الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 621
- بتاريخ: 28 - 05 - 1945
الأسرة والمجتمع
للأستاذ عباس محمود العقاد
كل ما يفصله الأستاذ علي عبد الواحد في كتابه عن (الأسرة والمجتمع)، أو في مقالاته بالرسالة يصلح لتقرير حقيقة واحدة وهي أن للمجتمع وآدابه شأناً في نظام الأسرة على اختلاف الأزمان والبيئات
وهي حقيقة لا حاجة لنا بها إلى كثرة الأدلة والأسانيد، لأن المجتمع قائم وقوانينه وعاداته قائمة كذلك، وليس في وسع أحد أن ينكرها أو ينكر أثرها في معيشة الأسرة ولا في معيشة الفرد حيث كان
إن الأسرة تتأثر بالمجتمع وعاداته وقوانينه، وهذا أمر بين بالبداهة كما هو بين بالمشاهدة العلمية، فلا ينكره أحد ولا يحتاج القول به إلى إسهاب في الأدلة والأسانيد، إلا إذا كان إثبات الأدلة والأسانيد من قبيل الإحصاء والتقرير
لكن الحقيقة التي نقررها نحن هي شيء آخر غير هذه الحقيقة، وهي أن الغريزة لها شأن في تكوين الأسرة، وأن المجتمع لا ينزع الغرائز نزعاً حين يتولى تنظيمها وتوجيهها إلى وجهاتها الكثيرة، وليس إثبات الآداب الاجتماعية بمنكر للغريزة ولا بمبطل لعملها في نشأة الأسرة ولا في نشأة الاجتماع نفسه وما يتفرع عليه من الآداب والقوانين
وقد يخالف المجتمع الغريزة في وجهته وغرضه، فلا يكون ذلك دليلاً على أن المجتمع وحده هو الموجود وأن وجهته وحدها هي المحسوبة، وإنما يكون دليلاً على وجود شيئين مختلفين، وأنهما على اختلافهما أو اتفاقهما لا يعملان منفردين
فإذا ناقشنا الأستاذ علي عبد الواحد في أمر الأسرة والغريزة فليس سبيله في مناقشتنا أن يثبت لنا وجود المجتمع وآدابه، فإن هذه الحقيقة في غنى عن الإثبات، ولا حاجة بأحد من علماء الاجتماع إلى إثبات وجود الاجتماع، وإنما سبيله أن يورد لنا الأدلة التي تمنع وجود الغريزة أو ظهور أثرها في نشأة الأسرة، وليس لعلماء الاجتماع دليل على ذلك فيما أوردوه أو استخلصوه من المشاهدة والإحصاء
فلا ريب أن حاجة الطفل الإنساني إلى الحضانة الطويلة لم يكن عملاً من أعمال الاجتماع، ولكنه عمل من أعمال الغريزة التي لا تختلف هنا أو هناك باختلاف قوانين الاجتماع
ولا ريب أن العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة تتوقف على الغريزة ولا تتوقف على آداب الاجتماع؛ فإن عطف الأب والأم على ولدهما أشد في كل مجتمع من عطف الولد على أبيه وأمه، ولو لم تكن غريزة حفظ النوع هي الغريزة الغالبة في إنشاء هذه العلاقات لكان حب البنين للآباء كحب الآباء للبنين، بل لو جب أن يختلف الأمر اطراداً إذا كان مرجع الأمر كله إلى آداب الاجتماع، لأن حاجة الأبناء إلى الآباء من الوجهة الاجتماعية أكبر من حاجة الآباء إلى أبناء
ولا يقال في هذا الصدد إن بعض الآباء قساة وبعض الأبناء رحماء، فإن الغريزة الحيوانية أو الإنسانية لا تستلزم المساواة بين جميع الأفراد ولا تمنع الشذوذ في بعض الأحوال
وقد وجدت الصلة بين الأم وذريتها، حيث لا يوجد شيء قط غير قوة الغريزة في أحوال الفرد أو في أحوال الجماعة، فوجدت هذه الصلة في الحشرات والهوام وتتابع الارتقاء فيها على حسب الارتقاء في نمو الغريزة لا حسب الارتقاء في آداب الاجتماع
وجاء في كتاب الحشرات الاجتماعية للأستاذ وليام هويلر أستاذ علم الحشرات بجامعة هارفارد: (أنه قد حدث على التحقيق تطور طويل الأمد في أدوار عدة تزداد بها الصلة بين الأم وذريتها منذ الدور الأول الذي يخلو من كل اكتراث بالذرية إلى الدور الذي يتم فيه التعاون المتبادل بين الفريقين، ونستطيع أن نرتب سلسلة هذه الأطوار على ما يأتي دون أن نتوقف لإيراد الشواهد التي سيمر بك الكثير منها، فهي على الترتيب:
أولاً: تبذر الأم بويضاتها في البيئة التي يعيش فيها أبناء نوعها، وقد تبذر البويضات في بعض الأحوال إلى جانب المادة الغذائية التي تأكل منها بعد فقسها
ثانياً: تضع الأم بويضاتها على جزء من البيئة كأوراق الشجر التي تصبح غذاء للديدان المفقوسة
ثالثاً: تزود بويضاتها بغطاء واق، وربما اقترنت هذه الحيطة بالدورين الأول والثاني اللذين تقدما
رابعاً: تبقى الأمم مع بويضاتها والديدان المفقوسة منها وتحميها
خامساً: تضع بويضاتها في حرز مصون أو مكان مهيأ لها - كالعش وما إليه - مع مؤنه من الغذاء ميسرة للديدان بعد فقسها
سادساً: تقيم مع البويضات والصغار وتتعهدها بالوقاية والتغذية
سابعاً: أما الدور السابع فلا يقتصر الأمر فيه على حماية الأم لصغارها وتغذيتها، بل تنمو الصغار وتتعاون معها على تربية نسل آخر وتستمر الأمهات والأبناء في معيشة سنوية أو معيشة دائمة. . .)
فالغريزة قد أنشأت الأسرة المتعاونة بين الحشرات حيث لا عمل للاجتماع قط بمعزل عن الغرائز الحيوانية، وقد أصبح للآداب الاجتماعية في النوع الإنساني عمل غير عمل الغرائز وما شابهها، فجاز أن يقال في بعض العادات والمشار إن هذا من وحي الاجتماع. ولكننا إذا رجعنا بالاجتماع إلى أصوله لم نكد نعزله عن الدوافع الغريزية أو الدوافع الحيوانية البيولوجية، لأن الاجتماع على التحقيق لم يكن من اختراع الأفراد وإنما كان من إيحاء النوع بأسره حيثما كان، وكل ما كان (إيحاء نوعياً)، فهو إيحاء غريزة فطرية على وجه من الوجوه
إننا نحب أن نؤكد هذه الحقيقة، لأن إثبات الحقائق واجب لغير علة، ولأننا في زمن خلقت فيه العلل الكثيرة لتعزيز مكان الأسرة من الطبيعة الإنسانية والفضائل الخلقية، سواء رضي عنها دعاة المذاهب أو أغضبتهم عليها عوارض الدعاية ومراميها
والعلماء الاجتماعيون الذين درسوا نظام الأسرة وقرروا ما قرروه عن ارتباطها بالآداب الاجتماعية براء من غرض الدعاية ومن كل غرض غير تقرير الحقيقة العلمية كما يرونها، ولكن الحقائق العلمية قد ابتليت اليوم بمن يسخرونها عامدين أو غير عامدين في خدمة مذاهبهم الهدامة وفي طليعتها الدعوة الماركسية، ولم يفتح الله على دماغ كارل ماركس بشيء يفهمه ويرد إليه بواعث الاجتماع، وكل باعث من بواعث الحياة غير الاستغلال وابتزاز الأموال، فما هو إلا أن رأى في زمانه أناساً يستخدمون أبناءهم فيما ينفعهم ويستعينون بهم على مصالحهم أو يرهقونهم في جمع ثروتهم حتى جزم بفساد نظام الأسرة وقيامها جميعاً على أساس الاستغلال، والتسخير، وإن المسألة كلها (حسبة اقتصادية) ومضاربة مالية تتبدل من زمان إلى زمان كما تتبدل صفقات الإنتاج وأسعار الأسواق
وكارل ماركس قد رأى أناساً يرهقون أنفسهم في طلب الرزق ويعملون فوق طاقتهم لادخار القوت أو الثراء، ولعل هؤلاء أكبر عدداً ممن يرهقون الأبناء والبنات في طلب المعاش
وهم مكرهون أو مختارون، فلماذا أبطل عواطف الأسرة وأواصر الأبوة والأمومة، لأن بعض الآباء والأبناء ينتفعون بجهود أبنائهم ويسرفون في الانتفاع، ولم يبطل عواطف (الأنانية) وحب الذات أو حب البقاء، لأن أناساً من الخلق يجورون على أبدانهم وأذهانهم وهم يعملون لجمع الحطام؟ لماذا تكون الأسرة (غير طبيعية)، لأنها تسخر للمنفعة ولا تكون (الأنانية) غير طبيعية كذلك لأنها تسخر للمنفعة على هذا المنوال؟
إن حاجة النفس الإنسانية إلى وشائج الأسرة لم تبطل قط في مجتمع من المجتمعات، وإن آداب الاجتماع قد تفيد في إصلاح الأسرة أو وقايتها من عيوب الأفراد سواء كانوا من الآباء أو الأبناء. ولكن المجتمع لا يملك دليلاً واحداً يحوله إلغاء الأسرة - إن أراده - حتى لو صح أن المرجع إليه وحده في نشأة السرة وتتابع أطوارها، لأنه يقيس على غير شيء حين يقيس المستقبل على الماضي في هذه القضية، ويعتسف طريقاً جديداً لا مسوغ لاعتسافه من الطبيعة ولا من الاجتماع
ولست أعني بما تقدم أن كتاب الأستاذ عبد الواحد ينحو هذا النحو أو يفضي إلى هذه النتيجة، لأنه في الواقع لم يعد تقرير الحقائق الاجتماعية التي يحصلها أساطين هذا العلم ممن لا يدينون بالماركسية، ولعلهم ينكرونها إذا عرضوا لها بالبحث والمناقشة، ولكنني عنيت أن الكلام عن الأسرة في زماننا هذا خليق أن يقترن بالحذر والحيطة لئلا يؤخذ على غير مأخذه أو يعين على غير قصده. ولهذا رجعنا بنظام الأسرة إلى مرجعه من غرائز الحياة في أبسط الأحياء، ولم نشأ أن نقصر الحكم فيه على الاجتماع أو من يصطنعون الدعاية الاجتماعية، لأن الأمر أعظم وأبقى مما تتناوله المذاهب والدعوات
عباس محمود العقاد
الحياة صادقة!
بين الصوفية البلهاء والمادية الصماء!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الاعتراف بما أخرجته الحياة - السبيل إلى تعديل المادية الصماء - المجال الخصيب للجهد البشري - قضية لا شك فيها - الفكر والعمل - موازنة - عوامل الحياة أمينة - كفاح الحياة لحفظ الأحياء - إشارات إلى المستقبل
كل ما تجده في الحياة يجب الاعتراف به وعدم إسقاطه من حسابنا. . . فإذا ثبت أنه ينمي عوامل الحياة، وأنه من وسائل تقدمها المادي والمعنوي، فهو إذا من عالم الخير والصلاح، ويجب الوقوف في صفه والدفاع عنه والإكثار منه. . . وإذا ثبت أنه من عوامل الإفناء والفساد، أو من معوقات تقدم الحياة، وسبب الوقوف في وجهه ومكافحته وإفناؤه.
وعلى هذا ينبغي ألا نثور على أي عامل من عوامل نمو الحياة وصلاحها، مهما بدا فيه تكليفاً مجهداً، كما ينبغي ألا نبقى على أي عامل من عوامل فساد الحياة، مهما بدا أن فيه لذة عاجلة.
ومصلحة الاجتماع البشري كله هي محور هذا؛ لأن حياة الاجتماع هي طريق الترقي والقدرة على تسخير عوامل الطبيعة. فلسنا نستطيع السير وراء النظريات التي تنظر إلى الأفراد كوحدات مستقلة عندما نتحدث عن الإنسانية العامة، بل لا نستطيع السير في هذا المقام وراء النظريات التي تنظر إلى الشعوب والأمم كوحدات مستقلة، وإنما نسير وراء النظرية التي ترى إنسانية واحدة أما طبيعة واحدة!
تلك أولى المقدمات في السبيل إلى إدراك صدق الحياة، وتصور ما بها تصوراً صحيحاً، وتصحيح عقائد الناس فيها، وحملهم على الكفاح لإسعاد أنفسهم في رحلتهم إلى الأرض أولاً، وإلى الملكوت الذي ينتظرهم بعدها ثانياً.
ولكن مع الأسف يحاول كثير من الأدباء والفلاسفة والصوفية أن يفروا من وجه الحياة وينطلقوا مما يسمونه سجونها وأقفاصها، ويقللوا من قيمة الجانب المادي فيها ويقللوا تبعاً لذلك من قيمة الجهد الصناعي الإنساني، ولا يعترفوا بالأجسام والشخوص والشكول الواضحة التي تملأ الحواس، وتشغل الوعي الذي وراءها، وتثير كفاية العمل إلى تقليدها
ومحاكاة نماذجها. . . كأنهم لا يرضيهم إلا أن تكون الدنيا رموزاً مبهمة وأفكاراً طليقة غير محدودة ولا مبلورة. . .
إن المادة التي بها يضيقون ذرعاً، ويحاولون أن ينفلتوا من سجونها وأقفاصها خلق عجيب لا يليق بنا أن نزعم تفاهة اتصال النفس به وإعمال الفكر به. وإن أساطين العلم في حيرة من أمر نشوئها وتعدد عناصرها. وقد خلقنا فيها وصورنا منها، لندركها ونتعرف إليها ونتعجب. . .
إننا ندرك الله تعالى وقدرته وعلمه من عمله البديع في دولة الأجسام والأشكال. . . ولم يأخذنا جميعاً إليه بأي ليل إلا من الأدلة المبثوثة فيها أو المرتبطة بها. . .
إنها من نوعية أسراره، ومجلي أنواره التي يرسلها إلى عقولنا وقلوبنا حتى نهتدي إليه ونؤمن به من غير أن نراه.
فلماذا تلك الحملة عليها والإزراء بها والتهوين من شأنها؛ كأننا صرنا خالقين مبدعين قد أبدعنا شيئاً غيرها أو ظفرنا جميعاً بأمر عجيب خارج عن نطاقها!
قد يكون من المعقول أن نتطلع إلى القدرة التي أبدعت الطبيعة متلهفين إليها أن تطلعنا على عجائب ما لا نراه مثل ما أرتنا من هذا العجب الذي نراه؛ فإن هذا دليل على شدة الحساسية ويقظة الأشواق وحسن الإدراك والتقدير لتلك القدرة. . . ولكن ليس من المعقول أن نحقر ما نراه ونزري به ونزعم أنه تافه؛ فتنبو عنه حواسنا وعقولنا، ونبحث عما عداه من المخبوء، ونتطلع إلى ما وراءه مع أننا لم نفرغ من استيعابه وإدراك جميع أسراره.
ويحاول آخرون أن يفضلوا حياة الأقدمين الحالمين العجزة الجهلة على المحدثين القادرين، ما دامت الحياة الحاضرة قد جرت هذه المتاعب وهذه الضجة الآلية التي ملأت اليابس والماء والهواء فأقلقتهم. فمذهب هؤلاء وأولئك بالطبع غير ملائم لنمو الحياة وأطراد تقدمها، فيجب إهداره وعدم الالتفات إليه؛ لأنه مذهب فيه ارتداد وانتكاس وتشاؤم ومقاومة لدورة الفلك التي اعتقد أنها تجري بالناس إلى غاية صالحة لابد من الوصول إليها، لأن الله لم يخلق هذا العالم الإنساني لكي يضيعه أو يعوقه أو يفوت على نفسه الغاية من خلقه.
هو مذهب يحول بين معتنقيه وبين حياة القوة والسيادة على مرافق الطبيعة، وهي سيادة لا يظفر بها من اتصل بها اتصالاً وثيقاً وتعرف إلى الأسرار المكنونة فيها ولم يقف عند حد
ما دامت الطبيعة تفتح له أبوابها وترفع أستارها. . .
ومع أن مذاهب الإزراء والتحقير للمادة وشئونها والتشاؤم والنظر إلى الوراء دائماً والانتقاض على الحاضر، لم تظفر في مرحلة من مراحل تاريخ الإنسانية، ومع أن الإنسانية لم تلتفت لقائليها أي التفات يبرز مضغ قضاياها وترديد دعواتها. . . نجد كثيرين من الدعاة الدينين والفلاسفة والشعراء يصرون على إحياء الدعوة إليها وتحكيمها في الحياة وإفهام الناس أن في الأخذ بها عقلاً وحكمة وإصابة لأهداف الحياة. . . واعتقادي أن أكثر الإخفاق في تعديل العقلية المادية الصماء وتقليل جشعها وتوسيع ضيقها راجع إلى هذه المغالاة من هؤلاء السادة في إهدار القيم المادية للحياة، وإلى مبالغتهم في تجريد الحياة الإنسانية من ملابسات المادة، وإلى افتراء أكثرهم في إلصاق مذهبهم هذا بالمسألة الدينية التعبدية التي هي لباب القلب البشري ومصباح العقل الإنساني. حتى لقد اعرض وأجفل كثير جداً من الناس من الإقبال على الله والاعتقاد به، وحاول كثير منهم أن يخفتوا صوته المجلجل في ضمائرهم ويتجنبوا التفكير فيه، حتى لا يحرمهم ذلك تذوق الحياة في دنياهم والعمل المادي فيها والإحساس بها والتمتع بطيباتها التي رأوا هؤلاء المتشائمين المحرومين يقبحونها وينفرون عنها، ويزعمون أنها عبث ومأساة وخديعة ومجلبة لسخط الله وخذلانه. . .
لقد ثبت أن المادة هي مجال عمل إنساني خصب ثابت دائم النفع للإنسانية جميعها، وأنها هي الشيء الوحيد الذي تلتقي فيه الإنسانية بأفكارها وأيديها، وترتفق منه مرافق نفعها جميعاً.
أما المذاهب والفلسفات النظرية فلم تلتق فيها للآن، فلا غرو إذا كان الإكثار منها والإسراف فيها مما يزيد الإنسانية افتراقاً وبلبلة وتقطع أمر.
وقد يجد أنصار الشك سبيلاً إلى كل قضية فكرية، ويستطيعون أن يلبسوا فيها حقاً بباطل، ويقيناً بشك، إلا قضية فكرية واحدة، هي قضية (تفوق) الإنسان واطراد تقدمه المادي المبني على أساس إدراكه أسراراً من الطبيعة. وهذا يجعلنا نتيجة إلى إعطاء هذا الجانب من حياته أعظم اهتمام، حتى نخترق به حجاباً وراء حجاب مما يدنينا من الراحة والسعادة والعلم بالأسرار؛ بل يجب أن نتخذ هذا الجانب العظيم في الإنسان أساساً للإيمان به
وبصدق الحياة كما هي ثابتة في فكره العام. وإن هذا يعطي المثبتين لحقائق الأشياء حججاً دامغة، ويقضي على مذاهب السفسطة والتشكيك. بل متى اتخذ هذا الجانب العظيم أساساً للوحدة الإنسانية الشاملة التي طالما دعا إليها النظريون فلم يستمع إليهم إلا الأقلون؛ لأنهم اعتمدوا على نظريات تختلف باختلاف الأجناس والبقاع، وليست عامة يراها سكان الأرض جميعاً رؤية واحدة ويخضعون لنتائجها خضوعاً واحداً كما هو الحال في رؤيتهم وخضوعهم لنتائج الأبحاث الطبيعة ذات الآثار الواحدة في جميع الأمكنة والأزمان.
ولقد أثبتت سيادة الغرب على الشرق أن عالم القوة المادية هو أساس حياة الحق وعمادها، وأن الحق المجرد لا يعدو أن يكون فكرة فاكر، أو حلم حالم، ما لم تبرزه القوة المادية وتجسمه في أشخاص وآلات.
وبعد أن رأينا مردة الجو والبحر والبر يقذفون القنابل مصارع لراهبات الكنائس، وأطفال المدارس، وعجائز المنازل، وغير هؤلاء من عباد السلام والحق والرحمة: كيف يصح لنا أن نقول إن هناك حقاً يدافع وحده عن نفسه أمام باطل مدرع ببأسه؟!
وبعد أن رأينا أمماً كأمم الهند وشمال أفريقية تعبد الله بالأقوال والأشعار، وتسبح بحمد الحق ليل نهار منذ مئات السنين، يحمها ذلك أمام سيادة القوة وجبروتها؟!
إننا لم نجد غير الأقوياء بالقوة المادية مضطلعين بأعباء الحياة الاجتماعية، فهم أسرع الذين يؤثرون في الأخلاق وفي سير الحياة، ومن عداهم فلا تأثير لهم في مجرى الحياة إلا بمقدار ما تسمح القوة المادية بدراسة آرائهم ومذاهبهم. فلو أن ذوي الأفكار العليا والأخلاق الكاملة التمسوا القوة المادية كالتماسهم الحق، وأثروا بها في مجرى حياة الجماهير، إذا ما وجدنا هذا التخلف الفظيع بين حياة الفكر والخلق وحياة الواقع.
مهما صفا الفكر وامتلأ بالخواطر الراجحة الكريمة فلن يجدي المجتمع جدوى واسعة متعدية، إلا إذا عاونته اليد بوسائل تنفيذ ما يمتلئ به.
ومها امتلأت المعابد فلن يجدي امتلاؤها الحياة شيئاً، إلا إذا امتلأت الشوارع والمعامل والأسواق والحقول والجيوش بمن ينفذ روح العبادة في هذه المجالات.
كل فكرة معرضة للفناء السريع، أو للركود والدفن في الصحف، إذا لم يسعفها التجسيم والتشكيل والتطبيق.
والفكرة إذا جسمت في قالب دخلت باب الوجود الحسي، وصارت محلاً للتحسين والنمو والتجميل ممن يأتي بعد صاحبها الأول. أما إذا تركت حيث انبثقت فهي كائن موقوت من عالم الأطياف!
فيا رجال التصوف والشعر من كل جنس! لا تحاولوا أن تصرفوا الناس عن حياتهم المادية، فقد صارت جميلة معقدة منوعة مغرية ذات قيمة كبيرة وسلطان على النفوس؛ وحاولوا أن تفهموا أنتم وأن تفهموا الناس أن الدين جزء من الحياة، وليس منفصلاً عنها إلا في جزاءاته الموعودة في المصير الآجل المحتوم.
ومن السهل إفهام الناس ذلك في هذا العصر الذي اتسعت فيه أدوات الإقناع والتأثير.
اجعلوه امتدادا لأحلام الناس في السعادة والجمال الذي يفتهم من دنياهم، ولا تجعلوه حرماناً وخواطر وضعف تشاؤم وبكاء.
اجعلوا الأخرى صورة كاملة مضخمة دائمة من هذه الدار الناقصة الفانية
ومن السهل أن تجدوا من منطق العقل ومنطق الوجدان ومنطق القدرة العملية للإنسان حججاً للإقناع. . .
أيهما أوقع في النفس وأشد إثارة لابتهاجها بالحياة؛ وأدعى إلى الفرح بالإنسانية: أن نظهر الوحدات الإنسانية في حشود استعراضاتها النظمية والرياضية، ومواكبها الفنية التي تظهر جمال أجسامها وإشراق ديباجة الحياة بها. . . أم أن نظهرها في أفراد منثورة وزمر مبعثرة من الفقراء الضعاف العجزة الجهلاء المهزولين المكتئبين المتشائمين، الذين يقتلهم الصمت والعزلة والوحشة، قد طمست نظرة الحياة في وجوههم، وانطفأ نورها من عيونهم، وخمدت شعلتها في قلوبهم، وتعطلت أيهم من العمل، وأذهانهم من العلم فليس لهم مهارة في مهنة، أو أثاره من علوم الدنيا؟
لاشك أن رؤية استعراض عسكري أو نظامي أو رياضي كاف أن يقذف في قلوب المتشائمين شعلاً وشحناً كهربائية تردهم إلى الفرح بالحياة والحماس لها، وللمعيشة بالأجسام عيشة رحبة، إن كانوا ذوي طبع سليم يستجيب لعوامل الحياة.
أننا نستطيع أن نقول: أن أجسام الإنسانية ما هي إلا نبات، كماله وظهور أسراره والابتهاج به يكون عن طريق تصحيح أعواده وتقويتها وتجميلها إلى آخر حدود الصحة والجمال.
وإذا تفتحت أجسامنا في صحة وقوة وجمال كما تتفتح الأزهار وتنضج الثمار، حملنا ذلك على أن نحب الحياة وتحبنا، مادمنا قد جعلنا عقولنا وقلوبنا كمناطق النمو التي في النبات، محفوظة من الآفات وعوامل الفساد. وإن كل تنظيم جسمي ومادي مما يكون في ذات الإنسان أو في مرافق حياته يزيد في ثقة الإنسانية بنفسها، ويوضح أسرارها، ويجلو امتيازها على غيرها.
وقد تدخلت يد الإنسان في نبات الحقول، ووزعت البذور بحيث ينال كل منها حظه وحقه من الماء والهواء والضوء، وتنبت أعواده متباعداً بعضها عن بعض بدون احتكاك وطغيان، وسهرت عينه عليها فحرستها من الآفات والجراثيم الضارة، فخرجت أعواده وأوراقه وثماره مخضلة وارفة راقصة، تعطي الأرض الجمال والنماء وسداد الاحتياجات.
وكذلك فعلت مع الحيوان، فأحسنت نسله وتخيرته ومنعت طغيان بعضه على بعضه؛ وروضته واستأنسته حتى صار منظره في المراعي والحظائر كذلك يعطي الأرض جمالاً ورواء ومنافع.
فما بال يد الإنسان لا تتدخل في مناطق نمو النفوس والأجسام الإنسانية بالتعليم والتهذيب والترتيب والتجميل، بل تركتها تنمو نمواً (شيطانياً) متطاغياً؟
ولقد أرى الوجه المشوه الأكمه المجدور القبيح المركب على جسم مهزول، والحامل للسان قذر وعقل ممسوخ، فأقول: هل يجوز أن تخرج ثمرة بطبيعتها إلى الحياة هذا الخروج؟! أم أن هناك اعتداء على عوامل التكوين والتجميل التي تولت إخراج هذه الثمرة منع عنها الصحة والجمال؟!
إنه اعتداء مسلسل في الأنسال المنحدرة في أجيال الجهالة والضلال. . .
فاسألوا الأمراض الخبيثة الوراثية، وسلوا الأغذية السامة، وسلوا الإهمال الشائن للأبوة والأمومة؛ ولا تتهموا عوامل التكوين الأمينة الدقيقة.
إن كفاح الحيلة الإنسانية في سبيل حفظ ذاتها كفاح هائل! فبرغم عوامل الفناء والدمار قد كثر عدد الإنسانية كثرة غصت بها أكثر بقاع الأرض خصوبة، وضوعف عدد كل أمة أضعافاً مضاعفة، وصارت مجموعات الناس وتشكيلاتهم أمراً لا يقاس به ما كان لهم في القديم. وهذا مما يدل على أن شجرة الحياة الإنسانية وفصائلها خلقت للنمو والصحة والقوة
والإنتاج، وملء المسرح الأرضي الذي قدر عليها أن تمثل دوراً فيه.
فنمو العدد، ونمو صحة الأجسام، ونمو العلوم، ونمو الاختبارات والتجارب. . . كل أولئك إشارات بليغة من حياة صادقة إلى مستقبل سعيد لهذا النوع الذي لما يعرف أسراره بعد!. . .
عبد المنعم خلاف
البحث العلمي أصوله وآدابه
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
غريزة البحث
غرض كل حي المحافظة على نوعه ونشره في الأرض. فيستعين الحيوان على اختلاف أنواعه لبلوغ هذه الغاية بغريزة البحث وحب الاستطلاع. فالحيوان ومعه الإنسان يولد جاهلاً بما حوله من البيئة لا يعرف عنها شيئاً، فيأخذ من وقت ولادته العلم عن كبرائه ويستمر طول حياته في التحصيل مدوناً في مخه مشاهداته واختباراته مستنتجاً من نتائج تأثيرها عليه ما يساعده في منع الضرر عن نفسه وما يعود عليه بالنفع.
ولما كان الإنسان يمتاز بعقله عن غيره من أنواع الحيوان فإنه يدأب في تعرف أسرار ما يصادفه في حياته بقدر طاقة عقله البشري. ويلقن خبرته وما كشفه من أسرار الطبيعة لسلالته لتتوفر لهم وسائل الحياة ولترتقي معيشتهم.
فالبحث إذن هو القوة الدافعة للإنسان على اختلاف أجناسه لكشف أسرار ما حوله فيضع مشاهداته موضع التجربة لكي يصل إلى نتيجة عملية نافعة. ولولا البحث لما قهر الإنسان الطبيعة وسخرها لخدمته ولما وصل إلى ما هو عليه من الرقي. ومن الخطأ أن يعتبر البحث حرفة أو صناعة يختص بها أفراد دون آخرين.
فهو مشاع لكل مخلوق يريد الحياة، فكل إنسان بحاث في حرفته، ولكل حرفة بحوثها، فما تقدمت الحرف والصناعات إلا بسلسلة متواصلة من التجارب تناقل نتائجها الخلف عن السلف فنشأت العلوم وتنوعت أبوابها بتراكم خبرة بني الإنسان.
توزيع العمل والتخصص
كلما تقدم الحيوان في مراتب الحياة الاجتماعية ينزع بغريزته إلى توزيع الأعمال وتخصيص الأفراد كل في عمل خاص إتقاناً له وتسهيلاً لحياة المجموع. فالتخصص إذن ظاهرة طبيعية تشاهد في شتى أنواع الحيوان. فنراها واضحة جلية في الحشرات الاجتماعية كالزنابير والنحل والنمل والأرضة. ونراها في أكمل صورها في الإنسان؛ لأنه بطبيعته مدفوع إلى التخصص لما اتضح له بالتجربة من امتياز بعض الأفراد دون غيرهم
بإتقان نوع خاص من العمل يميلون بطبعهم إليه. فإذا وزع كل عمل على من يتقنه أدى ذلك إلى سرعة إنجاز الأعمال وإتقانها والاقتصاد في نفقاتها.
والتخصص في الأعمال موجود حتى في أحط الشعوب دركة في المدينة. فنرى في الجماعات التي تعيش على الفطرة أفراداً يبرعون في اقتفاء أثر الفريسة فيسترشد بهم قومهم في الصيد، كما أن منهم من يتخصص في الريافة وهو علم استنباط الماء من الأرض بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده فيعرفون دون سواهم بعد الماء وقربه من لون التربة وشكل سطحها ورائحة ترابها وبما ينمو فيها من النباتات الخاصة وبحركة الحيوانات التي تعيش في باطنها. كما أن منهم من يتخصص في معرفة فوائد الأعشاب فيبرعون في استعمالها لمعالجة قومهم، وهكذا يتدرج الإنسان في التخصص ويبرع فيه كلما ارتفعت مرتبته في المدينة. فنشأ عن تراكم الخبرة أن وضعت أسس العلوم ونظمت فروعها إلى أن أصبحت كما نراها اليوم.
بدأت العلوم نظرية، وذلك أن ذوي العقول الممتازة من بني الإنسان فكروا فيما حولهم من دقائق الكون مدفوعين بقوة عقلهم وصفاء روحهم وعمق تفكيرهم، فاجتهدوا في حل أسرارها عن طريق المشاهدة والاستنتاج المنطقي المؤيد في كثير من الحالات بتجارب عملية تؤيد صدقها. وبهذه الوسيلة وضع علماء الأمم السالفة من مصريين وبابليين وهنود وصينيين وإغريق ورومان وعرب وغيرهم الحجر الذي أسست عليه العلوم الحديثة.
فالعلوم السماوية والفلسفية هي أول ما شغل عقول البشر.
أما العلوم المادية الحديثة فلم تصل إلى حالتها من التقدم إلا بعد مشاهدات ودراسات وتجارب بنيت على أسس علمية وقواعد منظمة قام بها عدد عظيم من الباحثين المدربين على أسس البحث السليمة في جو يضمن لهم مطلق الحرية في إدارة بحوثهم من غير أن يتأثروا بالمؤثرات الخارجية التي تعطل سير تفكيرهم وقيامهم بحل ما يطلب منهم من المسائل مستعينين برؤساء متيني الخلق مجردين عن الأهواء والأغراض المفسدة للنفوس. لا هم لهم سوى الوصول إلى الحقيقة المجردة لخير بني وطنهم خاصة والإنسانية عامة
والواقع أن المدنية الغربية الحديثة لم تصل إلى ذروتها المعروفة إلا بفضل من كونهم من جيوش البحاثين في العلوم الطبيعية والكيميائية والطبية والبيولوجية والهندسية وغيرها.
وقد أخذت فرق هذه الجيوش تزداد بتشعب العلوم وتقدمها إلى أن عمت كل مرافق الحياة الحديثة، فأصبح لكل مهنة وحرفة وصناعة معاهد للبحث خاصة بها ومؤتمرات دولية يعقدها أفرادها لمناقشة دراساتهم ونتائج بحوثهم، فأصبح كل مصنع من المصانع الحديثة مزوداً بمعهد للأبحاث كامل العدة يقوم فيه اختصاصيون يجرون البحوث للتوصل إلى رقي هذه الصناعة وتقدمها تقدماً يضمن للمصنع خاصة وللبلاد عامة التفوق في جودة منتجاته وسرعة إنتاجها مع رخص ثمنها وذلك لكسب معركة التنافس. وهم ينشرون نتيجة بحوثهم في نشرات ومجلات علمية تتناول في جميع أصقاع الأرض. ومن أمثلة ذلك معاهد البحوث الخاصة بصناعة البيرة والشوكولاته والخبز والصناعات الزراعية على اختلافها كحفظ الخضر والفاكهة واللحوم والألبان ومشتقاتها بالوسائل المختلفة التي من أحدثها التجفيف. ناهيك عن معاهد البحوث في كافة صناعات التعدين والآلات وغيرها وبناء المساكن الحديثة والطائرات والسيارات وكل ما يؤدي إلى رفاهية الإنسان ورفع مستوى معيشته.
ونتج عن التخصص في البحوث أن أصبح لكل مهنة وحرفة وصناعة اختصاصيون ترجع إليهم الحكومات والهيئات في حل مشاكل الحياة الحديثة وتعتمد عليهم في تسيير دولاب أعمالها.
الشروط الواجب توفرها في الباحثين
يجب لكي تنجح البحوث وتأتي بثمارها المطلوبة أن يقوم بها أناس يتوفر فيهم: حسن الخلق، وغزارة المادة العلمية، وقوة الملاحظة والقدرة على الاستنتاج، والقدرة على تصميم التجارب وتنفيذها واستخلاص نتائجها، والقدرة على ترتيب النتائج وإعدادها للنشر، وحسن علاقة رؤساء البحوث بمرؤوسيهم.
أما حسن الخلق فأن كتب العرب تفيض ببحار من آداب البحث وشروطه، والواجب علينا أن نعمل بها ونسير على منهاجها؛ لأن البحث أمانة في عنق الباحث هو مسئول عنها أمام ربه وضميره. لذلك يجب عليه أن يكون متفرغاً بقلبه لبحثه غير ملتفت إلى سواه، وأن يكون محباً للعلم صدوقاً منصفاً بالطبع متصفاً أكثر من غيره بالفضيلة والصدق والأمانة في أقواله وأعماله، لأن فضيحة البحاث إن هوى عظيمة وسقطته إن كبا مميتة، فالحق لابد
أن يظهر ولو بعد حين.
ويجب ألا يكون الباحث فضاً سيئ الخلق بل يكون كريم النفس سمحاً يرحم من دونه في المرتبة ويحترم كباره وأساتذته وذوي النصح له لأن قدره من قدرهم.
ويجب ألا يهاب تجشم المشاق في أبحاثه وألا يستهين بآراء غيره ومعلوماتهم مهما انخفضت مرتبتهم عنه فلكل فرد نصيبه من خبرة الحياة. وقد يستفيد أعلم العلماء من أقل الناس علماً.
ومن الأمانة ألا يغمط حق من سلفه في البحث وأن يعترف بفضلهم مهما قل أو ضؤل. وليتخذ التواضع في أقواله ومناقشاته ومناظراته ديدنا له فيحترم رأي مناظريه ولو كانوا بعيدين عن الصواب. وليعمل بقول الفيلسوف المصري القديم (بتاح حتب): - لا تكن فخوراً بعلمك، وأعط الجاهل والعالم قسطاً متساوياً من الاحترام.
والواجب على البحاث أن يكون صريحاً في كل أقواله وكتاباته غير هياب في الحق فلا يخشى المجاهرة برأيه ولو كانت نتائجه غير متفقة مع نتائج زملائه الذين يشتغلون في نفس موضوعه؛ فإن الحقيقة لا يحجبها مثل الجبن في الدفاع عنها ونشرها بين الناس وهي بنت البحث لا وصول إليها إلا بالمناقشة والمناظرة.
وينبغي ألا يخالف قوله فعله فلو كذب مقاله حاله ينفر الناس منه ولا يسترشدون به، لأن المقلد ينظر دائماً إلى حال المرشد وينبغي على الباحث أن يكظم غيظه ولا يخلط جده بهزله ولا ييأس إذا لم يقبل قوله وأن يكون مثالاً حسناً لزملائه ومرؤوسيه في الخشية والشفقة والإحتمال والحلم والصبر والتواضع وعفة اللسان واليد والاشتغال بمصالح عمله وإفادة الغير بعلمه وخبرته دون انتظار شكر أو جزاء.
وليعلم الباحث أن من وضاعة الخلق وضعف النفس أن ينشر بحثاً يبنيه على آراء ونتائج أسرها إليه أحد زملائه أو حصل بطريقة غير شريفة كاستراق سمعه لمناقشة، أو أن ينقل إليه ناقل تفاصيل تجربة رآها، فإن نشر وجب عليه أن يعنعن أي يذكر من أخذ عنه. وليجعل الباحث لنفسه في نظر نفسه قيمة قبل أن يكون لعمله قيمة، فاحترام المرء نفسه يوجب احترام الناس له. وليربط لسانه عن التفوه بنتائج بحوثه لمن يشتغل في نفس موضوعه قبل نشرها لأن ذلك يحفظ له حق الأولوية ويقلل من سوء التفاهم الناشئ عن
التنافس الطبيعي بين أفراد المهنة الواحدة، وليس ذلك معناه ألا يساعد زملاءه فيما يطلبونه منه، كلا بل الواجب عليه أن يكون كريماً. فإن كشف في بحثه نقطة تخص أحدهم فليبادر باطلاعه عليها لأن التعاون من روح البحث. وإن عثر على كتب أو نشرات تفيد أحدهم وجب إرسالها إليه لأن ذلك يبعث على توثق العلاقة ومحو التنافر وغرس المحبة والوئام بين أفراد يجب أن يكونوا أدعى الناس إلى التضامن في خدمة العلم والإنسانية.
وواجب البحاث لا يضايق إخوانه ولا يزعجهم بكثرة الأسئلة، لا يلح عليهم في الإطلاع على نتائج بحوثهم قبل نشرها، ولا يخشى الاعتراف بالخطأ فأن ذلك يقربه من الحقيقة، ولا بالضعف لأن ذلك يزيده قوة.
وعليه أن يجعل الأمانة والصدق وسيلة لبلوغ أغراضه فإن الغش والتدليس وطبخ النتائج والتهريج العلمي كلها عوامل تؤدي إن آجلا أو عاجلاً إلى موت أدبي محقق. فما التهريج إلا آلة الجهلاء وصناعة الضعفاء وهو آفة من الآفات التي تنخر في عظام الأمم التي لم تضرب بسهم وافر في المدينة الحديثة. فتراها متفشية في شتى المهن والحرف والصناعات دون زاجر نفسي أو قانوني وواجب الحكومات أن تعمد بشتى الوسائل لمحاربة هؤلاء الأدعياء الذين كثيراً ما يحتمون بمؤهلاتهم وألقابهم الضخمة فيسيئون إلى العلم والعلماء.
ولعل أحسن نصيحة للباحثين هي التي ألقاها البروفسور الروسي إيفان بافلوف مخاطباً الشباب الجامعي السوفيتي إذ قال:
(يجب عليكم أن تنموا ملكة النظام في عملكم لأن النظام في عملكم من أهم العوامل في الأبحاث العلمية؛ لذلك ينبغي عليكم أن تعودوا أنفسكم من مبدأ دراساتكم على جمع معلوماتكم بطريقة متتابعة منظمة. والواجب عليكم أن تتعلموا أبجدية العلوم قبل أن تتسلقوا جبالها فلا تقصدوا فعل شيء إلا بعد أن تمهروا في أداء ما يسبقه من الأعمال. والواجب ألا تخفوا نقص معلوماتكم بالتخمين والظنون والنظريات الجريئة، ويجب أن تدربوا أنفسكم على رباطة الجأش وحكم النفس والصبر والقيام بالأعمال العلمية الشاقة المضنية، فادرسوا وقارنوا وأجمعوا الحقائق؛ فالحقائق هي الهواء الذي بدونه لا يعيش العلم ولا يتسنى الوصول إلى حل المشكلات العلمية.
فبدون الحقائق تصبح نظرياتكم مجهوداً ضائعاً. ولكن ينبغي عليكم ألا تقنعوا بالحقائق
وحدها في دراساتكم وتجاربكم ومشاهداتكم، بل يتحتم عليكم التعمق للوصول إلى أصول هذه الحقائق ومعرفة النواميس التي تسيطر عليها وتتحكم فيها.
والواجب أن تكونوا متواضعين لا يأخذكم الغرور فتظنون أنكم تعرفون كل شيء. فيجب عليكم أن تقولوا دائماً (نحن جهلاء) مهما ازداد مدح الناس لكم. فلا تكونوا عبيداً أذلاء للغرور. والصلف يجعلكم عنيدين بدلاً من أن تكونوا مرنين. ويجعلكم ترفضون النصح الصادق وتفقدون الهداية إلى الطريق المستقيم والغرض المنشود. والواجب أن يكون المشتغلون بالبحوث العلمية كخلايا الجسم تعمل منسجمة متعاونة مع بعضها البعض كل يؤدي وظيفته وعمله الخاص بمعاونة الآخرين للوصول إلى النتيجة المنشودة فالأنانية هي ألد أعداء العلم والعلماء.
والواجب عليكم أن تعلموا أن العلم يتطلب من طالبه أن يقصر عليه حياته ويتفانى في حبه. فالعلم شره لا يقنع بغير المجهود الجبار فكونوا متوقدين في حبكم له.
والواجب أن تكون العلوم مغروسة في دم أبناء الأمة لأنها هي سلاحها التي نحافظ بها على كيانها)
(لها بقية)
الدكتور مأمون عبد السلام
وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة المصرية
صفحة من تاريخ الاستكشاف:
فيتوس بيرنج
للأستاذ محمود عزت عرفة
بقية المنشور في العدد الماضي
الرحلة الثانية والأخيرة:
أمدت كترينا بيرنج بستمائة من الرجال بينهم لفيف من العلماء الأكفاء ذوي التخصص، وبمحمول تسع مركبات ضخمة من الأجهزة العلمية الهامة، بينها بعض المناظير المكبرة التي يبلغ طول واحدها خمس عشرة قدماً. وصحت نية بيرنج على ابتيناء ثلاث سفن إحداها لكشف اليابان، والأخريان للبحث عن أمريكا. وقد تكررت في الرحلة الثانية متاعب السفر الأول ومشقاته، وإن كان بيرنج قد حاول تخفيف ذلك بإنشاء مصهر للحديد في ياكتسك يستعين به على تجهيز سفنه وتيسير إعدادها.
وانطوت ثلاثة أعوام قبل أن تبحر السفينتان الأوليان، وكانت مخازن الذخيرة ومراكز التموين قد أنشئت على امتداد الطريق البرية. وفي عام 1736 م تناهي الأنباء بأن الجليد قد حصر إحدى الفرق المتقدمة، وأن أفرادها يهلكون جوعاً وبرداً. وبادر بيرنج بإرسال النجدات الممكنة، ولكن لم له أن ينقذ من أفراد الفرقة البالغ عددهم ستين رجلاً أكثر من ثمانية. .
وبالرغم من هذه العوائق الموبقة تمكن سبانجنرج - وكان قد عهد إليه أمر البحث عن اليابان - من استكشاف جزائر كوريل وتصوير سواحلها. وكان بهذا قد بلغ اليابان حقيقة، ولكنه لم يجد - ويا للأسف - من يصدق منه هذه الدعوى!
وشحت الأقوات لدى البعث حتى لم يجد بيرنج بداً من استجلاب المزيد منها من بطرسبرج على مسافة ألف ميل عبر اليابسة ذهاباً ومثلها إياباً، يضاف إلى ذلك عبور بحر كامتشاتكا إلى حيث تقوم السفن بعملياتها الاستكشافية.
وأنشأ بيرنج سفينتان أخريين ليقودهما بنفسه بحثاً عن أمريكا ثم انطلق بهما عبر المحيط يناضل نضاله الأخير. وكان ذلك في شهر يونية من عام 1741، أي بعد انطواء أكثر من
سبعة أعوام على خروجه الثاني من بطرسبرج.
وقد خلد بيرنج ذكر سفينتيه سنت بيتر وسنت بول حين صاغ من اسميهما علماً للمدينة الجديدة التي أنشأها في كامتشاتكا ودعاها بتروبافلوفسك.
وكانت بسنت بيتر تقل سبعين رجلاً على رأسهم بيرنج، وفيهم العلامة الطبيعي المشهور جورج وليم ستللار وحملت السفينة الثانية ست وسبعين رجلاً. ثم انطلقت السفينتان صوب الشمال فيما يعرف اليوم باسم بحر بيرنج، وكان من شاطئ آسيا الشرقي إلى ميسرة القوم وإن لم يكن منهم بمرأى، وانقضت ثمانية أيام استدار بعدها بيرنج نحو الشرق، وسرعان ما هبت قواصف المحيط في عنف ففرقت ما بين السفينتين. ومضت سنت بول في تيه فسيح من البحر الخضم؛ فاضطر بيرنج كي لا يفقدها أن يتحرك في دائرة منداحة طيلة شهر كامل. ولكن لم يقدر مع ذلك أن يلتقي بها مرة أخرى. . . لقد فقدها إلى الأبد.
على أن بيرنج رأى عرضاً هدفه المقصود - أمريكا - حين كان يجد في البحث عن سنت بول، وكان ذلك في التاسع عشر من يولية سنة 1741؛ وبهذا تحقق الحلم الذي كان يتراءى له ويضنيه تحقيقه مدة ستة عشر عاماً.
وكان أول ما بدا له من أرض القارة الجديدة جبل شامخ البناء رفيع السمك أسماه (سنت إيليا). . . إذ كان بيرنج رجلاً تقياً متديناً كأكثر أولئك المغامرين البواسل من أبطال التاريخ.
حقائق جغرافية:
لزم بيرنج ساحل القارة الجديدة ستة أسابيع على أمل أن يلتقي بالسفينة المفقودة؛ وكان بجولته هذه قد عبر المضيق المعروف باسمه ورأى رأى العين كيف تنتهي آسيا وتبدأ أمريكا.
ويبلغ عرض هذا المضيق في أضيق أجزائه ستة وثلاثين ميلاً وهو مرصع الصفحة بعدد من الجزائر يقوم سكانها منذ كانوا بمهمة الربط بين القارتين عن طريق التجارة وتبادل السلع.
والحق أن بيرنج كان قد بلغ موضعاً من الأرض ينطق بأروع ما تتكشف عنه غرائب الطبيعة. . . فثمة تبدو مظاهر الانخساف الهائل في اليابسة بكيفية نشأ عنها انهيار تلك
القنطرة التي كانت تصل في يوم ما بين العالمين القديم والجديد؛ وثمة كان يمتد الطريق التاريخ الذي اجتازته طوائف البشر والحيوان قديماً منتقلة من آسيا إلى أمريكا، وهو الطريق الذي يعلل وجودُه نشوءَ الأمريكيين كسليلين لجديهما المهاجرين من العالم القديم، والذي مكُّن كذلك للجمل الأسيوي القديم من أن ينشئ حفدته على سفوح جبال أمريكا باسم. . .
ويقول العارفون من علماء الجغرافيا إن جو هذه المناطق كان استوائياً شديد الحرارة في الزمن القديم؛ وهم قد وجدوا تأييداً لدعواهم - في أكثر الجزائر التي أرسى عليها بيرنج - عظاماً نخرة وبقايا هياكل مطمورة لحيوان الماموث والكركدن والخرتيت والنمر والوعل وغيرها من تلك الأحياء التي لا تألف اليوم إلا أشد الأقاليم حرارة. . .
وكان من غريب ما جرى لبيرنج أن انقطعت أخبار الرواد الأوائل العشرة الذين أرسلهم ليستطلعوا طِلع العالم الجديد، وكذلك كان مصير الأربعة الآخرين الذي تعقبوهم باحثين عنهم!
خاتمة بيرنج:
زحف الشتاء بخيله ورجله فلم يجد بيرنج بدأ من أن يهُرع إلى الجنوب الغربي ناجياً بنفسه من ويلاته. وهبت قواصف المحيط من شدة وعنف ولجَّت في العبث بالسفينة حتى أضلتها الطريق سبعة عشر يوماً. وقد دهم هذا الزمهرير القوم ودهم بين سماء وماء يتلمسون عبثاً طريقهم إلى ساحل كامتشاتكا؛ وكانت أبدانهم قد نحلت وضوت من سوء التغذية ففشا بينهم داء (الأسكربوط). وأنفقوا أياماً طويلة في أحضان المحيط وهم يتخبطون بين منهال الجليد ومنهل المطر، في حين كان الثلج المتساقط من أمراس السفينة يرض أجسامهم ويكاد يفضخ منهم الرءوس. وازدادت الأطعمة شحاً في مقدارها وقلة في غنائها حتى نهكت القومَ الأدواء، وعلَّ الموت فيهم ونهِل.
وقد شلت ساقا النوتي على سكان السفينة، وبدأ أكثر البحارة يعجزون عن الاضطلاع بأعباء عملهم يوماً بعد يوم. وكان من سخرية القدر أن يعجز الرجل الذي استكشف قارة بأكملها عن أن يجد ذراعاً من الأرض يريح فوقها أجساد رجاله المتهالكين. . .
وكان بيرنج شديد المنة قوى الاحتمال، ولكن مسَّا من داء (الأسكربوط) أطاف به كصخبه
فتركه عليلاً لا يقدر على شيء. وثارت بالسفينة عواصف هوج كادت تحطمها على نواتىء بعض الصخور، حطما، ثم دفعت بها نحو مجموعة من الرضام حتى استقرت دون كبير أذى في أحضان بحيرة ضحلة من الجزيرة المعروفة اليوم باسم جزيرة بيرنج. وكان مجرد بروز القوم من غرفهم الخانقة الهواء كافياً لإزهاق أرواحهم على ظهر السفينة بتأثير البرودة القاسية. وقد اشتدت وطأة العلة على بيرنج فأضجعوه في فرائه، ثم احتملوه إلى قرموص أعدوه له على الشاطئ وهيئوا له منه شبه بيت مسقوف. ولاذ سائر البحارة بمواضع أخرى من الرمال احتفروها لأنفسهم. وهكذا نجا أكثرهم من الهلاك ثم عادوا بعد عام إلى أوطانهم على ظهر سفينة جديدة اصطنعوها من أنقاض (سنت بير) - أما بيرنج فقد كان يحتث الخطى نحو مصيره المحتوم. . . كان يموت! ولم يقد له، فوق هذا، أن يودَع حياته في جو من الهدوء والسلام إذ كانت قطعان من الثعالب القطبية تغير على المعسكر، وتنغص على القوم عيشهم بما تسلبهم من رمام موتاهم وطعام أحيائهم.
ورقد بيرنج مطموراً نصف جسده في الرمال؛ وكان يزعم أن هذا مما يخفف وطأة البرد عنه. والحق أن رجاله قاموا بأكثر مما في طوقهم لإنقاذ وتخفيف ألمه؛ وكان الطعام الطازج موفوراً لديهم بما يصطادونه من حيتان البحر وبقرة وكلابه وسائر أصناف سمكه، ولكن الرجل كان خالفاً لا يتشهى الطعام، ثم أصيب من الوهن بما عجز معه عن ازدراد لقيمة تقيم أوده! وكان لا ينفك يهيل على بدنه كثباناً من الرمل ويزداد غوصاً يف أعماق حفرته كل يوم، كأنما هو يقبر نفسه حياً. وفي صبيحة يوم مقرور ألفاه صحبة غائصاً في الرمل إلى ذقنه وقد اسلم الأنفاس. وهكذا مات بيرنج الرحالة المجاهد. . . ولكن بعد أن أنجز مهمته الخطيرة وشهد انتصاره بعيني رأسه.
بيرنج بعد موته:
كانت حوادث هذه الرحلة من الغرابة بحيث استحال على الكثيرين تصديقها. . . حتى جاء الرحالة الإنجليزي المشهور (كابتن جيمس كوك) فأزال قناع الريبة فيها عن وجه اليقين. وقد جاس في رحلته خلال مضيق بيرنج، وفحص الخرائط التي تركها الرحالة الذاهب، فتبين له مبلغ دقتها، وأمانته في تخطيطها. وهكذا اتضح للعالم أجمع المهمة التي اضطلع بها هذا المستكشف الدنمركي الجريء الذي لم يقابَل بغير السخرية والتكذيب من رجال
عصره الجاثمين خلف جدران بيوتهم لا يعلمون ولا يدعون لغيرهم أن يعمل. وقد أقيم لبيرنج نصب تذكاري رائع في مدينة (بتروبافلوفسك) التي يرجع إليهفضل إنشائها، على أن ذكراه الحقة إنما تخلدت في الجزيرة والمضيق والبحر اللائى سُمَّين باسمه جميعاً.
ولم يكد ينقضي جيل على وفاة بيرنج حتى نهضت أعظم تجارة للفراء عبر المياه التي ذلل للعام سبيلها ومهد مسالكها. واكتسى ملوك أوربا وملكاتها وسائر أهل النبالة والثراء فيها من هذا الفراء الغوالي التي ترد عن طريق بحارٍ موخشة مقرورة جاد فيتوس بيرنج بحياته، غير ضنين، في سبيل أن يقرب قواصيها ويملك الناس نواصيها. .
(قوص)
محمود عزت عرفه
الأدب العصري في الجنوب الغربي لشبه جزيرة
العرب
للدكتور ر. ب. سارجنت
بقية المنشور في العدد الماضي
حضرموت:
لقد تأثرت الحياة السياسية والثقافية لحضرموت، في خلال عدة قرون على أقل تقدير، تأثيراً عميقاً بما طبعتها به عدة أسرات شهيرة من السادة نذكر من بينها الأسماء القليلة الآتية: السقاف، وعيدروس، وبا فقيه، وبا علوي. وفي القرن الحادي عشر الهجري أخرجت أسرة السقاف التي كان مقرها في ذلك العهد غالباً في تريم وابلا من الأدب الصوفي، وطبعاً أخرجت الأسرات الأخرى كذلك مجموعة غير صغيرة من المؤلفات الصوفية. وقد طبع من مؤلفات السقافين عدد ما في خلال القرن الماضي. ولم يقتصر نفوذ السقافين على كليتهم أو مدرستهم التي كانت في تريم بل كانت لهم كذلك صلة بضريح عينات المشهور، الذي تظهر صورته على طوابع البريد الحضرمية، وكان نفوذهم وعلاقاتهم تمتد في ذلك الحين - كما تمتد اليوم - إلى أفريقية الشرقية وإلى الهند ولا سيما أحمد آباد؛ بل ربما كانت لهم علاقات بالجاليات العربية في جزر الهند الشرقية. ومن المعلوم لنا أن الأسرة كانت مزدهرة منذ عهد يرجع على أقل تقدير إلى القرن التاسع، ومن عجيب ما يروى أنه هناك شخص سمي حسين بن أبي بكر السقاف أنكر على تدخين التبغ الذي كان يباع في جزيرة العرب في سنة 1012 هجرية، وقد نجح في الحصول على حظر بيعه العلني في الأسواق! وأشتهر السقافون بأنهم صوفيون غيورون، وارتحلوا في بقاع الأرض برسالتهم الصوفية، وتقبلوا العباءة الصوفية من أعضاء الجمعيات الصوفية الأخرى.
ومن ثم لم يكن غريباً أن يكون اليوم للحضرميين حي يقطنون به في القاهرة، بناحية الجمالية، على مقربة من مسجد سيدنا الحسين، وقد نشر عدد من الكتب الحضرمية أحدهما تأليف كاتب سقافي. ويحتوي هذا الكتيب على ست قصائد في مدح الإمام يحيى، نظمت في
سنة 1912 حين كانت بلاد اليمن تحت الحكم التركي، ونشرت في سنة 1926، وبه أيضاً ردان شعريان من الإمام نفسه، إذ أن الإمام شاعر معترف بشاعريته. وقد قامت هذه الأسرة المجددة، في خلال السنتين أو الثلاث الماضية بنشر مجلة الاعتصام، وهي صحيفة شهرية تصدر في مدينة سيون وتعالج الشئون الدينية والثقافية والأدبية؛ ومن حسن حظي أنني أمتلك نسخة من هذه المجلة، وهي العدد الثامن الصادر في صفر سنة 1362هـ، وهي السنة الأولى في حياة الصحيفة. ومما يذكر عن هذه المجلة أنها مكتوبة بخط اليد إذ يظهر أنه ليس في ذلك الجزء من الوادي مطبعة، ولا بد أن تكون هذه الصحيفة هي المجلة الوحدة التي تصدر في البلاد العربية على هذا الشكل.
وصدر في القاهرة كذلك منذ بضع سنين كتبا آخر هام عن حضرموت اسمه (تاريخ حضرموت السياسي)، وهو يشتمل على قدر كبير من المعلومات القيمة، ليس فيما يتعلق بالشعراء العصريين، والأدب العصري، والتاريخ الحديث فقط، بل كذلك فيما يتعلق بالعلوم التي نهضت في الغرب كعلم طبقات الأرض وعلم وصف البلدان، مما له فائدة جليلة على الرغم مما قام به الطيران في السنوات الأخيرة من رحلات الكشف والاستطلاع
وحضرموت تواجه الشرق كما تواجه الغرب، ولقد كانت العلاقات بين جنوبي جزيرة العرب والهند قائمة على أساس وطيد قبل الإسلام بزمن طويل. ويقوم اليافعيون اليوم بالخدمة المتوارثة في الحرس السلطاني الخاص لنظام حيدر آباد، كما كان اليافعيون والمهريون يخدمون في الحرس الخاص في أحمد آباد في عهد مضى عليه أكثر من أربعة قرون. ولدينا من الرجحان ما يقرب من اليقين إذ نعزو سبب طبع كتب مثل كتاب فتوح اليمن، في عبادي وغيرها من البلاد الهندية إلى أنه كان في الهند جاليات حضرمية؛ كذلك طبعت كتب أخرى تختص بشئون جنوبي جزيرة العرب، في المدينتين الهنديتين الكبيرتين، كلكتا وكانبور، غير أنه طبع في بغداد، في عهد أحدث من هذا، كتاب مشهور هو (النور السافر، عن أخبار القرن العاشر) وهو من تأليف أحد أفراد أسرة العيدروس، ويتناول أخبار الصوفيين في جنوبي الجزيرة العربية وكجرات.
وللحضارمة جاليات تقطن منذ عهد بعيد في جزائر الهند الشرقية الهولندية، ومستعمرات الملايو البريطانية، وإن كان من المرجح أن نشأة تلك الجاليات لا ترجع في تاريخها إلى
مثل ما ترجع إليه جاليات الحضارمة في الهند. وللحضارمة مطبوعات نشرت في بتافيا، عاصمة الهند الشرقية الهولندية منذ سنة 1875 وتتناول هذه المطبوعات في معظمها العلوم الدينية، والفقه، وعلم التوحيد، وبعضها طبع حجر وبعضها طبع حروف؛ وبعد ذلك التاريخ بعشرة أعوام طبعت خريطة هامة لشبه الجزيرة العربية، وكذلك الأطلس العربي، للسيد عثمان، على مطبعة الحجر.
ومعلوماتنا عن الجهود الأدبية للحضارمة خارج وطنهم، معلومات متناثرة في جملتها، وبما أنهم أقليات في تلك البلاد التي اتخذوها وطناً لهم - مهما تكن تلك الأقليات مهمة - فقد جر النسيان ذيله على جهودهم الأولى. وليس فيما أعلم في مكلا نفسها مطبعة، وإلى أن تنشأ هناك آلة للطباعة لن يكون مفر من أن ينتشر الأدب عن طريق المخطوطات التي تنسخها الأيدي أو عن طريق المطبوعات التي تستورد من البلاد العربية الأخرى. وهذا أدعى إلى الأسف، إذ أن للبلاد تاريخاً ثقافياً عريقاً تمكن المحافظة عليه وتغذيته بما يعيد إليه الحياة مرة أخرى، بإدخال فن الطباعة.
الصحافة والمطابع في الجنوب الغربي لجزيرة العرب
أصبحت الجرائد اليوم مصدراً من المصادر التي يعتمد عليها التاريخ، وإن كان من غير الممكن أن نقول عنها في الغالب دقيقة، أو نزيهة عن المحاباة، أو إنها دائماً حسنة الأسلوب، بل لا نستطيع أن ندعي لها أنها تضع أمامنا صورة صادقة عما هو حادث في البلاد فعلا. والحق أن المؤرخ اليقظ لا يترقب أن يجد في الجرائد تلك الصفات، وهو إذ يرجع إليها إنما يرجع إليها مع شعوره بتشيعها، ليوضح طريقة للحوادث في ضوء ميولها الحزبية، فستنتج من الجرائد المختلفة آراء الأحزاب المختلفة عن شأن من الشئون، ثم يعتمد على مصادر أخرى أقل تشيعاً ليستقي منها التأويل الحقيقي للحوادث. على أن المؤرخ الأدبي أسعد حظاً من زميله المؤرخ العام، إذ أن الجرائد هي إلى حد كبير مرآة تنعكس عليها الحركات الأدبية للعصر الذي تصدر فيه، بل إنها في بلاد مثل بلاد الجنوب الغربي للجزيرة الغربية تكاد تكون الوسيلة الوحدة لنشر الآداب. وقد شاهدنا جميعاً الدور الهام الذي قامت به الجرائد في نهضة الأدب العربي في مصر وسورية، فمن المهم إذن أن نتدبر أثر الجرائد في المجهودات الأدبية في ذلك الركن من شبه الجزيرة العربية.
وفي منتصف القرن التاسع عشر نشر عالم هولندي اسمه فان دن بيرغ ثبتا بالجرائد العربية التي كانت متداولة بين الجاليات العربية في الهند الشرقية، ولنا أن نفترض أن كل تلك الجرائد كانت متداولة في المدن التي كان يمكن الوصول إليها في الجنوب الغربي للجزيرة العربية، وكانت هناك جريدة (الجوائب) التي أسست في إستنبول سنة 1860 وكانت تطبع فيها، وقد عطل الباب العالي هذه الجريدة، ولكنها عادت للصدور مرة أخرى سنة 1885 باسم جريدة (القاهرة). كذلك كانت جريدتا (الاعتدال) و (الإنسان) تصدران في إستنبول وتتداولان في الهند الشرقية. ومما كان منتشراً في الهند الشرقية أيضاً الجرائد البيروتية الآتية:(الجنة) و (لسان الحال) و (ثمرات الفنون)؛ ومن القاهرة جريدة (الوطن)؛ ومن الإسكندرية جريدتا (الأهرام) و (روضة الإسكندرية)؛ ولعل أهم ما كان متداولاً من الجرائد هناك، من الوجهة السياسية، هو صحيفة (العروق الوثقى) وهي مجلة دعاة الوطنية من العرب وكانت تصدر في باريس.
وليس من الميسور الحصول على معلومات فيما يتعلق بإنشاء المطابع وتأسيس دور الطباعة في الجنوب الغربي للجزيرة العربية. ذلك إلى أنه يظهر أن معظم المطبوعات الأولى التي أخرجتها تلك المطابع كان ذا صبغة وقتية فاختفى غير مخلف له أثراً يهتدي به على نوعه أو قدره. وما كتب له البقاء من الوسائل أو الجرائد التي طبعت في تلك المطابع في عهدها الأول، يرجع أنه اليوم مبعثر بين المكتبات الخاصة والعامة في تركيا، والهند، وصنعاء، وعدن، وبريطانيا العظمى، ولكن القارئ العادي لا يعرف شيئاً عن وجودها. على أن لدينا شيئاً من المعلومات عن تأسيس الجريدة اليمنية (صنعاء) التي كانت تطبع بالعربية والتركية. ففي سنة 1867 قررت الحكومة التركية العثمانية أن يكون في عاصمة كل ولاية من ولايات الدولة العثمانية مطبعة، وأن يقوم كبار الموظفين في الولاية بنشر تقويم أو كتاب سنوي (سالنامه) يشتمل على أهم الأخبار في الولاية، وأن تنشر كذلك جريدة في كل عاصمة. وبناء على هذا القرار أقيمت مطبعة في القصر الحالي للإمام المعروف باسم (مقام الإمام) وطبعت فيها جريدة (صنعاء). ونسخ هذه الجريدة نادرة الوجود جداً في الوقت الحاضر، ومن المرجح أن هذه الجريدة لم تكن منتشرة، حتى في ذلك العهد، إلا في المدن الكبرى، إذ أن سلطة الأتراك خارج تلك المدن كانت واهية جداً. ويظهر أن عدداً من
الرسائل طبع كذلك في تلك المطبعة، ومن المرجح أن معظمه كان متصلا بالشئون الحربية والإدارية، ولكن واحدة من هذه الرسائل قد وقعت في يدي وهي تبحث في الفرائض الدينية. والكتاب الأتراك عن اليمن هم الذين يمكنهم أن يكشفوا عن نشأة هذه المطبعة، وعلى الخصوص حامد وهبي الذي نشر كتابه السنوي عن اليمن (سالنامه سي) في سنة 1289هـ.، وكذلك غيره من المؤلفين الذين كانوا على الأرجح موظفين في الحكومة وكان لهم اهتمام بالبلاد دعاهم إلى كتابه تاريخها. ولقد كان الأتراك طبعا حكاماً لجزء من اليمن في حقبة قصيرة في خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومما يذكر على سبيل التنذر أنه ما زال باقياً حتى اليوم في القسطنطينية صور للفتح التركي لليمن من صنع فنانين أتراك من أهل ذلك العهد.
وفي أثناء العهد المضطرب الذي تلا الحرب العظمى الأولى لم يكن في اليمن على ما يظهر نشاط أدبي كبير، غير انه في سنة 1345هـ. و (1926م.) ظهرت الأعداد الأولى للجريدة اليمنية الجديدة في صنعاء، مطبوعة في المطبعة التركية القديمة ومسماة باسم (الإيمان). وتشمل هذه الجريدة الرسمية على نصوص المعاهدات المعقودة مع الدول الأجنبية. وعلى المراسيم، والأحكام القضائية، والقصائد المنظومة في مدح الإمام وأمراء البيت المالك، كما تحتوي على مقالات أدبية ودينية. وبفعل هذه الجريدة يمكن تتبع الموقف السياسي الداخلي للبلاد، إلى درجة ما، كما يمكن الوقوف على الجهود الحميدة التي تبذلها الحكومة المركزية في النهضة بالتعليم، وتربية روح وطنية عامة - لا روح قبلية محلية - في جميع أنحاء البلاد. وعلى أنه من غير الممكن أن نقدر مبلغ ما لهذه الجريدة من الانتشار في داخل بلاد اليمن، يمكننا أن نسلم بأنها تصل إلى جميع دور الحكومة في كل قضاء، وبأنها تتداول بأيدي قراء يزيدون في عددهم زيادة كبرى على ما كان للجريدة التي كانت تصدر في العهد التركي، وتؤدي ذلك خدمة أهم من تلك التي كانت تؤديها تلك الجريدة. ومن المميزات الشائقة في جريدة (الإيمان) ما تنشره لمراسليها في سورية وغيرها من البلاد العربية الأخرى.
أما أهل عدن فأنهم يستوردون منذ عهد طويل الصحف المصرية التي يكاد يكون الحصول عليها في عدن في مثل سهولة الحصول عليها في القاهرة، ولا يقتصر قراؤها هنا على
العرب فقط، بل يقرؤها كذلك المتعلمون من الصوماليين. وتنتشر الجرائد كذلك في لحج عاصمة السلطنة العبدلية، ولكنها قليلة الانتشار في الجهات الأخرى من المحمية. ولدينا من المراجع المسطورة ما يدل على أنه في سنة 1870 كان في عدن مطبعتان: إحداهما في السجن، ومن المرجح أنها تطبع بجانب المطبوعات الحكومية إلا القليل، والأخرى خارج السجن، وليس لدينا ما يدل على أنها كانت تطبع كتباً عربية أو على مقدار ما طبعته منها إن كانت قد طبعت منها شيئاً. وشاهدت سنة 1914 قيام مطبعة ثالثة، فأصبح هناك ثلاث مطابع تقوم على خدمة عدد من السكان يتراوح بين أربعين ألفاً وخمسين ألفاً؛ واليوم أستطيع أن أسمى ثلاث مطابع تطبع بالعربية، منها مطبعة (فتاة الجزيرة)، ومطبعة (الهلال) في بازار بهرة، وربما كان هناك مطابع أخرى ولست أدري أكان بين مطبوعات المطابع الأولى ما يزيد على حجم الرسائل أو الإعلانات أم لا، ولكن من غير المحتمل أن تكون تلك المطبوعات قد اشتملت على كتب. ومنذ نشوب الحرب الحاضرة تولي تحرير جريدة (فتاة الجزيرة) صحفي عدني اسمه محمد لقمان، وتنشر هذه الجريدة الأخبار المحلية، وقصائد شعرية، ومواد في التربية والتعليم، ومقالات عامة، والأوامر الحكومية. وإذا قارنا هذه الجريدة بجريدة (الإيمان) التي تجنح إلى الأسلوب القديم، ألفيناها ذات أسلوب حديث في عرض موضوعاتها، وتستخدم لغة الصحافة الحديثة العربية. وهي منتشرة في عدن ولحج وإن كنت رأيت بعض نسخ منها في الأجزاء الأخرى من المحمية، وربما وجدت أيضاً في حضرموت حيث مستوى التعليم أعلى نوعا ما.
وقد سبق أن ذكرنا جريدة (الاعتصام) الحضرمية، ولكنه إذ لا مفر من طبع جميع الكتب الحضرمية في الخارج، كذلك الجرائد المطبوعة تأتي من الخارج. فمن ذلك أن الجرائد تستورد من جزائر الهند الشرقية الهولندية، ومن المرجح أن يكون من بينها جريدة (حضرموت) التي تطبع في سورابايا، في الهند الشرقية الهولندية، منذ نحو سنة 1923. وكانت تطبع في سنغافورة جرائد عربية قبل الحرب الماضية، وعلى أنني لم أر واحدة منها، أرجح كل الترجيح أنها كانت من تحرير الحضارمة، وأنه ظلت الجرائد العربية تظهر هناك حتى عهد قريب. ومن الصحف المتداولة في المدن الساحلية للمحيط الهندي مجلة (العرب) التي تصف نفسها بأنها (جريدة إسلامية، أخبارية، أسبوعية، تصدر من
الهند)؛ وقد بدأت هذه الصحيفة في الظهور في سنة 1940 - 1941، وهي تحتوي على أخبار ومعلومات عامة عن عدن، واليمن، وحضرموت. وهي تطبع في مبادئ، وتدعي أنها (حلقة الاتصال بين الهند والعالم العربي) ويرد إلى حضرموت مجموعة متنوعة من الصحف بالإضافة إلى الصحف المصرية والعراقية، غير أن توزيعها مقتصر على المدن ولا سيما المدن التي هي أقرب إلى الساحل.
اللغة العربية في جنوبي الجزيرة العربية
ونختتم بحثنا هذا بكلمة قصيرة عن الأساليب العربية التي تستعمل في جنوبي الجزيرة العربية. والأب أنستاس ماري يقول عن جدارة، معبراً عن وجهة نظر الأمم الآخذة من التقدم بنصيب أوفى، فيما يتعلق بالأسلوب العربي الذي يستعمله اليمن:(وأما لغة الإنشاء فصحيحة، لكن أسلوبها أسلوب العصور الوسطى، وليس فيها تلك السلاسة والرطوبة واللدونة التي ترى في أساليب العصريين من أهل مصر، وسورية، ولبنان، والعراق؛ وكل ما يرمي إليه كتبه اليمانيين السجع الممل.)
ولكنه يحتاط فيقترح الحل الآتي: (على أننا لا نريد بذلك ذم كلام أبناء اليمن، بل نود أن يطالعوا التصانيف الحديثة التي تصدر كل يوم في الديار العربية اللسان.)
وفيما يتعلق بلغة التخاطب والمحادثة، يستخدم أهل المدن لهجة شائعة يفهمها الغريب بسهولة، أما في القرى فللناس لهجات كثيراً ما يصعب فهمها على المسافرين الوافدين من جهات أخرى. وبين يدي الآن وثيقة قانون قبلي أو شرع قبيلة كما تسمى في جنوبي جزيرة العرب، وهي وثيقة لا يستطيع فهمها مصري أو سوري، بل لا يستطيع فهمها حضرمي مثلاً. ومع ذلك فهي مكتوبة باللهجة التي تتكلمها هذه القبيلة دائماً، بل يتكلمها سلطانها. وفي بعض المناطق ما زالت لغة التخاطب قوية الشبه بلغة بني حمير، ولن يدهش علماء النحو أن يعلموا أن (أم) ما زالت تستعمل أداة للتعريف بصفة عامة جداً، كما أخبرنا بذلك منذ قديم كل من الزمخشري وسيبويه. إن في الجنوب الغربي لجزيرة العرب مناطق كثيرة لم تكد الحروف المطبوعة تخترق أصقاعها، وهذه المناطق تكاد لا تزيد على أن تفهم لغة الجرائد العصرية. على أن ارتجال الشعر في تلك الجهات ما زال عنصراً من عناصر الحياة الاجتماعية للناس. وليس ثمة شك في أنه في خلال نصف قرن يأتي ستتطور منطقة
الجنوب الغربي بانتشار التربية وتعلم القراءة والكتابة، وما سيصحبها من نشر المعلومات العصرية في الفنون الهندسية والأساليب الأدبية، وسيكون من الشائق جداً أن يلاحظ الباحث تطور هؤلاء القوم تحت تأثير هذه العوامل الحديثة. لقد كان للبلاد ماض مجيد في تاريخ المدينة، وجدير بها أن يكون لها مستقبل مجيد، وهي بذلك أجدر بسبب ما تحتويه من الثروة الطبيعية التي ساعدت في الحجاز على تقدم الشعب العربي.
الدكتور ر. ب. سارجنت
هرموبوليس مدينة الحج
- 2 -
للأستاذ فوزي الشتوي
(انتهينا في المرة الماضية عند وصف سراديب التحنيط ونختم في هذا المقال بوصف بعض الآثار الأخرى)
حياتنا لم تتغير
وإلى جوار السور معبد حاكم المنطقة الديني بوتوزوريس. وهو معبد فخم تبدو ونقوشه بالألوان الطبيعية والصور المنحوتة في الأحجار فترى في تقاطيع أصحابها سمات المصريين، وسمات السوريين والصينيين. ترى فيها تعابير الحزن كما ترى فيها علامات الفرح. وتدرك من نظرات أصحابها ما تنم عليه من إعجاب أو ازدراء، فعلى حوائط هذا المعبد سجلت صور الحياة المصرية في مراحلها المختلفة.
فهنا لوحة أو لوحات تمثل الفلاح يزرع أرضه من حرث وسقي وإنبات ثم حصد وتدرية، وفي لوحة ثانية ترى الصانع يحتضن أدواته ويحركها في خزفه أو نحاسه ليخرج منها تلك الأواني التي تشاهدها في دار الآثار، أو أن أردتها حية مجسمة تجدها في خان الخليلي، فصناعه وأدواتهم وطرقهم يتبعون طرق أسلافهم ونادراً ما تجد أداة تغيرت ولكن ما تغير هو مرور تلك الحقبة من الزمن
ونظرت دقيقة إلى تلك اللوحات وما شملت، ثم نظرة أخرى إلى تلك البقعة وما بين توضح لك أننا لا نزال نعيش على حساب تلك العقول، فهناك نرى صحاف النحاس تنقش ثبتت على قواعد من القار فترى منها نسخة أخرى في خان الخليلي.
وما قيل عن صناع الصحاف النحاسية ينطبق على النجارين والخراطين وصناع الفخار. تراهم كلهم منهمكين في عملهم في تلك الأوضاع المختلفة التي لم يترك منها الفنان تعبيراً إلا نجح في آدائه وإجادته طبقاً للحقيقة الحية.
كاهن ورع
وهكذا خصص من كل حوائط المعبد واحدة أفردت الأولى للزراعة وبينت الثانية نواحي
الصناعة وعرضت الثالثة لحياة الكاهن وموته. وعلى هذا الحائط تظهر عظمة صاحب المعبد. فهو لم يكن كاهنا عادياً، رجلاً تقياً ورعاً يحج إليه الناس من كل مكان فيأتيه اليونانيون والرومانيون ليحصلوا على بركته وليعبروا له عن إعجابهم بسجاياه، يمتدحون جليل أعماله، ويطنبون في حسن معاملته لأعوانه.
ومن الظواهر الجديرة بالتسجيل على ذلك الحائط منظر أولاده الأربعة وبناته السبع وقد احتلوا أماكنهم في صف واحد مرتين تبعاً لأعمارهم فلا يسبق الغلام الفتاة ولا الفتاة الغلام. ففي المقدمة الابن الأكبر وفي النهاية الابن الأصغر وإنك لتلحظ فيهم اختلاف التقاطيع وتشابهها كما تلحظه في أبناء أية أسرة. وإنك لترى في تلوين البشرة سمارها في الذكور وبياضها في الفتيات، كما تلمس أماراة الرجولة في الشبان وعلامات النعومة في الفتيات وإن امتياز الجميع بقاماتهم الفارغة الممشوقة.
ومات الكاهن الورع، فقدمت الوفود من كل مكان. وسار الكهنة في موكب جنازته يسحبون العربة التي تحمل جثته وترفرف فوق رؤوسهم أعلام بلادهم، فهم لم يأتوا كأفراد فحسب، بل قدموا كممثلين لبلادهم وليعبروا عن مكانة الرجل في ديارهم.
يوم الحساب
والموت في عرف المصريين القدماء مواصلة الحياة ولكن في الدنيا الآخرة أو عالم الخلود. وليس الوصول إليه من الأمور الهينة ففي طريقه حساب عسير لا يكتفي فيه بالمظاهر بل يوزن فيه الإنسان ومبعث خيره وشره.
فإذا انتقلنا إلى الحائط الأخير وجدنا روح الميت بين أيدي الآلهة تقدم حسابها فتذكر أربعين سيئة لم يعملها الميت في حياته ثم يترافع أمام مجمعهم مبيناً حقه في الحياة الأبدية. إلا أن الآلهة لا تؤخذ بالأقوال فيزنون ما في قلبه من شر. فان وازن ريشة (معان) إلهة العدل أدخل الجنة. وإن زاد عنها ألقي إلى حيوان ضخم يلتهمه ثم يندفع به في حياة الظلمة.
ويربط هذا المعبد بين الفن المصري والفن اليوناني. فهو مصري في جميع نقوشه وتفاصيله إذا استثنينا طريقة الدفن. فالمتبع في المقابر المصرية أن يكون مرقد الميت إلى اليمين. فكان في هذا المعبد في بئر عميقة في وسطه طبقاً لطقوس ذلك العصر. وفي سقف المعبد فوق البئر فتحة صغيرة لوحظ أن الشمس تسقط منها إلى اسفل البئر فتضيء المكان
وتبارك صاحبه في وقت الظهر من شهر بؤونة.
فن التصوير القصصي
وتمثل الحفريات الأخرى كثيراً من الفنون اليونانية. ونجد فيها أول مراحل فن التصوير القصصي. ففي أحد المنازل، ويظهر أن صاحبه كان من رجال العلم، صور الفنان قصتي أوديب الملك والكترا. ففي الأول يبين الرسم ذلك الحيوان الضخم وهو يسأل أوديب عن الشيء الذي يسير على أربع في الصباح، وعلى أثنين في الظهر وعلى ثلاث في المساء.
ويجيبه أوديب بأنه الإنسان عندما يحبو طفلاً، وعندما يمشي رجلاً، وعندما يتوكأ على عصاه شيخاً. ولأهمية هذه الصورة نقلت إلى متحف الآثار واستبدلت في مكانها نسخة حديثة الصنع.
وعلى حائط آخر مثل الفنان أخلاق الرجل والمرأة فرسم، الأول على شكل ديك هادئ وديع، وصور المرأة على شكل هرة ثائرة متحفزة للشر.
ومدينة الحج بعيدة عن موارد الماء. ولهذا احتاج إمدادها به إلى بناء ساقية تدل على رقي فن الهندسة. يبلغ عمقها 34 متراً حتى يصل عمقها إلى مستوى ماء بحر يوسف. وهي مبنية على درجتين: عمق الأولى 20 متراً، وعمق الثانية 14 متراً يرفع منها الماء بالطرق المعروفة عندنا ليخزن على سطح الأرض فيأخذ منه السكان حاجتهم ويستقي منها الطير. ثم يتسرب ما يفيض ليروي أشجار الدوم التي كانت مزروعة حولها.
والمنطقة عامرة بكثير من الآثار التي تربط بين مختلف العصور المصرية، ففيها معبد وجدت في بعض أنحائه أدوات يظن بعض المشتغلين بالآثار أنها من العهد المسيحي ويرى أنها من أدوات عماد الأطفال في الكنائس.
والمنتظر عندما يتم كشف هذه المنطقة ويدرس علماء الآثار محتوياتها أن تكشف لنا عن كثير من غوامض التاريخ فقد كانت المنطقة كما قلنا على جانب كبير من الأهمية الجغرافية، وكانت في أكثر أحوالها مقصد الناس، ونعتقد أن فائدتها لا تكمل إلا بإتمام كشف المنطقة الأخرى المعروفة الآن بالإدارة فقد وجدت هناك مباني ضخمة تدل على عظمة وفن وروعة؟
فوزي الشتوي
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشبي
661 -
رب قليل أبلغ من الكثير
دخل سعيد بن وهب على الفضل بن يحيى في يوم قد جلس فيه للشعراء فجعلوا ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد، فالتقت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق، فقال له: أيها الوزير، إني ما كنت استعددت لهذه الحال، ولا تقدمت لها عندي مقدمة فأعرفها، ولكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة. فقال: هاتهما، فرب قليل أبلغ من الكثير، فقال سعيد:
مدح الفضل نفسه بالفعال
…
فعلا عن مديحنا بالمقال
أمروني بمدحه قلت كلا
…
كبر الفضل عن مديح الرجال
فطرب الفضل، وقال له: أحسنت (والله) وأجدت! ولئن قل القول ونزر، لقد اتسع المعنى وكثر. ثم أمر له بمثل ما أعطاه كل من أنشده مديحاً يومئذ، وقال: لا خير فيما يجئ بعد بيتك، وقام من المجلس وخرج الناس يومئذ بالبيتين لا يتناشدون سواهما.
662 -
وشريكي في الصنعة
قيل لشبيب بن شبة بن عقال:
ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك وينتقصك؟
قال: لأنه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصنعة.
663 -
شر من إبليس
قال الراغب الأصبهاني: توصل رجل إلى إبليس فقال له: لي إليك حاجة؛ إن لي ابن عم ذا ثروة، وله إحسان كثير إلي ولي بماله نفع بين، ولكن أريد أن تزيل نعمته وإن افتقرت بفقره. فقال إبليس لأصحابه: من أراد أن يرى من هو شر مني فلينظر إليه.
664 -
لا والله بل أنا
قال رجل لأبي عمرو بن العلاء: وعدتني بأمر فلم تنجزه.
فقال أبو عمرو: من أولى منا بالتعب أنا وإلا أنت؟
قال: أنا
قال: لا (والله) بل أنا
قال: وكيف؟
قال: لأني وعدتك وعداً فأنت تفرح بالوعد، فبت جذلان مسروراً، وبت أنا بهم الإنجاز، فبت ليلتي مفكراً مغموماً بما عاق الدهر من بلوغ الإرادة فيه. فلقيتني مدلا، ولقيتك مستحيياً
665 -
وبالشباب شفيعاً أيها الرجل
في (الأغاني): الرياشي: سمعت الأصمعي يقول: قال هذا الباهلي محمد بن حازم في وصف الشيب شيئاً حسناً، فقال له أبو محمد الباهلي تعني قوله:
كفاك بالشيب ذنباً عند غانية
…
وبالشباب شفيعاً أيها الرجل
فقال: إياه عنيت. فقال أبو محمد الباهلي: ما سمعت لأحد من المحدثين أحسن منه.
666 -
جحود الذنب ذنبان
أنكر الصابي على صديق له شيئاً فكتب إليه: إما أن تقر بذنبك فيكون إقرارك حجة علينا في العفو عنك، وإلا فطب نفساً بالانتصاف منك، فإن الشاعر يقول:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزنا
…
عنه فإن جحود الذنب ذنبان
667 -
أوميروس وأنابو الماجن
(إخبار العلماء بأخبار الحكماء): جاء أنابو الماجن إلى أوميروس الشاعر اليوناني فقال: اهجني لأفتخر بهجائك إذ لم أكن أهلاً لمديحك. فقال له: لست فاعلاً ذلك أبداً، قال: فإني أمضي إلى رؤساء اليونانيين فأشعرهم بنكولك. قال أوميروس مرتجلاً: بلغنا أن كلباً حاول قتال أسد بجزيرة قبرص فامتنع عليه أنفة منه، فقال له الكلب: إنني أمضي فأشعر السباع بضعفك. قال له الأسد: لأن تعيرني السباع بالنكول عن مبارزتك أحبُّ إلي من أن ألوّث شاربي بدمك.
668 -
شدة الاحتياط في الدين. . .!
في (الحيوان) للجاحظ: قال أبو بكر الهذلي: كنا عند الحسن البصري إذ أقبل وكيع بن أبي سُود فجلس، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في دم البراغيث يصيب الثوب أيصلي فيه؟ فقال:
يا عجبا ممن يلغ في دماء المسلمين كأنه كلب ثم يسأل عن دم البراغيث. . .! فقام وكيع يتخلج في مشيه كتخلج المجنون. فقال الحسن: إن الله في كل عضو منه نعمةً فيستعين بها على المعصية. اللهم، لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمتك على معصيتك.
669 -
فلم لا يكذب الوراقوق عليك؟
حضر أبو العيناء يوماً مجلس بعض الوزارء، فتفاوضوا حديث البرامكة وكرمهم، فقال الوزير لأبي العيناء (وكان قد بالغ في وصفهم): قد أكثرت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا تصنيف الوراقين، وكذب المؤلفين.
فقال له أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فسكت الوزير، وعجب الحاضرون من إقدامه عليه.
670 -
والغصن بمرح في غلائد
في (نفح الطيب): كانت نزهون القلاعية الأدبية الأندلسية تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى، فدخل عليهما أبو بكر الكندي فقال يخاطب المخزومي:
لو كنت تبصر من تجالسه
فأفحم وأطال الفكر فما وجد شيئاً، فقالت نزهون:
لغدوتَ أخرس من خلاخله
البذر يطلع من أزرته
…
والغصن يمرح في غلائله
671 -
يطول وقوفك إذن
أبن الجوزي: مر رجل من الفطناء برجل قائم في طريق، فقال: ما وقوفك؟
قال: أنتظر إنساناً.
قال: يطول وقوفك إذن. . .
672 -
أيها الأمير، ليس هذا من عملك. . .
في (نثار الأزهار في الليل والنهار) لابن منظور صاحب (لسان العرب): دخل عبد الله بن عمر قاضي أفريقية على أميرها يزيد بن حاتم فقال: أهللنا هلال رمضان فتشايرناه بالأيدي، فقال يزيد: لحنت يا ابن غانم، إنما هو تشاورناه. قال: بيني وبينك أيها الأمير
قتيبة النحوي - وكان إذ ذاك قدم على يزيد، وهو إمام الكوفة - فبعث إليه، وكان في قتيبة غفلة؛ فقال له يزيد: إذا رأيت الهلال وأشرت إليه وأشار غيرك إليه كيف تقول؟ قال: أقول: ربي وربك الله! فقال يزيد: ليس هذا أردنا، فقال ابن غانم: دعني أفهمه من طريق النحو فقال: إذا أشرت وأشار غيرك وقلت: تفاعلنا في الإشارة إليه كيف تقول؟
قال: تشايرنا وأنشد لكثر عزة:
وقلت وفي الأحشاء داء مخامر
…
ألا حبذا (يا عز) ذاك التشاير
قال يزيد: فأين أنت يا قتيبة من التشاور؟ قال: هيهات أيها الأمير، ليس هذا من عملك، هذا من عملك، هذا من الإشارة وذاك من الشورى. فضحك يزيد، وعرف جفاء قتيبة فأعرض عنه، واستحيا من ابن غانم.
أغنية:
أحلام الجزيرة
للشاعر عبد الرحمن الخميس
خفقَ الروحُ بين تلك الروابي
ذكرياتي هنا. . . ورَجْعُ شبابي
آهِ لو تعلم (الجزيرةُ) ما بي،
…
منْ حنينٍ ولهفةٍ لحبيبي
كلما أقبلَ المساءُ عليها
جَنَحَ العاشقُ اللهيفُ إليها
وجثا للحبيب بينَ يَديَها
…
أنا وحدي هنا. . . فأين حبيبي؟!
كم صحبتُ الظلامَ بين رباها
ودعوتُ الصباحَ يغْشَي سماها
ومع الطير. . . كم ملأتُ ضُحاها
…
بأغاريدَ صغتُها لحبيبي!!
ضَمَّها النيلُ جَنَّةً للغرامِ
ورواها بقلبه المُسْتهامِ
لَيْلُها. . . كانَ معبدَ الأحلامِ
…
كم سَجَدْنا به. . . أنا وحبيبي
عذبةٌ حيرتي، ولوعة روحي
وأنا أستعيدُ ذكري جُروحي
وانطلاقي مع الهوى وُجموحي. . .
…
قَدَحي. . . فاضَ بالأسى يا حبيبي
سألتْني الظلالُ حين رأتْني،
واجماً في سكونها لا أغَنَّي:
كيفَ غابَ الأليفُ عنكَ وعني
…
فتهاويت باكياً يا حبيبي!!
كم خَطَرْنا مع الدجى والنهارِ
بين تلك المروجِ والأشجارِ
أسْأَلُوها تذيعُ من أسراري
…
أنا قَبَّلْتُ في حماها حبيبي. . .
من نسيج الفؤاد صُغْتُ ابْتِهَالي
للعصافير. . . والربى. . . والظلالِ،
أنْ تبثَّ الوجودَ لوعةَ حالي
…
وتُغَنَّي بما جَنَاهُ حبيبي. . .
خفقَ الروحُ بين تلك الروابي
ذكرياتي هنا. . . ورَجْعُ شبابي
آهِ لو تعلم (الجزيرةُ) ما بي،
…
منْ حنينٍ ولهفةٍ لحبيبي!!
عبد الرحمن الخميس
ضجة الربيع
للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي
(دقت نواقيس المساء حزينة تنعى النهار)
فجرى الأصيل مُروّع الخطوات مجنون القرار
وتركت والأفق الحزين يَلُفُّه طفَل الغبار
والوحدة الخرساء تسلمني لآلام ضوار
ونسيج أحلام تمزقه أعاصير أدِّ كار
وتراكضت قطع السحاب كسرب أوهام بديده
دكناء يطردها الظلام كبعض آمالي الشريده
وسمعت ريح الليل تحمل صوت أرجاء بعيده
لكأنما همساتها أصداء أيامي السعيدة
أمْ أن ريح الليل تحمل لي صبابات جديدة؟!
ولمحت صاحبي الحزينة كالنهار الغارب
وقفت مُرَنَّحة الخيال على الضياء الذاهب
عجفاء كالشجر المصوّح. . . كالمساء الشاحب
دَبّ المشيب بها. . . فلاذت بالشباب الهارب
كتألُّقِ الأفق الحزين بنور فجر كاذب
تجري. . . فيقعدها السعال. . . فتستريح إلى الدموع
وإذا انثنت طربا كسالف عهدها. . . لا تستطيع
الشهوة الحمقاء تشعلها. . . فيطفْئها الصقيع
لم تبق غير أواخر الخفقات في جَهَدِ الشموع
والشعرة البيضاء تنعب في بقيات الربيع!
وفجاءة ضج الفضاء وصاح في الدنيا نذير
واصطكت الريح الرخاء وثار في الحقل الغدير
وكأن في كبد السماء لواعجاً حرّى الزفير
عوت الذئاب كأنما جُنّت. . ودَمْدَمَتْ النسور
عجباً له ليل عميق الفكر. . . ملتهب الشعور!
وإذا الشجيرات الذوابل ينتفضن مزمجراتِ
وإذا بروح تمرد تجتاح صمت الكائنات
لكأنما اندفعت عصارات الحياة إلى الموات
ويحي. . هل انبعثت من الصمت المقدس ذكرياتي؟!
كالمنبع المهجور منبثق المياه على فلاة
كالمزهر المحطوم تُرسل فيه أنغام خفيه
كالرغبة الحمراء في أعراق راهبة فتيه
كطهارة العذراء في خطرات غانية شقيه
كمدينة ذهبية الجدران في أحلام قرية
كالقوت تبسطه لعيني جائع كف عصيه
يا ذكريات الأمس. . . قرّى في غيابات السكون
قد عاود الليل الخشوع. . . وغَيّم الصمت الحزين
لا صوت إلا أنَّهُ الفلاح من ظلم السنين
وتناوح الطير المشرد بعد تمزيق الغصون
الزعزع النكباء قد بعدت عن البلد الأمين
عبد الرحمن الشرقاوي
المحامي
البريد الأدبي
التصوير الفني في القرآن
يجب أن أشكر للأستاذ الفاضل عبد اللطيف السبكي المدرس بكلية الشريعة عنايته بنقد كتابي (التصوير الفني في القرآن). ولكن ليس هذا هو الذي يشفع لي في أن اشغل حيزاً من الرسالة!. إنما هو أثار مسألة أساسية في القرآن وفي الطبيعة البشرية. أثار مسألة يوسف في: (ولقد هّمت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه) وهي مسألة تستحق المناقشة:
وقبل أن أتناول هذه المسألة الأساسية أستأذن القراء في سطور للحديث العابر عن المسائل الأخرى التي أثارها الأستاذ
1 -
لقد لا حظ أن هناك بضعة نصوص أصابها الخرم عيّن مواضعها. وأنا اشكر له التنبيه، وآسف لوقوعها في الكتاب. وما دام هو قد لاحظها فأنا أرجوه أن يتفضل بإرسال بيان عنها إليّ، لملاحظتها في الطبعة التالية، موفراً علي جهد البحث عنها
2 -
ولاحظ أني لم أبدأ عملي بالتسمية (ليرتفع عن نمط الروايات وكتب التسلية)! وأحسب أن هذه إن كانت ضرورية في كل عمل فليست ضرورية في كتابي هذا! إذ ماذا تعني التسمية إلا إثبات التوجه إلى الله بالعمل. فهل كتاب عن القرآن على نمط كتابي في تمجيده من الوجهة الفنية، في حاجة إلى هذا الإثبات الشكلي؟ إنه كله توجه، وطبيعته كلها تسمية، من صفحته الأولى إلى صفحته الأخيرة!
3 -
ولا حظ أن ليس بالكتاب دليل في نهايته. وله كل الحق في ملاحظته. ولكن من يعلمه: كم جاهدت لوضع هذا الدليل. وكم وقفت أزمة الورق وضرورات الطباعة بي عما أريد؟
4 -
ولاحظ - ولا أدري كيف - أنني أمنّ على الناس بما قدمت، وهو ما عدت إلى الكتاب أبحث عنه فلم أجده. أم لعله يقصد ما ذكرته من أن الاتجاه إلى إدراك الجمال الفني في القرآن على النحو الذي اتجهته لم يكن من نصيب الباحثين في بلاغة القرآن - قدامي ومحدثين - فتلك حقيقة تاريخية لا بد من إثباتها ولا ضير فيها ولا منّ. . . وبقي قوله:(فلا يغمز الأوائل بالتجهيل أو القصور ونحن لا نبني إلا من الحصيات نجمعها من ساحاتهم الواسعة).
فتلك قضية أخالفه فيها فيما يختص بالجمال الفتى في القرآن. لقد أثنيت ما استطعت على رجلين اثنين: عبد القاهر والزمخشري. وعرضت نماذج من حسن فهمهم - المحدود بحدود الزمان - لبعض الجمال الفني في القرآن وهذا كل ما يطلب مني. . . وأحب أن أقول بعد هذا: إنني - فيما يختص بالجمال الفني - لم أبن من حصيات أحد. . . وهذه حقيقة تاريخية كذلك لا أرى أن تقديرنا للقدامى يكفي لإنكارها. ومن الأمانة للبحث العلمي ألا نبخس الناس أشياءهم. . . ولكن من الأمانة كذلك ألا نعطيهم فوق ما يستحقون.
ثم أخلص إلى القضية الأساسية. قضية يوسف:
يتحدث الأستاذ عن تصويري ليوسف بالأستاذ إلى ما ورد عنه في القرآن بأنه الرجل الواعي الحصيف، واستشهادي بإبائه على مراودة امرأة العزيز، وقولي (ومع ذلك لقد كاد يضعف) فيقول:
(وهذا تصوير غير فني لإنسان هيأه ربه للنبوة، وكتب له العصمة من قبل ومن بعد. وأظن الأستاذ منساقاً في هذا وراء ما يقال: من أن يوسف إنسان لم تفارقه نوازع البشرية، فهو يميل كما يميل أي إنسان ويكاد يضعف أي إنسان وأظنه كذلك يحسب الآية في ظاهرها هذا إذ قررت أن المرأة همت به وأن يوسف هم بها، وليسمح لي الأستاذ أن أنبهه إلى أن هذا فهم سطحي غير سديد). . .
وأنا بدوري أحب أن أقول للأستاذ: إنني أخالفه فيما أتجه إليه. وأن هذه قضية مدروسة جيداً عندي - وإن لم أتعرض لها بتوسع في كتابي - لأنها من مباحث كتابي آخر أعده الآن عن (القصة بين التوارة والقرآن). والمجال لا يتسع هنا للتفصيل إلا أن يشاء الأستاذ وقراء الرسالة أن أعرضها كاملة.
ولكن هذا لا يمنع من بضع كلمات:
لقد كنت حريصاً في تعبيري فقلت: (كاد يضعف) ولم أقل إنه ضعف فعلاً. وليس في هذا ما يخالف العصمة في اعتقادي. فالعصمة لا تقتل النوازع البشرية، ولكنها تقيم حولها الحواجز، وتجعل الروادع في النفس أكبر من الدوافع. . . وهذا يكفي
ولقد عصم الله يوسف، فجعله يكافح النوازع البشرية وينتصر عليها في اللجنة التي لا ينتصر فيها إلا أولو العزم. وإن هذا ليكفي ليقال عنه في القرآن: (إنه كان من عبادنا
المخلصين).
وغير يوسف أنبياء مخلصون: منهم موسى ويذكر القرآن أنه قتل رجلاً ثم تاب فتاب عليه الله. وداود وسليمان ويذكر القرآن أنهما قد فتنا ثم استغفر وأنابا. . .
فالعصمة النبوية مسألة تحتاج إلى أفق أوسع في النظر إليها. ولست ممن يميلون إلى أنها التجرد من جميع النوازع البشرية وإن كنت أومن بأنها الانتصار على جميع النوازع البشرية.
ونفي الهمّ عن يوسف - بالمعنى الذي يريده الأستاذ - يحتاج إلى تأويل النص الصريح، وأنا أنفر من التأويلات التي لا يدعو إليها إلا الغلو في التخرج. وإن دراستي لطريقة التعبير في القرآن لتبيح لي أن أقول: إن للنص القرآني معنى واحدا في كل حالة. وإن الاحتمالات المختلفة التي يرويها المفسرون للنص الواحد، إنما تتوارى مع شيء من التدقيق ليبرز منها احتمال واحد هو الذي يتفق مع طبيعة التعبير القرآني. وهذه مسألة لا يكفي الفراغ المتاح لشرحها اليوم. فقد أقوم ببيانها بتوسعه إذا وفقت.
على أن هناك عدة احتمالات في موقف يوسف:
1 -
فهل العصمة النبوية قبل الرسالة وبعدها؟ أم بعد الرسالة فحسب؟ هذا مبحث طويل.
2 -
وهل حادثة يوسف كانت قبل رسالته أم بعدها؟ لا يذكر القرآن عن ذلك شيئاً. ولنا الحق في أن نفهم أنها كانت قبلها. ولا سيما أن التوراة تحدد سنة في هذا الوقت بأنها كانت دون الثلاثين.
3 -
ثم ألا يكون سجن يوسف تكفير عن النزعة التي قهرها وعصمه الله منها؟ ليكون بعد ذلك (من عبادنا المخلصين)؟
كل هذا يجوز ولكني لا احب الارتكان إليه، لأن تفسير العصمة على النحو الذي أسلفت يغنينا عن كل هذه الاحتمالات.
للأستاذ الفاضل شكري على ما أتاح من هذا البيان.
سيد قطب
النبي ودائرة المعارف البريطانية
لاحظت في الجزء الخامس عشر من دائرة المعارف البريطانية طبعة 1932 اعتباراً من الصفحة 647 في البحث عن حياة منقذ البشرية الأعظم محمد بن عبد الله هذه الجملة في مفتتح الحديث وبالخط البارز ولا يخفى ما يعنيه هذا الوصف الذي لا يليق أن يوصف به ذلك النبي الأمين الذي أضاء بحكمته دياجير الظلمات الحالكة، ورفع لواء العدل على الإنسانية فخلصها من نير العبودية، وفكها من عقال الجهل، وبسط السلام الحق، وآخى بين الناس، وأقر مبدأ المساواة في الحقوق بين الأفراد، وأزال الفوارق بين الطبقات، وبصورة أعم فقد جاء بالحرية للإنسان؛ وهذا أمر اعترف به رجال التاريخ المنصفون من غير المسلمين؛ فما بال دائرة المعارف المذكورة تتجاهل كل ذلك وتصفه بهذا الوصف الذي لم نرها تصف به من يستحقونه أمثال الإسكندر - ونابليون وأضرابهما من الأحكام والمستبدين؟
إن محمداً لم يكن يوماً طاغية ولا مستبداً ولا حاكماً مطلقاً كما يشهد التاريخ بذلك، بل هو الذي علم الناس التسامح وجاء بالحكم الشورى الذي تدرج حتى صار يدعي اليوم بالحكم النيابي أو الديمقراطي.
هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فقد وجدت الدائرة المذكورة تمعن في هذا التجاهل فلا تستند إلى كتب التاريخ المهمة بل تستند إلى تاريخ الواقدي الذي تقول عنه إنها لم تجد غيره، ثم هي في الوقت نفسه تطعن في هذا التاريخ وتقارنه ببعض الكتب الغربية الخرافية في أوربا. والواقدي كما يعلم المتتبعون لحوادث التاريخ غير حجة ولا ثقة بالنسبة لغيره من المؤرخين الثقات، هذا بالإضافة إلى أن البحث برغم استناده إلى ذلك التاريخ غير مستوف.
وظاهرة أخرى لاحظتها في هذه الدائرة، وهي أنها عند تعرضها لذكر كبار رجال الإسلام كالخلفاء الأربعة ومشاهير بني أمية والعباسيين وغيرهم تأتي بنبذ مقتضبة عنهم لا تتجاوز بضعة اسطر في حين أنها تكتب الصفحات الطوال عن نابليون وأمثاله وحتى عن رؤساء ووزراء وغيرهم.
هذا عرض موجز لما لاحظته، وقد فكرت طويلاً ثم كتبت منذ أشهر بذلك إلى معالي السيد عبد الرزاق السنهوري بصفته وزيراً لمعارف أكبر أمة إسلامية عرفت واشتهرت بمواقفها
المشرفة في الدفاع عن الإسلام وشعوبه، كما فيها أكبر إسلامي يرنو إليه مسلمو الأرض بعين الثقة والأمل ألا وهو الأزهر، وأهبت بمعاليه أن يتفضل ويدرس الموضوع في مرجعه والقيام بالتوسط لدى ناشري الدائرة لحذف ما يتنافى وكرامة من يدين بدينه أكثر من أربعمائة مليون مسلم ثم تزويدهم ببحث واف مستفيض عن حياة الرسول الأعظم وكذلك عن مشاهير رجال الإسلام ليكون جاهزاً ينشر في الطبعة المستقبلة.
وأنا الآن استنهض هم الهيئات المختصة من دينية ومدنية لا في مصر وحدها بل في جميع الأقطار الإسلامية للقيام بواجبهم نحو دينهم ورجال دينهم الذين لولاهم لما كنا اليوم نستنشق عبير الهواء ونطمح إلى حياة موفورة الكرامة ومنزلة رفيعة مرموقة تحت الشمس. ولعلهم إن شاء الله فاعلون.
(البصرة)
أحمد حمد آل صالح
التواءات نفس
من نكد الدنيا على الأدب أن يوجد أديب واحد من أبناء هذا العصر ينزل منزلة المزورين في الأدب يلفق كلاماً يلصقه بغير قائله. ومن سوء طالع هذا الجيل أن يكون فيه كاتب واحد جبان لا يجرؤ على القول الحق والمجاهرة به.
لقد سمعنا بمقالات كان يكتبها أديب يدافع فيها عن الشعر الرمزي مذيلة بإمضاء غيره؛ ولكننا لم نسمع عن حادث في الأدب كحادث التزوير الذي ذكره الدكتور شريف القبج في العدد السابق من الرسالة في الدفاع عن الشاعر شريف القبج في العدد السابق من الرسالة في الدفاع عن شاعر الرمزي بشر فارس.
وعلى الرغم من شناعة هذه الفرية الشائنة التي ألصقها مخلوق مريض النفس بأدبنا العصري ونهضتنا الزاهرة، أحذر الأدباء هذا الانحطاط الخلقي وأهيب بهم مجافاة هؤلاء المرضى بالالتواءات النفسية؛ لأن حكمهم ليس كحكم أصحاب العاهات من عميان ومجذوبين ومبتوري السوق تقزز النفس لمرآهم، بل كحكم مرضى يوبئون المجتمع بجراثيمهم الخلقية وعللهم النفسية، وسنعمل على تطهير المجتمع الأدبي منهم.
حبيب الزحلاوي
القصص
آل بونتبي. . .
للكاتب الأمريكي ستيفن فنسنت بنيت
تتكون عائلة بونتبي من تسعة أفراد: أم، وأب، وستة أولاد، ثم خادم متقدمة السن. وهم يعيشون في مجاهل الغابة حيث يقتطعون الأخشاب ويتجرون فيها، وبذلك اعتزلوا البلدة وأهلها فسرت تلك الإشاعات الهامسة التي كان يتناقلها أهل البلدة عنهم وذلك الشعور المبهم الذي كان يساورهم كلما رأوهم قادمين بين كل فترة طويلة وأخرى لتبادل المحاصيل بالمواد الغذائية اللازمة، أو حين يتوجهون إلى الكنيسة في أيام الآحاد، حتى لقد قيل عنهم إنهم يضربون في مجاهل تلك الغابات المخيفة حتى ائتلفوا مع حيواناتها المفترسة وأصبحت تربطهم بها صلة صداقة وثيقة.
شاء القدر أن يتوفى عميد العائلة، ثم تلحق به زوجه، وسرعان ما توفيت الخادم العجوز كذلك، وتركوا الأبناء وحدهم وقد شعروا بنتائج تلك الوفيات المتلاحقة، فها هي ذي الأتربة بدأت تتراكم على النوافذ والجدران، وها هم أولاء يطهون طعامهم بأيديهم، طعامهم الذي فقد نكهته الأولى التي تعودوها في حياة والدتهم.
ولما تشاوروا فيما لم يجدوا مخرجاً من ذلك المأزق الحرج وبديلاً لتلك الحياة الشاقة سوى أن يتزوج أحدهم حتى ترعى امرأته المنزل بما لها من حنكة النساء ودرايتهن بتدبيره. ولما اختاروا أكبرهم ويدعى هاري لقيام بتلك المهمة التي سبق أن أجمعوا على صعوبتها، حاول أن يتهرب منها وأن يلقي بالعبء على أخيه الذي يليه؛ ولكن هذا حاول أن يسند الأمر إلى من يصغره. . . وهكذا. . . حتى وجد هوب الأصغر أنه هو المكلف بالأمر فمانع واعتذر
واقترح أن يقترعوا فيما بينهم وكانت نتيجة الاقتراع أن اختير هاري الأكبر.
وفي اليوم التالي ألبسوه أنظف لباس ثم أرسلوه إلى المدينة ليبحث عن زوجة له.
سار مشتت الفكر مبلبل الخاطر وقد قرر أن يفاتح أول فتاة تقابله في أمر الزواج به. ولكن كانت أول من قابلته امرأة متزوجة، ثم التقى بطفلة صغيرة، وأخيراً ابنة الحاكم التي ما أن رأته حتى فرت هاربة.
فغمره اليأس ودخل حانة صغيرة وجلس بقرب النافذة ليشرب كوباً من الخمر. وبينما هو يرسل نظرة تائهة نحو الخارج رآها، وكانت في ملابس الخادمات، ريانة العود، عذبة الملامح. ولم يشعر بنفسه إلا وهو يسرع إليها ويبتدرها قائلاً:
- ما أبهج الصباح، وما أسعدني بلقائك، يا له من يوم جميل يصلح لأن يكون يوم زواج.
فنظرت إليه طويلاً ثم ابتسمت قائلة: هو كذلك.
فتشجع وقال في حماسة: أتتزوجنني. . . أنا أدعى هاري بونتبي وأسكن الغابة واصلح لأن أكون زوجاً طيباً.
فتمنعت قليلاً في بادئ الأمر ولكنها سرعان ما وافقت. فأخذها من يدها مسرعاً إلى الحاكم ليعقد عليها ثم أشترى لها ملابس جديدة وعاد بها إلى منزله عودة الظافر المنتصر.
ولما رأت اخوته الخمسة قالت - لماذا لم تخبرني بذلك يا هاري من قبل؟
فقال: لعل سعادة لحظة الزواج أنستني كل شيء عداها.
ثم دخلت ذلك المنزل الكبير واستعرضت ما فيه فهالت الأتربة المتراكمة والكميات الوافرة من الطعام التي تكفي لإشباع بطون كثيرة، وأكوام الملابس القذرة التي في أشد الحاجة إلى أيد تغسلها وتتعهدها. فشمرت عن ساعديها وأقدمت على العمل مجتهدة وتناول الفتيان ليلتئذ أول عشاء جيد لم يسبق أن تذوقوه منذ شهور.
كرت الشهور تتلوها الأيام واحتلت ميلي في نفوسهم جميعاً مكانة عظمى فأصبحوا رهن إشارتها يضحون بكل ما تطلبه منهم كما تغيرت وجهة نظرها الأولى التي كانت تحفظها عنهم وهي في البلدة إذ وجدت فيهم أناساً يتحلون بأنبل السجايا وعجيب كيف يختلف أهل القرية تلك الإشاعات المفتراة عنهم.
ويوما، لاحظ عليها زوجها أنها تكد وتجتهد وتكافح في سبيلهم حتى هزل جسدها ونال الضعف من قوتها فقال لها - يجب أن تنالي راحتك ولو قليلاً يا عزيزتي.
فنظرت إليه في ابتسامة وقالت - وبخاصة وأنا أشعر بذلك الجنين الذي بدأ يتحرك في أحشائي.
فاجتمعت العائلة وقررت أن يتزوج هلبرت الأخ التالي حتى تمد زوجته يد المساعدة إلى ميلي في إدارة المنزل.
وفي صباح اليوم التالي توجه هلبرت إلى البلدة وانتظره أخوته ولكنه عاد فاشلاً، فما من فتاة قبلت الزواج منه. وهن يتعجبن كيف تسنى لميلي أن تحتمل أعباء المعيشة معهم. فأرسلوا هوسيا الذي يصغره في اليوم التالي ليجرب حظه. . . ثم الأصغر. . . ثم الأصغر. . . إلا أنهم أخفقوا جميعاً في مساعيهم. وأخيراً لم تجد ميلي مفراً من أن تقف فيهم قائلة:
(يا اخوتي الأعزاء، يجب أن تسلكوا طرقاً أخرى تمكنكم من نيل مآربكم، فلقد رفضت هؤلاء الفتيات الزواج منكم بعد أن سألتموهن، فلنجرب طريقة أخرى. لم لا تتزوجهن أولا ثم تسألوهن الموافقة بعدئذ!.)
فهتفوا في صوت واحد - وكيف ذلك؟
فقالت - لقد قرأت يوماً في كتاب التاريخ أن جماعة من الرومان تقدموا للزواج من فتيات بلدة من البلدان ولكن لسوء حظهم رفضت الفتيات أن يرتبطن معهن بتلك الرابطة، فما كان منهم إلا أن أغاروا على البلدة ليلاً وعادوا بنسائهم اللاتي اختاروهن عنوة معهم. فإذا لم تفعلوا أنتم مثلهم فلن أكون لكم أختاً بعدئذ، ولن تتقدم يدي إلى طعامكم أو ملابسكم، بل عليكم أنت أن تفعلوا كل شيء بأيديكم كسابق عهدكم.
فساد الصمت بينهم ولكن عاد صوتها يقول - أرجو ألا ينفذ اليأس إلى قلوبكم، فأن ما يجعلهن يحجمن عن الزواج بكم إنما هي تلك الإشاعات الكاذبة التي يفترونها القوم عليكم هناك، ولكني أؤكد أنه إذا ما قبلت إحداهن الزواج فسرعان ما تتقاطر الأخريات عليكم.
وبقيت صامتة فترة إلى أن خطر لها أن تسأل.
- هل هناك من يحرر عقوداً سوى الحاكم؟
فأجابوها - هناك قسيس فقير في الغابة.
- حسناً لقد انتهى الأمر.
كان اليوم أحد أيام الأعياد الوطنية، وقد اعتاد الأهالي، أن يتركوا أسلحتهم في منازلهم في مثل تلك الأعياد. وفي المساء وأهل البلدة في هرجهم ومرجهم إذ بهم يفاجئون بالأخوة بونتبي وقد أشهروا أسلحتهم مهددين. . . وسرعان ما انطلقوا هاربين بعد أن حملوا صفوة الفتيات التي اختاروهن ولم ينسوا أن يغلقوا أبواب البلدة خلفهم جيداً حتى وصلوا إلى
منزلهم في الغابة سالمين.
عالج أهل البلدة فتح الأبواب فلم يتمكنوا من ذلك إلا في الفجر، وكانت الثلوج تتساقط في غزارة حتى عجزوا عن تمييز أي شيء. وبقيت الحال على ذلك عدة أيام طويلة بعدئذ حتى دب اليأس إلى قلوبهم خوفاً من الذهاب إلى منزل آل بونتبي مخترقين تلك الطريق المظلمة الخطرة ولم يجدوا بداً من الانتظار حتى الربيع.
أمسكت الفتيات في بادئ الأمر عن تناول الطعام وتمسكن بأهداب الفكرة التي كانت تحوم برؤوسهن دائماً عن العودة إلى أهلهن. ولما لاحظت ميلي ذلك الامتناع البغيض، جعلت تدبر الأمر في سياسة، فأول ما فعلت أن جهزت لهن الشاي وجعلت تقنعهن حتى تناولته. ولما سرى الدفء في أجسادهن بدأت تقول. (أنه لمن دواعي أسفي حقاً يا آنساتي أن أجدكن على تلك الحال التعسة بعد أن اختطفكن هؤلاء الوحوش. ولو أني عملت أن تلك هي نواياهم لنصحتهم بالعدول عنها. بودي لو تعدْن جميعاً إلى بلدتكن، ولكن ما حيلتي الآن. . . والثلوج متراكمة في الطريق. . . علينا إذن أن ننتظر حتى الربيع. ولكني أؤكد لكن أني سأحرص دائماً على بقائكن في أمان ودعة).
ثم أخرجت مجموعة كبيرة من المفاتيح وعادت تقول (سنبقي نحن هنا، ونغلق علينا أبواب المنزل جيداً، وأما هؤلاء الحمقى فليتناولوا طعامهم في حظيرة البهائم حتى تخزهم ضمائرهم ويندموا على هذه الفعلة الشنعاء).
فأشرقت وجوه الفتيات لذلك، وقادتهم ميلي إلى حجراتهن وهن يشعرن بصداقتها الحقة.
ظلت الحال على ذلك أسبوعاً كاملاً، فالفتيات داخل المنزل المغلقة أبوابه وقد تحققت أحلامهن القديمة عن حياة خالصة من شوائب الرجال. يا للسعادة حينئذ. . . جعلت ميلي تحبذ تلك الفكرة فتقول:(أترين يا صديقاتي أن الحياة بدون رجال جنة من جنات النعيم والخلد) وكن يوافقنها في حماسة في بادئ الأمر.
إلا أن الملل بدا يتسرب إلى نفوسهن على مر الأيام وبدأن يسأمن ذلك الحديث، ولاحظت ميلي أنهن يحاولن بقدر المستطاع رؤية أحد الفتيان من النوافذ أو من خلف الستائر كما بدأت تقوم بينهن المنازعات. . . وحينئذ. . . قررت ميلي أن تخطو خطوتها الثانية
جمعتهن يوماً في حجرة واسعة بطرف المنزل فاستعرض الفتيات ما فيها من أثاث وإذا
بابنة الحاكم تتح صندوقاً وقعت عليه عينها فوجدت فيه ثوب عرس فأفلتت منها صيحة إعجاب جعلت الباقيات يتجمعن حولها ويتحسسن الثوب في رغبة خفية.
فقالت ميلي في حزم - دعن الثوب. . . لقد صنعته لما حاول أحدهم الزواج بإحداكن. . . دعنه. . . ولكنهن تجاهلن كلماتها وأسرعت ابنة الحاكم ترتديه وهي تقول:
- أن هوب الصغير له شعر مجعد، كم هو مغرٍ
فقالت ابنة المحامي - ليس لهوب ما لهلبرت من جمال
فقالت الثالثة - أرأيت عيني هارفي، إنهما فاتنتان بنظراتهما الهادئة الوديعة.
وقالت الرابعة: ما اجمل اسم هوارد وما ألطف وقعه على الأذن!
فقالت ميلي وهي تتظاهر بالخوف - ما هذا يا فتياتي. . أأصابكن الجنون؟
فرمقنها بنظرات التحدي والثورة حتى اضطرت إلى أن تخبرهن بأن هناك أربعة أثواب أخرى غير هذا الثوب.
ولما بدأن يهرعن لرؤيتها أوقفتهن وهي تقول - إن أردتن الزواج من آل بونتبي، فليس هناك أي مانع، ولكن أعلمني أني لا أزال مسئولة عنكن أمام آبائكن، فبمجرد زواجكن يجب أن يعود كل إلى مكانه، أنتن إلى هنا، وهم إلى حظيرتهم، ولا يمكنني أن أجمع بينكن وبينهم إلا بعد الحصول على موافقة آبائكن.
قام القسيس الفقير بصوغ العقود الخمسة، وعاد الرجال إلى حظيرتهم، كما أغلقت أبواب المنزل على الفتيات.
ولكن حدث في ذلك المساء أن هبت ابنة الحاكم صارخة:
- أنا لا أفهم كيف تقوي فتاة متزوجة لها شرعية الوجود مع زوجها دائماً على أن لا تراه إلا من النوافذ خلسة!
وحينئذ ارتضت ميلي أن تسن لهن قانوناً خاصاً، فسمحت للرجال بزيارة زوجاتهم ثلاث مرات في الأسبوع، على أن يتناولوا العشاء معهن تحت مراقبتها.
كان النفور هو الشعور السائد بين الفتيان والفتيات في أول الأمر، ولكنه سرعان ما اختفى، فهاهي ذي أبنة الحاكم وقد سمحت لهوب أن يضغط يدها في غفلة عن ميلي، كما خاطت ابنة المحامي زراء في ثوب هلبرت وهكذا بدأت الأحوال في التحسن والانتعاش ولو أن
ميلي كانت تتظاهر دائماً بالحذر في رقابتها.
وفي صباح يوم من أيام يناير استيقظت ميلي ونظرت من النافذة فابتسمت ابتسامة عريضة. لقد ضربن برقابتها عرض الحائط. فها هن يمرحن مع أزواجهن، تلك تحدث زوجها والأخرى تقبله، والثالثة تعدو أمامه. فشعرت بالسرور يملأ قلبها وخطر لها خاطر لم يزعجها، إذ هي تذكرت أهلهن ولكنها وهي المدبرة قد احتاطت للأمر من مبدئه إذ أوصت الفتيان أن يتركوا خطاباً بإمضاءاتهم هم الخمسة ويذكروا فيه حسن نواياهم ونبلها ويطمئنوا الرجال على فتياتهم.
وفي ذات يوم بعد أن وضعت ميلي طفلها بستة أسابيع، جاءها هوب وهو يلهث ويقول:
- لقد جاء يا ميلي كل رجال المدينة مدججين بالسلاح، تبدو على وجوههم معاني التحدي والشراسة. ماذا نفعل؟
قامت ميلي فجمعت الفتيات وأصدرت إليهن أوامرها كما أخفت الفتيان في مكان أمين، ونظرت أمامها فوجدت تلك الكتل البشرية القادمة صوب المنزل تحت قيادة الحاكم فلم تعرهم التفاتها.
ولما وصل القوم إلى المنزل عجبوا وتولتهم الدهشة، إذ وجدوا أبوابه مفتوحة على مصراعيها، فما كان من الحاكم إلا أن قرع الباب مرتين فظهرت ميلي تحمل طفلها فبادرته قائلة
- لقد جئت في الوقت المناسب يا جناب الحاكم فأنا أود أن أعمّد طفلي. . . هل جئت بذلك السلاح لتعمده به؟
فخجل الرجال وألقى سلاحه ثم قال في حدة - ليس لي شأن بولدك. . . أين ابنتي؟
فقالت في هدوء - أصغ جيداً. .
أرهف الكل سمعهم فطرقت آذانهم صوت آلة غزل تدور وصوت آخر يجاريها وهو يتعالى بنشيد في مرح وسرور. وقالت ميلي: ها هي ذي ابنتك يا جناب الحاكم. . أتراها سعيدة أم شقية؟ فتمهل الحاكم ثم قال - إنها سعيدة. .
وسرعان ما تعالت أصوات الباقين يتساءلون عن فتياتهم، ولما أصاخوا السمع كانت هناك إحداهن تنشد أغنية عذبة، وأخرى تغسل في حبور، وثالثة تطهي الطعام.
وخاطبتهم ميلي أخيراً (هاهن بناتكم، ألسن سعيدات، نحن جميعاً ندعوكم لتناول الغذاء معنا) وأخيراً ظهرت الفتيات فهرع آباؤهن إليهن، وتم التعارف بين الأزواج والأصهار
حسن فتحي خليل