المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 625 - بتاريخ: 25 - 06 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٢٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 625

- بتاريخ: 25 - 06 - 1945

ص: -1

‌من وحي المرأة

للأستاذ عباس محمود العقاد

من أعجب ما يلاحظ على آداب الأمم قلة ما نظمه الشعراء في رثا النساء، ولا سيما الزوجات

فعلى كثرة الغزل في المرأة نرجع إلى شعر الأقدمين والمحدثين وإلى شعر العرب وغيرهم من الأمم، فلا نرى في لغة من اللغات إلا قصائد معدودات في رثا النساء والزوجات منهن على الخصوص

فليس أكثر مما نظمه الشعراء في التغزل بالمرأة، ولا أقل مما نظموه في الحزن عليها

وقد رثى شعراء العربية الأمهات كرثاء المتنبي لجدته ورثاء الشريف لأمه، ونظموا العزاء في أخوات الأمراء وقريباتهم، كما نظم المتنبي تلك القصيدة اللامية في رثاء أخت سيف الدولة، ولم ينس أن يقول منها:

ولو كان النساء كمن فقدنا

لفضلت النساء على الرجال

كأنه يعتذر من هذا الشذوذ في قواعد الرثا بحالة مستثناة لا يقاس عليها، وهي حالة هذه السيدة التي تفضل السادة الرجال!

بل وجد في صدر الإسلام من يرثى امرأته معتذراً حيث يقول:

لولا الحياء لهاجني استعبار

ولزرت قبرك والحبيب يزار

ولم يظهر المعنى الإنساني في رثاء المرأة - حليلة كانت أو غير حليلة - قبل عهد ابن الرومي الذي قال في بستان المغنية:

بستان وا حسرتا على زهر

فيك من اللهو بل على ثمر

وقال من القصيدة بعينها يذكر وفاتها في ريعان الشباب:

يا غضة السن يا صغيرتها

أصبحت إحدى المصائب الكبر

ورثني امرأته رثاء على هول الفجيعة فيها فقال:

عينيَّ سحا ولا تشحا

جل مصابي عن العزاء

ونظم قصيدة أخرى في مثل هذا الرثاء

وليس بالعير تعليل هذه الظاهرة المتفقة في جميع الآداب العالمية، فإن الأمر مرتبط بمكانة

ص: 1

الزوجة في العصور القديمة، ثم في هذه العصور الحديثة. ومما لا اختلاف فيه بين الأمم أن الزوجة كانت في اقدم كالقنية المملوكة التي لا فرق بينها وبين الجارية الرقيقة، ثم ارتفعت مكانتها فظهرت الزوجة ربة البيت، ولكنها لم تزل في عرف المجتمع شهوة من شهوات الضرورة التي يلجا إليها الرجل في ساعة ضعفه أو الساعة التي تغلبه فيها الطبيعة الحيوانية، ولم تظهر المرأة التي هي (شريكة حياة)، أو سكن للرجال كما جاء في القرآن الكريم إلا في العصور الأخيرة، وإن كانت لها رائدات سابقات بين بعض الأسر فيما تقدم من العصور فالشاعر كان يتغزل في المرأة ولا يخجل من ذلك لأن الغزل منسوب إلى الظرف واللباقة.

وكان يرثى أمه أو جدته لأن حب الأمهات والجدات محسوب من البر المشروع الذي لا ضعف فيه.

وكان يرثى أمهات الأمراء وقريباتهم، لأن عزاء الأمراء واجب من واجبات المفروضة عليه

ولكنه لم يكن يرثى الزوجة المتوفاة، لأنها شيء يخصه ولا يفهم معنى الفجيعة فيه عند أبناء عصره إلا على معنى الضعف الذي لا يجمل بالرجال، وكيف كان يجمل بهم أن ينفجعوا على الزوجة المفقودة، وقد كانت زيارة قبرها مما يحتاج إلى اعتذار؟

ولا شك أن آداب الأمم هي خير مسجل لأخلاقها الاجتماعية سواء تعمدها الشعراء أو لم يتعمدوها

فمن الظواهر الحديثة التي تسجل في الأدب العربي - أو الأدب المصري - أن الزوجة (شريكة الحياة) تمثلت في شعرنا العصري تمثلاً واضحاً بليغاً صادق المدلول، لأننا قرأنا في سنوات متقاربات ديوانين كاملين في رثاء الزوجة الفقيدة، وكلاهما لم يكن ظهوره بالمفهوم قبل هذا الجيل، لأن وجود شاعرين اثنين يفيان لذكرى فقيدتهما لا يكفي لإظهار ديوانين في هذا المعنى، ما لم يكن هذا المعنى ملحوظاً مقدراً عند الكثيرين من أبناء الجيل الذي ينشان فيه

قرأنا بالأمس ذلك الديوان الحزين الذي نظمه الشاعر المطبوع الأستاذ عزيز أباظة بك وسماه (الأنات الحائرة)، لأنه أقوى من أن يسمى بالدموع

ص: 2

وقرأنا هذه الأيام ديواناً آخر في هذا المعنى للشاعر الألمعي الأستاذ عبد الرحمن صدقي سماه (من وحي المرأة)، لأنه لم يكن إلا وحياً فاض به حزنه على فقيدته العزيزة، فخرج في جملته منظوماً كأنه لا يحتاج إلى ناظم، وجاء فيه بقصائد ومقطوعات ستبقى في عداد الشعر الخالد، سواء منه ما نظم في هذا الموضوع أو غير هذا الموضوع

ويدل على أن ظاهرة الزوجة شريكة الحياة هي الباعث على نظم هذين الديوانين أنهما قد نظما في زوجتين لا تجمع بينهما صفة تعزها غير صفة المشاركة في الحياة، فلا يقال إن القرابة هي باعث الرثاء، لأن إحدى الزوجتين أجنبية عن البلد فضلاً عن الأسرة، ولا يقال في الذرية هي علة الإعزاز، لأن إحدى الزوجين لم تعقب ذرية بعدها، ولا يقال إن الحب العاطفي هو مصدر هذا الوحي، لأن الحب العاطفي قد يوجد ولا يوجد معه التفاهم في الأفكار ولا التعاون على أعباء الأسرة وشواغل النفوس، ولكنها المشاركة في الحياة وحدها هي التي يرجع إليها الإيحاء بهذين الديوانين، حين فهم العصر كله معنى الزوجية التي تقوم على هذه المشاركة بين حياة إنسانيين

والزوجة شريكة الحياة - حياة الأديب على التخصيص - هي التي يقول الأستاذ صدقي في وصفها:

وكنت الغني من مشكل بعد مشكل

وعقدات نفس تستديم قلاقلي

مشاكل شتى: حاجة النفس للهوى

وحاجة ذي حس، وحاجة عاقل

جمعت لي الدنيا فأغنيت مُعدمي

وأمتعت محرومي وزينت عاطلي

أو يقول في ذكرياتها من قصيدة أخرى:

وخبر رفيق أنت في كل رحلة

وخير سمير للحديث ينضد

ونجلس في حضن الطبيعة صمتنا

مناجاتها - إن الطبيعة معبد

ونجلس للأشعار ندرسها. معاً

كأنْ ليس غير الكتب في العيش مقصد

وقد تكون شريكة حياة ولا يكون قوام المشاركة بينها وبين قرينها طول الشغل بالدراسة والمطالعة، كما قال الأستاذ عزيز في قصيدته الدالية في يوم ميلاده:

أقول والقلب في أضلاعه شرق

بالدمع: لا عدت لي يا يوم ميلادي

نزلت بي ودخيل الحزن يعصف بي

وفادح البث ما ينفك معتادي

ص: 3

وكنت تحمل لي والشمل مجتمع

أنساً يفيض على زوجي وأولادي

فانظر تر الدار قد هيضت جوانبها

وانظر تجد أهلها أشباح أجساد

فقدتها خلة للنفس كافية

تكاد تغني غناء الماء والزاد

ومرئلا أحد الأمن الكريم

إذا تعاورني بالبغي حسادي

تحنو علي وترعاني وتبسط لي

في غمرة الرأي رأي الناصح الهادي

وهذه هي صفة الزوجية التي تشترك فيها حياتان بالرأي والعطف، وتكاد تغني غناء الماء والزاد، بل تكاد تجعل يوم الميلاد يوماً مشتركاً لا يستقل فيه الزوج بذكرى ولادة له لا ترتبط بذكرى الزواج

هذه الحياة أعجوبة الأعاجيب، وهي أعجب ما تكون في مألوفاتها الشائعة كل صباح ومساء، ومن تلك العجائب أنها لم تجود بخير لا شر فيه ولا تصيب بشر يخلو كل الخلو من الخير. وليس عزاء الإنسان على شطر نفسه وصنو حياته باليسير، ولكنه على كل حال من العزاء النبيل للشاعرين الفاضلين أن مصابهما قد أغنى الأدب العربي بهذه الذخيرة النفيسة، وسجل للمجتمع المصري هذه الظاهرة الكريمة التي تقترن أبداً بالتهذيب والاتقاء.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌بقية حديث في فرنسا.

. .

(إلى الأستاذ توفيق الحكيم)

للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف

قد يذكر القراء أني كتبت غداة انهيار فرنسا وسقوط باريس في قبضة الألمان سنة 1940 في عددي 12 - 8 - 1940 و 2 - 9 - 1940 من هذه المجلة مقالين أندد فيهما بذلك الموقف الشاذ الذي وقفه بعض كتاب مصر والشرق العربي يبكون فرنسا بدمع غزير وعاطفة حارة ناسين أن فرنسا أشد أمم الاستعمار تعصباً على العرب والمسلمين ونكاية بمن وقع منهم في يدها وتحت سلطانها، وأنها كانت أعظم عائق في طريق المفاوضين المصريين في مؤتمر (مونترو) لإلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر، وأنها كانت آخر دولة تنازلت عن دفع فوائد الدين المصري بالذهب في الأزمة التي وقعت بهذا الخصوص، وأنها كانت أشد الأمم احتياطاً وتشدداً في ضمان الحرية للمعاهد الأجنبية في مصر.

وقد يذكرون أيضاً أن هذين المقالين كانا سبباً في أن يمنع ممثل فرنسا في سوريا ولبنان في ذلك الوقت دخول (الرسالة) إلى هذين القطرين الشقيقين برغم أن الرسالة أفسحت صدرها لمن ردوا على رأيي منتصرين لفرنسا ومدافعين عن ميراثها الثقافي وروحها كما تراءى لهم. وكان منهم الدكتور زكي مبارك.

وقد بعثت إلى الرسالة بمقالين آخرين لم ينشروا حينذاك تمهيداً لعقد هدنة بين ممثل فرنسا ولبنان وبين الرسالة.

وقد ضاع المقالان ولم يبقى لدى مهما إلا مسودات سأحاول الآن جمع ما تفرق من المعاني فيهما لأن الظروف قد صدقت رأيي في فرنسا، وجلبت عليها عداوة كثير من أقلام عربية وغير عربية من جراء تخبط سياستها ورجالها، ومن جراء تلك الروح الوحشية البربرية الرجعية الحمقاء التي تزاول بها سياستها مع شعوب العالم العربي، ومن جراء ذلك التخلف الذهني يبلغ درجة الانحطاط عن مستوى الروح العالمي الإنساني الذي يغمر قلوب بعض الأوصياء على الحضارة، على الأقل في مظاهر الخداع والإرضاء ومحاولة الوصول إلى الأهداف من طرق ملتوية ولكنها سليمة.

وما أظن أحداً من أذناب فرنسا في مصر يستطيع أن يرفع رأسه ويحرك قلمه الآن للدفاع

ص: 5

عن فرنسا إلا بجذر وتمويه ولذعات خفية وظهور بمظهر الغيرة على موقف مصر بموازية موقف إنجلترا منها بموقف فرنسا في سوريا ولبنان وشمال أفريقية، كما يفعل الأستاذ توفيق الحكيم في (الأهرام) بين آونة وأخرى مع أنه ظل ساكتاً لا يعلن سخطاً ولا نكيراً على سلوك فرنسا الأخير في سوريا، ومع أنه ربما يكون لاستنكار أمثاله من ربيبي فرنسا الأوفياء شيء ولو قليلاً من الاعتبار. حتى إذا ما تحركت إنجلترا بإيقاف تلك (المذبحة الكبرى) تحرك قلمه يغمز ويلمز في مظهر الغيرة على الوطنية المصرية. وهو موقف مكشوف ظاهره الوطنية وباطنه تبرير موقف فرنسا بمقارنتها صنيعها بصنيع إنجلترا في مصر. وما كان أولاه أن يتحرك قبل الآن ليثير الغبار والشرر والنار في وجه الفرنسيين المعتدين الغاشمين على أبناء قومه في المشرق والمغرب، إن كان يدين بالقومية العربية التي يعيش من الكتابة بلغتها. . . أو ليغمز الإنجليز كما يشاء

وأنا بعد أم لمست أخيراً حماسته لفرنسا حماسة نسي فيها أدب الحديث والمناقشة مع بعض الجالسين في إحدى جلسات ندوة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ينبغي ألا أصانعه، بل ينبغي أن أكشفه وأكشف أمثاله للعالم العربي ليعرف في ساعة العسرة والأزمات هؤلاء الذين يعيشون معه بأجسامهم فقط. . .

وإني أدعو الأستاذ سيد قطب أن يكشف عن هذا الأثيم الذي جادله في أمر الشرق العربي وفظائع فرنسا فيه، وقال تلك المقالة المنكرة (إذا لم يكن بد للإنسانية من أن تفقد فرنسا أو أن تفقد هذا الشرق العربي فليذهب الشرق العربي إلى الجحيم!) فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نبقى على صداقات تنكر الصداقة الأولى التي يعرفها الحيوان قبل الإنسان وهي صداقة الوطن والجنس، فعليه أن يكشف هذا الدخيل الجاهل وهو معافى من قيود الأخلاق في مثل هذه الحال.

المقال الأول

مما لم ينشر في سنة 1940

إلى ممثل فرنسا في سوريا ولبنان

كتب الدكتور زكي مبارك إلى جنابكم كتاباً مفتوحاً نشر في العدد من (الرسالة) حاول فيه

ص: 6

أن يبرئ الرسالة من جرائر المقالتين اللتين أنحيتُ فيهما باللائمة الشديدة والسخط البالغ على أساليب فرنسا الاستعمارية التي لا تفرق فيها بين الشخصية السياسية للمحكومين لها وبين شخصيتهم الإنسانية والأدبية التي تتطلب غذاء لأرواحهم وعقولهم في هذا العصر الذي تسمونه عصر العلم والنور وارتفاع قيمة المعاني الإنسانية، وقد أدى عدم التفريق هذا إلى تخلف العرب والبربر المحكومين بكم عن قافلة الحياة الإنسانية بمائة سنة على الأقل تقدير. وفي هذا جناية عظيمة على الحضارة بحرمانها من جهود أمة من أذكى أمم الأرض وأعرقها مدنية، وجناية على المبادئ السامية التي زعمتم أنكم أول من أعلنها في ثورتكم الكبرى.

وقد طلبتُ من الباكين على فرنسا في محنتها الحاضرة أن يذكروا محنة بني قومهم بكم قبل أن يذكروا محنتكم بالألمان؛ وأن يكفُّوا عن افتتانهم بحضارتكم فتنة العمى عن عيوبكم وجناياتكم على الإنسان بحرمانه من خبز الروح وخبز البدن. . . مما لم ير العالم له مثيلاً إلا في عصور البربرية والهمجية.

وطلب من هؤلاء الباكين أيضاً أنهم إذا ذكروا (باستور) وفضله على الإنسان كما ذكره الدكتور زكي فليذكروا أنكم الآن تحكمون البشر أقل من حكم البقر والغنم التي كانت في حظائر (باستور) ليجري عليها تجاربه وأبحاثه؛ فقد كان يسمنها ويربيها ويداويها ويبقى على حياتها ويفكر لإنقاذها من الأمراض ويعدها للغاية التي خلقت لها. وإذا أحيا (باستور) ملايين الأجسام فقد أمات قومه ملايين الأرواح والأجسام موتاً مادياً وأدبياً أخف منه الموت بالطاعون والأوجاع الثقيلة التي تقتضي على الإنسان مرة واحدة ولا تهدر دمه وترخص روحه.

وإذا ذكروا (شمبوليون) وفضله على مدينة أجداد المصريين كما ذكره الدكتور زكي فيذكروا أنه جاء مصر غازياً في حملة نابليون الذي نكل بالمصريين تنكيلاً فظيعاً، فإذا احتفل الأول بأحجار قدماء المصريين فقد أباح الثاني لجنوده أن يتخذوا من الأزهر - صاحب الفضل الأول على الدكتور زكي مبارك! - اصطبلاً لخيلهم، وأن يحرقوا أحفاد صانعي الأحجار التي فتن بها (شمبوليون) بالنفط ويضربوا نطاقاً من المواد الملتهبة حول القاهرة وحواضر الأقاليم. وكتب نابليون إلى أحد قواده يأمره بقطع خمسة رؤوس كل يوم

ص: 7

من أعياد البلاد كما يقطع هو كل يوم عشرة رؤوس منهم!

وإذا ذكروا (السوربون) وفضله على الأدب والعلم فليذكروا الأزهر الذي اتخذته جنودكم اصطبلاً للخيول ولم يرعوا العلم والدين حرمة.

وإذا ذكروا انتفاعهم بعلومكم وفنونكم، فليذكروا أنكم كنتم أشد الأمم إصراراً على الاستمرار في إهدار الكرامة المصرية وكنتم الشوكة الوحيدة في حلوق المفاوضين المصريين في مؤتمر (مونترو) لإلغاء الامتيازات الأجنبية، التي كانت تجعل من السنغالي التابع لكم شخصاً له امتياز على المصريين في ديارهم. وأنكم كنتم آخر دولة وقعت على محضر إلغاء صندوق الدين: رمز الذل الاقتصادي الذي أصاب مصر، فلم توقعوا إلا بعد هزيمتكم ونكبتكم، وأنكم كنتم الوحيدين الذين أصروا على دفع فوائد ديونهم في مصر ذهباً لا ورقاً، وأنكم وحدكم الذين عنيتم بفرض ضمانات شديدة لاحتلالنا بثقافتكم.

وإذا ذكروا التماثيل والأنصاب التي تجمل مدنكم، فليذكروا أن أشرف نُصُب فيها وهو ضريح الجندي المجهول في باريس يثير في نفوس العارفين ذكرى أكبر مخزاة ومظلمة ونكران للجميل! فقد ذكر سكرتير مسيو (كلمنصو) في مذكراته أن حكومتكم لما فرغت من إقامة بناء ذلك النصب التي تحته قبر الجندي المجهول في باريس أرادوا أن يضعوا فيه جثة جندي فرنسي، فذهبوا إلى ميدان موقعه (المارن) الشهيرة، وصاروا ينبشون لإخراج جثة. وشاء الله أن يسجل على فرنسا لعنة أبدية حيث أرادوا لها فخراً. فكانوا كلما نبشوا عن جثة وجدوها جثة قتيل من جنود شمال أفريقية فيردمون عليها، وهكذا يهتدوا لجثة جندي فرنسي (أبيض) إلا بعد عثورهم على ثلاثة عشر جثة للمغاربة! ومع هذا لم ينصفوا قوم هؤلاء القتلى الذين ذهب ملايين منهم ضحايا في سبيل فرنسا أي إنصاف، ولم يمكنوهم من اقل الحقوق الإنسانية وهي حق الحياة والعلم، وأبو أن يضعوا جثة أحدهم مكان جثة فرنسي قح. . .

وإذا ذكر الباكون أنهم عاشوا بباريس في رحاب الشراب والحب والغزل والأنس، فليذكروا أن بطلاً كريماً هو المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي بطل ثورة الريف في مراكش الذي تفخر به قوميتهم أعظم من فخرها بأي قلم تافه لأحدهم. . . قد مضى عليه خمسة عشر عاماً (الآن مضى عليه عشرون عاماً) وهو ملقى في أصفاده على صخور جزيرة مدغشقر،

ص: 8

وأنه لم يسلم نفسه لفرنسا إلا بعد عهد قطعة على نفسها ثم نكثت به وخانت شرف اسمها، وأن هذه الأمة الفرنسية التي لا يزال قلبها يتنزى ألماً وحسرة على نهاية بطلها نابليون لا تشعر أي شعور إنساني نحو أمثاله من الذين نهضوا يذودون عن حرية قومهم ومجدهم.

فيا جناب ممثل فرنسا! أظن أنك رجل تغار على قوميتك وتدافع عنها! فدعنا نفعل ذلك دائماً

وأظنك ترى معي أن كل من يضفي على فرنسا حنان قلبه ويغسلها بدموع عينه من المصريين إنما هو أحد رجلين: رجل جاهل بجرائركم على أمته وكرامة قومه، قد استسلم للفتنة بما عندكم، وهذا لا يليق به أن يتصدى لقيادة الشباب بقلمه مهما كان له من الحسنات في مجال (الترف العقلي) ولا يجوز لكم أن تعتبروه معبراً عن هذه الأمة المصرية حين يرسل لمصرع أمتكم دموعاً تشهد عليه أنه غير سليم الموقف ولا صحيح الطبع، وإنما هو ذو مزاج مؤوف ورأي منكوس.

وإما رجل يعرف هذه الجرائر ولكنه يطويها عن الناس في نفسه ولا يذكرهم بها ليبين لشباب قومه المفتون جوهر نفوسكم وحقيقة حضارتكم، لأنه صريع الخيانة أو مأجور القلم. وهذا لا شك رجل تافه الصداقة تافه العداوة؛ فليس فيه نفع لكم لأنه لم ينفع قومه. وهو جدير أن ينقلب عليكم حين تفوته المنفعة، ولأنه لم يعشق روحكم التي يزعمها روح أحرار، فلو عشقها حقاً لكان أول من حاكمكم إليها حين رآكم تحيدون عنها وخصوصاً مع بني قومه

وإذا كان فيما مضى كتاب خادعون أو مخدوعون فتنوا بمظاهر حياتكم فتنة العمى عن حياة قومهم المعذبين بكم، وصالحوكم ولم يذيقوكم مرارة العداوة والثأر من سمعتكم، لإخوانهم، فإن الزمن الآتي لن يسمح لأمثالهم أن يسيطروا على عقول الشباب العربي، بعد أن نطقت حوادث الزمان أنكم قوم لا تصلحون لوصاية على أحد أنكم أنتم محتاجون في الواقع إلى أوصياء يهدونكم سبيل الرشد.

عبد المنعم محمد خلاف

ص: 9

‌في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي.

- 6 -

* ج 13 ص47:

ولما نشرتُ أفاويقَها

طوى الناس ديباجة البحتريِّ

وجاء في الحاشية:

لعل الأفاويق جمع فواق، من فاق بنفسه فواقاً: إذا كانت على الخروج أو مات وهذا يناسبها نشرت، وكنت على وشك أن أجعلها أقاويلها جمع أقوال وتكون نشرت بمعنى أبرزت غير أني أبقيتها ونبهت على ما كنت أريده ليكون للقارئ الخيار.

قلت: أفاويفها. . . في المخصص: الفَوف الثوب الرقيق، وفي اللسان والتاج: الأفواف ضَرْب من عَصْب البرود، وفي الأساس: شعر كأنه أفواف. وحلة أفواف وبرد مفوّف، أصله من الفوف وهو نقط بياض في أظفار. الأحداث الواحدة فوفة. وقال أبو القاسم في مقدمة مقاماته: ولم يأتل فيما يعود على مقتبسيها بجليل النفع وعظيم الجدوى في بابي العلم والتقوى من انتقاء ألفاظها وإحكام أسجاعها وتفويف نسجها وإبداع نظمها. وقال صاحبها الزمخشري في الشرح: التفويف التوشيه وبرد مفوف فيه خطوط بيض، قال ابن دريد: المفوف الموشى فيه رقة، ويقال للوشى أفوف قال:

قد كذبتم ما لباسكم

جيد الأفواف والحبره

بل لباس القين بزكم

ولباس القين مشهره

وروى يا قوت في كتابة لأبي حيان من (مثالب الوزيرين): ثم ما ذنبي إذا قال لي (يعني الصاحب (: من أين لك هذا الكلام المفوف المشوف الذي تكتب به إلىَّ في الوقت بعد الوقت؟ فقلت: وكيف لا يكون كما وصف مولانا وأنا أقطف ثمار رسائله. . . وارد ساحل بحره. . . فيقول: كذبت وفجرت لا أم لك! ومن أين في كلامي الكدية. . . والتضرع والاسترحام؟ كلامي في السماء. . .

ولأبي هلال العسكري في مقطوعة:

وعلى الربا حلل وشاهن الحيا

فمسهم ومزخرف ومفوف

ص: 10

وروي أبن حجة في (خزانته) لابن قاضي ميلة:

بعيشي، ألم أخبركما أنه فتى

على لفظة برد الكلام المفوف؟

و (التفويف) من أنواع (البديع). . .

وبيت (الأفاويف) ختام قصيدة لعلي بن الحسن الباخَرزي صاحب (دمية القصر) في أبي القاسم على بن موسى نقيب الطالبيين بمرو، وقد جمع أفوافاً على أفاويف.

* ج 16 ص 196:

وقنّعني الزمات فلستُ آسٍ

على فوت الثراء وأنت عندي

وجاء في الشرح: آس: حزين، وأصله آسيا لأنه خبر ليس، لكنه جره على توهم الباء لكثرة مجيئها في الخبر.

قلت: فلست آسى.

أسِىَ يأسَى أسىً فهو آس وأسيان وأسوان كما في اللسان. وفي حديث أبي بن كعب: والله ما عليهم آسى ولكن آسى على من أضلوا كما في النهاية.

* ج 15 ص 98:

ومن شعر أبي تراب (على بن نصر الكاتب):

حالي بحمد الله حال جيِّدَهْ

لكنه منَ كل خبر عاطل

قلت: (حالي بحمد الله حال جيد) والحال يذكر وإن كان التأنيث أكثر.

* ج 8 ص 21: ورفع مناور العلم.

وجاء في الشرح: وجمعها (أي منارة) مناور لا تقلب الواو همزة لأنها أصيلة، والقلب إذا كانت زائدة، وكانت في الأصل (منائر).

قلت: الأصل صحيح. والقاعدة في هذا الجمع معلومة، وشذت منائر ومصائب. وقد ورد الجمعان في كلامهم ومعجماتهم. وكان ابن جني يقول: همزة مصائب من المصائب. . .

* ج 15 ص 91: كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي:

يا باخلاً بكتابه ورسوله

أأردت تجعل في الفراق فراقاً

إن العهود تموت إن لم تحيها

والنأي يحدث لفتى إخلاقا

فكتب إليه على بن مهدي:

ص: 11

لا والذي أنت أسنى من أمجّده

عندي وأوفاهم عهداً وميثاقاً

ما حلت عن خير ما قد كنت تعهده

ولا تبدلت بعد النأي أخلاقاً

قلت: (والنأي يحدث للفتى أخلاقاً) بفتح الهمزة جمع خلق، وهو ما أراده ابن المعتز.

* ج 16 ص262: وكان (الحريري) غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة وله تصانيف تشهد بفضله، وتقر بنبله، وكفاه شاهداً كتاب المقامات التي أبرّ بها على الأوائل، وأعجز الأواخر. وكان مع هذا الفضل قذراً في نفسه وصورته ولبسته وهيئته، قصراً ذميماً بخيلاً مبتلى بنتف لحيته.

قلت: دميماً لا ذميماً.

في الأساس: دممت ودممت دمامه، وهو دميم الخلق ذميم الخلق، وقد أدّمت فلانه وأذَّمت جاءت به كذلك.

وفي التاج: قال أبن الأعرابي: الديم بالدال في قده وبالذال في أخلاقه، وانشد:

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسداً وبغضاً: إنه لدميم

إنما يعني به القبيح، ورواه ثعلب بالذال فرُد ذلك عليه.

قال الأنباري في (نزاهة الألباء): كان الحريري دميم الخلق، فيُحكي أن رجلاً قصده ليقرأ عليه، فاستدل على مسجده الذي يقرأ فيه، فلما أراد الدخول رأى شخصاً دميم الخلق، فاحتقره، وقال: لعله ليس هو، فرجع ثم قال في نفسه لعله يكون هذا، ثم استبعد أن يكون هو، والشيخ يلحظه، فلما تكرر ذلك منه، تفرس الشيخ منه ذلك، فلما كان في المرة الأخيرة قال له: أرحلْ، فأنا من تطلب؛ أكبر من قرد محنّك. . .

والقصة التي فيها البيتان الرائيان - وقد رواها ابن خلكان - مشهورة.

* ج 10 ص 190:

فأنت أمرؤ لو رمت نقل متالع

ورضوى ذرتها من سلُطاك نواسف

قلت: (متالع) بضم الميم كما ضبط القاموس وغيره، وهو جبل في البادية في بلاد طئ. والبيت لأبي العلاء صاعد البغدادي في أبي عامر المنصور.

* ج 11 ص 80: توفي القاضي السجزي (الخليل بن أحمد ابن محمد) بسمرقند وهو قاض بها سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وقال أبو بكر الخوارزمي يرثيه:

ص: 12

ولما رأينا الناس حيرى لهِدّة

بدت بأساس الدين بعد تأطد

أفضنا دموعاً بالدماء مشوبة

وقلنا: لقد مات الخليل بن احمد!

قلت: بعد توطد، وتوطد الشيء تثبت، ولم ترد (تأطد) في كلام، ولما اضطر الوزن أبا تمام إلى أن يقول في بيت له (تأطدت) وهي (اتطدت) ضجّ اللغويون، ونقد الناقدون. وأبو بكر عن الهمز والخطأ في بيته في مندوحة.

* ج 16 ص 99: كتب الفتح بن خاقان إلى الجاحظ كتاباً يقول في فصل منه: إن أمير المؤمنين يَجِدُّ بك، ويهش عند ذكرك، ولولا عظمتك في نفسه لعلمك ومعرفتك لحال بينك وبين بعدك عن مجلسه، ولغصبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول به ومتوفر عليه، وقد كان ألقى إلى من هذا عنوانه، فزدتك في نفسه زيادة كف بها عن تجشيمك؛ فاعرف لي هذه الحال. . .

قلت. يَجِدُ بك من وجد يجد لا من يجد. ووجد به:

أحبه واغتبط به كما في النهاية. ولأبي العباس الزراري:

لي صديق قد صيغ من سوء عهد

ورماني الزمان فيه بصد

كان وجدي به فصار عليه

وظريف زوال وجد بوجد

وجدي به: حبي إياه، ووجدي عليه غضبي عليه. ولهذا الفعل مصادر ومعان كثيرة تذكرها المعجمات.

* ج 16 ص 163: وهذا كعب بن مالك الأنصاري عتب على امرأته فضربها حتى حال بنوها بينهما فقال:

لولا بنوها حولها لخبطتها

إلى أن تُداني الموت غير مذمم

ولكنهم حالوا بمعنى دونها

فلا تعدميهم بين ناه ومقسم

فمالت وفيها حائش من عبيطها

كحاشية البرد اليماني المسهّم

وجاء في الشرح: الحائش: أصلا جماعة النخل، ولا واحد له.

(قلت): جائش - بالجيم - أي فائض، سائل.

و (قلت): أكرم من الشعر المتقدم شعر القائل:

رأيت رجالاً يضربون نساءهم

فشلت يميني حين اضرب زينا

ص: 13

‌بحث في الصلاة

للدكتور جواد علي

بين يديّ رسالة للمستشرق اليهودي المعروف المرحوم أويكين ميتوخ بحث فيها عن الصلاة عند المسلمين وقارن بينها وبين الصلاة عند اليهود. وقد أجهد المستشرق نفسه ليصل إلى نتيجة كان يقصدها ويريدها قبل الدخول في الموضوع، هي أن الرسول الكريم أخذ صلاته من صلاة اليهود كما أخذ سائر الطقوس والعبادات.

وبين يدي أيضاً بعض الأبحاث العلمية التي قام نفر من المستشرقين في نفس هذا الموضوع، أي تطور الصلاة ونشوء العبادات في الإسلام، كبحث المستشرق المجرى اليهودي كولد زهير وبحث المستشرق الهولندي جوينبول وأبحاث المستشرق المرحوم بيكر

وهي تسير على نفس الأسلوب ولكنها تختلف في النتائج. إذ من رأى هؤلاء أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ صلاته وعباداته عن النصارى لا اليهود.

وبالنظر إلى ما في أبحاث هؤلاء المستشرقين من أمور لا تقرها الحقيقة رأيت أن أكتب في هذا الموضوع، وأن أقارن بين الصلاة في الإسلام وبين الصلاة في اليهودية خاصة، لكونها أساس الصلاة عند المسيحيين فأقول:

أجمعت المذاهب الإسلامية قاطبة على أن هنالك خمس صلوات مفروضة في اليوم، وأجمعت كذلك على عدد الركعات؛ فصلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث ركعات.

ولم تختلف المذاهب الإسلامية قديماً وحديثاً في الشكل الأساسي للصلاة ولا في هيكلها وكيفيتها، وإنما اختلفت، وإنما اختلف في مسائل فرعية طفيفة لا علاقة لها بالوضع العام للصلاة. فطريقة الركوع والسجود واحدة بين الجميع، وعدد الركعات ثابت كما قلنا، والاتجاه نحو القبلة واجب لا خلاف فيه. وأما فيما عدا ذلك مثل الجهر بالقراءة أو الإخفات، وإسبال اليدين في الصلاة أو (التكتيف) فوق السرة أو تحتها، وجواز القنوت أو عدم جوازه، ورفع السبابة في التشهد أو عدم رفعها وإدارة الرأس نحو اليمين واليسار حين السلام أو عدم ذلك، ثم الحد الأدنى للآيات التي يجب قراءتها في الصلاة، وأمثال ذلك، فإن

ص: 15

كل هذه لا تؤثر على هيكل الصلاة وشكلها كما قلنا ويكاد يصعب على غير المسلم تمييز هذه النقاط

(والصلاة هي الدعاء وعبادة الله الرحمن الرحيم بأقوال وأفعال ونظام وترتيب جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام واتبعه الصحابة وفسره أئمة الدين الذين تفرغ كل منهم لوصف ما وصل إليه وتمحيصه من صحيح العلم ودقيق العمل كما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم وما فعل الصحابة الذين عاصروه وقاموا باتباع ما جاء به. . ولكم في رسول الله أسوة حسنة. . .).

والصلاة مظهر من مظاهر تعلق الفرد بخالقه وواجب من واجبات الإنسان الدينية والانفرادية والاجتماعية في كل الأيام وعند جميع الشعوب وهي التكلم مع الله وطلب ما يحتاج إليه الإنسان مع الشكر لأجل المراحم الإلهية. ففي الصلاة إذا عنصران: عنصر الشكر للإله ومدحه وتبجيله على عظمته وبديع صنعه؛ وعنصر الطلب من الله القوي القهار الذي يسأل فيجيب

وهي فرض في الإسلام واجب لأنها ركن من أركان الدين ولأنها (مفتاح من مفاتيح الجنة) والصلاة عماد الدين جاء في القرآن الكريم (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) وجاء في القرآن الكريم أيضاً (ما سلككم في سقر؛ قالوا لم نكن من المصلين ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين) وجاء عن النبي (ص) أنه قال (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر جهاراً)

وجاء أيضاً (من ترك الصلاة متعمداً أحبط الله عمله وبرئت منه ذمة الله يراجع الله توبته). فالصلاة إذا فرض واجب على كل مسلم؛ من تركها متعمداً فهو ليس بمسلم وعد كافراً وجاز قتله. وفي الكتب التي أرسلها الرسول إلى القبائل العربية ذكر للصلاة بعد الإيمان وفي الحديث (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)

والصلاة في الأصل الدعاء والرحمة والاستغفار والبركة ثم خصصت لنوع معين من أنواع العبادات فيها ركوع وسجود وحركات معينة وقواعد ثابتة لا تتأثر بإرادة المصلي ولا برغبته وميوله ولا بالوقت الذي يريده إذا كانت الصلاة مفروضة واجبة وللصلوات شكل

ص: 16

معين معلوم وإن لم يعينه القرآن إلا أنه معين باتفاق الصحابة والمذاهب الإسلامية عليه.

ثم إن الصلوات اليومية الخمس تؤدي في أوقات معينة معلومة لا يمكن المصلي أن يتخطاها وإلا اعتبر وأصبحت صلاته باطلة. وأما الدعاء فإنه يكون في أي وقت وفي أي صورة يريدها المتضرع؛ فهو لا يتقيد بقيود ولا يتعين بشكل خاص ولا يكون في الصلاة إلا في مواضع معينة مخصوصة.

وكلمة (صلاة) آرامية في الأصل ثم استعملها اليهود فأصبحت لفظة آرامية عبرية دخلت اللغة العربية عن طريق اليهود أو المسيحيين. استخدام اليهود هذه الكلمة (صلوتة) في الأزمنة المتأخرة من عهد التوراة حتى أصبحت كلمة مألوفة ذات معنى ديني خاص. وفي القاموس (والصلوات كنائس اليهود وأصله بالعبرانية صلوتة) ومن جملة الصلاة (الدعاء) إلا أن (الدعاء) في الإسلام هو الابتهال إلى الله بالسؤال والرغبة فيما عنده من خير. ويقابل لذلك في العبرية كلمة (تحنونيم) ومعناها التضرعات والدعاء! وأما الصلاة التي هي ركوع وسجود فإنها تقابل لفظة (تفلوت) التي تعني صلوات قبل أن تخصص الصلاة عند اليهود بكلمة (صلوتة) الآرامية في عهود التوراة المتأخرة.

والذي لاحظه المتبعون أن الشعوب القديمة حتى البربرية منها كانت تقوم بفروض دينية يصح أن نطلق عليها لفظة (صلاة) ومن بين ما عثر عليه المنقبون بعض النصوص القديمة التي كان يقرؤها الآشوريون والبابليون في الصلاة. والصلاة عادة طقوس خاصة وشرائط لا بد منها؛ وبدون هذه الشروط تكون الصلاة باطلة غير مقبولة مثل ضرورة الغسل وشروط الملابس والبخور والوضع في المعبد وما يجب على المرء أن يقوم به أثناء الصلاة وهي تختلف باختلاف الأمم وعقليات الشعوب.

وقد لعبت الصلاة في العصور الوثنية دوراً هاماً. اعتقد الوثنيون أن المرء متى أحسن أداء الصلاة وقرأ النصوص التي لا بد منها كما هي مكتوبة وقام بجميع أركان الصلاة وناجي آلهته في صلاته بأسمائها الصحيحة فإن الآلهة تلبي طلب المصلي لا محالة وتجبر على إجابة رغباته حتماً.

وفي استطاعة المصلي أيضاً إذا ما كرر الكلمات المقدسة في صلاته طرد الأرواح الخبيثة والعوالم الشريرة عنه وفي المصلي استخدام الأرواح العليا لقضاء مصالحه وطلباته ولتنفيذ

ص: 17

رغباته فيما إذا أحسن المصلي أداء الصلاة. جاء في ياسنا من دين زرا دشت (وبواسطة صلاتي هذه يا مزدا ? أرجو منك طرد الأرواح الشريرة والخبائث).

ومن الأمور التي تهتم بها الشعوب في صلاتها مسألة عدد الصلوات اللازمة على كل إنسان وتعيين أوقات الصلاة بالضبط ليتسنى لكل مؤمن أداء الفرائض في أوقاتها ومواقيتها. وقضية الوقت هي قضية مهمة جداً فإن لم تعين أوقات الصلاة وتضبط التبس الأمر على المؤمن وحار، لذلك ارتبط مواعيد الصلاة بالصلاة مذ صلى الإنسان الأول. وبالنظر إلى عدم معرفة الإنسان طريقة فنية لضبط الأوقات، وبالنظر إلى عقيدة تقديس الأجرام السماوية والانصراف إلى عبادتها ربط الإنسان أوقات صلاته بأوقات ظهور الأجرام السماوية؛ ولا سيما الكبيرة منها، وأعني بذلك الشمس والقمر؛ لأن عقلية الإنسان الابتدائي تمييز هذين الجرمين لكبرهما عن الأجرام الأخرى بسهولة، ولذلك كان الشروق والغروب ووقت الزوال أحياناً من أوقات الصلاة المفروضة لدى غالبية الأمم والقبائل والشعوب.

وحتمت الديانات الآرية القديمة والسامية منذ أقدم الأزمنة على الإنسان الصلاة في أوقاتها، فمن الواجبات الدينية على كل رجل من أتباع زردشت بلغ سن التكليف الديني أن يصلي ثلاث مرات في اليوم صباحاً وعصراً ووقت العشاء (المغرب) وعليه فضلا عن ذلك صلاة وهي الصلاة التي يجب على كل رجل أداؤها حين ذهابه إلى الفراش لأجل النوم، وبعد نهوضه من النوم مباشرة.

(البقية في العدد القادم)

جواد علي

ص: 18

‌3 - حول انهيار فرنسا

لأستاذ عربي كبير

تتمة ما نشر في العددين السابقين

هذا، وفي آخر الأمر يجب علينا أن نشير - حينما نبحث عن أسباب انهيار فرنسا - إلى سبب آخر، سبب يجب أن يعطي الموقع الأول بين سلسلة الأسباب، بل يجب أن يعتبر السبب الأصلي، بل هو علة العلل. . .

هذا السبب هو علائم بلبلة الآراء وفوضى النزعات التي كانت تسود فرنسا إزاء مظاهر وحدة الكلمة وتراصّ الصفوف التي كانت تميز ألمانيا. . .

لقد دخلت ألمانيا الحرب، وهي متحدة الكلمة، تسير وراء زعيم واحد تثق به ثقة لا حد لها، وتتجه نحو هدف عام يعرفه الكل ويقدسه الجميع. . . في حين أن فرنسا كانت منقسمة على نفسها في معظم أمورها، وقد بلغت فيها الشهوات الحزبية درجة تكاد تتغلب على الفكرة الوطنية، وتعددت الأحزاب تعدداً لا مثيل له في التاريخ، فلم يبق حزب قوي يستطيع أن يضمن الأكثرية ويدعم الحكومة، حتى بالاتفاق مع حزب ثان، فأصبح من المحتم علي كل حكومة تسعى إلى تسيير دفة الأمور أن تتفنن في إجراء ترتيبات معقدة بين عدة أحزاب متخالفة. . .

وبما أن مثل هذه الترتيبات المعقدة تكون عرضة للتغيير السريع بتقلب الظروف، أصبح التوازن الحكومي شبيهاً بالأعمال البهلوانية التي يقوم بها اللاعبون على الحبال

ولا حاجة لبيان تعدد الأحزاب وتنازعها على هذا الوجه كان يفسح مجالاً واسعاً لدسائس النفعيين، ويزعزع ثقة الشعب بالحكومات ويسئ إلى سمعتها إلى حد كبير

وإذا كان تسيير دفة الشؤون بين هذه النزعات المتخالفة من الأمور الممكنة في الأحوال الاعتيادية فلا شك في أنه يصبح من رابع المستحيلات خلال الأزمات الحربية، لأن الحرب تحتاج إلى أعمال منسقة تنسقاً تاماً، ولا سيما في هذا العهد الذي أصبحت فيه الأعمال الحربية غير مقتصرة على الجيوش المحاربة وحدها وغير منحصرة في ساحات القتال وحدها، بل شاملة جميع أبناء الوطن وجميع أقسام البلاد. . . فالبلبلة في الآراء والفوضى في الأعمال من الأمور التي لا يمكن أن تلتئم مع ضرورات الحرب بوجه من

ص: 19

الوجوه، فإذا أقدمت أمة ما على الحرب وهي مبلبلة الآراء، فلا بد من أن تتعرض إلى كوارث ونكبات

وهذا ما حدث فعلا في فرنسا، لأن البلبلة التي كانت تضطرب في نفوس أبنائها حين بدء الحرب، ازدادت يوماً فيوماً من جراء سير الوقائع من جهة وبتأثير إذاعات الألمان من جهة أخرى، ولا شك في أنها كانت علة العلل في أمر الانهيار

وهنا مسألة هامة تتطلب التفكير والاهتمام:

إن تعدد الأحزاب وبلبلة الآراء لم تكن من الأمور الشاذة في فرنسا، بل هي من الأمراض الاجتماعية المزمنة التي كانت تنخر عظم فرنسا منذ غير يسيرة، ومع هذا فأنها لم تؤد في الماضي إلى انكسار وانهيار، لأن الأحزاب كانت تنبذ عادة منازعاتها عندما تشعر بالخطر الخارجي، وتسرع إلى الاتحاد والتكتل عندما يدعوها إلى ذلك داعي الوطن، كما حدث فعلا في الحرب العالمية

فلماذا لم يحدث مثل ذلك في هذه المرة؟ لماذا لم تتحد الأحزاب أمام الخطر الهائل الذي أحدق بفرنسا منذ نشوء الحرب الحالية؟

لا شك في أن ذلك لا يمكن أن يعلل إلا بأن نقول: إن داء الحزبية كان قد أشتد إلى درجة أصبح معها لا يتأثر من ضرورات الحرب، وإن روح الفردية كانت قد قويت إلى درجة تحولت معها إلى أنانية مفرطة تتغلب على الروح الاجتماعية والروح الوطنية.

غير أن هذا التعليل لا يحل المسألة حلا مرضياً، فيجب علينا أن نتساءل بعد هذا التعليل أيضاً: لماذا اشتدت روح الحزبية إلى هذه الدرجة، ولماذا تقوت فكرة الفردية إلى هذا الحد؟

إنني أعتقد أن الدعايات الشديدة المستمرة التي قامت في طول فرنسا وعرضها منذ سنوات ضد النظام النازي والفاشي لم تخل من التأثير الشديد في هذا الباب. إن تلك الدعايات كانت تستهدف - في حقيقة الأمر - تبغيض ألمانيا وإيطاليا، غير أنها كانت تهاجم قبل كل شيء النظام الجديد الذي اختارته لنفسها كل واحدة من هاتين الدولتين مهاجمة عنيفة، وذلك من وجهة تأثيرها على الحرية الفردية في الدرجة الأولى، ولذلك أخذت الدعايات المذكورة تستمد قوتها من (فكرة الحرية) و (نزعة الفردانية) المنتشرة في البلاد، فصارت تزدري حتى ب ـ (روح التكاتف والتراص) و (دعوة التوحيد والتضحية) التي يتضمنها هذان

ص: 20

النظامان، فإن الكتاب والخطباء كلما تزييف النازية ومهاجمتها لوحوا أمامها بعلم (الحرية المطلقة والفردية التامة) دون أن ينتبهوا إلى التأثيرات والأضرار التي قد يحدثها ذلك في داخلية البلاد ونفسية الناس. على هذا الوجه تقوىّ الداء وتأصل، وصار الناس يمجدون (الحرية) تمجيداً مطلقاً ولو أدت إلى الفوضى، وينفرون من (التوحد) ولو أصبح ضرورياً لحياة الأمة، ويسترسلون في (الفردية) ولو تحولت إلى أنانية فتاكة. . . وفي الواقع أن مخاطر هذه الأمور لم تبق خافية على أنظار جميع الفرنسيين بطبيعة الحال؛ فقد ظهر بين رجال الفكر والسياسة مَن شَعَر بالأخطار التي ستنجم عن استمرار هذه الأحوال، ومن أخذ يعارض الإفراط في فكرة الحرية فيدعو إلى جمع الصفوف وتوحيد الكلمة، حتى ظهر من يحمل بعض الحملات على روح الفردية والأنانية. . . غير أن الدعايات التي ذكرناها آنفاً، كانت أثرت في النفوس تأثيراً عميقاً حتى صار الناس ينظرون إلى كل محاولة من هذا القبيل كضرب من ضروب النازية أو الفاشية، كما أخذوا يتهمون معتنقي مثل هذه الآراء بخدمة الأعداء وخياطة الوطن

وعبثاً حاول بعض الكتاب والمفكرين أن يرشدوا الناس إلى سواء السبيل بقولهم: (يجب أن نكره النازية من حيث سياستها الخارجية وحدها، ولم يشمل كرهنا لها جميع أعمالها وجميع خصائصها. . . ومهما كرهنا النازية من وجهة سياستها الخارجية فيجب ألا ننكر بأنها قامت بأعمال هامة في سبيل الإصلاحات الداخلية والتنظيمات الشعبية، وإن بعض تلك الأعمال الداخلية جدير بالأعمال وحري بالاقتداء. . .) غير أن أصوات هؤلاء المفكرين ضاعت بين صرخات الصارخين الذين ظلوا يهاجمون النازية من جميع الوجوه باسم الحرية. . . ويستخفون بجميع مبادئها وأعمالها باسم الفردية. . .

ولذلك استمرت في فرنسا الأمراض والنزعات السياسية والأخلاقية النفسية التي شرحناها آنفاً، خلال الحرب أيضاً. . . ولا شك في أن هذا الاستمرار كان أهم الأسباب التي أدت إلى الانهيار.

ومن الغريب أن دعايات (الحرية والفردية) المفرطة التي كانت انتشرت في فرنسا فأدت بها إلى الانهيار كما أسلفنا أثرت تأثيراً عميقاً في آراء عدد غير قليل من كتاب العرب. فراح بعضهم يردد تلك الدعايات بحماس شديد، حتى بعد ظهور أضرارها الفادحة للعيان

ص: 21

في الويلات والنكبات التي جرتها على فرنسا نفسها. . .

فقد نشر أحد الكتاب المشهورين، في إحدى المجلات المصرية الشهيرة، سلسلة مقالات حول فرنسا، بعد انهيارها، أبدى فيها من الآراء ما يستوقف النظر ويتطلب النقاش. . .

فقد وصف الكاتب المحترم، في مقالاته هذه (الحالة النفسية التي كانت وصلت إليها فرنسا قبل الحرب الحالية بكلمات صريحة) فكتب - في جملة ما كتبه في الأقسام المختلفة من مقالاته المذكورة - الكلمات التالية:

(كانت شهوة السياسة الحزبية في فرنسا أقوى من الفكرة الوطنية)

(امتلأ الفرنسي بنفسه، واصبح الفرد كل شيء، يؤثر نفسه بكل شيء، يؤثرها بأعظم حظ ممكن من اللذة، ويجبنها أعظم حظ ممكن من الألم. . .)

(استجاب الفرنسي لداعي العقل الفردي، أكثر مما استجاب لداعي العقل الاجتماعي).

(وقد رأى الفرنسي أن الحياة لم تمنح للناس ليذلوها في الجهود المضنية التي تنتهي إلى الفناء، إنما منحت للناس لتكون عليهم نعمة ليستمتعوا بلذاتها وليتجنبوا آلامها. . .)

(فرنسا آثرت نفسها بالعافية واللذة ونعيم الحياة. . .) أنا لا آخذ على نفسي مسؤولية هذه الكلمات القاطعة، ولا أشترك في إطلاقها وتعميمها على هذا المنوال. ومع هذا، أرى من الضروري أن ننعم النظر فيها قليلا. . .

إن هذه الصفات الأخلاقية، وهذه النزعات النفسية، هذه الفردية المفرطة التي لا تفكر في شيء غير نفسها. . . والتي تتجنب الجهود المضنية على اختلاف أنواعها، فتحاول أن تنال أعظم حظ ممكن من اللذة. . . والتي تؤثر نفسها على الدوام بالعافية واللذة ونعيم الحياة. . . كل من ينعم النظر في هذه الصفات، يضطر إلى التسليم معي بأنها تدل على شيء واحد، هو (التفسخ الأخلاقي) وتؤدي بطبيعة الحال إلى نتيجة واحدة، وهي (الانحلال الاجتماعي). . .

غير أن الكاتب المحترم، لا يقول بذلك، بل بالعكس يرى في كل هذه الصفات والحالات أثراً من آثار التحضر والتثقف، ونتيجة من نتائج الإمعان في الحضارة والثقافة. إنه يعلل كل واحدة منها بقوله:(إن الفرنسي قد تحضر وأمعن في الحضارة) و (ومضت فرنسا في الحضارة إلى أقصى غاياتها) ويكرر ذلك مرات عديدة، ويعتبر كل ذلك من نتائج

ص: 22

(الحضارة والثقافة) الطبيعية، حتى إنه يقول بكل صراحة ما يأتي.

(إن أية أمة من الأمم تبلغ من الثقافة ما بلغته فرنسا وتسلك بالثقافة الطريق التي سلكتها فرنسا منتهية من غير شك إلى مثل ما انتهت إليه فرنسا. . .

ويزيد على ذلك قائلاً. (نحن بين طريقين) إما أن نستقبل الثقافة أحراراً (يريد مثل ما تفعل فرنسا) وإما أن نستقبلها مقيدين (يريد مثل ما تفعل ألمانيا) كما يقول أخيراً (أما أنا فاختار الطريق الأولى وأقبل أن أتعرض لما تتعرض له الأمم الحرة من ألوان الخير والشر ومن اختلاف الخطوب) ويعلل اختياره هذا بنزوعه إلى الحرية حيث يقول: (إن الحياة الحرة. . . خليقة بأن نشتريها بأغلى الأثمان). . .

أنا لا أستطيع أن أشارك الكاتب المحترم في آرائه هذه. . . ولا اسلم بأن الأحوال والصفات التي ذكرها (نتيجة طبيعية) للإمعان في الحضارة والثقافة، كما لا اسلم بصحة رأيه في انحصار الأمر بين طريقين لا ثالث لهما؛ غير أن حديثي قد طال

ولكن من الضروري ألا أنهي حديثي دون أن أناقش الكاتب المحترم قليلاً في كلمته الأخيرة.

(إن الحياة الحرة. . . خليقة أن تشتري بأغلى الأثمان. . .)؛ إن سياق الكلام - في المقالات المذكورة - يدل دلالة صريحة على أن التمني هنا هو (كيان الدولة) و (حياة المجتمع). . . فهل يجب علينا أن نسلم بهذا القول؟ هل يجوز لنا أن نقدم (الحياة الحرة) على كيان الدولة (وعلى مصالح المجتمع الحيوية)؟ وهل يمكننا أن نضحي (الحياة الحرة) بتضحية حياة الدولة وكيانها؟. . .

أنا لا أرى لزوماً إطالة الحديث في الإجابة على هذه الأسئلة، ومع هذا أرى من المفيد أن اذكر كلمة قالها قبل الحرب العالمية أحد عظماء السياسة في فرنسا، وكلمة أخرى كتبها أحد كبار الأدباء. . .

في عهد وزارة بريان أستعد الاشتراكيون لحمل الناس على إضراب عام يشمل عمال وموظفي السكك الحديدية، ليشلوا جميع الأعمال والحركات في طول البلاد وعرضها. فلما أطلعت الحكومة على أخبار هذه الاستعدادات اعتقدت بأن ذلك قد يؤدي إلى كارثة كبرى، نظراً لما كانت تعرفه عن استعداد ألمانيا نظراً لاحتمال إقدامها على انتهاز فرصة هذا

ص: 23

الاضطراب العام للاستيلاء على البلاد استيلاء فجائياً. . . فقررت الحكومة الفرنسية أن تتخذ تدبيراً حاسماً في هذا المضمار، والتجأت إلى طريقة التجنيد. جندت عمال السكك الحديدية قبل يوم الإضراب، وأمرتهم بتسيير القطارات بصفتهم جنوداً وضباطا. ومن المعلوم أن العامل حر في العمل أو الإضراب غير أنه يفقد هذه الحرية - بطبيعة الحال - عندما يصبح جندياً. . . وبهذا التدبير استطاعت الحكومة أن تفسد على الاشتراكيين ترتيباتهم في هذا الباب وأن تحول دون تحقيق الإضراب العام الذي كانوا يستعدون له منذ مدة.

هذا التدبير سبب هياجا عظيما على الحكومة، فأخذ المعارضون يقولون هذا إخلال بأحكام الدستور، وإنه تعد على حق الحرية. . غير أن رئيس الحكومة رد على هذه الاعتراضات قائلاً:(إن العمل الذي قمت به لا يخالف الدستور ولا يكون تعدياً على حرية الأفراد ومع هذا أود أن أصرح من على هذا المنبر بأنني لو كنت أعلم بأنه مخالف للدستور ولحق الحرية. . لما أحجمت عن القيام به. . لأني أعتقد أن حياة فرنسا أغلى من الدستور، واثمن من حرية الأفراد. . .)

إن ساسة فرنسا الذين كانوا يحملون مثل هذا الاعتقاد قادوا بلادهم إلى النصر في الحرب العالمية المنصرمة. . وأما رجال فرنسا الجدد الذين فقدوا هذا الاعتقاد وصاروا يعتبرون هذه الأعمال ضرباً من ضروب النازية. . . فقد أوصلوا بلادهم إلى وادي الاندحار. . .

هذا وأذكر أنني حضرت رواية في باريس قبيل الحرب العالمية عنوانها (الغرب) يصور فيها مؤلفها ضابطاً من كبار ضباط البحرية الفرنسية يعيش مع راقصة مغربية تنحدر من عشيرة مراكشية، وللضابط أخر شاب مأخوذ بالآراء والنظريات المعارضة للخدمة العسكرية. يفر هذا الشاب من الجندية، غير أن أخاه الضابط يتمكن - بعد سلسلة وقائع - من إقناعه وإعادته إلى حظيرة الخدمة الوطنية. تقف المرأة المغربية دهشة أمام خضوع الشاب لكمات أخيه هذا الخضوع، فتتساءل: ألم يكن هذا الشاب حراً؟ فكيف يخضع لأوامر الضابط كأنه كلب مطوق بالأغلال أو عبد يمتثل أوامر سيده الذي اشتراه بماله الخاص؟؟

أما الضابط فيبتسم لأقوال خليلته المغربية، وعندما يختلي بها يقول لها ما مؤداه (إن الحرية في نظرنا نحن الغربيين، هي غير الحرية التي تفهمونها وتطلبونها أنتم الشرقيين. الحرية

ص: 24

في نظركم هي أن يرتدي المرء برنسه ويعتلي صهوة جواده فينطلق في الصحراء حيث شاء. . . أما نحن فلا نطلب حرية مثل تلك الحرية، فإن كلاً منا يحمل في عنقه أغلالاً وأصفاداً. . . أغلالاً وأصفاداً مصنوعة من ذهب معنوي. . . من ذهب العنعنات والتاريخ والواجبات. . . نحن نحب تلك الأصفاد بكل جوانحنا، ونحمل تلك الأغلال بكل سرور. . . نحن نبجل تلك الأصفاد والأغلال، بل نقدسها كل التقديس. . .).

إن الجيل الذي يقول مثل هذه الأقوال قد قاد فرنسا إلى المجد والنصر، وإن الجيل الذي عدل عن تقديس الأغلال الاجتماعية فأخذ يتمسك بالحرية المطلقة. . . الجيل الذي ترك التساند الاجتماعي جانبا، فأخذ يقدس تلك الفردية. . . هذا الجيل. . . قد أوصل فرنسا إلى هذه النكبات. . .

إنني أعتقد أن هذه النتيجة يجب أن تكون درساً ثميناً لجميع شبان العرب. . .

فأنا أود أن يعرف الكل أن الحرية لم تكن غاية قائمة بنفسها، بل هي واسطة من وسائط الحياة العالية. . . والمصالح الوطنية التي تتطلب من المرء أحياناً تضحية الحرية أيضاً في بعض الظروف. . .

إن كل من لا يضحي بحريته الشخصية في سبيل حرية أمته - عندما تقتضيه الحال - قد يفقد حريته الشخصية مع حرية قومه ووطنه. . .

وكل من لا يرضى أن (يفني) نفسه في الأمة التي ينتسب إليها - في بعض الأحوال - قد يضطر إلى (الفناء) في أمة من ألمم الأجنبية التي قد تستولي على وطنه في يوم من الأيام. . .

ولذلك فأنني أقول بلا تردد وعلى الدوام. . .

الوطنية والقومية قبل كل شيء، وفوق كل شيء. . .

حتى فوق الحرية، وقبل الحرية. . .

(س)

ص: 25

‌لزوم ما لا يلزم

متى نُظم وكيف نظُم ورُتب؟

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 2 -

كانت أمور الشام ولا سيما البلاد الشمالية في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس مضطربة بين سلطان الفاطميين والأمراء المتغلبين من بني حمدان ومواليهم ومن رؤساء القبائل العربية. وقد استولى صالح بن مرداس الكلابي صاحب الرحْبة على جلب في هذا الاضطراب سنة 402. ثم وقعت خطوب رَدّت حلب إلى سلطان الفاطميين حيناً. فلما قتل نائب الفاطميين عزيز الدولة سنة 412، وتولى من قِبلهم ابن شعبان طمع صالح ابن مرداس في التغلب على نوّاب الفاطميين فحالف أثنين من رءوس العرب هما حسَّان الطائي وسنان بنُ عليّان الكلبي واتفقوا على أن يقتسموا الشام من حلب إلى حدود مصر. فصارت حلب وما يليها لصالح، ودمشق لسنان، والرملة وما يليها إلى مصر لحسَّان. وذلك عام 414. وقد تقدمت أبيات المعري التي تذكر هذا التقسيم.

هذه حوادث وقع بعضها في العقَد الأول من القرن الخامس ومعظمها في العَقد الثاني. فهذه الأبيات قد نظمت كذلك في هذين العقدين ولا سيما الثاني منهما.

ثانياً - يُذكر صالح بن مرداس في اللزوميات مرات أخر لحادث آخر كان له في نفس المعري اثر باق.

نقل ياقوت عن أبي غالب بن مهذب المعري في حوادث سنة 417 من تاريخه: (صاحت امرأة يوم الجمعة في جامع المعرة وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغتصبها نفسها. فنفر كل من في الجامع وهدموا الماخور واخذوا خشبه ونهبوه. وكان أسد الدولة (صالح) في نواحي صيدا فوصل الأمير أسد الدولة فاعتقل من أعيانها سبعين رجلا. وذلك برأي وزيره تادرس بن الحسن الأستاذ. وأوهمه أن في ذلك إقامة للهيبة - قال ولقد بلغني أنه دعي لهؤلاء المعتقلين بأمد ومياقارتبن على المنابر - وقطع تادرس عليهم ألف دينار. وخرج الشيخ أبو العلاء المعري إلى أسد الدولة صالح وهو بظاهر المعرة وقال له: مولانا

ص: 26

السيد الأجل أسد الدولة ومقدمها وناصحها كالنهار المانع أشتد هجيره وطاب بَرداه، وكالسيف القاطع لأن صفحه وخشن حداّه. خذ العفو وأمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.

فقال صالح قد وهبتهم لك أيها الشيخ. ولم يعلم أبو العلاء أن المال قد قُطع عليهم وإلا كان قد سأل فيه).

ونقل ياقوت أيضاً عن القفطي أنه وجد على ظهر ديوان الأعشى في مدينة قفط سنة 585 ما يأتي: (حكي أن صالح ابن مرداس صاحب حلب نزل على معرة النعمان محاصراُ لها ونصب عليها المجانيق وأشتد في الحصار لأهلها فجاء أهل المدينة إلى الشيخ أبي العلاء لعجزهم عن مقاومته لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به وسألوا أبا العلاء تلافي الأمر بالخروج إليه بنفسه وتدبير الأمر برأيه أما بأموال يبذلونها أو طاعة يعطونها. فخرج ويده في يد قائده وفتح الناس له باباً من أبواب معرة النعمان، وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل. فقال صالح هو أبو العلاء فجيئوني به. فلما مثل بين يديه سلم عليه ثم قال: الأمير أطال الله بقاءه كالنهار المانع الخ.

وهذه الحادثة ذكرها المعريّ في موضعين من اللزوميات في حرف الدال المكسورة واللام المكسورة. يقول:

تغيّبت في منزلي بُرهة

ستيرَ العيوب فقيد الحسد

فلما مضى العمر إلا الأقلَّ

وُحمّ. لروحي فراقُ الجسد

بُعثتُ شفيعاً إلى صالح

وذاك من القوم رأى فسد

فيسمعُ منّى سجع الحمام

وأسمعُ منه زئير الأسد

فلا يعجبَنّي هذا النَفاق

فكم نفّقت محنه ما كسد

ويقول:

آليت أرغب في قميصِ مموِّه.

فأكون شارب حنظل من حنضل

نجىَّ المعاشر من براثن صالح

ربُّ يفرجِّ كل أمر مُعضل

ما كان لي فيها جناحُ بعوضةٍ

والله ألبسهم جناحَ تفضُّل

فهاتان القطعتان نظمتا في حادث وقع سنة سبع عشرة وأربعمائة. والظن أن نظمهما لم يتأخر عن هذا التاريخ كثيراً.

ص: 27

ثالثاً - يذكر الشاعر (محموداً) في مواطن كثيرة يقول:

يسلك محمود وأمثاله

طريق خاقان وكنداج

أسُّر إن كنتُ محموداً على خلُق

ولا أُّسرُّ بأني المَلك محمود

ما يصنع الرأس بالتيجان يعقدها

وإنما هو بعد الموت جلُمود

لا كانت الدنيا فليس يسرّني

أني خليفتها ولا محمودها

سيموت محمود ويهلك آلك

ويدوم وجه الواحد الخلاَّق

فمن مُبلغ عني المآلك معشراً

علياً ومحموداً وخانا وآلكا

فما أتمنّى أنني كأجلّكم

ولكن أضاهي المقترين الصعالكا

وكلمة آلك فيما أظن، يريد بها المعري ألِك خان وهو لقب لبعض ملوك تركستان الذين قامت لهم دولة بين سنة 320 وسنة 609، والظاهر أن أول من لقب منهم ألِك خان هو نصر بن علي فاتح ما وراء النهر المتوفى سنة 403. فهذا دليل على أن هذه الأبيات نظمت بعد هذا التاريخ. وأما علىّ المذكور في البيت فلم أعرف من هو إلا أن يكون علياً أسد الدولة أمراء بني مزيد تولى الملك من سنة 403 إلى سنة 408.

ومن محمود الذي كرر المعري ذكره وجعله مثلاً في الملوك وقال إنه يسرهّ أن يكون في منزلته، وإن الدهر سيبطش به كما بطش بالضعفاء؟

في تعليقات الطبعة المصرية أنه أمير إذ ذاك. ولا نعرف من تولى في تلك النواحي ذلك العصر إلا محموداً حفيد صالح ابن مرداس. ومحمود هذا تولى الإمارة سنة 452 وخلع في السنة التالية، ثم تأمر مرة أخرى سنة 454، فدامت له الإمارة حتى سنة 468. فقد تولى بعد وفاة المعري.

ولا أدري لماذا أثبت الشيخ الميمني البيت الأول: (يسلك محمود. . . الخ) أولَ فصل من كتابه عن المعريّ عنوانه: (هو ووزير محمود بن نصر بن صالح). نقل في هذا الفصل ما يقال عن تدبير محمود هذا لقتل المعري وخلاص المعري بالدعاء. وهي خرافة مَروّية نفاها الشيخ الميمني وقال إن محموداً تولى بعد وفاة المعري كما قلتُ. فهل الميمني مع نفيه هذه الخرافة، يظن أن محموداً الذي في البيت هو حفيد صالح ذكره المعري قبل توليه الملك؟ لا أدري لماذا أثبت هذا البيت في فاتحة هذا الفصل.

ص: 28

والذي أراه أن محموداً الذي أكثر المعري ذكره هو سلطان ذاع صيته في ذلك العصر وضرب المثل بقدرته وغناه، هو يمين الدولة السلطان محمود بن سبكتكين فاتح الهند. ولهذا قرنه المعري بالخليفة في البيت:

لا كانت الدنيا فليس يسرني

أني خليفتها ولا محمودها

والسلطان محمود تولى من سنة 387 إلى سنة 421. فهذه الأبيات التي تضمنت أسمه قبل سنة 421 ولا ريب؛ لأن المعري يذكره ذكر الحياء، ويقول: سيموت محمود. . . الخ). ويؤكد ما رأيته في محمود هذا أن الشاعر يقول في اللزوميات أيضاً:

محمودنا الله والمسعود خائفة

فعدّ عن ذكر محمود ومسعود

ملكان لو أنني خيّرت مُلكهما

وعُود صَلب أشار العقل بالعود

ومسعود هو ابن السلطان محمود استقر له الملك سنة 421 بعد أن ظفر بأخيه محمد. وبقي له السلطان حتى سنة 432. وأما السلطان محمود السلجوقي وأخوه مسعود فقد ملكا في القرن السادس الهجري.

رابعاً - كان أبو القاسم المغربي الوزير ممن أقام بالمعرة، وكان يوادّ المعري ويراسله، وكان المعري يحفظ له ولأبيه من قبلُ أياديه. فلما توفي رثاه بأبيات مثبته في اللزوميات. ولا أعرف فيها رثاء لغيره أو مدحا صريحاً.

ليس يبقى الضرب الطويل على الده

ر ولا ذو العبَبالة الدرِحايه

يا أبا القاسم الوزير ترَّحا

ت وخلَّفتني ثقال رحايه

وتركت الكتب الثمينة للنا

س وما رحت عنهمُ بسَحايه

ليتني كنت قبل أن تشرب المو

ت أصيلاً شربتُه بضُحايه

إن نحتْك المنون قبلي فإني

منتحاها وإنها منتحايه

أمُّ دَفْر تقول بعدك للذا

ئق لا طعم لي فأين فحايه

إن يَخطّ الذنبَ اليسير حفيظا

ك فكم من فضيلة محاَّيه

وهذا الوزير توفي سنة 418. فهذه القطعة نظمت في هذه السنة.

خامساً - يقول المعري:

ألم ترني وجميع الأنام

في دولة الكذب الذائل

ص: 29

مضى قَيلُ مصر إلى ربِّه

وخلَّى السياسة للخائل

وقالوا يعود فقلنا يجوز

بقدرة خالقنا الآئل

إذا هبَّ زيد إلى طيَّئ

وقام كليب إلى وائل

أظن أن قَيل مصر المعنىّ في هذا البيت هو الحاكم بأمر الله الفاطميّ، فهو الذي انتظر بعض الناس عودته. والحاكم هلك سنة 411. فالظاهر أن هذه الأبيات نظمت قريباً من هذا التاريخ.

(ب) سن المصري في اللزوميات:

يذكر المعري سنه في اللزوميات تصريحاً وتلويحاً؛ تارة يقول بلغت كذا أو جاوزت كذا، وتارة يقول: إذا بلغ الإنسان كذا آن له أن يرعوي أو حان له أن يهلك. وقد عَبرت اللزوميات مستقصياً الأبيات الذي يذكر فيها سنّه؛ فإذا هو يذكر الأربعين مراراً ويذكر الخمسين كثيراً ولا يذكر ما دون الأربعين إلا مرة واحدة قدمت الكلام فيها، وذكر السبعين مرة سأثبتها من بَعد.

يقول في الهمزية التي افتتح بها اللزوميات:

إذا ما خبت نار الشبيبة ساءني

ولو نُصّ لي بين النجومِ خباء

أرابيك في الودّ الذي قد بذلتَه

فأضعِفُ إن أجدىَ لديك رباء

وما بعد مرّ الخمس عشرة من صبا

ولا بعد مرّ الأربعين صَباء

ويقول:

خَبر الحياة شرورها وسرورها

من عاش مدة أول المتقارب

وأفى بذلك أربعين فما له

عذر إذا أمسى قليل تجارب

ومتى سرى عن أربعين حليفها

فالشخص يصغر والحوادث تكبر

ورميت أعوامي ورائي مثل ما

رمت المطىُّ مهامه السُفَّار

وركبت منها أربعين مطيّة

لم تخْلُ من عَنَتٍ وسوء نِفار

شربتُ سِني الأربعين تجرعا

فيا مقراً ما شربهُ في ناجع

ويجوز أن تدل هذه القطعة أنه بلغ ثمانياً وأربعين:

عش يا ابن آدم عدة الوزن الذي

يُدعي الطويلَ ولا تجاوزه ذلكا

ص: 30

فإذا بلغت وأربعين ثمانياً

فحياة مثلك أن يوسَّد هالكا

وأما ذكر الخمسين فأكثر وأصرح:

حياتي بعد الأربعين منيّة.

ووجدان حِلف الأربعين فقود

فمالي وقد أدركت خمسة أعقُد.

أبيني وبين الحادثات عقود؟

إذا كنتُ قد جاوزت خمسين حِجة

ولم ألق خُسرا فالمنيّة لي سِتر

وما أتوقّي، والخطوب كثيرة،

من الدهر إلا أن يَحلَّ بي الهِتر

إذا طلع الشيب الملمُّ فحيِّه

ولا ترض للعين الشباب المزوَّرا

لقد غاب عن فوديك خمسين حجة

فأهلاً به لما دنا وتسوَّرا

وما العيش إلا لُجّة باِطليَّة

ومن بلغ الخمسين جاوز غَمرها

أخمسين قد أفنيتها ليس نافعي

بتأخير يوم أن أعَضَّ على خمس

لا خير من بعد خمسين انقضت كَمَلا

في أن تمارس أمراضاً وأرعاشا

خمسون قد عشتَها فلا تعشِ

والنعش لفظ من قولك انتعش

عَلِقتُ بحبل العمر خمسين حجة

فقدرتّ حتى كاد ينصرم الحبل

كأنك بعد خمسين استقلَّت

لمولدك، البناءُ دنا ليهوِي

وقد ذكرت الخمسون في ثلاث قطع أخرى، في حرف الطاء والكاف والميم. ولم تذكر الستون في اللزوميات قط. وجاء ذكر السبعين في قوله:

من عاش سبعين فهو في نصب

وليس في العيش بعدها خِيَره

(يتبع)

عبد الوهاب عزام

ص: 31

‌الجمال الفني والعقيدة الدينية في القرآن الكريم

للأستاذ سيد قطب

- 1 -

منذ أسبوعين قرأ الناس في الرسالة (مناقشات) الأستاذ عبد المنعم خلاف حول (التصوير الفني في القرآن) وحول (المنطق الوجداني) كذلك.

وإذا أنا عدت اليوم إلى مناقشة هذه المناقشات، فإنما يدعوني أليها أنها طريقة مضمونة لتوجيه النظر إلى الجمال الفني في القرآن من زاوية لم تعرف قبل الآن. فأنا أزعم أن هذا الجمال قد بقي مجهولاً في الغالب، منذ أن حاول تجليته الإمام (عبد القاهر) فوصل إلى أقصى ما يتيحه له عصره. . . ثم لم يتابعه أحد في الطريق الصحيح، إلا فلتات تقع بين الحين والحين.

وأنا أزعم كذلك أن الأدب العربي لم ينتفع الانتفاع الواجب بكتاب الإسلام المقدس، كما انتفعت آداب الأمم المسيحية بكتابهم المقدس من الوجهة الفنية. . . فكل تجليه لطريقة القرآن الأدبية ولمواضع الجمال فيها على طريقة فنية شاملة إنما هي كسب للأدب العربي - ولو جاء متأخراً جد التأخير عن موعده - وتوسيع لآفاق النظرة الفنية للبلاغة، واتجاه بها إلى (النقد الفني) الذي كان يجب أن تصير أليه، لو لم تركد القواعد البلاغية الجافة التي يحاكمون إليها الجمال الفني في الأدب العربي عامة

لا يزال الأستاذ عبد المنعم يجادلني حول طريقة التعبير المفضلة في القرآن، وحول العقيدة بين المنطق والوجدان. فلنتحدث اليوم عن المسألة الأولى. فأنا أزعم أن الطريقة المفضلة هي (التصوير) ويرى هو هذا الزعم مبالغة دعا إليها مجرد الحماس.

وحين أحيله على المصحف لينظر صدق ما أتجه إليه يرى أنني أحيله إلى محال على طريقة (جحا) في عد نجوم السماء!

ولكنه يفتح المصحف هنا وهناك فيجد أمثلة لا تنطبق عليها القاعدة، ويرى مواضع للتعبير لا يبرز فيها التصوير. وعندئذ يحاكمني إلى هذه المواضع وإلى أمثالها. . . ما دام لا يستطيع أن يسرد (القرآن كله) في مجلة الرسالة للاستشهاد!

وأحسب: أن ليس هكذا تكون مقاييس الفنون!

ص: 32

والذي أفهمه أنا حين أقول عن التصوير في القرآن: (فليس هو حلية أسلوب، ولا فلتة تقع حيثما أتفق. وإنما هو مذهب مقرر وخطة موحدة، وخصيصة شاملة) أو حين أقول: (والأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرنا. . .)

الذي أفهمه حين أقول هذا: أن السمة الواضحة التي تحدد (عنوان) الطريقة المتبعة في القرآن هي سمة (التصوير) وأن هذا لا يعني انتفاء نص أو عدة نصوص لا تتضح فيها هذه السمة. إنما الطابع العام الذي يعنيني، وهو الذي يعني كل ناقد ينظر في عمل فني، فيبحث عن السمات العامة فيه، ولن يجد من يقول له: إن هنا سطراً أو فقرة أو صفحة لا تتضح فيها هذه السمة. فذلك آخر ما يقال في الحكم على القانون.

فأما حين نكون في المعمل فنقول إن خصائص (الأوكسجين) هي كيت وكيت. فإن لكل باحث أن يقول: نعم أوكلا. إن هناك خصيصة ذكرت خطأ، أو هناك خصيصة نسيت. فالحكم غير صحيح!

وهذه هي نسخة المصحف التي كانت مرجعي في أثناء تحضير كتابي. تحمل صفحاتها (تأشيراتي) على مواضع التصوير في القرآن. وهأنذا لا أكاد أجد صفحة واحدة خلت من موضع يحمل إشارة إلا أن تكون تشريعاً. . . وهذا حسبي لتقرير هذه الحقيقة التي قررتها في كتابي بعد التشبع بطريقة القرآن، والحياة في جوه أكبر وقت مستطاع.

بل هأنذا أنظر في كلمة الأستاذ عبد المنعم الأولى التي يعدد فيها طرائق التعبير القرآني فيقول: (إني أترك له أن يستعرض صفحات القرآن فسيجد أن التصوير الفني أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة في القرآن؛ وليست هي الغالبة ولا الكثيرة (1) فتارة يعبر عن المعنى المراد بالتعبير المتكافئ المعنى واللفظ الذي يستخدم الألفاظ الوضعية وحدها (2) وتارة يستعير لفظة واحدة من غير أسرة الألفاظ التي في الجملة ليحرك بها الخيال ويلمس الحس لمسا رقيقاً (3) وتارة تكون ألفاظ الحقيقة وملابسات الخيال متساوية (4) وتارة تكون ملابسات التصوير وإثارة الخيال هي الغالبة (5) وتارة تكون هي الكل. . .)

فهذه خمس طرائق للتعبير عددها الأستاذ عبد المنعم. . . أنظر فأرى أربعاً منها مما أعنيه حين أذكر طريقة التصوير. وواحدة فقط هي التي تسلك الطريقة الذهبية المجردة. وتكملة

ص: 33

لهذا البيان أقرر أن هذه الطريقة تكثر في مواضع التشريع وفي بعض مواضع القرآن لأنها تكاد تطرد في سائر الأغراض.

أم لعل الأستاذ عبد المنعم لا يرى التصوير إلا في الطريقة الخامسة وحدها؟ فهمت منه حين يقول تعقيباً على النصوص التي أستشهد بها في مقاله الأخير!

(فأين في هذه الآيات وأمثالها الكثيرة (التصوير الفني) الذي لفت نظر الأستاذ سيد وأثار خياله حتى وهو طفل بحبكته في اللوحات ذات الوحدة والتناظر والتمثيل الجامع ذي الظلال والأجواء الشاملة كما يتجلى في (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة أنقلب على وجهه. . .)

وجوابي على هذا أن هذا اللون (الفاقع) من التصوير ليس من الضروري أن يتحقق دائماً لنطلق عليه عنوان (التصوير) وإذا كان هذا اللون هو الذي لفت خياله في الطفولة، فهذا شأن الطفولة التي لا تلفتها إلا الألوان الزاهيةٌ الصارخة. فأما حين تكتمل الحواس الفنية، فهي خليقة أن تدرك أدق الخطوط وأهدأ الألوان، وتنفعل بها أشد الانفعال. . . وهذا هو الذي كان!

ولكن أكنت أنا مقصراً في التنبيه إلى ما أعنيه بالتصوير في القرآن، وهل تركت مجالا في كتابي لمثل هذا اللبس!

فلنعد إلى بعض نصوص الكتاب:

جاء في صفحة 32 من الكتاب، في فصل (التصوير الفني)(ويجب أن نتوسع في معي (التصوير) حتى ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن. فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخيل؛ كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيراً ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين وألأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان. . .)

وجاء في صفحة 60 وما بعدها في فصل (التخيل الحسي والتجسيم) بعض التطبيق لهم القواعد:

(لون من ألوان (التخييل) يمكن أن نسميه (التشخيص) يتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية. هذه الحياة قد ترتقى فتصبح حياة

ص: 34

إنسانية تشمل المواد والظواهر والانفعالات، وتهب لهذه الأشياء كلها عواطف آدمية وخلجات إنسانية تشارك بها الآدميين، وتأخذ منهم وتعطي، وتتبدى لهم في شتى الملابسات، وتجعلهم يحسون الحياة في كل شيء تقع عليه العين، أو يتلبس به الحس، فيأنسون بهذا الوجود أو يرهبونه في توفز وحساسية وإرهاف.

(هذا هو الصبح يتنفس. (والصبح إذا تنفس) فيخيل إليك هذه الحياة الوديعة الهادئة التي تنفرج عنها ثناياه، وهو يتنفس فتتنفس معه الحياة، ويدب النشاط في الأحياء، على وجه الأرض والسماء.

(وهذا هو الليل يسرع في طلب النهار فلا يستطيع له دركا: (يُغشى الليل النهارَ يطلبه حثيثاً) ويدور الخيال مع هذه الدورة الدائبة التي لا نهاية لها ولا ابتداء.

(أو هذا الليل يسري: (والليل إذا يَسْرِ) فتحس سريانه في هذا الكون العريض، وتأنس بهذا الساري على هينة واتئاد.

(وهاتان هما الأرض والسماء عاقلتين يوجه إليهما الخطاب فتسرعان بالجواب: (ثم استوى إلى المساء وهو دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً. قالتا أتينا طائعين) والخيال شاخص إلى الأرض والسماء، تدعيان وتجيبان الدعاء.

(وهذه هي الأرض (هامدة) مرة و (خاشعة) مرة ينزل عليها الماء فتهتز وتحيا: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت. . .)

(ومن (التجسيم) وصف المعنوي بمحسوس كوصف العذاب بأنه غليظ: (ومن ورائهم عذاب غليظ) واليوم بأنه ثقيل: (ويدعون وراءهم يوم ثقيلا) والرياح بأنها لواقح تشبيها لها بالحيوان لما تحمل من مطر (وأرسلنا الرياح لواقح).

(وضرب الأمثلة على المعنوي بمحسوس كقوله: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) لبيان أن القلب الإنساني لا يتسع لاتجاهين. ومثل (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها - من بعد قوة - أنكاثا) لبيان العبث في نقص العهد بعد المعاهدة. . .)

وجاء في ص 74 وما بعدها في فصل (التناسق الفني).

(هناك المواضع التي يتنافس فيها التعبير مع الحالة المراد تصويرها فيساعد على إكمال

ص: 35

معالم الصورة الحسية أو المعنوية. وهذه خطوة مشتركة بين التعبير للتعبير، والتعبير للتصوير. . . مثال ذلك:(إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون). فإن كلمة (الدواب) تطلق عادة على الحيوان - وإن كانت تشمل الإنسان فيما تشمل لأنه يدب على الأرض - ولكن شمولها هذا للإنسان ليس هو الذي يتبادر إلى الذهن، لأن للعادة حكمها في الاستعمال. فاختيار كلمة (الدواب) هنا ثم تجسيم الحالة التي تمنعهم من الانتفاع بالهدى بوصفهم (الصم البكم) كلاهما يكمل صورة الغفلة والحيوانية التي يريد أن يرسمها لهؤلاء اللذين لا يؤمنون لأنهم (لا يعقلون)!

(وقد يستقل لفظ واحد - لا عبارة كاملة. . برسم صورة شاخصة - لا بمجرد المساعدة على إكمال معالم صورة

تسمع الأذن كلمة (اثاقلتم) في قوله: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض؟) فيتصور الخيال ذلك الجسم المثّاقل، ليرفعه الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم في ثقل. إن في هذه الكلمة (طنّا) على الأقل من الأثقال!

(وتقرأ: (وإن منكم لَمَنْ لَيُبَطِّئنَّ) فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلها - وفي جرس (ليبطئن) خاصة وإن اللسان ليكاد يتعثر وهو يتخبط فيها حتى يصل إلى نهايتها)

(وتتلوا حكاية قول هود. (قال أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعُمِّيت عليكم أنُلْزُمكموها وأنتم لها كارهون؟) فتحس أن كلمة (أنلزمكموها) تصور جو الإكراه بإدماج هذه الضمائر في النطق وشد بعضها إلى بعض، كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويُشدون إليه وهم منه نافرون!)

وهكذا. . .

وفي هذا الفصل عند استعراض آفاق التناسق الفني في القرآن ضربت الأسئلة الموسيقية التصويرية التي تهيئ الجو العام في مثل:

(والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى. وللآخرة خير لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى. ألم يجدك يتيماً فآوى. ووجدك ضالا فهدى. ووجدك عائلاً فأغنى. . .)

فهنا إيقاع موسيقي هادئ لطيف يصور الجو العام الذي نعيش فيه معاني السورة. وهو

ص: 36

مخالف حتماً للإيقاع المنبعث من مثل قوله:

(كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً وجاء ربك والملك صَفّا صَفّاً. . .)

والموسيقى التصويرية لون من ألوان التصوير الفني بلا جدال.

التصوير هو القاعدة العامة في تعبير القرآن. . . أكررها مرة ومرة، لا إصراراً على قول، ولكن اقتناعاً بعد درس. وكل ما اطلبه إلى الأستاذ عبد المنعم ألا يحاكمني في هذا الرأي إلى نص أو مثال. ولكن إلى سمة غالبة، وإلى شمول في معنى التصوير كما بينه في مواضع متعددة من كتابي. وإني لأطلب إليه وكتابي بين يديه أن تعود فيقرأه كله ثم يقرأ القرآن!

ويبقى تقويم هذا التصوير، والأستاذ يقول:(إنما بينت أننا لو ربطنا بين سر الإعجاز وبين التصوير الفني وحده نكون قد سوينا بين تعبير القرآن وبين غيره من مواريث أرباب البيان الرفيع في كل لغة إذ أننا نجد في مواريثهم استخدام التصوير ألفني. . .)

ولست أدري كيف يقال هذا الكلام بعد ما رددت به على الأستاذ نجيب محفوظ في تقويم هذا التصوير في القران وفي الشعر عامة؟

أن العبرة ليست باستخدام التصوير، ولكن بمستوى هذا التصوير من التناسق والحياة. وقد كشفت في كتابي في مواضع كثيرة عن تفرد التصوير القرآني في خصائصهِ فلم يبق مجال لمثل هذا الاعتراض الذي ينطبق على جميع طرائق التعبير لا على طريقة التصوير وحدها. ولا حكم فيه على أي طريقة. لأن السمة شيء ومستواها شيء أخر والسلام.

سيد قطب

ص: 37

‌نموذج من الشعر المرسل الحر!

للأستاذ على أحمد باكثير

عجباً كيف لم تعصفْ بالدُّنَى زلزلهْ؟

كيف لم تهو فوق الورى شُهُب مُرسلهْ؟

يا لها مهزلة!

يا لها سوَءةً مُخجلة!

مثلت دورها أمة تدعى ضلة أنها من كبار الدول

سلمت للمغيرين أوطانها لتوارى في سوريا وفي لبنان الخجل!

أمة ولت من وجه العدو فرارا

من ضرته الأولى انهارت ككثيب الرمل انهيارا!

خاست بمواثيق أحلافها الباسلين

الذين توافوا إلى أرضها منجدين

ثم خرت ساجدة تحت أقدام أعدائها المعتدين

نشرت صحف الدنيا يوماً هذا النبأ التالي:

احتلت جنود فرنسا البواسل (سردينيا)

قالت الدُنيا: يا بطولتها! يا شجاعتها!

رجعت لفرنسا حميها وتقاليدها العسكرية

فإذا صوت قد علا لا يسمعهُ إلا المنصفون:

يا أيتها الدنيا هل تدرين أنك مخدوعة؟

اسألي قبل أن تُجبي: من هم هؤلاء الجنود البواسل؟

أي شعب أنجبهم؟

إن لم تعلمي فاعلمي أنهم ليسو من فرنسا!

إنهم من أبناء (المغرب) الأكرمين

إنهم من نسل العُرب الميامين!

وروت صُحف الدنيا يوماً هذا النبأ التالي:

ص: 38

أبلت في (بئر حكيم) جنود فرنسا بلاء كبيرا

صدت (النازي) فارتد كسيراً حسيرا

قالت الدُنيا: يا بطولتها! يا شجاعتهم!

عادت لفرنسا حميتها وتقاليدها العسكرية

فعلا صوت لا يسمعهُ إلا المنصفون:

يا أيتها الدُنيا هل تدرين أنك مخدوعة؟

اسألي قبل أن تُعجبي من هم هؤلاء الجنود البواسل؟

أي شعب أنجبهم؟

إن لم تعلمي فأعلمي أنهم ليسو من فرنسا!

إنهم من أبناء (الشام) الأكرمين

إنهم من نسل العُرْب الميامين!

يا فرنسا يا مهد الثورة الكبرى!

يا ناشرة الحرية في الدنيا!

يا من ركعت تحت أقدام المعتدين

وتخلت لأعدائها عن أحلافها الباسلين

وتخرج أبناؤها إشفاقاً على باريس عروس السين

فرأوا أن يرفوها غير ممسوسة لغزاتهم الفاتحين؟

ما نفع الكرامة في الدنيا إن زالت تلك الفنون الغرائب؟

إنهم ليسو بالغلاظ طباعاً كأبناء عاصمة الإنجليز

الذين استماتوا عنها دفاعاً فأضحت أطلالاً وخرائب!

يا فرنسا يا مهد الثورة الكبرى!

يا ناشرة الحرية في الدنيا!

أي حق على قومنا تدعين؟

وبأي جميل علينا تمنين؟

أبما راج في سوقنا من لسان به ترطنين؟

ص: 39

وثقافة سؤ أذلتك في العالمين!

فأذهبي وتوليْ بها عنا!

قد تبرأنا منها فلتُعِلن براءتها منا!

إنا لا نقبل من أحد عدواناً ومَنَّا!

اذهبي عنا بثقافتك الخانعة!

إن في الدنيا غيرها لثقافات حُرة واسعة!

ويلها! أأرادت فرض ثقافتها بالسلاح؟

فلنحطم ثقافتها والسلاح معاً!

ويلها! أأرادت فرض مصالحها بالسلاح

فلنحطم مصالحها والسلاح معا!

يا لسخرية الأيام!

أتهددنا دولة في عهد السلام

بالسلاح الذي لم نقاتل به الأعداء

بل ألقت به في الثرى ساعة الهيجاء

لتصول به وتجول على من أحس لها بالرثاء

وأباح لها في محنتها من معونته ما تشاء؟!

فاشهدي يا أيتها الدنيا هذه الدولة الباغية!

ليت شعري أقاتلت الدنيا طاغية

ليقوم على إثره طاغية؟

اشهدوا يا من وقعوا ميثاق النور على بحر الظلمات

أننا قد وفينا بالميثاق

إذ قمنا نصون كرامتنا ونصون السلام

لسنا من ينقضون العهود!

أو من يؤثرون على حريتهم شيئاً في الوجود!

لن نسلم (باريسنا) للعدو لنحفظها من أذاه!

ص: 40

بل ندمر (لندنننا) باسلين ليبقى لنا حقنا في الحياة!

فاسمعي أنت يا باريس!

واشهدي أنت يا لندن!

ص: 41

‌السودان يعزي الشام

للشاعر السوداني الأستاذ احمد محمد صالح

صبراً دمشق فكل طرف باك

لما استبيح مع الظلام حماك

جزعت عمان وروعت بغداد واه

تزت ربى صنعاء يوم أساك

وقرأت في الخرطوم آيات الأسى

وسمعت في الحرمين أنه شاكي

ضربوك لا متعففين سفاهة

لم تأت إثماً يا دمشق يداك

ورماك جبار يتيه بحوله

شلت يمين العلج حين رماك

قم يا ابن هند وامش فيهم غازياً

في كل جبار العزيمة شاكي

جدد لنا يوم اللواد وعهده

وأعد علينا ما حكاه الحاكي

أيام خيل الله أوغل جمعها

في دار أهل الإفك والإدراك

يحملن كل أغر وضاح السنا

عند الكريهة باسم ضحاك

داسوا فرنسا واستباحوا أرضها

وغدو لحوزتها من الملاك

سبحانك اللهم أمرك نافذ

لك حكمة جلت عن الإدراك

صبراً دمشق فكل هم زائل

وغداً يلوح مع النجوم سناك

تتألقين كما عهدتك درة

في تاج أروع من أمية زاكي

في الجاهلية كان عزك باذخاً

وازدان بالإسلام عقد حلاك

يا جنة الدنيا وبهجة أهلها

وحظيرة العباد والنساك

يا معقل الإسلام في عليائه

لا تذعني للغاصب السفاك

قولي لديجول مقالة شامت

أنسيت في باريس نوح الباكي

أنسيت كيف ترنحت سيدان من

ضرب على هام الرجال دراك

مهلاً فرنسا فالحوادث جمة

والدهر دوار مع الأفلاك

والله لولا الإنجليز وحلفهم

لذهبت غير حميدة ذكراك

قل للعروبة قول باك مشفق

لا تركني للغرب في مسعاك

فالوعد عندهم جهام خلب

وعهودهم شرك من الأشراك

ص: 42

‌البريد الأدبي

الأستاذ احمد محرم

فجع الشعر في علم من أعلامه الذين حفظوا وجوده وأقاموا عموده ومهدوا له السبيل إلى هذه النهضة: ذلك هو المغفور له الأستاذ احمد محرم. قُبض إلى رحمة الله في الأسبوع الماضي على الفراش الذي ينسجه القدر للأدباء الأحرار من الفاقة والمرض والوحشة، بعد أن ظل اسمه لامعاً في سماء الأدب العربي قرابة نصف قرن. والناظر في تاريخ الشعر الحديث يراه في الرعيل الأول من شعراء الإحياء الذين خلفوا البارودي على إرث الشعر فحددوا باليه وأنعشوا ذاويه، ثم تخطفتهم المنايا واحداً بعد واحد فلم يبق منهم غير مطران والكاشف!

كان احمد محرم من الشعراء المطبوعين على الديباجة المشرقة والقافية المحكمة؛ وكان يطيل في غير سقط، ويبالغ في غير شطط، ويتأنق في غير تكلف. وربما كان أقل معاصريه وقوعاً على المعنى الطريف والفكرة العميقة؛ ولكنه كان من أكثرهم احتفالاً بحسن الصياغة ولطف التخيل. وقد قام في أعقاب عمره بنظم (الإلياذة الإسلامية) وهو عمل يكفي وحده لتمجيده وتخليده.

هذه كلمة ينعى بها الفقيد الكريم ولا نزعم أننا نرثيه؛ فإن الرثاء يقتضي العلم بحياة المرثي وصفاته ومقوماته وملابساته، ومعرفتنا بالشاعر الراحل لم تتعد المعرفة الفنية لشعره. لذلك نتقدم إلى إخوانه الذين خالطوه ولابسوه - وفي مقدمتهم الأديب الوفي للأدب، والصديق المخلص للأصدقاء، الأستاذ كامل كيلاني - أن يكتبوا للتاريخ ترجمة حياته وتبث مؤلفاته؛ فإن ذلك غاية ما يطلبه الأديب من الحقوق، في دنيا لم ينل منها ومن بنيها غير العقوق!

أين شعراؤنا؟

تحت هذا العنوان كتب الأستاذ علي محمد حسن كلمة أخذ فيها على الشعراء تقصيرهم إزاء شقيقتنا سوريا. والأستاذ مشكور على غيرته وحماسته وخاصة فيما يتعلق ببكاء شعرائنا المتفرنسين (باريس) بكاء الثكالى الوالهات! ولو قد سقطت الإسكندرية تحت سنابك حصان موسليني الأبيض كما كان يرجو ما ذرفوا عليها دمعة واحدة!

وأحب أن أذكر بهذه المناسبة أني قد قلت شيئاً في حوادث لبنان سنة 1942 عندما أمعن

ص: 43

غربان السنغال في التنكيل بأهل بيروت! ولكن الرقابة حالت يومئذ دون نشره. ولما كانت حوادث سوريا هي حوادث لبنان، وسنغال الأمس هم سنغال اليوم، وعقلية فرنسا الاستعمارية لم تتغير ولن تتغير، أستميح الرسالة الغراء لنشر هذه القطعة ليعرف الكاتب الفاضل أن الشعراء لم يقصروا وإن لم يقوموا بكل ما يحب.

إلى الجنرال ديجول!!

ديجولُ، قلْ لي - هَداك الله - ديجولُ

أأنتَ عما جرَى في (الأَرْزِ) مشغولُ؟

أعطيتَ (لبنانَ) عهداً ما وفَيْتَ به

فكيف فاتك أنَ العهدَ مسئول

فيم المواثيق إنْ كنتم على ثقةٍ

أنّ المواثيقَ تمويهٌ وتضليل

قولوا لنا: كيف يحلو الُّظلُم من فئةٍ

أجلاهمو الّظلُم عن أوْطانهم، قولوا

أتنكرون على الأحرار حقَّهمو

في عقر دارهمو! تلك الأباطيل

جَزاؤهُم منكمُ في ظلّ رايتهم

- على المودّة - تشريدٌ وتقتيل

تركتموني - وقد أكْبرتُ ثورتكم -

أقول: ثورتكم يا قوم تدجيل

أغمدْ سيوفَك إنّ البغيَ جردها

على البريء! وَسَيفُ البغي مفلول

لا تحقِرنّ دماء راحَ يَسْفَحُها

غِربانُ جُنْدِكَ! غالت جندك الغولُ

شننتَ حرباً على من لا سلاحَ له

وفي بلادكمو تجري الأفاعيل

قد كان أولى بذات (الُهونُ) وحدهمو

فشيخكُم في إسار (الهون) مغلول

عودوا إلى الحق، إن الحقَّ منتصرٌ

مَنْ ذاد عنه، ومَنْ عاداه مخذول

إنّا غضبنا (لِلُبْنانٍ) وساِكنِه

و (الأرْزُ) شاطرَه أحزانه (النِّيل)

كلا الشقيقين - صانَ اللهُ حوزَته -

أبناؤه العرَبُ الغرُّ البهاليلُ

علي الجندي

كتاب الفاروق عمر لمعالي هيكل باشا

تبدو لنا في ابتسامات الضحى السير

متى جلاها عزيز القول مقتدر

يا (هيكل) إن ما دبجت عن عمر

قد كان يرقبه من (هيكل) عمر

خليفة ملأ الأسماع ذو خطر

فما له غير جبار له خطر

ص: 44

ومن سواك انتضى في كفه قلماً

نور الهداية من فكيه منحدر؟

ساس الأمور فعاش الكل في دعة

وإن تفرست عن أعمالهم بهروا

ما حاد في الله يوماً قيد أنملة

في سِلم من آمنوا أو حرب من كفروا

وإن رأى شبهة جالت بخاطره

من خشية الله لا ينفك يعتذر

ويقبل الحق مهما كان مصدره

لم ينسه الحكم يوماً أنه بشر

الناس في عدله طراً سواسية

كالمشط، ما فيهم سام ومحتقر

هذي صحائف غر راح يبسطها

(محمد) بأياد كلها غرر

تبسري من الأدب العالي على فلك

وهالة ما سرى في مثلها قمر

قدمت للشعر عقداً من مفاخرهم

فما هنالك تثريب إذا افتخروا

حللت تاريخه من كل ناحية

فكان أجمل تاريخ به صور

سفر يكمله سفر كما حبكت

ببعضها الآى في التنزيل والسور

فالله يشكر ما قدمت من عمل

لدينه، ولسان الله من شعروا

محمد برهام

مجمع العرب. . .

اجتمع العرب على مائدة جلالة الملك فاروق جمع كريم من رجالات البلاد العربية وزعمائها وفيهم سمو الأمير محمد بن عيسى آل خليفة عم حاكم البحرين، وهو شاعر عظيم وراوية كبير، فقدم إليه صديقه الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن هذه الأبيات:

شَرَّفتَ يا أبن الضاربين في الكَرمْ

جوانبَ النيل وسَاحةَ الهرمْ

مصرُ التي كانت على طَول المدى

منارةَ العلم ومصباحَ الُّظَلمْ

لملة الإسلام فيها دَولةٌ

ولْغةُ الضاد لها فيها جُرمْ

اتحد الجمعُ على ربوعها

واجتمع الشملُ عليها والتأمْ

قد صَدَقوا العزَم على نيَّاتهم

والعربيُّ صادقٌ إذا عزمْ

ما العرب إلا أمةٌ واحدةٌ

لها الجلالُ والجمالُ والِقدَمْ

قد فرقتهم كلُّ أرضٍ حرةٍ

واتحدوا في ظل ذلك العلمْ

ص: 45

أليس من طينتهم كلُّ فتىَ

محتدِم البأس إذا البأس احتمْ

من كلِّ ممنوع على الضَّيم فلا

يُرْجىَ، وأَبَّاء فليس يهتضمْ

الأمل المنشودُ آخى بينهم

وألَّفتهمُ الجراحُ والألم

ألم يكونوا أمس آسادَ الحمى

وسادةَ الدنيا وقادةَ الأمم؟

قد فتحوا الأرض على أقطارها

وزلزلوا كلَّ بناء فانهدم

في كل خطوةٍ لهم غنيمةٌ

وهمةٌ علياءُ في كلِّ قَدَمْ

مجد أضاعه بنوه فمضى

وحائطٌ قد ثَلَموهُ فانثلم

واليوم قد هبَّت عليه نفحةٌ

منكم وسار في خلاله الضَّرمْ

فيم التغني بتُراثٍ ضائع

وفيم يا قوم النشيد والنغم؟!

لا يُدرَكُ المجدُ بمجد فائتٍ

ولا يُنالُ بالفخارِ والكلمْ

والحقُّ لا يُحمىَ بقولٍ أَعزل

الحقُّ يُحمى بالحديد والحممْ

يا أمة العُرْب وفيكم أنفسٌ

تأبى على القيد وفيكم الهمم

كفاكم النومُ قروناً عدةً

من طلب الأمر الجليلَ لم يَنم

قولوا لمن نام إلى رأْد الضحى

قد غّطت الشمسُ الهضاب والأكم

المجدُ لا يُرجى بحُلم زائل

من عاش في الأوهام يا قوم وهم

محمد عبد الغني حسن

ص: 46

‌القصص

الدميم. . .

للأستاذ حبيب الزحلاوي

- 2 -

ألقت الباخرة (إيجبتو) مراسيها، وأخذ الركاب يتزاحمون ويلتفون حول الضابط المكلف بالتأشير على الجوازات، هذا يتوسل، وذاك يطلب، وذلك يتضرع، وهذه تتدلل، وتلك تغمز الضابط نستحثه التأشير على الجواز، أي السماح بالدخول إلى جزيرة (الورد) كما يسميها التليان.

لا بد من الانتظار الطويل ريثما ينتهي الضابط من أسئلة سخيفة كان يخص بها السيدات الجميلات.

اقتعدت مقعداً بعيداً عن الزحمة أنتظر دوري، وإذا برجل يقترب مني ويقول: إنه مصري مثلي جاء ليقضي فترة من إجازة الصيف في هذه الجزيرة التي قرأ وصفاً لها في الصحف فخال أنها قطعة من جنات عدن، وإنه ما جاء إلا منساقاً بفعل الدعاية التي أحدثتها الصحافة في نفسه، في حين أنه ألف الاصطياف في مدن (الكوت دازير) وأخذ يتكلم عن مصايف فرنسا وسويسرا وإيطاليا وألمانيا بلهجة حارة ولفظ عذب وعبارات مختارة من صحيح اللغة، وكان يدعوني صديقه.

نظرت إلى وجه هذا الرجل الذي طرح عليّ صداقته فإذا به يمثل الدمامة بله البشاعة خير تمثيل: أعمش، أمرط الحاجبين، أصلع، في جبينه وعلى خديه ندوب الجدري، وفي عنقه أخدود من أثر جراحة؛ وهو فوق هذا أستاذ علم الزراعة في الجامعة يحمل شهادة دكتور. . . وقد أدهشني عندما قال لي بأنه في الرابعة والثلاثين من عمره وقد كنت أظن أنه أكثر من ذلك.

لقد سحرني هذا الدميم بعذب حديثه وطيب بيانه وحسن اطلاعه فانقدت إليه. فذهبنا بعد أن تركنا الباخرة إلى أول فندق رضينا به اعتباطاً وقد أشر الضابط السمج على جوازي سفرنا.

ص: 47

ارتاحت نفسي إلى صداقة هذا الدميم لأن فيه من جمال الصفات الروحية والخلقية ما يستر تلك البشاعة الواضحة المنكرة؛ ولأن خفة ظله، وحضور ذهنه، وبراعته في التنكيت تلقي ستاراً على دمامته المنفرة.

اسمع يا صاحبي، أحسب أن المشوه كالأحدب والمخلع والأعرج وكل ذي عاهة يعتقد أنك ستسخر منه فيبادرك بسخرية مؤلمة. والظريف في أصحاب هذه العاهات أن البارع منهم يمزج سخريته بالابتسام والضحك وبذلك يبطن الانتقام بالمرح.

كنت ألقى صاحبي الدميم في الصباح على مائدة الطعام، ثم ننتحي ناحية في بستان أو حرج بعيدين عن الناس وضوضائهم لنقرأ؛ وكان رفيقي ولوعاً مثلي بقراءة الكتب، ثم نعود فنجتمع فنتحدث فيما قرأنا.

لم أسمع من صديقي هذا حديثاً يخرج عن دائرة الكتب أو أسماء مؤلفين. ومن غريب أطوار هذا الدكتور الجامعي أنه يقرأ الأدب ويتذوقه؛ وله في أدبائنا المعاصرين نظرات صائبات؛ وله آراء في كلية الآداب أسكت عن ذكرها، ولكنه يجهل الحياة بجهله المرأة. وقد قال لي: أنه لا يعرفها ويهرب منها لأنها هبة الشيطان، وعصا إبليس، وسم الحية، وأنه ما من رجل يطاوع هواه ويساير شهوته فيقترب من امرأة إلا وهو ضعيف العقل ملموس من خبال الغريزة!؟

ضحكت في سري من ضلال هذا الرأي وانتحلت لصديقي عذراً في إبدائه على هذا النمط المخالف لسنة الطبيعة وقدرت ظروفه الخاصة التي جعلته ينفر من المرأة ويتجنى في الحكم عليها، ولم يعد الحديث عنها يدور لنا على لسان.

أخذت الوحشة من الوحدة يدب دبيبها في نفسي، والسأم يرين عليها من هذه البلدة الصغيرة الخالية من وسائل التسلية، والتي لا أنيس لي فيها ولا سمير سوى الكتاب وصديقي الجامعي اللطيف.

كل ما في طبيعة (رودس) هاديء، البحر والأشجار، السماء والناس، والقلوب كلها هادئة أو شبه متحركة. وقلما رأيت حتى في الفتيات الروسيات المرحات عيوناً تتطلع إلى القلوب أو ترميها بنظرات. فإن فعلت فهي تتطلع إليها خلسة تشتهيهم شهوة هادئة ولا ترميها رمية صائبة.

ص: 48

كيف آلف الهدوء وطبيعة رفيقي على النحو الذي وصفته لك؟ وكيف لا تتوق نفسي إلى صخب الحياة وقد اتخذت (بيرون) وكل مؤلفاته رفيقاً لي وسميراً ومعلماً في اعتكافي في هذه الجزيرة الهادئة؟ كيف أجمع بين حياة هادئة فاترة فرضتها علي طبيعة وجودي في هذه الجزيرة الساحرة مع هذا الصديق الدميم عدو المرأة البعيد عن الحياة، وحياة قلقة حيرى، صاخبة فياضة تضطرب في صدر رفيقي (بيرون) العظيم وقد سارت عدواها إلى صدري؟

صممت على الرحيل. . . ولكن إلى أين؟

قال لي رب الفندق: إن في أعالي الجزيرة فندق جميلاً قائماً على القمة بين إحراج الصنوبر تحسن الإقامة فيه فترة من الزمن؛ فقطعت الرأي على الذهاب إليه. ومن المدهش أني ما كدت أضع حقيبتي في السيارة حتى رأيت حقائب صديقي الدميم تلقى في السيارة ووجدت هذا الصديق نفسه ينحط في المقعد ويجذبني إليه جذباً

وقال: أتهرب مني إلى الجبال وتتركني وحدي في هذا البلد الميت؟

قلت قلبك هو الميت يا صديقي! إن الحياة هي الحياة التي نعرفها نحن الأصحاء، أما أنت المريض ميت القلب فلا تعرفها ولا تحس بوجودها.

لم يعر فوره نفسي التفاتاً. . . وأشار إلى سائق السيارة أن يسير. ولما كانت السيارة تدرج على شاطئ البحر وتنعرج وتتسلق جبالاً هي مجموعة من حدائق وبسلتين كان صاحبي ملتزماً الصمت، وما كنت أعرف أكان صمته ذاك وسيلة لتهدئة نفسي، أم لعلك ما رميت به قلبه بالموات ولوك هذه الفرية.

ما أكثر وجوه الشبه بين فندق (الأيل) ويسمونه باللغة الإيطالية (شيرفو) وبين الأديار في لبنان! سكان الأديرة قساوسة جرفتهم الأقدار إلى هذا المحيط الضيق فأخذوا يمنون أنفسهم بمحيط واسع تتحقق فيه الأماني وتظهر الغاية الإلهية من الوجود الإنساني عقب الخلاص من هذا العالم الفاني!

سكان فندق (شيرفو) أكثرهم مرضى ينتجعون العافية في هذه المصحة، وشيوخ يأملون في العودة إلى الحياة، حياة الشباب عن طريق الاستراحة وطيب التغذية، وفتية صغار يضيق بهن ماء الفندق فيسترخون في الخرج القريب ويمرحون. وكنت أنا وصديقي الدميم كمريضين أو قسيسين ننتجع العافية أو نمني النفس بسعادة لا نجدها إلا في قراءة الكتب

ص: 49

وفي شيء آخر محبوب أكثر من الكتب.

قال لي صاحبي ذات مساء وقد عاد من رحلة في تسلق الصخور: (لقد وجدتها، لقد وجدتها).

كانت نبرات صوته تدل في هذه المرة على شعور لم أتبين مثله في كلامه معنى من قبل، فقلت: وجدت من؟ من هي التي وجدتها؟

ولما لم يجب على سؤالي ولو بكلمة واحدة لم أعر تاء التأنيث اهتماماً لأني عرفت فيه نفوراً من الأنثى وسمعت حكمه الصارم على كل من يقترب منها.

تغيب عني في تلك الليلة فلم أر له وجهاً في غرفة المائدة ولا في قاعة الجلوس. وفي صبيحة اليوم التالي لمحته يهرول صوب وادي (أبولون) يحمل هراوة ليلحق بطائفة من النسوة ولم أرها انحدرت فيه قبله

من أين أقبلت هذه الزمرة من النساء؟ ما علاقة صاحبي بهن؟ من هي التي وجدها؟ هل هي واحدة منهن؟ لا أدري!

الفندق الذي أقيم فيه محدود مساحة وارتفاعاً، أكاد أعرف نزلاءه بملامحهم ووجوههم واحداً واحداً، وواحدة وواحدة، من شيوخ وأطفال كأن عنصر الكهول والشباب لا وجود له ولا حساب، فمن أين أقبلت زمرة النساء التي لحق بها صاحبي واندمج فيها حتى صرت لا أرى له وجهاً لا في الصباح ولا في وقت تناول طعام الظهر أو العشاء؟!

نضوت ثوب البلادة، واطرحت الكتب جانباً، وقمت أسعى. هداني السعي إلى فندق ملحق بفندقنا قائم على مرتفع ليس ببعيد، تحجبه غياض الصنوبر عنا، وتعج فيه الحياة، ويصطخب مرح الشباب بأمواج من السرور، ورأيت صاحبي الدميم تحف به جماعة من فتيان وفتيات يقهقهون. تقدمت قليلاً وما كدت أدنو منهم حتى أحاطوا بي وأخذوا ينهالون علي بأقوال فيها ضحك ومزاح وعدم تورع في السخرية من شاب مثلي دأبه القعود والقراءة والنوم، وآفته الكبرى مصاحبة رجل تتمثل فيه الدمامة.

أدركت مبلغ تسامح صاحبي معهم في المزاح حتى تجرءوا علي أنا الذي لم أرهم قبل هذه اللحظة، وكالوا لي بذات الكيل الذي رضى هو به.

أنقذت موقفي بتصويب سخرية لاذعة إلى جمال أبرز فتاة، وإلى رجولة شاب مسكين في

ص: 50

الزمرة، ولم أتعفف عن صد كل مازح أو مازحة بضحكة المستهزئ.

شعرت بأني كدت أعكر الجو، وأجلب حق النفوس علي، التفت إلى رئيس الموسيقى وطلبت إليه أن يعزف رقصة (الفالس)، واجتذبت فتاة ليست على شيء من الجمال، وأخذت أرأقصها برشاقة وبراعة. . . تقلبت خمس رقصات على ذراعي. ولم تكف الفرقة الموسيقية عن العزف لأني دغدغت كيف رئيسها فصار طوع إشارتي.

صفا الجو الذي عكرته بسلاطتي التي ما كان لي محيص عن التوسل بها لإنقاذ نفسي من المأزق الذي حشرني فيه صاحبي على غير قصد. ولما فرغنا من الرقص تكونت حولي الراقصات اللاتي أعجبن برقصي فأخذت أحدثهن حديثاً طريفاً في فن الرقص ثم في الأزياء والعواطف وما تركت القاعة وقد كاد الصبح يتنفس حتى أيقنت أن سلطاني مد رواقه على الفتيات والسيدات والشبان النازلين في ملحق الفندق

لم أنس أن آخذ صاحبي الدميم حين عودتي إلى الفندق، ولما انفردنا قال لي إنه أنتقل إلى ملحق الفندق، فعرف فيه فتاة جذابة أذكت بفتنتها الجذوة الكامنة في قلبه. وقد عقد عزمه على الاقتران بها وأنه سيتزوجها لا محالة.

قلت: أفي النساء عليلة نظر وحس وذوق ترضى بدمامتك وشناعتك؟

أخرسني الخبيث بإشارة فضحكت.

أعدت إلى مسمعه قوله في المرأة أنها هبة الشيطان وسم الأفعى، وعصا إبليس؛ وحكمه على الرجل الذي يدنو منها بأنه خفيف العقل، ممسوس بخيال الغريزة فأجاب.

كان حكمي ذاك قبل أن أصعق بفتنتها.

قلت اذهب إلى فراشك لأنك متعب وسنتحدث في النهار في أمر زواجك.

قال محتجاً: لا، لا أذهب إلى فراشي ولن أذهب إليه، لا أطيق النوم. وارتمى على كتفي كطفل وقال بصوت باك كبكاء الطفل (لقد أحببت سمسم. بكل جوارحي العطشى، ما عرفت الراحة منذ عرفت الآنسة سمسم) ولن يستقر بي قرار حتى أبني بها

قلت: أجاد أنت فيما تقول أم هازل؟

رفع رأسه عن كتفي ونظر إلي نظرة استفسار حادة فتابعت قولي: كيف تكون جاداً وقد اضطرني موقف أصحابك من فتيان وفتيات منك ومني، وإمعانهم في الضحك والاستهزاء

ص: 51

بك إلى مخاشنتهم، وكانت الآنسة (سمسم) هذه إحدى الضاحكات، وهل يشاد بناء الزواج على غير قواعد مكينة من الرصانة والجد؟

قال: مصيبتي الكبرى في وجهي المشوه الذي يثير الضحك، ثم ما شأني فيمن يضحكون مني فأسخر بهم فأهملهم للحظة واحدة وأنكرهم كأن لا وجود لهم؟ أما الآنسة (سمسم) فما ضحكت قط مني ولا هزأت بي، كنت أراقبها وأستشف معاني ضحكها، كنت أحس نظراتها تهز مشاعري، وحنوها يظللني كغمامة موسى الكليم، وأن شفقتها علي قد تدفع بي إلى اقتحام الصعاب وتذليلها لأجل إسعادها، وسأسعدها إذا رضيت بي زوجاً لها، سترضى وسأتزوجها.

قلت: أتعرف حكاية الشاب الفلاح مع ابنة الملك التي أحبها؟ قال: لا أعرف الملك والحكايات، بل أعرف حكاية عرشي في قلبي تستوي عليه مليكتي (سمسم).

قلت: (سمسم) هذه هل سألت عنها، هل عرفت أهلها، هل كشفتها الحب، هل عرضت عليها الزواج، هل رضيت بك بعلاً؟

صرخ في وجهي صرخة شعرت بحرارتها تغلب دويها وقال: هذه أمور أترك لك تذليلها، أما أنا فلست براغب فقط بل أريد حتماً الزواج من (سمسم) وسأرغمها على الرضى بي.

عجباً، كيف ترغم فتاة على قبول زواج؟

قال: يا لك من أبله، لقد لمحت شفقتها بي ترتسم في نظراتها، والشفقة عنصر قوي من عناصر الرضى والحب.

قلت أوافقك جدلاً على استنتاجك، ولكن هب أنها ليست على دينك فكيف يكون الحل؟

قال: من منا لا يقدم الدين الإنساني على نواميس الأديان السماوية وكلها في الجوهر واحد؟

قلت: دستور الدولة والعرف.

قال: أستهين بالعرف وبالشرائع التي تحول دون اتحاد قلبين وأدار كتفه وانصرف.

(يتبع)

حبيب الزحلاوي

ص: 52