لا أتعلم القراءة؟. . . أرني بالله أي سطر منها يؤكد شدة حبه وإياي وشوقه إلى، وأين كتب يقول أنه سيعود حينما يعييني الصبر.
ولقد أريتها بعض السطور في أول الرسالة وأخرى في آخرها. . فهزت مارتا رأسها وقالت: لو كان لي علم ذلك. حينما كربني الهم وأمضني اليأس وأضناني الانفراد. لو أنني كنت أستطيع أن أقرأ على نفسي هذه الرسالة الحبيبة كل يوم. . . ثم راحت تحدق في كطفل يستجدي حلوى وتقول: يا صديقتاه أخبريني. هل يستطيع من في سني أن يتعلم القراءة؟. . .
ولقد راعني قولها هذا حقاً. على أنني قلت لها: إن هذا لغاية في الصعوبة. ولكن ما الذي يدفعك إلى هذا وأنت تعلمين الآن ما كتب إليك؟ فقالت: هذا صحيح. ومع ذلك فإنني أحس رغبة ملحة في أن أقرأ الرسالة بنفسي لكي أتملى بكل حرف منها. . . على أي حال لا بد
أن أكلم معلم القرية في ذلك.
ثم غلبها الصمت فراحت تحلم. وقد فاضت عيناها بالدمع غبطة. واستسلمت لأمانيها وأحلامها، فلم تفطن إليَّ وأنا أنسل من جانبها فزعة كأنما ارتكب إثما.
منذ ذلك اليوم حرصت على ألا أمر بحقل مارتا كلما امتطيت جوادي خيفة أن تبصر بي فتطلب إلى أن أقرأ الرسالة مرة أخرى فأتلوها على غير ما تلوتها أول مرة، فيبعث هذا في نفسها الشك.
على أنني عرفت مما تثرثر به عجائز القرية أن مارتا تقصد المدرسة مساء كل يوم فتمكث فيها ساعة أو تزيد، تتلقى على مدرسيها دروساً في القراءة. ولشدة ما كان نساء القرية يضحكن وهن يلغطن بحديث مارتا ويقلن إنها تتعلم القراءة. . . تتعلم القراءة في سنها هذه! ترى أكان هذا لأنها ستصبح عما قريب سيدة؟ لقد ابتاعت كتاباً للأطفال وإنها لتجلس على مقعد أما بيتها كل يوم ممسكة به وهي تردد حروفاً منه: ألف - باء - جيم - قاف - طاء - هاء - قطه. . . وإن الناس لا يقوون على كظم ضحكهم مما يرون، ثم يسترسلن في ضحكهن ساخرات. أما أنا فقد وجدت في الأمر غير ما وجدنه. لقد كان فيه ما يبعث على البكاء رثا لها وفزعا مما ينتظرها.
ولقد خرجت أتنزه ذات يوم فضللت سبيلي. ثم ألفيتني بعد حين في غاب خلف حقل مارتا. وكان الوقت خريفاً والهواء البارد يهب من البحر قارساً، فلذت بالأشجار محتمية بها، ثم رحت أزحف بين أفنانها، فبلغ أذني بغتة صوت أجش قوي النبرات يردد ألفاظاً بجد وقوة: بيت - حقل - كلب - بقرة. . . وما شاكل هذه الكلمات البسيطة الرقيقة التي كانت برغم ذلك تمهد السبيل الذي سيقود مارتا يوم من النعيم إلى الجحيم.
وكان الصوت لا يزال يردد. . . حقل. . . الله. . .
الله! أجل. . . إنه هو وحدة القادر على أن يبعث إلى مارتا بكسف من السماء يودي بها قبل أن تجد نفسها قادرة على أن تقرأ الرسالة. . . الرسالة التي تفيض بالحقد والمقت والسخرية. . . الرسالة القاتلة. . . إنه القادر على أن يرحمها فيعمى عينيها الظامئتين المترقبتين قبل أن تستطيعا قراءة حرف.
وكانت ليلة. . . أرخت فيها يد الخريف سدول الوحشة والكآبة على الكون ودوّت فيها
العواصف القاصفة بالسهول. . . وهدير البحر يتعالى مضطرباً صاخباً، والأشجار العارية تمد أيديها كأنها تسأل النجدة أن تستغيث مما ترى وتسمع. . . وأوراق الشجر تتناثر على الأرض فتلوح مما علاها كبساط مزركش زاه. . . ثم أرسلت السماء بعد ذلك ثلجاً أبيض ناصعاً رقيقاً، فكسا كل شيء رداءً أبيض ناصعاً رقيقاً، فكسا كل رداء أبيض يشف عن طهر وروعة، مبدلاً بؤس الخريف وعبوسه دنيا بيضاء. . . ناصعة البياض، وكان هذا قبل عيد الميلاد بيومين. . . حين تلجأ الساهرات إلى مثواهن يخشين الأشباح التي تطوف في الكون كلما حان هذا الحين. . . وعلى حين فجأة تبدى الكون الأبيض في وشاح قرمزي اللون يضطرب ويلتهب، فلقد اندلعت نيران، نيران هائلة، أضاءت من تلظيها الغابة التي كانت تجاورها. ولقد أهرع رجال القرية وعمال المقاطعات الأخرى ليطفئوا النار. . . ينير لهم السبل وهجها الأحمر. ولما بلغ القوم بيت مارتا ألفوا حقلها يشتعل، والريح الشمالية تقذف بالسنة ناره إلى كل جهة. وكانت الأبقار تخور فزعاً فيملأ خوارها الأرجاء؛ والخيول مسَّها خبل فأخذت تقمص حتى وجدت مخرجاً فاندفعت منه إلى السهل الأبيض كأنها أشباح تطوف.
وأمام البيت الملتهب تقف امرأة. . . كان شعرها الأغبر الأشعث المنفوش يحيط بوجه كالح وعينين متحجرتين. . . وكانت تقهقه ضاحكة. . . فتعلوا قهقهتها على خوار البقر وفرقعة الخشب المحترق، ولقد لبثت حيناً بعد ذلك وهي تشهد ما حولها وتقهقه.
لقد قرأت مارتا الرسالة أخيراً. . .
القدس
فيصل عبد الله المحامي