الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 623
- بتاريخ: 11 - 06 - 1945
قصة النمل الأبيض.
. .
قالت نملة حمقاء لجماعة من النمل الأبيض أنقذها الفرار من أخفاف الفيلة: لم لا نعمل كما عمل (تيتو) وقد صنع الحلفاء بنا ما صنعوه به، فجعلوا على جوانبنا أجنحة، ووضعوا في أفواهنا أسلحة؟
قالت لها الجماعة: وماذا تريدين أن نعمل يا ذات الأجنحة الأمريكية والأسلحة الإنجليزية؟
قالت: نهجم على هذه الجماعة البشرية وهي في نشوة من وعود النصر، وغفوة من عهود السلام، فنخرجها من دار أمية، أو ندفنها في أنقاضها وهي حية؟
وكان في الجماعة نملة متصوفة من أتباع (مسنيون) يكفر بخطب الحجاج، وتؤمن بطواسين الحلاج، فنهضت تقول وفي عينها رقراق من الدمع: ولم هذا البغي يا أختاه! أنسيت والعهد قريب، بطشة الجبارين بأرضنا العزيزة وأهلها يومئذ يتقلبون في النعمة ويتبسطون على الأنس؟ أنسيت والهول لا يزال يعصف بالقلوب، تلك الجبال التي كانت تسير فتنفجر منها الحمم، والقلاع التي كانت تطير فتنهمر منها الصواعق، ونحن نلوذ بأجواف الأرضين فلا يمنعنا ذلك دون أن نسحق أو نحرق؟ ولولا أن جاءنا النصر بطريق القرض، لبقينا كاليهود مشردين في الأرض؟ فهل يزكو بمن قاسى معرة الظلم أن يظلم، وبمن كابد مذلة الحرمان أن يحرم؟ ثم أسمعك تذكرين الأجنحة المستعارة، كأنك لا تذكرين الحكمة التي تقول: لا يزال النمل بخير ما لم تنبت له أجنحة؛ فإذا نبتت أجنحته وأخذ يطير، صادته العصافير. وهل في أمة النمل أحد ينسى قول أبي العتاهية شاعر الأنس:
وإذا استوت للنمل أجنحة
…
حتى يطير فقد دنا عطبهْ
فما كان جواب النملة الحمقاء إلا أن قالت في ضحكة ساخرة ولهجة ماكرة: إنك لا تزالين يا صديقتي متأخرة، ومن العجيب أنك تنسبين إلى أمة متحضرة ودولة مستعمرة! على أننا لا نجادلك بوصايا سان فرنسسكو، ولا بنصائح وشنطون ولندرة وموسكو إنما، نجادلك ببرهان العمل وسلطان الواقع. وما هي إلا دمدمة كعزيف الجن حتى غامت السماء بالنمل، وسالت الأرض بالحشرات، وأخذت هذه الطير الأبابيل، ترمي الناس بحجارة من سجيل. ولم يغن عن العزل الأبرياء دعس النعال، في دفع هذه النمال؛ فاستحر القتل، وأثخنت الجراح، وانتشر النهب، وفشا الخراب، وكاد النصر المؤقت يتم لهذه الحشرة الباغية لولا أن صاح من الجانب الغربي صائح يقول وفي يده بوقه وعلى رأسه بنوده: (يا أيها النمل
ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده)! فلم تبق نملة سمعت هذا الصوت من ذلك البوق، إلا دخلت مذعورة في شق من الشقوق! وهيهات ألا يبعث الله من في القبور؛ إلا يوم ينفخ إسرافيل في الصور!
وحينئذ قالت النملة المتصوفة الحكيمة وهي تنفض رأسها استهزاء بالضعيف المغتر والذليل المعتز: أليس من خيبة الحكمة ألا ينفض مشكل، إلا بجن سليمان أو أسطول تشرشل؟!
ابن عبد الملك
عصرنا العجيب
للأستاذ عباس محمود العقاد
أعجب العصور في تاريخ الإنسان كله هو عصرنا الذي نحن فيه، ولا سيما هذا النصف الأول من القرن العشرين.
لك أن تلغي التاريخ كله مكتفياً بهذه السنين الأربعين أو الخمسين، لأنك واجد على اليقين مائة عبرة مكان كل عبرة تلغيها من تلك التواريخ الغابرة، ولأنك على يقين وأجدها أضعافاً مضاعفة، في القوة والكثرة والدلالة والوضوح.
لقد كانت السنون ينقضي في تواريخ الماضين عشراً بعد عشر، ومائة بعد مائة، بل ألفاً بعد ألف في بعض الأحايين، قبل أن يظهر للعالم رجل خطير يضطلع بأعباء حادث خطير، أو قبل أن تقام دولة وتسقط دولة، وقبل أن تنجلي للأبصار والبصائر بواعث القيام ودواعي السقوط.
أما اليوم فقيام الدول وسقوطها من أنباء الصباح والمساء، واختلاف العبر وتقلبات المقادير من ذكريات العمر الواحد الذي لم يتجاوز الثلاثين، ومسرح القدر كريم بالمآسي والملهيات يعرضها خمساً خمساً أو عشراً عشراً في وقت واحد، فلا يفوتك فصل هنا إلا عوضته بفصول هناك، ولا تذكر خيال يوربيبد وأرستفان وسفوكليس واسكايلاس وشسكبير إلا تلقيت حولك من نسج الواقع روايات مشهودة تفوق كل خيال.
موسوليني من بيت الحداد، إلى أزقة جنيف، إلى مظاهرات ميلان، إلى دست الحكم في روما القياصرة، إلى الصولة على العالم كله وهو في شرفات قصر البندقية يقعقع بالسلاح فيرتجف الأقوياء والضعفاء، ويحمدون الله على السلامة إذا انقضى ذلك الدعاء بغير النيران والدماء.
وموسوليني أيضاً من محب السلام يلقى بنفسه أمام القطار ليعوق حركة الجنود التي تغزو طرابلس، إلى مسعر للحرب لا يقوم ولا يقعد في حكمه إلا بثمانية ملايين من الحراب! وألوف الألوف من صرعى البلاد والخراب!
ثم موسوليني هو هو بعينه هارباً يتسلل على أبواب التخوم لا يزال يطمع في الحياة بما بقي له من سبائك الذهب وسلوى الغرام، ثم يفوته هذا المطمع الذليل فإذا هو معلق من
قدميه لأنظار السابلة الشامتين، لا تسلم جثته بعد الموت من رصاصة انتقام وبصفة ازدراء
وهتلر سيد الألمان وصاحب الأمر المطاع في القارة التي تطلب الطاعة من جميع القارات. . .
من طفل مدلل، إلى جندي مخذول، إلى شريد على أبواب الصدقة في العاصمة النمسوية، إلى حلس قهوات في ميونخ عاصمة البافاريين، إلى وارث العرش العريق في برلين، وسيد الأمة المختارة كما قال بين أمم العالمين. كلمة فإذا العالم يتساءل ماذا يريد؟ وهمسة فإذا هي أجهر في الآذان من البروق والرعود، وحركة فإذا الأكف على الصدور، وغضبة فإذا المغرب والمشرق يتحدثان بالشرور وعظائم الأمور.
عاش ليفتح الأرض بما رحبت، ومات لتضن عليه الأرض بقبر من ألوف القبور.
وفي روسيا، أين دولة القياصرة ومن كان منهم يدعى بالأب الصغير إذا دعي الله بالأب الكبير؟
وفي القسطنطينية أين دولة الخواقين ومن كان منهم يدعى بظل الله وخليفة رسول الله؟
وفي أمة الفرس أين عرش الأكاسرة؟ وفي أمم الصين أين عرش أبناء السماء؟
لا تسل عن هؤلاء وسل عن لينين وكمال ورضا وشيان، وكلهم بين طالب منفي وجندي ناشئ وثائر مغضوب عليه.
ودع السياسة والحرب وانظر إلى النسك والزهادة تر في الهند ناسكاً حاسر الرأس حافي القدم ينازل الدولة التي صمدت للنزال، في ميادين السياسة وميادين القتال.
ودع النسك والزهادة وانظر إلى عواطف القلوب وخلجات النفوس تر العاهل العظيم الذي يتخلى عن ملكه ولا يتخلى عن زوجه وشريكة فؤاده وروحه.
ودع كل هذا وانظر إلى الصناعة والاختراع تر الإبداع الذي ينسيك كل إبداع: هاتف في أقصى المغرب تسمعه في لمحة عين وأنت على عشرات الألوف من الأميال، وطيارة تسابق الشمس فتذرع الشرق والغرب فيما بين ليلة ونهار.
ما من شيء في مصارع الدول ومقادير الشعوب، وما من شيء في مظاهر القوة بين مظهر خادع ومظهر صحيح. وما من شيء في أفانين الدعوة التي تقال ولا تقال، وما من شيء في أساليب الغلب بالسياسة أو بالسلاح، وما من شيء في موازيين التقدير ومقاييس النجاح
والإخفاق، وما من عبرة في حياة الأمم أو الأفراد خلت منها هذه السنون الخمسون، أو نقص نصيبها منها عن نصيب الدهور متجمعات متلاحقات.
أفنحن سعداء بهذه الآونة العجيبة أم أشقياء؟
إن كانت السعادة وفرة الحياة وثروة التجربة فنحن سعداء، وإن كانت السعادة خلو البال من العبر والأحداث فنحن لا نغبط السعيد الخالي، لأن الخلو لم يكن قط بالنعيم الذي يعمر النفس ويحمده الأحياء.
فالعمر في هذا العصر الحافل لاشك أعمار، والحياة بين هذه العوالم لاشك حيوات، وما تخال أحداً يستبدل بأيامه في هذا العصر أياماً في العصور الأخريات ولديه سبب مفهوم.
قال قائل وقد كنت أذكر عجائب عصرنا: نعم ويخيل إلى أناس مع هذا أن العصر عصر باهت لا عجب فيه، وأن العجائب حق العجائب قد ذهبت مع ذاهب العصور، لأنهم يعجبون على البعد ولا يعجبون على القرب، ولا يعلمون أنهم يتعجبون إلا إذا قرءوا أنهم متعجبون!
وسأل سائل: لكن أليس بعجيب من هذا العصر أنه لم يبدع ملحمة من الشعر كملاحم الأقدمين، وما كانت طروادة وميادينها وأبطالها إلا حادثة من حوادث الأقسام في جوانب الحوادث التي مرت بأهل الزمان؟
قلت حذار يا أخانا أن تخطيء هذه الخطأة التي ينزلق إليها نقاد الظواهر مغمضين!. . . لو أن أدباء الملاحم الغابرة عاشوا في عصرنا هذا لما كان شأنهم غير شأن الأدباء الذين يعيشون فيه. لأن الاختلاف إنما يكون في النظر إلى الوقائع لا في ضخامة الوقائع ونصيبها من السعة والضجيج. وحذار يا صاح من كل رأي يسول لك أن تجرد الخلائق الآدمية في بعض الأجيال من سليقتهم التي طبعوا عليها في غير ذلك الجيل؛ فإن السليقة لا تتبدل إلا كما يتبدل الناس بين عصر اليقظة وعصر الغفلة والجمود، فإذا لم يكن العصر عصر غفلة أو جمود فسليقة النفس الآدمية واحدة من أقدم العصور إلى أحدث العصور، ولا سيما في مسائل الحسن والتعبير.
أما أن الأقدمين نظموا الملاحم فيما هو أهون من أعاجيب اليوم فإنما نظموها لأنهم كانوا يتلقون الحوادث بدهشة الخيال، ولا يستعظمونها مع هذا حتى يضفي عليها القدم ثوباً من
الغموض والتهويل.
ولا كذلك يصنع المحدثون حين يتلقون الحوادث الكبر في عهدهم المشهود أو فيما غاب عنهم من العهود، لأن الحادثة الكبيرة تقع بينهم فإذا هي حيز في الصفيحة، وحديث في المذياع، وصورة على اللوحة البيضاء، وموضع للتحليل في كتاب، وباب للترجمة وسرد السير في سجل من سجلات التاريخ، ودرس من دروس الصناعة في المعامل أو معاهد التدريب. فقد شبع منها الحس واستنفدها اللسان، والحس إذا شبع من شيء لم يرجع به إلى دهشة الخيال؛ واللسان إذا استنفد القول تحليلاً وتعليلاً لم يبق منه بقية للغموض والتهويل.
ترى لو كان (هوميروس) قد شهد حصان طروادة صورة متحركة، وقرأ أبطال الإغريق كتباً مفصلة، وسمع المساجلات بينهم حديثاً مذاعاً أو أصداء على اللوحة البيضاء، وعلم أنه لا أرباب هناك ولا أنصاف أرباب، وأنه لا نبتون في البحر ولا زيوش على متن السحاب - أكان ينظم الإلياذة كما نظمها أو كان الناس يسمعونها منه كما سمعوها؟
إن الخيال يعمل حين يلجئه الخفاء إلى العمل، وإن المرء ليضفي حلل الخيال على الغانية في البرج المحجوب، ولكنه حين يراها إلى جانبه في الترام، وينظر إليها وهي تأكل الطعام، ويستمع إليها وهي تتكلم فتحسن الكلام أو لا تحسن الكلام، يفكر فيها كل تفكير يخطر على البال إلا أن يلحقها بأجواء الخيال.
ولسنا نعني بهذا أن الحوادث في عصرنا لم تبق بقية لخيال الشاعر وبديهة الفنان، ولكننا نعني أن النظريتين تختلفان وأن التخيل في عصرنا أصعب من التخيل في تلك العصور، فما كان يسيراً على هوميروس في أمام طروادة لن يتيسر له هذا اليسر في عصر دنكرك وستالنجراد.
نحن نشبع من تلك الحوادث حساً وفهماً فلا تعجب لها كما كانوا يعجبون وهم يتلقونها بالدهشة والخيال، وعلى هذا قد يمضي السنون الطوال قبل أن نحس ما نحن فيه كما ينبغي أن نحسه، وقبل أن نفهمه كما ينبغي أن نفهمه بمعزل عن الأهواء.
عباس محمود العقاد
عرب فرنسا
للأستاذ عمر الدسوقي
عطبت سيارتنا، ونحن نصعد في الجبل صوب قرية من قرى لبنان، وكان عطبها إزاء كوخ مشرف على الطريق، أطلت منه عجوز نالت منها السنون حتى تركتها أثراً متهدماً لإنسان: درداء، شمطاء، عجفاء، معروقة اليدين، مخددة الوجه، محدودبة الظهر. وكأنما راعها أن تقف سيارة فخمة بباب كوخها المتهدم المتواضع الذي يحاكيها قدماً، ويجانسها ضعفاً، ويماثلها قماءة، فأخذت تجيل فينا بصراً لا يزال حديداً، لم يبل كما بلى جسمها، ولم يرث كما رثت منتها، يتطلع إلينا في لهفة وعجب، كأننا من عالم آخر لم يره من قبل.
فقال صاحبي يداعبها: صبحت بالخير يا خالة. من أي العرب أنت؟، فأجابت بلهجة جبلية قحة، وبصوت خشن، استعار غلظته من هذه الصخور الجاسية التي تحيط بها:(إني من عرب فرنسا). فقال صاحبي دهشاً: (وي! وهل لفرنسا عرب؟) فتلعثمت العجوز، وحارت ثم أجابت: (إننا لا نعرف غيرها حاكماً على هذه الديار. قد بسطت ألويتها على السهول والحزون، وتغلغلت لغتها في القرى والدساكر، والبيوت والمتاجر، ينطق بها الصغير والكبير، ويزهى بالتشدق بها الحقير والأمير؛ قد طبعت بلادنا بطابعها، وتدخلت في الهين والجليل وملكت أزمة المال والرجال. وإني في وكري هذا لأحس بأسها وسطوتها فهل حدت عن الحادة إذا قلت: إني من عرب فرنسا؟
ولم يطل صاحبي معها الحديث لنستشف خبيئة نفسها، ونعرف أمتهكمة هي أم جادة، وفرحة بهذا الوضع أم ترحة؟ فقد جأرت السيارة مستأنفة فهرولنا إليها مشيرين إلى العجوز مودعين. وما أن استقر بنا المقام في السيارة حتى التفت إلي صاحبي وقال:(ما رأيك بما سمعت؟) فقلت: (نكراً والله، إن كانت هذه العجوز جادة تقرر حقيقة قد سلمت بها، واعتقدتها من قبلها فذلك برهان لا مرية فيه على أن فرنسا نجحت في هذه الديار نجاحاً نفذ إلى ألباب العجائز في الجبال. أما أن كانت متهكمة فهذا دليل اليقظة الروحية، والإيمان الكامن في هذه القرى النائية عن العمران، وحجة على أن هذا الجبل الأشم أشد بأساً وأقوى مراساً من أن يلين لزبرج الحضارة المموهة، وأساليب الاستعمار الخادعة.
فقال: لعلها تقرر الحقيقة من وجهة نظر فرنسا، فإنها تعمل جادة على أن تسلخ هذه
الشعوب من مقومات شخصيتها، وتجردها من كل ما يذكرها بمجد تليد، أو يحفزها لعمل مجيد؛ وتلهيها عن مثلها العليا بخلق أسباب التناحر بين أفرادها، وتطفئ جذوة الإيمان بالحرية المستقر بالفطرة في كل نفس بشرية بما تقدم من نفايات حضارتها ومادية مدنيتها.
ألا ترى كيف فرضت لغتها على المدارس بشتى درجاتها يلقنها الطفل قبل أن يلقن لغة بلاده، ويتعلم بها كيف يعبر ويفكر ويحسب!؟ أليس من الخزي أن يعلم تاريخ هذه البلاد العربية وجغرافيتها باللغة الفرنسية؟! إن اللغة رمز القومية، وعنوان الشخصية، فإذا لهج إنسان بلغة غير لغته في حديثه المعتاد ومع أهل بيته وجنسه، فهل ثمة ما يفصح عن قوميته ويدل على شخصيته؟ إن الوجوه تتشابه، والعقول تتكافأ، ولكن اللغة وحدها هي التي تفرق بين أمة وأمة. ولأمر ما يعتز الإنجليزي بلغته، حتى وهو غريب، ويفرضها على الناس فرضاً في الفنادق والمتاجر في أوربا نفسها، ولا يفكر في تعلم لغة البلاد التي يستوطنها
إن لغة أي بلد تحمل في طياتها تاريخها، وحضارتها، وعصارة أفكار أجيالها السالفة وآدابها، وأمثالها؛ وتذكر دائماً بماضي تلك الأمة، وهي رمز الشعور المشترك بين أفرادها؛ فإذا عاقها أبناؤها وأنفوا من التكلم بها، وفرض عليهم الدخيل لغته، فقد اقتطعتم من كل ما يذكرهم بكيانهم الخاص وبدد ما بينهم من شعور بالقومية. وهذا ما عملته فرنسا في الجزائر، وشمال أفريقية ولبنان وسوريا.
أولا ترى كيف أضرمت فرنسا في هذا البلد نار الطائفية الدينية، بل فرقت بين أبناء الدين الواحد، وجعلتهم مذاهب وشيعاً، وزادت هوة الخلاف ينهم، وجذبت إليها بعض رؤسائهم وأغدقت عليهم النعم، ومدت لهم في أسباب المودة، وأضفت عليهم الألقاب حتى يمنعوا في خلافهم، وخلقت لهم المناصب، ووزعتها طبقاً للطائفية؟ فكيف يرضي هؤلاء وقد نعموا بالرياسة أن يخضع بعضهم لبعض؟ أو لم تسمع بالرب (سليمان)؟
قلت: كلا!، قال: إنه شخص يدعى الألوهية بجبال العلويين؛ ويزعم أن روح الله حلت به، وقد اعترفت فرنسا بألوهيته، وحين ينزل بيروت تضيفه الحكومة الفرنسية في أرقى الفنادق، وتحيطه بحرسها وجندها، وتقله في أفخم سياراتها، وتوهمه أنه إله حقيقي لا مرية فيه.
ألا تتصور الرب (سليمان) هذا يعود إلى موطنه في جبال العلويين، يشيد بفرنسا وعظمتها ويسبح بحمدها وقد يشم من الشبع على موائد الغاصبين، وانتفخ عظمه كاذبة من ثناء الخادعين، واكتظت حقيبته بالمال والهدايا ثمناً لضميره الذي بيع للمستعمرين؟
إن فرنسا تتدخل في الصغيرة والكبيرة من أمور هذه البلاد، فلا تدع لأبنائها مجالاً للتفكير والتدبير، والموازنة والتقدير، تريد عقولهم مشلولة أو مخبولة، أو قل إنها تريد أن تفنيهم معنوياً، وتجعلهم بعد جيل أو جيلين لا يحسون ولا يدركون ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، يدبر أمرهم وهم في غفلة ساهون
وُيقضى الأمر حين تغيب تيمٌ
…
ولاُ يستأذنون وهم شهود
وهكذا شأن الجزائر اليوم، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
فهل بعد هذا تعجب حين تقول هذه العجوز: (إنها من عرب فرنسا)، إنها من عرب ملك لفرنسا تفعل بهم ما تشاء أو أنهم على وشك أن يكونوا كذلك، تسومهم الخسف وسوء العذاب، وتسلبهم حرياتهم، وتفرقهم أباديد، وتقتل فيهم الحياء والإباء، والمروءة والوفاء.
فقلت: وكيف يرضى أهل هذه الديار بهذا؛ وعهدي بأهل الشام أولي نجدة وحمية، وغيرة متقدة وحماسة ملتهبة، ووطنية متأججة. لهم تاريخ حافل بصفحات المجد والفخار، وفيهم حيوية متدفقة وذكاء فطري عظيم.، وحرارة إيمان شديدة. ثم هم أحفاد الغسانيين، والعرب الفاتحين. وأهل جبال فيهم مراس وبأس، وصبر واحتمال، ونزوع إلى المخاطرة والمغامرة، لا يبالون بالشدائد والأهوال في سبيل أهدافهم، فكيف رضوا بغير الاستعمار؟
فقال صاحبي: إن الاستعمار دنس، يلوث النفوس الطاهرة، ويوهن العزم القوي، ويفتن القلب الأبي، ويضل العقل الذكي. إنه امتهان للإنسان وكرامته، وانحطاط إلى مرتبة الرق، وأوربا قد حاربت الرق الفردي، ولكنها استباحت الرق الجمعي. فخرجت سوريا من الحرب الماضية منهوكة القوى من الجوع والجهل والضعف، وطمعت فيها فرنسا، فأبى فيصل واتباعه على ما بهم من وهن أن يكونوا طعمة هينة، ثم كانت موقعة (ميسلون) وبسطت نفوذها على الشام، وقطعتها إرباً إربا، فشرق الأردن، وفلسطين، ولبنان، وجبال العلويين، وجبال الدروز، والإسكندرونة، وإنطاكية. وجعل لكل جزء رئيس، وصار لكل رئيس أذناب وأتباع، يطمعون في المناصب والجاه الكاذب. وبذلك ذهبت قوة بلاد الشام في
هذه التفرقة، ومكن لفرنسا أن تعمل ما تشاء هي وإنجلترا. فلو كان الشمل جميعاً، والقلوب متحدة، والقوى متضافرة، والموارد متجمعة، لكان الشأن غير ما ترى اليوم، ولكن قاتل الله الرق والاستعمار!
كان هذا الحديث قبل أن تنهار فرنسا، وتبتلي بالمحن الشداد، وتسقى كأس الذل حتى الثمالة، وتنتهك حرماتها.
وقلنا لعله درس يعلمها كيف يتألم سليب الحرية، وكيف يتململ تململ الذبيح تحت مدية الجزار، وكيف يتأوه المظلوم والمحروم، ويصعد الزفرات والحسرات، وقد سدت دونه السبل، وأشرعت فوق رأسه حرب الغاصبين.
وشاء الله أن تعتنق على يد الحلفاء، ولم تكد تتنسم نسمة واحدة الحرية حتى أخذت تتطلع إلى أن تسرق غيرها، وتبسط سلطانها على سواها من الأمم التي وفت لها وهي مثخنة الجراح فلم يطعنها من الخلف؛ مع أن فرنسا لا تزال بعد دامية الجراح، مفككة الأوصال، تهددها المجاعة بالموت. كنا نظن، وقد ذاقت فرنسا مرارة الذل والاستعباد، أنها ستقدر نزعات الحرية عند غيرها من الشعوب، وكنا نظن، وقد اعترفت الدول الكبرى باستقلال سوريا ولبنان أن لم يعد ثمة مجال للمساومة في الرق بأي صورة كانت: انتداباً، أو استغلالاً، أو امتيازاً.
وكنا نظن، وأوربا بأسرها كانت تقاتل حتى أمس القريب في سبيل الحرية، والمبادئ الديمقراطية، أننا مقبلون على عهد جديد، يكرم فيه الإنسان أينما كان، وتمحى فيه السيادات، ويعيش الناس سواسية متحابين بعد هذه المحنة القاسية، والحرب الشنعاء. وإلا ففيم كانت هذه الدماء المراقة، والدعاوى العريضة، والبلاد المخربة، والإنسانية المنكوبة؟!
يا عجباً! تلجأ فرنسا التي كانت تئن بالأمس تحت سياط الجلاد، إلى تلك السياط التي تسلطها على شعوب تأنف في شمم وكبرياء أن تدين بعد اليوم لأمة بالطاعة والعبودية. أتضرب دمشق بالمدافع والطائرات الفرنسية، لأن أهلها يرفضون وصاية وانتداباً فرض عليهم قسراً، ولأنهم يرون أنفسهم ومن ورائهم ماضيهم وبين أيديهم حاضرهم، أكثر رشداً، وأقوم خلقاً، وأوفى عهداً، وأشد جلداً من هذه الأمم التي تفرض نفسها على غيرها، وتسم غيرها بالقصور، وهي في أمس الحاجة إلى مرشد حكيم يجنبها مواطن الزلل، ويعرفها أن
طرق الاستعمار القديمة البالية لا تستسيغها الأمم بعد اليوم؟!
كل البلاد العربية في موقف مشابه لسوريا ولبنان، وهما تعبران اليوم عما يجيش في كل نفس عربية، وتضربان بجهادهما الرائع وضحاياها الخالدة البرهان الناصع على حيوية هذه الشعوب العربية، وما تستطيع أن تفعله كل منها حين تقف للجهاد، وتزأر زئير الحرية. وتضافر الأمم العربية معهما وشدها أزرهما المحك الذي تبلى به جامعة الأمم العربية، فإما عزة وسؤدد يبقيان للأبد، وإما خزي وعار وذل واستعباد لكل هذه الشعوب لا قدر الله. فهل آن لنا أن نعيش أحراراً من نير أوربا؟!
عمر الدسوقي
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 4 -
في ج 8 ص 181 وهذا شيء (يعني تفسير كتاب سيبويه لأبي سعيد السيرافي) ما تم للمبرد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه مع سعة علمهم وقبض بنانهم.
وجاء في الشرح: وقبض بنانهم هو من قبض على الشيء بيده أمسكه وضم عليه أصابعه وهو إشارة إلى تمكنهم.
قلت: أغلب الظن أنه (فيض بيانهم) والمبرد بفتح الراء كما ضبط ابن خلكان في (وفيات الأعيان) وبين ابن عبد ربه في (العقد) ودل عليه خبران في (تاريخ بغداد) وللخطيب و (شرح المقامات) للشريشي. وكنت قد ذكرت كل ذلك في (الرسالة الغراء). ولما اطلع العلامة إبراهيم مصطفى الأستاذ في جامعة فاروق الأول على النصوص التي أوردتها نشر كلمة في الرسالة (205) وذكر فيها أن الشيخين اللغويين الشنقيطي والمرصفي كانا يذهبان إلى كسر الراء ثم قال:
(ولعمري لو أنهما شهدا وهدى إليهما ما قدم في الرسالة من النصوص لما رأيا إلا الفتح. . . فما كان لهؤلاء من العلماء من التشدد في الحق إلا ريثما تنكشف لهم الحجة في غير ما بأيديهم، فهم أتباع الحق أبداً. . .)
وهذه طرائف جديدة تنصر الفتح:
روي ابن حجة في (خزانة الأدب) لشيخ الشيوخ عبد العزيز الأنصاري الحموي:
ويلاه من نومي المشرد
…
وآه من شملي المبدد
يا (كامل) الحسن ليس يطفي
…
ناري سوى ريقك (المبرد)
وجاء في الأساس: فلان يفصل كلامه تفصيل الفريد، وهو الدر الذي يفصل بين الذهب في القلادة المفصلة، فالدر فيها فريد والذهب مفرد، والواحدة فريدة، وقيل: الفريد الشذر، ويقال لبائعه: الفراد. وتقول: كم في تفاصيل المبرد، من تفصيل فريد ومفرد.
ومن عرف أسلوب الزمخشري في سجعات الأساس أيقن أنه لم يقصد إلا الفتح. ومثل تلك السجعة هذه المقطوعة لسلمان ابن عبد الله الحلواني النهرواني:
تقول بُنيَّتي: أبتي، تقنع
…
ولا تطمع إلى الأطماع تعتدُ
ورض باليأس نفسك فهي أحرى
…
وأزين في الورى، وعليك أعود
فلو كنت الخليل وسيبويه
…
أو الفرّاء أو كنت المبرد
لما ساويت في حي رغيفاً
…
ولا تُبتاع بالماء المبرد
وقال شاعر لا أتذكر الآن اسمه:
ومليح إذا النحاة رأوه
…
فضلوه على (بديع الزمان)
برضاب عن (المبرد) يروي
…
ونهود تروي عن (الرماني)
وقال الثعالبي في (خاص الخاص):
(أبو العباس المبرد قال: اجتزت يوماً بسذاب الوراق وهو قاعد على باب داره، فقام ألي، ولاطفني، وعرض علي القرى. فقلت: ما عندك؟ قال: عندي أنت، وعليه أنا. يعني أن عنده لحم السكباج المبرد، وعليه السذاب المقطع. فاستظرفت هذه النادرة ونزلت عنده)
وما كان أمثال الجاحظ والأعمش والمبرد والأخفش يكرهون ألقاباً شهروا بها.
روى ياقوت في أخبار علي بن سليمان (الأخفش الصغير): حدث أبو عبيد الله: حضرت يوماً أبا الحسن الأخفش ودفع كتاباً إلى بعض من كان في مجلسه ليكتب عليه اسمه، فقال له أبو الحسن: خَفّشْ، خفش. يريد أكتب الأخفش. ثم قال أنشدنا أبو العباس المبرد:
لا تكرهن لقباً شهرت به
…
فلرب محظوظ من اللقب
وبعد فالفضل في تحقيق ذلك الاسم وضبطه إنما هو لرسالة العرب والعلم والفضل والأدب، وللعلامة الأستاذ إبراهيم مصطفى، وللأديب البارع الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف.
في ج10 ص212
إن هشاماً جده هشام
…
مقابِل مدابِر هضام
قلت: كسرت الباء في مقابل ومدابر وهي فيهما بالفتح. ورجل مقابل مدابر كريم الطرفين من قبل أبيه وأمه كما في اللسان والتاج وهو من المجاز كما ذكر الأساس. والبيتان من أرجوزة لحفص الأموي في الخليفة هشام بن عبد الملك.
في ج11 ص76
وقبلك داوي الطبيب المريضْ
…
فعاش المريض ومات الطبيبْ
فكن مستعداً لدار الفناء
…
فإن الذي هو آت قريب
قلت: سكنت ضاد المريض وفتحها واجب، والقبض هنا كثير، وليس البيت مصرعاً ولا مقفى حتى يجوز التسكين. وعندي أن القائل وهو الخليل بن أحمد لم يستعمل إلا الضرب الصحيح وإن جاء قصره وجاز.
وقوله (فكن مستعداً لدار الفناء) هو (فكن مستعداً لدار الفناء) أي للموت كما روي الأنباري في (نزهة الألباء في طبقات الأدباء) ومعلوم أن تلك الدار التي يستعد لها المؤمنون هي دار البقاء لا دار الفناء. . .
في ج9 ص179
يلذ له طعم الكماة كأنما
…
جرى الشنب المعسول فوق العواسل
قلت: يلذ له طعن الكماة لا طعمهم. . . والبيت للحسن بن محمد العسقلاني في صارم الدولة بن معروف.
في ج11 ص204 وتهم قُرونتي أن أرفع عقيريتي. . .
قلت: جاءت قرونتي بضم القاف وهي بالفتح كما ضبط القاموس المحيط. . . وضبط في المخصص، وقد جاء فيه: سامحت قرونه وقرونته وهي النفس، وهي القرينة وهي القرين، وحكى ابن الأعرابي: أسمحت قرونه أي لانت وانقادت.
في ج14 ص16 وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني (صاحب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة) قد قرأ عليه (يعني على ابن عبد العزيز الجرجاني صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه) واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به، وشمخ بأنفه بالانتماء إليه.
قلت: وردت (بخبخ) ولم تجيء (تبخبخ) واليقين أنها تبجح به. في التاج: تبجح به. فخر، قال اللحياني. فلان يتبجح ويتمجح أي يفتخر ويباهي بشيء ما، وقيل يتعاظم.
في ج2 ص81 وله (للصابي) إلى الصاحب:
لما وضعت صحيفتي
…
في بطن كف رسولها
قبلتها لتمسها
…
يمناك عند وصولها
حتى ترى وجهك ال
…
ميمون غاية سؤلها
قلت: سولها بالتخفيف ضرورة هنا.
في ج7 ص106
سُرج لقوم يهتدون بها
…
وفصائل تنمي ولا تجري
قلت: (تنمي) بكسر الميم، و (تجري) هي تحري بالحاء، وهي كرمى يرمي. في النهاية: في حديث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فما زال جسمه يحرى أي ينقص، يقال: حري الشيء يحرى إذا نقص، ومنه حديث الصديق: فما زال جسمه يحرى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق به.
في ج8 ص135
ومثالث العيدان يُس
…
عد جَسها بِم وزير
قلت: بم بالفتح وأبم الغليظ من أوتار العود، والزير الدقيق منها
في ج8 ص141 وكانوا يفدون على محمد بن يحيى بن أبان فيضربون خيامهم في باغ سلم بن عود.
وجاء في الشرح: باغ اسم مكان فيه دار ابن عود
قلت: الباغ البستان بالفارسية، وهو في شعر أبي الفتح علي ابن موسى ألبستي، رواه الثعالبي في مقدمة (كتابه فقه اللغة):
لا تنكرن إذا أهديت نحوك من
…
علومك الغر أو من آدابك - النتفا
ففيم الباغ قد يهدي لمالكه
…
برسم خدمته من باغه التحفا
في ج10 ص139
أتطلب الفصاحة من الغنم، والصباحة من المغتم؟
قلت: من الأغم. والغمم كما جاء في الصحاح أن يسيل الشعر حتى تضيق الجبهة أو القفا، ورجل أغم، وجبهة غماء، قال هدية بن الخشرم:
فلا تنكحي أن فرق الدهر بيننا
…
أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
والأنزع الذي ينحسر شعر مقدم رأسه مما فوق الجبين كما في النهاية. وفي اللسان: وامرأة نزعاء، وقيل: لا يقال نزعاء، ولكن يقال زعراء، وفي صفة علي رضي الله عنه البطين الأنزع. والعرب تحب النزع وتتيمن بالأنزع، وتذم الغمم، وتتشاءم بالأغم، وتزعم أن الأغم
القفا والجبين لا يكون إلا لئيما، ومنه قول هدية: البيت. وفي (الكامل): الغمم كثرة شعر الوجه والقفا، وأورد البيت، ثم قال: والعرب تكره الغمم.
حول انهيار فرنسا
لأستاذ عربي كبير
حينما انهارت فرنسا أحدث انهيارها المفاجئ هزة أرضية عالمية، دهش لها من دهش، وابتهج بها من ابتهج، وبكى بها من بكى. وكان الظن بكتاب العرب يومئذ وهم الذين اكتووا طويلاً بنار الاستعمار الفرنسي أن يتنفسوا الصعداء بزوال هذا الكابوس، ولكنهم انقادوا للنوازع الإنسانية والأدبية فيهم فكتبوا يرثون فرنسا ويرثون لها ويعطفون عليها، إلا هذا الكاتب المفكر الكبير فأنه عارض هذه النزعة وعالج الموضوع على ضوء الحقائق المجردة والوقائع الثابتة. ولم تتهيأ لنا الفرصة يومئذ لنشر هذه الآراء القيمة، فنشرها اليوم بمناسبة المأساة السورية فإنها جمرة متقدة من تلك النار، وأثر سيئ من آثار ذلك الانهيار.
. . . أخذ عدد غير قليل من الكتاب العرب يتبارون في نشر المقالات ونظم الأشعار، حول هذا الانهيار، وكان معظم ما كتب في هذا الموضوع (عاطفياً) بكل معنى الكلمة. كان أكثرها مراثي تندب حظ فرنسا، وتظهر أسفاً شديداً، وحزناً عميقاً على الكارثة التي حلت بها؛ وكان بعضها يغالي في الرثاء، إلى أن يبلغ به درجة البكاء. . .
غير أن هذه المراثي قوبلت بمعارضة شديدة، فقد حمل عليها بعض الكتاب حملات عنيفة وقالوا: كيف يجوز لكاتب عربي أن يبكي على فرنسا وينسى ما فعلته بالقسم الأعظم من البلاد العربية؟ كيف يجوز لمفكر عربي أن يرثي النكبة التي حلت بفرنسا وهو يعلم أنها كانت من أهم العوامل التي أنزلت أكبر النكبات بالأمة العربية وبخاصة بعد الحرب العالمية؟
احتدم الجدال بين الفريقين؛ وحاول كل فريق أن يبرر حسن عواطفه بمقالات حارة، أودع فيها كل ما أوتي من قوة البلاغة والبيان. . .
أنا من الذين يعتقدون أن الكتابات العاطفية تعبر عن نفسية كتابها الشخصية وخوالجهم الذاتية، فلا تتحمل المناقشة مناقشة علمية. . . غير أن أصحاب المراثي لم يكتفوا بإظهار عواطفهم وتثبيتها، بل أخذوا يدافعون عنها ويدعون إليها، وحاولوا أن يدعموها ببعض الآراء والنظريات السياسية والاجتماعية. .
فإذا جاز لنا أن نسكت تجاه (العواطف الشخصية)، فلا يجوز لنا أن نلزم مثل هذا السكوت
تجاه الآراء والنظريات التي صارت تنشر لتبرير تلك العواطف. . .
لقد قال البعض (يجب أن نميز بين فرنسا الأدبية المتمدنة وفرنسا السياسية المستعمرة)، كما قال آخرون: (يجب علينا أن نفرق بين عمل الساسة وعمل الأمة كلها، فلا يجوز أن نعتبر الشعب الفرنسي مسؤولاً عن أعمال حكامه. .
فلننعم النظر في الآراء التي تتضمنها مثل هذه الأقوال. . ولنفكر جيداً: هل يمكن التمييز بين فرنسا الأدبية المتمدنة وفرنسا المستعمرة تمييزاً حقيقياً؟
أنا لا أقول بذلك أبداً. . . لأن الأدب الفرنسي نفسه لم يلتزم الحياد تجاه السياسة الفرنسية بوجه عام وحيال السياسة الاستعمارية بوجه خاص. بل يعكس ذلك انبرى لخدمة تلك السياسة بكل الوسائل الممكنة. وقد كتب الأدباء عدداً لا يحصى من المقالات والخطب والأشعار والقصص والروايات التي تمجد الاستعمار وتزينه في النفوس، وتحث على الاستعمار وتحببه إلى القلوب. . .
إن دلائل ذلك تظهر للعيان من خلال جلسات الأكاديمية الفرنسية أيضاً. لأن هذه الندوة الأدبية العليا قد حرصت على كل الحرص على أن تختار بعض أعضائها من بين رجال السياسة والجيش، كما اختارتهم أحياناً من بين صناديد الاستعمار. وهؤلاء لم يتجردوا من نزعاتهم السياسية والاستعمارية عند دخولهم قاعة اجتماع تلك الندوة حتى أنهم لم يترددوا أحياناً في اتخاذ تلك القاعة منبر لإسماع آرائهم الاستعمارية في خطب أدبية رائعة.
ولعل أقرب وأوضح الأدلة على ذلك انتخاب الماريشال (ليوتي) عضواً في الأكاديمية المذكورة. ومن المعلوم أن هذا الماريشال يعتبر من أكبر رجال الاستعمار، فقد لقبه الفرنسيون بلقب (الأفريقي) - تقليداً لما فعله الرومان في القرون الأولى، عندما خلعوا مثل هذا اللقب على (اسجسيون) بعد تمكنه من تدمير قرطاجنة. إن الأكاديمية الفرنسية انتخبت الماريشال ليوتي عضواً بها، أفتدرون ماذا كان موضوع (خطبة القبول) التي افتتحت حياته الأكاديمية وفقاً لتقاليد الندوة الأدبية المذكورة؟. . . كان موضوع الخطبة (الاستعمار). . .
اقرءوا الخطبة المذكورة تجدوها قطعة أدبية رائعة في مدح الاستعمار وتمجيده. . . إنها تشرح فوائد الاستعمار المادية والمعنوية بأسلوب حار بليغ، وتدعوا إلى (الإيمان) بضرورته لحياة فرنسا!
(لأن الاستعمار - مصدر هام للقوة والثروة، ومنبع لا ينبض للجيش، وساحة تدريب وتكوين للقواد. . . ولأن الأمم المحرومة من المستعمرات تكون جانحة إلى الركود والجمود الروحي. . .)
أعتقد أن هذه الخطبة من أبرز الأمثلة والأدلة على تداخل وتشابك الأدب والاستعمار؛ فلا يجوز لنا إذن أن نقول بوجوب التمييز بين (فرنسا الأدبية المتمدنة وفرنسا السياسية الاستعمارية) بوجه من الوجوه.
وأما إذا قيل: (أن القصد من التمييز المبحوث عنه، هو (تقدير الأدب الفرنسي) في حد ذاته، بقطع النظام عن السياسة الفرنسية والاستعمار الفرنسي)، فأنا أسلم بصحة هذا الرأي، غير أنني أقول بلا تردد: إذا كان الأمر كذلك، فلا يبقى داع ولا مبرر للرثاء. . . لأن (الأدب الفرنسي) ظل خارجاً عن حدود النكبات؛ فإن النكبة التي نحن بصددها حلت بالدولة الفرنسية والجيش الفرنسي لا بالأدب الفرنسي. . .
لأن انهيار الجيش لا يستوجب انهيار الأدب، والاندحار في ميادين الحرب والسياسة لا يستلزم الاندحار في ميادين الأدب والثقافة. .
إنني أستطيع أن أخطو خطوة أخرى في هذا السبيل فأقول:
(إن مثل هذه النكبات قد لا تخلوا من الفائدة إلى الأدب، لأنها قد تكون منبتاً خصباً للإنتاج الأدبي. فإن الآلام والأتراح تكون - بوجه عام - أفعل من الأفراح في إثارة العواطف، وتوليد الأدب الرائع. . .
وعلى كل حال فإن نظرية التمييز بين فرنسا الأدبية وفرنسا الاستعمارية لا تستند على أساس قويم من هذه الوجهة أيضاً.
وأما القول في وجوب التفريق بين الشعب والحكام وعدم اعتبار الشعب مسؤولاً عن أعمال الحكام. . . فهو غريب جداً، ولا سيما بالنسبة إلى فرنسا التي تفخر وتباهي بالديمقراطية والجمهورية والإدارة الشعبية. . .
أنا لا أنكر أن الحكام قد يستطيعون في بعض الأحوال أن يجروا شعبهم إلى الاتجاه الذي يريدونه؛ غير أنني أعتقد أن ذلك الاتجاه لا يمكن أن يستمر طويلاً إذا لم يأت موافقاً لنزعات الشعب ويجد هوى في أمياله النفسية. . .
ومن المعلوم أن (الاستعمار) لم يكن من الحوادث العارضة في تاريخ فرنسا. . . بل أن تاريخ الاستعمار هناك طويل وطويل جداً؛ حتى أن بدء الاستعمار الفرنسي للبلاد العربية نفسها يعود إلى أكثر من قرن. فإن فرنسا بدأت حملتها على الجزائر سنة 1830 وقد مضى على ذلك التاريخ قرن كامل مع عقد من السنين. . . غيرت فرنسا (نظام حكمها) - خلال هذه المدة أربعة مرات بل خمساً، انتقلت من الملكية إلى الجمهورية، فالإمبراطورية، ثم عادت إلى الجمهورية. والآن أخذت تجرب شكلاً جديداً من نظام الحكم. . . مع هذا لم تنحرف عن سلوكها الاستعماري طوال هذه المدة وخلال هذه النظم المختلفة. فإنها أتمت استعمارها للجزائر بين شتى الانقلابات السياسية، واستولت على تونس سنة 882، وبسطت حمايتها على مراكش سنة 1911، واستولت على سورية، وأتمت استعمارها للمغرب الأقصى بعد الحرب العالمية. . . وقد توالى خلال هذه المدة الطويلة عدة أجيال، ونشأ وتنازع في غضونها عشرات الأحزاب، وتولى الأمر فيها عشرات وعشرات من الحكومات المتضارية النزعات. . . ومع كل هذا، لقد ظل (العمل الاستعماري) هو هو، دون أن يتوقف أو يتغير من جراء تبدل نظم الحكم، أو تعاقب الحكومات وتوالي الأجيال. . . فلا يجوز لنا أن نسلم بأن (الاستعمار الفرنسي) من أعمال حكام فرنسا، فلا يعتبر الشعب مسؤولاً عنه. . .)
هذا، ومما يسترعي النظر، أن معظم ما كتب في رثاء فرنسا وفي الدفاع عن ذلك الرثاء - في اللغة العربية - يظُهر آثار افتتان غريب بها ومغالاة شديدة في اعتبارها أرقى شعوب الأرض على الإطلاق. . .
فقد قال أحد الكتاب (إن المساواة في العدل الاجتماعي لم تكد تتحقق في أمة من الأمم في كل أدوار التاريخ إلاَّ في فرنسا). . . كما قال كاتب آخر: (لم يثر ثائر على الاستعمار في مشرق أو مغرب إلا وفي روحه جذوة من النار التي أوقدتها باريس للغضب على استعباد الشعوب).
وقال أحدهم (لا أعرف فرداً قد ربى فيه الوازع الشخصي بمثل ما ربى في الرجل الفرنسي).
وقد صاح أحد الكتاب قائلاً: (إن قوة الألمان فيض من قوتك يا باريس) كما خلع كاتب آخر
على فرنسا سلسلة نعوت خارقة مثل (مبعث النور والحرية ومهد الاختراعات)
إن معظم هذه المدعيات تخالف الحقائق الراهنة مخالفة صريحة، كما أن ما تبقي منها ينطوي على مغالاة صارخة. . .
فإن التاريخ يذكر لنا عشرات الثورات التي قامت قبل ثورة باريس المعلومة. الفرنسيون أنفسهم يعترفون بأنهم تأخروا كثيراً في تحقيق المساواة في العدل الاجتماعي. كما أن معظم مفكريهم يشكون بمرارة ضعف الوازع الشخصي في نفوس مواطنيهم، ويحسدون بصراحة بعض الأمم من جراء الوازع الشخصي المبحوث عنه. . .
وأما نعت فرنسا (ببعث النور ومهد الاختراعات) واعتبار الفرنسيين أرقى شعوب الأرض على الإطلاق، فإن كان ذلك من الدعاوى التي كان يمكن الدفاع عنها في دور من أدوار التاريخ، فقد اصبح من القضايا التي لا يمكن التسليم بها في الدور الذي نعيش فيه الآن. . .
لقد فنّد الفيلسوف الإنكليزي الشهير (هربرت سبنسر) الأسطورة القائلة (بتفرق الفرنسيين) على جميع شعوب الأرض في (المدخل) الذي كتبه لعلم الاجتماع، قبل نحو سبعة عقود من السنين، وانتقد انتقاداً لاذعاً المبالغات المفرطة التي كانت تلقب فرنسا بلقب (محررة الأمم)، والتي كانت تدعي بأن أندراس باريس يعني انطفاء مشعل المدنية.
أنا لا اشك في أن مثل هذه المبالغات التي استشارت انتقادات هذا الفيلسوف عندئذ، قد أصبحت أشد بعداً عن الحقيقة الآن، وأجدر بالانتقاد الشديد في هذا الزمان.
لا أنكر أن فرنسا كانت أرقى بلاد العالم في دور من أدوار التاريخ؛ هذا الدور هو العهد الذي يمتد بين أواسط القرن السابع عشر وأواخر الثامن عشر، وأعزف أن البعض من المفكرين الذين استعرضوا تاريخ أوربا استعراضاً فلسفياً، ولاحظوا تتابع دور الإقطاع ودور الانبعاث (قد سموا الدور الذين نحن بصدده باسم (الدور الفرنسي)؛ غير أنني أعرف أيضاً أن ذلك الدور قد مضى وانطمس في أغوار التاريخ منذ مدة طويلة؛ لأن حالة أوربا وحالة العالم تبدلت تبدلاً هائلاً خلال القرن التاسع عشر، فلم تستطع فرنسا أن تحتفظ بمنزلتها السابقة بين هذه التبدلات والتقلبات العالمية الهائلة. أنا لا أود أن أقول: أن فرنسا تأخرت منذ ذلك الحين؛ غير إنني أقول أن أمماً ودولاً أخرى قامت ونهضت بسرعة هائلة
منذ ذلك العهد فأخذت تتسابق مع فرنسا تسابقاً عنيفاً في جميع ميادين التقدم والرقي. . . وقد لحقتها في معظم الميادين، بل سبقتها في بعض الميادين. فقد خرجت الحضارة العصرية من سيادة فرنسا المعنوية منذ مدة غير قصيرة، ففقدت فرنسا بذلك مكانتها السابقة بصورة قطعية.
مع هذا لا تزال تتمسك بالشهرة التي كانت اكتسبتها سابقاً، بالرغم من حرمانها من التفوق الذي كانت أحرزته قبلا في هذا المضمار.
إنني أشبه منزلة فرنسا وشهرتها المزعومة بمكانة (الوجوه والأعيان) الذين يتمتعون في بعض المجتمعات بشهرة المكانة التي كانوا امتازوا بها قبلا، دون أن يعترفوا بسمو المكانة التي قد أحرزوها غيرهم بكل جدارة واستحقاق.
وكما أن بعض الناس يتأثرون - عادة - بالشهرة السابقة دون أن يلتفتوا إلى (الحالة اللاحقة) فإن بعض كتابنا ظلوا تحت تأثير شهرة فرنسا السابقة، دون أن يعرضوا هذه الشهرة إلى حكم الأحوال الحالية ويزنوها بالموازين الجديدة.
(البقية في العدد القادم)
القضايا الكبرى في الإسلام
15 -
قتل الوليد بن يزيد
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
في سنة ست وعشرين ومائة ثار يزيد بن الوليد المُلَقَّبُ بالناقص على الوليد بن يزيد فقتله، وكان الوليد بن يزيد من فتيان بني أمية وظرفائهم وأجوادهم وأشدائهم، منهمكاً في اللهو والشرب وسماع الغناء، وكان يزيد بن الوليد يظهر النُّسُكَ ويتواضع، وهو الذي يقال فيه وفي عمر بن عبد العزيز: الناقص والأشج أعْدَلَا بني مروان. أي عادِ لاُهمْ، ولا يجرون أفعل التفضيل على بابه، لأنها تقتضي نسبة العدل إلى غيرهما من بني مروان، ولم يكن في بني مروان عادل سواهما. وهكذا يقرن التاريخ ذلك الناقص بعمر بن عبد العزيز في العدل، مع أن عمر بن عبد العزيز لو عاش إلى زمانه ما فعل فعله في قتل أبن عمه من غير تحقيق في أمر ما نسب إليه، ولم يقم حول الوليد من الأخبار التي لا تمحيص فيها ما يسوغ الإقدام على قتله، وما يُشَكّكُ الناس في دينه من غير روية ولا تثبت، والقضاء أدق من التاريخ نظراً، وأقوى منه تثبتاً، لأنه لا يحكم إلا بالنية العادلة، والأصل عنده البراءة ما لم تقم أدلة قاطعة على الإدانة، فيجب أن يدرس ما نسب إلى الوليد درساً قضائياً، وأن يرجع إلى تحقيق ما نسب إليه من تهم، ليتبين أمر الوليد في ذلك بياناً عادلاً، ولا ينزل به إلى ذلك الحضيض الذي نزل به التاريخ إليه، وليتبين أمر ذلك الناقص الذي يشبهه الناس بعمر بن عبد العزيز، ولم يكن من ذلك الملك العادل في شيء، وإنما كان الذي يشبهه في زمنه أخ له لم يطمع في الملك طمعه، وسيكون قوله في هذه القضية هو القول الفصل.
كان يزيد بن عبد الملك قد جعل الأمر من بعده لأخيه هشام ابن عبد الملك، ثم جعل الأمر من بعد هشام لابنه الوليد، وكان سن الوليد في ذلك الوقت إحدى عشرة سنة، وقد عاش أبوه يزيد ذلك حتى بلغ خمس عشرة سنة، فكان يقول له: الله بيني وبين من جعل هشاماً بيني وبينك. وكأنه كان يعرف ما سيلقاه ابنه من أخيه هشام، فإنه لم يكد يتولى الملك بعد أخيه يزيد حتى أراد الوليد على خلع نفسه من ولاية العهد، ليجعل الأمر من بعده لابنه مَسْلَمةَ فأبى الوليد ذلك كل الإباء، فتنكر له هشام وأضرَّ به، وجعل يشيع حوله أخبار السوء لتسقط منزلته عند الناس، وكان يزيد يقول الشعر في الخمر والغزل، وله في ذلك
أشعار جياد كان أبو نواس يأخذ منها، ويحذو حذوه فيها، وهذا إلى شغفه بسماع الغناء، وانصرافه عن الناس إلى مجالسه بين أرباب ذلك الفن، فوجد هشام في ذلك مرتعاً خصيبا للتزيُّد على الوليد، وتنقيصه عند الناس بما يشيعه حوله، حتى جعل كثيراً منهم ينظرون إليه نظرة سوء، ويتهمونه في دينه وعرضه، ولكنه على اجتهاده في ذلك لم يقدر أن يثبت عليه شيئاً يمكنه من خلعه من ولاية العهد، مع أن ملكه استمر من سنة خمس ومائة إلى سنة خمس وعشرين ومائة.
فلما ملك بعده الوليد بن يزيد لم ينس ما فعله معه عمه هشام، فأساء إلى أولاده، وأخذ سليمان بن هشام فضربه مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغرَّبه إلى عمَّان من أرض الشام، وكذلك أساء إلى أولاد عمه الوليد بن عبد الملك، ففرق بين روح بن الوليد وامرأته، وحبس عدة من إخوته، فأخذوا يرمونه بالكفر، ويشيعون بين الناس أنه يغشى أمهات أولاد أبيه، إلى غير ذلك من التهم إلى ستأتي بعد، وكان أشدهم في ذلك يزيد بن الوليد، وكان الناس إلى قوله أميل، لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، فإذا أردنا تحقيق ذلك على الأجمال وجب أن نرجع فيه إلى رجل من بني أمية كان له خطره بينهم في ذلك الوقت، وهو العباس ابن الوليد أخو يزيد بن الوليد، وكان أمر أصدق، ولم يكن في بني أمية مثله، لأنه كان يتشبه بعمر بن عبد العزيز فرأيه في ذلك يرجع كل رأى، لتلك الصفات التي تحمله على قول الحق، ولأنه أخو يزيد بن الوليد فلا يتهم في شهادته عليه.
وقد مشى إليه أخوه يزيد فشكا إليه ما يجري على الناس من الوليد بن يزيد، فقال له: يا أخي إن الناس قد مَلوُّا بني مروان، وإن مشى بعضكم في إثر بعض أكِلتم، ولله أجل لا بد أن يبلغه، فانتظره.
ثم مشى إليه مرة أخرى هو وأخوه بِشر بن الوليد، فكلمه بشر في أن يخلع الوليد بن يزيد، فنهاه عن ذلك ثم قال له: يا بني مروان، أظن أن الله قد أذن في هلاككم، ثم قال:
إني أعيذكمُ بالله من فِتنٍ
…
مثل الجبال تَسَامى ثم تَندفعُ
إن البرية قد مَلَّتْ سياستكم
…
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تُلْحِمُّن ذئابَ الناس أنفسكم
…
إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تُبْقِرُنَّ بأيديكم بطونكم
…
فَثَمَّ لا حسرة تُغْني ولا جَزَع
ثم عاوده يزيد مرة أخرى وكان قد أجمع أمره، وعزم على الدعوة لنفسه، فشاور يزيد بن عمر الْحَكميَّ فقال له: لا يبايعك الناس على هذا وشاور أخاك العباس، فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك، فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك. فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره فنهاه عن ذلك، فرجع وبايع الناس سراً وبث دعاته بينهم، ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه، فزجره وقال له: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقاً وأحملنك إلى أمير المؤمنين فخرج من عنده فقال العباس: إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان.
ولما قامت الحرب بين الوليد ويزيد كتب العباس إلى الوليد إني آتيك، فلما علم بذلك جيش أخيه أرسل من وقف له في الطريق، فأخذوه قهراً إلى جيشهم. وأكرهوه على البيعة لأخيه يزيد، ونصبوا له راية وقالوا هذه راية العباس قد بايع لأمير المؤمنين يزيد. فقال العباس: إنا لله، خدعة من خدع الشيطان، هلك بنو مروان. فتفرق الناس عن الوليد حين رأوا راية العباس وتم الأمر ليزيد بهذه الخدعة الماكرة.
فلما رأى الوليد ذلك ظاهر بين درعين، وركب فرسه السناي، وقاتلهم قتالا شديداً، فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قِتلة قوم لوط. ارجموه بالحجارة. فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب، فأحاطوا به من كل باب، وضيقوا عليه، فدنا من الباب وقال: أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟ فقال يزيد بن عنبسة السكسكي: كلمني. فقال: يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطيانكم، ألم أرفع المؤن عنكم، ألم أعط فقراءكم، ألم أخدم زمناكم. فقال يزيد بن عنبسة: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. فقال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت.
ثم رجع إلى داخل القصر وجلس وأخذ مصحفاً فنشره يقرأ فيه، وقال: يوم كيوم عثمان. فصعدوا على الحائط ونزلوا إليه فاحتزوا رأسه، وكان آخر كلامه: الله يرتق فتقكم، ولا يَلُمُّ شعثكم، ولا يجمع كلمتكم. ثم ساروا برأسه إلى يزيد بن الوليد فأمر بنصبه، فقال له يزيد بن فروة مولى بنى مُرَّةَ: إنما تنصب رؤوس الخوارج، وهذا ابن عمك وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن رتِقَّ له قلوب الناس، ويغضب له أهل بيته. فلم يسمع منه، ونصب الرأس على
رمح فطافوا به دمشق.
وقد أكبر الناس قتل الوليد بن يزيد بهذا الشكل، وثار لقتله أهمل حمص وأهل فلسطين وغيرهم، واضطرب أمر بني مروان اضطراباً كبيراً، وعجل بأيام يزيد بن الوليد، فلم يدم له ملك إلا خمسة أشهر وأثنى عشر يوماً، ولم يدم أمر بني مروان بعده إلا سنين تعد على الأصابع.
فإذا أخذنا في قصة الوليد بن يزيد بهذا السياق، وهو قائم على وقائع تنطق بنفسها، وجدنا أنه لم يزد أمره عن غيره من بني مران، وأنه كان سائراً على سنتهم في الملك، آخذا بطريقتهم في سياسة الناس، ووجدنا أن يزيد بن الوليد لم يخرج عليه لأخذه بسنة آبائه، لأن الناس كانوا قد ألفوها على ما فيها من إرهاقهم، فلم يكن في أخذ الوليد بها ما يثيرهم عليه، وقد سار عليها يزيد بعد قتل الوليد، فتَشَفَّى من رأسه ذلك التشفي، وعسف بأولاده وأنصاره كما كان يعسف الوليد وغيره من بني مروان، ولو أنه خرج عليه لأنه يريد تغيير تلك السياسة كما غيرها عمر بن عبد العزيز، لكان له في ذلك بعض العذر، ولكان له فيه غرض شريف، ولكنه كان يريد الملك لا أكثر ولا أقل، فسلك إليه ذلك الطريق الشائك، ولم يجد إلا أن يغالي في أمر الوليد، ويلصق به من أشنع التهم ما يلصق، ليثير العامة عليه، ويصل بذلك إلى غرضه في الملك. ولقد كان عمه هشام اشرف منه خصومة، وأقل منه حرصاً على ذلك المنصب الزائل، فلم يستبح لنفسه أن يخلع الوليد من ولاية العهد على غير إرادته، وخشي من ذلك ما لم يخشه يزيد، وقد نصحه أقرب الناس إليه فلم ينتصح، وحذر مما يقدم عليه فمضى فيه ولم يلتفت إلى نصح ناصح.
فهل بعد هذا نصدق شيئاً من تلك التهم الشنيعة التي ألصقها أشياعه بالوليد ليصلوا بها إلى مآربهم، وليرضوا الناس بعد أن غضبوا لقتلهم إياه؟ وهل نصدق ما يرونه من أنه فتح المصحف يوماً فخرج فيه (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) فألقاه ورما بالسهام وقال:
تُهَدَّدُ كل جبار عِنيدٍ
…
فهأنذاك جبارٌ عَنِيدُ
إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ
…
فقل ياربِّ مزَّقني الوليدُ
وهل بعد هذا نصدق ما رواه العلاء بن البندار من أنه كان زنديقا، وأن رجلا من كلب كان يقول بمقالة الثَّنَوِيَّة، فدخل عليه العلاء وعنده ذلك الكلبي، وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه
عنه، فإذا ما يَبْدُو له منه حرير أخضر، فقال الوليد: ادن يا علاء. فدنا فرفع الحرير فإذا في السفط صورة إنسان، وإذا الزئبق والنوشادر قد جعلا في جفنه، فهو يطوف كأنه يتحرك، فقال له الوليد: هذا ماني، لم يبتعث الله نبياً قبله، ولا يبتعث نبياً بعده. فقال له: يا أمير المؤمنين، اتق الله، ولا يغرنك هذا الذي ترى عن دينك. فقال الكلبي: يا أمير المؤمنين، ألم أقل لك أن العلاء لا يحتمل هذا الحديث.
وهناك تهم أقبح من هذه التهم تلصق بالوليد، يحجم القلم حياء عن ذكرها، ولا يرى أن يلوث بها صفحات مجلة الرسالة الغراء، وكلها تهم إذا فتح لها التاريخ بعض صحائفه، لأنه يروي كسمين وغث، فإن القضاء لا يمكن أن يؤاخذ الوليد بها، لأنه لا يؤاخذ الشخص في دينه بما يقوله غيره عنه، وإنما يؤاخذه بما يقربه على نفسه، وقد تبرأ الوليد من هذه التهم الشنيعة التي تلصق به، فلا يمكن القضاء أن يؤاخذه بها، لأنه يتحرج مما لا يتحرج منه التاريخ، وقد وضعت في يده رقاب الناس، فلا يمكنه أن يجازف فيها، ولا يستبيح أن يحكم فيها إلا بما يراه يقيناً. ولو أن هذه التهم التي تلصق بالوليد قدمت إليه لعاقب أصحابها عليها، لأنه ليس عندهم ما يثبتها، فيعدها من القذف الذي يعاقب عليه، حفظاً لأغراض الناس، وصونا لأصحاب المروءة والشرف.
ويكفي في براءة الوليد من تلك التهم الشنيعة وقوف العباس أبن الوليد ذلك الموقف منه، وهو ذلك الرجل التقي الصادق، وقد كان أشبه بني أمية بعمر بن عبد العزيز لا أخوه يزيد الناقص، وهو الذي كان يجب أن يقرن إليه في ذلك القول المشهور - الناقص والأشج اعدلا بني مروان - لأن الناقص لم يكن أمره في شيء من أمر عمر بن عبد العزيز.
وقد أنكر قوم ما قيل في حق الوليد من ذلك، وقالوا إنه قيل عنه وألصق به وليس بصحيح. قال المدائني: دخل ابن للغمر ابن يزيد أخ الوليد على الرشيد، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من قريش. قال: من أيها؟ فأمسك، فقال: قل وأنت آمن ولو أنك مرواني. فقال: أنا ابن الغمر بن يزيد. فقال الرشيد: رحم الله عمك ولعن يزيد الناقص وقتلة عمك جميعاً، فإنهم قتلوا خليفة مجمعا عليه، أرفع إلي حوائجك. فرفعها إليه فقضاها.
وقال شبيب بن شبه: كنا جلوساً عند المهدي فذكروا الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً، فقام أبو عُلاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافة النبوة
وأمر الأمة زنديقاً، لقد أخبرني من كان يشهده في ملاعبه وشر به عنه بمروءة في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة يطرح ثياباً كانت عليه من مطيَّبة ومصبَّغة، ثم يتوضأ فيحس الوضوء، ويؤتي بثياب نظاف بيض فيلبسها ويصلي فيها، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب فلبسها، واشتغل بشربه ولهوه، أهذه أفعال من لا يؤمن بالله؟ فقال المهدي: بارك الله عليك يا أبا علاثة.
عبد المتعال الصعيدي
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
البلاجرا قد تؤدي إلى الجنون
تصور قرية عدد سكانها 5000 نسمة، منهم 500 مصابون بالبلاجرا فلا يستطيعون الحركة، فضلا عن حالة الاضطراب العصبي التي ترهقهم. فكم تخسر القرية 10 % من أيديها العاملة فقداناً كاملا؟ وكم تخسر هذه القرية أيضاً من وقت يبذله الآخرون في العناية بهؤلاء المرضى؟
يود الدكتور علي حسن أستاذ الكيمياء الحيوية بكلية الطب لو يتاح له الوقت فيقدر هذه الخسائر بالأرقام، ويبين للأمة كم تخسر من الأموال كل سنة بانتشار هذا المرض الخبيث الذي يصيب سكان بعض القرى بنسبة تتراوح بين 6و10 % من سكانها
تبدأ عوارض هذا المرض بآلام في السلسة الفقرية واضطراب في الهضم، وضعف عام ينتاب الجسم كله. فان استمر سوء التغذية أحمر الجلد وجف.
والمسئول الأول عن هذا المرض هو الطفيليات وإن لم تكن هي سببه المباشر؛ فلإضافة بالبلاجرا نتيجة لسوء التغذية أو بالتعبير الطبي نقص في كميات الفيتامين في الجسم وهو الفيتامين المعروف باسم حامض النيكوتين.
وسوء التغذية كما يقول رجال قسم الكيمياء الحيوية بكلية الطب بمصر يرجع إلى عاملين يؤدي أحدهما إلى الإصابة بالمرض وأولهما خارجي بأن لا يجد المرض حاجته من المواد الغذائية، والثاني داخلي وهو أن يصاب الإنسان بطفيليات تحرمه من المقدار اللازم لغذاء جسمه بأن تتغذى الطفيليات بطعامه. وفي مصر أكثر المصابين بالبلاجرا مصابون أيضاً بالطفيليات.
(ومما يؤسف له أن تنتشر الطفيليات في بعض قرانا بنسبة مزعجة تصل إلى 90 % من عدد السكان. فان أراد الطبيب علاج البلاجرا أو أي مرض آخر أضعف الطفيليات علاجه مما يستنفذ وقته وعقاقيره ومال الدولة أيضا).
ومن المتناقضات في ريفنا المصري أن زيادة الخير معناها انتشار المرض. ففي شمال الدلتا حيث الري الصيفي، والماء المتوفر، والزراعة المنتعشة وباء الطفيليات من بلهارسيا
وانكلستوما وغيرهما من الأمراض الشديدة الفتك بالفلاح بخلاف ما يشاهد في البلاد القليلة الخير التي تروى بالحياض.
ولا يسبب مرض البلاجرا أمراض الجنون، ولكنه يظهرها عند المستعدين للإصابة بواحد منها؛ فهو يضعف الجسم ويجعل الإنسان في حالة عصبية سيئة تكشف عن علل جسمه الكامنة، فلا يلبث أن تظهر عليه أعراض الجنون فتخسر الأمة جهده، كما تخسر ثقتها بنفسها إذ يرفع نسبة المجانين فيها.
لفت هذا المرض نظر قسم الكيمياء الحيوية كما استرعى انتباهه علاجه المتبع في أمريكا. وعلى ضوء اختلاف البيئة والغذاء عندنا وعندهم خالفهم في العلاج أيضاً وأثبت أن علاج الأمراض يجب أن يتبع سياسة قومية لا سياسية تقليدية. ولئن اتفق المرض في جوهره فأنه يختلف في تفاصيله باختلاف البيئة من جو وتغذية.
ففي أمريكا تكون البلاجرا مصحوبة بنقص ثلاثة أنواع من الفيتامين المعروف باسم مركب (ب) أما في مصر فأغلب الحالات ينقصها فيتامين واحد من هذه المجموعة وهو حامض البيكوتيك
وفي سنة 1941 أجرى القسم التجارب لاختبار نظرية فعهد إلى أحد تلاميذه الدكتور شوقي متري بوزارة الصحة تطبيق النظرية طبياً فجربها في 48 حالة عالجها بفيتامين حامض النيكوتين فشفيت جميعاً في مدة لا تتجاوز أسبوعاً واحداً. وكان نجاحه مؤيداً لنظرية الدكتور علي حسن. وأتيح بواسطته توفير نفقات العلاج بالفيتامينات الأخرى.
وكانت خطوته الموفقة برهاناً ساطعاً على وجوب بحث أمراضنا بحثاً محلياً. فلا يجوز أن نقلد العلماء الأجانب فيما يوفقون إليه تقليداً أعمى؛ بل علينا أن نستفيد من تجاربهم بما يتفق وحاجة بلادنا. وأصلح أناس يؤدون هذا العمل هم إخصائيونا فهم أدى بحالة البلاد من سواهم، فمنذ بدأ هذا العلاج في سنة 1941 لم تشذ عنه إلا حالة واحدة.
إنتاج البنسلين بسرعة
حار الكيماويون في إيجاد طريقة سريعة يجففون بها البنسلين حتى يتيسر لهم إنتاجه بكميات كبيرة تكفي حاجة العالم إلى هذا العقار الهام في مكافحة الأمراض. وكان تعرضه للطرق العادية السريعة لتبخير مائة يقتل العقار ويجعله عديم القيمة.
وقد توصل أحد المصانع إلى استنباط طريقة كهربائية يجفف بها البنسلين في نصف ساعة، وهي عملية كانت تحتاج إلى يوم كامل. واستعانوا لتحقيق أغراضهم بالذبذبات اللاسلكية.
وتتلخص هذه الطريقة في وعاء مفرغ من الهواء تثبت فيه دورات تلف بسرعة 3000 لفة في الدقيقة وتعمل الأحزمة المعدنية بين الدوارات كصفائح كهربائية. وبهذا تيسر إغلاء العقار في درجة 50 فهرنهيت بغير أن يصيبه أي تلف.
ومن تجار بتجفيفه السابقة استخدام الجليد في أوان مفرغة من الهواء.
معالجة الأسنان بمياه الشرب
يتجه بعض العلماء الآن إلى علاج أمراض الأسنان بالجملة وذلك بإضافة مادة الفلورين إلى مياه الشرب. فقد اجتمع أخيراً في معهد نيويورك لفيف من الأخصائيين في أمراض الأسنان والصحة العامة ودرسوا النتائج التي توصل إليها بعضهم. وأخيراً قرر خمسة منهم أن استعمال الفلورين في مياه الشرب كمادة مانعة لتلف الأسنان ووقاية الصحة يحتاج إلى تجارب قد تمتد إلى عشر سنوات أخرى
ومن النتائج التي توصل إليها الطب الحديث ما قاله الدكتور فرندلي دين عن تجربة أجريت عن 7 ، 257 تلميذاً تتراوح أعمارهم بين 12 و 14 سنة عاشوا طول حياتهم يشربون من المياه المكررة العادية في المدن ثم أضيف إلى المياه التي يشربونها نسبة ضئيلة من الفلورين قيمتها واحد إلى مليون فقلت نسبة إصابتهم بأمراض الأسنان إلى ثلث نسبة الإصابات في جماعة تماثلهم في العدد وتشرب الماء المكرر العادي.
وقال الدكتور والاس أومسترونج إن الفحص الطبيعي للأسنان دل على أن السليمة منها تحتوي على كمية أكبر من الفلورين عن الأسنان التالفة. وأيده الدكتور بازيل ببلى فقال إنه أجرى ست دراسات على تغطية الأسنان بأحد مركبات الفلورين فقلت نسبة التلف في الأسنان من 26 إلى 50 % بعد استعمال الفلورين من مرتين إلى 15 مرة.
وقال الدكتور فردريك ماكاي إن إضافة الفلورين إلى مياه الشرب يقلل تلف الأسنان في الأمة إلى نصفها.
وتجري الآن في كنجستون ونيوبوروف في ولاية نيويورك تجربة واسعة النطاق ينتظر أن
تمتد إلى عشر سنوات وهدفها اختيار قدرة الفلورين في مياه الشرب على منع فساد الأسنان.
وتحتوي مياه نيوبوروف في مياهها العادية على فلورين نسبته واحد من المليون. ويضاف إليها مقادير أخرى منه حتى تصل نسبه إلى واحد في المليون. أما مياه كنجستون فلا تحتوي على فلورين على الإطلاق؛ وعلى أساس إصابات الأسنان بالأمراض في البقعتين ودراستها دراسة طبية يستطيع العلماء تقدير فائدة الفلورين في الماء أو ضرره. على أن الإحصائية التي يريد العلماء الأخذ بها هي نتيجة السنة الثامنة عندما تكون الأمراض القديمة قد أزيلت والأسنان أخذت من مناعة الفلورين.
أبناء العظماء ومستقبلهم
قلما يصل الأبناء إلى أوج الشهرة التي وصل إليها آباؤهم. وذلك تبعاً لتقرير كتبه البروفيسور جوزيف شنيدر في مجلة الأبحاث الاجتماعية الأميركية فقال فيه أن أبناء الوزارة نادراً ما يصبحون وزراء معروفين وكذلك أبناء الأطباء ورجال الدين.
وقد قارن الباحث بين ميول الشعبين الإنجليزي والأميركي معتمداً على إحصائيات استقاها من عام 1600 إلى الآن فوجد أن المشهورين من الأميركيين كانوا يخرجون غالباً من الطبقة المغمورة ويصلحون إلى أوج رفعتهم عن طريق الأعمال أو الفلاحة أو السياسة أو الصحافة أو الأعمال الفنية.
ووصل أكثر مشاهير الإنجليز إلى مراكزهم عن طريق الدين وكتابة سير الأفراد أو الرسائل الأدبية، وقال أن 45 في المائة من مشاهير الرجال في الولايات المتحدة زاولوا أعمالاً ما كان يظن أنها ترفع من شأنهم. أما أبناء الطبقة المنتخبة في الولايات المتحدة فقد اكتسبوا الشهرة عن طريق السياسة أو الحرب بينما وصل أربعة أخماس أبناء الفنانين إلى مراكزهم الرفيعة عن طريق الفن وكتابة الرسائل.
فوزي الشتوي
رسالة الفن
6 -
الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
إن ما يعيب بعض المصورين المعاصرين عندما يريدون تصوير خيول تعدو أنهم يمثلونها في أوضاع أخذت في لمح البصر.
انتُقِد جريكول لأنه صور بلوحته الموجودة باللوفر وهي (سباق إبسوم) خيوله تعدو وقد تمطَّطتْ جسومها حتى لتكاد تلامس بطونها الأرض، رامية بقوائمها الأمامية إلى قدام وبالخلفية إلى وراء في نفس اللحظة. ويقال إن لوح الفوتغرافية الحساس لا يعطي مثل هذه النتيجة. وحقيقة ما نرى في التصوير الفوتغرافي هي أنه عندما تكون قوائم الحصان الأمامية إلى قدام يكون للقوائم الخلفية التي دفعت الجسم إلى الأمام بطبيعة وضعها وقت للتجمع تحت الجسم لإعادة الكرة، فتكون بذلك القوائم الأربع متجمعة مع بعضها في الهواء في وقت معين، ويبدو الحيوان كأنه يقفز من على الأرض وكأنه بغير حَرَاك وهو في ذلك الوضع.
(وأعتقد الآن أن جريكوك هو المصيب وأن العدسة هي المخطئة لأن خيوله تظهر كأنها تعدو. ويتبين ذلك عندما يتتبع الناظر اللوحة من اليمين إلى الشمال، فيرى أول ما يرى القوائم الخلفية تنجز ذلك الجهد الذي تنشأ عنه القوة الدافعة العامة، ثم يرى بقية الجسم ينبسط ويتمطط، وأخيراً يرى القائمتين الأماميتين ممدودتين وهما تهويان إلى الأرض. وهذا خطأ في الواقع، لأن هذه الحركات لا يمكن أن تحدث في وقد واحد، ولكنه صواب إذا ما لوحظت الأجزاء على التتابع، وهذا الصدق وحده هو الذي يعنينا لأنه هو الذي نراه ونتأثر به.
لاحظ إلى ذلك أن المصورين والمثالين الذين عندما يؤلفون بين الأوجه المختلفة لحركة ما في صورة أو تمثال معين لا ينزلون في ذلك على حكم العقل أو المهارة الفنية ولكنهم يعبرون بكل بساطة عما يشعرون به فترى عقولهم وأيديهم كأنما تنساق في اتجاه الحركة
فيعبرون عن تطورها بالغريزة.
ونرى هنا - كما هو الحال في كل ميادين الفن - أن الإخلاص وحده هو القاعدة الوحيدة)
صمتُّ برهة طويلة أفكر فيما قاله لي إلى أن قطع صمتي بسؤاله: (ألم أٌقنعك؟)
نعم، بالطبع. ولكني عندما أتأمل تلك المعجزة، معجزة التصوير أو النحت التي يمكنها أن تجمع في جسم واحد حركة تدوم عدة لحظات، أقول عندما أتأمل ذلك أسائل نفسي إلى أي حد يتسنى للتصوير والنحت أن ينافسا الأدب - والمسرح بوجه خاص - في تسجيل الحركة. ولا يسعني إلا أن أقول في صراحة إنني أميل إلى الاعتقاد أن مثل هذا التنافس لا يمكن أن يجري لشوط بعيد، وأن رجال الريشة والإزميل لأشد قصوراً في هذا الميدان من رجال القلم، فقال رودان:
ليس قصورنا كبيراً كما تظن. وإذا كان باستطاعة التصوير والنحت أن يهبا الأجسام الحركة ففي مقدورهما أن يأتيا بأكثر من ذلك؛ بل ويستطيعان في بعض الأحوال أن يجاريا الفن الدراما طيقي في إظهار عدة مناظر متتابعة في نفس اللوحة أو مجموعة التماثيل) فأجبته:
(نعم. ولكنهم يدلسون بعض الشيء. لأنني أظنك تتكلم عن تلك الصورة القديمة التي تعرض تاريخا شاملاً لشخص معين فتظهره عدة مرات في أوضاع مختلفة على نفس اللوحة. فمثلاً توجد بمتحف اللوفر لوحة زيتية إيطاليا صغيرة يرجع تاريخها إلى القرن الخامس عشر تقص علينا تاريخ أوربا على هذه الوتيرة. فترى فيها أول ما ترى الأميرة الصغيرة تلعب في حقل نضير مع أترابها للواتي يعاونها على امتطاء صهوة الثور (جوبيتر)، ثم نراها بعد ذلك مروعة وقد اختطفها الإله وغاص بها في لجج اليم). فأجاب رودان:
(هذه طريقة بدائية على الرغم من أن بعض الفحول من الفنانين مارسوها. فمثلا عالج فيرونيز قصة أوروبا هذه بنفس الطريقة كما يتضح من لوحته الموجودة بقصر الدوقية بمدينة البندقية. ولكن على الرغم من هذا النقص فلوحة كالياري معجبة. وأنا لن اشر بشيء إلى مثل تلك الطرق الصبيانية لأني لا أوافق عليها كما يمكنك أن تدرك ذلك. ولكي أجعل نفسي أكثر جلاء ووضوحا يتحتم علي أن أسألك أولاً عما إذا كنت تذكر لوحة واتو
المسماة
(ركوب السفينة إلى جزيرة سايتيرا) فقلت:
(إني لأذكرها تمتمت كما لو كانت نصب عيني الآن).
(إذا فسوف لا أجد صعوبة في الإفصاح عن نفسي. فإذا تذكرت رأيت أن الحركة في تلك اللوحة الفذة تبدأ في الأمام إلى اليمين وتنتهي في الخلف إلى اليسار. وتلاحظ أول ما تلاحظ في مقدم اللوحة شخصين هما سيدة فاتنة وعشيقها المتيم جالسين تحت الظلال الوارفة قريبين من تمثال نصفي لساببريس منمق بأضافير الورد وإكليله، يشتمل الرجل بعباء مطرزة عليها قلب نفذ فيه سهم. وفي ذلك إشارة لطيفة إلى ما سوف يتجشمه في هذه المرحلة الغرامية. تراه راكعاً بجانبها يستميلها ويستعطفها في حرارة ولكنها تقابل ضراعاته بفتور ربما كان مصطنعاً، وتتظاهر كما لو كانت متشاغلة عنه بمعاينة التهاويل التي على مروحتها. ويجلس بالقرب كيوبيد صغير فوق كنانته وقد تعرى أكثره. يرى أن المرأة قد أمعنت في التدلل والتمنع فيجاذبها قميصها ليستلين فؤادها وإلى هنا لا تزال المرحلة الغرامية في مبتداها. هذا هو المشهد الأول. وهاك الثاني: ترى إلى اليسار من ذلك زوجاً آخر. أما السيدة هنا فتقبل يد حبيبها الذي يعاونها على النهوض، وقد أدارت ظهرها إلينا وتدلت من رأسها ذؤابة من تلك الذوائب الشقراء الذهبية التي يصورها واتو برشاقة ساحرة. أما المشهد الثالث فيقع إلى ابعد من ذلك بقليل. ففيه يضع المحب ذراعه حول خصر مالكة لبه ليجذبها إليه ويسير بها فتتلفت إلى قرنائها اللذين يحيرها تخلفهم، ولكنها لا تلبث أن تنقاد في غير ما تأب.
والآن ينزل المحبون إلى الشاطئ ويندفع الجميع إلى السفينة ضاحكين ولم يعد الرجال بحاجة إلى التوسل والتضرع، وقد تشبثت السيدات بأذرعهم.
وأخيراً يعاون المحبون فاتناتهم على الاستواء على ظهر السفينة الصغيرة التي تتأرجح على صفحة الماء كأنها الحلم الذهبي وقد زينت بالأزهار وشارات خافقات من الحرير الأحمر. أما الملاحون فمكبون على مجاديفهم وهم على وشك التجديف وثمة آلهة الحب الصغيرة تتقدمهم محمولات على أجنحة النسيم كأنما تقود المحبين إلى الجزيرة اللازوردية التي تلوح في الأفق).
(ألاحظ يا أستاذ أنك تحب هذه اللوحة لأنك تذكر كل دقائقها).
(أنها لمتعة لا يستطيع المرء أن ينساها. ولكن هل لاحظت تطورات هذا التمثيل الصامت؟ خبرني بربك الآن: أيها أصدق في تسجيل الحركات أهو المسرح أم التصوير؟ حقاً إنه ليصعب على المرء أن يقطع بقول في هذا الأمر. فها أنت ترى أن الفنان لا يستطيع - إذا ما أراد - أن يصور الحركات العارضة فقط بل ويمثل فصلاً طويلاً على حد تعبير الفن الدراماطيقي.
وليس عليه لإدراك سوى أن يضع أشخاصه بحيث يرى الناظر أول ما يرى منها أولئك الذين يبدءون العمل، ثم الذين يمضون به ويستمرون فيه. وأخيراً يرى أولئك الذين ينهون ذلك العمل. أتريد مثلاً في النحت؟) وعند ذلك فتح كتاباً أخذ بحث فيه هنيهة ثم سحب منه صورة فوتوغرافية وقال:
(هاك المارسليز الذي نحته رود ليوضع في جانب من نصب (قوس النصر)، ترى (الحرية وقد لبست درعاً نحاسية تشق الهواء بأجنحة منتشرة وترعد في صوت هائل:(إلى السلاح أيها المواطنون). ترفع يدها اليسرى عالية تستحث بها الأبطال من حولها، وتمسك بالأخرى سيفاً تصوبه نحو الأعداء. إنها بلا ريب أول ما تشاهد إذ أنها تسود المجموعة كلها. أما ساقاها المنفرجتان اللتان تجعلانها تبدو كأنها تجري فتخالهما نغمة أضيفت إلى هذه الأنشودة الحربية السامية. وكأني بصوتها القوي المنبعث من فمها الحجري يشق صماخ الأذن، فما لك من سماع صوتها من بد، ولم تكد ترسل دعوتها إلى الحرب حتى تدافعت الأبطال إلى الأمام. فهذا غوطي كأن شعره لبدة الأسد يلوح بخوذته عالياً كأنه يحي الآلهة وقد وقف ابنه الفتى الصغير إلى جانبه ممسكاً بقبضة سيفه يستعطفه ليرافقه إلى ساحة الوغى وقد بدا عليه كأنه يقول:(أنا قوى كما يا أبتاه، إنني رجل، أريد أن أذهب معك، فيقول له أبوه وقد حدجه بنظرة عطف وخيلاء: (تعال).
أما المشهد الثالث فيتكون من محارب قديم يترنح تحت أعباء عتاده ويجهد للحاق بهم، إذ يتحتم على كل من يشعر من نفسه القوة أن يذهب إلى ميدان القتال. ثم هذا رجل همُّ قوست السنون ظهره يتبع الجند بأدعيته وصلواته، وتدل إشارة يده على أنه يعيد عليهم نصائحه التي استخلصها لهم من تجاريبه الخاصة.
ويتكون المشهد الرابع من قواس يثنى ظهره المتعضل ليشد عليه سلاحه، ومن بوق يرسل نداءه المثير إلى الجحافل ومن بنود تخفق ورماح مشرعة إلى الأمام. لقد صدر الأمر وابتدأ الكفاح فعلا.
ونرى هنا أيضاً رواية مثلت أمام أعيننا؛ ولكن بينما لوحة (ركوب السفينة إلى سايتيريا) تذكر المرء بهزليات ماريفو فإن المارسلييز يذكره بمآسي كورنيل وإني لا أدري أي الاثنتين أفضل، إذ أرى في إحداهما من الروعة والعبقرية بقدر ما أراه في الأخرى) ثم قال بعد أن حدجني بنظرة تحد ما كرة:
(أعتقد أنك سوف لا تقول بعد الآن بأن لا قبل للتصوير والنحت بمنافسة المسرح) فقلت له: (طبعاً كلا).
وفي تلك اللحظة لمحت في الكتاب الذي أعاد صورة المارسلييز صورة شمسية أخرى لتمثاله البديع المسمى (رهائن كاليه) ثم قلت:
(ولكيما أبرهن لك على أني أفدت من تعاليمك دعني أطبقها على عمل من أجل أعمالك؛ لأني أرى أنك أنت نفسك تطبق تلك القواعد التي كشف لي عنها. فهنا في تمثالك رهائن كاليه، أستطيع أن أرى منظراً متتابعاً كالذي ذكرت من أعمال واتو وروود. فالشخص الذي في الوسط هو أول ما يسترعي النظر. وما من إنسان يشك في أنه (يوستاك سنت بيير). إنه يحني رأسه الجليل يكلله شعر أشيب طويل. ليس متردداً ولا خائفاً، يتقدم بخطى ثابتة وقد أسبلت عيناه في صلاة صامتة. وإن كان يترنح قليلاً فإنما ذلك من جراء الشدائد التي عاناها أثناء الحصار الطويل. إنه هو الذي يلهم الآخرين. إنه أول من تقدم من الرهائن الستة الذين يتوقف على إعدامهم إنقاذ أبناء بلدتهم من المذبحة المنتظرة، وذلك حسبما شرط الغزاة. أما المواطن الذي إلى جانبه فليس أقل منه شجاعة. ومع أنه لا يجزع لمصيره الخاص إلا أن شروط تسليم المدينة يسبب له ألماً ممضاً. وفي حين يقبض بيده المفتاح الذي يتحتم عليه تسليمه للإنجليز نراه يصلب كل جسمه كيما يجد من نفسه القوة على احتمال هذا الذل المحتوم. وإلى جانب هذين. وفي مستواهما، تجد رجلا أقل شجاعة منهما لأنه يسرع في مشيته فتقول عنه: أما وقد وطن نفسه على التضحية فإنه يتوق إلى تقصير الوقت الذي بقي على استشهاده.
ومن وراء هؤلاء يأتي رهينة آخر ممسكا رأسه بيديه ومسلماً نفسه ليأس عنيف، ربما كان يفكر في زوجه وأولاده في أحبائه أو فيمن سيشقي برزئه من مماته.
وثم رهينة خامس يحرك يده أمام عينية كأنما يحاول بذلك أن يبدد كابوساً مرعباً أناخ على روحه. . . إنه يتعثر، ولا غرو فقد روَّعه الموت.
وأخيراً نرى الرهينة السادس وهو أصغرهم جميعاً. تراه كأنه متردد غير مستقر، يقبض أسارير وجهه همٌ ناصب. أهو طيف حبيبته الذي يستحوذ على أفكاره؟ ولكن رفقاءه يتقدمون وها هو ذا يتبعهم ماذا عنقه كما لو يسلمه إلى سيف القدر.
ومع أن هؤلاء الثلاثة أقل شجاعة من الثلاثة الأول فإن نصيبهم من التقدير والإعجاب لا يقل بحال من الأحوال عنهم، لأن إخلاصهم أدعى إلى التقدير والثناء. ويكلفهم أكثر مما يكلف الآخرين.
وهكذا يتسنى للمرء ان يتابع بدقه تمثيلياً في رهائن كاليه، ذلك التمثيل الذي هو نتاج شعور وتأثر كل فرد منهم بنفوذ يوستاك دي سنت بيير ومقدار إقتدائه به والنسخ على منواله فيراهم المرء وقد اسلموا قيادهم إليه رويدا قرر الواحد تلو الآخر أن يتقدم معه إلى الموت ليدفع ثمن مدينتهم.
ولا ريب أن فيما ذكرت أعظم إثبات وتعضيد لرأيك عن قيمة الحركة والمناظر في الفن) فأجاب رودان:
لو لم يكن فيما تراه في عملي شيء من المغالاة لجزمت بأنك أدركت ما هدفت إليه تمام الإدراك. لقد قدرت (رهائني) كل التقدير ورتبتهم بحق تبعاً لمقدار بطولتها. ولكيما أظهر هذه الحال بأجلى مظهر أبديت رغبتي التي ربما تعلمها بأن تثبت تماثيلي الواحد وراء الآخر على بلاط الميدان قبالة سراي بلدية كاليه لتكون أشبه بحلقة حية من الآلام والتضحية. لو أنها وضعت كذلك لبدت كأنها تخطو من دار البلدية إلى معسكر أدوار الثالث، ويشعر سكان كاليه اليوم عندما يخالطونها في غدوهم ورواحهم شعوراً عميقاً بالتضامن أو الاتحاد التقليدي الذي يربطهم بأولئك الأبطال، ولكان أثر ذلك بالغا فيما أعتقد. ولكنهم رفضوا مقترحي وأصروا على وضع التماثيل على قاعدة قبيحة بقدر ما هي غير لازمة. إنهم كانوا مخطئين، وأنا متأكد مما أقول). فقلت (وا أسفاه. كأنما قدر على الفنان
دواما أن يجاري الأفكار السائدة. وما أسعده لو استطاع أن يحقق طرفاً من أحلامه الجميلة).
دكتور محمد بهجت
من وحي إنجلترة
البانوراما
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
(البانوراما هي هضبة عالية بمدينة إكستر تشرف على السهول والأودية الممتدة حول هذه المدينة التي تعد عروس المدن في جنوب غربي إنجلترة. وقف الشاعر عليها وأرسل الطرف بعيداً بعيداً ثم نظم هذه الأبيات).
هذا الفضاءُ أَمام عينكِ فانظري
…
تجديه ملَء السَّمع ملَء المنظر
إني أذُوقُ به لذاذاتِ الهوى
…
وأشمٌ نفحَ عبيرِهِ المتعطِّرِ
حيثُ الربيعُ هناك في ريْعانه
…
يختالُ في الُبرد النضير الأخضر
حلَّنت بشاشُته بكل ثنيَّة
…
وبدتْ نضارته لكل مصورِّ
صُورٌ جَلاها الحسنُ فهي مُشاعة
…
تهبٌ لعبَّادِ الجمالِ الأطهر
قد عفتُ ثرثرةَ المدينة فاسمعي
…
همس النسيم يمرُّ غير مُثرثر!!
وسئمتُ أكدارَ الحياةِ وهاهُنا
…
ماءُ الحياةِ الصفو لم يتكدَّرِ
وبَرِمْتُ بالأنفاس وهي حبيسةٌ
…
في قلبيَ المتأجج المتسِّعرِ
ووجدتُ أعباَء الحياةِ ثقيلةً
…
فأردتُ أطرحها بهذا المشعَرِ!
وهناك في النَّشَوات غبتُ كأنني
…
سكرانُ من خَمرٍ ولو لم أسْكَرِ
وافقتُ والدنيا أمامي جَنَّةً
…
حُفتْ بكل محببٍ ومُخَيَّرِ
والجدولُ الوسنان يخطر تحتنا
…
ينسلُّ مثلَ العاشِقِ المتحذَّرِ
وعلى امتداد الطَّرف قريةً
…
قد لفَّها وَرَقُ الربيع بمئزر
ظَهَرتْ على الأفق البعيد وخلفها
…
دنيا مغيَّبة الصُّوى لم تَظْهَر
عجباً يلوحُ لنا القريبُ كواقع
…
ووراءه غيبٌ كسرٍ مُضْمَرِ
مَن لي (بزرقاء اليمامة) علَّنى
…
أَشْتَامُ ما خلف الستار الأكبر؟؟
تمثلوا كلهم في ذلك الرجل
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
(كانت الحفلة التكريمية التي أقامها الدستوريون من أبناء دار العلوم في دار الأوبرا الملكية بمناسبة الأنعام الملكي على صاحب المعالي الوزير الأديب إبراهيم دسوقي أباظه باشا مظهراً من مظاهر الأدب الرائع تجلى فيما ألقى الخطباء وأنشد الشعراء من أفانين البلاغة العالية التي استمدت صورها من فن المادحين، وفكرها من أخلاق الممدوح. وإنا ننشر هذه القصيدة تمثيلاً لما قيل في هذا الحفل الكريم، ومشاركة من الرسالة في تكريم هذا الخلق العظيم)
مجدٌ أهل على أمجادك الأَولِ
…
ممن نفدَّيه بالأرواح والمقل
(فاروق) أكرم من يجزي على عمل
…
للساهرين على الإخلاص في العمل
الصامتين وأيديهم محدَّتةٌ
…
والعازفين عن التهريج والدجَل
السائرين على الأشواك لن يهنوا
…
حتى يسير الحمى في اليانع الخضِل
الذاهبين مثالا في الفناء له
…
حتى غدوا في التفاني مضرب المثل
الخائضين الوغى ناراً مؤججة
…
فما استكانوا وما ذلوا على وجل
القاذفين بها أرواحهم شعلاً
…
أذكت لظاها، فكانت أصدق الشعل
الثائرين على العدوان مجترئاً
…
والصامدين له في الحادث الجلل
الصارخين وقد دوّى الحديد ضُحى
…
والشُوبَكِيُّونَ اشلاءٌ على السبل
الغاضبين أسوداً في عرينهمُ
…
وقد عوى الذئب محموماً على الحمل
أولئك الصفوةُ الأخبار أجمعهم
…
تمثّلوا كلهم في (ذلك الرجل)
هو الدسوقي وفي يمناه صفحته
…
بيضاءُ: تقرأ فيها سيرة البطل
يا سيدي: رتبةُ الفاروق مفخرةٌ
…
فانعم بها في هوى (الفاروق) واحتفل
تهيبتك فلمْ تهمم مبكرة
…
وأين همتها من قمة الجبل؟
سعت إليك فجال الشعر في خلدي
…
والشعر لولاك لم يخطر ولم يجل
يا سيدي في يدي قيثارة عجب
…
شدت بمجدك في حب وفي غزل
تهز أوتارها نشوي فمن ثمل
…
يميل من فرط نشواه على ثمل
سكبتُ ألحانها من (خافقي) قُبلاً
…
على يديك فكانت أعمق القبل
ألحانها من كريم الشدو ينفحه
…
عهدٌ إذا حالت الأيامٌ لم يحل
يا طالما صدحت في بيتكم وشدت
…
وطالما كنت ترعاها فتسمع لي
أغلو بشعريَ مزهواً فتوسع لي
…
صدراً لمصرَ بِه دنيا من الأمل
خلعتُ من حلل الأشعار أوسمة
…
عليه أخلد ما يعلوه من حُلل
واليوم ذاك مجالي من يزاحمني
…
ومن يقول إذا (حسانُ) لم يقل
لي في (غزالة) ناديك الذي انفسخت
…
أرجاؤه لكريم الشعر والجدل
يظلله منك مجدٌ دون روعته
…
مجد الرشيد ومجد الأعصر الأول
فعشتَ للفن ترعاه وتكلاه. . .
…
يا مجديَ الضخم في حلي ومرتحلي
وعشتَ للحق ترعى الحق واطرادت
…
خُطاك للنيل في منجًي من الزلل
لما تحايلت الأيام تخدعه
…
ألقيتَ درساً عليها بارع الحيل
سعيتَ للهدف العالي ففزت به
…
ومال غيرك للدنيا فلم تمل
الأبد الصغير
للمرحوم أبي القاسم الشابي
يا قلب! كم فيك من دنيا محجبة
…
كأنها حين يبدو فجرها (إرَم)
يا قلب! كم فيك من كون قد اتقدت
…
فيه الشموس وعاشت فوقه الأمم
يا قلب! كم فيك من أفق تنمقه
…
كواكب تتجلى ثم تنعدم
يا قلب! كم فيك من قبر قد انطفأت
…
فيه الحياة وضجت تحته الرمم
يا قلب! كم فيك من غاب ومن جبل
…
تدوي به الريح أو تسمو به القمم
يا قلب! كم فيك من كهف قد انبجست
…
من الجدول تجري مالها لجم
تمشي. . . فتحمل غصناً مزهراً نضراً
…
أو وردة لم تشوه حسنها قَدم
أو نحلة جرها التيار مندفعاً
…
إلى البحار تغني فوقها الديم
أو طائراً ساحراً ميتاً قد انفجرت
…
في مقلتيه جراح جمة ودم
يا قلب! إنك كون مدهش عجب
…
إن تسأل الناس عن آفاته يجِموا
كأنك الأبد المجهول قد عجزت
…
عنك النهي واكفهرت حولك الظلم
يا قلب! كم من مسرات وأخيلة
…
ولذة يتحامى ظلها الألم
عنت لفجرك صوتاً حالما فرحاً
…
نشوان ثم توارت وانقضى النغم
وكم رأى ليلك الأشباح هائمة
…
مذعورة تتهاوى حولها الرجم
ورفرف الألم الدامي بأجنحة
…
من اللهيب وأنَّ الحزن والندم
وكم مشت فوقك الدنيا بأجمعها
…
حتى توارت وسار الموت والعدم
وشيدت حولك الأيام أبنية
…
من الأناشيد تبني ثم تنهدم
تمضي الحياة بماضيها وحاضرها
…
وتذهب الشمس والشطآن والقمم
وأنت أنت الخضم الرحب: لا فرح
…
يبقى على سطحك الطاغي ولا ألم
يا قلب! كم ذا تمليت الحياة وكم
…
راقصتها مرحاً ما مسك السأم
وكم توشحت من ليل ومن شفق
…
ومن صباح توشى ذيله السُّدم
وكم نسجت من الأحلام أردية
…
قد مزقها الليالي وهي تبتسم
وكم ضفرت أكاليلاً موردة
…
طارت بها زعزع تدوي وتحتدم
وكم رسمت رسوماً لا تشابهها
…
هذى العوالم والأحلام والنظم
كأنها ظلل الفردوس حافلة
…
بالحور تلاشت واختفى الحلم
تبلو الحياة فتليها وتخلعها
…
وتستجد حياة ما لها قدم
وأنت أنت: شباب خالد نضر
…
مثل الطبيعة لا شيب ولا هرم
البريد الأدبي
الماضي الخالد
سيدي الأستاذ الجليل عباس محمود العقاد
أطلعت أخيراً على أحد المنشورات البريطانية عن تاريخ اهتمام الإنكليز بالعرب واللغة العربية، وقد جاء في ذلك المنشور ما يأتي:
(من بين أولئك الذين تأثراً عميقاً بالعلوم العربية الفيلسوف العظيم (بيكون). ومما يستحق الذكر أن أول كتاب طبع غب إنكلترا، وهو كتاب كلمات الفلاسفة وحكمهم كان مؤلفاً على نسق كتاب عربي أسمه (مختار الحكم ومحاسن الكلم) الذي ألفه عام ألف وثلاثمائة وخمسين بعد الهجرة (الأمير المصري مبشر بن فاتك)، ولم النص العربي لهذا الكتاب، ولكن له نسخة مخطوطة في هولاندا، وقد ترجم هذا الكتاب إلى معظم اللغات الأوربية، وقد كان في وقت من الأوقات صاحب شهرة عظيمة في الشرق).
فهل قرأت يا سيدي العزيز هذا الكتاب في الإنجليزية؟ وإذا كان الأمر كذلك فما رسالته؟ وكيف انتقلت النسخة المخطوطة إلى هولاندا؟ وفي أي عصر كان هذا الانتقال؟ وإذا كان (بيكون) قد تأثر بهذا الكتاب فما مبلغ تأثره وما نتيجة ذلك؟ وإذا كان هذا الكتاب قد ترجم إلى معظم اللغات الأوربية فأين النص العربي الآن؟
ومتى نعرف أن (سير وليم جونس) ترجم المعلقات السبع، وأن (هندلي) ترجم المتنبي، وأن (جورج سيل) ترجم القرآن الكريم، وأن (بوكوك) ترجم لامية الطغرائي ومختصر الدول، وأن (أوكلي) ترجم رسالة حي بن يقظان لابن طفيل؟! وإلى متى نظل في مهاتراتنا حول قضية القديم والحديث، وهذا عالم إنجليزي لا يحضرني أسمه لابن أخيه:(إنني وقائدي ودليلي العقل قد تعلمت شيئاً من أساتذتي العرب، ولكنك يا بني قد تعلمت شيئاً مختلفاً عنه، فلقد بهرتك مظاهر السلطة فوضعت في رأسك لجاماً تقاد به، وكما أن الحيوانات تقاد من مقودها حيث يشاء الإنسان دون أن يدري لِمَ تُقاد وإلى أين. . كذلك كثير منكم يوسف في أغلال البساطة ولا يدري أين يُذهب به) وأقول إن أولئك الذين يعرفون ما كتبه العرب يدركون لأول وهلة مصادر الدرس الذي تعلمه هذا الفيلسوف، وأن أولئك الذين تعلموا علوم العرب ودرسوا لغتهم ليدركون كل الإدراك معنى هذا الدرس.
ومن يك ذا فم مرّ مريض
…
يجد مراًّ به الماء الزلالا
وإن في هذا لبلاغاً لقوم يعقلون.
عبد القادر محمود
هل الموسيقى لغة؟
حاول الأديب سهيل إدريس تفنيد بعض آراء الأستاذ على الطنطاوي عن الموسيقى فأعوزه التوفيق في إيضاح ما تعرض له إيضاحاً علمياً. وأمامي الآن كتاب صغير عن تأريخ الموسيقى وضعه الأستاذ و. ج. تيرنر في سنة 1930 وفرغت أنا والفنان شكيب من نقله إلى العربية في خلال السنة الماضية. ففي الفصل الأول من هذا الكتاب تعرض المؤلف للبرهنة على أن الموسيقى لغة، وأود أن أجمل فيما يلي بعض ما ذكره، وهي كفيلة بوضع الأمور في نصابها.
ما هي الموسيقى؟ قال البعض: إنها الفن الذي يؤلف بين أصوات مطربة. وظاهر أن هذا التعريف لا يشمل أصول الموسيقى الروحية أو الذهنية، إلى غير ذلك من مختلف التعاريف التي ينقصها الشمول والتحديد والتي لا ترتفع لمستوى ذلك التعريف الذي وضعه بتهوفن معرفاً به الموسيقى، إذ قال:(إن الموسيقى هي الحلقة التي تربط حياة الحس بحياة الروح) - أي الحياة الباطنة بالحياة الظاهرة. والواقع أن الموسيقى لغة يمكن أن تعبر عما يخالج النفس الإنسانية من شعور - سواء أكان حسياً بسيطاً أم روحياً مركباً.
ومثل الموسيقى مثل بقية الفنون في قدرتها على التقليد والمحاكاة - فكما أن الشاعر قادر على محاكاة الأشياء كالكر والفر في ميدان المعركة بترتيبه للألفاظ ترتيباً فنياً خالصاً، كذلك الموسيقى فإنه قادر على الوصف قدره لا حد لها - إما بالمحاكاة المباشرة أو عن طريق التداعي، وذلك بالنغم.
والنغم هو أداة الموسيقى كما أن اللفظ هو أداة الأديب واللون أداة الرسم. ويرتبط اللون واللفظ بأشياء خارجية تسبب تداعي مختلف المعاني، ويرجع هذا لأثر البيئة. فإذا كتب كاتب:(شجرة) فإن القارئ قد يتصور نخلة تمر أو شجرة بلوط أو ما شاكل ذلك، وإذا حاول رسام أن يخرج للحياة فكرة وشعوره الباطني عن طريق اللون فإن الرسم قد يخرج
مختلف الصور الذهنية عند مختلف الأفراد. هذه هي المعضلة الأساسية التي تقابل المترجم والرسم: عليه أن يتخير اللفظ واللون ليخرج صورة حية قمينة بالخلود، ولا يتأتى هذا إلا للعبقري.
أما الموسيقي فهي خلو من هذه الصعوبات؛ لأن النغم واحد عند الجميع، إذ هو مستمد من الروح الإنسانية، أو بعبارة أخرى، لأنه غير مرتبط بعوامل خارجية. والموسيقى قبل هذا كله لا ترتبط بالعالم الظاهر فيما عدا تقليدها المباشر لعدد قليل من الأصوات الطبيعية التي تخلقها الطبيعة، مع ملاحظة أن الأصوات جد نادرة في الطبيعة وأن عالمنا الذي نعيش فيه عالم صامت إلى أبعد الحدود، ويمكن التدليل على صحة هذا بأن يتخيل القارئ أنه يعيش وحيداً في الريف أو في الصحراء بعيداً عن الناس وعن ضوضاء المدينة، حيث السكون شامل مطلق.
يتساوى هذا السكون في نظر الأفراد في مختلف بقاع الأرض لأنه غير مرتبط بماديات الحياة. هذا السكون هو الذي وهب الموسيقى ذاتيتها الفريدة، فتعبير الموسيقى عن فكرة وشعوره عن طريق النغم مستمد من صميم العالم الباطن للروح الإنسانية، وهي بهذا وطدت عالميتها وإنسانيتها.
والموسيقى كلغة لا تقدر على ربط معاملات الناس التجارية ولكنها قادرة على التعبير عما يختلج في قلوبنا من عواطف وما يمر في عقولنا من خيالات - كل هذا بأدق وصف، وسهولة أداء وقدرة على التعبير، لأنها أنقى لغة تترجم عن النفس الإنسانية ولأنها تبحث في دنيا الباطن، وليس لها شيء في عالم الظاهر. هي لغة لأنها تنقل للآخرين صورة حية لما بتفاعل في نفس الموسيقىّ من شعور وآمال باطنة هذه الصور هي المظهر الخارجي الذي يفهمه الآخرون بحواسهم. فتعبيرات الموسيقى النفسية هي ألحان موضوعة في نغم موسيقى، والنفس الإنسانية واحدة في الجوهر وإن اختلفت في المظهر، وعلى هذا فالتعبيرات الموسيقية واحدة تنبع كلها من نبع واحد هو النفس الإنسانية وإن اختلفت في الشكل الخارجي.
هذا مجمل لرأي الأستاذ تيرنر في هذا الموضوع.
محمد التوني
المدرس بالمعهد البريطاني للعلوم التجارية
مؤتمر إصلاح الأسرة
قررت الجمعية العمومية لرابطة إصلاح الأسرة في اجتماعها السنوي برياسة سعادة محمد علي علوية باشا الدعوة إلى عقد مؤتمر عام لبحث شئون الأسرة يدعي إليه رجال الدين والاجتماع والتربية والمشتغلون بالأبحاث الاجتماعية في مصر والأقطار الشقيقة، وقد شكلت لجنة لتنظيم المؤتمر من حضرات أصحاب العزة:
محمد فتحي بك، عبد الحميد بك عبد الحق، جلال حسين بك، حسن بك فريد، صالح جودي بك، أحمد محمد بك، الدكتور محمد صالح حلمي بك، الدكتور فاطمة فهمي، الأستاذة زينب لبيب المحامية
وتطلب البيانات بهذا المؤتمر من سكرتارية الرابطة 6 شارع محمد صدقي باشا بميدان الفلكي بمصر.
إسماعيل توفيق
القصص
ناظرة المدرسة
لأنطوان تشيكوف
بقلم الأستاذ محمد قطب
في منتصف الساعة التاسعة خرجت العربية من المدينة. وكان الطريق الجبلي جافاً وشمس أبريل الضاحية المشرقة تنشر الدفء والبهجة وإن كان الجليد ما زال باقياً في الحفر وفي ثنايا الغابات، فقد انتهى الشتاء المظلم الطويل ولما يكد، وطلع الربيع فجأة على غير انتظار. ولكن الدفء الجميل ومنظر الغابات الشفافة التي أنعشتها نسمات الربيع الدافئة، والطيور المحلقة في جماعات كبيرة فوق المستنقعات العظيمة التي تبدو كالبحيرات، والسماء الصافية الرائقة التي تبعث الرغبة في الانطلاق، وتخيل لإنسان أن يرتقي إليها صعدا فيوغل أرجائها الفسيحة. . . كل أولئك لم يكن ليبعث معنىً واحداً جديداً في نفس (ماريا فاسيلفينا) التي كانت تجلس في العربة. فهي ناظرة مدرسة منذ ثلاث عشر سنة، ولا يستطيع أحد أن يحصي عدد المرات التي ذهبت فيها إلى المدينة لتقبض راتبها. وسواء كان الوقت ربيعاً كما هو الحال اليوم، أو كان يوم خريف ممطر أو شتاء مظلم، فلا فرق لديها أبداً. وهو إحساس واحد يختلج في نفسها كل مرة: هو التطلع إلى إنهاء هذه الرحلة بأسرع ما يكون.
وخيل إليها أنها تعيش في هذا المكان منذ أجيال طويلة وآماد بعيدة، وخيل إليها أنها تعرف كل صخرة وكل شجرة في الطريق من المدينة إلى المدرسة، لقد كان هنا ماضيها وحاضرها. ولا تستطيع أن تتخيل لها مستقبلاً آخر غير المدرسة والطريق إلى المدينة والعودة إلى المدرسة وهكذا. . . إلى ما شاء الله.
وقد أقلعت عن التفكير في ماضي حياتها قبل أن تصبح ناظرة مدرسة بل كادت تنساه. . . لقد كان لها - ذات يوم - والد ووالدة وكانا يسكنان في موسكو في منزل فخم. ولكن لم يبق في ذاكرتها من هذا كله إلا أشياء غامضة باهتة كطائف الأحلام فقد مات أبوها وهي في العاشرة من عمرها وماتت أمها على أثره. وكان لها أخ ضابط في الجيش وكانا يتراسلان
بين الحين والحين، ولكن أخاها قطع عنها مراسلاته ولم تعد تعلم عنه شيئاً. ولم يبق لها ما يربطها بالماضي البعيد إلا صورة لأمها. . . وحتى هذه قد بهجت معالمها من أثر الرطوبة في المدرسة ولم يبق منها إلا شعر الرأس والحاجبان.
كانت ماريا - في أثناء الطريق - تفكر في مدرستها وفي الامتحان الذي سيقع في القريب وفي البنت والأولاد الأربعة الذين سترسلهم إليه. وبينما هي مسترسلة في أفكار الامتحان أدركها أحد الجيران من كبار الملاك - رجل يدعي هانوف - في عربة تجرها أربعة جياد وكان بعينه الرجل الذي امتحن تلاميذها في العالم الفائت. فلما رآها عرفها وانحنى لها محيياً وهو يقول: (صباح الخير. أنت عائد إلى المدرسة فيما أظن)
كان هانوف هذا في الأربعين من عمره؛ رجلا بارد العاطفة يبدو في وجهه اثر الإجهاد وكان الهرم قد بدأ يدب غليه ولكنه مع ذلك وسيم محبوب من النساء.
وكان يعيش في منزله الكبير بمفرده - ولم يكن موظفاً - وكان الناس يقولون عنه إنه لا يصنع شيئاً في المنزل إلا أن يروح ويجئ في الغرفة وهو يصفر بفمه أو يلعب الشطرنج مع سائق عربته ويقولون كذلك إنه مدمن للشراب، وهذا حق، فقد كانت الأوراق التي أحضرها معه في الامتحان تفوح برائحة الخمور. . . وقد كان في ذلك مرتدياً ملابسه الجديدة وبدا في عيني ماريا وجيهاً جذاباً، وكانت طوال جلستها إلى جانبه في غمرة من الانفعالات والأحاسيس. لقد تعودت أن ترى ممتحنين غلاظاً حفاة، وآخرين معقولين معتدلين، ولكن هذا كان نموذجاً فريداً فلم يكن يدري في أي موضوع يسأل! ولم يكن يعطي التلاميذ أقل من الدرجة النهائية!
قال موجهاً كلامه إلى ماريا فاسيلفينا: (إنني ذاهب لزيارة باكفست ولكني أخبرت أنه ليس في المنزل)
ثم انحرفوا عن الطريق الصاعد في الجبل إلى طريق جانبي يؤدي إلى القرية، وكان هانوف في المقدمة يليه سيميون. وكانت الجياد الأربعة تتحول بسرعة ضئيلة وهي تجر وراءها العربة الثقيلة وسط الأوحال، أما سيميون فقد كان يتأرجح من جانب إلى جانب في الطريق وكثيراً ما كان ينزل من العربة ليساعد حصانه الهزيل
كانت ماريا فاسيلفينا ما تزال تفكر في المدرسة وفيما إذا كانت أسئلة الحساب ستأتي مناسبة
لمستوى التلاميذ أو صعبة على أفهامهم.
وأحست في هذه اللحظة بالغضب والاستياء من رجال المنطقة الذين لم تجد أحداً منهم في اليوم الفائت. ما أبعدهم عن الشعور بمسئولية العمل! لقد مر عامان وهي تطلب تغيير البواب الذي لا يقوم بأداء عمل ما يعاملها معاملة خشنة ويضرب التلاميذ؛ ولكن أحدا لم يعرها التفاتاً. وكان من المتعذر عليها أن تجد حضرة المراقب في مكتبه، فإذا وجدته بعد لأي أجابها والدموع في عينيه إنه لا يجد لحظة فراغ واحدة يبحث فيها الطلب!
أما المفتش فهو يزور المدرسة مرة كل ثلاثة أعوام! ولم يكن يعرف عن طبيعة عمله شيئاً. فقد كان موظفاً في مصلحة الضرائب وحصل على وظيفة التفتيش بطريق الوساطة والاستثناء!
وكان راعي المدرسة مزارعاً يكاد يكون أمياً، وكانت به جلافة وضيق عقل، وكان صديقاً حميماً للبواب يحميه من كل سوء.
فلمن تتقدم بشكواها وقد أوصدت أمامها الأبواب؟
قالت لنفسه وهي تنظر إلى هانوف (إنه حقيقة وسيم)
وزاد الطريق سوءاً. وكانت العجلات تغرق في الماء وتثير رشاشاً حاداً يضربهم في وجوههم. فقال هانوف وهو يضحك: (يا له من طريق!).
وتأملته الناظرة حيناً فلم يستطع أن تدرك لماذا يعيش هذا الرجل العجيب هنا. وكيف يتناسب جاهه ووسامته وابهة منظره مع هذا المكان المظلم القاتم الغارق في الطين؟ ليست له أية مصلحة. في الحياة هنا، وها هو ذا يقود جياده في ذلك الطريق المتعب كما يفعل سيميون ويلاقي ما يلاقيه هذا النصبوعنت. . . لماذا يبقى الإنسان هنا ما دام يستطيع أن يعيش في بطرسبورج أو في مدن القارة الكبرى؟
لقد كان من الواضح أن هانوف لم يكن يحس وطأة هذه الحياة أو يرغب في احسن منها. لقد كان عطوفاً، لينا، ساذخاً، لا يدرك غلطة هذه الحياة؛ كما كان - أثناء الامتحان - لا يعرف موضوعات الامتحان.
وأيقظها سيميون من تفكيرها حين صاح بها (أمسكي بالعربة جيداً) فقد قفزت العربة فجأة وكادت تنقلب وأحست ماريا بشيء ثقيل يقع على قدميها فإذا هو حقيبتها وبداخلها ما
ابتاعته من المدينة في الصباح. كان الطريق يصعد راسياً في الجبل والأوحال تغطيه من كل جانب وكانت الخيل المجهدة تلهث من التعب فنزل هانوف وسار بجانب العربة يمسح عرقه قائلاً (ياله من طريق!) وضحك مرة أخرى وهو يقول. (إنه كفيل بأن يحطم العربة).
فرد سيميون بلهجة أدبي إلى التوقح (إلا أحد يضطرك إلى الركوب في يوم كهذا. كان الأجدر بك أن تبقى في المنزل)
فقال (إنني أضيق بالمنزل يا جدي ولا أحب البقاء فيه)
وكان يبدو بجانب سيميون العجوز رشيقاً متوفزاً ومع ذلك فقد كان في مشيته شيء خفي يكشف عن بيان بدأ يدب فيه الضعف والانحلال. وأحست ماريا بشعور يملؤها بالخوف والعطف على هذا الرجل الذي يسير في طريقه إلى الانحلال لغير ما سبب مفهوم. وخيل إليها أن لو كانت هي زوجته أو أخته لجعلت حياتها كلها وقفاً على إنقاذه مما هو فيه. زوجته! لقد شاءت الظروف أن تجعله يعيش في بيته الفسيح منفردا وتعيش هي هذه القرية اللعينة بمفردها ومع ذلك فإن مجرد التفكير في أن يكون كلاهما بجوار الآخر مساوياً له يبدو أمراً مستحيل الوقوع.
في الحق إن ظروف الحياة وملابسات بني الإنسان قد ركبت تركيباً عجيباً يقف الإنسان أمامه حائراً عاجزاً عن تفهمه فإذا لم يجد له حيلة عاد مثقل الفؤاد.
قالت لنفسها وهي تفكر في ذلك (إنه لمن أخفى الأمور وأصعبها فهما أن يعطي الله هذا الجمال وهذه الرشاقة وتلك العيون الحزينة الجميلة لقوم ضعفاء تعست حظوظهم فلا يصلحون لشيء لماذا. . . لماذا يجعل الله فيهم كل تلك الفتنة الجذابة؟)
قال لها هانوف وهو يستقل العربة (هنا يجب أن أنحفر إلى الشرق. وداعا! أرجو لك كل شيء حسن!)
وعادت تفكر في التلاميذ وفي الامتحان وفي البواب وحين نقلت الريح إلى سمعها صوت العجلات المبتعدة اختلطت أفكارها تلك بأفكار أخرى. وأحست بالشوق إلى التفكير في العين الجميلتين، وفي الحب، وفي السعادة التي لن تكون. . . زوجته؟
لقد كانت تحيا حياة قاسية. الجو بارد في الصباح، ولا أحد يوقد الموقد، وقد اختفى البواب، والتلاميذ يتوافدون بمجرد ظهور الضوء يحملون قطعاً من الثلج والطين ويتصايحون في
ضجة عظيمة. كل شيء متعب مقلق للأعصاب. وكان مسكنها يتكون من غرفة واحدة صغيرة يتبعها المطبخ. وكانت تشعر بالصداع بعد انتهاء العمل ويصيبها الالتهاب بعد كل أكلة. وكان عليها أن تجمع النقود من الأطفال للخشب وللبواب وأن تعطيها لراعي المدرسة ثم ترجوه - وهو ذلك الفلاح الفظ الغليظ - أن يرسل إليها الخشب. وفي الليل كانت تحلم بالامتحان والفلاحين والعواطف الثلجية. . . ما أقسى هذه الحياة التي تسرع بها إلى الهرم وتجعلها تبدو قبيحة محدودبة ثقيلة كأنما خلقت من رصاص.
لقد كانت أبدا خائفة قلقة. وكانت تنتفض واقفة ولا تجسر على الجلوس في حضرة أحد موظفي المراقبة أو راعي المدرسة. وتستعمل العبارات الرسمية والتحيات المبجلة في حديثها معهم.
ولم يكن أحد يظنها جذابة. وكانت حياتها تمر جافة مزعجة بغير عاطفة حية ولا إحساس صداقة ولا معارف يشاركونها بعض هموم الحياة.
ما أعجب حياتها لو وقعت في الحب وهي في حالتها تلك!
(أمسكي جيداً يا ماريا!)
مصعد آخر في الجبل.
لقد أصبحت ماريا ناظرة تحت ضغط الضرورة. ولم تكن تشعر بأي ميل لهذه المهنة. ولم تتجه قط إلى مهنة بعينها ولا كانت تفكر في خدمة ذلك الغرض النبيل: غرض التعليم والتثقيف. وكان يخيل إليها دائماً أن المهم في الأمر كله ليس هو التلاميذ ولا التعليم وإنما هو الامتحان.
ومن أين لها الوقت لتفكير في شرف المهنة وفي خدمة الثقافة؟
إن المدرسين والأطباء ضئال الأجور، بما يرزحون تحته من أعباء مرهقة عنيفة، لا يجدون ما يخفف عنهم، ولا حتى الاعتقاد بأنهم يخدمون فكرة عليا أو يخدمون الناس، ما دامت رؤوسهم دائماً مشغولة بالتفكير في أمر القوت اليومي وفي المرض وفي سوء حالة الموصلات. . .
إنها حياة شاقة مملة، لا يستطيع احتمالها طويلاً إلا (حمير الشغل) من أمثال ماريا فاسيلفينا. أما أولئك المتوفزون الذين تتدفق الحياة في جنوبهم والذين يتحدثون عن شرف
المهنة وعن خدمة الأغراض النبيلة فسرعان ما يدركهم الملل من التدريس فينفضون أيديهم منه.
كان سيميون يجعل باله دائماً إلى اختيار أقصر الطرق وأكثرها استقامة ولكنه كان يجد العراقيل دائماً في الطريق، فهنا أحد الفلاحين لا يسمح له بالمرور، وهناك أرض القسيس لا يخترقها أحد، وفي جهة ثالثة قد اشترى بعضهم قطعة أرض وحفر حولها حفرة فلا سبيل إلى عبورها، وهكذا كان يضطر بين الحين والحين إلى تغيير طريقه ووجهته.
ومروا في أثناء الطريق على قرية (نيز هناي جورود ينشى) فقال سيمون (لقد كانوا يبنون مدرسة هنا أخيراً. وكان هذا فقال سيميون (لقد كانوا يبنون مدرسة هنا أخيراً. وكان هذا عملاً سيئاً جداً!).
فقالت ماريا باستغراب (لماذا؟)
(يقولون إن المراقب أخذ ألف جنيه في جيبه وأخذ راعي المدرسة ألفاً أخرى وأخذ المدرس خمسمائة)
(لقد تكلف المدرسة كلها ألف جنيه. فمن الخطأ يا جدي أن تفتري على الناس مثل هذه الأكاذيب)
لا أدري. . . وإنما أخبرتك بما سمعت من الناس)
ولكن كان من الواضح أن سيميون لم يصدق الناظرة. ولم يكن الفلاحون يصدقونها كذلك. فقد كانوا يعتقدون أنها تأخذ راتباً ضخماً: عشرين روبل (وكان يكفيها خمسة) وأنها كانت تأخذ لنفسها معظم المال الذي تجمعه من التلاميذ باسم الخشب وباسم البواب، وكان راعي المدرسة يعتقد ذلك أيضاً، وكان هو يدوره يجعل لنفسه ربحاً من المال المجموع للخشب، وكان يأخذ هبات من الفلاحين بصفة كونه راعي المدرسة بدون علم السلطات المختصة. .
وأخيراً خرجوا من الغابة إلى الطريق المستوي الذي يؤدي إلى فيازوفيا، وكان عليهم أن يعبروا النهر ثم خط السكة الحديد فيصبحوا على مرأى البصر من فيازوفيا.
قالت ماريا (إلى أين أنت ذاهب يا سيميمون؟ خذ الطريق الأيمن إلى الجسر؟
(نستطيع أن نذهب من هذا الطريق أيضاً. وليس النهر عميقاً هنا)، (وأحذر أن تغرق الحصان)
(ماذا؟) فقالت: ماريا وقد رأت الجياد الأربعة عند بعد: (أنظر إن هانوف في طريقه إلى الجسر إنه هو، أليس كذلك؟)(نعم: فهو إذن لم يجد باكفست في منزله. ألا ما أغباه! لأي شيء قاد عربته إلى هناك وكان يستطيع أن يجئ من هنا فيوفر على نفسه ميلين كاملين)
ثم وصلوا إلى النهر. وهذا النهر يصبح في الصيف جدولا صغيراً يسهل عبوره ويجف عادة في شهر أغسطس، أما الآن بعد ذوبان الثلوج فإن عرضه يصل إلى أربعين قدماً وهو سريع الجريان كثير الوحل بارد المياه
صاح سيميون في حصانه وهو يجذب اللجام بحدة وعنف (هلم! أسرع!) فنزل الحصان في الماء حتى بطنه ثم وقف؛ ولكنه ما لبث أن تحرك بجهد عظيم، وأحست ماريا بالصقيع في قدميها فصاحت هي الأخرى (أسرع! أسرع!).
وحين وصلوا إلى الضفة الأخرى كان حذاؤها قد امتلأ بالماء وابتل اسفل ردائها وأخذ أكمامها يقطر ماء. واختلط الماء بالسكر وبالدقيق اللذين اشترتهما من المدينة، وكان هذا فوق ما تطيقه ماريا ولكنها لم تجد لها حيلة إلا أن تشبك أصابع يديها في يأس وتصحيح (إنك متعب، متعب يا سيميون. كم أنت متعب!)
وكان الحاجز الذي يغلق الممر قد انزل قبل أن يجئ القطار من المحطة فوقف ماريا تنتظر مروره وجسمها كله يرتعد من البرد. وكان أمامها على مدى النظر قرية فيازوفيا والمدرسة بسقفها الأخضر والكنيسة بصلبانها اللامعة في ضوء الشمس الغاربة وكانت نوافذ المحطة تلمع كذلك في الضوء والدخان الأسود يرتفع من مدخنة القاطرة. . . وخيل إليها أن كل شيء يرتعد من البرد!
وأخيراً جاء القطار. وكانت نوافذه تعكس النور في عينيها فتعشهما. وبينما هي تحدق في العربات السائرة أمامها على مهل أبصرت بين عربتين من عربات الدرجة الأولى سيدة واقفة فتأملتها وهي تمر بها. يا لعجب! أمها! ما أشبهها بها! لقد كان لأمها مثل هذا الشعر الفخم ومثل هذين الحاجبين وكانت ثنيات وجهها تشبه هذا الوجه إلى حد كبير.
ولأول مرة منذ ثلاثة عشر عاماً برزت أمام مخيلتها بوضوح عجيب ودقة تامة صورة أمها، وأبيها وأختها، ومنزلهم في موسكو وكل شيء من الماضي بتفاصيله الدقيقة. وسمعت من أعماق ذلك الماضي نغمات البيانو تنبعث في الفضاء وصوت أبيها يناديها وأحست -
كما كانت تحس إذ ذاك - أنها شابة جميلة، رشيقة، وخيل إليها أنها جالسة في غرفتها الدافئة على كرسي وثير وحولها أقاربها وغمرها شعور مفاجئ بالبشر والسعادة فغمرت خديها بيدها في نشوة عارمة ونادت هامشه في ضراعة (أماه!)
وطفقت تبكي. لا تدري لم؟ وفي تلك اللحظة ذاتها وصل هانوف بعربته وجياده الأربعة. وما أن رأته حتى أحست بالسعادة كما لم تحس من قبل أبداً. وابتسمت وهزت رأسها محيية له باعتباره صديقاً ونداً لها. وخيل إليها أن سعادتها بل انتصارها يملأ الفضاء من كل جانب ويلمع في النوافذ وفي الأشجار وعلى أوراق الزهور! وأن أباها وأمها لم يموتا أبداً وأنها لم تكن قط ناظرة مدرسة. وأن هذا كله كان حلماً مزعجاً طويلاً أفاقت منه هذه اللحظة.
(أركبي يا ماريا!)
وفجأة انتهى كل شيء. . . ورفع الحاجز ببطء وصعدت ماريا إلى العربة وعي ترتعش من الصقيع. وعبرت العربة ذات الجياد الربعة خط السكة الحديد وتلاها سيميون. ورفع عامل الإشارة قبعته محيياً). (ها هي فيازوفيا. وها نحن أولاء).
قطب