المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 624 - بتاريخ: 18 - 06 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٢٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 624

- بتاريخ: 18 - 06 - 1945

ص: -1

‌خليفة نابليون!

لا تقل أن خليفة نابليون بيتان؛ فإن المرشال جثا ضارعاً أمام النازية

وجيشه يفعم الميادين والمدائن، وذهبه يتخم الصناديق والخزائن،

وعلمه يخفق على مستعمرات مسخرات بأمره، وحليفته الغنية القوية

تسأله جاهدة أن تصل عمرها بعمره!

ولا تقل أنه ديجول؛ فإن الجنرال لم يشتهر بأية ملحمة، ولم يعرف بتدبير خطة محكمة. وجملة أمره أنه تشبث يوم الهزيمة بطائرة فهرب، ثم لجأ إلى لندن وطلب فأعطته لندن ما طلب! ولكن قل معي: إن خليفة نابليون ووارث بطولته وعبقريته هو الجنرال أوليفا روجية دكتاتور فرنسا في سورية!!

وجه كوجة البومة عليه المومياء، ورأس كرأس النعامة فيه رعونة الكبرياء، وشخص كتمثال الموت في يده منجل الفناء، وصوت كنعيب الغراب يردده في أجواز الفضاء:

(أخفق نابليون في استعمار مصر فأنا أستعمر سوريا، وعجز نابليون عن تدمير عكا فأنا أدمر دمشق!! وكان في يد هذا المغرور بقية من عتاد الحلفاء فيها القاذفات والدبابات والرشاشات والبنادق؛ وكان من حول هذا الممرور طغمة من عبيد السنغال غلاظ المشافر سود الأكباد حمر العيون يعملون كالآلة من غير وعي. وكان إخواننا السوريون قد نظروا في أمرهم وأمر هؤلاء فلم يجدوا لهم مزية عليهم؛ فلا هم قدوة في حسن الخلق، ولا حجة في صحيح العلم، ولا قوة في نظام العالم؛ وإنما هم أمة أمرضتها رواسب اللاتينية فاستكانت لعوامل البلى، حتى إذا ابتليت بهذه الحرب انخرعت فلا تقم، وانماعت فلم تتماسك. فلو كان بينهم وبينها أسباب من فتح أو عهد لأعادوا النظر فيها بعد انهيارها المخزي؛ فكيف والسبب الذي انقطع كان أوهن من خيوط الباطل؟ ولكن مسيخ نابليون يصمم على البقاء وإن أبدعت الحجة، ويصر على المعاهدة وإن فقدت الثقة! فهو يجلب المدد ليعزز العدد، وينصب المدافع ليحصن المواقع، ويتحدى حمية العرب الذين كان آباؤهم يحملون السيوف ليقودوا الأمم، أيام كان آباء هؤلاء من (الغال) يحملون العصي ليقودوا الغنم! فلم يكن بد من قبول التحدي، ووقف الكماة الأباة العزل يثقلون برءوسهم قنابل النار، وبصدورهم قذائف الرصاص دون أن يفروا كما فر في (سدان) خلفاء نابليون

ص: 1

الثالث وهم مدججون بالسلاح محصنون بالمدافع. فاستشهد منهم على أرض سوريا الكريمة العظيمة مليوناً من العرب يؤججون بأجسادهم هذه النار ليصلي بها من يشاء الله أن يصلى، لولا أن رفع الصوت من يملك الرفع والخفض، فانخلعت قلوب القادة وانخرعت متون الجنود!

ولا والله ما ذهب باطلاً ذلك الدم الذي طهر سورية من الدخيل، وجمع كلمة العرب وقوتها من شرق دجلة إلى غرب النيل!

ابن عبد الملك

ص: 2

‌هذه هي فرنسا.

. .

للأستاذ سيد قطب

كلما سمعت أو قرأت - بمناسبة حوادث سوريا الأخيرة - أن هذه الحوادث مخالفة لتقاليد فرنسا، ثار في نفسي شعور السخرية المريرة من هؤلاء المتحدثين أو الكاتبين. . .

تقاليد فرنسا!

ومتى كانت تقاليد فرنسا إلا هذه البربرية المتوحشة؟ ومتى كان الفرنسيون إلا عشاق في المجازر البشرية، المولعين بالدماء في كل زمان ومكان؟ حتى في ثورتهم الكبرى التي يعيشون باسمها حتى الآن.

تقاليد فرنسا!

تقاليدها في سورية، أو في مراكش، أم في تونس، أم في الجزائر، أم في أية بقعة من بقاع الأرض على مدى الأزمان والأجيال؟

إنني لأستعرض أمامي تاريخ فرنسا في الشرق، فلا أجد إلا صفحات من البربرية المتوحشة، وإلا بركاً من الدماء حيثما وضعت أقدامها في مكان، وإلا وسيلة من وسائل التدمير والتخريب.

في أيام نابليون سلطت المدافع من قلعة الجبل على المصريين، ودخلت الجنود الفرنسية المتبربرة بخيولها الأزهر، وجرت الدماء في شوارع القاهرة، وديست كرامة الدين، وانتهكت الحرمات العامة. . . باسم تقاليد فرنسا!

وفي سنة 1905 ضربت دمشق بالقنابل، وأريقت الدماء في الشوارع، واعتدت الجنود الفرنسية المتبربرة على الآمنين. وضج الشرق العربي بالمأساة، بينما كانت الصحافة الفرنسية تمجد أعمال الوحشية في سورية. . . باسم تقاليد فرنسا!

وفي سنة 1921 وما بعدها وما قبلها أيضاً سالت الدماء في مراكش العربية لإرغام الناس هناك على الدخول في المسيحية وترك ديانتهم الإسلامية، باسم (الظهير البربري) المعروف جيداً في كل صقع إسلامي، والذي يشهد بأن دماء الصليبين لا تزال تجري في عروق الفرنسيين. ومنذ لك الحين بل قبله والزعماء المراكشيون منفيون في المستنقعات الحارة، وبلغ من الوحشية المتبربرة أن تشغل هؤلاء الزعماء السياسيين في رصف الأرض وقطع

ص: 3

الأحجار في تلك الجهات الحارة النائية في أواسط إفريقية حتى يصاب بعضهم بالسل، وبعضهم بالحمى الصفراء. . . وذلك باسم تقاليد فرنسا!

وفي تونس، وفي الجزائر، البلدين العربيين اللذين تدعي فرنسا أن ثانيهما (أرض فرنسية) تعمل جاهدة على رد أهله عن دينهم بكل وسائل العنف والقسوة. . . باسم تقاليد فرنسا!

هذه هي فرنسا.

هذه هي حقيقتها من وراء الأضواء المصطنعة والدعايات البراقة. بل هذه هي حتى من خلال الأضواء المصطنعة والدعايات البراقة. فما هذه الأضواء التي تخدع المخدوعين، وتطلق ألسنة الدعاة؟ إنها الدعارة الفاجرة، والتحلل الذميم، والبوهيمية المطلقة. . . إنها هي بعينها النكسة إلى حياة الحيوانية، وفوضى البربرية!

ولكن هنا رءوساً وأقلاماً لا تزال تمجد فرنسا، ولا تزال تتشدق باسم فرنسا!

أولئك بضعة نفر عاشوا في فرنسا فترة من العمر، فسمحت لهم فرنسا الداعرة بإشباع أقصى لذائذهم الحيوانية، وتروية أظمأ شهواتهم الحسية. . . ثم عادوا فإذا في الشرق بقية من تقاليد وبضعة من حواجز، فلم يرق لهم ما في هذا الشرق من (رجعية)! وظلوا يحنون إلى عهد فرنسا الداعر وإلى لذائذها الممنوعة، وإلى شهواتها المحرمة!

وقليل منهم وجد في فرنسا علماً وفناً - وإن لم يجد لفرنسا قلباً - ففتنه العلم والفن عن أقدس المقدسات القومية والإنسانية فتنة عن كرامة الوطن، وعن حرمة الأهل وعن شرف العرض. . . فإذا أحدهم يجادلني في أمر الشرق العربي وفظائع فرنسا فيه فيقول:(إذا لم يكن بد للإنسانية من أن تفقد فرنسا أو أن تفقد هذا الشرق العربي، فليذهب الشرق العربي إلى الجحيم)!

هؤلاء نفر منحلون. . . وعلامة الانحلال في فرد أو أمة

أن يهون عليه شرف العرض وحرمة الأهل وكرامة الوطن. كما هانت على هذا الذي كان يجادلني في أمر فرنسا.

ويقولون لنا حين نجادلهم: إنكم لم تعيشوا في فرنسا. أجل نحن لم نعش في فرنسا، ولكن فرنسا عاشت عندنا فلم نطلع منها في يوم من الأيام على صفحة بيضاء. . . فهلا أخطأت فرنسا مرة فأطلعتنا على حقيقة عناصرها الطيبة؟!

ص: 4

ويعتذرون لفرنسا اليوم في تصرفاتها البربرية بأنها تحس (مركب النقص) بعد الهزيمة، فتزيد التعويض بمظاهرات القوة، وأن سياسة وخز الإبر التي تتبعها معها إنجلترا في الشرق هي التي تثير أعصابها تلك الثورة الوحشية.

ولكننا نستعرض تاريخ فرنسا في الشرق، فلا نجد اختلافاً بين مركب النقص ومركب الكمال!، ولا نلمح فرقاً بين فرنسا الظافرة بعد الحرب العظمى وفرنسا المهزومة في هذه الحرب.

أنها هي هي. . . فرنسا المتوحشة في كل حال. فرنسا التي تدك القاهرة بالقنابل وتعتدي على حرمة الأزهر وكرامة الدين في عهد نابليون، هي فرنسا التي تدك عاصمة الأمويين بالقنابل في عام 1925 ثم في عام 1945

فإما أن (مركب النقص) هذا طبيعة فرنسية دائمة، وإما أننا نختلق لفرنسا المعاذير لأننا منحلون. لا نثور لعرض، ولا نغضب لأهل، ولا تعنينا كرامة، بعد أن تهيئ لنا فرنسا لذائذ الحس، وشهوات البدن، أو حتى لذائذ الفكر وشهوات الوجدان!

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي أطلقت قنابلها على القاهرة وداست بخيلها مسجدنا الأعظم في عهد نابليون

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي مهدت الطريق للاحتلال الإنجليزي بانسحاب أسطولها من المياه المصرية سنة 1882، وترك الأسطول الإنجليزي يهاجمنا بعد الخدعة اللئيمة التي خدعها دي لسبس لعرابي بحماية قناة السويس وعدم السماح للأسطول الإنجليزي بمهاجمة مصر من ناحيتها، ثم النكث بالعهد، لأن فرنسا كانت تبصبص بذنبها كالكلب ينتظر فتات المائدة في (الاتفاق الودي) بعد ذلك بأعوام!

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي أطلقت قنابلها على دمشق عاصمة الأمويين مرتين في خلال عشرين عاماً، بلا مبرر، وبعد تدبير شنيع

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي دبرت مؤامرة وحشية دنيئة لم تتم لقتل أعضاء الوزارة السورية وأعضاء البرلمان السوري، وكان عدم إتمامها راجعاً إلى وقوع وثيقة في يد الحكومة السورية

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي أصدرت أمراً يومياً لقواتها في سورية بالاستعداد

ص: 5

(لمذبحة كبرى)! وأن قائدها هناك هو الذي صرح بحبه لمظاهر القتل والدماء!

يجب أن نذكر أن الجزائر وتونس ومراكش تلقى من البربرية الفرنسية ما لا يلقاه أحد من العالمين من القتل والنفي والتشريد، واستخدام الوسائل الخسيسة في تعذيب الزعماء السياسيين

يجب أن نذكر هذا كله، لنحتقر الثقافة الفرنسية مهما تكن، لأن الثقافة تظل أبداً جوفاء إن لم يكن من آثارها تهذيب الطبع، وإنارة القلب، وبث الشعور الآدمي بين المثقفين!

ويجب أن نذكر هذا كله لنحتقر دعاة فرنسا في كل مكان في الشرق العربي، وننظر إليهم كما ننظر إلى الأمساخ المشوهة، والمخلوقات المريضة، فما يرتفع تمجيدهم لفرنسا على تمجيد الشهوة. ولو كان تمجيد الثقافة التي لا تخرج بالإنسان عن طبيعة الحيوان!

ويجب أن ننتهز الفرصة السانحة لخنق الثقافة الفرنسية في الشرق كله، كما صنعت سوريا الباسلة، فتختنق فرنسا في الشرق بلا قتال!

يجب أن يكون لنا شرف المساهمة في أن تعود فرنسا دولة صغيرة - كما تستحق - فقد برهنت على أنها لا تستحق غير هذا يوم جثت على ركبتيها عند الضربة الأولى!

يجب. . . وإلا فدعونا من الثورات المؤقتة، ومن الجعجعة الفارغة، ومن الألفاظ الجوفاء!

سيد قطب

ص: 6

‌في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 5 -

في ج 15 ص 128: وكتب حسن بن علي الجويني في ذي القعدة سنة ست وستين وخمسمائة بالديار المصرية عمرها الله تعالى بدوام العز: وقال المعري وضرب علي بن هلال مثلاً:

طربتُ لضوء البارق المتعالي

ببغداد وهنا ما لهن ومالي

فيا برق ليس الكرخ داري وإنما

رمى بي الدهر منذ ليالي

فهل فيك من ماء المعرة نغبة

تغيث بها ظمآن ليس بسالي

ولاح هلال مثل نون أجادها

بماء النضار الكاتب ابن هلال

قلت: (طربن لضوء البارق المتعالي)(فهل فيك من ماء المعرة قطرة)(يجاري النضار الكاتب ابن هلال)(كما في سقط الزند) ويؤيد ذلك قول الشارح في البيت الأول: (الضمير في طربن للإبل) والمعنى خفت الإبل شوقاً لما رأت البارق. . . يعني بارقاً نشأ من نحو أوطانها بالشام وهي بالعراق. . .) وقوله في البيت الثاني: (فهل حملت أيها البرق قطرة من ماء بلدتي) وقوله في البيت الثالث: (شبه هلال رجب بنون خط ابن البواب (الجويني) بالنضار الجاري أي بماء الذهب)

في ج 7 ص 129 كان بندار بن عبد الحميد الكرخي الأصبهاني يحفظ سبعمائة قصيدة، أول كل قصيدة (بانت سعاد). قال المؤلف: وبلغني عن الشيخ الإمام أبي محمد الخشاب أنه قال:

أمعنت التفتيش والتنقير فلم أقع على أكثر من ستين قصيدة.

وجاء في شرح (أمعنت) أي أبعدت في الاستقصاء وبالغت فيه، وكانت في الأصل (معنت) وأصلحت.

قلت: ربما كان الأصل (أنعمت التفتيش) أو (أمعنت في التفتيش).

وفي النهاية: وفي حديث صلاة الظهر: فأبرد بالظهر وأنعم، أي أطال الإبراد وأخر الصلاة. ومنه قولهم: أنعم النظر في الشيء أي أطال التفكير فيه.

ص: 7

وفي المخصص ج 3 ص 29: قالت الأوائل: إن اليقين هو العلم الثاني أي أنه لا يعلم ولا يدرك عن بديهة ولكنه بعد بذل الوسع في التعقب وإنعام النظر والتصفح. وفيه ص 52 والرأي الدبري الذي لم ينعم النظر فيه.

وقول الحريري في المقامة الثانية الحلوانية: (أمعنت النظر في توسمه) محرف، والصواب ما جاء في مقدمة المقامات:

(ومن نقد الأشياء بعين المعقول وأنعم النظر في مباني الأصول نظم هذه المقامات في سلك الإفادات) وما جاء في المقامة السادسة المراغية. وفي الخامسة عشرة الفرضية وفي التاسعة والأربعين الساسانية.

وأمعن في الأمر: أبعد فيه كما في الأساس، وفي النهاية: وأمعنوا في بلد العدو وفي الطلب أي جدوا وأبعدوا، ومثل ذلك في كتب اللغة. وفي المقامة الخامسة عشرة الفرضية، وفيها (أنعم وأمعن):(قال: لأني أنعمت النظر في التقامك ما حضر، حتى لم تبق ولم تذر. فرأيتك لا تنظر في مصلحتك، ولا تراعي حفظ صحتك. ومن أمعن فيما أمعنت وتبطن ما تبطنت، لم يكد يخلص من كظة مدنفة. . .).

وأمعن فعل لازم وأنعم فعل متعد.

في ج 14 ص 196 كان أبو الفتح بن العميد قد أغرم قبل القبض عليه بإنشاد هذين البيتين، لا يجف لسانه عن ترديدهما:

ملك الدنيا أناس قبلنا

رحلوا عنها وخلوها لنا

ونزلنا كما قد نزلوا

ونخليها لقوم غيرنا

قلت: في اليتيمة: (ونخليها لقوم بعدنا) فغير النساخ

في ج 10 ص 154

والدهر إذ مات نماريده

قد مد أيديه إلى بُلْهِةِ

وجاء في الحاشية: في الأصل (نماريره) فجعلت نماريده، وأحدها نمرود، وكان يطلق على ملك بابل، فلما تجبر وتكبر حين دعاه الخليل إلى التوحيد صار يستعمل في كل متكبر جبار، كفرعون اسم لكل من ملك مصر ثم استعمل في الشخص المتصف في الجبروت:

قلت: نحاريره. في التاج: (النحرير - بالكسر - الحاذق الماهر العاقل المجرب، وقيل:

ص: 8

الرجل الطبن المتقن الفطن البصير بكل شيء مأخوذ من قولهم: نحر الأمور علماً.) والجملة الأخيرة في الأساس في مجازه. والبيت ختام مقطوعة للحسين بن محمد الدباس المعروف بالبارع، ومقطوعته:

أفنيت ماء الوجه من طول ما

أسأل من لا ماء في وجههِ

أُنهي إليه شرح حالي الذي

يا ليتني مت ولم أُنهه

فلم ينلني أبداً رفده

ولم أكد أسلم من جَبْههٍ

في ج 13 ص 222 وخضت في المناظرة والمجادلة سنة جردة رضيت عن نفسي فيه، ورضى عني أستاذي.

وجاء في الشرح: يقال: سنة جردة: خالية من النبات فكأنه يقول: لم أشتغل بغير الجدل والمناظرة.

قلت: قالوا: أرض جردة، وقالوا: سنة جارود: مقحطة بشدة المحل. (وجردة) في الجملة هي (جرداء) قال الأساس: مضى عليهم عام أجرد وجريد وسنة جرداء أي كاملة منجردة من النقصان. ونقل التاج هذا القول. وفي اللسان: عام أجرد: تام. و (فيه) في الجملة (فيها) والقائل الإمام البيهقي، وأستاذه الذي عناه هو تاج القضاة يحيى بن عبد الملك. قال: وكان ملكاً في صورة إنسان!

في ج 7 ص 217

أقول لما جاءني نَعِيُّهُ

بعداً وسحقاً لك من هالك

يا شر ميت خرجت نفسه

وشر مدفوع إلى مالك

قلت: جاءت (نعيه) بكسر العين وتشديد الياء؛ وإنما هي (نعيه) بسكون العين وتخفيف الياء، وإن صح هذان المصدران، وصح صدر البيت وحده.

والبيتان قالهما حبيش بن عبد الرحمن أبو قلابة في الأصمعي لما بلغته وفاته شامتاً به

قلت: من أمثال العرب: الشماتة لؤم.

في ج 12 ص 105. . . أخبرني أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ: (ولا الليل سابق النهار) فقلت له: ما أردت؟ قال أردت (سابق النهار) فقلت: فهلا قلته: فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوم وأفصح.

ص: 9

قلت: عمارة هذا بضم العين، وسابق الأولى المضمومة المنونة هي بضمة واحدة، وقي قراءة عمارة بن عقيل، و (سابق النهار) هما (سابقٌ النهار) بضم سابق وتنوينه وفتح الراء في النهار.

وقد قري (قل هو الله أحد الله الصمد) بغير تنوين في أحد، والحيد هو التنوين كما قال (الكشاف)

في 12 ص 159 وله (لعثمان بن عيسى البلطي أبيات يحسن في قوافيها الرفع والنصب والخفض (مطلعها):

أني أمرؤ لا يصطبيني

الشادن الحسن القوام (ما)

رفع القوام بالحسن لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل والتقدير الحسن قوامه كما تقول: مررت بالرجل الحسن وجهه، ونصبه على الشبه بالمفعول به، وخفضه بالإضافة.

وجاء في شرح (يصطبيني): كانت في الأصل يطيب لي، والبيت بها ينكسر، يقول: إن الشادن الذي هذه صفته ليس في مكنته أن يحملني على الصبوة إليه، والفعل مزيد بتاء الافتعال أبدلت طاء.

قلت: لا يطبيني. في الأساس: طباه واطباه: دعاة واستماله. ومثل ذلك في الصحاح واللسان والتاج. وفي أمالي القالي والنهاية: (إن مصعباً (مصعب بن الزبير) أطبى القلوب) وفي المقصورة الدريدية:

لا يطبيني طمع مدنس

إذا استمال طمع أو أطبى

وفي طبعة (الجوائب): يطبئني. فاختل بالهمز الوزن، واستحال الفعل. . .

في ج 14 ص 227 واستدعي ابن عباد من أصفهان وولي الوزارة ودبرها برأي وثيق، وجد رتيق.

وجاء في شرح رتيق: من رتق الشيء جعله يلتئم بعضه مع بعض.

قلت لا رتيق في العربية. واللفظة المحرفة هي (زنيق) والزنيق المحكم الرصين يقال: رأي زنيق وأمر أي وثيق، وكذا تدبير زنيق كما في التاج. وفي الأساس: ومن المجاز: ورأي زنيق: محكم، وتقول: هذا تدبير أنيق، ورأي زنيق.

ص: 10

‌2 - حول انهيار فرنسا

لأستاذ عربي كبير

ولنترك مسائل المدح والإطراء والرثاء جانباً، ولنعد إلى أصل القضية ونتساءل ما إذا كانت أسباب انهيار فرنسا، هذا الانهيار السريع الذي يكاد يكون فجائياً؟. . .

فمن أبسط وأسهل الأجوبة التي تخطر على البال رداً على هذا السؤال هي أن فرنسا لم تكن مستعدة للحرب.

وفي الواقع أن هذا التعليل قد سيطر على الأذهان والأقلام، سيطرة غريبة. فإن معظم الذين كتبوا وعالجوا هذا الموضوع عللوا الانهيار بعدم الاستعداد والبعض منهم جعلوا من (عدم الاستعداد) هذا دليلاً على حسن الطوية ونبل الغاية.

فقد قرأت بين ما قرأته من المقالات حول هذا الانهيار في المجلات المصرية، هذا الحكم البتار:

(ما غلبوا إلا لأن الديمقراطية التي يعتقدونها لا تفكر إلا بالسلم ولا تتسلح إلا بالعهود والمواثيق والقوانين والشرف، وأن الديكتاتورية التي يعادونها لا تفكر ولا تتسلح إلا بالحديد والنار والدعاية والخيانة والكذب)

أنا لا أستطيع أن أسلم بصحة هذا الرأي، بالرغم من احترامي الشخصي لصاحبه؛ فلنستعرض الأعمال العسكرية والسياسية التي قامت بها فرنسا منذ انتصارها في الحرب العالمية المنصرمة: إنها استولت على مراكش من جهة، وعلى الشام من جهة أخرى، وجردت الحملات العسكرية على مختلف النواحي في أوربة وآسية، وأفريقية: حاربت الأتراك، حاربت العرب، حاربت الروس بعد الهدنة، اشتركت في احتلال قسم من البلاد الألمانية، وأقدمت بمفردها على الاستيلاء على قسم آخر منها؛ ساعدت دولة بولندة وتشيكوسلوفاكيا في تسليحاتها وتنظيماتها العسكرية، وقتلت أحابيل الحلف الكبير والحلف الصغير، وأخذت تدير دفة السياسة الأوربية بصوت مسموع ومكانة مرموقة. وأنفقت مبالغ طائلة في سبيل تشييد (خط ماجيينو) على طول الحدود الألمانية، ورصعت البلاد السورية والمراكشية بعدد كبير من المواقع العسكرية. . . فكيف يجوز والحالة هذه أن نقول إن فرنسا لم تفكر إلا في السلم، ولم تتسلح إلا بالعهود والمواثيق؟

ص: 11

العهود والمواثيق؟ هل احترمتها فرنسا - مثلاً - في سياستها السورية؟ ألم تكن أعمالها هناك - من أولها إلى آخرها - سلسلة حركات تتلخص في القسوة والعنف دون أن تتقيد المواثيق والمواعيد؟. . .

فالعامل الأصلي في الانهيار لم يكن عدم الاستعداد للحرب. وعلى من يخامره أدنى شك في هذا الباب أن يرجع بذاكرته إلى أوائل الحرب الحالية، ويتذكر ما كان يسمعه وما كان يقرأه من الآراء والأخبار حول قوة فرنسا العسكرية: فكلنا كنا نسمع كل يوم مقارنات طويلة عريضة، بين خط ماجينو وخط سيجفريد، مقارنات تنتهي بوجه عام بالمدح والإطراء على الأول وبالقدح والازدراء بالثاني. كل يوم كنا نسمع ونقرأ أخبار شتى كلها تؤكد تفوق المدفعية الفرنسية على المدفعية الألمانية وتبرهن على تفوق الطيران الفرنسي على الطيران الألماني. . .

ولا حاجة للبيان أن مصادر هذه الأخبار والدعايات كلها كانت فرنسية. . .

وكل شيء يدل على أن فرنسا كانت (تعتقد) أنها مستعدة للحرب أتم الاستعداد، وأنها ستنتصر بدون ريب. وإلا لما أقدمت على إعلان الحرب، ولأوعزت إلى بولندة بوجوب التساهل مع ألمانيا في قضية دانزيج والممر، ولانكبت بعد ذلك على إتمام استعداداتها؛ غير أنها لم تفعل ذلك، بل بالعكس شجعت بولندة على المقاومة، وانضمت إلى بريطانيا العظمى في توزيع (الضمانات) إلى اليمين واليسار، وعلى القريب والبعيد، ممن يطلبها أو لا يطلبها من الدول. . . فلا مجال للشك في أن فرنسا كانت مغرورة بقوتها ومخدوعة في قوة عدوتها.

من المعلوم أن القوة من الأمور النسبية؛ فالقوي بالنسبة إلى شيء، قد يكون ضعيفاً إلى شيء آخر، والغلط في التقدير في مثل هذه الأحوال قد ينتج من غلط في تقدير القوة نفسها، أو في غلط في تقدير القوة المقابلة لها، أو من غلط في كلا الأمرين. . . إن سير الوقائع يدل دلالة قطعية على أن فرنسا أخطأت خطأ فاحشاً في تقدير قوة ألمانيا. . .

فيجدر بنا أن نتساءل: لماذا أخطأت فرنسا كل هذا الخطأ الفاحش في تقدير قوة عدوتها؟

إننا أعزو سبب ذلك إلى انخداع فرنسا بأقوال اللاجئين الموتورين الذين هربوا من ألمانيا أو طردوا منها. . . وقد فتحت فرنسا أبوابها لهؤلاء، وأرادت أن تستفيد منهم ومن شكاواهم

ص: 12

ودعاياتهم في إثارة الرأي العام العالمي ضد ألمانيا واستمالته نحو فرنسا. في حين أن القسم الأعظم من هؤلاء اللاجئين كانوا من الطفيليين الموتورين الذين لا يرتبطون بأي وطن من الأوطان العتيدة ارتباطاً قلبياً، ولذلك أخذوا يصورون ألمانيا على حقيقتها؛ صوروا النظام الجديد الذي قام في ألمانيا بصورة مجموعة من التعسف البربري تقوم بها جماعة من الطغاة فيكرهها جميع الناس. قالوا إن كل الناس ينفرون من النازية نفوراً شديداً ويستعدون للثورة عليها استعداداً كبيراً. كلنا سمعنا انعكاسات هذه الأقوال والمدعيات. ألمانيا على أبواب ثورة داخلية ستندلع نيرانها قريباً فتجرف الهتلرية جرفاً عنيفاً. . . كل شيء رديء هناك، حتى المعادن التي تصنع منها الأسلحة، حتى الأسمنت الذي يستعمل في بناء الحصون لم يكن من الأنواع الجيدة. . .

لقد فتح الفرنسيون أبواب بلادهم لمئات الألوف من هؤلاء الموتورين على مصراعيها، كما فتحوا آذانهم لسماع دعاويهم ودعاياتهم، وصاروا يصدقون كل ما يقولونه، ولا سيما أن ما يقوله هؤلاء كان موافقاً لما يتمناه الفرنسون كل التمني. . .

وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن ذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى انخداع فرنسا في تقدير قوة عدوتها، وأدت بها إلى الانكسار الفظيع. . .

فقد أفاضت الجرائد كثيراً في ذكر أعمال الذين سموا باسم (الطابور الخامس) وبحثت كثيراً عن الدور الذي لعبته الجمعيات التي كانت تقوم بدعايات متسترة - على حساب ألمانيا - ويهيئون بذلك الجو النفسي الملائم لعمل الجيوش الجرارة

غير أنني أقول: إن عمل أرتال اللاجئين في فرنسا لم يكن أقل تأثيراً من عمل الطوابير الخامسة في النتيجة النهائية. فإن أرتال اللاجئين الموتورين أضروا فرنسا من حيث كانوا يريدون خدمتها؛ وخدموا ألمانيا من حيث كانوا يعتقدون إضرارها. . لأن دعاياتهم خدعت الفرنسيين خدعة قوية في قوة ألمانيا، وجرتهم إلى الحرب والاصطدام مع قوى تفوق قواهم تفوقاً عظيماً. . . وأدت بذلك إلى انخذالهم ذلك الإنخذال المريع.

والآن، بعد أن حدث ما حدث فظهرت الحقائق للعيان، تبين بصورة لا تترك مجالاً للشك أن الجيش الألماني الذي هاجم الجيش الفرنسي، كان يفوقه تفوقاً عظيماً من جميع الوجوه المادية والمعنوية كان يفوقه تفوقاً بارزاً من حيث العدد والتجهيزات والانضباط والقيادة. .

ص: 13

وبتعبير أقصر، من حيث الكمية والكيفية. . .

من المعلوم أن ألمانيا كانت جردت من السلاح، وحرمت من حق التسلح بعد الحرب العالمية، فظلت محرومة من الأسلحة ومن مصانعها مدة تزيد على عشر سنوات، فعندما بدأت تتسلح مؤخراً - سراً في بادئ الأمر، وعلناً في نهاية الأمر - لم تتقيد بشيء من القديم - بطبيعة الحال. . . فاستحضرت أنواعاً جديدة من الأسلحة الحربية، وابتكرت أنواعاً جديدة من أساليب الحرب. ويظهر أنها كانت تمكنت من ابتكار أنواع عديدة، فاستفادت من كل نوع منها في إحدى صفحات حروبها المتوالية في بولندة، وفي النرويج، وفي هولندا، وعندما جاء دور هجومها على فرنسا استطاعت مفاجأتها بوسائط وأساليب حربية أخرى، أفسدت على الجيش الفرنسي جميع الخطط التي كان قد وضعها. . .

وزد على ذلك أن الجيش الألماني الذي أنقض على الجيش الفرنسي بمثل هذه الوسائط الحربية الجديدة، كان متفوقاً عليه تفوقاً كبيراً من حيث العدد أيضاً. وإذا بحثنا أسباب هذا التفوق العددي نستطيع أن نذكر أموراً كثيرة منها مساعدة الموقع الجغرافي، وسير صفحات الحرب، وكثرة وسائط النقل، ونظام خطط التعبئة. . وما أشبه ذلك من العوامل والأسباب، غير أننا - مع كل ذلك - نضطر إلى التسليم بأن السبب الأصلي يعود إلى كثرة العدد؛ إذ من المعلوم أن عدد نفوس ألمانيا يناهز ضعف عدد نفوس فرنسا، فلا غرابة، والحالة هذه أن يتفوق جيشها على جيش فرنسا تفوقاً كبيراً من حيث العدد أيضاً. . .

ومما يجدر بالانتباه أن قضية عدد السكان كانت من القضايا التي أخذت تشغل بال الفرنسيين وتثير مخاوفهم منذ مدة غير يسيرة، فإن الإحصاءات الموجودة تدل على أن نفوس فرنسا كانت مساوية لنفوس ألمانيا سنة 1865 غير أنها لم تزد بعد ذلك خلال سبعين سنة - أي حتى سنة 1935 - ألا ثلاثة ملايين، في حين أن نفوس ألمانيا - زادت خلال المدة نفسها - أكثر من ثلاثين مليوناً. . .

لاشك في أن قضية النفوس وحدها لا تكون من القضايا الحاسمة في سير التاريخ؛ فإن التاريخ يرينا أمثلة كثيرة من تغلب الأمم الصغيرة على بعض الأمم الكبيرة، بالرغم من قلة عدد نفوسها، غير أن مثل هذه الحوادث لا تحدث عادة إلا عندما يكون هناك فرق عظيم بين الأمتين، من حيث مستوى الحضارة والثقافة، وشدة الروابط الاجتماعية وقوة الإيمان

ص: 14

القومي. . . وأما إذا كانت الأمتان متقاربتين من هذه الوجوه الثقافية والاجتماعية - كما هي الحالة في فرنسا وألمانيا الآن - فمن الطبيعي أن تكتسب قضية النفوس خطورة خاصة، وتؤثر في سير التاريخ تأثيراً كبيراً.

فقد انتبه عدد غير قليل من الكتاب والمفكرين في فرنسا إلى الخطر الذي اخذ يحدق ببلادهم من جراء نقص عددها؛ حتى أنه ظهر بينهم من قال: يجب أن نعلم بأننا في كل سنة من السنين التي تمر علينا على هذا المنوال نخسر معركة ونفقد جيشاً دون أن نقدم على حرب ودون أن نشعر بهذه الخسارة، في حين أن ألمانيا - بعكسنا - تربح في كل سنة معركة وتحصل في كل سنة على جيش جديد، دون أن تقدم على حرب ودون أن تضحي شيئاً في سبيل ذلك. . .

إلا أن الأمور ظلت على حالتها هذه بل زادت خطورة من جراء التدابير المتخذة في ألمانيا في هذا السبيل - لقد وضعت ألمانيا عدة قوانين واتخذت عدة تدابير لضمان تكاثر النفوس - زيادة على سير المعتاد - في حين أن فرنسا لم تخرج عن ساحة النقد والبحث في هذه المضمار، ولم تقدم على وضع قانون يعالج هذه القضية الحيوية بعض العلاج إلا قبل اندلاع نيران الحرب الحالية

كان يأمل رجال السياسة في فرنسا التغلب على المشاكل والمخاطر التي تنجم عن مسألة النفوس بوسيلتين غير مباشرتين.

الأولى - التجنيد من المستعمرات، وتقوية الجيش الوطني بجيش المستعمرات.

الثانية - تكون اتفاقات سياسية وعسكرية تربط فرنسا بكتل كبيرة قوية، تكفي لملافاة نقص النفوس الأصلي، بل تضمن التفوق على أعدائها من جهة النفوس أيضاً

غير أنه مما لا مجال للشك فيه أن الجيوش التي تجمع من أهالي المستعمرات - وتساق إلى ساحات الحروب سوقاً وتحمل على خوض غمار الحرب - دون أن تشعر بدافع باطني يحب إليها الاستقلال، أن مثل هذه الجيوش لا يمكن أن تتكافأ والجيوش الوطنية التي تعمل وتحارب بشعور وطني وإيمان قومي. . .

وأما الاتفاقات السياسية - فقلما تستقر على حال؛ فلا تستطيع أن تضمن المستقبل في جميع الأحوال، لأن منافع الدول والأمم معضلة إعضالاً شديداً، ومتشابكة تشابكاً كبيراً. فإذا

ص: 15

رأت دولة ما أن من مصلحتها أن تتفق مع دولة أخرى في بعض الظروف، فقد ترى من مصلحتها أن تلتزم الحياد، أو تتفق مع غيرها عند تبدل الظروف. إن نظرة بسيطة إلى تقلب الاتفاقات السياسية وتطور التكتلات الدولية تكفي لإظهار ذلك للعيان. . .

هذه إيطاليا، فقد انضمت إلى فرنسا وإنجلترا، ضد روسية في حرب القرم، ثم اتفقت مع ألمانيا ضد فرنسا بعد استيلاء الأخيرة على تونس؛ ومع هذا لقد انضمت إلى أعداء ألمانيا خلال الحرب العالمية، وفي الأخير عادت واتفقت مع ألمانيا ضد أعدائها في الحرب الحالية. . .

وهذه إنجلترة، فقد حاربت فرنسا في عهد نابليون، ثم اتفقت معها ضد روسيا في حرب القرم، ثم اتفقت مع اليابان فشجعتها على محاربة الروس بعكس ما عملته فرنسا عندئذ، ثم اتفقت مع فرنسا وروسيا ضد ألمانيا في الحرب العالمية، ثم حاربت روسيا بعد انتهاء الحرب المذكورة، وفي الأخير بذلت الجهود الجبارة بالاتفاق معها قبيل الحرب الحالية. وكذلك الأمر في علاقات إنجلترة مع تركيا فإنها كانت على الدوام يوماً لها ويوماً عليها. . .

ونحن نستطيع أن نذكر عشرات الأمثلة لذلك. . . مما يدل على أن مثل هذه الاتفاقات لا توجد موازنات مستقرة - بين تطور المنافع وتقلب الاتجاهات. . .

ولذلك كله سارت الأمور خلال الحرب الحالية سيراً غريباً - بالرغم من الاتفاقات والضمانات السابقة - وقد أدى هذا السير إلى بقاء الجيش الفرنسي - في آخر الأمر - وحيداً إزاء الجيش الألماني في ساحات الحرب. . . فازداد بذلك تأثير التفوق العددي زيادة هائلة. . .

(س)

ص: 16

‌لزوم ما لا يلزم

متى نظم وكيف نظم ورتب؟

للدكتور عبد الوهاب عزام

عميد كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول

عنيت بابي العلاء المعري ناشئاً، وكتبت في أخباره وأشعاره تلميذاً. وما زلت معنياً به حافظاً لأخباره وأشعاره. واللزوميات أعظم آثار الرجل، وهي سجل عقائده وآرائه، ولها النصيب الأوفر من أحاديث من يتحدثون عن المعري، وكتابة من يكتبون في فلسفته.

وكثيراً ما سألت الأدباء وسألت نفسي: متى نظمت اللزوميات وكيف رتبت؟ أخط الشاعر خطتها ثم نظمها ولاء على ترتيب حروف الهجاء، فآراؤه غيها متوالية على هذا الترتيب؛ ما تتضمنه أبيات على رويّ الهمزة مقدم زماناً على ما يذكر في أبيات على رويّ الباء وهلم جراً؟ أم نظم الرجل ما نظم ثم رتبه على حروف الهجاء، فقدم متأخراً وآخر متقدماً، مسايرة للترتيب الهجائي؛ فما يعرف المتقدم والمتأخر من شعر الرجل إلا ما دلت عليه حوادث مذكورة فيه، ولا يستطاع تتبع أفكاره ورعاية تطورها على الزمان؟ وكنت أقول إنه لابد لمؤرخ أبي العلاء من أن يفصل في هذه القضية، فيجزم بأن اللزوميات مرتبة على الزمان أو غير مرتبة.

لذلك أعدت قراءة اللزوميات مستوعباً، متقصياً الأبيات التي تذكر فيها حوادث معروفة أو رجال معروفون، والتي تذكر فيها سن أبي العلاء أو حاله من الشباب والكهولة والشيخوخة. وراجعت ما أثره التاريخ من أخبار الرجل، وذكر كتبه، فانتهيت إلى القضايا التي أسجلها فيما يأتي:

- 1 -

متى نظمت اللزوميات

جمهرة شعر أبي العلاء في مجموعتين: الأولى تتضمن شعر الصبا والشباب وهي التي سماها سقط الزند، وقد جرى في هذا الشعر مجرى الشعراء الآخرين، فمدح وهجا وتغزل ورثى ووصف الخ.

ص: 17

وقد قال أبو العلاء في مقدمة سقط الزند:

(وقد كنت في ربان الحداثة، وجن النشاط، مائلاً في صفو القريض، أعتده بعض مآثر الأديب، ومن أشرف مراتب البليغ، ثم رفضته رفض السقب غرسه، والرأل تريكته؛ رغبة عن أدب معظم جيده كذب، ورديئه ينقص ويجدب).

وقال مستملي أبي العلاء الذي كتب ثبت كتبه كما رواه ياقوت في معجم الأدباء:

(ومن غير هذا الجنس كتاب لطيف فيه شعر قيل في الدهر الأول يعرف بكتاب سقط الزند وهو ثلاثة آلاف بيت)

وفي سقط الزند قصائد قالها في بغداد، وأخرى أرسلها إلى بغداد بعد رجوعه إلى المعرة سنة أربعمائة، وأبيات قيلت بعد سنين كثيرة من اعتكافه في المعرة كالبيتين اللذين مدح بهما القاضي ابن نصر المالكي. فإن هذا القاضي مر بالمعرة في طريقه من بغداد إلى القاهرة، ولم تطل إقامته بمصر، فتوفي بها سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فقد نظم المعري هذين البيتين حوالي سنة عشرين وأربعمائة. ومرثية جعفر بن علي بن المهذب التي مطلعها:

أحسن بالواجد من وجده

صبر يُعيد النار في زنَده

والمجموعة الثانية هي التي سماها (لزوم ما لا يلزم)

- 2 -

هذه المجموعة الثانية من أشعار أبي العلاء قد نظمت بعد رجوعه من بغداد. وقد خط خطتها، وتكلف لها ما تكلف من لزوم ما لا يلزم. ومن استيعاب الحروف الهجائية على الحركات الثلاث والسكون. قال في مقدمتها:

(كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية على أوراق توخيت فيها صدق الكلمة، ونزهتها عن الكذب والميط. ولا أزعمها كالسمط المتخذ، وأرجو ألا تحسب من السميط. فمنها ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد. . . الخ).

وقال في المقدمة كذلك:

(وقد تكلفت في هذا الكتاب ثلاث كلف:

الأولى: أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها

ص: 18

والثانية: أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك

والثالثة: أنه لزوم عن كل روي فيه شيء لا يلزم من ياء أو تاء أو غير ذلك من الحروف)

فهذا شعر حدد موضوعه واختير له نظام في القوافي، وترتيب على الحروف وحركاتها، وكأنه كتاب من كتب العلوم اتصل تأليفه حتى كمل، وهي خطة تسلى بها المعري في عزلته، فينبغي أن يكون تاريخه متصلاً ونظمه متوالياً

وأنا أدعي أن ما تضمن هذا الكتاب من الآراء هو فلسفة أبي العلاء في عزلته بعد سنة أربعمائة، وأن هذا الكتاب كله، إلا أن تشذ أبيات قليلة، نظم بعد هذه السنة.

يدل هذا على أن أبي العلاء قال في مقدمة السقط: إنه رفض الشعر. وقال في مقدمة اللزوميات: (وقد كنت قلت في كلام لي قديم: إني رفضت الشعر رفض السقب غرسه، والرأل تريكته، والغرض ما استجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات. فإما الكائن عظة للسامع، وإيقاظاً للمتوسن، وأمراً بالتحرز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر، فهو أن شاء الله مما يلتمس به الثواب)

فهذا النظم الذي توخى فيه العظة والإيقاظ كان بعد النظم الذي جرى فيه مع الشعراء، ثم رفضه رفض السقب غرسه، والرأي تريكته كما تقدم

ودليل آخر أنه ذكر سنه في كثير من أبيات اللزوميات تصريحاً وتلويحاً، ولم يذكر ما دون الأربعين، وهو قد بلغ الأربعين سنة ثلاث وأربعمائة إلا بيتاً واحداً في هذه القطعة:

إذا هبَّت جنوب أو شَمال

فأنت لكلِّ مُقتاد جنيب

رويدك إنْ ثلاثون استقلَّت

ولم يُنب الفتى فمتى ينيب؟

والخطاب في هذا البيت إما أن يكون لغير شاعر، وإما أن يكون بعض اللزوميات قد نظم حين جاوز الثلاثين قبل سفره إلى بغداد، وإما أن تكون هذه القطعة نظمت كذلك بعد رجوعه من بغداد واعتزامه الاعتزال، وكانت سنه حينئذ سبعاً وثلاثين سنة، فقد مضت الثلاثون ولم يبلغ الأربعين؛ فليس بعيداً أن يذكر مرور الثلاثين. ومها يكن فجمهرة الكتاب نظمت بعد سنة أربعمائة كما أسلفت.

ودليل آخر على أن أبي العلاء شرع ينظم اللزوميات بعد رجوعه من بغداد بقليل، أنه يذكر في اللزوميات - كما فعل في سقط الزند - رحلته إلى العراق آسفاً على الرحيل وعلى

ص: 19

الأوبة. وهذا في غالب الظن، لا يقال بعد مضي سنين كثيرة على هذه الرحلة:

وما بَي طِرق للمسير ولا السُّرى

لأني ضرير لا تضيء لي الطُرْق

أغِربانُك السُحم استقلَّت مع الضحى

سوانحَ أم مرّت حمائمك الوُرق

رحلتُ فلا دنيا ولا دين نلته

وما أوبتي إلا السفاهة والخرق

يا لهف نفسي على أني رجعت إلى

هذي الديار ولم أهلك ببغداذا

إذا رأيت أموراً لا توافقني

قلت الإياب إلى الأوطان أدَّى ذا

شُئِمتِ يا هَّمة عادت شآميَة

من بعد ما أوطنت عصراً ببغداذى

وأزيد على هذه الأدلة أن أبا العلاء ذكر سن الأربعين مرات في اللزوميات، وقد بلغها بعد رجوعه بسنين ثلاث

- 3 -

إن كان المعري شرع ينظم لزوم ما لا يلزم حين رجع من بغداد أو بعد رجوعه بقليل، فكم استمر ينظمها، ومتى انتهى من نظمها وجمعها ورتبها وكتب لها المقدمة التي كتب؟

يمكن أن نجيب على هذا السؤال بوسيلتين: الأولى تتبع الحادثات التي ذكرها والرجال الذين أورد أسماءهم في شعره؛ والثانية استقراء الأبيات التي ذكر فيها سنه

(1)

الحوادث والرجال:

1 -

أولاً: بنو عامر وطئ

يذكر أبو العلاء فتناً وخطوباً أثارها بنو عامر وطئ في الشام وما حولها، ويسمى بعض رجالهم في مواضع كثيرة، منها:

إذا عامر تبعت صالحا

وزجّت بنو قرّة الحردَبا

وأردَف حسانُ في مائج

متى هبطوا مُخصباً أجدبا

وإن قرعوا جبلاً شِامخاً

فليس يُعنّفُ أن يَحدَبا

رأيتَ نظير الدَبا كثرة

قتيرُهمُ كعيون الدَبا

ومنها:

ألم تر طيئاً وبني كلاب

سموا لبلاد غزّة والعريش

ص: 20

ولو قدروا على الطير الغوادي

لما نهضت إلى وكر بريش

ويذكر طيئاً وزعيمها حسان في قوله:

قد أشرعتِ سنبسٌ ذوابلها

وأرهفت بُحتُر معابلها

لفتنة لا تزال باعثة

رامحها في الوغى ونابلها

حسان في الملك لا يحَس لها

تُزْجُي إلى موتها قنابلها

ويقول:

أرى حَلباً حازها صالح

وجال سِنان على جلّقا

وحسّان في سَلفي طيء

يصرف من عِزّه أبلقا

فلما رأت خيلهم بالغبار

ثَغاماً على هامهم عُلِّقا

رمت جامع الرملة المستضام

فأصبح بالدم قد خُلِّقا الخ

وقد رثي للرملة وحزن لما ناب أهلها؟ يقول:

والرملة البيضاء غودر أهلها

بعد الرفاغِة يأكلون قفارها

عتروا الفوارس بالصوارم والقنا

والمَلْك في مصر يعتَّر فارها

جعلوا الشفار هواديا لتنوفه

مرهاء تكحل بالدُجى أشفارها

تكبو زناد القادحين وعامر

بالشام تقدح مَرخها وعَفارها

ويقول:

أيا قَيلُ إن النار صال بحرّها

مقيم صلاة والمهنّد وارس

وبالرملة الشعثاء شيبٌ وِولده

أصابهم مما جنيت الدهارس

وقد ظهرت أملاك صر عليهم

فهل مارست من ظلمها ما تمارس؟

وأحسنُ منكم في الرعية سيرة

طَغج بنُ جف حين قاَم وبارس

وقد ذكر المعري هذه الحادثات في سقط الزند كذلك، إذ قال في القصيدة التائية التي بعث بها إلى علي التنوخي بعد رجوعه من العراق:

بيني وبينك من قيس وأخوتها

فوارسٌ تذر المكثار سِكيّتا

ويقول في القصيدة الطائية التي أرسلها إلى خازن دار العلم ببغداد وهو محتجب بمعرة النعمان:

ص: 21

وما أذهلتني عن ودادك روعة

وكيف وفي أمثالها يجب الغبط

ولا فتنة طائية عامرية

يحرَّق في نيرانها الجعد والسَبط

وقد طرحت حول الفرات جِرانَها

إلى نيل مصر فالوَساع بها تقطو

فوارس طعانون ما زال للقنا

مع الشيب يوماً في عواضهم وخط

وكل جواد شفّه الركض فيهم

وَجٍ يتمنى أن فارسه سقط

ونيبالةٍ من بُحتُر لو تعمدوا

بليلٍ أناسّي النواظر لمُ يخطوا

فما هذه الفتن التي ذكرها أبو العلاء ومتى كانت؟

(يتبع)

عبد الوهاب عزام

ص: 22

‌قصة كتاب:

يتيمة الدهر

للوزير السيد أبي الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي

للأستاذ برهان الدين الداغستاني

كنت أظن أن اسم (يتيمة الدهر) وقف على كتاب أبي منصور الثعالبي المعروف، حتى عثرت منذ سنوات في خزانة المرحوم أحمد تيمور باشا - على رسالة صغيرة الحجم مسماة يتيمة الدهر للوزير السيد أبي الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي رضي الله عنه.

وهذه الرسالة في 61 ورقة مكتوبة بخط نسخي جميل مشكول وكل صفحة في أحد عشر سطراً، وعلى الرغم من شدة عناية المرحوم تيمور باشا بمخطوطات خزانته، وحرصه الزائد على ذكر مؤلفيها وبيان عصورهم وطرف من تراجمهم - لم أجد في فهارس الخزانة ما يكشف الغطاء عن شخصية مؤلف هذه الرسالة، وأخذت أقلب الكتاب لعلي أجد في ثناياه ما ينم عن هوية مؤلفه فلم أجد إلا تلك العبارة المسطرة في رأس الصفحة الأولى منه وهي: (كتاب يتيمة الدهر. بسم الله الرحمن الرحيم. قال الوزير السيد أبو الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي رضي الله عنه: الحمد لله العلي الكبير، القوي القدير، العليم الخبير، السميع البصير. . . إلى أن يقول: أما بعد، فإن أحق ما نطق به لسان، وأعرب عنه بيان، وانطوى عليه كتاب، وانتهى إليه خطاب، ما زاد في قوة البصيرة، وعاد بصحة السريرة، وطرق طرائق العدل، وبين حقائق الفضل، فصار تذكرة للأخيار، ومزجرة للأشرار، وقوة لأولي الألباب والأبصار، وإماماً للعمال، وقواماً للأعمال، يرجع إليه الساسة، وتبنى عليه السياسة، وتنظم به الأسباب، وتتجمع فيه الآداب

وإن الأدب أدبان: أدب شريعة، وأدب سياسة؛ فأدب الشريعة ما قضى الفرض، وأدب السياسة ما عمر الأرض، وكلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان، وعمارة البلدان، وصلاح الرعية، وكمال المزية، لأن من ترك الفرض ظلم نفسه، ومن خرب الأرض ظلم غيره). في مقدمة طويلة على هذا النسق من سجع قصير غير متكلف استغرق ثماني صفحات من الأصل إلى أن يقول في آخر المقدمة: (وقد جمعنا من إنشائنا في كتابنا

ص: 23

هذا ألفاظاً وجيزة، وأجريناها مجرى الأمثال، وفصولا قصيرة قد جعلناها عمدة للولاء والعمال، وعدة للعقلاء وذوي الأعمال، وقصدنا فيما ألفناه من ذلك وجه الاختصار ليقل لفظه، ويسهل حفظه، وجعلناه ألف فصل ومثل في ثمانية أبواب

الباب الأول: في الاستعانة على حسن السياسة

الباب الثاني: في الاستعانة على فضيلة العلم والعمل

الباب الثالث: فيما يستعان به على الزهد والعبادة

الباب الرابع: فيما يستعان به على أدب اللسان

الباب الخامس: في الاستعانة على أدب النفس

الباب السادس: في الاستعانة على مكارم الأخلاق

الباب السابع في الاستعانة على حسن السيرة

الباب الثامن: في الاستعانة على حسن البلاغة

واستعنا فيما وضعناه من ذلك بالله الجليل، وهو حسبنا ونعم الوكيل)

ثم قام أحد الناشرين بطبع هذا الكتاب، وكتب له أحد كبار القضاء الشرعي مقدمة نفيسة، وصرح كاتب المقدمة بأنه لم يعثر على ترجمة المؤلف، ولم يشر إلى أن هذه الرسالة طبعت قبل هذه المرة

والواقع أن هذه الرسالة قد طبعت في القاهرة من نحو خمسين سنة، وإذا أردنا التحديد قلنا: إنها طبعت سنة 1317هـ مسماة بغير أسمها، منسوبة إلى غير مؤلفها، فقد طبعت على هامش كتاب (نثر النظم وحل العقد) لأبي منصور الثعالبي أيضاً، وذلك بالطبعة الأدبية بسوق الخضار القديم بمصر سنة 1317هـ، ثم طبعت هذه الرسالة مرة أخرى بعنوان (كتاب الأمثال المسمى بالفرائد والقلائد، ويسمى أيضاً بالعقد النفيس ونزهة الجليس)، ونسب في هذه المرة أيضاً إلى أبي منصور الثعالبي. وهذه الطبعة مطبوعة في مطبعة التقدم التجارية بحارة العنبة رقم 10 بشارع محمد علي بمصر وليس عليها تاريخ الطبع

وهكذا فقد طبع هذا الكتاب مرتين - ولعله طبع مرات أخرى لا نعرفها - مسمى بغير اسمه الحقيقي - ونسب إلى غير مؤلفه في كلتا المرتين؛ حتى عثر على نسخة الخزانة التيمورية، فعرف أن اسمه الحقيقي هو (يتيمة الدهر)، وأن المؤلف هو الوزير السيد أبو

ص: 24

الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي رضي الله عنه

بقي أن نعرف من هو السيد أبو الحسين صاحب كتاب (يتيمة الدهر)؛ وفي أي عصر عاش، وما هي مكانته الأدبية؟

لقد أطلت البحث عن ترجمة للسيد أبي الحسين، وبذلت كثيراً من الجهد والوقت، ولكن حياة هذا السيد الكريم ما زالت غامضة خفية. لم أستطع كشف القناع عنها، فإني مع كثرة ما بحثت وراجعت من المراجع لم أجد للسيد أبي الحسين ذكراً إلا ما ورد في رسائل بديع الزمان الهمذاني في سياق تلك المناظرة التاريخية التي وقعت بين البديع والخوارزمي في نيسابور سنة 383هـ، فقد كرر البديع الهمذاني اسم السيد أبي الحسين أكثر من مرة واحدة في أثناء حكايته لتفصيلات تلك المناظرة، وذكر أن السيد أبا الحسين كان أحد شهود المناظرة المحكمين، وأنه كان يناصر الخوارزمي، وأن الخوارزمي كان يلجأ إليه ويخصه بالحديث والالتفات في الجلسة الأولى للمناظرة، فلما كان المجلس الثاني احتال البديع على السيد أبي الحسين، واستماله إلى جانبه بقصيدة أنشده إياها في مدح أهل البيت والتشيع لهم، وأستمع إلى البديع حيث يقول: (. . . ثم حضر السيد أبو الحسين وهو ابن الرسالة والإمامة، وعامر أرض الوحي، والمحتبي بفناء النبوة، والضارب في الأدب بعرقه، وفي المنطق بحذقه، وفي الإنصاف بحسن خلقه، فجشم إلى المجلس قد سيفه، وجعل يضرب عن هذا الفاضل - أبي بكر الخوازمي - بسيفين لأمر كان قدموه عليه، وحديث كان قد شبه لديه، وفطنت لذلك فقلت: أيها السيد! أنا إذا سار غيري في التشييع برجلين، طرت بجناحين، وإذا مت سواي في موالاة أهل البيت بلمحة دالة توسلت بغرة لائحة، فإن كنت أبلغت غير الواجب فلا يحملنك على ترك الواجب، ثم إن لي في آل الرسول صلى الله عليه وسلم قصائد قد نظمت حاشيتي البر والبحر، وركبت الأفواه، ووردت المياه، وسارت في البلاد، ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق، ولم تسر على ساق، ولكني لا أتسوق بها لديكم، ولا أتنفق بها عليكم. وللآخرة قلتها لا للحاضرة، وللدين ادخرتها لا للدنيا

فقال: أنشدني بعضها فقلت:

يا لمة ضرب الزما

ن على معرسها خيامه

لله درك من خزا

مى روضة عادت ثغامه

ص: 25

لرزية قامت بها

للدين أشراط القيامه

لمضرج بدم النبو

ة ضارب بيد الأمامه

متقسم بظبا السيو

ف مجرع منها حمامه

منع الورود وماؤه

منه على طرف الثمامه

نصب ابن هند رأسه

فوق الورى نصب العلامه

إلى آخرها، وهي قصيدة في نحو خمسة وعشرين بيتاً كلها على هذا الطراز

قال البديع: (فلما أنشدت ما أنشدت، وسردت ما سردت، وكشفت له الحال فيما اعتقدت، انحلت له العقدة، وصار سلماً، يوسعنا حلماً)

هذا كل ما وجدته عن السيد أبي الحسين، ومنه يظهر مكانه في العلم والأدب، كما يعلم أنه من معاصري البديع والخوارزمي ومقارعيهما، وأنه كان موجوداً في أواخر القرن الرابع الهجري

بقي أن نعرف: هل هذا السيد الذي قص البديع الهمذاني خبره - هو الوزير السيد أبو الحسين بن أحمد بن الحسن بن علي رضي الله عنه صاحب كتاب يتيمة الدهر؟

ذلك ما لا سبيل إلى الجزم به الآن، ولعل في قراء (الرسالة) الغراء من يعرف عن كتاب (يتيمة الدهر) ومؤلفه السيد أبي الحسين أكثر مما نعرف. فإلى ذلك أوجه الرجاء أن يتفضلوا بنشر ما لديهم من المعلومات مشكورين.

برهان الدين الداغستاني

ص: 26

‌البلاغة العصرية واللغة العربية

تأليف الأستاذ سلامة موسى

للأستاذ أحمد محمد الحرفي

موضوع الكتاب - اسم على غير مسمى - الأسلوب التلغرافي - اللغة العربية وحرية المرأة - البلاغة والمنطق - لغتنا حربية أستقراطية عقيدية - دار العلوم والمنطق - دار العلوم والإصلاح اللغوي - دار العلوم للمسلمين - أبو تمام والثقافة. . . . . . . . . . . . . .

- 1 -

لم يكد يفرغ الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات من دفاعه المنصف المجيد عن البلاغة حتى أخرج الأستاذ سلامة موسى هذا الكتيب. ولقد يتوسم قارئ اسمه أنه محاولة موفقة لتجديد البلاغة العربية، أو نقد ونقض لبعض أسسها القائمة، لكنه إذا ما أتمه دهش من انقطاع الصلة بين العنوان والمعنون، فليس فيه تجديد ولا نقض، اللهم إلا الدعوة إلى أن تجاري لغتنا عصرنا، وتماشي حياتنا، وهي دعوة قديمة قال بها عبد العزيز الجرجاني وعبد الكريم النهشلي وغيرهما، وإنما نثر المؤلف في بحثه سوانح عنت له في نشأة اللغة، وعلاقتها بالمجتمع، وضرر اللغة، والتفسير الاقتصادي للغة، والفصحى والعامية الخ، فمن المغالطة أن يسمى كتيبه بهذا الاسم، ومن المغالطة أن يعقد فصلا عنوانه (فن البلاغة) ولا شيء فيه من فن البلاغة، فهل من البلاغة العصرية ألا تدل الكلمات على مسمياتها المعهودة

كرر في بحثه الدعوة إلى الأسلوب التلغرافي (وكذلك نحن نتبع الأسلوب التلغرافي، ونتخير الكلمة التي تحمل المغزى فضلاً عن المعنى) ص 19

فماذا يريد به؟ أن يكون الأسلوب خالياً من الروعة والبراعة والجمال والموسيقى، فلا يمتاز من أسلوب الخطاب المعتاد المتداول في الشئون اليومية. يريد ألا تتفاوت الموضوعات والمناسبات وأقدار الأدباء والقراء، يريد (الاشتراكية) في اللغة كما قرر في مواضع أخر، ويتجافى ما تقرره البلاغة وعلم النفس من أن الأسلوب صدى لما في نفس منشئه، فالانفعال القوي لا يعبر عنه إلا أسلوب يلائمه قوة. والانفعال الهادي لا يوائمه إلا أسلوب

ص: 27

يشاكله دقة، واللغات كلها تعيا أحياناً عن تصوير العواطف بكلماتها الوضعية، فلا مندوحة للأديب من اللجوء إلى الخيال وأفانين الجمال.

وإذا كان هذا رأيه الذي طالما دعا إليه، فلماذا لم يأخذ نفسه به؟ ما له لا يلتزم الأسلوب التلغرافي الذي يدين به؟ ثم ما له لجأ إلى تكرير المعاني في هذا الكتيب؟

على أنا إذا آثرنا الأسلوب التلغرافي فقد جحدنا ما خلفه أدباء العالم كله من تراث فني. ولخير إذاً للزيات والعقاد والجارم وبرناردشو وأندريه موروا وإضرابهم أن يحطموا أقلامهم، أو يغيروا أساليبهم، وهيهات هيهات!

وليس من الصواب الفصل بين الأسلوب والمعنى، فهما جزء واحد، وهما معاً قسيمان في إثارة القارئ ومجاوبته للأديب، أو شعوره بالمتعة الفنية، وهما معاً شريكان في التعبير عن خلجات الأديب وعواطفه، والأسلوب التلغرافي لا يحقق كل ذلك.

ولذا عرف بوفون الكتابة الجيدة بأنها (التفكير الجيد والشعور الصادق والإبانة الممتازة مجتمعة معاً) وفي رأي بوفون أيضاً أن (متانة الأسلوب ليست إلا ملاءمته لطبيعة الموضوع، وهي تتولد تولداً طبيعياً من معنى الموضوع نفسه)، وهكذا كان بوفون فحماً عندما يكتب في التاريخ الطبيعي، وسهلاً يستخدم الألفاظ الشائعة في رسائله إلى أصدقائه المقربين

والأستاذ سلامة يناقض نفسه إذ يقول في ص 17 (ويمكننا أن ننظر إلى اللغة النظر الفني فننشد بالكلمات والجمل رفاهية ذهنية لا تؤديها الدقة العلمية) وفي هذا رد على دعوته إلى الأساليب التلغرافية، إذ الرفاهية الذهنية ليست إلا ثمرة للروعة في التعبير، والإبداع في التصوير، والفحولة في التفكير.

(ثم انظر إلى ما ورثنا من المجتمع العربي القديم بشأن المرأة فقد ألغى هذا المجتمع المرأة من الحياة الاجتماعية إلغاء يكاد يكون تاماً، أما نحن فقد (رددنا الاعتبار) للمرأة المصرية؛ ولكن ما زلنا نستعمل الكلمات القديمة فنقول (أم فلان) أو (حرم فلان) ولا نذكر الاسم، مع أن الاسم جزء من الشخصية وإهماله هو سنة للمرأة. . وإهمالنا لاسم المرأة هو تراث لغوي قديم يحمل إلينا عقيدة اجتماعية يجب أن نكافحها) ص 49

وليس في هذا شيء من الحق، فإن الإسلام قد رفع من شأن المرأة، واختصها القرآن الكريم

ص: 28

في كثير من المواضع بالخطاب، ومنحتها الشريعة حقوقها كاملة، وبحسبنا أن الشريعة الإسلامية لم تحرمها التصرف في مالها الخاص أو الميراث إذا تزوجت، ولم تجعل لزوجها سلطاناً على مالها، مع أن القانون الفرنسي ما زال يعتبرها ناقصة الأهلية، فيتصرف زوجها في مالها كما يتصرف المولى أو الوصي في مال القاصر، وليس لها حق التقاضي إلا بإذن زوجها.

ثم أن الشريعة الإسلامية منحت المرأة حرية اختيار زوجها، وأجازت أن تكون العصمة بيدها. وقد ضرب الرسول عليه الصلاة والسلام أرقى المثل في إعزازها والحدب عليها ورد الاعتبار لها بأفعاله وأقواله، وطالما تغنى الشعراء بحبها والزلفى لها، وطالما أسهمت في الحركة الأدبية والعلمية والسياسية بنصيبها، وطالما سمى الرجال بأسماء أمهاتهم وبناتهم، فليس بصواب أن المجتمع الإسلامي - ودينه الإسلام - انتقص حقوق المرأة وحقر من شأنها كما ادعى الأستاذ

وهل تناسى الأستاذ أن أوربا بعد ذلك العصر كانت تسوم المرأة الذلة والهوان؟ وأن أوربا كانت تتجادل في حقيقة المرأة أإنسان هي أم شيطان؟

ولا تحقير للمرأة في أن نطلق عليها (أم فلان)، وإنما فيه تكريم لها ومسرة واعتراف بالفضل، إذ أنجبت، وأدت وظيفتها الأولى في الحياة. ولا تحقير لها في أن نكني عنها بحرم فلان؛ لأنها في عصمته ورعايته وحمايته، وهي تعلم أن الزواج شرفها وحليتها وأملها، وهل المجتمع الغربي المعاصر يحقر المرأة؟ وإلا فلماذا يطلق عليها مسز فلان وليدي فلان ومدام فلان؟ ومن لطائف برنادرشو في ذلك أن سيدة قالت له: إن الرجل قد سلب المرأة حقوقها، فقال لها: بل سلبته هي كل شيء حتى اسمه

- 4 -

(يجب أن يكون المنطق أساس البلاغة الجديدة، وأن تكون مخاطبة العقل غاية المنشئ بدلاً من مخاطبة العواطف) ص 56

وهذه فكرة عاسفة تهدم أساس الشعر والنثر والفنون الجميلة عامة؛ لأن الفنون وليدة العواطف، واستجابة لنوازع نفسية لا صلة للمنطق بها، ولو أنا أخضعنا كثيراً من النصوص الأدبية التي تروقنا للمنطق لوجدناها هباء.

ص: 29

فكلنا نعجب بقول المنخل اليشكري:

وأحبها وتحبني

ويحب ناقتها بعيري

ونطرب لقول جميل:

لكل حديث بينهن بشاشة

وكل قتيل عندهن شهيد

ويروعنا قول المتنبي:

تسود الشمس منا بيض أوجهنا

ولا تسود بيض العذر واللمم

وكان حالها في الحكم واحدة

لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم

ويهزنا قول شوقي:

وجواهر التيجان ما لم تتخذ

من معدن الدستور غير صحاح

وأي منطق في هذا؟

لو أنا اتخذنا المنطق وحده دعامة للأدب لانقلب إلى حقائق جافة لا خيال فيها ولا جمال ولا سحر، ولكان أحرى به أن يسمى علماً لا أدبا؛ لأن خصيصة الأدب في لغات العالم كلها أن معانيه خيالية، وليس معنى هذا أنها بمعزل عن منطق الحياة، أو فيها خلط واضطراب، وما زال العالم يكبر ما خلفه هوميروس واليونان من تراث، وأي منطق في أبطالهم وأعمالهم الخوارق وهم آلهة وأنصاف آلهة؟

- 5 -

(لغتنا لا تماشي المعارف العصرية؛ لأنها قضت شبابها تلابس مجتمعاً أرستقراطياً حربياً عقيدياً) ص 77 (يجب أن تكون لغتنا متمدنة تتسع للتعبير عن نحو مائة وعشرين علماً وفناً لم يكن يعرفها العرب الذين ورثنا عنهم لغتنا) ص 20

أما أن لغتنا متخلفة عن ركب الحياة العصرية فهذا حق، ولكن الوزر علينا؛ لأن اللغة لا تنمي نفسها، وإنما ينميها المتكلمون بها، وقد ركدت حياتنا أحقاباً طوالاً انزوينا فيها عن العالم المتجدد، فلما أفقنا وجدنا في لغتنا قصوراً عن مجاراة الحياة المتجددة، فعلينا أن ننميها بالاشتقاق أو التعريب

وأما اتهام اللغة بأنها وليدة مجتمع أرستقراطي حربي ديني فلم تعد صالحة لحياتنا - فجرأة ودعوى باطلة، فلم تكن الأمة الإسلامية في العصر العباسي الذي يقصده المؤلف

ص: 30

أرستقراطية حربية دينية فحسب، وإلا فبأية لغة ترجم المسلمون تراث اليونان والفرس والهنود والنبط؟ أتتسع اللغة العربية للتعبير عن فلسفة أفلاطون وأرسطو والتعليق عليها وشرحها ثم تتهم بأنها لغة مجتمع أرستقراطي حربي ديني فحسب فليست صالحة لنا؛ وبأية لغة ألف المسلمون في الفلسفة والجغرافيا والفلك والرياضة والمنطق والأخلاق والكيمياء والبلاغة الخ. . . الخ

وبحسبي أن المؤلف قد ناقض نفسه بقوله: (إن اللغة خدمت المجتمع العباسي أجل خدمة، وقامت بشئون حياته) ص 75

ومن عجب أن يطالب بإلغاء كلمات الحرب من لغتنا؛ لأن مجتمعنا سلمي؛ ص 77 فأي سلام هذا الذي يحلم به؟ وأين اللغة التي تخلو من كلمات الحرب حتى نجرد لغتنا منها؟ أو ليس من الحق أن تتهم اللغة بعد قرن إذا ما جردناها من كلمات الحرب بأنها كانت لغة قوم أذلاء مستضعفين؟

- 6 -

(وإذا كان اللورد هوردر الطبيب الإنجليزي ينصح لكليات الطب في بريطانيا بتدريس كتاب جيفونز في المنطق في السنة الأولى من الدراسة الطبية فإننا أحوج إلى مثل هذه النصيحة في دراسة اللغة العربية في كلية الآداب أو في دار العلوم) ص 16

والعجب من مؤلف ينصب قلمه للإصلاح المزعوم أو الموهوم ثم يتجنى أو يغفل، كأنه لا يعلم أن المنطق القديم والحديث يدرس بدار العلوم دراسة تفوق الحد الذي يتطلبه الأستاذ.

- 7 -

(أبناء دار العلوم هم الذين تخصصوا في اللغة، وتخصصهم حرمهم من دراسات بشرية عدة، فضاقت آفاقهم وتحجرت لغتهم. . . وهم يخشون التغيير لأسباب اقتصادية وطبقية) ص 14

أما أنهم هم الذين تخصصوا في اللغة وأدبها فهذا حق، وأما أن تخصصهم حرمهم من دراسات بشرية عدة فهذا باطل، ذلك أنهم يدرسون مع اللغة التي تخصصوا وحدهم في دراستها كما يقول الأستاذ ثقافات أخرى منها علم النفس والتربية والتاريخ والشريعة

ص: 31

والمنطق والأدب، والأدب المقارن والعبرية والسريانية والإنجليزية والاقتصاد والاجتماع. . . الخ الخ. . . وقد درسوا في تجهيزية دار العلوم برنامج المدارس الثانوية وزادوا عليه التفسير والحديث والفقه ولو اطلع الأستاذ على مناهجهم واستيعابهم لها وشغفهم بالبحث والدرس لغير رأيه، أو لوجد من الخير له ألا يهاجم به إن كان له في الإصرار على الانتقاص الظالم أرب.

وأما أن المتخرجين في دار العلوم يخشون التغيير والتجديد لأسباب اقتصادية وطبقية فهذا افتراء وضغن، فليسوا يعادون التجديد حرصاً على وظائفهم أن تزايلهم كما يزعم؛ لأنهم دائماً في طليعة المجددين، لكن على أن التجديد إصلاح وبناء ودعم، لا اعتساف وثرثرة وهدم، ثم هم قد درسوا الرياضة والتاريخ والجغرافيا في مدارس المعلمين والمدارس الحرة فبرعوا، واستحقوا تقدير الرؤساء، ونالوا إعجاب الطلاب، ولم يخطر لأيهم أن يقاوم تجديداً في اللغة لأنه يؤثر صالحه كما يتهجم عليهم الأستاذ، وإلا فما بالهم يجددون في منهج دار العلوم ويستقدمون أساتذة ليسوا من أبنائها؟ وما بالهم دعوا إلى إنشاء المجمع اللغوي منذ ثلاثين عاماً؟

- 8 -

ولم ينفد بعد تجنيه على دار العلوم، فيقول (ودار العلوم للمسلمين، وهذه نظرة تربط بين اللغة والدين. . . فاللغة عند زكي مبارك وابن عرب والحكومة المصرية ليست لغة الديمقراطية والأتومبيل والتلفزيون بل هي لغة القرآن وتقاليد العرب) ويخيل لي أن هذا مفتاح ضغنه على دار العلوم، فلماذا يختص بها المسلمون؟ أليس في هذا حرص على اللغة العربية لأنها لغة الدين؟ نعم دار العلوم للمسلمين، لأن المسلمين ما زالوا يرون حفظ القرآن الكريم والحديث الشريف غذاء اللغة ومعينا للأدب، وما زالوا يحرصون على سلامة اللغة وبقائها ليبقى الدين ويبقى القرآن الكريم. وأي ضير في أن يكون للغة علاقة بالدين؟ أيريد الأستاذ أن يتهاون أبناء دار العلوم باللغة فلا إعراب ولا فصاحة ولا تحرز من أن تفشو الكلمات الأعجمية وإن استطعنا وضع معانيها من لغتنا العربية كما صرح بذلك في كتابه حتى يصبح القرآن غريباً في هذه اللغة وهو منها الروح الملهم والمدد الذي لا يغيض؟ أم يريد ألا يدرس أبناء دار العلوم دينهم ولا يعلموا فيما بعد تلاميذهم؟

ص: 32

- 9 -

وقد كان نابليون يصف الأدباء بأنهم تجار الكلمات، ولأبي تمام شطرة من بيت كثيراً ما تذكر هي:

(السيف أصدق أنباء من الكتب)

والواقع أن أبا تمام لم يقل كلمة هي أبعد عن الصحة والحقيقة من هذه الشطرة لأن السيوف لا تتحرك إلا للكلام الذي سبقها. . .) ص 88

فهم أن أبا تمام يفضل الحرب والقسوة على الثقافة، كنابليون ولكن الحقيقة أن الشاعر يريد كتب المنجمين الذين أرادوا أن يعوقوا المعتصم عن فتح عمورية، والتنجيم خرافة، فلا تثريب على الشاعر ولا وجه للومه، والشاعر يقول في القصيدة نفسها:

والعلم في شهب الأرماح لامعة

وفي الجديدين لا في السبعة الشهب

مشيراً إلى خرافة المنجمين.

(يتبع)

احمد محمد الحوقي المدرس بالسعدية الثانوية

ص: 33

‌7 - رسالة الفن

للكاتب الفرنسي بول جزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

الفصل الخامس - الرسم واللون

كان رودان يرسم كثيراً مستعيناً بقلم الحبر أحياناً وبقلم الرصاص أحياناً أخرى. وكان في أول الأمر يرسم الخط الخارجي بالحبر ثم يضع الظلال بريشة. وتظهر مثل تلك الرسوم المائية كأنها أخذت عن نماذج بارزة أو منحوتة. وما كانت تلك الرسوم في جملتها إلا رؤى المثال وأخيلته. أما في العهد الأخير فكان يستعمل القلم الرصاص ليرسم الجسم العريان ثم يضع ألوان اللحم بالريشة. وهذه الأخيرة أبسط من الرسوم السابقة، والأوضاع فيها أقل تحديداً، ولكنها أكثر حركة وأوفى نشاطاً. فترى في بعض الحالات الجرة أو الخط قوياً عنيفاً كأن به جنة. ترى جسماً بأكمله وقد نظمته جرة واحدة من القلم الرصاص - ونم تلك الرسوم عن ذلك الجزع المقدس الذي يعتري الفنان حينما يخشى أن يفوته أو يفلت منه تعبير طارئ. أما ألوان اللحم فتوضع بسرعة وقوة وتتم في ثلاثة أو أربع لمسات، وأما التمثيل فينشأ عن جفاف بقع الألوان حيث تتخلف عند كل لمسة نقط عديدة لا يتسنى للريشة العجلى جمعها والتقاطها. وهذه الرسوم الأولية تمسك وتثبت الإشارات والإيماءات الخاطفة، وتسجل الحركات المتتابعة التي قلما تلمحها العين لأكثر من نصف ثانية. وهي لا تطلعك على الخطوط والألوان فحسب، بل تريك الحركة وتشعرك الحياة أيضاً. إنها أخيلة المصور أكثر منها أخيلة المثال.

وأخيراً توقف رودان عن إجراء التمثيل بالريشة وذلك لمداومته على استعمال القلم الرصاص، فهو يقتصر على مسح الخط الخارجي بإصبعه فينشأ عن ذلك لون فضي يغشي الأجسام كأنه الغلالة الرقيقة، ويضفي عليها جمالاً رائعاً يجعلها تبدو كأنها غمست في الشعر والخيال.

وتلك الدراسات الحديثة أجمل دراساته على ما أعتقد. فهي مضيئة، تزخر بالحياة وتفيض بالسحر.

ص: 34

وعندما كنت انظر مع رودان في بعض تلك التصاوير قلت له: (كم تختلف هذه عن تلك التصاوير الكاملة المنمقة التي تصادف هوى الجمهور؟) فقال:

(حقاً أنها التفاصيل والدقائق الميتة الخالية من التعبير، والحركة الزائفة المتكلفة هي التي تستهوي الجهال وتطربهم. فالعامة لا تستطيع أن تدرك كنه تعبير قوي لا يحفل بالدقائق والتفاصيل التي لا فائدة منها ويعنى بحقيقة المجموع كله. نعم لا تستطيع السوقة أن تدرك شيئاً من تلك الملاحظات الصادقة التي تنأى بنفسها عن الأوضاع المسرحية المفتعلة والتي تعنى بأحوال الحياة الحقيقية البسيطة ذات الأثر البالغ في النفس

إن من الصعب تصحيح الأغلاط الشائعة عن موضوع الرسم. فمن الخطأ البين أن يظن امرؤ أن الرسم جميل في حد ذاته. إنه ليس جميلاً إلا بما يعبر به عن الحقائق الصادقة وعن المشاعر العميقة. يعجب الجمهور بفنانين يملكون ناصية فنهم بلا مراء ولكنهم يزوقون وينمقون. خطوطاً إنشائية خالية من الدلالة، ويثبتون مرسوميهم في أوضاع متكلفة غير طبيعية، ولكنها تعد فنية لأنها تشبه أوضاع المثل الإيطالية الذين يعرضون أنفسهم على أبواب المراسم. وهذا ما يسمى غالباً بالرسم الجميل، وما هو في الحقيقة إلا (خفة يد) تعجب البلهاء الحمقى.

وفي الواقع يوجد رسم في الفن كما يوجد أسلوب في الأدب، أي أن الرسم في الفن هو بمثابة الأسلوب في الأدب. فالأسلوب المزوق الذي يترك أثراً في النفس أسلوب رديء. وأما الأسلوب الجيد الرصين فهو الذي يستخفي ويتوارى كيما يوجه القارئ كل اهتمامه إلى الموضوع الذي هو بصدده وإلى العاطفة المصورة.

فالفنان الذي يزوق رسومه والكاتب الذي يصبو لامتداح أسلوبه كلاهما كالجندي الذي يزين كسوته بالريش ولكنه يتهيب الذهاب إلى المعركة، أو كالفلاح الذي يشحذ ويجلو سكة المحراث بدلاً من أن يقوم ويفلح بها الأرض

قد لا يخطر ببالك أن تمتدح الرسم أو الأسلوب ذا الجمال الصادق لأنك تؤخذ بأهمية كل ما يعبران عنه، ومثل هذا يقال عن اللون أيضاً. وفي الواقع لا يوجد أسلوب جميل أو رسم جميل أو لون جميل، وإنما يوجد جمال واحد فقط هو جمال الحقيقة السافرة المتجلية. فعندما يتمخض عمل عظيم - أدبياً كان أو فنياً - عن حقيقة جلية، أو عن فكرة عميقة، أو عن

ص: 35

شعور قوي فياض فمن البدهي أن يكون الأسلوب أو الرسم أو اللون بالغاً منتهى الإجادة والسمو ولا تكون تلك الصفات إلا نور الحقيقة منبعثاً من مصباحها.

يعجب الناس رسوم رفائيل بحق، ولكن يجمل بهم ألا يعجبوا بها لذاتها أو لا تزان خطوطها اتزاناً بارعاً، وإنما يعجبون بما تنطوي عليهم من المعاني. وأما محاسن هذه الرسوم وكل ما يدعو إلى الإعجاب بها فتنحصر في وداعة الروح وداعة حلوة رأتها عينا رفائيل وسفرت معبرة عن نفسها على يديه، وفي الحب الذي يغمر نواحي نفسه والذي يفيض من قلبه على الطبيعة بأسرها.

ولقد حاول الكثيرون ممن تنقصهم روحه أن يستعيروا موسيقية الخطوط والحالات التي صور عليها أشخاصه فلم ينتجوا إلا مقلدات غثة لأعمال نابغة أو زيينو العظيم

وفي رسوم ميشيل انجلو لا يعجبن المرء بالطريقة التي انتهجها أو بالنتوءات القوية أو بالتشريح البارع، ولكن بقوة هذا الفنان الزاخرة. أما مقلدوه الذين تعوزهم روحه والذين نسخوا في لوحاتهم أوضاعه القوية الوطيدة، وعضلاته المنتفخة، فقد باءوا بالفشل ووضعوا أنفسهم موضعاً كله شين وسخرية.

وإن ما يصح أن نعجب به من ألوان تيتيان هو ما تقدمه لنا من المعاني لا بانسجامها القليل أو الكثير. فليس لألوانه جمال حقيقي إلا بما تتضمنه من سيدوده جليلة شاملة. ويظهر الجمال الحقيقي لألوان فيرونيز في قدرتها على إبراز حفلات النبلاء الرشيقة الأنيقة بألوان فضية موسيقية ساحرة.

وأما ألوان روبنز فلا قيمة لها في حد ذاتها ويكاد يكون جمالها المتوهج هراء لولا انطباعها بطابع الحياة والبهجة والسرور والشعور القوي العميق

ولا أظن أنه يوجد عمل فني واحد يرجع جماله إلى اتزان خطوطه أو تهويل ألوانه فقط أو إلى أنه يسترعي العين وحدها. خذ مثلاً النوافذ ذات الزجاج الملون التي يرجع عهدها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر فهي إذا ما سحرتنا بألوانها الزرقاء المخملية، أو بحنان ألوانها البنفسجية، أو بحرارة ألوانها الحمراء، فما ذلك إلا لأن تفصح عن سرور خفي أمل صانعوه البررة الأتقياء أن يحظوا به في سماء أحلامهم. وإذا ما جاءت بعض قطع القاشاني الفارسي المزينة بأزهار فيروزية اللون آية من آيات الألوان الساحرة المحببة فما ذلك إلا

ص: 36

لأن ألوانها البديعة تحمل النفس إلى ما لا أدري من أودية الأحلام والخيال. وعلى ذلك فكل رسم وكل ألوان منسجمة تؤدي معنى بحيث لا يصبح لها جمال بدونه. . . وهنا قاطعته قائلاً:

(ولكن ألا تخشى الحط من قيمة الصنعة في الفن؟)

ومن يقول لك باحتقارها أو بالإقلال من شأنها؟ ليست الصنعة إلا وسيلة. ولن يبلغ الفنان الذي يهملها غايته التي هي التعبير عن الشعور والأفكار. ويكون مثل هذا الفنان مثل السائس الذي نسي أن يعلف جواده الشعير

ومما لا مشاحة فيه أنه إذا كان الرسم ضعيفاً ركيكاً واللون مزيفاً مسيخاً، فلا يمكن والحالة هذه أن تجد أقوى العواطف سبيلاً إلى الظهور والإفصاح. قد يبعث التشريح الخاطئ على الضحك على حين يرغب الفنان أن يكون جد مؤثر. ويرتكب اليوم كثير من أحداث الفنانين هذا العيب الشائن، ويخونهم ضعفهم وقصورهم في كل مناسبة لأنهم لم يدرسوا الدرس الكافي. قد تكون مقاصدهم سليمة، ونياتهم حسنة، ولكن ذراعاً قصيرة قصراً ظاهراً، أو ساقاً غير مستقيمة، أو منظوراً مختلاً مشوهاً - كل ذلك من شأنه أن يجعل الرائي يصد عن رؤيتها ويشيح بوجهه عنها.

وقصارى القول لا يمكن أن يغني إلهام مفاجئ عن العمل الطويل الذي لا غنية عنه لإكساب العين القدرة على الإلمام التام بالشكل والنسبة، ولجعل اليد تنصاع لأوامر الشعور وتجري مجراه

وعندما أقول بأن الصنعة يجب أن تتناسى فلا أعني أو يدور بخلدي قط أن الفنان يستطيع أن يزاول عمله من غير إلمام بالعلم، وأرى على النقيض من ذلك أن لا غنى له عن طريقة شاملة يخفي تحتها ما يبطن ويعلم. ولا غرو فإن أبرع رجال العالم في نظر السوق الجاهل هم بعض المشعوذين الذين يرسمون بضعة خطوط شاذة، أو يأتون بألوان شبيهة بالألعاب النارية المدهشة، أو هم الذين يكتبون جملاً طويلة منمقة حشوها الغريب من الألفاظ. ولكن الصعوبة كل الصعوبة، وأساس الفن الصحيح هو أن ترسم أو تصور أو تكتب بسهولة وبساطة.

إنك لتشاهد صورة أو تقرأ صحيفة فلا يستوقفك الرسم أو اللون أو الأسلوب، ولكنك تشعر

ص: 37

بالتأثير العميق في نفسك من غير أن تخشى الوقوع في غلطة، فالرسم واللون والأسلوب كلها كاملة من الناحية الفنية. . . فقلت له:

ألا يمكن مع هذا يا أستاذ أن تكون بعض الأعمال العظيمة الخالدة ناقصة من ناحية الصناعة الفنية؟ ألم يقولوا مثلاً إن ألوان رفائيل تغلب عليها الرداءة غالباً، وإن رسم رمبراند لم يسلم من الغمز واللمز؟ فقال:

صدقني إن هذا خطأ صراح. فإذا كانت قطع رفائيل تسر النفس فما ذلك إلا لأن كل شيء فيها - من لون ورسم - يمد هذا السرور بمعين. انظر إلى سان جورج الصغير باللوفر، وإلى بارناسس بالفاتيكان، وإلى رسوم الستائر في سوث كنسنجت انظر إلى كل هذه تر الانسجام فيها ساحراً. أخذا. نعم، تختلف ألوان سانزيو عن ألوان رمبراند ولكنها تلائم إلهامه كل الملائمة، إنها صافية نقية كصنعة القرط. إنها تبدي انسجامات مفرحة، طلية زاهرة. إن لها شباب روفائيل الخالد. إنها لا تبدو حقيقية، وذلك لأن الحقيقة التي كان يراها نابغة أوربينو ليست حقيقة مادية فحسب، بل كانت دنياه دنيا شعور حيث تستحيل الأجسام والألوان بنور الحب. ولا غرو إذا قال أحد غلاة الواقعيين بأن ألوانه غير صحيحة، أما الشاعر فيراها صادقة.

ولو قورنت ألوان رامبراند أو روبنز برسم رفائيل لبدت الأولى جافية بشعة، ما في ذلك من شك.

ومع أن رسم رامبراند يختلف عن رسم رفائيل فهو لا يقل عنه جودة. فخطوط رفائيل حلوة نقية، أما خطوط رامبراند فخشنة متعرجة. كانت مخيلة الفلمندي العظيم متأثرة بالثياب الخشنة، والوجوه الفظة الجعدة، وبأيدي الطبقة الفقيرة المجلة الدرنة. وما كان الجمال عنده إلا التباين بين حقارة الغلاف المادي الخارجي والإشعاع الروحي الداخلي. وإلا فكيف كان يتسنى له أن يعبر عن هذا الجمال المؤلف من بشاعة مادية ظاهرة ومن سمو نفساني رائع إذا ما حاول أن يجاري رفائيل في أناقته؟ ينبغي أن تدرك أن رسمه كامل متقن إلى أبعد حدود الكمال والإتقان لأنه يتفق تمام الاتفاق مع خلجات نفسه وأفكاره فقلت:

وعلى ذلك قد نفهم من قولك إنه من الخطأ الاعتقاد بأن الفنان لا يستطيع أن يكون بارعاً

ص: 38

في فن الألوان ورساماً عظيماً في آن واحد

فقال: ما في ذلك من شك وأنا لا أدري والله كيف رسخت هذه الفكرة في الأذهان إلى هذا الحد. فإذا كان عظماء الفنانين فصحاء بلغاء، وإذا كان في مقدورهم أن يملكوا أعنة نفوسنا ويذهبوا بنا كل مذهب، فما ذلك إلا لأنهم يملكون كل وسائل التعبير التي تلزمهم. لقد برهنت لك على ذلك من لحظة بحالتي رفائيل ورامبراند. ويمكن تطبيق مثل هذه الأدلة على جميع عظماء الفنانين. فمثلاً أتهم البعض دلاكورا بجهله أصول الرسم؛ أما الحقيقة فعلى النقيض من ذلك تماماً؛ فإن رسمه يتمشى تمشياً معجباً مع ألوانه. فهو مثلها وعر متقطع، محموم، سام، مترع بالحيوية والعواطف القوية. وهو مثلها يجنح إلى الغلو والجنون أحياناً وعند ذاك يبدو أجمل وأروع ما يكون. . . إن الرسم واللون شيء واحد ولا يمكن أن يعجب بالواحد دون الآخر.

ولقد يغرر أنصاف النقاد بأنفسهم حينما يفرضون وجود ضرب واحد من الرسم فقط هو رسم رفائيل أو حتى رسم من هم دونه من مقلديه أمثال دافيد وأنجر. وحقيقة الواقع أنه يوجد من ضروب الرسم والألوان بقدر ما يوجد من الفنانين

يقال عن ألوان البرخت دورر إنها صلبة جافة، وليست كذلك بتاتاً. إن دورر جرماني، فهو يعمم ولا يخصص، وترى تراكيبه الإنشائية محكمة مدعمة كالحقائق المنطقية، وأشخاصه جامدة كما ينبغي أن تكون. وهذا يفسر لنا دقة رسمه البالغة، وكيف جاءت ألوانه مكبوتة محدودة.

(وينتمي هولبين إلى نفس المدرسة، فليس لرسمه شيء من الرشاقة الفلورنتينية، ولا للونه الجمال البندقي.

ولكن لخطوطه وألوانه قوة ورسوخ ومعنى باطني، وهذه صفات قد لا تتوفر لأي مصور آخر.

ويمكن أن يقال إجمالاً عن فنانين حريصين مدققين كمن ذكرت؛ إن رسمهم غير مرن وإن ألوانهم باردة جافة جفاف الحقائق الرياضية؛ كما يمكن أن يقال على النقيض من ذلك عن البعض الآخر الذين هم شعراء الوجدان أمثال رفائيل وكوريجيو واندريا دل سارتو إن خطوطهم أكثر طراوة وليونة، وألوانهم أوفى رقة وجاذبية. أما في غير هؤلاء ممن نسميهم

ص: 39

(الواقعيين) أي أولئك الذين هم أقل عمقاً في الشعور والحس أمثال روبنز وفلاسكويز ورمبراند فنرى أن لخطوطهم جمالاً حياً له قوة وروعة، وهدوء وسكون. أما ألوانهم فتقوى أحياناً حتى لكأنها أخذت من أشعة الشمس، أو تخبو أحياناً أخرى فتبدو كأنها الهيدب أو الستر الشفيف؟

وعلى ذلك قد تختلف طرائق التعبير عند نوابغ الفنانين باختلاف نفوسهم. ويكاد يكون مستحيلاً على المرء أن يقرر بأن رسم ولون فريق منهم أحسن أو أفضل من رسم ولون الفريق الآخر). فقلت:

- (إني أدرك ذلك يا أستاذ؛ ولكني أراك لا تفكر لحظة فيما تسببه من الإحراج لجماعة النقاد المساكين عندما ترفض مبدأ تقسيم الفنانين إلى رسامين وملونين. ولكن يسرني أن أفهم من قولك إن هناك طريقة جديدة لمن يرغب ذلك من مريدي التقسيم، فأنت تقول إن الرسم واللون ليسا سوى وسيلة، وإن روح الفنان هي العامل المهم الذي يعنينا. وعلى هذا يمكن أن نضع المصورين في جماعات تختلف باختلاف أمزجتهم. فالبرخت دورر مثلاً يقرن بهولبين، لأن كليهما منطقي. ويوضع رافائيل وكوريجيو وأندريا دل سارتو الذين ذكرتهم في قسم تغلب عليه العاطفة والحس، ويأتي هؤلاء في طليعة المحزونين الذين يشبهون بشعراء المراثي. وثم قسم آخر يشمل أولئك الفنانين الذين يعنون بالوجود وبالحياة اليومية يكون من أقطابه الثالوث المؤلف من روبنز وفيلاسكويز ورمبراند. وأخيرا يؤلف بعض الفنانين أمثال كلود لورين وتيرنر قسماً رابعاً ينظر إلى الطبيعة كأنها رؤى وضاءة آبقة).

فابتسم رودان وقال:

(أرى أن لا داعي لمثل هذا التقسيم الذي قد يكون أقرب إلى الصواب والعدل من ذلك الذي يقسم الفنانين إلى رسامين وملونين. وعلى كل حال فإن أي تقسيم من هذا النوع مصيره إلى الفشل، وذلك لتعقد ألفن أو بالأحرى لاختلاف النفوس الإنسانية التي تتخذه لغة للتخاطب والتفاهم. وعلى ذلك فغالباً ما يكون رامبراند شاعراً سامياً ورفائيل واقعياً صرفاً

دعنا نروض أنفسنا على فهم عظماء الفنانين. دعنا نحبهم، ولنقصدهم لنستلهمهم ونستوحيهم، ولكن فلنكف عن وضع بطاقات عليهم كتلك التي نضعها على العقاقير في

ص: 40

مخازن الأدوية

دكتور محمد بهجت

قسم البساتين

ص: 41

‌أغاني الرعاة.

. .!

للمرحوم أبي القاسم الشابي

أقبل الصبح يغني للحياة الناعسة

والربى تحلم في ظل الغصون المائسة

والصبا تُرقص أوراق الزهور اليابسة

وتهادى النور في تلك الفجاج الدامسة

أقبل الصبح جميلاً! يملأ الأفق بهاه

فتمطى الزهر والطير وأمواج المياه

قد أفاق العالم الحي. . . وغنى للحياة

فأفيقي يا خرافي! واهرعي لي يا شياه!

واتبعيني يا شياهي بين أسراب الطيور

واملئي الوادي ثغاء! ومراغاً وحبور

واسمعي همس السواقي وانشقي عطر الزهور

وانظري الوادي يغشيه الضباب المستنير

واقطفي من كلأ الأرض ومرعاها الجديد

واسمعي شبابتي تشدو بمعسول النشيد

نغم يصعد من قلبي كأنفاس الورود

ثم يسمو طائراً كالبلبل الشادي السعيد

وإذا جئنا إلى الغاب وغطانا الشجر

وقطفي ما شئت من عشب وزهر وثمر

أرضعته الشمس بالضوء وغذاه القمر

وارتوى من قطرات الطل في وقت السحر

وامرحي ما شئت في الوديان أو فوق القلال

واربضي في ظلها ما شئت إن خفت الكلال

وامضغي الأعشاب والأفكار في صمت الظلال

ص: 42

واسمعي الريح تغني في شماريخ الجبال

إن في الغاب أزاهير وأعشاباً عِذاب

ينشد النحل حواليها أهازيجاً طراب

لم تدنس عطرها الطاهر أنفاس الذئاب

لا. . . ولا طاف بها الثعلب في بعض الصحاب

وشذا حلواً وسحراً وسلاماً وطلال

ونسيماً ساحر الخطوة! موفور الدلال

وغصوناً يرقص النور عليها والجمال

وأخضراراً أبدياً ليس تمحوه الليال

إن تملي يا خرافي! في حمى الغاب الظليل

فزمان الغاب طفل لاعب عذب جميل

وزمان الناس شيخ عابس الوجه ثقيل

يتمشى في ملال فوق هاتيك السهول

لك في الغابات مرعاي ومسعاي الجميل

ولي الإنشاد والعزف إلى وقت الأصيل

فإذا طالت ظلال الكلأ الغض الضئيل

فهلمي نرجع المسعى إلى الحي النبيل

في دار الإذاعة:

غريب. . .

للأستاذ إبراهيم العريض

يا ابنة الحسن! لا تقولي غريب

غرَّبتني في الحب عينا مَهاةِ

لم تكن غير نظرٍة. . . تركتني

ضامئاً - بعدها - إلى نظرات

أغمض العين كي أراها بسمعي

حين تسترسلين في النغمات. . .

في فؤادي أحس وقع خطاها

حيثما تنهدين بين اللدات

ص: 43

ساءلتني: أأنت تشعر؟ هلا

ساءلَتْ عني النجوم رواتي؟

آه لي من هواك! لو كنت عوداً

جَّمرته يداك للنغمات

أنا من الجمال غرَّد حتى

ردد النَيل لحنه للفُرات

قدْك يا هند! طاب عهدك لما

حرتِ علَّ ابتسامة في حياتي

لم تكن غير بسمة عجلَتْ عي

ناك في القلب سحرها بالتفات

ثم عدنا. . . تخفيك عني الليالي

بين أحلامها. . . وبين ملاتي

أيها الليل! ضُمَّ ما شئت عني

غير صوت يُلُّم بي في أناةِ

صوت تلك التي بشاطئ جَمنا

تنجني. . . عرفت فيها مهاتي!

ألوان. . .

للشاعر عبد الرحمن الخميسي

ليل باك

استوى الليلْ على عرش السماء

مُطفئاً فيها مصابيحَ الفضاء

كافراً تقطرُ من حلكته

بالدجى حتى أعاصير الهواء

سلَّط البَرْدُ على أكتافه

من سياط البرق تعذيب الشتاء

والرياحْ الهوجُ من أنفاسِه

أطلقتْ من قلبه بعض العناء

يحملُ اللوعةَ في أغواره

يجهش الرعد بها كيف يشاء

فتدوّي قصفةٌ من فمه

كلما اشتدت عليه البُرَحاء

تسرد الأمطار عن شقوته

قصة الحزن لعشاق البكاء

حيرة

تكسر مجدافي ومادتْ بزورقي

أعاصير هوجُ كلهنَّ جنونُ

وأُفرِدْتُ وحدي في الخضمِّ ولفَّني

ظلام من الإزراء ليس يهون

فلا الموج يطويني ولا النور مُسعفي

ولا الشاطئ المجهولُ عنه يبين

شجن

ص: 44

ثارت بنفسي حيرةُ السأمانِ

ورمتْ فؤادي في اللظى أحزاني

وددتُ لو أحظى بلقيا عابر

في الليل أفزعُ نحوه فيراني

ويرى الذي قد خطه من شقوتي

ألمي على وجهي الهزيل العاني

وأبَّثه هتفات قلبٍ راسفٍ

في الحب والتعذيب والحرمانِ

فلقد يُريحُ النفس أن تُفشى الذي

في غورها من هاتف الأشجان

ولقد يُريحُ النفس أن يُصغي

إلى صرخاتها قلبٌ وحيدٌ حاني

أوَّاهُ من شجني الذي أبكاني

ومشى على قلبي وفي أركاني

يا قُدْيَسه من لاعجٍ نيراني

لم يُبقِ إلا صورةَ الإنسانِ

ص: 45

‌البريد الأدبي

حول منهج البحث عن تكون الشعب المصري الجديد

ليس من الحق أن ننكر ما بذله الأستاذ الشيال من الجهد في بحثه

(تكوين الشعب المصري الجديد بعد الفتح العربي) في مجلة الثقافة من

رجوع إلى المصادر العربية القديمة ومحاولة تنسيق النقول المختلفة

منها مع صحة الاستنباط وبراعة الاستنتاج، بيد أني مضطر إلى القول

بأن المنهج الذي ابتدعه يعوزه الترتيب وتنقصه المحاولة الدقيقة في

البحث عن أصول هذا التكوين وعوامله ومقدار التلوين الذي أدخلته

كلتا الشخصيتين العربية والمصرية على الأخرى.

وإذا ما عدنا إلى مناهج الغربيين الباحثين عن أصول تكوين الشعوب الأوربية وجدناها تختلف عن منهجه اختلافاً قوي الأثر بعيد الخطر. ولا يصح أن يقال إن ظروف التكون التي أحاطت بهذه الشعوب تختلف عن الظروف التي أحاطت بتكون الشعب المصري العربي بعد الفتح؛ فإن الأصول الأولى التي عرفت والتي كان لها أكبر الأثر في تكوين الشعوب ونمو شخصيتها الجديدة هي بعينها الأصول التي عرفت عند العرب. وإذا ما جاز لنا أن نحاول مثل هذه الدراسات في البحث عن أصول الشعوب العربية الجديدة وتأثرها بمقومات الشعوب التي استعمرتها في الثقافة والدين واللغة والجنس فإن هذا يحتاج إلى منهج من نوع آخر ليس يكفي فيه تنضيد النصوص العربية والوقوف عندها بالاستنتاج الحذر مما لا يلقي صورة واضحة ولا يدلي بأسباب قوية عن هذا التكون

ولقد حاول المؤرخون الإنجليز البحث عن أصول تكون الشعب الإنجليزي المختلفة المتعاونة على تقويم حياة الشعب فكانت لهم من ذلك محاولات يصح أن ينتفع بها الدارسون لمثل هذه المحاولات في الشعوب العربية وآدابها والأستاذ الشيال حين يبدأ أولى هذه المحاولات يقف عند المصادر العربية وقوفاً عجيباً فلا يحفل بالبحث عن مقاومات البيئة المصرية الأولى التي استعمرها العرب. ونحن نعلم مما وصل إلينا من البحوث المختلفة

ص: 46

التي عولجت حول هذه البيئة من مؤرخي اليونان والرومان الذين رحلوا إلى الإسكندرية أو استقروا فيها شيئاً كثيراً يتصل بعضه بالأديان المختلفة التي كانت تصطرع في هذه المدينة وبعضه بالآثار الأدبية المختلفة من يونانية وقبطية وبعضه يتناول نواحي من التدين خاصة كالتصوف الذي تأثر به العرب فيما بعد والذي كان أصلاً من أصول الحياة الدينية المصرية القديمة.

وإن الأفلاطونية الحديثة التي نشأت في مدينة الإسكندرية كان لها أثر قوي في البحوث الدينية عند المسلمين فيما بعد ولعل هذا يلفتنا إلى وجوب البحث الدقيق عن مسالك تأثر المسلمين بالثقافات اليونانية إذ ربما حول ذلك مجرى البحث الذي استقر في مثل هذه الموضوعات عندهم.

وإذا كان المؤرخون الإنجليز حاولوا شيئاً من هذا في دراساتهم الأدبية والتاريخية فأولى بنا أن نرجع أولاً إلى مثل هذه المحاولات قبل البدء في دراسة هذه الموضوعات. وبين يدي الآن مرجع من هذا الطراز يبحث فيه صاحبه ما تردد في الإسكندرية من ألوان الثقافات مختلفة التي كان لها أكبر الأثر في تكوين الشعب المصري الجديد.

ولا يقف في سبيلنا ما لا يزال موضعاً للدراسة مما يروى من إحراق مكتبة الإسكندرية على يد عمرو بن العاص بأمر عمر فإن تأثر العرب بالثقافات القديمة في مصر لا يرتكز فقط على المتحف والمكتبة وإنما يعتمد على أشياء أخرى تظهر لمن خصص نفسه لمعالجة مثل هذه الدراسات رفق ولين وأناة. س

وإذا كانت الفلسفة اليونانية قد لجأت إلى الإسكندرية بعد ما لاقت من ألوان الاضطهاد والأذى في الغرب فوجدت فيها حياة آمنة وأفقاً ضيقاً يلائم الفلسفة والتفلسف فأجدر بنا ألا نقف عند هذه المحاولات بل ينبغي أن يمتد ذلك إلى تعرف آثارها في الحياة العربية الإسلامية المصرية فيما بعد.

وإذا كان المقريزي في خططه يصف سكان مصر فيقول:

(وهم أخلاط مختلفة من الفرس والروم والبربر) ولكل من هذه الأخلاط مقومات مميزة انصهرت انصهاراً عجيباً في البيئة المصرية فإن البحث عن أصول هذا الشعب ينبغي أن يتناول هذه الأخلاط المتباينة في الجنس والثقافة والدين.

ص: 47

وسواء أكان العرب الذين استقروا في مصر قيسيين أم يمنيين فإنهم وافدون من جزيرة العرب ذات المقومات الخاصة في الدين واللغة والجنس، ونحن نعرف من تاريخهم أكثر مما نعرف من تاريخ القبط والروم والفرس والبربر؛ فالاتجاه إلى بحث الجنس العربي وحده اتجاه يسير الجدوى قليل الأثر.

وإني أرجو أن يتعاون الباحثون عن تكوين الشعب المصري الجديد تعاوناً يستند على أصول دقيقة من البحث العلمي حتى تقوم دراسة الأدب العربي المصري على أسس صحيحة من البحث المنتج السليم.

السيد خليل

طباعية لا طبعية ولا طبيعية

قال الإمام العالم الأديب أبو حيان التوحيدي في المقابسة الثانية والعشرين فيما بين المنطق والنحو من المناسبات ص 172

من كتاب المقابسات - وشهادة النحو طباعية، وشهادة المنطق عقلية - فنسب إلى طِباع ولم ينسب إلى طبيعة، وتحرز بذلك المشكلة القائمة الآن في النسب إليها، وقد جاء في القاموس: الطبع والطبيعة والطباع ككتاب السجية جبل عليها الإنسان أو الطباع ككتاب ما ركب فينا من المطعم والمشرب وغير ذلك من الأخلاق التي لا تزايلنا، كالطامع كصاحب

فهل لنا أن نقلد ذلك الإمام الجليل في تلك النسبة، ونقول في هذا المعنى - طباعية وطباعي - ولا نقول طبِيعي ولا طَبَيعي لأن النسبة الأولى تخالف القياس في المنسوب إلى ما يكون إلى فَعِيلة

والنسبة الثانية تلتبس بالنسبة إلى طَبَع بفتح الطاء، والباء، وهو الصدأ والدنس، ولاشك أن مثل هذا الالتباس له حكمه في اللغة، وقد أوجب دفعه كثيراً من أحكام النحو.

عبد المتعال الصعيدي

أين شعراؤنا

رحم الله (شوقياً) و (حافظاً) إني كلما جد حادث في مصر أو في الشرق، تذكرت هذين الشاعرين فسكبت عليهما الدموع، ولعلهما لو عاشا إلى أيامنا هذه لقرأنا لهما القصائد الجياد

ص: 48

في هذه الأحداث التي تمر بنا، ولكنهما ماتا، ولم يصدق الشاعر حين قال:

قالوا خلت مصر بعد الشاعرين ولم

يعمر بمثلهما ميدانه الخالي

ولست وحدي في مصر بعدهما

فمصر ملأى بأشباهي وأمثالي

نعد وجد هذا الشاعر سعة في مجال الفخر ولكنه لم يجدها في مجال الشعر، وإلا فأين أشباهه وأمثاله؟ أين هؤلاء الذين ملئوا الصحف بالأمس يبكون (باريس) أين هم اليوم ليبكوا (دمشق) و (حلب) و (حماة)؟ ضلة لهؤلاء المفتونين بفرنسا وضلالات فرنسا، أتراهم سكنوا الآن لأنهم يحبون فرنسا أكثر مما يحبون (سوريا) و (لبنان) إنا لنرفعهم عن ذلك، ولكن ما بالهم لم تهز مشاعرهم هذه الحوادث الفظيعة التي ترتكبها فرنسا؟

أيها الشعراء، سجلوا مفاخر قومكم قبل أن تسجلوا مفاخر أعدائكم، وأبكوا على مصائبكم قبل أن تنوحوا على مصائب الناس واسمعونا أصواتكم.

علي محمد حسن

تصويب أخطاء في العدد الماضي

في الصفحة الأولى من العمود الثاني في السطر 17 هيهات ألا يبعث، والصواب لا يبعث

في الصفحة 620 العمود الأول السطر الرابع للواتي والصواب اللواتي

في الصفحة 620 العمود الثاني السطر 21 أبها والصواب أيهما

في الصفحة 622 العمود الأول السطر 13 من مماته والصواب بعد مماته

في الصفحة 625 العمود الأول السطر العاشر بعد الهجرة والصواب بعد الميلاد

جريدة الأنذار

أصدرت جريدة الأنذار التي يصدرها أسبوعياً بالمنيا الأستاذ صادق سلامه عدداً ممتازاً في 32 صفحة بمناسبة دخولها في سنتها السادسة عشرة وهو عدد حافل بالطرائف الأدبية والآراء القيمة لنخبة من رجال العلم والأدب والسياسة فنرجو للزميلة دوام التوفيق واطراد التقدم.

ص: 49

‌القصص

الدميم. . .

للأستاذ حبيب زحلاوي

- 1 -

ما كنت أبتعد بضعة أمتار عن المنتهى حيث كنت جالساً مع طائفة من أصدقائي حتى شعرت بقبضة يد رقيقة تستلهمني. التفت فرأيت واحداً من أولئك الأصدقاء الجلاس، فلمحت في نظراته شبه استعطاف، فقال لي بلهجة لا تخلو نبراتها من قوة: أريد أن أسألك بشرط أن تجيبني بصراحة، ما هي عقدة القصة؟ وما هي الحبكة؟ ما هو العرض والفكرة والوحدة التي تكلمت عنها فقلت إنها عناصر حيوية القصة؟ أنا يا صديقي أحسن كتابة القصة، أو بعبارة أخرى أحسن خلقها فوراً، وابتدع وقائعها وأشخاصها ابتداعاً، وأجذب المستمع إلى الانتباه إلي، ولا أتركه إلا من أشبعه وأمتعه بلذات من الخيال المذوق، والتلفيق الموشى بألوان من حسن الكلام. أليس هذا هو الفن؟! واستطرد قائلاً: ما دام الأمر كما ذكرت لك، وأزعم أني قد ذكرت الحقيقة الواضحة من البناء الفني، فما هي إذن العقدة، والحبكة، والعرض والفكرة والوحدة التي تكلمت عنها، وأحسب أني فهمت من مجمل كلامك أن لا قيمة للقصة الخالية من هذه الخصائص؛ فهل هذا صحيح؟

أعجبتني رؤية مسحة الطفولة تكسو وجه هذا الشاب ورفقت به وبأمثاله ممن يتغالبون في الآداب والفنون ويستهينون بها كأنها سهلة التناول فقلت:

تعالى معي إلى النادي فهناك استمع إليك بانتباه وأجيبك إلى طلبك عن رضى.

قال: في الجلوس في المقهى متعة للنظر لا وجود لها في الأندية.

فقلت: ليس بي ميل إلى أشغال الذهن بمراقبة المارة، وليس بي ذلك الظمأ إلى المرأة الذي ينتابكم أنتم يا جلاس المقاهي

قال: نحن على غير مذهبك الفردي يا صاحبي، نحن جلاس الأفاريز، رواد المقاهي، نتضور جوعاً، نتلهف على لفتة من فتاة أو نظرة من امرأة، ألا تحس مثلنا بالمجاعة النفسية وقد طغت واستعصى أمرها على وزارة الشؤون الاجتماعية؟

ص: 50

ابتسمت لكلام هذا الشاب المتحمس، فأخذته من يده فمشى معي. فلما دخلنا المصعد الذي سيرتفع بنا إلى الدور العاشر من البناء قال: أنت مصر على الجلوس في النادي وكر الكهول والشيوخ من أرباب المال؟ حسن، سأجلس معك في هذا النادي المرتفع عن الناس، ولأقص عليك قصة من صميم الواقع، وأنا قمين بأنك ستشهد لي ببراعة الارتجال، وبأن القصة هي القصة، أعني أن العقدة والحبكة، والفكرة والوحدة، إن هي إلا افتعالات، أما إذا كانت شيئاً غير ذلك فستدلني عليه.

ابتسمت أيضاً لهذا الإدعاء الجديد الذي يمثل ادعاءات الشبان وهم يتوهمون الأمور وفق أمزجتهم الرخوة لا وفق الواجب في معرفة الأصول، وقلت لصاحبي بعد أن انتحينا ناحية في النادي مردانة بأصص من الزرع دائمة النظارة الربيعية، يحسن أن تجلس هنا فتقص علي قصة شعرية يرتجلها خيالك الخصب وتنزعها من صميم الواقع كما قلت.

أرجو ألا تهزأ بي. استمع إلي:

(وضعت حقائبي في المكان المعد لها، وجلست على المقعد الذي احتجزته في عربة القطار، ثم التفت لأرى رفاق الطريق الذي سأقطعه بمرحلة واحدة من مرسيليا إلى باريس، فلقيت سيدة تتألق نضارة وشباباً، وضاحة المحيا بادية الفتنة وسمعتها تقول للرجل الجالس إلى جانبي: ألم أقل لك إنه غير فرنسي، إذ لو كان فرنسياً لكان حيانا بإشارة بسيطة ساعة دخوله، ولما كان ألهاه المودعون ولا المشاغل الذهنية عن أداء التحية الواجبة)

وسمعته يقول لها: لم لا تقيمين للتقاليد والعادات اعتباراً؟

لماذا تفرضين على غير الفرنسيين الأخذ بعاداتكم وتقاليدكم، وقد تكون هذه التقاليد التي ترينها حميدة عندكم مستهجنة عند بعض الأقوام، وربما كانت مستقبحة عند أقوام آخرين أمثال الإنجليز مثلاً الذين يحيون من لا يعرفون مهما كانت الظروف والمناسبات. فهمت من لهجة الرجل ومن قسمات وجهه ولون بشرته أنه أميركي يحسن التعبير عن خواطره باللغة الفرنسية وكان يلفظها صحيحة ولكن ببطء ممض أوجع نفس السيدة الفرنسية الجياشة،

وأدركت أن مدار الحديث يدور حولي لأني أخذت مكاني في عربة القطار ولم أحي من فيها ساعة دخولي!

ص: 51

هل أدخل في القضية طرفاً ثالثاً على حد تعبير المحامين، وهي قضية خاصة بي برغم قيامها بين السيدة والشاب الأميركي، أو ألزم الصمت وأحترم سجية نفسي وعادات قومي وأسكت عن الكلام مع من لا معرفة لي به. أليس في ذلك تطفل أو تخط للعرف؟ أو ليس هو وسيلة مؤدية إلى التعرف بهذه السيدة الجميلة المغرية؟ أو ليس في ذلك فائدة للوصول إلى ناس يطيب لي أن أحدثهم عن قومي وبلادي وقد لا يعرفون عنهم شيئاً أو يعرفون ما تنقله لهم الدعاية المغرضة، والفكر الاستعماري وجهالة بعض الكتاب الطائشين؟

جالت هذه الخواطر في ذهني والسيدة والرجل ما زالا يتحاوران ويتناقشان. هي تصر على أن عادات قومها مرتكزة على قواعد آداب الاجتماع وهو ينكر أن للآداب الاجتماعية قواعد ثابتة، هي تقول إن قواعدها الفن والذوق، وهو يقرر أيضاً أن مباءات الفن هي معارض النحت والتصوير ودور التمثيل وبعض دواوين الشعراء وكتب الأدباء والروائيين، وأن الذوق مسألة فردية وإحساس ذاتي. هي تغضب من تعمده إهمال ذكر المرأة في أنها الفن كله باعتبار أنها الباعث الأول على استقرار ملكات الفن والإلهام الفني، وهو ينكر عليها بعض دعواها ويؤيد بعضها ويقول: إن المرأة موحية حافزة، وليست هي بشيء في صميم الفن! هي تصرخ قائلة: إنكم معاشر الأميركان لا تتذوقون الحياة إلا عن طريق الدولار؛ وإنكم. . . وإنهم عبدة الدولار فقط. أليس كذلك يا مسيو؟ والتفتت إلي تدخلني في هذا الجدال. كاد يرمج على حين فاجأتني بسؤالها وهو استنجاد بي أكثر منه سؤالاً، ولكني تمالكت نفسي وقلت:

إخال أني كنت السبب في هذا الحوار الذي بلغ بكما إلى هذه النتيجة، فهل تسمح لي سيدتي أولاً أن أحييها وقد آليت في نفسي مجاراة الفرنسيين وتقليدهم ما دمت في بلادهم ثم أدخل في الحوار، لا كفضولي متطفل قد تعرضنه صفاته إلى سماع ما يؤذي إباء النفس، بل كرفيق الطريق الذي يحرس على إبقاء أطيب أثر في نفوس رفاقه؟

هاك يدي. أما أنا فمدام (فرانس) وصديقي هذا مستر (أميركا) وأنت يا صديقنا على هذا القياس من تكون؟

رطبت شفتي بقبلة من يدها البضة وقلت متابعاً على المنوال نفسه: أنا يا سيدتي مستر (إيجبت)

ص: 52

إيجبت. . . إيجبت! رددت كلمة إيجبت وهي تلفظها ممطوطة ممدودة بتؤدة كأنها تعود بذاكرتها آلاف السنين إلى الوراء تستعرض بلمحة واحدة آثار الماضي السحيق الباقية على الدهر وتقول: أنت إذن مصري؟!

نعم يا سيدتي أنا مصري من سكان القاهرة، وأنت فرنسية فقاطعتني قائلة:(فرنسية باريسية) وصديقنا أميركي من واشنطون أو نيويورك وليس قطعاً من هوليود. وها نحن الثلاثة نمثل ثلاثاً من قارات عالمنا، ونمثل أيضاً أعرق مدنية عرفها التاريخ القديم وهي تتوثب الآن للعودة إلى الحياة، وأعرق مدنية حديثة ستتغلب عليها مدنية أحدث منها، ومدنية جديدة في العالم الجديد قد يكون لها طابع خاص سوف يتحول بسرعة إلى طابع يعم العالم، وأردفت كأنها تتدارك فوات فرصة: نعم نعم سيكون الدولار طابع أميركا الخالص كما يحاول الروس أن يجعلوا الاقتصاد أساساً لنظام العالم الاجتماعي الجديد. قالت السيدة كلمتها عن الدولار وضحكت ضحكة عالية لها رنة الأوتار المتزنة والنغمات الرقيقة.

قلت: العالم يا سيدتي لا يقوى على السير في نظام اقتصادي محض بل يستحيل عليه المضي في طريق السعادة البشرية بغير دوافع الروح

هذا صحيح يا مستر إيجبت ولكني ألاحظ أن مدام فرانس تتحداني في كل ما أقول، فإذا كان ذلك يا سيدتي فلا أمانع أنا الأميركاني في تقرير الدولار طابعاً لبلادي وهو بالفعل الإله الذهبي الموحي إلى كل الناس كل الرغبات والشهوات.

المرأة يا مستر أميركا، أرجوك ألا تنسى المرأة، بل أحتم عليك عدم نسيانها لأنها الروح الذي تكلم عنه مستر إيجبت ولأنها وحدها الموحي لكل الناس كل الرغبات والشهوات - على حد تعريفك أنت - بل ي وحدها موحية الحياة والحب لوكل النساء كن مثلك يا سيدتي لما ترددت في الاعتراف بذلك ولكن. . .

دع يا مستر أميركا قرض المديح ونظم الثناء والإطراء لأنها من طبائعنا الأصيلة التي لم تقتبسوها عنا بعد، وإنها وإن كانت ترضي غرور المرأة وتدغدغ زهوها ولكنها لا تقوم مقام الحقيقة التي لا محيص عن الاعتراف والجهر بها وهي (أن المرأة هي الإله الوحيد الموحي إلى كل الناس معنى الحياة والحب، ولذة الوجود والفرح به على الأرض، ولذة الألم والحزن أيضاً)

ص: 53

قال مستر أميركا موجهاً إلي السؤال: هل تعترفون بألوهية المرأة في مصر، وبأنها مصدر إلهام يوحي إلى الناس معاني الحياة كما قالت مداد فرانس؟

بلعت ريقي وتكلفت ابتسامة رضى وقلت: ليتك يا مستر أميركا تضع السؤال في الصيغة التالية: هل بلغت المرأة الأمريكية درجة من الرقي سمت بها إلى مقام جعل الرجل يتطلع إليها فيه كما نتطلع كلنا إلى المرأة الأوربية باعتبار أنها الملهم معاني الحياة والدافع إلى الشعور بالفرح بها؟

لقد نجحت في تحويل الدفة، كما يقال في تعبير أهل النوتية، وفي رفع الأثقال عن كتف المرأة المصرية، وفي إزاحة الألم عن نفسي من قول الحق، وقد أفلحت في ذلك، إذ ما كدت انتهي من تحريف السؤال وتوجيهه إلى مستر أميركا حتى انبرت مدام فرنس تقول: تخولني معلوماتي حق القول بأن المرأة الأمريكية أخذت تدرك قدر نفسها وستنجح في صيرورة ذاتها مصدر حياة أفعل في روح الرجل الأميركي من الدولار.

ما كادت تنتهي مدام فرانس من قولها حتى رأيتني مدفوعاً إلى الكلام فقلت معلقاً: سوف تصير المرأة المصرية ذاتها مصدراً فلهام الرجل وإذكاء روحه متى خلصت من شوائب الظفرة وبعد أن ترغمها الآلام على التفكير في ماضيها ومستقبلها بالقياس إلى حاضرها المضطرم بنيران الانتقال.

صحيح ما رمزت إليه بلباقة يا مستر إيجبت عن المرأة أنها في طور الانتقال الذي يعقب الانقلاب الاجتماعي، ويمكنني القول إن بواكير الانقلابات تكون من النساء وفي النساء كما تكون بوادر الثورات وطلائعها من شرارات يقدحها طلاب الجامعات بإيحاء غير مباشر من أرواح يقظة عاملة هادئة.

سكت محدثي الشاب وكاد يطول سكوته ولكنه رفع رأسه ونظر إلي نظرة استفهام واضحة، فقلت له ببرود: ثم ماذا؟

ماذا؟ نعم نعم، كنت أظن أني أنهيت القصة ولكن نسيت فصلها الثاني

دوى رنين الجرس يدعو الراغبين في الطعام من ركاب الدرجة الأولى إلى تناول العشاء. . . وكان الكلام حتماً لمدام فرانس التي أمرت أحد الندل (جارسون) بتهيئة مائدة لثلاثة أشخاص فكان طعام وكان شراب، بل كان شراب وطعام وكلام وشعر وتوريات ورموز

ص: 54

ومقارنة بين المرأة المصرية وأختيها الفرنسية والأمريكية، وكادت تضطرم ثورة مدام فرانس لتوهمها أن أختها المصرية أوفر منها براعة في إرضاء الرجل. . . عدنا إلى مقاعدنا وقد أذبل الشراب أجفاننا، وأخمد قوة النضال الكلامي فينا، وأذكى بطبيعة الحال قوة النظر الطويل والإعجاب الذي لا حد له والافتتان بهذه المرأة المملوءة حيوية وجمالاً ونضارة وسحراً والممدة أمامنا على مقعد عربة سكة الحديد تحاول النوم على هدير القاطرة وصفيرها وقرقعة العربات

لقد أحييت الليل ورفيقي الأميركي نتحادث همساً حتى لا نزعج السيدة النائمة، وكان طبيعياً أن نختلف في الرأي وأن نتحاور ونتجادل ثم نعود إلى صفائنا الأول، وكان بديهياً، بحكم الرغبة الكامنة ألا نختلف أبداً وأن نتفق اتفاقاً تاماً على ألا نعيد الغطاء كلما سقط عن جسم هذه المرأة الفاتنة المتناومة، وكان عذباً على سماعنا قولها: يا لكما من شابين شقيين!

سكت محدثي مرة ثانية فلم أدعه يتمهل بل قلت له بنبرة جافة: ثم ماذا؟ صدمه سؤالي وكاد يتخاذل ولكنه تجلد وقال: طلع الفجر، ثم تفجرت أشعة الشمس، وانجلت عروس ربة فرنسا بثوبها الزبرجدي النضر. وبلغنا باريس فافترقت القارات الثلاث، وراح مستر أميركا ومستر إيجبت كل في طريق، وراحت مدام فرانس تنثر القبلات وتتقبل القبل من مستقبليها على إفريز المحطة

ربت كتف محدثي وقلت له ببشاشة أذهبت وقع الصدمة الأليمة التي صدمته بها عند سؤالي إياه تتمة القصة بقولي: (ثم ماذا) ليست قيمة القصة يا صاحبي في المادة التي تتألف منها، ولا في كيفية ترتيب تلك المادة، بل قيمتها في الكيفية التي تؤدى بها وفي عرضها عرضاً خاصاً بمهارة فنية، وبالتشويق والترغيب، في صدق الرواية عن الحياة، مضافاً لها الخصائص الفنية التي ذكرتها في حديثي مع رفاق المقهى، أما قصتك المرتجلة هذه فإنها تماثل حكاية واقعية وقعت لي حين رحلت إلى جزيرة رودس التي انتزعها الطليان من الدولة العثمانية مع بقية جزر الدومنيكان

قال: أترتجل قصتك ارتجالاً؟ فابتسمت لسؤال هذا الشاب وقلت.

(يتبع)

حبيب الزحلاوي

ص: 55