الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 622
- بتاريخ: 04 - 06 - 1945
دار الترجمة أيضاً
عفواً يا معالي الوزير!
هذا الطريق لا يؤدي
في عدد مضى من الرسالة اقترحنا على صاحب المعالي وزير المعارف أن تنشأ دار للترجمة مستقلة عن ديوان الوزارة يُختار لها مائتان على الأقل من المترجمين النابغين في لغتهم وفي اللغات الأوربية الثلاث ينقلون المعارف الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً فلا يدَعون عَلماً من أعلام الأدب والعلم والفن والفلسفة والاجتماع إلا نقلوا كتبه ونشروها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية؛ فإذا فرغوا من ترجمة الموجود فرغوا لترجمة المستجد، فلا يكون بين ظهور الكتاب في أوربا وظهوره في مصر إلا ريثما يترجم هنا ويطبع. وكان هذا الاقتراح مبين الأسباب، مفصل النتائج، موضح الآثار، يقرأه القارئ فيحسبه الطول ما تردد في نفسه، وتجدد في أمانيه، صادراً عن رأيه أو منقولاً عن شعوره. لذلك دوى صداه في الأقطار العربية فتجاوبته ألسنٌ مبِينة، وتناولته أقلام بليغة؛ ولو ذهبنا نذكر كل ما قيل، وننشر كل ما كُتب، لما اتسعت الرسالة لموضوع غير هذا الموضوع.
على أننا ننشر اليوم قولين رسميين دارا على هذا الاقتراح في مجلس الشيوخ، أحدهما سؤال لشيخ محترم فيه رأي الأمة، والآخر جواب عنه لوزير المعارف لخص فيه رأي الحكومة، ثم نعقب عليهما بما نعتقد أنه الحق والأحق
صاغ الأستاذ أحمد رمزي بك أحد أعضاء مجلس الشيوخ من هذا الاقتراح سؤالاً وجهه إلى معالي عبد الرزاق السنهوري بك فأجابه عنه بقوله: (توجد فعلاً بوزارة المعارف إدارة لأداء الأغراض النافعة التي أشار إليها حضرة العضو المحترم في الجزء الأول من سؤاله، وهي ترجمة المؤلفات الأجنبية ونقل المعلومات العلمية والاجتماعية والأدبية وثمرات الثقافة الأجنبية إلى اللغة العربية؛ وعندما توليت وزارة المعارف أعدت تنظيم إدارة الثقافة العامة التي تتبعها إدارة الترجمة بما يكفل لها أداء مهمتها على الوجه الأكمل، وراعيت في هذا التنظيم الجديد أنه يمكن الوزارة من أن تستعين بمن يمكن الاستعانة بهم من الكتاب والمترجمين من موظفين وغير موظفين فتعهد إليهم بأعمال الترجمة والمراجعة نظير مكافآت سخية تصرفها لهم. وشكلت لجنة من كبار رجال الوزارة والجامعة لاختيار الكتب
التي تترجم، ووضع المناهج للترجمة وتعيين من يقومون بها. أما عن النفقات التي يحتاجها هذا العمل فإن الوزارة فضلاً عما يوجد في أبواب ميزانيتها من اعتمادات مرصودة لهذا الغرض لن تتأخر عن التقدم إلى البرلمان بطلب ما يحتاجه هذا العمل الواسع النطاق من اعتمادات جديدة)
أما سؤال الشيخ فاتجاه إلى الطريق الأقوم في تربية الشعب وترقية عقله ولغته وأدبه وعلمه وعمله؛ وأما جواب الوزير فاحتفاظ بالنمط المألوف من مسايرة (الروتين)، ومشاورة اللجان، ومطالعة التقارير، ومماطلة الحوافز، حتى يتراخى الزمن ويفتر العزم ويتغير الحال وينتقل الحكم وينتهي كل شئ إلى لا شئ! وكان الظن بصاحب المعالي وزير المعارف وهو من هو في منطقه وتعمقه وجده أن يعالج نقل المعارف الأجنبية على أنه تصحيح نهضة وتثقيف أمة وبدء تاريخ، فيجعله الهدف الأول لسياسة الوزارة في عهده، والمنار الهادي لمن يسلك هذا الطريق من بعده
إذن بقينا في نقل الثقافة الغربية على ما كنا عليه لم نتقدم خطوة: إدارة الترجمة في مراقبة الثقافة العامة تشرف على خمسة مترجمين أو ستة ينقلون سفراً ضخماً في التاريخ العام لا ندري في أي مدة ينتهي، أو كتاباً في تاريخ إنجلترةلماكولي لا ندري أي أمة يفيد؛ ثم الاستعانة بالكتاب والمترجمين من موظفين وغير موظفين (في أعمال الترجمة والمراجعة نظير مكافآت سخية تصرف لهم)، وهذه هي الخطوة الجديدة في الإدارة القديمة ولكنها إلى الوراء، لأن اختيار الكتب وتوزيعها على أحرار المترجمين تجربة تحققت في بعض العهود ثم أخفقت. وإخفاقها إنما أتاها من نزعتها الفردية في اقتراح الفكرة وانتخاب الكتاب واختيار المترجم. وبقاء الأعمال الفردية رهن ببقاء الفرد. والقاعدة عندنا أن يهدم الخالف ما بنى السالف حتى لا يكون لغيره بناء يقوم ولا عمل يتم. أما إذا أسس العمل على قانون أو مرسوم عز على الرياح أن تنال منه وإن سفَت عليه التراب وزمجرت حوله باللغط.
وبعد، فهل نستطيع أن نعرف ولو بالحدس بعض الأسباب التي سوغت للوزارة أن تفضل إدارة للترجمة على دار للترجمة؟ يقولون إن من هذه الأسباب صعوبة الحصول على مائتي مترجم يصلحون لهذا العمل. واعتراف الوزارة بهذه لصعوبة اعتراف منها بالعجز عن أداء ما خلقت له؛ فإن من العار الذي لا يرحضه ندم ولا لوم ألا نجد في جيلين نشأتهما الوزارة
المعارف في مصر وفي أوربا، مائتين يحسنون اللغة العربية ولغة أخرى أوربية، وتعليمهما كما نظن يبتدئ مع الدراسة الابتدائية، وينتهي مع الدراسة الجامعية! فإذا سلمنا لهم أن ذلك هو الواقع فإن في الإمكان أن يسدوا هذا العوز بطائفة من إخواننا العرب، إذ الغرض العلمي واحد، والتعاون الثقافي قائم. فإذا أعيانا الوصول إلى هذا، كما أعيانا الحصول إلى ذاك، بدأنا العمل بمائة أو بخمسين ثم بعثنا إلى أوربا في كل سنة عشرة من خريجي الأزهر ودار العلوم والجامعة يخصون في درس هذه اللغات حتى يبلغ النصاب عدده. ولو أن (البعثة الفهمية) - ولها في ذمة الوزارة ستمائة فدان من أخصب الأرض - سارت على النهج الذي رسمه لها صاحب المعالي حلمي عيسى باشا لما شكونا هذا النقص وأحسسنا هذا القصور
كذلك يقولون إن هؤلاء المترجمين إذا تيسر الحصول عليهم سيصيبهم داء الموظفين فيعملون عُشر ما يستطيعون؛ وإذن يكون عشرون يرأسهم ضميرهم، خيراً من مائتين يرأسهم كبيرهم. ودواء ذلك إذا جاز أن يكون عين كلوء تراقب، ويد حازمة تصرّف، وتحديد يومي لإنتاج المترجم يطلب منه ويناقش فيه ويحاسب عليه
أما غير هذين الاعتراضين على تهافتهما فمرده إلى الهوى لا إلى العقل. والحق أن الغار الذي ضفره عطارد لهذا العمل العظيم الخالد لا يزال مرفوعاً بين يديه ينتظر الرؤوس التي تستحقه. وما زالت قوى الأمل في أن يكون من نصيب الصديقين العزيزين عبد الرزاق السنهوري وأحمد أمين. فليت شعري أهو الحذر الذي يخطئ، أم هو القدر الذي يصيب؟
يا معالي الوزير! إنا أمة جاهلة فينا أفراد يعلمون. وإن من الخزي أن نظل كذلك وآباؤنا هم الذين علموا الشعوب ومدنوا العالم! إن الجهل باللغات الأجنبية عندنا مذمة وهو عند غيرنا محمدة، وعلة ذلك أن لغتنا لا تزال لغة العلم القديم؛ فمن اكتفى بها أتهم بخفة الوزن وقلة العلم. وهيهات أن ندرأ عنها وعنا هذه المعرفة إذا لم تنقل إليها المعارف الحديثة على الوجه الذي أقترح! بهذا وحده يا معالي الوزير تعود لغتنا إلى الحال التي قال فيها كاهن قرطبة أيام كنا سادة الأندلس: (إنا نحب أن نقرأ الشعر والقصص، وندرس الدين والفلسفة في اللغة العربية، لأنها لغة عذبة الألفاظ بليغة الأداء. ولا نكاد نجد فينا من يقرأ الكتب المقدسة باللغة اللاتينية، وشبابنا الأذكياء كافة لا يعرفون غير لغة العرب وآدابهم. وكلما
قرأوا كتبها ودرسوا أدبها أعجبوا بها. فإذا حدثتهم عن كتاب من الكتب اللاتينية سخروا منه وقالوا: إن الفائدة منه لا تساوي التعب في قراءته. . .).
ذلك ما قالوه في لغتنا بالأمس؛ وهو نفسه ما نقوله في لغاتهم اليوم! فهل في ذلك لقوم بلاغ؟
أحمد حسن الزيات
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 3 -
في ج (10) ص263.
ويلومون فيك يا أبنة عبد الله (م) والقلب عندكم موهوق
وجاء في الحاشية: موهوق يروى مكانها موثوق.
قلت: لم يرو موثوق مكان موهوق في كتاب، ولم يجئ ذلك عن رواية. ولن يعد تصحيف ناسخ أو تطبيع طابع رواية من الروايات. . . وكان العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي وجد هذه اللفظة (موثوق) في طبعة كتاب فسارع إلى تخطئة الشاعر، قال في مجلته (الضياء) س1 ص515:
(أغرب منه ورود مثل ذلك في كلام أناس من أهل الجاهلية كقول عدي بم زيد العبادي: ويلومون، البيت. . . يريد موثوق)
والشاعر لم يقل (موثوق) وإنما قالته المطبعة، والبيت من شواهد اللسان والتاج في (و. هـ. ق).
وورد في ج 10 ص264 في قصيدة عدى هذا البيت:
مرة قبل مزجها فإذا ما
…
مزجت لذ طعمها من يذوق
و (مرة) هنا هي (مزة) بالزاي. والمزة - كما في اللسان - الخمرة التي فيها مزازة، وهي طعم بين الحلاوة والحموضة، وحكي أبو زيد عن الكلابيين: شرابكم مز.
وجاءت (مرة) في طبعة الأغاني. والبيت من شواهد اللسان والتاج في (م ز ز) والبيتان من قصيدة مشهورة، مطلعها:
بكر العاذلون في وضح الصبح (م) يقولون لي: ألا تستفيق وفيها هذا البيت المشهور:
فدعوا بالصبوح يوماً فجاءت
…
فينة، في يمينها إبريق
ولم يورد أبو الفرج هذه القصيدة في كتابه (الأغاني) في أخبار قائلها المنسوبة إليه، وأوردها في أخبار حماد الراوية، فهل صاغها حماد. . .؟
في ج 10 ص 37 وقال (يعني ابن الشبل البغدادي):
أحفظ لسانك، لا تبح بثلاثة
…
سر ومال - ما استطعت - ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلي بثلاثة
…
بمعكر، وبحاسد، ومكذب
قلت: بمكفر. وجاءت في (طبقات الأطباء) بمفكر. والمفكر - يا أخا العرب - لا يكفر. . .
في ج 6 ص 237: فكان إذا سمع منه كلاماً يسجع فيه، وخبراً ينمقه ويرويه - يَبْلُقُ عينيه، وينشر منخريه.
وجاء في الشرح: بلق عينه كنصر وابلق فتحها وأقفلها.
قلت: جاء في اللسان: بلقه يبلقه بلقا وأبلقه فتحه كله، وقيل فتحة فتحاً شديداً، وأغلقه، ضد.
وعندي أن الأصل (يُبرّق عينيه) قال التاج: برق عينيه تبريقاً إذا وسعهما وأحد النظر، قال أعرابي في المعاتبة بينه وبين أهله:
فعِلقت بكفها تصفيقا
وطفقت بعينها تبريقا
نحو الأمير تبتغي تطليقا
وفي الأساس: ومن المجاز: وبرق عينيه: فتحهما جداً ولمعهما.
وأغلب الظن أن (ينشر منخريه) هي (يُنشز منخريه) أي يرفعهما.
والقول لأبي حيان التوحيدي في الصاحب بن عباد وأبي طالب العلوي أحد أصحابه، أي فكان أبو طالب إذا سمع كلاماً منه أي من الصاحب الخ. . . وأبو حيان هو صاحب كتاب (مثالب الوزيرين) والوزيران هما ابن العميد والصحاب. . .
في ج 7 ص 182.
وصاحب أصبح من برده
…
كالماء في كانونَ أو في شَباط
بدمانه من ضيق أخلاقه
…
كأنهم في مثل سم الخياط
نادمته يوماً فألفيته
…
متصل الصمت قليل النشاط
حتى لقد أوهمني أنه
…
بعض التماثيل التي في البساط
قلت: جاءت (شباط) بفتح الشين وهي بضمها. في التاج: شباط وسباط كغراب اسم شهر من الشهور بالرومية. قال أبو عمرو: يصرف ولا يصرف. (وهو) قبل آذار يكون بين الشتاء والربيع. قال الأزهري: وهو من فصول الشتاء، وفيه يكون تمام اليوم الذي تدور
كسوره في السنين، فإذا تم ذلك اليوم في ذلك الشهر سّمى أهل الشام تلك السنة عام الكبيس، وهو الذي يتيمن به إذا ولد مولود في تلك السنة أو قدم قادم من بلد.
في ج 8 ص 182 ولولا الإبقاء لأهل العلم لكان القلم يجري بما هو خاف، ويخبر بما هو مجمجم.
قلت: أغلب الظن أن الأصل هو (الإبقاء على أهل العلم) في الصحاح: أبقيت على فلان إذا أرعيت عليه ورحمته. وفي الأساس: وأبقي عليك بقيا وبقية، وأرعى عليه: أبقي، وهو حسن الدَّعوى والدَّعيا كالبَقوي والبُقيا.
ومن أمثالهم: لا أبقي الله عليك إن أبقيت علىّ. قال الميداني: أبقيت على الشيء إذا تركته عطفاً ورحمة له. يقال هذا للمتوعد
في ج 6 ص 185 ودخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه، فقال له الصاحب: أبو من؟ فأنشد الرجل:
وتتفق الأسماء في اللفظ والكنى
…
كثيراً ولكن لا تلاقَي الخلائقُ
فقال له: أجلس يا أبا القاسم.
قلت: رواية البيت هي:
فقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى
…
كثيراً ولكن لا تلاقِي الخلائقِ
جاء في (خزانة البغدادي). قال يونس بن حبيب: أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل، وذلك كما قال صديق مولانا القريب وابن عمته النسيب الفرزدق بن غالب وقد قيل له: انزل على أبي قطن قبيصة، فحسبه ابن مخارق الهلالي فإذا هو آخر، وذم قراه وجواره فقال:
سرت ما سرت من ليلها ثم وافقت
…
أبا قطن ليس الذي لمخارق
وقد تلتقي البيت. وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج (ولكن ميزوا في الخلائق) والذي في الخزانة هو أضبط.
و (دخل إلى الصاحب) ربما كانت (على الصاحب) وإن جازت (إلي).
في ج 11 ص 155
كنت في عينها كمرود كحل
…
صرت في عينها كشوك السِّبال
وجاء في الشرح: السبال سنابل الحنطة وغيرها جمع سبلة.
قلت: هو السَّيال، في اللسان: السيال بالفتح شجر له شوك ابيض وهو من العضاه. وروي اللسان والتاج للأعشى (والبيت من معلقته):
با كرتها الأغراب في سنة النوم (م) فتجري خلال شوك السيال
قلت: الأغراب الأقداح والمفرد غَرْب. وقد جاءت الأغراب هنا في المعجمين بالعين وإنما هي بالغين.
في ج 8 ص 210 ومنها (أي من وجوه الواو ومواقعها) أن يكون بمعنى حرف الجر كقولك: استوى الماء والخشبةُ أي مع الخشبة.
قلت: جاءت الخشبة مرفوعة وهي منصوبة. والقول للإمام أبي سعيد السيرافي في المناظرة بينه وبين متى بن يونس القنائي. والإمام يعني بالفعل (استوى) ارتفع لا تساوي حتى يجوز العطف، ويقصد واو المفعول معه لا العاطفة إذ قد ذكر هذه في أول بحثه فقال: منها معنى العطف في قولك أكرمت زيداً وعمراً و (استوى الماء والخشبة) من أمثلة المفعول معه في همع الهوامع وحاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك. . .
في ج 8 ص81
رأيت قلنسوة تستغيث (م) من فوق رأس تنادي خذوني وقد قُلِعَت وهي طوراً تميل (م) من عن يسار ومن عن يمين
قلت: وقد قَلِقت فهي الخ. ولو قلعت ما كانت تميل من عن يسار ومن عن يمين. . .
في ج 9 ص 12 وقلت كما قال رؤية لما استزاره أبو مسلم صاحب الدعوة:
لبيك إذ دعوتني لبيكا
…
أحمد ربي سابقاً إليكا
قلت: رواية البيت هي:
أحمد رباً ساقني إليكا
وبعده:
الحمد والنعمة في يديكا
وقبل الأول:
قلت ونسجي مستجد حوكا
وعندي أن (صاحب الدعوة) هي صاحب الدولة وإن جاءت الدعوة في كتب كثيرة.
في ج 7 ص 250 فأما أخونا أبو الحسين قريبه - أعزه الله - فقد ألزمني بإخراجه إلى أعظم منة.
قلت: ضبطت (أعظم) بالكسر كأنها مجرورة بإلى، وجوزت كسره عند ضابطه الإضافة. والقول هو: ألزمني بإخراجه إليّ أعظم منه. يقال ألزمته الشيء فألتزمه كما في الصحاح وغيره، وألزمه به كما في التاج، ولم يرد ألزمه إلى الشيء.
والجملة من رسالة للصاحب بن عباد إلى أبي علي الفارسي وقد جاء فيها:
(والشيخ - أدام الله عزه - يبرد غليل شوقي إلى مشاهدته، بعمارة ما افتتح من البر بمكاتبته، ويقتصر على الخطاب الوسط، دون الخروج في إعطاء الرتب إلى الشطط كما يخاطِب الشيخ المستفاد منه التلميذ الآخذ عنه)
وكلام الصاحب هذا مطرب مثمل. وأبو علي هو (أوحد زمانه في علم العربية، كان كثير من تلامذته يقول: هو فوق المبرد) كما روى ياقوت في كتابه. وما القول في أمام، ابن جني تلميذه؟
على قارعة الطريق
صور من الجيل الجديد
للأستاذ سيد قطب
1 -
تلميذة
لقيتها منذ عام واحد صبية أقرب إلى أن تكون طفلة. كانت في السنة الرابعة الابتدائية، تلميذة لأحد الزملاء. . . وكان معي حينما تقدمت هي إليه لتحييه تحية التلميذة للأستاذ في الطريق، وسلمت عليّ معه في براءة.
واليوم لمحتها. لا في الطريق، ولكن في محل عام من محال (السندوتش) وغير السندوتش أيضاً! لم تكن وحيدة. كان معها رفيق تلمع على كتفيه نجمة. . . قلت لعله أخوها أو قريبها فما تجرؤ طفلة على الجلوس هكذا في ركن منعزل خفي عن الأنظار، مع غير قريب!
ولم ألق بالا إلى الأمر بعد النظرة الأولى. ولكن ماذا؟ هاأنذا أسمع أصواتاً فيها شيء. شيء غير حديث الأخوة أو الأقرباء أو ممكن هذا؟ أو يكون؟
نعم يكون فنحن في الجيل الجديد!
لم تكن قد رأتني بعد كما رأيتها، لقد كانت مستغرقة فيما هي فيه. ولكن هاهي ذي تراني. . . وأقول الحق كي لا أظلمها. . . لقد خجلت وتوردت وجنتاها! أم لعلها قد توردتا لسبب آخر؟
على أية حال لقد همست له، وهمس لها. ثم إذا هما ينسحبان. . . أأَكون قد عكرت عليهما الجلسة (البريئة). . .؟ ربما أكون!
2 -
عذراء
كان يقف في محطة الترام، وقد غاب. كان يقطع الطوار جيئة وذهوباً من ملل الانتظار. وفجأة يرفع عينيه إلى شرفة المنزل الفخم المقابل فتقع عينه على فتاة.
لم يكن يريد شيئاً حينما رفع يده يمر بها على موضع شاربه! كانت حركة آلية شبه غريزية في هذه المفاجأة. ولكنه وجد يدها ترتفع بالتحية، ولما كان الموقف كله هزلا في نظره، فقد تحرك حركة غريزية أخرى، حرك إصبعه للاستدعاء!
واختفت من الشرفة، لتمضي دقائق قليلة، ثم يجدها بعد ذلك على الطوار!
لقد ارتبك قليلاً. ولكنه تماسك ليرى! فما كان يخطر على باله أن يتم الأمر كله بهذه السهولة. ومن يدري لعلها لم تلحظ إشارته ولم تحس بوجوده وإنما هي تمضي لشأن خاص.
وقال كلمة عابرة، مما يقوله الشبان للفتيات. وما كان اشد دهشته حين أشارت إليه أن يصمت هنا وأن يمضيا هناك.
إنها لتلحظه هنا كل صباح. وإنها لتعرف أنه مدرس في المدرسة الثانوية بالحي، وأنه خاطب ليتزوج. فأين هي (دبلة) الخطوبة؟
واستمر في عبثه فقال: لقد عدلت نهائياً عن الزواج. فما راعه إلا أن تقره فتاة على هذا العزم. لأن الطلاقة هكذا هي أليق الأوضاع!
والتقيا مرتين قبل أن ترافقه إلى داره!. . .
وفي الصباح سأل في سخرية: ألا تتزوجينني؟ قالت: لا. أن أبي مستشار، ولن يرضى بالمدرسين!
وسألته عن شاب آخر يدرس معه في المدرسة نفسها: ما اسمه وأية مادة يدرس؟
وواعدته مرة ثم أخلفت الميعاد!
وبعد يومين شاهدها مصادفة. . . برفقة ذلك الشاب!
إنها من الجيل الجديد. . .
3 -
خطيبة
جلسا قبالتي في ترام رقم 15، وكنا ثلاثة في الحجرة، كان يبدو عليه شغف وفتنة، وكان يبدو عليها دلال وإغراء. . . إنهما خطيبان. لقد لمحت في إصبعيهما (دبلتين) في اليد اليمن. . .
وسمعتها تقول: الحمد لله إذ كنت موجوداً لئلا تظن شيئاً!
وقال - في لهجة يخالطها العتاب -: ماذا تقولين؟ أظن شيئاً؟ ماذا أظن؟ وافرضي أنني لم أكن موجوداً. . . اسمعي: إنه لا يمكن أن يجول في نفسي أي شيء عنك. إن على الإنسان أن يبحث عن الأسرة أولا وعن الأم ثانياً. . . ثم يثق، فلا يفتش بعد ذلك أبدا.!
وتبادلا النظرات في إغراء. . .
ونزل في محطة وتابع الترام سيره. . .
ثم يصعد في المحطة التالية مباشرة رجل آخر يأخذ مكان الرجل الأول. فتتصافح الأيدي والعيون والأجسام أيضاً. . ويسأل: أين نزل؟ فتجيبه وهي تغمز: في المحطة السابقة. فيعقب هذا ضحكة مشتركة ساخرة. . . ثم يأخذ وجهها طابع الجد، وهي تقول:
أنت عارف (ياسوسو) أنني قبلته من أجل خاطرك أنت! فيجيب وهو يربت على يدها بين يديه:
(معلهش) يا ميمي. . . (برفان كويس)!
4 -
زوجة
كنت أعرفها سيدة فاضلة. وكانت تزور أسرة أخرى أعرفها بنظام واطراد. . . ثم انقطعت عنها فلم أعد أراها هناك.
قلت لها: لم لا تزورين بيت فلان؟
فترددت هنيهة، ثم انطلق لسانها. . . لسان حواء!
قالت: لأنني أخجل أن أقابل فلانا هذا، بعد ما اتخذتني زوجته ستاراً لأشياء، وهو يثق بي فلا يفكر في هذه الأشياء. وانطلقت تحكي:
لقد كانت يوماً ما هناك، ثم استأذنت مبكرة لأنها تنوي الذهاب إلى الخياطة. . . وما كان أسرع الزوجة لأن ترجوها في الانتظار هنيهة حتى تتهيأ للخروج معها إذ أنها قد غاضبت خياطتها وتود أن تعرف خياطة جديدة.
ولم يمانع الزوج بطبيعة الحال، فخرجتا بعد قليل.
ولم تكن صديقتها لتشك في أنها تعنى ما تقول. فلهذا دهشت حينما فاجأتها الصديقة بعد خطوات بالاستئذان منها بعد أن قامت بمهمتها. . . وأنها تقصد إلى جهة أخرى. . إلى موعد (برئ)!
وقالت الصديقة المدهوشة: ولكن يا فلانة ما الذي تنقمين من زوجك، وهو رجل مهذب، ومركزه الاجتماعي كبير، وسيرته معك طيبة؟
وقالت لها الزوجة: حذار أن تفهمي أنني أنقم من زوجي شيئاً. إنه ما تقولين وأكثر. وإنه
لوالد أطفالي، ورب بيتي. . . ولكن يا فلانة. . . لا بد من التغبير بين الحين والحين!!!
وفغرت الصديقة فاها عجبا. . . فما راعها إلا الزوجة تقول: أوه. يبدو أنك من الجيل الماضي! نحن من جيل جديد!!
5 -
أم
قلت له: لماذا فصمت الخطبة، وقد كنت معجباً بالفتاة؟
قال: أمُّها!
قلت: ومالك أنت وأمها إذا أعجبتك ذاتها؟
قال: فإذا شاءت هذه الأم أن تغلب أبنتها؟
قلت: ويحك! أهي ألغاز؟
قال: كلا! هو ما أقوله لك.
قلت: أتق الله! ولا يبلغ بك العبث هذا المبلغ في الحديث عن العائلات!
وأقسم: إنه لصادق. وإنها لامرأة نصف، ولم تشبع بعد من الدنيا. وإنها لا ترى الحياة إلا ضراعا. . . ولو مع أبنتها!
ولما كنت اعرف صدق صاحبي - كما عهدته - فقد رحت أحوقل وأستعيذ، وأخبط كفا على كف. . . ثم أقول: دعنا من الأخلاق. فأين الأمومة يا أخي؟ عاطفة الأمومة؟
قال: أوه. يبدو أنك من الجيل الماضي. يا مولانا نحن في جيل جديد!
إنها هكذا تقول!!
6 -
أب
نزل من عربته الفخمة، وجلس على (البار) الصغير تحت عمارة (الإيموبليا) أمام مفرق الطريق. . . جلس ينفض الممرات من بعيد، ويحملق في السيقان العارية، ويتبعها بنظره إلى بعيد!
ثم لمح على مقربة رجلا وفتاة ينتظران أن انفتاح الطريق للمرور. ورأيت الرجل يشير للفتاة في حذر وتهيب على هذا الجالس، ثم يندفع للتسليم عليه في انحناء، ويدعو الفتاة لتسلم على عمها فلان بك.
واتسعت حدقتا البك، واختل توازن عضلات وجهه وهو يبتسم ويحملق ويهز يد الفتاة آن.
وقال: لماذا لم تمر عليَّ لتذكرني بمسألتك؟
قال الرجل في تلعثم: البركة فيك يا سعادة البك.
قال: غدا - إن شاء الله - لا بد أن تمر عليَّ (ونظر لفتاة)! -. . . والآن تجلسان لتناول شيء ما.
وقال الرجل: متشكرين يا سعادة البك، وهزت الفتاة رأسها شكراً.
قال سعادة البك: آه. طيب. هنا لا يناسب الجلوس. ولكن ستأخذان معي الشاي في (جروبي) غداً إن شاء الله! وفي الصباح تمر عليَّ في المكتب من أجل مسألتك!
وسلما وانصرفا شاكرين. . . والرجل تبرق مع الفرح عيناه ونظرت فإذا البك يتقصى تقاطيع جسد الفتاة - ابنه الرجل - وشفتاه تتلمظان وعيناه!!
منذا الذي دفع بالجيل إلى الهاوية؟ منذا الذي جعل هذه الصور الشائهة تتوالى أمام عينيه دون استنكار؟
بضعة مواخير. . . بعضها يسمى مجلات. وبعضها يسمى أفلاما. وبعضها يسمي أغاني تتسور جدران البيوت عن طريق المذياع. . . وبضعة (هلافيت) لا يهمهم أن يكون في البلد فراش نظيف. يسمون أنفسهم من حملة الأقلام!
سيد قطب
مناقشات في الصيف.
. .
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
- 1 -
(التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. . . فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة. . .)
(فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية و. . . إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور ولا شخوص تعبر، أدركنا سر الإعجاز في تعبير القرآن)
والأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرنا. . .)
فليس هو (أي التصوير الفني) حلية أسلوب ولا فلتة تقع حيثما اتفق، إنما هو مذهب مقرر وخطة موحدة وخصيصة شاملة)
بهذا التعميم يبسط الأستاذ سيد قطب رأيه الذي يربط به إدراك (سر الإعجاز في تعبير القرآن)
وقد قلت في مقالي السابق عن كتابه (إن الحكم بتفضيل القرآن للتصوير كأداة مفضلة في التعبير يقتضي الاعتماد على الإحصاء وظهور نتيجته بكثرة عددية، فهل إذا أحصينا طرق التعبير في القرآن نجد ما قرره المؤلف يحظى بالكثرة العددية؟ إني أترك له أن يستعرض صفحات القرآن، فسيجد أن التصوير الفني أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة في القرآن، وليست هي الغالبة ولا الكثيرة، فتارة يعبر عن المعنى المراد بالتعبير المتكافئ المعنى واللفظ، الذي يستخدم الألفاظ الوضيعة وحدها، وتارة يستعير لفظة واحدة من غير أسرة الألفاظ التي في الجملة ليحرك بها الخيال ويلمس الحس لمساً رفيعاً، وتارة تكون ألفاظ الحقيقة وملابسات الخيال متساوية، وتارة تكون ملابسات التصوير وإثارة الخيال هي الغالبة، وتارة تكون هي الكل، ومع ذلك يحتفظ القرآن في كل أولئك بأسلوبه المتفرد وسر إعجازه. فليس التصوير الفني وحده (هو سر الإعجاز في تعبيره).
ولكن الأستاذ سيد يقول في الرد علىّ (نعم (أي أن نتيجة الإحصاء تؤكد رأيه) وقد كانت
مهمتي هي هذا الإحصاء وكان حكمي قائماً على هذا الإحصاء)
وقد وصلنا بهذا الرد إلى مكان تغني فيه الأمثلة والشواهد مالا يغني الجدل. ولست أستطيع أن أسرد (القرآن كله) في مجلة الرسالة للاستشهاد كما لم يستطيع صاحب (جحا) أن يعد النجوم حينما سأل (جحا) كم عدد نجوم السماء؟ فقال له: كذا. . . فلما تشكك ذلك الصاحب قال له حجا: إن لن تصدقني فعدها أنت. . .)
وهأنذا أفتح المصحف حيثما اتفق، فاقرأ معي من سورة الفرقان:(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. الذي له ملك السموات والأرض، ولم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدَّره تقديرا. واتخذوا من دونه آلهة لَا يَخلُقون شيئاً وهمُ يخلَقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا، وقال الذين كفروا: إن هذا إفْكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون؛ فقد جاءوا ظلما وزورا. وقالوا أساطيرُ الأولين اكْتَتَبَها فهي تَمْلَي عليه بكرة وأصيلا. قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض. إنه كان غفورا رحيما). ولفتح القرآن مرة أخرى حيثما اتفق ولنقرأ من سورة الأنعام:
(الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلماتِ والنور، ثم الذين كفروا بربهم يَعْدِلون. هو الذي خلقكم من طين، ثم قضى أجلاً. وأجل مسمى عنده، ثم أنتم تمترون. وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون.
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقد كذبوا بالحق لما جاءكم، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون).
ولنقرأ سورة الأعلى:
(سبَّح اسمَ ربَّك الأعلى. الذي خلق فسوَّى. والذي قدّر فهدى. والذي أخرج المرعى. فجعله غُثاء أحْوَى. سسُنْقرِئُك فلا تنسى. إلا ما شاء الله. إنه يعلم الجهر وما يخفى. ونيسرك لليسرى. فذكر إن نفعت الذكر. . .)
ولنقرأ من النساء (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم وكان الله سميعاً عليما. إن تُبْدُو خيراً أو تخفوه أو تَعفُوا عن سوء فإن الله كان عفوَّا قديراً. إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرَّقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون
أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرين حقا، واعتدنا للكافرين عذاباً مُهينا. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم، وكان الله غفوراً رحيما).
واقرأ من سورة الأعراف: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين. أوَعَجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذَّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوماً عَمِين) وهكذا سأتعب واتعب القارئ من عد آيات القرآن للاستشهاد بها في هذا المعرض كما يتعب من يعد نجوم السماء. . .
فأين في هذه الآيات وأمثالها الكثيرة (التصوير الفني) الذي لفت نظر الأستاذ سيد وأثار خياله، حتى وهو طفل، بحبكته في اللوحات ذات الوحدة والتناظر والتمثيل الجامع ذي الظلال والأجواء الشاملة كما يتجلى في (ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ، فإن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلبْ على وجههً. . .) وفي: (مَثَل الذين كفروا بربهم، أعماُلهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء) وفي (له دعوة الحق. والذين يَدْعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفَّيْه إلى الماء ليَبْلُغ فاهُ، وما هو ببالغه. . .) وفي (ومن يشرك بالله، فكأنما خَرَّ من السماء فتخْطَفُه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق. . .)
فهل نستطيع أن نقول إن أمثال هذه الآيات التي ذكرناها من سور الفرقان والأنعام والأعلى والنساء والأعراف لا تعبر عن (معان مجردة أو حالات نفسية أو صفات معنوية أو نماذج إنسانية. . . الخ) وهل نستطيع أيضاً أن نقول إن (نوع) التعبير في هذه الألوان واحد من الجهة الفنية؛ وهل لا نلمس في هذه الآيات نفس الإعجاز الذي نراه في غيرها من أدوات التعبير القرآني، حتى نربط ما بين الإعجاز وبين التصوير الفني؟
لا. إني لا أقر الأستاذ قطب على هذا التعميم، وكنت أحسبه فلتة قلم إليها حماسة للموضوع ولكن رده علىّ بعد ذلك يؤكد أنه (يعني مرتكنا فيه إلى الدليل). فلم يكن لي بد أن أسرد له
وللقراء تلك الشواهد التي سلفت، محيلا إياهم على استعراض القرآن. ليتبينوا أن (التصوير الفني) أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة، وأن القرآن يحتفظ بروحه الفذ وجميع خصائصه الإعجازية في كل هذه الأدوات. . .
- 2 -
أنا ما خشيت على القرآن من إدراك (سر الإعجاز في تعبيره) كما ظن الأستاذ سيد، وإنما بينت أننا لو ربطنا بين سر الإعجاز وبين التصوير الفني وحده نكون قد سوينا بين تعبير القرآن وبين غيره من مواريث أرباب البيان الرفيع في كل لغة إذ أننا نجد في مواريثهم استخدام التصوير الفني للتعبير عن (المعاني الذهنية والحالات النفسية والحادث المحسوس والمشهد المنظور. . . الخ) ومع ذلك لا نجد في بيانهم هذا اللون المتفرد ولا نجد في نفوسنا هذه الاستجابة المسحورة لتخييلهم وتصويرهم كما نجدها حينما نتلو القرآن.
فأكرر للمرة الثانية أن المعجز من أمور الحياة ما لا يمكن الوصول إلى سره واستخدامه، وكل أدوات التعبير التي أشرنا إليها قد استخدمها البلغاء. ولكن شتان بين الروح الخلفي الذي يترقرق في بيان القرآن ويشع من (هياكله) البيانية في السطور وما بينها وبين الهياكل البيانية البشرية الجميلة. . . شتان بين ما يمكن إدراكه بالمقاييس والمسافات، وبين أسرار ذلك العالم الأعلى الطليق الذي تنزل منه في القرآن روح متفرد لا يستطاع بحدود وأربطة. فلا يصح أن نربط بين سر الإعجاز وبين أي أداة من تلك الأدوات. إن الكون صنع الله والقرآن كلام الله، وأسرار الإعجاز في كلامه كأسرار الإعجاز في صنعه، نستطيع أن نصف آثارها في نفوسنا وعجبنا منها. ونستطيع أن نهتدي فيها إلى معالم للجمال تقاس، وعجائب للبلاغة تجلّي ولكنا لا نستطيع أن نقول: إنها موضع سر الإعجاز في تعبيره.
- 3 -
كل ما في القرآن من (منطق) الوجدان في إثبات عقيدة التوحيد أنه ساق القضايا العقلية بتعبير جميل أخَّاذ حرك به الوجدان والمشاعر مع تحريك الذهن والحكم لصلب كل قضية، ولم يسقها بأسلوب جاف كأسلوب المناطقة الرياضيين الذي تتزاحم فيه المعاني في ألفاظ
ضيقة. وأي كلام اعتمد على (الحقائق البديهية الخالدة) وعلى مقدمات ونتائج صحيحة سواء أكانت محسوسة ومنظورة أم غير محسوسة ومنظورة فهو منطق ذهني. فإذا جمع إلى صحة المقدمات والنتائج جمال التعبير وروعة الأسلوب وإشراق الطلعة فهو منطق (وجداني) كذلك. منطق الوجدان - وإطلاق (المنطق) هنا تجوز في التعبير - هو الذي يتأثر بالخطابيات والشعر والموسيقى وغير أولئك من ألوان الفن التي لا تعتمد على الحقائق الثابتة و (نقط الارتكاز) الواضحة في عالم البداهة و (الحكم العقلي). والتأثر بهذا (المنطق) تأثر وقتي لا يترك رواسب في الذهن ومقاييس تملأ اليد، يستطيع الفكر أن يتحاكم إليها، ولأنها ألوان وظلال ونغمات وأعراض غير ملازمة تنفعل لها النفس انفعال الانقباض أو الانبساط وقتاً ثم يزول تسلطها عليها.
وليست هذه الأعراض هي طريق إقرار (العقائد) ودعائم الفكر والحياة عند الراصدين المتيقظين الواعين، وخصوصاً الدعامة الأولى والقضية الكبرى قضية (التوحيد) التي هي قضية الكون كله وأعظم شئونه! إن الوجدانيات من الخطابيات والشعر والموسيقى وسائل إقناع وقتي للبسطاء، وليست وسائل يقين ثابت للذين يبحثون لعقولهم عن عواصم تستند إليها من طوفان الأهواء والنوازع والوجدانيات المتقلبة. . . وما كان للقرآن وهو يتصدى لإثبات القضية الكبرى أن يعتمد على (المنطق) الوجداني وإني أرى الذهن في إثبات العقائد وخصوصاً (التوحيد) هو أوسع المنافذ وأصدقها وأدقها، كما بينت في المقال السابق بهذا الخصوص.
والذي يدعوني إلى أن أفهم أن الأستاذ سيد يذهب إلى أن مواطن العقيدة - بما فيها التوحيد - هو الوجدان قوله (موطن العقيدة الخالد هو الضمير والجدان)(وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة، وليس هو على أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً)(فلندع الذهن يدبر أمر الحياة اليومية الواقعة أو يتناول من المسائل ما هو بسبب من هذه الحياة. فأما العقيدة فهي في برجها العالي هناك، لا يرقى إليه إلا من يسلك سبيل البداهة ويهتدي بهدي البصيرة ويفتح حسه وقلبه لتلقى الأصداء والأضواء).
فهذه كلمات صريحة (فيها الحصر بأما والنفي والاستثناء) في إقصاء الذهن عن منطقة العقيدة، وفي التفريق بين عمل الذهن وعمل الوجدان في الحياة والعقيدة، اضطررت إلى
مناقشتها في مقالي السابق كظاهرة لمذهب كلامي فشا الحديث به في هذا العصر الذي اتصل فيه المسلمون بغيرهم من الذين وجدوا أصول دينهم لا تستقيم مع الفكر والحكم العقلي فالتمسوا العقيدة عن سبيل الوجدان وحده
ومع أن هذا النص من كلام المؤلف يكفي لأن يسلكه مع القائلين بأن منطقة العقيدة هي الوجدان وحده، فإنني لم أغفل النظر إلى ما قاله قبيل هذا النص مما يستفاد منه أنه لا يخرج الذهن إخراجا كلياً من منطقة العقيدة.
ولذلك لم أناقش كلامه مناقشة حرفية ولكني ناقشت الفكرة التي تشيع في جو الفصل كله. ولْنُنْه هذا الجدل بالمثال فإنه ابلغ في الحجة وأروح للنفس. قلنا إن مسألة المسائل التي دار عليها أكثر جدل القرآن هي عقيدة التوحيد. وأنسب الآيات التي تناولت هذا الموضوع هي آيات سورة الأنبياء وقد ساقها المؤلف كدليل على ما ذهب إليه فلنقرأها معاً:
(أم اتّخَذُوا آلهة من الأرض هم يُنْشِروُن. لا ((يَنْشُروُن) كما ضبطها المؤلف. فليضمها إلى ما نبهه إليه فضيلة الشيخ السبكي). لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون! لا يُسْأَلُ عمَّا يَفْعلُ وهم يُسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة. . . قل هاتوا برهانكم! هذا ذِكْرُ مَنْ مَعي وذِكْرُ من قَبْلي، بل أكثرُهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) فهل ترى هذه الآيات تركت حجة (ذهنية) يمكن إيرادها للكر على مزاعم القوم ثم لم تفعل؟ (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنْشِرون) فالإله هو وحده الذي يخلق ويحي ويُنْشِرُ الخلائق من الأرض. فهذا مقطع من مقاطع الاستدلال بكلمة واحدة يدور بها الذهن في استعراض سريع للأرض وكائناتها للبحث عن حيٍّ مخلوق واحد لغير الله فلا يجد. وإنه لَلدَّليل الاستقرائي بعينه! ذلك الذي بني عليه (بيكون) الفلسفة الاستقرائية الحديثة. . وإنه لَلدَّليل المفضل عند المربين وعلماء النفس.
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وهذا مقطع آخر من مقاطع الاستدلال في كلمة واحدة أيضاً. . وإنه للدليل التطبيقي بعينه! أحد ضروب الأدلة الكبرى، يطبق فيه العقل في ظروفه ما يدركه من لوازم تعدد الرياسات وفساد الأمور إذا تولتها أيد متعددة سيكون بينها بالطبع ما يكون بين المتعددين ولا يمنع خلافهم وتنافسهم وتحاسدهم أنهم آلهة في طباع مختلفة عن الآدميين. فإن التصور البشري لا يستطيع أن يجرد الآلهة من صفات الناس
لأنه لا يملك غير منطقة هو، فهو معذور!
(فسبحان الله رب العرش عما يصفون) ذلك موقف وجداني فيه انفعال وتقزز من تلك الدعوى وتنزيه لله عما وراءها من أزمات ومحرجات. وهو موقف معترض للإسراع بالتنزيه تعود الآيات بعدد إلى الاستدلال (لاُ يسأل عما يَفْعل وهم يسألون) وهذا مقطع آخر فيه ضرب عظيم من ضروب الاستدلال هو الدليل العلمي الواقعي، وهو كذلك أحد ضروب الأدلة الكبرى وله في الفلسفة العصرية المقام الأول إذ به تسير الحياة العملية وهو محور الاجتماع. . .
فما دام الواقع أن جميع الآلهة المزعومة مَلَّك الناسُ أن يواجهوها بالمسئولية والمحاكمة فلا يصح أن يكون آلهة ما دامت تقع عليها الدينونه. . . ولكن الذي خلق السموات والأرض لا يملك عابد له أن يرفع عينه إليه بمسئولية، بل ليس له إلا التسليم والإذعان ما دام عاجزاً عن الهرب من أقطار السموات والأرض. . . (ومن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فلْيمدُدْ بسبب إلى السماء، ثم لْيقطع فلْينظر هل يُذهِبَنّ كيدُه ما يغيظ!)
وهل فيما زعمته الوثنيات والاشتراكيات شخصية إلهية لم تسأل؟ إن آلهة اليونان والهندوس وغيرهما كما وردت في أساطيرهم ذات صفات عاجزة فيها العبث والغلط والمنازعات التي كان وراءها مسئوليات.
(أم اتخذوا من دونه آلهة. قل هاتوا برهانكم!) إذا نحن في مقام جدل كبير يتسع للرد وقوع الحجة بالحجة وتشقيق الدليل وراء الدليل، ولسنا في مقام تسليم بوجدان عن طريق تعريض (الحس للأصداء والأضواء) والخطابيات والشعريات والنغمات.
(هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) وهذا مقطع عظيم أيضاً من مقاطع الاستدلال هو ما يسمونه (الدليل التاريخي) إذ أن التاريخ لم يثبت حياة رسول جاء قومه بغير الوحدانية. . . إذا فقد سد القرآن مجالات القول والاستدلال أمام المشركين حتى أثبت أنهم لا يستندون في دعواهم إلى أي حق، إنما إلى التكبر والجهل والإعراض. وكان هذا الختام (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) نتيجة منطقية ذهنية واضحة لمقدمات واضحة أخذت بضروب الأدلة جميعاً ولم تترك مفراً لجدل مجادل. . .
فكيف بعد هذا كله يضرب الأستاذ قطب هذه الآية مثلا في أن القرآن تناول مشكلة التوحيد
بلا جدل ذهني؟! إن المنطق هنا منطق ذهني دقيق أخذ من موارد الكون والنفس جميعاً، غير أنه ورد بتعبير القرآن الفني الجميل المعجز الذي يُدني البعيد القصيّ. . .
ألم يقل: (فإنما يسّرنا بلسانك لتٌُبشِّر به المتقين وتنذر به قوماً لُدَّا) وما أدراك ما لدَدُ العرب وجدالهم! (بل هم قوم خَصِمُون)
ولكن (إن كنت ريحاً فقد لا قيت إعصاراً) وقد أتاهم من القرآن إعصار من البين كَبَّهم على مَنَاخِرهم وأذقانهم!
عبد المنعم محمد خلاف
البحث العلمي أصوله وآدابه
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
2 -
قوة الملاحظة والقدرة على الاستنتاج
من الصفات اللازمة لنجاح البحاث في عمله أن يرى بعينه وبصيرته مالا يراه معظم الناس. فالشخص العادي إن أعطيته زهرة نبات لا يلاحظ فيها سوى لونها وحجمها ورائحتها. أما المدقق القوي الملاحظة فإنه يرى فيها ما يشغل فكره ويحير لبه. فإن ما رآه داروين وباستير وغيرهم من فطاحل العلماء قد مر بلا شك على نظر الملايين من الخلق قبلهم من غير أن يلاحظوه.
ولما كانت روح التنقيب والاستقصاء وحب الاستطلاع غريزية وقوية جداً في الأطفال وجب تشجيعها فيهم وذلك بأن يترك لهم المجال للاعتماد على أنفسهم في حل ما يعترضهم من المسائل فلا يتعدى ما يقدمه إليهم كبارهم الإرشاد في كيفية استخدام عقولهم وتدريبها في العمل على كشف أسرار ما يصادفونه من المعميات والصعاب.
على هذه النظرية بنى التعليم الحديث. فالأمم الحديثة الراقية تدرب صغارها لتصبح عقولهم مرنة غير جامدة، وعيونهم يقظة قوية الملاحظة، وأذهانهم وقادة سريعة الاستنتاج فيستخلصون النتائج بدقة وإمعان، فإذا التحق بعد أحدهم بعد إتمام دراسته بعمل ما أو بمعهد من معاهد البحث كان مدرباً من يوم نشأته على الاعتماد على نفسه في معرفة ما يستلزمه عمله أو بحثه من الشروط غير مستعين برئيسه إلا للاستفادة برأيه والاسترشاد بخبرته في حل المعضلات العويصة
فالتعليم التلقيني وهو الذي يلقن فيه الطالب العلم من أفواه المدرسين وصفحات الكتب دون التدرب على الاعتماد على النفس وقوة الملاحظة والاستنتاج وما يتبعهما من تشغيل الذهن؛ هذا التعليم نتيجته تخريج شبان ضيقي العقل جامدي الفكر قليلي الاعتماد على أنفسهم في حل ما يصادفهم من العقبات، فتراهم في عملهم حيارى لا يعرفون أين يتجهون فيكثرون من إلقاء الأسئلة على رؤسائهم لمناسبة ولغير مناسبة، وتجدهم ضعيفي الملاحظة والمشاهدة
سريعي الاستنتاج الذي كثيراً ما يكون خطأ. وليس هذا لضعف طبيعي، بل هو نتيجة لازمة للتعليم التلقيني وصف عقولهم عن طريق التأمل والتفكير إلى طريق الحفظ. مثل هذا التعليم لا يلائم روح العصر الحاضر ولا يمكن بوساطته إخراج رجال يمكن البلاد الاعتماد عليهم في أعمالها ولا يكون لهم رأي محترم في دوائر البحث العلمية العالمية.
وقوة الملاحظة أو الفراسة صفة وراثية يصعب غرسها فيمن جرد منها. أما من اتصف بها فهو أوفق الأشخاص لأعمال البحث، إذ يمكنه بتهذيب هذه الصفة في نفسه وتنميتها أن يتمكن من كشف غوامض الأشياء وحل رموزهم بأبسط الطرق وأقربها منالا. وهذا ليس بسهل لأن السواد الأعظم من الناس يحاول حل المشكلات بأصعب الطرق وأكثرها تعرجا فيخيبون. ولا يفوز بسرعة الحل إلا الذي يتبع الطريق السهل الذي لبساطته وسهولته لا يخطر إلا ببال النوابغ.
3 -
غزارة المادة العلمية
من أوجب الواجبات أن يكون البحاث واسع الاطلاع دائب المذاكرة في الكتب والمراجع لا يفوته علم قديم أو حديث، وعليه أن يلم بشتى العلوم التي لها صلة بعمله ليستعين بها في حل معضلات أبحاثه وتعليل نتائجها. ولنضرب لذلك مثلاً المشتغل في البحوث البيولوجية، فواجبه إن أراد أن يكون من أعلامها أن يلم بأصول اللغات اللاتينية والإغريقية نظراً لاستعمال أصولهما في وضع الأسماء العلمية. وعليه أن يجيد علاوة على لغته لغتين أو ثلاثاً من اللغات الحية للاستعانة بمراجعها في بحوثه كما يجب أن يلم بالعلوم الرياضية وأن يعرف الفيزيقا العلمية والنواميس المتصلة بكافة ظواهر الحياة كالجذب السطحي والميوعة وما إليها. ويلم بالكيمياء وعلى الأخص كيمياء الأحياء. وأن تعذر عليه ذلك فليستعن بكيميائي وهذا ضعف.
والواجب على المشتغلين ببحوث أمراض النبات أن يلموا إلماماً تاماً بكيمياء المواد العضوية التي يتركب منها قسم النبات العائل وجسم الطفيل المسبب للمرض والذي يفرزها كلاهما. مثل كيمياء النشويات، والسكريات، والخلووزات، والبكتوزات، والتنبنات والأحماض والالدهيدات وأحماض الأمينو والجلوكوسيدات والأنزيمات والزيوت الطيارة والاسترات وهلم جرا. ومن رأى أكابر العلماء الحديثين في دراسة علم أمراض النباتات أن
بحوث هذا العلم تتوقف في نجاحها على فهم كيمياء العائل والطفيلي وما يطرأ في كليهما من التغيرات أثناء ارتباط حياة بعضهما ببعض. لذلك كان أغلب المتخصصين في البكتريولوجيا حاصلين على درجات في علم الكيمياء. وواجب الباحث في أمراض النباتات أن يكون متمكنا من علم الكيمياء غير العضوية لتساعده على البحث في المبيدات الفطرية ويتحتم عليه أن يحيط بأصول علم الأرصاد الجوية (المتريولوجيا) وعلم الجيولوجيا وفيزيقا التربة لما لهذا العلوم من العلاقة التامة بحدوث الأمراض وانتشارها. كما يتحتم عليه الإلمام بعلوم الزولوجيا (علم الحيوان) والحشرات لأن كثيراً من الحيوانات والحشرات تنقل الأمراض النباتية وتسببها كأن تحدث أوراما في جسم النبات تشبه الأورام الباثولوجية، فمعرفته بالآفات الحشرية تساعده على أن تكون استنتاجاته صحيحة مجدية. وليس لعمل المشتغل ببحوث أمراض النباتات أية قيمة مطلقاً إن كان قاصر المعرفة بعلم النبات؛ إذ كيف يمكنه دراسة المرض وتأثيره بدون أن يعرف تركيب النبات وتشريحه وتركيب أنسجته في حالة الصحة وما يطرأ عليها من التغير بسبب المرض وعلى وظائف النبات من الخلل بسبب البيئة؟ لذلك كان لعلم الفسيولوجيا النباتية المنزلة الأولى في بحوث أمراض النباتات إذ لا يمكن للباحث أن يعرف أحوال النبات المريض إلا إذا كان ملماً بالكيفية التي يؤدي بها النبات السليم وظائفه. ومن أوجب الواجبات على الباحثين في أمراض النبات أن يتبحروا في العلوم الزراعية على اختلافها، وفي فلاحة البساتين بصفة خاصة.
ونظراً للتشابه الكبير بين الباثولوجيا النباتية والحيوانية كان من المستحسن أن يتصل المشتغلون بالبحث في هذين العلمين ببعضهم البعض زيادة في الاستفادة.
وما يقال عن الباحثين في العلوم البيولوجية يقال عن غيرهم. من الذين يشتغلون بالبحث في مختلف العلوم.
4 -
القدرة على تصميم التجارب وتنفيذها واستخلاص النتائج
لا بد للباحث عند وضع نظريته أن يثبتها بسلسة من التجارب يكررها عدة سنوات ليتأكد من ثبات نتائجها وصحتها، لذلك يبدأ الباحث في بناء بحثه بكثرة المشاهدة وجمع البيانات على أساس إحصائي لتتكون عنده فكرة عامة عن موضوع بحثه وتتجمع له المعلومات التي
يستعين بها في وضع منهج تجاربه. وعند تنفيذ تجاربه تظهر له مشاهدات أخرى جديدة قد تدفعه إلى تعديل منهج تجاربه الأول. وهكذا كلما تكونت عنده فكرة جديدة وصادفته مشاهدات جديدة استعان على دحضها أو إثباتها بالتجارب حتى يصل في النهاية إلى الحقيقة الثابتة الناصعة المبنية على أساس علمي.
فالذي لا يأنس في نفسه القدرة على إتباع هذا الطريق في أبحاثه لا يصح أن يقوم بأي عمل من أعمال البحث. وأنه لمما يؤسف له أن العالم ملئ بالكثير من أصحاب النظريات غير المؤيدة بتجارب عملية صحيحة. وتراهم يفرضون آراءهم على الناس وعلى من ولي أمورهم للأخذ بها فيجدون من يغتر بأقوالهم فيستمع إليهم ويعمل بإرشادهم فلا يظهر دجلهم إلا بعد أن تتكبد البلاد نفقات باهظة؛ ناهيك بضياع الوقت وإفلات الفرص. وبلادنا تعج بأمثلة كثيرة من هؤلاء في كل مهنة وفن. والواجب على حديثي العهد بالبحوث العلمية أن يدأبوا على القيام بتجارب متنوعة كثيرة متواصلة واضعين نظرياتهم ونظريات وغيرهم موضع الاختيار والدراسة ليستفيدوا ويزدادوا خبرة وعلما.
ومن أهم أركان البحث قدرة الباحث على تفسير مشاهداته واستخلاص نتائج تجاربه. وهذا يستلزم القدرة على ربط النتائج بعضها ببعض للاستنتاج النهائي. وهذا يتطلب الدقة في الحكم وعدم التسرع فيه لأن الباحث إذا أراد أن تكون بحوثه مصدقة محترمة وجب عليه أن يثبت من صحة نتائجه وصدق تعبيرها.
والواجب ألا يكتفي من يقوم بأعمال البحث بما حصل عليه غيره من النتائج بل عليه أن يعيد تجارب غيره حتى يحصل بنفسه على نتائج تؤيدها أو تنفيها. كما يجب عليه ألا يكتفي بنتائج تجارب قام بها أحد كبار الباحثين اعتماداً على شهرته. فكل عالم عرضة للخطأ والزلل كأي إنسان آخر. وكم من رجل وصل إلى الشهرة بالإعلان والدجل ودق الطبول ونفخ الأبواق وحرق البخور.
وواجب البحاث أن يصدق كل شيء ليبني على هذا الشيء تجاربه؛ وألا يصدق أي شيء حتى يحصل على نتائج تجاربه؛ وألا يمنعه أي اعتبار مهما كان مقدساً عن البحث في طبيعة الأشياء.
5 -
القدرة على تدوين النتائج وإعدادها للنشر
لما كانت الكتابة واسطة للتعبير وجب على الباحث إجادتها ليؤدي المعنى بأبسط عبارة. ولذلك ينبغي عليه أن يعرف آداب اللغة التي يكتب بها وقواعدها وأساليبها مع التضلع في مفرداتها ليسهل عليه التعبير عن نتائجه بطريقة سليمة بسيطة سهلة لا يملها القارئ. فلا يستعمل كلمات لا معنى لها في موضوعه. إذ من أصول الكتابة العلمية أن تؤدي كل كلمة معناها الخاص بها اللازم للتعبير عن غرض الباحث. لذلك يجب عدم تكرار الألفاظ لغرض التنميق والتجميل لأن الغرض من الكتابة العلمية ذكر الحقائق من غير حشو وبأسلوب بعيد عن التجميل المستطاب في كتب الأدب.
والواجب على الباحث عند نشر بحوثه باللغة العربية أن يراعي قواعدها والكتابة بأساليبها لتبلغ جملة غايتها من غير شطط، وان يرجع إلى لغة العرب لانتقاء ما يصلح من ألفاظها للمصطلحات العلمية الحديثة؛ فإن عجز فلا غبار عليه من تعريب هذه المصطلحات بما يقبله الذوق أو من وضعها بحالتها وله قدوة في ذلك بمن سبقنا من علماء العرب الذين نقلوا كتب الأعاجم إلى العربية
والخلاصة هي أن الباحث يجب أن يراعي في نشر بحوثه القواعد الآتية: -
1 -
أن تكون كتابته واضحة سهلة تؤدي لمن يقرؤها المعنى المقصود.
2 -
أن يكون لكل كلمة وجملة يكتبها معنى يتصل اتصالاً وثيقاً ببحثه.
3 -
أن تكون جملة صغيرة تحمل معنى كبيراً
4 -
أن تكون جملة منطقية الترتيب من يقرؤها مقتنعاً بصحة نتائج بحثه.
ولا حرج على الباحث من نشر ما ينتهي منه من فروع بحثه أولاً بأول ولا يمنعه ذلك من الاستمرار في بحثه حتى تتم أدواره.
6 -
حسن علاقة رؤساء البحوث بمرءوسيهم
يجب أن يكون المشرفون على البحوث بالنسبة لمرءوسيهم كالقلب بالنسبة للجسم ينظم حركة عمله. فإذا كان القلب سليماً انتظمت أعمال الجسم ولذلك يجب أن تتوفر في رئيس البحوث شروط خاصة كنكران الذات والتضحية والتفاني في الهبة وحسن الخلق والعلم الغزير مع التواضع وحسن توزيع العمل. وأن يعمل على إيجاد الجو الصالح لإدارة
البحوث من غير أن يتأثر الباحثون بمؤثرات خارجية تشغل بالهم وتقلق راحتهم فينصرفون عن بحوثهم بمتاعب أنفسهم. لذلك يجب عليه أن يعمل لتأمين مرءوسيه على مستقبلهم فيضمن لهم العدالة في الترقية ومكافأة المجد على قدر ما يعود من الفائدة من نتائج بحوثه.
ويجب عليه إشراك مرءوسيه في مسئولية العمل ليشعروا بقيمتهم في الهيئة الاجتماعية والعلمية، وبأنهم يؤدون عملاهم أصحاب الفضل في إنجازه، وألا يجعلهم يشعرون بأنهم آلات تعمل لمصلحته ورفعته فإن فعل ذلك فإنه يدل على ضعة في النفس لا يكسب منها سوى حقد مرءوسيه عليه واحتقارهم له وإهمالهم في العمل، بل وإلى الغش الذي يسئ إلى سمعة المعهد خاصة والبلاد عامة. لذلك يجب على رئيس البحوث أن يكون لمرءوسيه بمثابة الأستاذ للطلبة، له فضل تدريبهم وتعليمهم وإرشادهم، ولهم نتيجة دراساتهم وبحوثهم ثمارها. فإنه ليس أدعى إلى بذر بذور الحقد والكراهية في مكامن النفوس بين الرئيس ومرءوسيه من شعورهم بمحاولته غمط حقوقهم المكتسبة بكدهم وحسن عملهم.
ومن دواعي فخر الرئيس العاقل أن يرى مساعديه ينشئون بين يديه صغاراً كالأطفال ثم ينمون ويترعرعون بفضل تعهده لهم وعنايته بهم إلى أن يصبحوا رجالاً مسئولين ذوي آراء محترمة وعمل نافع.
وعلى المرؤوسين واجبات مقدسة نحو رئيسهم، فعليهم أن يعتبروه كالأب يسرون إليه بأخطائهم فيجدونه واسع الصدر صادق الحكم والراي، حليماً في إرشادهم إلى الصواب، ويجب عليهم أن لا ينسوا أنه صاحب الفضل في تمرينهم وتدريبهم إلى أن وصلوا إلى الحالة التي مكنتهم من الاستقلال بعملهم.
هذا هو دستور البحث وأصوله وقواعده إذا توفر في أمة ضمنت نجاحها وتأهلت مكاناً لائقا ًبين الأمم الراقية. فهل نحن عاملون به في مصر. هذا موضوع سنتكلم عنه في فرصة قادمة إن شاء الله.
دكتور محمد مأمون عبد السلام
من أساليب التفكير
التبرير الجدلي
للأستاذ زكريا إبراهيم
(للكاتب الأمريكي جيمز هارفي روبنسون رسالة قيمة عرض فيها لأساليب التفكير المختلفة، مبيناً الدور الذي يؤديه كل في تكوين الحضارة الإنسانية. ونحن نعرض في هذا المقال لواحد من تلك الأساليب محاولين أن نكشف عن الأصل فيه، على ضوء علم النفس الحديث)
من أساليب التفكير المتنوعة أسلوب يطلق عليه علماء النفس المحدثون اسم (التبريد العقلي) أو الجدَلي. والأصل في هذا الضرب من التفكير أن يعرض أحد لمناقشة عقائدنا وآرائنا؛ فإننا عندئذ نعمد إلى تبريد هذه الآراء والمعتقدات بأدلة عقلية نصطنعها من أجل مواصلة الاعتقاد بتلك الآراء. وقد يحدث أحياناً أن نغير آراءنا وأفكارنا دون أن يكون ثمة مؤثر خارجي، ولكن إذا حاول أحد أن يثبت لنا خطأنا، فإننا نزداد تمسكاً بهذه الآراء التي ننادي بها ونمعن في التعصب لها والتعلق بها. ونحن في العادة متسرعون في تكوين آرائنا ومعتقداتنا، ولكننا نجد أنفسنا حريصين على هذه الآراء والمعتقدات، حينما يحاول أحد أن ينتقص من قيمتها، أو أن يشككنا في صحتها. ومن الواضح أن الأفكار نفسها ليست هي الشيء العزيز علينا، وإنما هو تقديرنا لذواتنا وحرصنا على كرامتنا الشخصية. فإذا كنا نميل بطبيعتنا إلى أن نتعصب لشخصنا وأسرتنا ومجتمعنا ومعتقدنا، فما ذلك إلا لأن في هذا ذَوْداً عن كرامتنا الشخصية. وقد تشتد الهجمات الموجهة إلى عقائدنا وأفكارنا، فنضطر إلى التسليم، ولكن يندر أن نعترف بالهزيمة (فالسلم - في العالم العقلي على الأقل - يجئ دائماً بغير نصر حاسم)
وقلما يكلف الناس أنفسهم عناء البحث عن الأصل في معتقداتهم التي يحرصون عليها ويتمسكون بها، فإن الحقيقة أننا ننفر بطبيعتنا من القيام بهذا العمل. . إننا نحب أن نثبت على العقيدة التي اعتدنا أن نسلم بأنها هي الحق؛ فإذا ما أثير حولها الشك، رحنا نبحث هنا وهناك عن حجج معقولة تبرر مواصلتنا التمسك بها، ولهذا فإن الجانب الأكبر مما نطلق عليه أسم (الاستدلال) أو التفكير المنطقي، ينحصر في البحث عن حجج وأدلة تبرر ثباتنا
على المبادئ التي اعتدنا أن نسلم بصحتها
أما الأسباب (الحقيقية) لمعتقداتنا وآرائنا، فهي في الحقيقة خافية عنا، كما خافية عن غيرنا، والذي يحدث في واقع الأمر هو أننا نشب على الآراء التي وجدنا مجتمعنا يأخذ بها. ونحن نتشرب هذه الآراء من البيئة التي نعيش فيها عن طريق لا شعوري؛ فالجماعة التي نحيا بين ظهرانَيْها هي التي تهمس في آذاننا دائماً أبداً بهذه الآراء والمعتقدات. ولما كانت هذه الآراء أو الأحكام وليدة الإيحاء (لا التفكير المنطقي)، فإنها تبدو واضحة تمام الوضوح، حتى أن أي ظل من الشك يلقي حولها، يثير في الناس الدهشة والاستغراب. والواقع أننا إذا حاولنا أن نناقش رأياً من الآراء فوجدنا أنفسنا بازاء فكرة تبدو واضحة بينه حتى أن مجرد التعرض لمناقشتها يعتبر في نظر الناس عملاً غير مرغوب فيه، فإن هذا الرأي لا بد أن يكون عبارة عن فكرة تتنافى مع العقل، وبالتالي لا تستند إلى حقيقة ثابتة بينة.
أما الآراء التي هي وليدة الخبرة والتجربة، أو التفكير الصائب النزيه، فهي - على العكس من ذلك - لا تتصف بهذا (اليقين الأوَّلي) وفي هذا الصدد يروى روبنسون أنه حينما كان حدثا صغير السن، سمع جماعة من الناس يتناقشون في مسألة خلود النفس، فاستثاره الشك الذي أظهره بعضهم حول هذه الحقيقة. وهو يردف ذلك بقوله إنه حينما يعود اليوم ببصره إلى الوراء، فإنه يرى بوضوح أنه لم يكن معنياً بذلك الموضوع في ذلك الحين، بل أنه يقيناً لم يكن دليلاً واحداً صحيحاً يثبت به هذا المعتقد الذي يتعصب له. ولكن على الرغم من أنه لم يكن معنياً بالموضوع من قبل، وعلى الرغم من أنه لم يكن له عهد بالبحث في هذه المسائل، فانه مع ذلك لم يتردد في أن يظهر غضبه واستياءه حينما وجد آراءه ومعتقداته توضع موضع البحث والمناقشة.
وهذا التأييد التلقائي لآرائنا السابقة وأفكارنا المبتسرة؛ أو بعبارة أخرى هذا البحث عن الأدلة (المعقولة) التي تبر معتقداتنا المألوفة وآراءنا التقليدية، هو ما يُعرف عند علماء النفس المحدثين باسم (التبرير الجدلي) وهو بلا ريب ليس سوى أسم جديد لشيء قديم جداً. وهذه الأدلة (المعقولة) هي بطبيعة الحال وليدة التفضيل الشخصي والأحكام السابقة، فهي إذن لا تمت بصلة إلى الرغبة الصادقة في البحث عن معرفة جديدة أو في التسليم بحقائق جديدة
وإذا نظرنا الآن إلى أحلام يقظتنا وجدنا أننا كثيراً ما نشغل أنفسنا فيها بتبرير ذواتنا. ومن الواضح أن السبب في ذلك هو أننا لا نستطيع أن نحتمل الشعور بأننا مخطئون على الرغم من أن الأدلة كلها قائمة على ضعفنا وكثرة أخطائنا. وتبعاً لذلك فإننا نضيع وقتاً كبيراً في البحث عن ظروف خارجية نرجع إليها أخطاءنا مثل سوء الحظ وانعدام التوفيق وعدم مواتاة الظروف لنا، ونجتهد في أن نُسْقط على الآخرين (وكثيراً ما يكون ذلك بمهارة فائقة) أسباب سقوطنا وخيبتنا. فالتبرير الجدلي إذن هو عبارة عن تبرئة النفس حينما يتهمنا الناس (أو يتهمون جماعتنا) بالخطأ أو سوء الفهم.
وليس من شك في أن حبنا لذواتنا، إنما هو العامل الخفي الذي يكمن من وراء كل تبرير جدلي. فهذا الضمير الذي نعبر عنه بحرف الياء (ي) هو في الحقيقة جوهر الحياة الإنسانية؛ هو حرف صغير لا يضيره أن تلحقه بأي لفظ كائناً ما كان، لأنه لا يفقد قيمته على أي حال، يستوي في ذلك أن تقول بيتي، عقيدتي، بلادي، إلهي. . . الخ. فنحن لا نغضب فقط حينما يخبرنا أحد ساعتنا غير مضبوطة، أو سيارتنا ليست جيدة، وإنما نغضب أيضاً إذا قال لنا أحد نطقنا لاسم (ابكتاتوس) غير صحيح، أو أن رأينا عن تاريخ سارجون الأول بعيد عن الصواب.
وهذا الشعور نفسه كثيراً ما نجده عند الفلاسفة والعلماء أنفسهم إذا كانوا بصدد مسألة يدخل مسألة يدخل فيها حبهم لذواتهم فإن كثيراً من المؤلفات الجدلية، ولم تكتب إلا لمواجهة خصومه أدبية - وعلى الرغم من أن بعض هذه المؤلفات قد ينطوي على استدلالات تبدو سليمة لا غبار عليها، فإنه من المحتمل أن تكون هذه الاستدلالات مجرد تبريرات جدلية ترجع في نهاية الأمر إلى بواعث نفسية. وإذن فإن من الممكن أن يُكتب تاريخ الفلسفة واللاهوت في عبارات الكبرياء المجروحة، والخصومات المذهبية، وضروب العداء المستحكمة بين الطوائف ويكون على هذه الصورة اصدق تعبيراً مما لو كتُبِ على الطريقة المألوفة. وإننا لنعرف أن ملتون قد كتب مبحثه عن الطلاق نتيجة للمتاعب الكثيرة التي لاقاها بعد زواجه من تلك الفتاة التي كانت تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً. وكذلك نعرف أيضاً أنه لم يكتب كتابه المشهور المعروف: إلا حينما أتهم بأنه رائد مذهب جديد هو مذهب المُطلَّقين؛ فكتب كتابه هذا لكي يثبت أن من حقه أن يقول ما يعتقد أنه الصواب؛
وبالتالي لكي يثبت حرية الصحافة والتأليف في إعلان الحق.
واليوم، تتردد لدى بعض الكتاب والمفكرين فكرة مؤداها أنه من المحتمل أن تكون كل معارفنا التي حصلناها، في علم الاجتماع، أو في الاقتصاد السياسي، أو في الأخلاق، إبان الأجيال الماضية، مجرد تبريرات عقلية قد يطرحها الجيل المقبل. وقد وصل المفكر الأمريكي جون ديوي بالفعل إلى هذه النتيجة فيما يتعلق بالفلسفة؛ واستطاع فلبن وغيره من المؤلفين أن يكشفوا عما في الاقتصاد السياسي التقليدي من آراء مبتسرة وافتراضات غير مدركة. واليوم يأتي عالم اجتماعي إيطالي يدعي (فلفريدو باريتو) في كتاب ضخم له عن الاجتماع العام، فيكرس مئات الصفحات، لكي يثبت هذه القضية العامة فيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية جميعاً. وهذه النتيجة التي توصل إليها، قد تعتبر في نظر الأجيال المقبلة إحدى المكتشفات العظمى لعصرنا الحديث. وليس بدعاً أن يكون ذلك كذلك، فإن الحقيقة أنه كما كانت علوم الطبيعة المختلفة قبل بداية القرن السابع عشر مجرد ضروب مختلفة من التبريرات العقلية التي تتفق مع المعتقدات الدينية السائدة، فكذلك العلوم الاجتماعية أيضاً قد بقيت - حتى إلى يومنا هذا - مجرد تبريرات عقلية تتفق مع العوائد والعقائد المتقبلة بغير نقد أو تمحيص.
من هذا كله يظهر لنا أنه إذا كنا بصدد فكرة قديمة يسلم بها الناس أجمعون، فإن هذا لا يمكن أن ينهض دليلاً على صحة هذه الفكرة، بل هو - على العكس من ذلك - أدنى إلى أن يكون دليلاً على أنه من الواجب أن نفحص هذه الفكرة بعناية، على أنها مثال محتمل للتبرير الجدلي.
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم
مدرس بمدرسة السويس الثانوية
التعليم ووحدة الأمة
- 5 -
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
يسرنا أن نشهد في هذه الأيام شيئاً من الاهتمام بمسائل التعليم وإصلاحه فقد رأينا نقاشاً يتردد بين بعض رجال التعليم في الجرائد والصحف الأسبوعية ما يدل على هذا الاهتمام وعلى أن وزارة المعارف ترحب بالآراء الجديدة التي تتناول المشاكل التعليمية وتعمل لإنماء روح البحث والاجتهاد في هذا الموضوع الجليل الشأن. غير أني أرجو أنم يتحول البحث إلى المسائل التي في الصميم والتي تتغلغل في روح المدرسة وروح النهضة التعليمية التي تنشدها البلاد.
فالبحث الذي دار فيه النقاش والجدل أخيراً كان خاصاً بزيادة مرحلة وسطى بين مرحلتي التعليم العام. والتعليم العام سواء اشتمل على مرحلتين أو ثلاث مراحل هو في حاجة ماسة إلى إصلاح أهم وأعم لا يتناول مراحله فحسب، بل يتناول نظمه ويتناول روحه حتى نحصل منه على الثمار المرجوة. ولقد تناول صديقنا الأستاذ فريد أبو حددي إحدى مسائله الهامة في العدد 333 من الثقافة. تناول مسألة المعالم فطالب وزارة المعارف إذا شاءت أن تعد البلاد للمستقبل الذي تنشده أمم العالم جميعاً أن تتجه اتجاهاً جدياً إلى المعلم، وطالب الدولة كلها بأن تعين وزارة المعارف على ذلك وأن تحلها من كل قيد وأن تبذل لها من عنايتها ما يمكنها من أن تجعل المعلم روحاً يبعث الحركة في ناشئة البلاد. وهذا مطلب لا نشك في أهميته ولا في عدالته ولا في ضرورته للنهضة التعليمية. ولقد سبق أن طالبنا الأمة به في مواقف كثيرة، وسبق أن أوضحنا ما للمعلم من اثر فعال في تكوين أبنائه وفي بناء نهضة هذه البلاد، وأنه هو العامل الحي الذي يبث في النشء ويبصرهم بأمور الدنيا ويفتح عيونهم على ما يجري حولهم في الحياة. وهو القدوة الحية أمامهم يحاكونه في أعمالهم ويتخذونه مثلا أعلى لهم ويقلدونه في حركاتهم وسكناتهم ويلجأون إليه في معضلاتهم. وإذا كنا نشكو اليوم ما في المدرسة من جمود وخمود وما في تلاميذها من استهتار وقلة تبصر وعدم اهتمام بمسائل الحياة وعدم إقدام خريجيها على العمل الحر المنتج فإنما يرجع الكثير من ذلك إلى خمود العلم وجموده، وإلى سيره في حياته التعليمية
على طريقة أوتوماتيكية خالية من البحث والتفكير والابتكار. وله العذر في ذلك لأن الحالة القائمة بين جدران المدارس وفي تقدير كفايات المدرسين وأعمالهم لا تشجع مع الأسف على شيء من ذلك. فمعلم اليوم مكبل بقيود ونظم وتقاليد لا تسمح له بالتفكير في مستقبل تلاميذه إلا في دائرة محدودة جداً هي دائرة المنهج المقرر وعدم الخروج عنه لأي سبب من الأسباب، والعمل على إنهاء دراسته في المدة المحدودة له حتى يستطيع طلابه اجتياز الامتحان. وهذا هو كل ما هو مسئول عنه. فهو بذلك معذور حقاً إذا لم يحاول أي عمل أكثر من إلقائه الدرس المليء بالمعلومات التي لا تمت إلى الحياة بصلة في الغالب مكررا على أسماع تلاميذه برغم أنوفهم تلك المعلومات التي لا تثير ميولهم ولا غرائزهم ولا تثير فيه ميلا إلى البحث والتفكير؛ لأن ما ذكره في الأعلام الماضية يجئ فيكرره في عامه الحاضر دون تنويع أو تحوير ما دامت الطريقة التي اتبعها من قبل قد أرضت المفتش والناظر وأدت إلى نجاح معظم تلاميذه في الامتحان. هو معذور إذا لم يعمل عملا ما لتحسين حال تلاميذه من الوجهتين الصحية والخلقية لأن المدرسة لا يعنيها ذلك. وهو معذور إذا لم يحاول أن يعرف تلاميذه شيئاً عن الحياة وما يحيط بهم منها وما يتعلق بها داخل المدرسة وخارجها، لأنه إن فعل ذلك أجهد نفسه فيما لا يقدره أحد ولا يشجعه أحد؛ ويجد نفسه قد أضاع جزءا من الوقت الثمين المخصص لإنهاء المنهج الذي لا يقدر رؤساؤه غيره، فلا بد له من ملء الأدمغة وحشوها بكل ما جاء فيه مهما كان نوعه ومهما كانت قيمته بالنسبة إلى ميول التلاميذ. وما عليه من بأس ما دام قد خلق المنهج في أدمغة التلاميذ سواء اعرفوا شيئاً عن الحياة بعد ذلك أم لم يعرفوا. ثم هو معذور إذا لم يعرف شيئاً عما يجري في مختلف البلاد المتحضرة من آراء حديثة وأفكار جديدة في التربية والتعليم لأنه لا يتابع قراءة شيء عن ذلك. ولعل أكثر من تسعين في المائة من المعلمين لم يقرءوا شيئاً من مقالاتي هذه لما يستشعرون من رؤسائهم من عدم اهتمام أو عدم تقدير لكل تفكير جديد. ثم نحن محاطون بكثير من المدارس الأجنبية المنتشرة في البلاد التي تتبع طرقاً في التعليم غير طريقتنا. فمن يا ترى من رجالنا فكر في الاتصال بها ومعرفة شيء مما يجري بين جدارنها! فالمعلم المسكين لا يفتح عينيه إلا على تلاميذه ومنهجه ودرسه! ثم هو معذور إذا لم يتعاون مع زملائه التعاون الضروري لرفع مستوى التعليم في معهده
وتكوين الجماعات التعاونية بين طلابه؛ لأنه مشغول بنفسه وبالدفاع عن قضية عيشه في أوساط تكلفه أكثر مما يطيق وتغمط حقه في الحياة ولا تقدر مسئولياته فيها؛ ولأنه مشغول بالكر والفر بين زملاء يتنافر الكثيرون منهم معه في الثقافة والتكوين ولا يتفقون معه في الآراء ولا ينسجمون معه في العاطفة والروح بطبيعة اختلاف ثقافاتهم باختلاف المعاهد التي نشأوا فيها.
لذلك نكلف المعلم شططا إذا نحن طالبناه بالخروج عن جموده إلى العمل الجدي والنهوض بتلاميذه وبمدرسته، لأنه مقيد بقيود تقف حجر عثرة في سبيله بعضها يرجع إلى البيئة المحيطة به وبعضها يرجع إلى التصرفات التي تجري في محيطه التعليمي. فهو غالباً لم يدخل مهنة التعليم لحبه لها وشغفه بها كما يدخل غيره في باق المهن. معنى ذلك أنه مسوق إلى العمل في مهنته برغم ميوله وإرادته. ولقد اثبت هذا الرأي من زمن بعيد الخبير الفني المسيو كلاباريد في تقريره عن حالة التعليم في مصر تحت عنوان (النزعة البيداجوجية) إذ لاحظ أنه من بين الـ 69 طالباً بمدرسة المعلمين العليا الذين وجهت إليهم أسئلة عن سبب اختيارهم لمهنة التعليم لم يختر منهم هذه المهنة بدافع الميل غير 31 طالباً أي أقل من النصف؛ وأن كثيرين منهم التحقوا بهذا المعهد لأن معاهد أخرى رفضت قبولهم. ومعنى ذلك أن عدداً ليس بالقليل من المشتغلين فعلا بالمهنة البيداجوجية لا تتوفر فيهم النزعة الغريزية إليها. فإذا كانت هذه الحالة في مدرسة المعلمين العليا سنة 1929 قبل إلغائها فإن الحالة لا زالت هي هي في معهد التربية الذي أنشئ على أنقاضها وفي دار العلوم وفي معاهد المعلمين والمعلمات التي امتلأت بالفتيان والفتيات لا رغبة في مهنة التعليم وحبا فيها في كسب العيش عن طريقها. ولذلك فإنا لا نجد في خريجي هذه المعاهد من القائمين بأمر التعليم الآن إلا أناساً مسوقين بحكم وظائفهم مجبرين على العمل الذين يقومون به لا محبين فيه. ويزيد نفورهم من المهنة ما يقاسون فيها من عناء وكد وإجحاف بالحقوق بالنسبة لأقرانهم وزملائهم في المهن الأخرى. وما يقاسون فيها من تنافس وتنافر غير مشروع بينهم يظهر من آن لآن بسبب النزعات والثقافات المختلفة. ولذلك فإنا مقتنعون بأن الحجر الأساس في بناء نهضة التعليم في مصر ينحصر في تشويق الشباب إلى المهنة وتحبيهم فيها بما يجب أن يوجد فيها من مغريات ومشجعات لا أثر لها فيها اليوم، كما ينحصر في
العمل الجدي على توحيد ثقافات المعلمين بضم معاهدهم المتنافرة المتناحرة بعضها إلى بعض في معهد واحد ليكون الجميع يداً واحدة متناصرين متعاونين متجهين جميعاً الاتجاه الصحيح في تفكيرهم وبحوثهم وعملهم في سبيل وحدة الأمة المنشودة. وإنه لن يتم للبلاد ما ينادي به الزعيم الوطني الكبير علي ماهر باشا في أن يتحد أبناؤها اتحاداً شاملاً حرا وأن يكون هذا الاتحاد اتحاد في القرية واتحاد في الإقليم واتحاداً في عاصمة البلاد كما ذكر رفعته في حديثه لمراسِل جديدة الأهرام بتاريخ 11 مايو سنة 1945؛ أقول لن تتم تلك الوحدة العزيزة المنشودة إلا إذا وضعنا أساسها بين معاهد تخريج المعلمين من اليوم ليكون المعلمون على مر الزمان دعاة تلك الوحدة وأنصارها والقابضين على زمامها في القرية والمدينة والعاصمة. ولتكون المدرسة نواة الإصلاح الحق في بناء تلك الوحدة وتدعيمها كما هو الحال عند غيرنا من الأمم التي سبقتنا في مضمار الحياة الحرة الكريمة. وإنا لنغتبط كل الاغتباط بما جاء في سياق حديث رفعته الممتع من حماس للوحدة القومية إذ قال: (وما دام الحق واحدا لا يتعدد فالوحدة القومية التي فيها إنقاذ شرف الأمة يجب أن تكتسح كل من يقف في سبيلها).
لهذا نأمل أن يعمل العاملون في بناء هذه الوحدة فوراً على وضع أساسها وتدعيم جدرانها بتوحيد معاهد المعلمين وتوحيد ثقافاتهم حتى يبني البناء الشامخ على أساس وطيد سليم لا تزعزعه العواطف بل لا تزيده إلا تماسكاً وقوة وعزة ورفعة.
عبد الحميد فهمي مطر
رسالة الفن
5 -
الفن
الكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
الحركة في الفن
يوجد بمتحف اللوفر تمثالان لرودان يتنازعانني ويؤثران فيّ بوجع خاص، هما:(العصر الحديدي)(ويوحنا المعمدان). ويخيل إلى أنهما أكثر حياة من غيرهما - إذا صح هذا التعبير. حقيقة أن كل تماثيل (رودان) الأخرى تنبض بالحياة، وتتنفس ويحس منها ما يحس من اللحم الحقيقي إلا أن هذين التمثالين يتحركان!
كاشفت رودان بولعي الخاص بهذين التمثالين ذات يوم وأنا جالس بمرسمه بميدون فما كان منه إلا أن أجابني:
أنهما حقاً من تلك التماثيل التي أبرزت فيهما الفن التقليدي إلى ابعد حدوده، مع أني صنعت غيرهما كثيراً مما لا يقل عنهما حركة وحياة، أذكر منها على سبيل المثال (رهائن كاليه)(وبلزاك)(والرجل يمشي). وحتى في أشغالي التي لا يظهر عليها النشاط حرصت دائماً على أن أطبعها بطابع الحركة. ولم أصنع قطعاً وادعه ساكنة إلا فيما ندر. ولقد حاولت دائماً أن أعبر عن الأحاسيس الداخلية بحركات العضلات. وهذا صحيح حتى في تماثيلي النصفية التي أجعلها تميل أو تنحرف انحرافاً خاصاً أو تأخذ وضعاً معيناً يجعلها تنم عن خلجة من خلجات النفس.
لا يمكن الفن أن يعيش بغير حياة. فإذا ما أراد مثال أن يعبر عن السرور أو الحزن مثلاً أو عن أية عاطفة كانت فإنه لا يستطيع تحريك مشاعرنا من غير أن يعلم بادئ ذي بدء كيف يبث الحياة فيما يسوي من الجسام. وإلا فكيف يؤثر فينا السرور أو الحزن المرتسم على شيء جامد كقطعة من الصخر الأصم مثلاً؟
ويمكننا الحصول على مخايل الحياة في أعمالنا عن طريق التمثيل الجيد والحركة. هاتان الصفتان هما بمثابة الدم والروح لكل عمل جيد). وهنا قلت له:
أيها المعلم! لقد حدثتني عن التمثيل فأصبحت قادراً على تذوق روائع الفن أكثر من ذي قبل، فاسمح لي الآن أن أوجه إليك بعض أسئلة عن الحركة التي أراها لا تقل أهمية عنه. عندما أحدق في تمثالك المسمى (العصر الحديدي) الذي ينهض ويملأ رئتيه هواء ويرفع ذراعيه عالياً، أو في تمثال (يوحنا المعمدان) الذي يخيل إلى الرأي أنه يهم بمغادرة قاعدته التي يقف عليها ويضرب في أنحاء الأرض مبشراً برسالته بكلمات من الهدى، يعروني مزيج من الإعجاب والدهش. ويخيل إلىّ أن هناك سحراً في ذلك الفن الذي يهب مادة الشَّبَه حركة. ولقد درست روائع أخرى لأسلافك العظماء أذكر منها تمثال المارشال (ناي) والمارسليز، وكلاهما من عمل (رود) ثم الرقص من عمل (كاربو) وكذلك حيوانات (باري) الوحشية الكاسرة، ولا يسعني إلا الاعتراف بأني ما وجدت إلى اليوم تفسيراً مقنعاً للتأثير العميق التي تحدثه تلك التماثيل في نفسي. وما زلت أسائلها كيف يمكن أن تؤثر فينا كتل صماء من الحجارة أو الحديد؟ وكيف تبدو بعض التماثيل كأنها تعمل، بل وكأنها في حركة عنيفة بينما هي في الواقع ساكنة لا حراك بها؟)
فأجابني رودان: (أما وقد جعلتني في عداد السحرة فسأحاول جهدي أن احمي سمعتي، وذلك بأن أقوم بواجب هو أصعب بكثير من نفخ الحياة في الشبه أو الحجر، ألا وهو أن أشرح لك كيف يتسنى ذلك
لا حظ أولا أن الحركة هي الانتقال من وضع معين إلى وضع آخر. والحق يقال إن هذا التعريف الذي يكتنفه الصدق هو مفتاح السر. ولا ريب أنك قرأت في أوفيد كيف استحالت (دافني) إلى شجرة الغار،، و (بروني) إلى عصفور السنونو. يرينا هذا الأديب الساخر أن الأولى اتخذت من قشور الأعواد ومن الأوراق غطاء بينما أدثرت الأخرى بالريش حتى لنستطيع أن نرى في كل منهما المرأة التي استحالت والشجرة أو الطير التي سوف تنقلب إليهما. وأظنك تذكر أيضاً أن دانتي يصور لنا في جحيمه حية تلتف حول جسد أحد الملاعين فتنقلب رجلا، وينقلب الرجل بدوره حية تسعى. يصف لنا الشاعر العظيم هذا المنظر بجلاء تام وعبقرية فذة بحيث يستطيع المرء أن يتابع في كل من هذين المخلوقين الصراع الدائم بين طبقتين تصطرعان لتسود إحداهما الأخرى.
وقصارى القول يمكن المصور أو المثال بمثل هذا الضرب من التطور والتبدل يهب
المخلوقات التي يبتكرها الحركة والحياة بأن يمثل التحول من وضع إلى آخر، ويظهر يتصل الأول بالثاني ويمحي فيه بشكل غير محسوس. . . ويجب أن نرى في عمله بعضاً مما وقع أو مما كان، ونستبين طرفاً مما سيكون. ولأضرب مثلا يوضح لك الأمر أكثر من ذلك:
(لقد ذكرت منذ هنيهة تمثال المارشال ناي الذي صنعه رود فهل نستوعبه بوضوح؟) فأجبته:
(نعم) إن البطل يشهر سيفه ويصيح في جنوده بأعلى صوته: إلى الأمام).
(تمام! حسن! عندما تمر بهذا التمثال مرة أخرى تأمله بدقة أوفى فتلاحظ إذ ذاك أن رجلي التمثال واليد اليسرى التي تقبض على عمد الحسام ثبتت على الحالة التي كانت عليها عندما استُل السيف من قرابة. أما الرجل اليسرى فقد انسحب قليلاً إلى الوراء لكي يسهل إمساك السيف باليد اليمنى التي استلته منذ هنيهة. وأما اليد اليسرى فثابتة في الهواء ممسكة بالغمد كأنها ما زالت تقدم الغمد.
ولندرس الجسم الآن؛ كان يجب أن يكون مائلاً قليلاً إلى اليسار في اللحظة التي أتى فيها بالحركة التي وصفت آنفاً. ولكنه هنا منتصب، والصدر بارز إلى الأمام، والرأس يدور نحو الجنود وقد دوى منه الأمر بالهجوم. وأخيراً ترى الذراع اليمنى مرتفعة وقد شرعت الحسام. فها أنت ترى في كل ذلك إثباتاً لما قلته لك آنفا. ً فما الحركة في هذا التمثال إلا تغيير من وضع أولى - هو الذي كان عليه المارشال عندما استل سيفه - إلى وضع ثانوي هو عندما رفع ذراعه وشرع في الاندفاع صوب العدو. . . وفي هذا كل السر في الحركة كما يفسرها الفن. فعلى المثال إذا أن يلزم المشاهد بتتبع تطورات حركة ما في فرد معين. ونرى في المثل الذي استشهدنا به أن العينين تلتزمان التنقل من الأطراف السفلى إلى العليا حتى الذراع المرفوعة، فتريان أثناء ذلك التنقل أجزاء الجسم ممثلة في فترات متتابعة رتتوهمان بأن الحركة تمت).
وقد اتفق وجود صبيبتين لتمثالي (العصر الحديدي)(ويوحنا المعمدان) في البهو الكبير حيث كنا، فسألني رودان أن أنظر إليهما ففعلت، وأدركت صدق قوله للتو واللحظة. لاحظت في التمثال الأول أن الحركة تصاعدية كما في تمثال ناي. فالشباب غير كامل
النهضة، فساقاه متخاذلتان، تميدان من تحته، فإذا ما صعدت عيناك فيه قليلاً وجدت أصلب، والأضالع بارزة من تحت الجلد، والصدر يتمدد وينهد، والوجه يواجه السماء، والذراعين ممدودتين كمن يحاول أن ينضي عنه خموله. أما موضوع هذا التمثال فيلخص في التخلص من حالة الركود والخمود إلى حالة النشاط في الإنسان الذي يتحفز للعمل.
وفضلا عن ذلك فإن تلك الحركة البطيئة التي تدل على الاستيقاظ والنهوض لتظهر أروع مما هي عليه عندما يدرك المرء مغزاها. فهي تمثل - كما يدل على ذلك أسم القطعة - أول خفقة من الإدراك والتمييز في إنسانية لا زالت في مدارجها الأولى وأول انتصار للعقل على وحشية العصور السابقة للتاريخ.
ثم درست بعد ذلك تمثال يوحنا المعمدان على الوتيرة السابقة، فرأيت أن انسجام هذا الجسم أدى إلى تطور من حالة إلى حالة أخرى كما قال رودان. فأولا يتكئ الجسم بكل ثقله على القدم اليسرى التي تضغط على الأرض بكل قوتها. ويبدو كأنه يتذبذب في ذلك الوضع هنيهة بينما تنظر العينان صوب اليمن. وبعد ذلك ترى الجسم كله يتجه في هذا الاتجاه ثم تخطو الرجل اليمنى وترتكز قدمها على الأرض. وفي تلك اللحظة يظهر الكتف الأيسر المرتفع كما لو كان يلقي بثقل الجسم إلى هذا الوضع الجديد كيما يعين القدم اليسرى الخلفية على الخطو إلى الأمام. والآن، لم يخرج علم الفنان عن أنه يضع تلك الحقائق نصب عين الرأي على النحو الذي ذكرته حتى يكون من تعاقبها وتتابعها ما يشعر بالحركة.
وفضلا عن هذا أيضاً فإن لحركة (يوحنا المعمدان) دلالة روحية، كتلك التي لتمثال (العصر الحديدي). فالفني يتحرك حركة آلية كلها جلال ووقار حتى لتتوهم أنك تسمع وقع أقدامه مثلما تتوهم ذلك عندما تشاهد تمثال (القائد) تحس منه كأن قوة خفية كامنة تهيمن عليه وتسيره. وعلى هذا نرى أنه بينما تبدو لنا حركة المشي عادية صرفه نراها هنا جليلة لأنها في سبيل رسالة مقدمة. وهنا سألني رودان فجأة:
- (هل سبق لك أن عاينت بإمعان صوراً فوتوغرافية لأشخاص تمشي؟). ولما أجبته بالإيجاب قال (حسن. ماذا لاحظت عليها).
- (لاحظت أنها ثابتة في أماكنها لا تتقدم. وتبدو على العموم كأنها ترتكز على ساق واحدة، في غير ما حراك، أو أنها تحجل على قدم واحدة).
- تمام! ولأضرب لك الآن مثلاً تمثالي (يوحنا المعمدان)، الذي ترى قدميه مرتكزتين على الأرض. فإذا ما أخذت صورة فوتوغرافية لمثال حي يمشي مشيته فلربما ظهرت قدمه الخلفية مرتفعة تلاحق القدم الأخرى؛ أو على النقيض من ذلك قد لا تكون القدم الأمامية على الأرض إذا ما شغلت الرجل الخلفية في الصورة الفوتوغرافية نفس الوضع الذي تشغله من التمثال.
ولهذا السبب عينه قد يبدو مظهر هذا المثال الفوتوغرافي غريباً كما لو كان رجلاً فاجأه الفالج وتحجر في موضعه، كما وقع في القصة الخرافية البديعة لخدام (الجمال النائم) الذين مُسِخُوا وسمروا في مكانهم على حالهم التي كانوا عليها. وهذا أيضاً يدعم ما شرحته لك من هنيهة بخصوص الحركة في الفن. وفي الواقع أنه إذا ظهرت الأشخاص في الصور الفوتوغرافية كأنها مثبتة في الهواء مع أنها أخذت وهي في حالة الحركة فما ذلك ألا لأن جميع أجزائها صورت في فترة زمنية واحدة هي جزء من عشرين أو أربعين من الثانية فلا يوجد في هذه الحال تدرج في الحركة كما هو الحال في الفن).
فقلت:
- (أني أفهمك تمام الفهم يا أستاذ: ولكن أرجو أن تسمح لي بأن أقرر أنك تناقض نفسك).
- (وكيف ذلك؟).
- (ألم تصرح لي أكثر من مرة بأنه يجب على الفنان أن ينسخ الطبيعة بكل إخلاص؟)
- (لا ريب في ذلك. ولا أزال أتمسك به.)
- (حسن! إذن إنه عندما يفسر الحركة فيناقض بتفسيره الآلة الفوتوغرافية تمام المناقضة - والفوتوغرافية دليل آلي دامغ لا يرقى إليه الشك - فإنه بذلك يغير من الحقائق.)
- (كلا. أن الفنان هو الصادق، والآلة الفوتوغرافية هي الكاذبة؛ لأن الزمن لا يقف كما هو ثابت مقرر. وإذا نجح الفنان في إظهار تعبير حركة تستغرق عدة لحظات حتى تتم فان عمله يكون بلا ريب أقل تكلفا من الطيف العلمي (الفوتوغرافية) حيث أقتضب فيه الوقت اقتضاباً مفاجئاً.
(له بقية)
دكتور محمد بهجت
فرنسا الجريحة
(لمناسبة الحوادث الأخيرة في القطر الشقيقين سوريا ولبنان).
للأستاذ أدوار حنا سعد
فرنسا الجريحة لا تجرحي
…
فإن شقاَءك لم يبرحِ
وإن كان فيك ذَكاءٌ ضعيفٌ
…
فسوسي خرابَك أو أصلحي
عجيب لعمريَ بطشٌ الجريح
…
ببيتِ الموالين والنُصَّح
فنبكي ونضحك من حمقه
…
ونرثى له ساحة المذبح!
جناحك في الغرب ملقىً به
…
ونابك في الشرق. . . في قلبه
فررت إليه من الفاتحين
…
فهل كان غوثك من ذنبه؟
فيا للطريدة قد ضمها
…
كريمٌ فخفَّت إلى حربه
لئن كنتِ أخطأتِ في بُغضنا
…
لقد أخطأ الشرق في حبه
أهذي بواكيرُ عهد السلامْ
…
جيوش تساق وشعب يضامْ
فيا سوءةً للعهودِ العِذابِ
…
ويا ضِلةَ للأماني الضخام
وهل حُمِّلَ العالمُ المستثارُ
…
سنين اللظى والدما والظلام. .
. . . لمستهترين بحق الشعوب
…
ومؤتمرٍ غارق في الكلام؟
وأين التساوي وأين الإخاءْ؟
…
رياءٌ. . . تنصل منه الرياءُ
تراث الجدود فهل صنته
…
وقد خطه دمعهم والدماءْ
ولو تنطق اليوم أشلاؤهم
…
لثارت على مشبهي الأقوياء
هويتِ بمجدٍ ولوثته
…
ومنبعه من كروم السماء
ثرى الحرب
للأستاذ محمد برهام
أراه فأذكر الخط السعيدا
…
وأطرق إذ أرى حظي بليدا
لقد فهم الحياة فجد حتى
…
أقام لنفسه ملكاً وطيدا
إذا عبست له الأقدار (بيضا)
…
فقد ضحكت له الأقدار (سودا)
ثرىَّ الحرب إن الناس حرب
…
عليك لجمعك المال العديدا
وأوليك المديح ولا أبالي
…
إذا ما صرت في مدحي فريدا
وجود ظالم لا خير فيه
…
فما أحراك أن تنسى الوجودا
أليس المرء في دنياه مالا
…
يقاس به هبوطاً أو صعودا
تحدث بالثراء ولو كذابا
…
تجدك غدوت إنساناً مجيدا
وقالوا جاهل قلنا سيغدو
…
على الأيام ابلغنا قصيدا
وقالوا مجده مجد طريف
…
فقلت المجد لم يخلق تليدا
صفات سوف تنساها الليالي
…
وثروته تخلده خلودا
لعمرك كم نمجد أثرياء
…
فنطريهم ونلبسهم عقودا
وكانوا لا تسلني كيف كانوا
…
وخلى المال صيتهم بعيدا
إذا فنشت عن أسباب مجد
…
فلا تنسَ الدراهم والنقودا
لماذا لا أكون ثرىَّ حرب
…
فألبس خاتماً وأزين جيداً
وقل ما شئت في ذمي فعندي
…
سواء أن تذم وأن تشيدا
أينبل شاعر قد وظفوه
…
فلاقى في وظيفته الجحودا
بلا حول، فإن طلب الترقي
…
أقاموا دونه (كَدْراً) جديدا
منيع، تتبع النظرات فيه
…
فتلقى كل أحرفه قيودا
نظل سنين نحسب - كي نعلَّي
…
(جنيهاً) وا تفاهة ما أريدا
علاوات كدود البطن تردى
…
فسموها (الوحيدة) والوحيدا
إلهي طال للعدل انتظاري
…
ولا أمل لدي أرى الفقيدا
فمن ذا يشتري علمي وشعري
…
ويبدلني بهم جهلا مفيدا
هنيئاً يا ثرى الحرب مال
…
ضمنت بجمعه العيش الرغيدا
فعش من نور جهلك في رخاء
…
ودع لي الفقر والخلق الحميدا
أشواق.
. .
للشاعر مصطفى عبد الرحمن
أيها الناعم في ملك الكرى
…
بين أحلام الأماني الباسمات
من على بالك يهفو يا ترى
…
عندما تذكر ما مر وفات
لا رأت عيناك يوماً ما أرى
…
وأقاسي من لهيب الذكرياتْ
حينما يعرضها الماضي لعيني
صوراً تجلو الذي أفلت مني
…
من ليال بهوانا راقصات
حمل الصبح إلى الكون نشيدي
…
رائع اللحن شجي النغمات
كالمنى تخفق كالحلم السعيد
…
كرضانا كابتسام الزهرات
بيد أني لا أبالي بالوجود
…
ذاع لحني فيه أم ضاع ومات
إن يكن قلبك لا يسمع لحني
فلمن يا فتنة الروح أغني
…
للهوى لحن الليالي الخالدات
آه لو تسمعني أشكو الجوى
…
يا حبيبي. . . آه لو تسمعني
وترى القلب ونيران الهوى
…
ولظاها بات يرعى بدني
لترفقت وحطمت النوى
…
وانطوى سهدي وولى حَزَني
أين أحلام شبابي، أين مني
أمسيات من فتون وتمنى
…
وعيون الدهر عنا غافلات
يا حبيبي أيقظ الماضي شجوني
…
حينما طافت رؤاه في خيالي
وتلفت بعيني ليقيني
…
فإذا الحاضر كالليل حيالي
وإذا بي قد خلت منك يميني
…
وانطوى ما كان من صفو الليالي
طال بي شوقي لأيام التغني
وليال هن بعض غاب عني
…
هاتها يا حبيب الروح هات
البريد الأدبي
تقدير قيم لكتاب قيم
أرسل إلينا الأستاذ نزار الحلي كتاباً يقول فيه: (أهدى السيد محمد حسن آل ضياء الدين سادن الروضة العباسية بكربلاء هدية نفسية إلى الأستاذ عباس محمود العقاد تتألف من مصحف أثري، وسجادة فاخرة، وقطعة من الذهب المقطب تمثل ضريح الحسين عليه السلام، وذلك بمناسبة تأليفه كتابه (أبو الشهداء) واعترافاً بإجادته في هذا الموضوع. وتقدير هذه الهدية بألف جنيه علاوة على قيمتها الأثرية.
ولقد أرسل الأستاذ المهدي إليه رسالة رقيقة إلى السيد المهدِي نرسل إليكم صورتها لتنشروها غفي مجلتكم الغراء، وهذا نصها بعد الديباجة:
(تحيات الإجلال إلى مقام السيد الكريم، وقد تلقيت هديته الفاخرة فتلقيت كنزاً ثميناً بكل معنى من معانيها، وكل إشارة من إشاراتها، وهي كثيرة المعاني والإشارات
وحسبي منها أنها عنوان الرضوان من أمثالكم ذوي الفضل والعلم، ورضوانهم مفخرة لكل من يحمل القلم في خدمة الحق والمعرفة، وأنها قداسة تقترن بوحي الله وتزدان باسمه جل وعلا وأسماء نبيه الكريم وصفوة آله الأبرار وأنها مع هذا وذاك آية رائعة من آيات الصنع المونق المعجب والفن المحكم الجميل، ولست أوفيها الشكر عن بعض هذه المعاني فكيف الشكر عليهن مجتمعات؟
غاية رجائي أنني استحققتها من كرمكم بكتابي عن (أبي الشهداء) فعسى أن أوفيها شكرها بالمضي في هذا النهج القويم والمثابرة على خدمة الفضيلة والإيمان. ولعلي أسعد بفرصة يشكركم فيها اللسان مع هذا الشكر القاصر من اليراع.
ولكم مني أسنى التحية والسلام والإجلال)
المخلص
عباس محمود العقاد
من مستشار أريب إلى مؤلف أديب
عزيزي الأستاذ الكبير كامل كيلاني بك
إني - منذ تفضلت فأهديت إليّ تحفتك الأخيرتين - أتفيأ ظلال حديقة أبي العلاء، أنعم بوارف هذا الظل وأمتع ناظري بجمال تنسيقها ووشى أزهارها وأجتني ثمارها وأتذوق عذب نميرها، وأهنأ برسالة الهناء وما حوت من طريف اللغة ودقيق المعاني وما كشفت من نواحي الحياة الوضاءة حيناً والمظلمة أحياناً، وأعجب من هذه القدرة التي حباك الله بها فيسرت العسير، وذللت الصعب الممتنع، وسقت لنا فلسفة أبي العلاء وأدب أبي العلاء وخيال أبي العلاء الشعري الرائع في أسلوب جزل حلو جذاب وثاب ينفذ إلى القلوب فيهز مشاعر النفس وجوانب الحس. وقد عقدت الموازنة الطريفة بين حديقة أبي العلاء كما نسقها بنانك ورواها بيانك، وبين غابة أبي العلاء بوحشيتها المحببة وروعتها الموطأة.
فلك منى الشكر على كريم هديتك، والتهنئة على عظيم توفيقك. ولا عجب فماضيك في الأدب يحمل أكبر الدلالة على حاضر موفق ومستقبل أكثر توفيقاً بإذن الله. فالله يكافئك على ما قدمته للعربية من روائع أدب تضيف إلى كنوزها كنوزاً وتحمل رسالة السلف إلى الخلف في يسر وجمال وإغراء.
والله يجزيك جزاء العاملين الصالحين.
المخلص
محمد العشماوي
المستشار الملكي
إدارة للأدب في فرنسا
أنشئت في العهد الأخير في وزارة المعارف العمومية الفرنسية إدارة للأدب عهد بالإشراف على كل ما يختص بالدفاع عن الأدب الفرنسي والكتاب الفرنسي الماضين والحاضرين والذين يظهرون في المستقبل وإبرازهما.
وستقدم هذه الإدارة المساعدات المالية لطبع المؤلفات العلمية التي يضعها كبار الكتاب العصريين، أو تقديم أداة العمل كالمعجم. وستعني أيضاً بإصدار الكتب الفرنسية إلى الخارج. وقد شرعت في وضع مرشد فرنسا الأدبي ليستعين به الأجانب.
وستحقق هذه الإدارة أمنية جورج دوهاميل بإنشاء (صندوق وطني للأدب) بحيث يمكن
توزيع المساعدات اللازمة للعمل فتذهب عن كل من يمنحونها المشاغل المادية مدة عام أو عامين. وستكون هذه المساعدات شبيهة بجائزة روما للرسامين والموسيقيين والحفارين، ويمكن أن تمنح للشبان من الشعراء والروائيين والفلاسفة والمؤرخين وغيرهم.
وستتولى إدارة الأدب صيانة عقيدة الكتاب، وحماية منازل الكتاب المتوفين من الإهمال أو التدمير.
وستعني بتنفيذ بعض المشروعات مثل متحف الأدب الذي يمثل منظراً واسع النطاق لنشاط الإنسيان، أو لحركة عهد من العهود، أو تطوير حركة من حركات الأدب، فيمثل للجمهور مثلاً أدب النهضة أو أدب بارناس أو الأدب الروائي أو أدب بلزاك أو فيكتور هوجو.
وبالأجمال ستكون مهمة هذه الإدارة اختيار ما أخرجه الأدب الفرنسي مهما يكن مصدره واتجاهه وصيانته من العبث.
هيكل باشا مع المؤرخين
قرأت ما كنت في (الرسالة) حول أسم كتاب الدكتور هيكل باشا (الفاروق عمر) فأرسلت بهذه الكلمة استداركاً على ذلك!
قال المؤرخ الصفدي في (الوافي بالوَفَيات): قد عرفت العلم والكنية واللقب، فسردها يكون على الترتيب: يقدم اللقب على الكنية، والكنية على العلم، ثم بالنسبة إلى البلد، ثم إلى الأصل، ثم إلى المذهب في الفروع، ثم إلى المذهب في الاعتقاد، ثم إلى العلم والصناعة. والخلافة والسلطنة والوزارة والقضاء والإمرة والمشيخة والحج والحرفة كلها تقدم على الجميع، فيقال في الخليفة: أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو العباس أحمد السامري البغدادي الهاشمي القرشي العباسي الشافعي الأشعري. ويقال في أشياخ العلامة أو الحافظ أو المسند - فيمن عمر واكثر الرواية - أو الإمام أو الشيخ أو الفقيه، ويورد الباقي إلى أن يختم الجميع بالأصولي، والمنطقي أو النحوي. انتهى. هذا مصطلح المؤرخين. وهيكل باشا منهم.
دمشق
أحمد بسام القدسي
تصحيح آية
جاء في مقال الأستاذ السبكي أثناء نقده لكتاب التصوير الفني في القرآن أن الله سبحانه وتعالى قال في وصف سيدنا يوسف إنه كان من عبادنا المخلصين. ومع أن الأستاذ الناقد أخذ على المؤلف إهمال تحرير الآيات فإنه وقع في نفس المؤاخذة بأن زاد كلمة (كان) على كلام الله تعالى. فنرجو تصحيح ذلك.
عبد السلام النجار
الكتب
التعليم في رأي القابسي
للأستاذ محمد يوسف موسى
رسالة دكتوراه للأستاذ أحمد فؤاد الأهواني، نشر مكتبة
الخانجي بالقاهرة، 326 صفحة القطع الكبير.
ظن كثير من الناس أن نشر رسالة في التربية لعالم من علماء الإسلام لا يقتضي من المجهود ما يستحق به صاحبه درجة دكتور في الآداب، حتى نشر الأستاذ الأهواني هذه الرسالة وقرأها هؤلاء الذين كان رأيهم هذا الرأي، فتبين لهم أنهم كانوا على أنفسهم مسرفين
ومن الحق أن قارئ هذه الرسالة القيمة يتبين له بوضوح مقدار ما عانى صاحبها الفاضل وما بذل من جهد، وما كان له من آراء خاضعة ونقد قوى لما يستحق النقد من آراء القابسي وغيره من المستشرقين وبعض الكتاب المعاصرين.
جعل الأستاذ رسالته من قسمين: التعليم في رأي القابسي وهو من علماء القرن الرابع، ونص رسالته القابسي التي بين فيها أحوال المعلمين والمتعلمين.
بدأ أولا بعرض حياة القابسي وبيان منهجه في رسالته، وأن هذا المنهج كان منهج رجال الحديث الذين يعتدون بالآثار ويكرهون الابتداع، كما كان واقعياً فيما عرض من آراء في التعليم والتربية، إلا أن هذا لم يمنعه من أن يكون مؤرخاً أيضاً؛ فيعني فيما يبحث من مسائل - إذا اقتضى الأمر - بردّها إلى أصولها التاريخية وتتبع تطورها إلى أن تبلغ زمانه (49).
ولم يفت الأستاذ أن يلحظ أن القابسي وإن كان واقعياً في آرائه يعني بتقرير الواقع ووصفه، إلا أنه كان مثاليا فيما رأى من وجوب أن يكون تعليم الصبيان جميعاً إلزامياً (50، 83)، وبهذا سبق بقرون عديدة ما رأته الأمم من هذه الأيام.
ثم عرض بعد هذا إلى الكلام عن الكتاتيب في الإسلام، وإلى البواعث التي جعلت أصحاب الحديث هم المشرفين على التعليم، وإلى الغرض من التعليم في رأى القابسي ومناقشته.
وهنا نراه يقوم لذلك بعرض تاريخي عن التعليم في فارس والشام ومصر قبل الإسلام أخذ منه الفصل الرابع كله والفصل الخامس أيضاً.
ويطول بنا الحديث إذا أردنا تحليل الرسالة وبيان ما وعت من مسائل عديدة عولجت بمقدرة وشجاعة وعمق جدير بالإعجاب، ولكنه يجب علينا مع هذا أن نشير إلى أن الأستاذ الفاضل كان موفقاً وقوياً في نقده للقابسي في منهجه وفي بعض آرائه التي قررها وفي نقده لبعض الذين كتبوا في التربية عند المسلمين من المستشرقين وغيرهم من المسلمين المعاصرين، لقد كان موفقاً في ذلك كله إلى أبعد حدود التوفيق.
1 -
نقد القابسي في منهجه الذي يقوم على تلمس الآثار وآراء السابقين، بأن هذا لا يصلح في التربية لما يدعو إليه من جمود وحجر على الرأي، وبخاصة والأمر أمر يتصل أوثق اتصال بشئون الدنيا (ص33).
2 -
نقده أيضاً في أنه أهمل في الآراء التي أنهى إليها نفسية الطفل ورعاية مراحل نموه، كما أهمل العلوم الطبيعية والرياضة البدنية فلم يجعلها من العلوم الواجب أن يؤخذ بها الناشئة، على أن الأستاذ كان منصفاً حين لا حظ أن هذه الآراء كانت أثر البيئة الاجتماعية في عصر القابسي، وأن العيب الأول كان عيب العصر كله في الشرق والغرب (ص 175).
3 -
وكذلك نقد بعض المستشرقين ومن أخذ أخذهم؛ إذا لم يفرقوا فيما ذهبوا إليه من أغراض التربية عند المسلمين وآرائهم فيها بين المؤلفين والواقعين كالقابسي والمثاليين كابن عبد البر والغزالي وإخوان الصفاء، ومن ثم كان خطأ أولئك الكاتبين - ومنهم الدكتور خليل طوطح في كتاب التربية عند العرب - في اعتبارهم آراء المؤلفين آراء المسلمين جميعاً. ص 201 وما بعدها.
4 -
والأستاذ (كارادي فو) المستشرق الفرنسي المعروف ناله شواظ من نقد الأستاذ الأهواني. بحق؛ فقد زعم في كتابه (مذهب الإسلام) إن الشرق الإسلامي ليس فيه الذوق الفطري للتعليم، وأن الإسلام لم يهتم بأمر الطفل. . . فأكد لنا الأستاذ الأهواني أن هذا المستشرق لو عرف رسالة القابسي لغير هذا الرأي الخاطئ، فكيف بها وبغيرها من المؤلفات التي عنيت بالتربية والتعليم! (ص 225 - 226). هذه الرسالة التي - كما جاء
ي آخر القسم الأول من البحث - وضع بها القابسي مؤلفها أسس التربية بحيث تلائم المجتمع وحاجة العصر، والتي فكر في التعليم الإلزامي وتعليم البنات.
وبعد فقد كنا نود الوقوف عند هذا، ولكن نرجو أن يسمح لنا الدكتور الفاضل بأن نشير إلى أمرين:
(أ) استعمل في مواضع (أهل السنة) للدلالة على (أصحاب الحديث)(ص 75، 78، 232، 233). والمعروف أن أهل السنة في المقام الذي جاء ذكرهم فيه، هم الأشاعرة والماترتدية الذين يقابلون المعتزلة، لا أصحاب الحديث، كما يتبين من ابن خلدون وطاش كبرى زاده وغيرهما من الذين عرضوا للكلام والمتكلمين
(ب) ذكر الأستاذ الفاضل (ص 77) رأى الغزالي عن المعتزلة من أنهم رأوا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بأدلتهم فهو كافر. . . ومع أن هذا، كما ذكر الأستاذ، ورد في فيصل التفرقة للغزالي، إلا أنه كان الواجب في رأيي أن يأتي الأستاذ بنص في ذلك من كتب المعتزلة أنفسهم، لا من خصم لهم، ولكنا نعرف قول الخصوم بعضهم على بعض. وبخاصة والمعروف المشهور أن هذا التضييق على الناس في وجوب معرفة الله من أدلة خاصة لها مقدمات خاصة هو رأي القاضي أبي بكر الباقلاني الذي ذهب إلى أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول؛ حتى جاء إمام الحرمين الجُوَيْني وأعرض عن هذا الرأي، وقرر أن بطلان الدليل لا يؤدي إلا بطلال المدلول بحال.
هذا، وليس هذا المأخذ أو ذاك مما يغض من قيمة هذه الرسالة القيمة التي عالج فيها صاحبها العالم الجليل مسائل التربية والتعليم - على تنوعها وتعددها - في القديم والحديث بمقدرة يستحق التهنئة عليها وأسلوب واضح مبين ومنهاج مستقيم لا عوج فيه. وهذا كله وأكثر منه ننتظره من الدكتور الأهواني الذي تخصص في هذا الموضوع زمنا طويلاً.
محمد يوسف موسى
مرايا الناس
للأستاذ حبيب الزحلاوي
السيدة وداد سكاكيني، أديبة سورية، وكاتبة من الطراز الأول بين جميع بنات جنسها، وأقدر من عرفت من كاتبات العربية على الجمع بين حسن الديباجة، وطلاوة الأسلوب، وسلامة البيان، واختيار الألفاظ، وبراعة السبك ودقة التصوير خصوصاً في الأمور الواقعية.
ما قرأت لهذه السيدة بحثاً من البحوث إلا أحسست بالجهد الذي أنفقته والعناية التي بذلتها في صقل جملها لتكون على أجمل وأكمل ما يتراءى لها، وعلى أحسن ما يمكن أن يكون وقعها في نفس قارئها، وهذه صفات قلما وجدنا لها نظيراً بعد المرحومة الآنسة (ميْ) بين كاتبات العربية في هذا العصر. بل هي ميزة تمتاز بها على قريناتها خصوصاً في معرفة مداخل الموضوعات والخلوص منها.
جمعت هذه السيدة الفاضلة ما كتبت في مستهل حياتها من قصص في كتاب أسمته (مرايا الناس)؛ وأول ما يبدو لخاطر قارئ هذه المجموعة أن مؤلفتها كانت حبيسة دار الزوجية لا تسمع فيها - إن سمعت - سوى أحاديث الكتاب والأدب، والكتَّاب والأدباء، ولا تخرج من دارها إلا لتذهب إلى المدرسة تعلم بعد أن تعلمت وأخذت منها كل ما يمكن أن تعطيه لفتاة مجتهدة مثلها، وإذا جنحت عن المدرسة أو البيت - وقل ما نلاحظه في هذه المجموعة أنها جنحت عنهما - فتكون لزيارة صديقه قريبه أو زميلة. وقد ألمس الحقيقة إذا قلت إن حوادثها الخاصة وصورها الذاتية المرسومة في كتاب (مرايا الناس) مستمدة من محيط ضيق كل الضيق لم يتخط بيت طفولتها، ودور المدارس، ومنزل الزوجية. والمؤلفة برغم هذه العقاب وأسميها عقبات كأداء لسيدة متوثبة الذهن، متحفزة لاقتحام ميدان الحياة واجتلاء أسرارها، ألفت هذه المجموعة من القصص فجاءت ضيقة الحدود، متعرجة الخطوط، ناصلة الألوان، غير واضحة المعالم، وقد بدا شأنها فيها كشأن مقتحم الصحراء وهو غير مزود حتى بالبوصلة. وأزعم أن مجموعة قصصها الجديدة، وقد كتبت ما كتبت منها تحت سماء مصر، هذا القطر السعيد، الجياشة صدور أدبائه بالطموح إلى الخروج عن الطوق، وإثبات الشخصية، والساذرة أقلام نقاده في جنان من المديح والثناء المأجور، أقول إنها
ستعني كثيراً بعرض موضوعها القصصي ومعالجته وتحليل شخصيات القصة، وتسلسل الحوادث، وبالعقدة والخاتمة، وبالمحافظة على عنصري الصدق والتشويق، وإلى خصائص مقررة لا محيد ألبته عن التزامها في بناء القصة. أما مجموعتها هذه فهي غنية بالصور الوصفية، وقد تكون قصة (شقيقة نفسي) من أغناها، لأن بناءها قائم على رسم تطور حياة فتاة، هي حياة المؤلفة الخاصة قالت:
(وقد مرت الأيام على (وئام) فألقت بها في لجة الحياة، وكأنها كانت تقول لها: حاولي النجاة. . . فلاحت لها الدنيا بوجهيها، ورأت فيها الحمامة الوديعة الرقطاء. ثم فتحت كتاب الناس فراعها أن لم تجد فيه صفحة مما تعلمته في المدرسة، وندمت على شباب نسجته بالمثل العليا، فأخذت تتمرس بآفات المجتمع غير منطوية على يأس، ولا متقنعة بمصانعة)
ثم تقول (وأسدل الستار على فصل من رواية عمرها، فإذا هي في فصل جديد، وإذا بها ككل أنثى تنضو عنها فتوة جاهدة، وتروز تبعات جديدة، فتشيع قافلة من السنين تجاوز العشرين، وينبثق حجاب الزمان عن سر الغد القريب، فإذا بها تجتلي في طلعة دنياها التي خلقت من أجلها كل أنثى).
أحيي السيدة وداد تحية الولاء والصداقة؛ وأرجو أن تحملني مجموعة قصصها التالية على الوقوف عند كل قصة وقفة النهم من موائد مترعة الكؤوس بخمرة الحياة.
شخصيات ومذاهب فلسفية
من مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
من طبيعة الأدب شعره ونثره أنه سهل الدخول إلى النفس في يسرولين لا عنف ولا مشقة. وأن النفس تقبل عليه بدافع منها، راضية عنه مقبلة عليه مستأنسة إليه.
أما الفلسفة فلا يقبل عليها من الناس إلا من رزُق الصبر عليها والأنس بها. وقلما كانت الفلسفة أنيسة إلى النفوس لأنها كالسباع من الحيوان لا يقدم عليها إلا من رزق القدرة على ترويضها وتأليفها.
والفلاسفة والمشتغلون بالفلسفة مسئولون عن هذا النفور الذي يعانيه الجمهور من القراء. ولا أدري ماذا كانت حجتهم في الأبهام وعذرهم في التعمية. وهل فعلوا ذلك عن قصد حتى تبقى للفلسفة رهبة الغموض وهيبة الخفاء؛ وحتى يكون لهم مفتاح الأسرار والاستئثار بالأستار، أم جاءهم ذلك الغموض من طبيعة الفلسفة نفسها لأنها تبحث وراء (المجهول)(وما بعد الطبيعة) وما إليهما مما أبديء الكلام فيه وأعيد ولا يزال المجهول مجهولا؟
والحق أن كثيراً من موضوعات الفلسفة - وخاصة عند المسلمين لا يفيد القارئ أكثر مما يتعب ذهنه ويحير عقله - كالكلام في النفس ووحدتها وبقائها؛ وكالكلام في الكون وهل هو حادث أم قديم، وكالكلام في معرفة الله للجزئيات أو الكليات، وكالكلام في البعث وهل هو لأجسام الدنيا بأعيانها أم بأمثالها.
وقد ظل الفلاسفة يبحثون في هذا وأشباهه فما أراحونا ولا أراحوا أنفسهم، ولا أزاحوا الستار عما تتحرق نفوسنا إلى معرفته وتتطلع إلى كشفه. حتى لقد مات الرازي وهو لا يدري إلى أين. . . وعبر عن ذلك بقوله في بيتين يعبران عن سؤال كل نفس من عهد آدم إلى أن يشاء الله، وهما:
لعمري ما ادري وقد آذن البلى
…
بعاجل ترحال إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجها
…
من الهيكل المنحل والجسد البالي
ولقد أراح - والله - خطيب أياد وحكيمها (ابن ساعدة) نفسه حينما قال قبل الإسلام:
لما رأيت مواردا
…
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
…
يَمْض الأصاغر والأكابر
أيقنت أني لا محا
…
لة حيث صار القوم صائر. . .
ولقد ألهم الله الجمعية الفلسفية المصرية صوابا في القول حين قالت في تصدير أول كتاب من كتبها (وإذا أراد الله بالفلسفة خيراً ألهم أهلها أن يسلكوا سبيلاً أخرى، فيعنوا بالشئون الإنسانية، وبالأمور التي يتجه إليها التفكير في كل زمان ومكان، ويعالجوا بحوثهم في أسلوب سائغ جذاب يفتح باب الفلسفة على مصراعيه لجمهور المثقفين).
أما العناية بالشئون الإنسانية فنجد أن الدكتور علي عبد الواحد وافي قد هدف إليها في رسالته الجليلة (الأسرة والمجتمع) التي تعد بحق تحفة في المكتبة العربية. ونجد أن أساتذة آخرين سيكتبون في سلسلة هذه الجمعية عن الحياة الأخلاقية، والتشريع والإصلاح الاجتماعي. وأمثال هذه الموضوعات التي تتناول الواقع والحياة، ولا تطير وراء الغيبيات والمجهولات. . .
ولكن الدكتور عثمان أمين - وهون شريك الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه تصدير هذه السلسة - ترك العناية بالشئون الإنسانية من أخلاق وسياسة واجتماع وراح إلى الفلسفة يلتمس عندها سدَّ النقص في القوة الإصلاحية والروحية. لأنه يرى أن (كل إصلاح تم في الماضي أو سيتم في المستقبل إنما هو أثر من آثار الفلاسفة وأحرار المفكرين).
وما كان الأنبياء يا صديقي فلاسفة ولا أحرار تفكير ولكنك لا تنكر الإصلاح الذي تم على أيديهم:
على أن اكتفاءك بالكلام في الشخصيات الفلسفية وترك التأليف في الشئون الإنسانية - كما صنع الدكتور علي عبد الواحد - يُعدُّ ركونا إلى أهون الحملين وأخف العبأين. . .
إلا أنني لا أكتمك أنني وجدت في كتابك لوناً من المتعة واللذة عرفتُه من قبل في كتابك عن (محمد عبده). ووجدت في أسلوبك الواضح السائغ أخذا بما عاهدت أنت ورئيس الجمعية في تصديركما لأول كتاب.
وما أنا بقائل هنا لك جديداً؛ فقد كنت أقرأك في مجلة (المقتطف) من سنوات فأجذ فيك من الوضوح ما صارحتك به من حين إلى حين. وهأنذا اليوم أقرأك فأجدك سائغ الأسلوب في سقراط، وفي الثلاثة الفلاسفة المسلمين الذين شئت أن تكتب عنهم، وفي ديكارت وهيوم من
الغربيين.
ولا أدري يا أخي السر في اختيارك هؤلاء الثلاثة من المسلمين بأعيانهم مع كثرة ما كتب عنهم ونشر فيهم. فهلاَّ كتبت عن أبن زهر والرازي وابن بطلان أو غيرهم مما لا يعرف الناس عنهم إلا قليلا. ولم تختار طريقاً معبَّداً وأنا ما عرفتك إلا مجتاز الصخور والوعور؟؟
وهل بين الذين كتبت عنهم غرض يؤلف بينهم، أو غرض أتفق لك في الكتابة عنهم؛ أم هي أشتات من الشخصيات لا يؤلف بينها غرض ولا يجمع بينها إلا كلمة الفلسفة؟؟
ولا يزال (ميزانك) يا أخي في تقديم الكتاب وحفظ النَّسب بين فصوله فيه كثير من السخاء في موضع، والشح في موضع. فإن الفصل الذي كتبتَه عن آثار الفلسفة الإسلامية في الفلسفية المسيحية واليهودية لا يشفي غليلاً. فقد أوجزتَ فيه إلى حد لا تغفره لك عربيتك وإسلامك، ولا يغفره لك الإنصاف العلمي التاريخي، على الرغم من إعلانات أنك لا تنتحل الأسباب للإشارة بفضل المسلمين على غير حق. فقد كتبته في صفحتين ونصف صفحة على حين خصصتَ (ديكارت) بأربعين صفحة من الكتاب.
وما كنتَ يا أخي منصفاً للعرب حين قلتَ في هذا الفصل (ولعل أسبينوزا عرف شيئاً من نظريات العرب عن طريق موسى ابن ميمون). وإيراد الخبر على هذا الأسلوب يورده موارد الشك على حين أن يورده مورد اليقين في كتابه:
ولقد ذكرت يا أخي أن (هيوم) نشر كتابه (رسالة في الطبيعة البشرية) سنة 1740. وليس الحق كله معك في هذا. . . فإن (الطبيعة البشرية) ظهرت في يناير سنة 1739. في مجلدين؛ أما الذي نشر سنة 1740 فهو المجلد الثالث وموضوعه مبادئ الأخلاق.
وذكرت أن (هيوم) بعد رحلته في فرنسا عاد إلى أدنبره فقضي فيها آخر سني حياته. وهنا طفرة في التاريخ لا أظنها خفيت على علمك. فقد عاد من فرنسا إلى أدنبره - كما تقول - ولكنه تركها إلى لندن موظفاً كبيراً في وزارة الخارجية فقضي فيها سنتين ثم أستقر آخر الأمر في أدنبره سنة 1769
أما السياسة عند ابن سينا وكتابه فيها فلم تتعرض لها ولا له!! وأنا أعرفك يا أخي بعيداً عن السياسة المصرية بطبيعة وظيفتك وطبيعة نفسك التي ترسل الابتسامة المرة لما تقع
علية من أمورنا. . . ولكن سياسة ابن سينا يا أخي تستحق الإعجاب ولا تستحق مرير الابتسامات. وقد كتب عنها الأب بولس مسعد فصلا لطيفاً في كتابه الصغير عن (ابن سينا الفيلسوف)
وبالرغم مما ذكرته لك فأن كتابك قد ترك في نفسي الأثر الطيب الذي تتركه عندي آثارك. وقد نزل مني مكتبتي المنزلة التي أنت أعرف الناس بها. فأهنئك على كتابك وأهنئك على جهدك في الجمعية الفلسفية التي وقعت أعمالها من نفوسنا مواقع الماء من ذي الغلة الصادي.